الثلاثاء، 21 يونيو 2022

الروح/ المسألة 4و5و6.لابن القيم

المسألة الرابعة (وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده)

اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق، لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت، قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا اللّه وحده، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ۝26وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ۝27﴾ [55:26—27]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[28:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت، قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا:

﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فالموتة الأولى هذه المشهودة وهي للبدن والأخرى للروح [1].

و قال الآخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دلت هذه الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لا نقلع عنها النعيم والعذاب، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾[3:170] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت.

و الصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد هذا، وكما صرح به النص أنها كذلك حتى يردها اللّه في جسدها، وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي هذا الاختلاف في قوله:

تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب

فإن قيل: فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا؟ قيل: قد قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68] فقد استثنى اللّه سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق [2].

فقيل: هم الشهداء، هذا قول أبي هريرة وابن عباس وابن جبير.

و قيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهذا قول مقاتل وغيره.

و قيل: هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم، ومن في الناس من أهل العذاب وخزنتها، قاله أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.

و قد نص الإمام أحمد على أن: الحور العين والدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ﴾[44:56]. وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان، وأما قول أهل النار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فتفسيره هذه الآية التي في البقرة وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾[2:28] فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح أن «الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور».

فهذا صعق في موقف القيامة إذ جاء اللّه تعالى لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [52:45]، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى، وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء، فقال أبو عبد اللّه القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور، قال: قد قال شيخنا أحمد بن عمرو: ظاهر حديث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا [قول] [3] فيحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآثار، ورد عليه أبو العباس القرطبي فقال: يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش، قال: وهذا إنما هو عند نفخة الفزع.

قال أبو عبد اللّه: وقال شيخنا أحمد بن عمرو: الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء اللّه تعالى أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء، وخصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من حملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو رجع إلى أن غيبوا عنا، بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا تراهم، وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أول من يفيق، فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى»، فإنه حصل فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور، وهذه فضيلة عظيمة لموسى، ولا يلزم من فضيلة واحدة أفضليته على نبينا مطلقا، لأن الشي ء الجزئي لا يوجب أمرا كليا، انتهى.

قال أبو عبد اللّه القرطبي: إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال، وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة يراد به أوائله، فالمعنى: إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبل أم جوزي بصعقة الطور.

قلت: وحمل الحديث على هذا يصح، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم تردد: هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور؟ فالمعنى:

لا أدري أصعق أم لم يصعق، وقد قال في الحديث: «فأكون أول من يفيق» وهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى: هل يصعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق. ولو كان المراد به الصفة الأولى وهي صعقة الموت لكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد جزم بموته، وتردد هل مات موسى أم لم يمت، وهذا باطل لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت، وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى، نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ، وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية واللّه أعلم.

(فإن قيل): فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش» قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذا والحديثان هكذا: (أحدهما) أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق.

(و الثاني) هكذا: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح [4].

فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك.

فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه عز وجل» والذين استثناهم اللّه إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال اللّه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.

قيل: هذا واللّه أعلم غير محفوظ، وهو وهم من بعض الرواة، والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل فيمن استثنى منها، وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: «لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فتأمله، وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء اللّه سبحانه لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعا، وأما موسى عليه السلام فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا [5]، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا من صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث و شأنه لكان حقيقا أن يعض عليه بالنواجذ وللّه الحمد والمنّة وبه التوفيق.///////5/////////المسألة الخامسة (و هي: أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شي ء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى، وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته أم كيف يكون حالها؟)

هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص، فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه، وكذلك من يقول: هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها، فلا تميز لها بعد الموت، بل لا وجود لها على أصولهم، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن، كما تبطل سائر صفات الحي، ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل العينة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنّة والآثار والاعتبار والعقل، والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرنا في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه.

و قد وصفها اللّه سبحانه وتعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:27—30]. وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا۝7فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا۝8﴾ [91:7—8]. فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [82:7] فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له.

و من هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن، ولهذا يقال عند المفارقة: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة [التي] [1] كانت في الجسد الخبيث.

و قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت، وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض [2].

و الأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد.

و أخيرا أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض، وأنها تفتح لها أبواب السماء، فتصعد من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، أو ديوان أهل سجين، ثم ترد إلى الأرض، وأن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن وفي قبرها للسؤال.

و قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يردها اللّه إلى جسده [3]، وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ [4] إلى يوم القيامة.

و قد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة [5]، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار، وإلا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعلى بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى.

(و صح) عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بصنم اللام أي تأكل العلقة.

و قال ابن عباس: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجوف طير خضر ترد أنها الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلموا عن الحرب، فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغكم عنكم فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] الآيات، رواه الإمام أحمد، وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

و إذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه.

يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميزون في علمنا أظهر تميز، وليس ذلك التمييز راجعا إلى مجرد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر، بل التمييز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها، وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا، وبين روحيهما أعظم التباين والتمييز، وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما غاية الظهور.

و أخبرك بأمر: إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا، قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقلّ أن تخطى ء ذلك.

(و يحكى) عن الشافعي [6] رحمه اللّه في ذلك عجائب.

و قلّ أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد.

و إذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى./////////////////6.////////المسألة السادسة (و هي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا)

فقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، بحيث صرّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: «أعوذ باللّه من عذاب القبر» ثلاث مرات، ثم قال: «إن العبد إذا كان في إقبال الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان، قال:

فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقا فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجد على وجه الأرض قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسماءه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى، فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللّه، فيقولان له:

و ما علمك بهذا؟ فيقول: قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أو صدق عبدي، فأفرشوه من الجنّة وافتحوا له بابا من الجنة، قال: فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللّه وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [1] من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح [2]، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث، فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾[7:40] فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ:

﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[22:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك؟ فيقول:

هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه حرها وسمومها ويضيق عليه فترة حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسودك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة» رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه أبو عوانة الأسفرائيني في صحيحه.

و ذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنّة والحديث من سائر الطوائف.

و قال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ، إن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، يعني قوله تعالى ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] وقوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28] قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ثم أحيانا ثلاثا، وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه اللّه تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا، ثم أحياهم، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة، وكذلك أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة، وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا، واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك، وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فنفي السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك، ولا يشك مسلم أن الذي نفى اللّه عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السمع.

قال: ولم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد منهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام، على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. قال: وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة.

ثم ذكر من طريق ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد، فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر، فقيل له:

هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فمال ابن عمر إليها فعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند اللّه، فقالت أمه: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

(قلت) ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، وأما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ، فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.

و إن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ، وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فتعاد في جسده»، وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء اللّه تعالى.

و أما استدلاله بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فلا ينفي هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد، كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه اللّه بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمسألة معتدا بها، فإنه حي لحظة بحيث قال: فلان قتلني ثم خرّ ميتا [3]، على أن قوله: ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدر وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق.

و سر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق مغايرة الأحكام:

(أحدها) تعلقها به في بطن الأم جنينا.

(الثاني) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.

(الثالث) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.

(الرابع) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.

(الخامس) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.

و أما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا.

و إذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت حاله متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.

و أما إخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال: فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس [4]، ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.

و نازعهم في ذلك آخرون وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد، ولم تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم اللّه إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله».

و معلوم بالضرورة أن جسده صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأرض طري مطرا، وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن اللّه قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» [5].

و لو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب.

و قد صح عنه أن اللّه وكّل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام.

و صح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث».

هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء.

و قد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من سلّم عليه، وهي في الرفيق الأعلى.

و لا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المناسبتين في غاية التجاور والقرب، ولو كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.

و ليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط على الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة، وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها، فإنها في السماء وشعاعها في الأرض، وقال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا، فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل، وأما قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا؟ مع إخباره بسماعهم كلامه، فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت، فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.

و أما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعا ينتفع به [6]، كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين [7]، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.

هذه الآية نظير قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [27:80] وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق. ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللّه أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ اللّه أن يسمعه إن أنت إلا نذير أي إنما جعل اللّه لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ اللّه إسماعه. و أما قوله: إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوي، فهذا من مجازفته رحمه اللّه، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.

