مجلد
تفسير القرآن الكريم (ابن القيم) لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى:
751هـ)
مقدمة
الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد، نحمده
تعالى ونشكره على ما له علينا من صنوف الإحسان التي لا يقدر على عدها أو حصرها إنس
ولا جان.
نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره من كل ذنب عملناه صغيرا أو كبيرا، عن خطأ أو عمد أو
نسيان. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد وله الملك وهو على كل
شيء قدير.
ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه سيد ولد آدم وأول من
يقرع باب الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد عزيزي القارئ.
إن دار ومكتبة الهلال في سعيها الدائم والمستمر لتقديم كتب التراث الإسلامي العظيم
مما تركه السلف الصالح لنا في كافة حقول الفقه والتشريع والتفسير للشريعة الحنيفة
وكتاب الله العظيم الذي أنزله سبحانه
على
خير الأنبياء هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، إنها في سعيها هذا الذي تأمل به
نيل رضا الخالق العظيم رب العالمين لا إله إلا هو، نقدم لك اليوم كتابا قيما في
تفسير معاني كتاب الله بعد أن قدمنا لك تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ ابن
كثير، نقدم اليوم التفسير القيم للإمام ابن القيم بعد أن عهدنا به إلى مكتب
الدراسات والبحوث العربية والإسلامية ليشرف على تحقيقه وضبطه وشرحه مع الشيخ
إبراهيم رمضان أحد العلماء الأجلاء العاملين في دار الفتوى في الجمهورية
اللبنانية، وذلك ليكون في أصفى صيغة وأتم عبارة وأنقى شرح وأقربه إليك ذلك لأن هذا
الكتاب يحتاج إلى رعاية كبيرة واهتمام بالغ قبل القيام بطباعته، وهذه عادتنا في
إيلاء كتب تراثنا كل اهتمام وكل رعاية ممكنة.
والله ولي التوفيق
بسم
الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وإليه ترجع الأمور، يولج النهار في
الليل ويولج الليل في النهار وهو العليم بذات الصدور الذي خلق الموت والحياة
ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.
نحمده تعالى ونشكره ونستعينه سبحانه ونستغفره ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له شهادة نفور بها وننجو يوم البعث والنشور ونشهد أن سيدنا محمدا رسوله
المصطفى من خلقه أجمعين، أرسله بدين الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون، ولو كره الكافرون صلّى اللهم عليه صلاة تحبها له وترضاها وتكون لنا بها
شفاعته يوم لا يشفع مال ولا بنون إنك نعم المولى ونعم النصير.
وبعد عزيزي القارئ.
لقد أولتنا دار ومكتبة الهلال ثقة عظيمة وحمّلتنا مسؤولية كبيرة عند ما عهدت إلينا
بتحقيق وشرح ومراجعة هذا الكتاب القيم من كتب تفسير
كتاب
الله القدير، عنيت التفسير القيم للإمام ابن القيم.
إن تحقيق ودراسة وشرح أثر هام كهذا الأثر عمل يحتاج إلى مجهود شاق في مقابلة
النصوص المطبوعة منه للوصول إلى النص الصحيح الذي لا تشوبه شائبة وذلك لعدم توافر
الأصل المخطوط بين أيدينا.
إن الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا الكتاب قد جرت مقارنتها مع كتب الصحاح
التي أسندت إليها ولذلك لاعتماد بعض السلف على الذاكرة والحفظ في نقل هذه الأحاديث
ولاعتماد النساخ على تصوير الكلمات التي لم تتضح لهم صياغتها الصحيحة ومن ناسخ إلى
مراجع ضاعت الكلمة الأصيلة وحل محلها كلمة جديدة لا علاقة لها بالأصل.
وكذا في آي القرآن الكريم فقد تم الرجوع في ضبطها إلى نسخة مصحف المدينة المنورة
التي تقوم المملكة العربية السعودية مشكورة بطبعها والإشراف عليها لأنها أفضل نسخ
المصاحف المطبوعة ضبطا وطباعة.
إن مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية الذي أخذ على عاتقه خدمة هذا الشرع
الحنيف والسنة النبوية المطهرة وتقديم كتب التراث العربي والإسلامي لم يأل جهدا في
كل ما قدم لدور النشر العربية واللبنانية من كتب هذا التراث العظيم وقد أسند العمل
بها إلى عدد من العلماء والأجلاء العاملين في حقل التحقيق والتأليف.
وقد أشرف المكتب على مراجعة وتدقيق هذا الكتاب قبل تسليمه
لدار
ومكتبة الهلال التي تحاول دائما أن تكون كتبها في أنقى صيغة ممكنة خالية من
الشوائب والأخطاء التي تعيب الكتب عادة.
ونأمل أن نكون قد وفقنا فيما قمنا به من عمل راجين به رحمة الله وغفرانه، غفر الله
لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم إنه هو الغفّار الرحيم.
مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية بيروت
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة
الفاتحة
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل
تضمن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى
والصفات العليا إليها، ومدارها عليها. وهي: «الله، والرب، والرحمن «1» » وبنيت
السورة على الإلهية والربوبيّة والرحمة. ف إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبنى على الإلهية.
وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبيّة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة
الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة: فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته.
والثناء والمجد كمالان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. وتفرّد الرب تعالى
بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله: مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ.
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:
__________
(1) قال الخطابي: الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم
وعمت المؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمنين ولا يجوز إطلاق اسم الرحمن على غير
الله تعالى بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضا.
(1/11)
أحدها:
كونه رب العالمين. فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا، لا يعرفهم ما ينفعهم في
معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما. فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا
يليق به. وما قدره حق قدره من نسبه إليه.
الثاني: أخذها من اسم «الله» وهو المألوه المعبود. ولا سبيل للعباد إلى معرفة
عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه «الرحمن» فإن رحمته تمنع إهمال عباده، وعدم تعريفهم ما
ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل،
وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث «1» وإنبات الكلأ «2» ، وإخراج الحب.
فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة
الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب «3»
. وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.
الموضع الرابع: من ذكر «يوم الدين» فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه
بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب
أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه.
وبهم استحق الثواب والعقاب. وبهم قام سوق يوم الدين. وسيق الأبرار إلى النعيم.
والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: من قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإن ما يعبد به تعالى لا يكون إلا على
ما يحبه ويرضاه. وعبادته: هي شكره وحبه وخشيته، فطري ومعقول للعقول السليمة. لكن
طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله. وفي هذا بيان أن إرسال
الرسل أمر مستقر في العقول، يستحيل
__________
(1) المطر.
(2) العشب رطبا كان أو يابسا.
(3) يقال: دب يدب بالكسر دبا ودبيبا، وكل ماش على الأرض دابة.
(1/12)
تعطيل
العالم عنه، كما يستحيل تعطيله عن الصانع. فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل. ولم
يؤمن به، ولهذا جعل سبحانه الكفر برسله كفرا به.
الموضع السادس: من قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فالهداية:
هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة. ولا سبيل إلى
البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه
هداية التوفيق. وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إلى، وتزيينه في قلبه، وجعله مؤثرا
له، راضيا به، راغبا فيه. هما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما. وهما
متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا، وإلهامنا له، وجعلنا مريدين
لاتباعه ظاهرا وباطنا. ثم خلق القدرة لنا على القيام لنا على القيام بموجب الهدى
بالقول والعمل والعزم. ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هاهنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من
يقول: إذا كنا مهتدين، فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا، من الحق أضعاف
المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا
نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوته الحصر.
ونحن محتاجون إلى الهداية التامة.
فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى- وهي آخر مراتبها- وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة.
وهو الصراط الموصل إليها. فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل
به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار
ثوابه. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه
الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا
الصراط يكون سيره على ذاك الصراط. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطّرف،
(1/13)
ومنهم
من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشدّ الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي
مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المخدوش المسلّم، ومنهم المكردس في الناس. فلينظر
العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القذّة بالقذة جزاء وفاقا هَلْ
تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسؤول، وهو الصراط المستقيم.
ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود،
والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيّنه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط
المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم. فإنها
الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا
وقويت فكذلك هي هناك وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين.
وكلما تعوج طال وبعد. واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه
يستلزم سعته. وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال
يستلزم تعينه طريقا.
والصراط: تارة يضاف إلى الله، إذ هو الذي شرعه ونصبه، كقوله تعالى: 6: 153 وَأَنَّ
هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً وقوله: 42: 52 وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ: صِراطِ اللَّهِ وتارة يضاف إلى العباد، كما في الفاتحة لكونهم أهل
سلوكه. وهو المنسوب لهم. وهم المارون عليه.
الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم، وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال فانقسم
الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى الأقسام الثلاثة. لأن العبد إما أن يكون
عالما بالحق، أو جاهلا به. والعالم بالحق
(1/14)
إما
أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له. فهذه أقسام المكلفين. لا يخرجون عنها البتة.
فالعالم بالحق العامل به: هو المنعم عليه. وهو الذي زكّى نفسه بالعلم النافع
والعمل الصالح. وهو المفلح 91: 9 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها والعالم به المتبع
هواه هو. المغضوب عليه. والجاهل بالحق: هو الضال. والمغضوب عليه ضال عن هداية
العمل. والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل. فكل منهما ضال مغضوب
عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به. ومن هاهنا
كان اليهود أحقّ به. وهو متغلظ في حقهم. كقوله تعالى في حقهم 2: 90 بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً
أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ
عَلى غَضَبٍ قال تعالى: 5: 60 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ
مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ
مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. والجاهل بالحق: أحق باسم الضلال. ومن هنا وصفت
النصارى به في قوله تعالى: 5: 77 قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ
قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ فالأولى: في سياق
الخطاب مع اليهود.
والثانية: في سياقه مع النصارى.
وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان: من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «اليهود مغضوب عليهم.
والنصارى ضالون» «1» .
ففي ذكر المنعم عليهم- وهم من عرف الحق واتبعه- والمغضوب عليهم- وهم من عرفه واتبع
هواه- والضالين- وهم من جهله-: ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة. لأن انقسام الناس
إلى ذلك هو الواقع المشهود. وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة. وأضاف النعمة
إليه، وحذف فاعل الغضب لوجوه.
__________
(1)
أخرجه الترمذي برقم 2954 بلفظ: «واليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال» .
(1/15)
منها:
أن النعمة هي الخير والفصل. والغضب من باب الانتقام والعدل. والرحمة تغلب الغضب،
فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما وأقواهما. وهذه طريقة القرآن في إسناد
الخيرات والنعم إليه.
وحذف الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن 72: 10 وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومنه قوله
الخضر في شأن الجدار واليتيمين 18: 82 فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما وقال في خرق السفينة 18: 79 فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها
ثم قال بعد ذلك وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وتأمل قوله تعالى: 2: 187 أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وقوله: 5: 4 حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وقوله: 4: 24 حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ- ثم قال- وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ.
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة
للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر. فكل الخلق في نعمه. وهذا
فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟.
فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان. ومطلق النعمة يكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى:
14: 34 وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.
والنعمة من جنس الإحسان، بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر.
والمؤمن والكافر. وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم: 16: 53 وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فأضيف إليه ما هو منفرد به. وإن أضيف إلى غيره فلكونه
طريقا ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به
(1/16)
تعالى،
بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه. فكان في طلبة المغضوب عليهم»
بموافقة أوليائه له: من الدلالة على تفرده بالإنعام، وأن النعمة المطلقة منه وحده،
هو المنفرد بها- ما ليس في لفظه «المنعم عليهم» .
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره،
وتصغير شأنه، ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره،
ورفع قدره: ما ليس في حذفه. فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه، ورفع قدره، فقلت:
هذا الذي أكرمه السلطان، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه. كان أبلغ في الثناء والتعظيم
من قولك: هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره. فإن
الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح. وهي الهدى
ودين الحق. ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء. فهذا تمام النعمة. ولفظ
«أنعمت عليهم» يتضمن الأمرين. وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين:
الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان، والسبب الذي استحقوا به غضبه
سبحانه. فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال. فكأن الغضب عليهم
مستلزم لضلالهم. وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم. فإن من ضل استحق
العقوبة التي هي موجب ضلالة وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام، واقتضاه أكمل
اقتضاء، في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة، وحذفه
في أهل الغضب. وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.
وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة، والغضب والضلال. فذكر
(1/17)
المغضوب
عليهم والضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم. وهذا كثير في القرآن: يقرن بين
الضلال والشقاء، وبين الهدى والفلاح. فالثاني كقوله:
2: 5 أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله:
6: 82 أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ والأول كقوله تعالى: 54:
47 إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وقوله: 2: 7 خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله: 20: 124 فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى
فهذا الهدى والسعادة. ثم قال:
20: 125 مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ
تُنْسى
فذكر الضلال والشقاء.
فالهدى والسعادة متلازمان. والضلال والشقاء متلازمان.
فصل
وذكر الصراط المستقيم منفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة.
وذلك يفيد تعيّنه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه
سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: 6:
153 وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فوحّد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة
له.
وقال ابن مسعود: «خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّا، وقال: هذا سبيل
الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو
إليه، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» »
وهذا لأن
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2454 وقال: خطا مربعا، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 318.
