الاثنين، 5 سبتمبر 2022

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد من اول كتاب اللعان حتي حديث 331 }

 

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب اللعان

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ ، كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ : فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ . وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . فَقَالَ : لَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا . ثُمَّ دَعَاهَا ، فَوَعَظَهَا ، وَأَخْبَرَهَا : أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ . فَقَالَتْ : لَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، إنَّهُ لَكَاذِبٌ . فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ . فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ : إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ ، وَالْخَامِسَةَ : أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ - ثَلَاثًا } . وَفِي لَفْظٍ { لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَالِي ؟ قَالَ : لَا مَالَ لَكَ . إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا } .

 

" اللِّعَانُ " لَفْظَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ " اللَّعْنِ " سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا فِي اللَّفْظِ مِنْ ذِكْرِ اللَّعْنَةِ . وَقَوْلُهُ " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ : جَوَازُ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْوَقَائِعِ بِعِلْمِ أَحْكَامِهَا قَبْلَ أَنْ تَقَعَ وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا فَرَّعُوهُ ، وَقَرَّرُوهُ مِنْ النَّازِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا . وَقَدْ كَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَكْرَهُ الْحَدِيثَ فِي الشَّيْءِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ ، وَيَرَاهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّكَلُّفِ . وَقَوْلُ الرَّاوِي " فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ : أَتَاهُ ، فَقَالَ : إنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ اُبْتُلِيتُ بِهِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَمْ يَقَعْ ، ثُمَّ وَقَعَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ أَوَّلًا عَمَّا وَقَعَ ، وَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ فِي جَوَابِهِ ، فَبَيَّنَ ضَرُورَتَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ وَتِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا عَلَيْهِ : لِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا وَمَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ اسْتِحْبَابَهَا ، عِنْدَمَا تُرِيدُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْفِظَ بِالْغَضَبِ . وَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيهَا وَفِي الرَّجُلِ فَلَعَلَّ هَذِهِ مَوْعِظَةٌ عَامَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَرِّضٌ لِلْعَذَابِ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُتَعَرِّضَةٌ لِلْعَذَابِ ، الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ ، إلَّا أَنَّ عَذَابَهَا أَشَدُّ . وَظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ : يَقْتَضِي تَعْيِينَ لَفْظِ " الشَّهَادَةِ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُبَدَّلَ بِغَيْرِهَا . وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَيْضًا : الْبُدَاءَةَ بِالرَّجُلِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } فَإِنَّ " الدَّرْءَ " يَقْتَضِي وُجُوبَ سَبَبِ الْعَذَابِ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَاخْتُصَّتْ الْمَرْأَةُ بِلَفْظِ " الْغَضَبِ " لِعِظَمِ الذَّنْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَلْوِيثِ الْفِرَاشِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِإِلْحَاقِ مَنْ لَيْسَ مِنْ الزَّوْجِ بِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ ، كَانْتِشَارِ الْمَحْرَمِيَّةِ ، وَثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْإِنَاثِ ، وَاسْتِحْقَاقِ الْأَمْوَالِ بِالتَّوَارُثِ . فَلَا جَرَمَ خُصَّتْ بِلَفْظَةِ " الْغَضَبِ " الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ " اللَّعْنَةِ " وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ أَبْدَلَتْ الْمَرْأَةُ الْغَضَبَ بِاللَّعْنَةِ : لَمْ يُكْتَفَ بِهِ . أَمَّا لَوْ أَبْدَلَ الرَّجُلُ اللَّعْنَةَ بِالْغَضَبِ : فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَالْأَوْلَى اتِّبَاعُ النَّصِّ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَعَرْضِ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ رَجَعَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ : كَانَ تَوْبَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ : وُقُوعُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ " لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا " رَاجِعًا إلَى الْمَالِ . وَقَوْلُهُ " إنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ ، وَعَلَى اسْتِقْرَارِ مَهْرِ الْمُلَاعَنَةِ . أَمَّا هَذَا : فَبِالنَّصِّ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَبِتَعْلِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ " بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ أَكْذَبَتْ نَفْسَهَا ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

325 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاعَنَا ، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ، ثُمَّ قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ } .

 

هَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهَا زِيَادَةُ نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْمَرْأَةِ ، وَيَرِثُهَا بِإِرْثِ الْبُنُوَّةِ مِنْهَا . وَتَثْبُتُ أَحْكَامُ الْبُنُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا . وَمَفْهُومُهُ : يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسَبِ إلَى الْأَبِ مُطْلَقًا . وَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيمَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا : هَلْ يَحِلُّ لِلْمُلَاعِنِ تَزَوُّجُهَا ؟ . وَقَوْلُهُ " فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِذِكْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فِي لِعَانِهِ ، إلَّا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ . فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ يَقْتَضِي : أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا ادَّعَاهُ . وَدَعْوَاهُ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ . وَقَوْلُهُ " وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ " يَقْتَضِي : أَنَّ اللِّعَانَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ ظَاهِرًا .

 

326 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَك إبِلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ : حُمْرٌ قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا . قَالَ : فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ } .

 

فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ حَدًّا كَمَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْتَاءِ . وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذِكْرِهِ ، وَإِلَى عَدَمِ تَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي اللَّوْنِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ - بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ - لَا تُبِيحُ الِانْتِفَاءَ . وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ فِي السَّوَادِ الشَّدِيدِ مَعَ الْبَيَاضِ الشَّدِيدِ . وَ " الْوُرْقَةُ " لَوْنٌ يَمِيلُ إلَى الْغُبْرَةِ ، كَلَوْنِ الرَّمَادِ يُسَمَّى أَوْرَقَ . وَالْجَمْعُ " وُرْقٌ " بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَّلَ مِنْهُ التَّشْبِيهَ لِوَلَدِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُخَالِفِ لِلَوْنِهِ بِوَلَدِ الْإِبِلِ الْمُخَالِفِ لِأَلْوَانِهَا . وَذَكَرَ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ وَهِيَ نَزْعُ الْعِرْقِ ، إلَّا أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ . وَاَلَّذِي حَصَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ : هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .

 

327 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ . فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ ، اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ . وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شَبَهِهِ ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ } .

 

يُقَالُ " زَمْعَةُ " بِإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَيُقَالُ " زَمَعَةُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْضًا . وَالْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ صَاحِبَ الْفِرَاشِ . وَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ ، وَأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ يَأْخُذُ مُشَابَهَةً مِنْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُعْطَى أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً وَلَا يُمْحَضُ لِأَحَدِ الْأُصُولِ . وَبَيَانُهُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْفِرَاشَ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِزَمْعَةَ وَالشَّبَهُ الْبَيِّنُ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِعُتْبَةَ فَأُعْطِيَ النَّسَبَ بِمُقْتَضَى الْفِرَاشِ . وَأُلْحِقَ بِزَمْعَةَ ، وَرُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ بِأَمْرِ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ . فَأُعْطِيَ الْفَرْعُ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَلَمْ يُمْحَضْ أَمْرُ الْفِرَاشِ فَتَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَوْدَةَ ، وَلَا رُوعِيَ أَمْرُ الشَّبَهِ مُطْلَقًا فَيَلْتَحِقَ بِعُتْبَةَ قَالُوا : وَهَذَا أَوْلَى التَّقْدِيرَاتِ . فَإِنَّ الْفَرْعَ إذَا دَارَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ ، فَأُلْحِقَ بِأَحَدِهِمَا مُطْلَقًا ، فَقَدْ أَبْطَلَ شَبَهَهُ الثَّانِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِالثَّانِي ، وَمُحِضَ إلْحَاقُهُ بِهِ : كَانَ إبْطَالًا لِحُكْمِ شَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ فَإِذَا أُلْحِقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ : كَانَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ : مَا إذَا دَارَ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ ، يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلْحَاقَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَيْهِ . وَهَهُنَا لَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلَّا إلْحَاقَ هَذَا الْوَلَدِ بِالْفِرَاشِ . وَالشَّبَهُ هَهُنَا غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِلْحَاقِ شَرْعًا فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ " عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالْإِرْشَادِ إلَى مَصْلَحَةٍ وُجُودِيَّةٍ ، لَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ وُجُوبِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَيُؤَكِّدُهُ : أَنَّا لَوْ وَجَدْنَا شَبَهًا فِي وَلَدٍ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَثْبُتْ لِذَلِكَ حُكْمًا وَلَيْسَ فِي الِاحْتِجَابِ هَهُنَا إلَّا تَرْكُ أَمْرٍ مُبَاحٍ ، عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَهُوَ قَرِيبٌ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " هُوَ لَكَ " أَيْ أَخٌ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } أَيْ تَابِعٌ لِلْفِرَاشِ أَوْ مَحْكُومٌ بِهِ لِلْفِرَاشِ ، أَوْ يُقَارِبُ هَذَا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } . قِيلَ : إنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ لَهُ الْخَيْبَةَ مِمَّا ادَّعَاهُ وَطَلَبَهُ ، كَمَا يُقَالُ : لِفُلَانٍ التُّرَابُ . وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا " تَعْبِيرًا بِذَلِكَ عَنْ خَيْبَتِهِ : وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِثَمَنِ الْكَلْبِ . وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرُوا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَجْعَلُوا الْحَجَرَ " هَهُنَا عِبَارَةً عَنْ الرَّجْمِ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ الزَّانِي : لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَاهِرٍ يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ . وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُحْصَنُ فَلَا يَجْرِي لَفْظُ " الْعَاهِرِ " عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْعُمُومِ ؛ أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا " مِنْ الْخَيْبَةِ : كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ زَانٍ . وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَتُهُ .

 

328 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا ، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ . فَقَالَ : أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَالَ : إنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ } وَفِي لَفْظٍ { كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا } .

 

" أَسَارِيرُ وَجْهِهِ " تَعْنِي الْخُطُوطَ الَّتِي فِي الْجَبْهَةِ . وَاحِدُهَا سَرَرٌ وَسِرَرٌ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَسَارِيرُ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْخُطُوطُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْكَفِّ مِثْلُهَا السَّرَرُ - بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ - وَالسِّرَرُ - بِكَسْرِ السِّينِ . اسْتَدَلَّ بِهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِيَافَةِ ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأَحَدِ الْوَاطِئِينَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، لَا فِي كُلِّ الصُّوَرِ بَلْ فِي بَعْضِهَا . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُسَرُّ بِبَاطِلٍ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَاعْتِذَارُهُمْ عَنْ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إلْحَاقُ مُتَنَازَعٍ فِيهِ ، وَلَا هُوَ وَارِدٌ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ . فَإِنَّ أُسَامَةَ كَانَ لَاحِقًا بِفِرَاشِ زَيْدٍ ، مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ لَوْنِهِ وَلَوْنِ أَبِيهِ فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، فَلَمَّا غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، وَأَلْحَقَ مُجَزِّزٌ أُسَامَةَ بِزَيْدٍ : كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِطَعْنِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِ اعْتِرَافِهِمْ بِحُكْمِ الْقِيَافَةِ " وَإِبْطَالُ طَعْنِهِمْ حَقٌّ . فَلَمْ يُسَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِحَقٍّ . وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ : بِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ - إلَّا أَنَّ لَهُ جِهَةً عَامَّةً وَهِيَ دَلَالَةُ الْأَشْبَاهِ عَلَى الْأَنْسَابِ . فَنَأْخُذُ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْحَدِيثِ وَنَعْمَلُ بِهَا . وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْقِيَافَةِ : هَلْ تَخْتَصُّ بِبَنِي مُدْلِجٍ ، أَمْ لَا ؟ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْأَشْبَاهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ خَاصٍّ بِهِمْ ، أَوْ يُقَالُ : إنَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قُوَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ وَمَحَلُّ النَّصِّ إذَا اخْتَصَّ بِوَصْفٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لَمْ يُمْكِنْ إلْغَاؤُهُ " ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ . وَ " مُجَزِّزٌ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا زَايٌ مُعْجَمَةٌ . وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْقَائِفِ أَمْ يَكْفِي الْقَائِفُ الْوَاحِدُ ؟ فَإِنَّ مُجَزِّزًا انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْقِيَافَةِ ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ ، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الِاكْتِفَاءُ بِالْقَائِفِ الْوَاحِدِ ، فَلَيْسَ مِنْ مَحَالِّ الْخِلَافِ ، كَمَا قَدَّمْنَا . وَقَوْلُهُ " آنِفًا " أَيْ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقَوْلِ ، وَقَدْ تَرَكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرَ تَغْطِيَةِ أُسَامَةَ وَزَيْدٍ رُءُوسَهُمَا وَظُهُورِ أَقْدَامِهِمَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ جِدًّا لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ الْقِيَافَةِ وَكَانَ يُقَالُ : إنَّ مِنْ عُلُومِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةً : السِّيَافَةُ ، وَالْعِيَافَةُ ، وَالْقِيَافَةُ . فَأَمَّا السِّيَافَةُ : فَهِيَ شَمُّ تُرَابِ الْأَرْضِ لِيُعْلَمَ بِهَا الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَالَ الْمَعَرِّيُّ : أَوْدِي فَلَيْتَ الْحَادِثَاتِ كِفَافُ مَالُ الْمُسِيفِ وَعَنْبَرُ الْمُسْتَافِ وَ " الْمُسْتَافُ " هُوَ هَذَا الْقَاصُّ ، وَأَمَّا الْعِيَافَةُ : فَهِيَ زَجْرُ الطَّيْرِ ، وَالطِّيَرَةُ وَالتَّفَاؤُلُ بِهِمَا ، وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَأَمَّا السَّانِحُ وَالْبَارِحُ : فَفِي الْوَحْشِ ، وَفِي الْحَدِيثِ " الْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ : مِنْ الْجِبْتِ " وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا ، وَأَمَّا الْقِيَافَةُ : فَهِيَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَشْبَاهِ لِإِلْحَاقِ الْأَنْسَابِ .

 

329 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { ذُكِرَ الْعَزْلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ ؟ - وَلَمْ يَقُلْ : فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا } .

 

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْعَزْلِ فَأَبَاحَهُ بَعْضُهُمْ مُطْلَقًا وَقِيلَ : فِيهِ : إذَا جَازَ تَرْكُ أَصْلِ الْوَطْءِ جَازَ تَرْكُ الْإِنْزَالِ وَرَجَّحَ هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ فِي الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَفِي الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ ، لِحَقِّهِمَا فِي الْوَلَدِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ فِي السَّرَارِي لِمَا فِي ذَلِكَ - أَعْنِي الْإِنْزَالَ - مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِتْلَافِ الْمَالِيَّةِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ . وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى إلْحَاقِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ وَقَعَ الْعَزْلُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .

 

330 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ ، لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ } .

 

يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ الْعَزْلَ مُطْلَقًا ، وَاسْتَدَلَّ جَابِرٌ بِالتَّقْرِيرِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِتَقْرِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعِلْمِهِ بِذَلِكَ ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي إلَّا الِاسْتِدْلَالَ بِتَقْرِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - .

 

331 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ . وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ : فَلَيْسَ مِنَّا ، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إلَّا حَارَ عَلَيْهِ } .

 

كَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ . يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِانْتِفَاءِ مِنْ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ ، وَالِاعْتِزَاءِ إلَى نَسَبٍ غَيْرِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا فِيمَا مَضَى ، وَشَرَطَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمَ ؛ لِأَنَّ الْأَنْسَابَ قَدْ تَتَرَاخَى فِيهَا مَدَدُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، وَيَتَعَذَّرُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَتِهَا ، وَقَدْ يَقَعُ اخْتِلَالٌ فِي النَّسَبِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ ، وَلَا يُشْعَرُ بِهِ . فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِذَلِكَ . وَقَوْلُهُ " إلَّا كَفَرَ " مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيَحْتَاجُونَ إلَى تَأْوِيلِهِ ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ ، أَوْ بِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ " كُفْرٌ " لِأَنَّهُ قَارَبَ الْكُفْرَ ، لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِيهِ ، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا قَارَبَهُ ، أَوْ يُقَالُ : بِتَأْوِيلِهِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ .

وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ " مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ " يَدْخُلُ فِيهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ كُلُّهَا وَمِنْهَا : دَعْوَى الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ جَعَلَ الْوَعِيدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ " فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ " اقْتَضَى ذَلِكَ تَعْيِينَ دُخُولِهِ النَّارَ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْأَوْصَافِ فَقَطْ يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ . وَأَقُولُ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّعَاوَى ، مِنْ نَصْبِ مُسَخَّرٍ يَدَّعِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، حِفْظًا لِرَسْمِ الدَّعْوَى وَالْجَوَابِ ، وَهَذَا الْمُسَخَّرُ يَدَّعِي مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ، وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَيْسَ حِفْظُ هَذِهِ الْقَوَانِينِ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ فِي الشَّرْعِ ، حَتَّى يَخُصَّ بِهَا هَذَا الْعُمُومَ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ فِي الْقَضَاءِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ ، فَانْخِرَامُ هَذِهِ الْمَرَاسِمِ الْحُكْمِيَّةِ ، مَعَ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْقَضَاءِ ، وَعَدَمِ تَنْصِيصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِهَا - أَوْلَى مِنْ مُخَالِفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَعْنِي عَدَمَ التَّشْدِيدِ فِي هَذِهِ الْمَرَاسِيمِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَلَيْسَ مِنَّا " أَخَفُّ مِمَّا مَضَى فِيمَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ فِي الْمَفْسَدَةِ مِنْ الْأُولَى ، إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِ ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّعْوَى بِأَخْذِ الْمَالِ الْمُدَّعَى بِهِ مَثَلًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةُ فِي الْعُلُومِ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا مَفَاسِدُ . وَقَوْلُهُ " فَلَيْسَ مِنَّا " قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، بِأَنْ قَالَ : لَيْسَ مِثْلَنَا ، فِرَارًا مِنْ الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِوَلَدِهِ - إذَا أَنْكَرَ مِنْهُ أَخْلَاقًا أَوْ أَعْمَالًا - : لَسْت مِنِّي ، وَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَفْيِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُسَاوِيًا لِلْأَبِ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ فَلَمَّا انْتَفَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ نُفِيَتْ الْبُنُوَّةُ مُبَالَغَةً .

وَأَمَّا مَنْ وَصَفَ غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ فَقَدْ رَتَّبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ " حَارَ عَلَيْهِ " بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ رَجَعَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أَيْ يَرْجِعَ حَيًّا ، وَهَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ أَكْفَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهِيَ وَرْطَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَعَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَمِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقَائِدِ فَغَلَّظُوا عَلَى مُخَالِفِيهِمْ ، وَحَكَمُوا بِكُفْرِهِمْ ، وَخَرَقَ حِجَابَ الْهَيْبَةِ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ خُصُومُهُمْ كَذَلِكَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ وَسَبَبِهِ ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهِ مُفْرَدًا ، وَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ النَّظَرُ فِي هَذَا : أَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ : هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا ؟ فَمَنْ أَكْفَرَ الْمُبْتَدِعَةَ قَالَ : إنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ فَيَقُولُ : الْمُجَسِّمَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا جِسْمًا ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُمْ عَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَفَرَ ، وَيَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ - فَقَدْ أَنْكَرُوا الصِّفَاتِ وَيَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ إنْكَارُ أَحْكَامِهَا ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ كَافِرٌ . وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْسِبُ الْكُفْرَ إلَى غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَآلِ . وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاطِعِ مَأْخَذًا لِلتَّكْفِيرِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُهُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ السَّمْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ طَرِيقًا وَدَلَالَةً . وَعَبَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأُصُولِ عَنْ هَذَا بِمَا مَعْنَاهُ : إنَّ مَنْ أَنْكَرَ طَرِيقَ إثْبَاتِ الشَّرْعِ لَمْ يَكْفُرْ ، كَمَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِطَرِيقِهِ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُكَفِّرُ إلَّا مَنْ كَفَّرَنِي ، وَرُبَّمَا خَفِيَ سَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ، وَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ الصَّحِيحِ ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ قَدْ لَمَحَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ - رَجَعَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ : كَافِرٌ : فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } وَكَأَنَّ هَذَا الْمُتَكَلِّمَ يَقُولُ : الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْصُلُ الْكُفْرُ لِأَحَدِ الشَّخْصَيْنِ : إمَّا الْمُكَفِّرُ ، أَوْ الْمُكَفَّرُ فَإِذَا أَكْفَرَنِي بَعْضُ النَّاسِ فَالْكُفْرُ وَاقِعٌ بِأَحَدِنَا ، وَأَنَا قَاطِعٌ بِأَنِّي لَسْت بِكَافِرٍ فَالْكُفْرُ رَاجِعٌ إلَيْهِ . 

----------------- أنتهى -----------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق