الاثنين، 5 سبتمبر 2022

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد {من أول كتاب الجنائز الي حديث رقم169} انتهى كتاب الجنائز ويليه كتاب الزكاة

 

 

كتاب الجنائز

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى ، فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَعْضِ النَّعْيِ . وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ . فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّعْيِ لِغَيْرِ غَرَضٍ دِينِيٍّ ، مِثْلِ إظْهَارِ التَّفَجُّعِ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَإِعْظَامِ حَالِ مَوْتِهِ . وَيُحْمَلُ النَّعْيُ الْجَائِزُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، مِثْلُ طَلَبِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ ، تَحْصِيلًا لِدُعَائِهِمْ ، وَتَتْمِيمًا لِلْعَدَدِ الَّذِي وُعِدَ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِمْ فِي الْمَيِّتِ ، كَالْمِائَةِ مَثَلًا . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ بِأَرْضٍ لَمْ يُقَمْ فِيهَا عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الصَّلَاةِ . فَيَتَعَيَّنَ الْإِعْلَامُ بِمَوْتِهِ لِيُقَامَ فَرْضُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَا : لَا يُصَلَّى عَلَى الْغَائِبِ وَيَحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ الْحَدِيثِ . وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَعْذَارٌ : مِنْهَا : مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ ، حَيْثُ مَاتَ . فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ فَرْضِهَا . وَمِنْهَا : مَا قِيلَ : إنَّهُ رُفِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَمَيِّتٍ يَرَاهُ الْإِمَامُ وَلَا يَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ يُثْبِتُهُ . وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ . وَأَمَّا الْخُرُوجُ إلَى الْمُصَلَّى : فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ } وَلَعَلَّ مَنْ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ يَتَمَسَّكُ بِهِ ، إنْ كَانَ لَا يَخُصُّ الْكَرَاهَةَ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ . وَيَكْرَهُهَا مُطْلَقًا ، سَوَاءً كَانَ الْمَيِّتُ فِي مَسْجِدٍ أَمْ لَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ : التَّكْبِيرُ أَرْبَعًا . وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ الشِّيعَةُ . وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ خَمْسًا } . وَقِيلَ : إنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعًا مُتَأَخِّرٌ عَنْ التَّكْبِيرِ خَمْسًا . وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ " أَنَّهُ يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلَاثًا " وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّهُ .

 

 

157 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي ، أَوْ الثَّالِثِ } .

وَحَدِيثُ جَابِرٍ طَرَفٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا حَضَرَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ صَفَّهُمْ صُفُوفًا ، طَلَبًا لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ ، لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ ، وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ لَا تَضِيقُ عَنْ صَفٍّ وَاحِدٍ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

158 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ ، بَعْدَ مَا دُفِنَ ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا } .

فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَالِي لَمْ يُصَلِّيَا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْوَالِي ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ . وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ : بِأَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ صَلَّى مَعَهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِذَلِكَ . وَفِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ : مَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

159 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي أَثْوَابٍ بِيضٍ يَمَانِيَةٍ ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ } .

فِيهِ جَوَازُ التَّكْفِينِ بِمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ السَّاتِرِ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَأَنَّهُ لَا يُضَايَقُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُتَّبَعُ رَأْيُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مِنْ الْوَرَثَةِ . وَقَوْلُهَا " لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَلَا عِمَامَةٍ أَصْلًا ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ ، وَالْأَوَّلُ : هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمُرَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

160 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ { دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ ، فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ - إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ - بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا - أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ - فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ . فَأَعْطَانَا حَقْوَهُ . وَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا بِهِ - تَعْنِي إزَارَهُ . وَفِي رِوَايَةٍ أَوْ سَبْعًا ، وَقَالَ : ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ، وَإِنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ } .

وَهَذِهِ الِابْنَةُ : هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " اغْسِلْنَهَا " عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَبِقَوْلِهِ " ثَلَاثًا ، أَوْ خَمْسًا " عَلَى أَنَّ الْإِيتَارَ مَطْلُوبٌ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ . وَالِاسْتِدْلَالُ بِصِيغَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدِي يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُصُولِيَّةٍ وَهِيَ : جَوَازُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ قَوْلَهُ " ثَلَاثًا " غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ صِيغَةِ الْأَمْرِ . فَتَكُونَ مَحْمُولَةً فِيهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَفِي أَصْلِ الْغُسْلِ : عَلَى الْوُجُوبِ . فَيُرَادُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيتَارِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ } تَفْوِيضٌ إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ . لَا إلَى رَأْيِهِنَّ بِحَسَبِ التَّشَهِّي ، فَإِنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا . فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ . وَإِذَا زِيدَ عَلَى ذَلِكَ فَالْإِيتَارُ مُسْتَحَبٌّ ، وَإِنْهَاؤُهُ الزِّيَادَةَ إلَى سَبْعَةٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ " بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " أُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالسِّدْرِ تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي أَنَّ السِّدْرَ مَمْزُوجٌ بِالْمَاءِ ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَزْجٍ لَهُ بِالسِّدْرِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ مَجْمُوعَيْنِ فِي الْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ . غَيْرَ أَنْ يُمْزَجَا . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ ، وَخُصُوصًا الْكَافُورَ ، وَقِيلَ : إنَّ فِي الْكَافُورِ خَاصِّيَّةَ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ فِي الْأَخِيرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَذْهَبَهُ الْغُسْلُ بَعْدَهَا ، فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ الْحِفْظِ لِبَدَنِ الْمَيِّتِ . وَ " الْحَقْوُ " بِفَتْحِ الْحَاءِ هُنَا : الْإِزَارُ . تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ . وَقَوْلُهُ " أَشْعِرْنَهَا " أَيْ : اجْعَلْنَهُ شِعَارًا لَهَا ، وَالشِّعَارُ : مَا يَلِي الْجَسَدَ ، وَالدِّثَارُ : مَا فَوْقَهُ . وَقَوْلُهُ " ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَمُّنِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ ، وَهُوَ مَسْنُونٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَيْضًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى الْبُدَاءَةِ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ . وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ إذَا فُعِلَ فِي الْغُسْلِ : هَلْ يَكُونُ وُضُوءًا حَقِيقِيًّا ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الْغُسْلِ ، خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ تَشْرِيفًا ؟ وَ " الْقُرُونُ " هَهُنَا الضَّفَائِرُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَضَفْرِهِ ، بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ فِي أَنَّ الضَّفْرَ بَعْدَ التَّسْرِيحِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يُشْعِرُ بِهِ صَرِيحًا . وَهَذَا الضَّفْرُ ثَلَاثًا مَخْصُوصُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْمَرْأَةِ . وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ : أَنْ يَجْعَلَ الثَّلَاثَ خَلْفَ ظَهْرِهَا . وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَثْبَتَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ لِذَلِكَ . وَهُوَ غَرِيبٌ وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ فِعْلِ مَنْ غَسَّلَ بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

 

161 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَوَقَصَتْهُ - أَوْ قَالَ : فَأَوْقَصَتْهُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ . وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ . فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَفِي رِوَايَةٍ وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ } .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الْوَقْصُ " كَسْرُ الْعُنُقِ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ يَبْقَى فِي حَقِّهِ حُكْمُ الْإِحْرَامِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لِانْقِطَاعِ الْعِبَادَةِ بِزَوَالِ مَحَلِّ التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ الْحَيَاةُ . لَكِنْ اتَّبَعَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ . وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ عَنْ الْحَدِيثِ مَا قِيلَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ هَذَا الْحُكْمَ فِي هَذَا الْمُحْرِمِ بِعِلَّةٍ لَا يَعْلَمُ وُجُودَهَا غَيْرُهُ . وَهُوَ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا . وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمُحْرِمِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَعُمُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ . وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَيَعُمُّ كُلَّ مُحْرِمٍ .

 

الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجِنَازَةَ ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهَا " وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا " فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ دَالَّةٌ عَلَى التَّأْكِيدِ . وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ : أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا أُبِيحَ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَأَنَّ الرُّخْصَةَ : مَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ اللُّغَوِيُّ مِنْ إشْعَارِ الْعَزْمِ بِالتَّأْكِيدِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَقُومُ دَلِيلُ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي اتِّبَاعِ النِّسَاءِ أَوْ بَعْضِهِنَّ لِلْجَنَائِزِ ، أَكْثَرُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ . كَالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُلُوِّ مَنْصِبِهَا . وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي عُمُومِ النِّسَاءِ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَحْمُولَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَاتِ النِّسَاءِ . وَقَدْ أَجَازَ مَالِكٌ اتِّبَاعَهُنَّ لِلْجَنَائِزِ ، وَكَرِهَهُ لِلشَّابَّةِ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ . وَخَالَفَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَكَرِهَهُ مُطْلَقًا ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .

 

163 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا إنْ تَكُ صَالِحَةً : فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ . وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ : فَشَرٌّ : تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } .

يُقَالُ : الْجِنَازَةُ وَالْجِنَازَةُ - بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ - بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَيُقَالُ : بِالْفَتْحِ هُوَ الْمَيِّتُ . وَبِالْكَسْرِ : النَّعْشُ ، الْأَعْلَى لِلْأَعْلَى ، وَالْأَسْفَلُ لِلْأَسْفَلِ . فَعَلَى هَذَا : يَلِيقُ الْفَتْحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَارِعُوا بِالْجِنَازَةِ } يَعْنِي بِالْمَيِّتِ . فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِأَنْ يُسْرَعَ بِهِ . وَالسُّنَّةُ الْإِسْرَاعُ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي الْإِسْرَاعُ إلَى شِدَّةٍ يَخَافُ مَعَهَا حُدُوثَ مَفْسَدَةٍ بِالْمَيِّتِ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِلَّةُ فِي الْإِسْرَاعِ مِنْ الْحَدِيثِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً " إلَى آخِرِهِ .

 

164 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ { صَلَّيْت وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ فِي وَسَطِهَا } .

الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ عِنْدَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ . وَالْوَصْفُ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - وَهُوَ كَوْنُهَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا - وَصْفٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ أَمْرٍ وَاقِعٍ . وَأَمَّا وَصْفُ كَوْنِهَا امْرَأَةً : فَهَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ أَمْ لَا ؟ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَلْغَاهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ وَسَطِ الْجِنَازَةِ ، يَعْنِي مُطْلَقًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُ . وَقَالَ : يُقَامُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ ، وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ . ذَكَرَهُ بَعْضُ مُصَنِّفِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَوْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ سَبَبَ ذَلِكَ : أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يَكُنْ يُسْتَرْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِمَا يُسْتَرْنَ بِهِ الْيَوْمَ . فَقِيَامُ الْإِمَامِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا : يَكُونُ السُّتْرَةَ لَهَا مِمَّنْ خَلْفَهُ . .

 

 

165 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ } .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الصَّالِقَةُ " الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ . وَالْأَصْلُ " السَّالِقَةُ " بِالسِّينِ ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْعَوِيلِ وَالنَّدْبِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ : قَوْله تَعَالَى { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَالصَّادُ قَدْ تُبَدَّلُ مِنْ السِّينِ . وَ " الْحَالِقَةُ " حَالِقَةُ الشَّعْرِ . وَفِي مَعْنَاهُ : قَطْعُهُ مِنْ غَيْرِ حَلْقٍ . وَ " الشَّاقَّةُ " شَاقَّةُ الْجَيْبِ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الرِّضَى بِالْقَضَاءِ ، وَالتَّسَخُّطِ لَهُ . فَامْتَنَعَتْ لِذَلِكَ .

 

166 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : { لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهَا : مَارِيَةُ - وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ - فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ . }

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّصْوِيرِ وَالصُّوَرِ . وَلَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْبُعْدِ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَإِنَّ هَذَا التَّشْدِيدَ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، لِقُرْبِ عَهْدِ النَّاسِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . وَهَذَا الزَّمَانُ حَيْثُ انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ وَتَمَهَّدَتْ قَوَاعِدُهُ - لَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى . فَلَا يُسَاوِيهِ فِي هَذَا التَّشْدِيدِ - هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ - وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ قَطْعًا . لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ : الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ بِعَذَابِ الْمُصَوِّرِينَ . وَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ " أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ " وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ } وَهَذِهِ عِلَّةٌ عَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُنَاسِبَةٌ . لَا تَخُصُّ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ . وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ فِي النُّصُوصِ الْمُتَظَاهِرَةِ الْمُتَضَافِرَةِ بِمَعْنًى خَيَالِيٍّ . يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ ، مَعَ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ التَّعْلِيلَ بِغَيْرِهِ . وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا } إشَارَةٌ إلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ } .

 

167 - الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ : وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } .

هَذَا الْحَدِيثُ : يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّخَاذِ قَبْرِ الرَّسُولِ مَسْجِدًا وَمِنْهُ يُفْهَمُ امْتِنَاعُ الصَّلَاةِ عَلَى قَبْرِهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ جُمْلَةً . وَأُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصٌ عَنْ هَذَا بِمَا فُهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا . وَبَعْضُ النَّاسِ : أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ الرَّسُولِ ، كَجَوَازِهَا عَلَى قَبْرِ غَيْرِهِ عِنْدَهُ . وَهُوَ ضَعِيفٌ لِتَطَابُقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ ، وَلِإِشْعَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

 

 

168 - الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .

حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ ، وَقَدْ اشْتَرَكَ - مَعَ مَا قَبْلَهُ فِي شَقِّ الْجُيُوبِ . وَانْفَرَدَ بِضَرْبِ الْخُدُودِ وَالتَّصْرِيحِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِ . وَهِيَ أَحَدُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ " الصَّالِقَةِ " فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ . وَ " دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ " يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ الدَّعْوَى . وَالثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ - هُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ . كَقَوْلِهِمْ : وَاجَبَلَاه . وَاسَنَدَاه ، وَاسَيِّدَاه ، وَأَشْبَاهُهَا .

 

169 - الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ . وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ . قِيلَ : وَمَا الْقِيرَاطَانِ ؟ قَالَ : مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ وَلِمُسْلِمٍ أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ شُهُودِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ . وَعِنْدَ الدَّفْنِ ، وَأَنَّ الْأَجْرَ يَزْدَادُ بِشُهُودِ الدَّفْنِ ، مُضَافًا إلَى شُهُودِ الصَّلَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : اتِّبَاعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا و " الْقِيرَاطُ " تَمْثِيلٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْأَجْرِ ، وَمِقْدَارٌ مِنْهُ . وَقَدْ مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ " بِأَنَّ أَصْغَرَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ " وَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ ، تَشْبِيهًا لِلْمَعْنَى الْعَظِيمِ بِالْجِسْمِ الْعَظِيمِ . 

انتهى كتاب الجنائز ويليه كتاب الزكاة

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد {من أول كتاب الحدود الي حديث354 }

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كتاب الحدود

 

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْلٍ - أَوْ عُرَيْنَةَ - فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ ، فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا . فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ . فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ ، فَأَمَرَ بِهِمْ : فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ ، فَلَا يُسْقَوْنَ . قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ .

 

" اجْتَوَيْت الْبِلَادَ " إذَا كَرِهْتهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُوَافَقَةً " وَاسْتَوِ بِأَنَّهَا " إذَا لَمْ تُوَافِقْك . اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ ، لِلْإِذْنِ فِي شُرْبِهَا . وَالْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهَا ، اعْتَذَرُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لِلتَّدَاوِي وَهُوَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ إلَّا بِالْخَمْرِ . وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الشُّرْبِ لَمَا جَازَ التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّمْثِيلُ بِهِمْ ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَنْسُوخٌ بِالْحُدُودِ ، فَعَنْ قَتَادَةَ : أَنَّهُ قَالَ : فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ - وَذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْمُثْلَةِ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْهُ إلَى ابْنِ سِيرِينَ - قَالَ " كَانَ شَأْنُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَائِدَةِ مِنْ شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا فَكَانَ شَأْنُ الْعُرَنِيِّينَ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ الَّتِي يَصِفُ فِيهَا إقَامَةَ حُدُودِهِمْ " وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ - وَسُئِلَ عَنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ ؟ - فَقَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ الْمُحَارِبِينَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - وَفِي آخِرِهِ " فَمَا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ ، وَنَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ وَقَالَ : لَا تُمَثِّلُوا بِشَيْءٍ " وَفِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الطَّبَرِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ - بِسَنَدِهِ إلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ بِقِصَّتِهِمْ - وَفِي آخِرِهِ { فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ الْأَعْيُنَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةُ } وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ { مَا قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } وَقَالَ قَالَ ابْنُ شَاهِينِ : هَذَا الْحَدِيثُ يَنْسَخُ كُلَّ مُثْلَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَادِّعَاءُ النَّسْخِ مُحْتَاجٌ إلَى تَارِيخٍ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّمَا سَمَلَ أَعْيُنَ أُولَئِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ بِمِثْلِ مَا فَعَلُوا وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ . قُلْت : هُنَا تَقْصِيرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَّ فِيهِ الْمُثْلَةُ مِنْ جِهَاتٌ عَدِيدَةٍ ، وَبِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَهَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ الْقِصَاصُ فِي سَمْلِ الْأَعْيُنِ ، فَمَاذَا يَصْنَعُ بِبَاقِي مَا جَرَى مِنْ الْمُثْلَةِ ؟ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَوَابٍ عَنْ هَذَا ، وَقَدْ رَأَيْت عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ أَنَّهُ ذَكَرَ " أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَسَارًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَثَّلُوا بِهِ " فَلَوْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا : كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ سَمْلِ الْأَعْيُنِ فَقَطْ ، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى نَظَرٌ فِي بَعْضِ مَا حُكِيَ فِي الْقِصَّةِ وَ " عُكْلُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَ " عُرَيْنَةُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ آخِرِ الْحُرُوفِ بَعْدَهَا نُونٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَنَاسٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ ، وَبَنِي عُرَيْنَةَ . وَ " اللِّقَاحُ " النُّوقُ ذَوَاتُ اللَّبَنِ .

 

350 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُمَا قَالَا { إنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَأْذَنْ لِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ ، فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ ، وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ ، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ ، فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ، فَغَدَا عَلَيْهَا ، فَاعْتَرَفَتْ ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ } .

 

الْعَسِيفُ : الْأَجِيرُ . قَوْلُهُ " إلَّا قَضَيْت بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ " تَنْطَلِقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى الْقُرْآنِ خَاصَّةً . وَقَدْ يَنْطَلِقُ " كِتَابُ اللَّهِ " عَلَى حُكْمِ اللَّهِ مُطْلَقًا . وَالْأَوْلَى : حَمْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ التَّغْرِيبَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ . وَفِي قَوْلِهِ " وَأْذَنْ لِي " حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَكَابِرِ . وَقَوْلُهُ " كَانَ عَسِيفًا " أَيْ أَجِيرًا . وَقَوْلُهُ " فَافْتَدَيْت مِنْهُ " أَيْ مِنْ الرَّجْمِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ التَّغْرِيبِ مَعَ الْجَلْدِ ، وَالْحَنَفِيَّةُ يُخَالِفُونَ فِيهِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ جَائِزٍ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُهُمْ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ . وَفِي قَوْلِهِ " فَسَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ " دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْعُلَمَاءِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّكِّ فِيهَا ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْفَتْوَى فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَالْحُكْمِ بِالْأَصْلِ فِي اسْتِمْرَارِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ زَوَالُهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّسْخِ . وَقَوْلُهُ " رَدٌّ عَلَيْك " أَيْ مَرْدُودٌ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أُخِذَ بِالْمُعَارَضَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ رَدُّهُ وَلَا يُمَلَّكُ ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ عُذْرِ مَنْ اعْتَذَرَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْ بَعْضِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَهُ بِأَنَّ الْمُتَعَاوِضَيْنِ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْإِذْنَ لَيْسَ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَارِضَةِ الْفَاسِدَةِ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ فِي مَحِلِّ الِاسْتِفْتَاءِ يُسَامَحُ بِهِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرِ حَدِّهِ بِالْقَذْفِ وَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِحُكْمِ الرَّجْمِ ، وَفِيهِ اسْتِنَابَةُ الْإِمَامِ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّ الْإِقْرَارَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَكْفِي فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ رَتَّبَ رَجْمَهَا عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِرَافِهَا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِعَدَدٍ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَرِّفْهُ أُنَيْسًا ، وَلَا أَمَرَهُ بِهِ .

 

351 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ ؟ قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .

 

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَا أَدْرِي : أَبْعَدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ ؟ وَالضَّفِيرُ : الْحَبْلُ . يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَمَالِيكِ كَإِقَامَتِهِ عَلَى الْأَحْرَارِ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى إقَامَةِ السَّيِّدِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ مُحْتَمَلَةٌ وَلَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ ، وَفِيهِ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُحْصَنْ . وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ تَعَرَّضَ لِحُكْمِهَا إذَا أُحْصِنَتْ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّهُ إذَا لَمْ تُحْصَنْ تُجْلَدُ الْحَدَّ ، و نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنَّهُ قَالَ " إذَا لَمْ يَكُونَا مُزَوَّجَيْنِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَا مُزَوَّجَيْنِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ وَهُوَ خَمْسُونَ " قَالَ بَعْضُهُمْ : وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهُوَ - قَوْله تَعَالَى - : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ رَاجِحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الْجَلْدِ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْصَنْ ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بِحَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ الْحَدُّ ، أَوْ أُخِذَ مِنْ السِّيَاقِ : فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ . وَ " الضَّفِيرُ " الْحَبْلُ الْمَضْفُورُ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنَّ قَوْلَهُ " فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا عَيْبٌ فِي الرَّقِيقِ يُرَدُّ بِهِ ، وَلِذَلِكَ حَطَّ مِنْ الْقِيمَةِ قَالَ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَالَهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ . وَفِيمَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَبِيعَهَا وَإِنْ انْحَطَّتْ قِيمَتُهَا إلَى الضَّفِيرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْبَارًا مُتَعَلِّقًا بِحَالٍ وُجُودِيٍّ ، لَا إخْبَارًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَرَفَ بِتَكَرُّرِ زِنَا الْأَمَةِ انْحَطَّتْ قِيمَتُهَا عِنْدَهُ . وَفِيمَا قَالَهُ فِي الثَّانِي نَظَرٌ أَيْضًا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَيْبُ أَوْجَبَ نُقْصَانَ قِيمَتِهَا عِنْدَ النَّاسِ فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِالنُّقْصَانِ بَيْعًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، لَا بَيْعًا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْحَدُّ الْمَنُوطُ بِهَا ، دُونَ ضَرْبِ التَّعْزِيرِ وَالتَّأْدِيبِ ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إيجَابُ الْحَدِّ ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ أَيْضًا ، وَأَنْ لَا يُمْسِكَهَا إذَا زَنَتْ أَرْبَعًا ، وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ فِي الْحَدِيثِ إشَارَةً إلَى إعْلَامِ الْبَائِعِ الْمُشْتَرِيَ بِعَيْبِ السِّلْعَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بِالْعِلْمِ بِعَيْبِهَا وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ تَنْقُصْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ . وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : إنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ تُفِدْ مَقْصُودَهَا مِنْ الزَّجْرِ لَمْ تُفْعَلْ ، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً كَالْحَدِّ فَلِتَرْكِ الشَّرْطِ فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ : إمَّا تَرْكُ الْحَدِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِوُجُوبِهِ ، وَإِمَّا إزَالَةُ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، فَتَعَيَّنَ . وَلَمْ يَقُلْ : اُتْرُكُوهَا ، أَوْ حُدُّوهَا كُلَّمَا تَكَرَّرَ لِأَجَلِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا التَّعْزِيرَاتُ الَّتِي لَا تُفِيدُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْفِعْلِ فَيُمْكِنُ تَرْكُهَا .

 

352 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي زَنَيْت ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ . فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي زَنَيْت ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ . فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ : دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ أُحْصِنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ } . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ . سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ " كُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُ ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّيْ ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ ، فَرَجَمْنَاهُ " .

 

" الرَّجُلُ " هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ . رَوَى قِصَّتَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ . ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا أَرْبَعًا شَرْطٌ لِوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَرَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - إنَّمَا أَخَّرَ الْحَدَّ إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالُوا : لَوْ وَجَبَ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً لَمَا أَخَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاجِبَ ، وَفِي قَوْلِ الرَّاوِي " فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ " إلَخْ إشْعَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَرْبَعًا هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْحُكْمِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ تَبِعَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَدِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْبَاتِ وَالتَّحْقِيقِ لِوُجُودِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي تَرْكِهِ وَدَرْئِهِ بِالشُّبُهَاتِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُؤَالِ الْحَاكِمِ فِي الْوَاقِعَةِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ، كَسُؤَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْجُنُونِ لِيَتَبَيَّنَ الْعَقْلَ ، وَعَنْ الْإِحْصَانِ لِيُثْبِتَ الرَّجْمَ ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ : وَلَا يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بَعْدَ تَبَيُّنِ سَبَبِهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَبِكَ جُنُونٌ " وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ، فَيُقَالَ : إنَّ إقْرَارَ الْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمْ يُفِدْ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ فَمَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي سُؤَالِهِ عَنْ ذَلِكَ ؟ بَلْ سُؤَالُ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ . وَجَوَابُهُ : أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ سَأَلَ غَيْرَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقَعَ سُؤَالُ غَيْرِهِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُ لِيَتَبَيَّنَ بِمُخَاطَبَتِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ تَثَبُّتَهُ وَعَقْلَهُ ، فَيَبْنِيَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ إقْرَارِهِ بِعَدَمِ الْجُنُونِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى تَفْوِيضِ الْإِمَامِ الرَّجْمَ إلَى غَيْرِهِ وَلَفْظُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْضُرْهُ . فَيُؤْخَذُ مِنْهُ : عَدَمُ حُضُورِ الْإِمَامِ الرَّجْمَ ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ الزِّنَا بِالْإِقْرَارِ ، وَيَبْدَأَ الشُّهُودُ بِهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِ التَّثَبُّتُ وَالِاحْتِيَاطُ قِيلَ لَهُ : ابْدَأْ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا عَنْ التَّسَاهُلِ فِي الْحُكْمِ بِالْحُدُودِ ، وَدَاعِيًا إلَى غَايَةِ التَّثَبُّتِ وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ : فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بِقَوْلِهِمْ . وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ " أَيْ بَلَغَتْ مِنْهُ الْجَهْدَ ، وَقِيلَ : عَضَّته ، وَأَوْجَعْته ، وَأَوْهَنْته . وَقَوْلُهُ " هَرَبَ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْحَفْرِ لَهُ .

 

353 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَذَكَرُوا لَهُ : أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنَيَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا ، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَك . فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَالَ : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا . قَالَ : فَرَأَيْت الرَّجُلَ : يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ } .

 

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا . اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ : هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَى الذِّمِّيِّ الْمُحْصَنِ رَجَمَهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ . وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَرَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ ، وَاعْتَذَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا : رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَمَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَادَّعَوْا أَنَّ آيَةَ حَدِّ الزِّنَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا . وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقِ التَّارِيخِ أَعْنِي ادِّعَاءَ النَّسْخِ . وَقَوْلُهُ " فَرَأَيْت الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ " الْجَيِّدُ فِي الرِّوَايَةِ " يَجْنَأُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ النُّونِ ، وَالْهَمْزَةِ : أَيْ يَمِيلُ ، وَمِنْهُ الْجَنَى ، قَالَ الشَّاعِرُ : وَبَدَّلَتْنِي بِالشَّطَاطِ الْجَنَى وَكُنْت كَالصَّعْدَةِ تَحْتَ السِّنَانِ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ اللَّفْظَةَ بِالْحَاءِ ، يُقَالُ : حَنَا الرَّجُلُ يَحْنُو إذَا أَكَبَّ عَلَى الشَّيْءِ . قَالَ الشَّاعِرُ : حُنُوُّ الْعَابِدَاتِ عَلَى وِسَادِي . 

354 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَوْ أَنَّ رَجُلًا - أَوْ قَالَ : امْرَأً - اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ : مَا كَانَ عَلَيْك جُنَاحٌ } .

 

أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَبَاهُ الْمَالِكِيَّةُ ، وَقَالُوا : لَا يَقْصِدُ عَيْنَهُ وَلَا غَيْرَهَا . وَقِيلَ : يَجِبُ الْقَوَدُ إنْ فَعَلَ ، وَمِمَّا قِيلَ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُدْفَعُ بِالْمَعْصِيَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ بِدَفْعِ الصَّائِلِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً النَّظَرُ إلَى ذَاتِهَا ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ فَهُوَ صَحِيحٌ ، لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ . وَتَصَرَّفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ . مِنْهَا : أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّاظِرُ وَاقِفًا فِي الشَّارِعِ ، أَوْ فِي خَالِصِ مِلْكِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ ، أَوْ فِي سِكَّةٍ مُنْسَدَّةِ الْأَسْفَلِ . اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالْأَشْهَرُ : أَنْ لَا فَرْقَ ، وَلَا يَجُوزُ مَدُّ الْعَيْنِ إلَى حَرَمِ النَّاسِ بِحَالٍ ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إلَّا عَيْنَ مَنْ وَقَفَ فِي مِلْكِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ قَبْلَ النَّهْيِ وَالْإِنْذَارِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ : أَحَدُهُمَا : لَا عَلَى قِيَاسِ الدَّفْعِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ . وَالثَّانِي : نَعَمْ . وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، أَعْنِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْقِفِ هَذَا النَّاظِرِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِنْذَارِ وَوَرَدَ فِي هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ ، وَهُوَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتِلُ النَّاظِرُ بِالْمِدْرَى } . وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ تَسَمَّعَ إنْسَانٌ ، فَهَلْ يُلْحَقُ السَّمْعُ بِالنَّظَرِ ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي الْحَدِيثِ إشْعَارٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ الْعَيْنَ بِشَيْءٍ خَفِيفٍ ، كَمَدًى ، وَبُنْدُقَةٍ ، وَحَصَاةٍ لِقَوْلِهِ " فَخَذَفْتَهُ " قَالَ الْفُقَهَاءُ : أَمَّا إذَا زَرَقَهُ بِالنُّشَّابِ ، أَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ فَقَتَلَهُ فَهَذَا قَتْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ . وَمِمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا النَّاظِرَ إذَا كَانَ لَهُ مَحْرَمٌ فِي الدَّارِ ، أَوْ زَوْجَةٌ ، أَوْ مَتَاعٌ لَمْ يَجُزْ قَصْدُ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي النَّظَرِ شُبْهَةً وَقِيلَ : لَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الدَّارِ مَحْرَمٌ ، إنَّمَا يُمْنَعُ قَصْدُ عَيْنِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا مَحَارِمُهُ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ إلَّا صَاحِبُهَا فَلَهُ الرَّمْيُ ، إنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَلَا ضَمَانَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُهُ وَمِنْهَا : أَنَّ الْحُرُمَ إذَا كَانَتْ فِي الدَّارِ مُسْتَتِرَاتٍ ، أَوْ فِي بَيْتٍ فَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ قَصْدُ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى شَيْءٍ ، قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : الْأَظْهَرُ الْجَوَازُ ، لِإِطْلَاقِ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْضَبِطُ أَوْقَاتُ السِّتْرِ وَالتَّكَشُّفِ ، فَالِاحْتِيَاطُ حَسْمُ الْبَابِ . وَمِنْهَا : أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ يُقَصِّرْ صَاحِبُ الدَّارِ ، فَإِنْ كَانَ بَابُهُ مَفْتُوحًا أَوْ ثَمَّ كُوَّةٌ وَاسِعَةٌ ، أَوْ ثُلْمَةٌ مَفْتُوحَةٌ ، فَنَظَرَ : فَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا لَمْ يَجُزْ قَصْدُهُ وَإِنْ وَقَفَ وَتَعَمَّدَ ، فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ قَصْدُهُ ، لِتَفْرِيطِ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِ الْبَابِ ، وَتَوْسِيعِ الْكُوَّةِ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ ، لِتَعْدِيهِ بِالنَّظَرِ . وَأُجْرِيَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا نَظَرَ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ ، أَوْ نَظَرَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْمِئْذَنَةِ لَكِنْ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ هَهُنَا جَوَازُ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْفِقْهِيَّةِ دَاخِلًا تَحْتَ إطْلَاقِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهَا ، وَمَا لَا فَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْحَدِيثِ ، وَبَعْضُهُ مَأْخُوذٌ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ . 

أنتهى