(قال) الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في كتاب (الروح والنفس) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق الصفار، أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلسنا وجلس كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رؤوسنا الطير فأرم قليلا، والإرمام السكوت، فلما رفع رأسه قال:

«إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا مد البصر، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال: أخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة اللّه ورضوانه، فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء، فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين و يقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول: جزاك اللّه خيرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة اللّه بطيئا عن معصية اللّه، فيقول: وأنت فجزاك اللّه خيرا فمن أنت؟ فيقول:

أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة، وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن النار وحنوط من نار قال:

فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك فيجلس عند رأسه ثم يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب اللّه وسخطه، فتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شي ء بين السماء والأرض إلا الثقلين [8]، ثم يصعد به إلى السماء فتعلق دونه، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه ثم يقولان: يا هذا من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادي من جانب القبر لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين [9] لم تقل، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول:

جزاك اللّه شرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة اللّه سريعا في معصية اللّه، فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار فينظر في مقعده فيها حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد ومحمود بن أبي غيلان وغيرهما عن أبي النضر. ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر، وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه (ثم ساقه) ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، وكانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا، فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان، فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة، وكفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء؟ ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال: هذه روح فلان، فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بين يدي اللّه عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول اللّه عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين، فيقول اللّه عز وجل: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [20:55]، فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: أنظر إلى ما أعد اللّه لك من الثواب، ويفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ما صرف اللّه عنك من العذاب، ثم يقال له: نم قرير العين فليس شي ء أحب إليه من قيام الساعة»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنت لحبيبا إلي وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع الكافر في قبر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له:

لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له: ما قوله في هذا الرجل؟ فيقول: أي رجل، فيقولان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فيقول: قال الناس إنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادا».

هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفّاظ، ولا نعلم أحد من ائمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي اللّه، ثم رجوعها إلى القبر، وقول أبي محمد لم يروه غير زاذان [10] فوهم منه، بل رواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن عقبة وغيرهم. وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات، روي عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في صحيحه، قال يحيى بن معين: ثقة حميد بن هلال. وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة.

و قوله أن المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه. فالمنهال أحد الثقات العدول، قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة. وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شي ء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله: فتعاد روحه في جسده، وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره.

و قد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله: فترد إليه روحه، وقوله: فتصير إلى قبر فيستوي جالسا، وقوله فيجلسانه، وقوله: فيجلس في قبره، وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها، وقد أعله غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء، وهذه العلة باطلة، فإن أبا عوانة الأسفرائيني رواه في صحيحه بإسناد، وقال عن أبي عمرو زاذان الكندي قال: سمعت البراء بن عازب، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده هذا إسناد مشهور رواه جماعة عن البراء.

و لو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، قال:

فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟

فيقولون: فلان، فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد، ادخلي حميدة وابشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق، ثم يقال: فما كنت تقول في الإسلام؟ ما هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات من قبل اللّه فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث.

قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه، اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على أن أبي ذئب ومحمد بن عمرو ابن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطها، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك وعبد الرحيم بن إبراهيم، انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غير واحد.

(و قد احتج) أبو عبد اللّه بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعد تلا هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾[6:93] الآية، قال: «و الذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار»، ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صف له صفان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما نرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون[11] روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليهم، وكم كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال: فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حتى يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم: أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [32:11] فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه، قال: فيصعدون بها، وللّه عز وجل خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى ينتهي بها بين يدي الملك الجبار جل جلاله، مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشي ء مرحبا رحب له كل شي ء، ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال: فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.

فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر، وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهي في مقرها، بل هو عود خاص للمسألة.

و قال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص.

[عذاب القبر وعلامة البدن والروح به] وهذا يتضح بجواب المسألة وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس. وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟.

و قد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنّة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على أرواح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكي يقولون لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا.

و هذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، و هو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:

إحداها: أنه على الروح فقط.

و الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.

و الثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل قد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني [12] وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنّة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك.

و لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.

و القول الثالث الشاذ قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق