كتاب الجنائز
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى ، فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَعْضِ النَّعْيِ . وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ . فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّعْيِ لِغَيْرِ غَرَضٍ دِينِيٍّ ، مِثْلِ إظْهَارِ التَّفَجُّعِ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَإِعْظَامِ حَالِ مَوْتِهِ . وَيُحْمَلُ النَّعْيُ الْجَائِزُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، مِثْلُ طَلَبِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ ، تَحْصِيلًا لِدُعَائِهِمْ ، وَتَتْمِيمًا لِلْعَدَدِ الَّذِي وُعِدَ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِمْ فِي الْمَيِّتِ ، كَالْمِائَةِ مَثَلًا . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ بِأَرْضٍ لَمْ يُقَمْ فِيهَا عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ . فَيَتَعَيَّنَ الْإِعْلَامُ بِمَوْتِهِ لِيُقَامَ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَا : لَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ الْحَدِيثِ . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَعْذَارٌ : مِنْهَا : مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ ، حَيْثُ مَاتَ . فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ فَرْضِهَا . وَمِنْهَا : مَا قِيلَ : إنَّهُ رُفِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَمَيِّتٍ يَرَاهُ الْإِمَامُ وَلَا يَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ يُثْبِتُهُ . وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ . وَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى الْمُصَلَّى : فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ } وَلَعَلَّ مَنْ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ يَتَمَسَّكُ بِهِ ، إنْ كَانَ لَا يَخُصُّ الْكَرَاهَةَ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ . وَيَكْرَهُهَا مُطْلَقًا ، سَوَاءً كَانَ الْمَيِّتُ فِي مَسْجِدٍ أَمْ لَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ : التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا . وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ الشِّيعَةُ . وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ خَمْسًا } . وَقِيلَ : إنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعًا مُتَأَخِّرٌ عَنْ التَّكْبِيرِ خَمْسًا . وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ " أَنَّهُ يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثًا " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ .
157 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي ، أَوْ الثَّالِثِ } .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ طَرَفٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَضَرَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ صَفَّهُمْ صُفُوفًا ، طَلَبًا لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ ، وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ لَا تَضِيقُ عَنْ صَفٍّ وَاحِدٍ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
158 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ ، بَعْدَ مَا دُفِنَ ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا } .
فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَالِي لَمْ يُصَلِّيَا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَالِي ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ . وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ : بِأَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ صَلَّى مَعَهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِذَلِكَ . وَفِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ : مَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
159 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ } .
فِيهِ جَوَازُ التَّكْفِينِ بِمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ السَّاتِرِ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَأَنَّهُ لَا يُضَايَقُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُتَّبَعُ رَأْيُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مِنْ الْوَرَثَةِ . وَقَوْلُهَا " لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَلَا عِمَامَةٍ أَصْلًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ ، وَالْأَوَّلُ : هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
160 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ { دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ ، فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ - بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا - أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ - فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ . فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ . وَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا بِهِ - تَعْنِي إزَارَهُ . وَفِي رِوَايَةٍ أَوْ سَبْعًا ، وَقَالَ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ، وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ } .
وَهَذِهِ الِابْنَةُ : هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " اغْسِلْنَهَا " عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَبِقَوْلِهِ " ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا " عَلَى أَنَّ الْإِيتَارَ مَطْلُوبٌ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِصِيغَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدِي يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ : جَوَازُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ قَوْلَهُ " ثَلَاثًا " غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ صِيغَةِ الْأَمْرِ . فَتَكُونَ مَحْمُولَةً فِيهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَفِي أَصْلِ الْغُسْلِ : عَلَى الْوُجُوبِ . فَيُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيتَارِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ } تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ . لَا إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ التَّشَهِّي ، فَإِنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا . فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ . وَإِذَا زِيدَ عَلَى ذَلِكَ فَالْإِيتَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْهَاؤُهُ الزِّيَادَةَ إلَى سَبْعَةٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ " بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " أُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالسِّدْرِ تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي أَنَّ السِّدْرَ مَمْزُوجٌ بِالْمَاءِ ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَزْجٍ لَهُ بِالسِّدْرِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ مَجْمُوعَيْنِ فِي الْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ . غَيْرَ أَنْ يُمْزَجَا . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ ، وَخُصُوصًا الْكَافُورَ ، وَقِيلَ : إنَّ فِي الْكَافُورِ خَاصِّيَّةَ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ فِي الْأَخِيرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَذْهَبَهُ الْغُسْلُ بَعْدَهَا ، فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَ " الْحَقْوُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ هُنَا : الْإِزَارُ . تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ . وَقَوْلُهُ " أَشْعِرْنَهَا " أَيْ : اجْعَلْنَهُ شِعَارًا لَهَا ، وَالشِّعَارُ : مَا يَلِي الْجَسَدَ ، وَالدِّثَارُ : مَا فَوْقَهُ . وَقَوْلُهُ " ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَمُّنِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَهُوَ مَسْنُونٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَيْضًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ . وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا فُعِلَ فِي الْغُسْلِ : هَلْ يَكُونُ وُضُوءًا حَقِيقِيًّا ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الْغُسْلِ ، خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ تَشْرِيفًا ؟ وَ " الْقُرُونُ " هَهُنَا الضَّفَائِرُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَضَفْرِهِ ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي أَنَّ الضَّفْرَ بَعْدَ التَّسْرِيحِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يُشْعِرُ بِهِ صَرِيحًا . وَهَذَا الضَّفْرُ ثَلَاثًا مَخْصُوصُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْمَرْأَةِ . وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ : أَنْ يَجْعَلَ الثَّلَاثَ خَلْفَ ظَهْرِهَا . وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَثْبَتَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ لِذَلِكَ . وَهُوَ غَرِيبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ غَسَّلَ بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
161 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ : فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ . وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ . فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ } .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الْوَقْصُ " كَسْرُ الْعُنُقِ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ يَبْقَى فِي حَقِّهِ حُكْمُ الْإِحْرَامِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لِانْقِطَاعِ الْعِبَادَةِ بِزَوَالِ مَحَلِّ التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ . لَكِنْ اتَّبَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ . وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ الْحَدِيثِ مَا قِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذَا الْمُحْرِمِ بِعِلَّةٍ لَا يَعْلَمُ وُجُودَهَا غَيْرُهُ . وَهُوَ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمُحْرِمِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَعُمُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ . وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَيَعُمُّ كُلَّ مُحْرِمٍ .
الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجِنَازَةَ ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهَا " وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا " فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ دَالَّةٌ عَلَى التَّأْكِيدِ . وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ : أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا أُبِيحَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَأَنَّ الرُّخْصَةَ : مَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ مِنْ إشْعَارِ الْعَزْمِ بِالتَّأْكِيدِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي اتِّبَاعِ النِّسَاءِ أَوْ بَعْضِهِنَّ لِلْجَنَائِزِ ، أَكْثَرُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ . كَالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُلُوِّ مَنْصِبِهَا . وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي عُمُومِ النِّسَاءِ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَاتِ النِّسَاءِ . وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ اتِّبَاعَهُنَّ لِلْجَنَائِزِ ، وَكَرِهَهُ لِلشَّابَّةِ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ . وَخَالَفَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَكَرِهَهُ مُطْلَقًا ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
163 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً : فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ . وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ : فَشَرٌّ : تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } .
يُقَالُ : الْجِنَازَةُ وَالْجِنَازَةُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَيُقَالُ : بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَيِّتُ . وَبِالْكَسْرِ : النَّعْشُ ، الْأَعْلَى لِلْأَعْلَى ، وَالْأَسْفَلُ لِلْأَسْفَلِ . فَعَلَى هَذَا : يَلِيقُ الْفَتْحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَارِعُوا بِالْجِنَازَةِ } يَعْنِي بِالْمَيِّتِ . فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يُسْرَعَ بِهِ . وَالسُّنَّةُ الْإِسْرَاعُ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي الْإِسْرَاعُ إلَى شِدَّةٍ يَخَافُ مَعَهَا حُدُوثَ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِلَّةُ فِي الْإِسْرَاعِ مِنْ الْحَدِيثِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً " إلَى آخِرِهِ .
164 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ { صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ فِي وَسَطِهَا } .
الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ . وَالْوَصْفُ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - وَهُوَ كَوْنُهَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا - وَصْفٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ أَمْرٍ وَاقِعٍ . وَأَمَّا وَصْفُ كَوْنِهَا امْرَأَةً : فَهَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ أَمْ لَا ؟ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَلْغَاهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجِنَازَةِ ، يَعْنِي مُطْلَقًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ ، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ . ذَكَرَهُ بَعْضُ مُصَنِّفِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ سَبَبَ ذَلِكَ : أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَكُنْ يُسْتَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَا يُسْتَرْنَ بِهِ الْيَوْمَ . فَقِيَامُ الْإِمَامِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا : يَكُونُ السُّتْرَةَ لَهَا مِمَّنْ خَلْفَهُ . .
165 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الصَّالِقَةُ " الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ . وَالْأَصْلُ " السَّالِقَةُ " بِالسِّينِ ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْعَوِيلِ وَالنَّدْبِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ : قَوْله تَعَالَى { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَالصَّادُ قَدْ تُبَدَّلُ مِنْ السِّينِ . وَ " الْحَالِقَةُ " حَالِقَةُ الشَّعْرِ . وَفِي مَعْنَاهُ : قَطْعُهُ مِنْ غَيْرِ حَلْقٍ . وَ " الشَّاقَّةُ " شَاقَّةُ الْجَيْبِ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرِّضَى بِالْقَضَاءِ ، وَالتَّسَخُّطِ لَهُ . فَامْتَنَعَتْ لِذَلِكَ .
166 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : { لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهَا : مَارِيَةُ - وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ - فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ . }
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّصْوِيرِ وَالصُّوَرِ . وَلَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْبُعْدِ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَإِنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، لِقُرْبِ عَهْدِ النَّاسِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . وَهَذَا الزَّمَانُ حَيْثُ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ وَتَمَهَّدَتْ قَوَاعِدُهُ - لَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَلَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا التَّشْدِيدِ - هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ - وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ قَطْعًا . لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ : الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ بِعَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ . وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ " أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ " وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ } وَهَذِهِ عِلَّةٌ عَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ . لَا تَخُصُّ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ . وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ فِي النُّصُوصِ الْمُتَظَاهِرَةِ الْمُتَضَافِرَةِ بِمَعْنًى خَيَالِيٍّ . يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ ، مَعَ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ التَّعْلِيلَ بِغَيْرِهِ . وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا } إشَارَةٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } .
167 - الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ : وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } .
هَذَا الْحَدِيثُ : يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّخَاذِ قَبْرِ الرَّسُولِ مَسْجِدًا وَمِنْهُ يُفْهَمُ امْتِنَاعُ الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ جُمْلَةً . وَأُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ عَنْ هَذَا بِمَا فُهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا . وَبَعْضُ النَّاسِ : أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الرَّسُولِ ، كَجَوَازِهَا عَلَى قَبْرِ غَيْرِهِ عِنْدَهُ . وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَطَابُقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَلِإِشْعَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
168 - الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ ، وَقَدْ اشْتَرَكَ - مَعَ مَا قَبْلَهُ فِي شَقِّ الْجُيُوبِ . وَانْفَرَدَ بِضَرْبِ الْخُدُودِ وَالتَّصْرِيحِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ . وَهِيَ أَحَدُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ " الصَّالِقَةِ " فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ . وَ " دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ " يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ - هُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ . كَقَوْلِهِمْ : وَاجَبَلَاه . وَاسَنَدَاه ، وَاسَيِّدَاه ، وَأَشْبَاهُهَا .
169 - الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ . وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ . قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَلِمُسْلِمٍ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ شُهُودِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ . وَعِنْدَ الدَّفْنِ ، وَأَنَّ الْأَجْرَ يَزْدَادُ بِشُهُودِ الدَّفْنِ ، مُضَافًا إلَى شُهُودِ الصَّلَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : اتِّبَاعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا و " الْقِيرَاطُ " تَمْثِيلٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْأَجْرِ ، وَمِقْدَارٌ مِنْهُ . وَقَدْ مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ " بِأَنَّ أَصْغَرَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ " وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ، تَشْبِيهًا لِلْمَعْنَى الْعَظِيمِ بِالْجِسْمِ الْعَظِيمِ .
انتهى كتاب الجنائز ويليه كتاب الزكاة