(1/18)
الطريق
الموصل إلى الله واحد. وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه. لا يصل إليه أحد إلا من
هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة،
والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد. فإنه متصل بالله، موصل إلى الله،
قال الله تعالى:
15: 41 هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قال الحسن معناه: صراط إليّ مستقيم. وهذا
يحتمل أمرين: أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض، فقامت
أداة «على» مقام «إلى» والثاني: أنه أراد التفسير على المعنى. وهو الأشبه بطريق
السلف. أي صراط موصل إلي وقال مجاهد «1» : الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا
يعرّج على شيء.
وهذا مثل قول الحسن وأبين منه. وهو من أصح ما قيل في الآية. وقيل:
«على» فيه للوجوب، أي عليّ بيانه والدلالة عليه. والقولان نظير القولين في آية
النحل. وهي: 16: 9 وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ والصحيح فيها كالصحيح في آية
الحجر: أن السبيل القاصد- وهو المستقيم المعتدل- يرجع إلى الله، ويوصل إليه قال
طفيل الغنوي:
مضوا سلفا، قصد السبيل عليهم ... وصرف المنايا بالرجال تقلب
أي ممرنا عليهم، وإليهم وصولنا. وقال الآخر:
فهن المنايا: أيّ واد سلكته ... عليها طريقي، أو عليّ طريقها
فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة «إلى» التي هي للانتهاء، لا أداة
«على» التي هي للوجوب. ألا ترى أنه لما أراد الوصول
__________
(1) هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر الحبر المكي، قال حصيف: كان أعلمهم
بالتفسير،
قال الأعمش: كنت إذا رأيت مجاهدا تراه مغموما، فقيل له في ذلك فقال:
أخذ عبد الله يعني ابن عباس بيدي ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي وقال
لي: «يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»
مات مجاهد بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. (انظر شذرات
الذهب) .
(1/19)
قال:
88: 25، 26 إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وقال:
30: 23 إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ 6: 108 ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ وقال.
لما أراد الوجوب 88: 26 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ 75: 17 إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
6: 38 وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها ونظائر
ذلك؟.
قيل: في أداة «على» سر لطيف. وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو
حق. كما قال في حق المؤمنين: 2: 5 أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وقال لرسوله
صلّى الله عليه وسلّم: 27: 79 فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ
الْمُبِينِ والله عز وجل هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو
على الحق والهدى. فكان في أداة «على» على هذا المعنى ما ليس في أداة «إلى» فتأمله،
فإنه سريع بديع.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر «على» في ذلك أيضا. وكيف يكون المؤمن مستعليا على
الحق، وعلى الهدى؟.
قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه. فكان
في الإتيان بأداة «على» ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال
والرّيب. فإنه يؤتي فيه بأداة «في» الدالة على انغماس صاحبه، وانقماعه «1» وتدسسه
فيه، كقوله تعالى: 9: 45 فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وقوله: 6: 39
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ وقوله: 23: 25
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ وقوله: 42: 14 إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مُرِيبٍ وتأمل قوله تعالى:
34: 24 وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فإن طريق
الحق تأخذ
__________
(1) قمع: المقمعة بالكسر واحد المقامع من حديد كالحجن يضرب بها على رأس الفيل،
وقمعه ضربه بها، وقمعه وأقمعه أي قهره وأذله فانقمع.
(1/20)
علوا
صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا، هاوية بسالكها في أسفل
سافلين.
وفي قوله تعالى: 15: 41 قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قول ثالث. وهو قول
الكسائي: إنه على التهديد والوعيد نظير قوله: 89: 14 إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ كما يقال: طريقك علي، وممرك علي، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت
لك، ولا معجز. والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمله. فإنه قاله مجيبا لإبليس
الذي قال: 15: 39 لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ فإنه لا سبيل لي إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم. فقرر الله عز وجل
ذلك أتم التقرير. وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم. فلا سلطان لك على عبادي
الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي. ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط، ولا
الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله. فلا يصل عدو الله إلى أهله.
فليتأمل العارف هذا الموضع حق التأمل، ولينظر إلى هذا المعنى ويوازن بينه وبين
القولين الآخرين، أيهما أليق بالآيتين، وأقرب إلى مقصود القرآن وأقوال السلف.
وأما تشبيه الكسائي له بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فلا يخفى الفرق
بينهما سياقا ودلالة. فتأمله، ولا يقال في التهديد: هذا طريق مستقيم علي، لمن لا
يسلكه. وليست سبيل المهدّد مستقيمة. فهو غير مهدد بصراط الله المستقيم وسبيله التي
هو عليها ليست مستقيمة على الله فلا يستقيم هذا القول البتة.
وأما من فسره بالوجوب، أي عليّ بيان استقامته والدلالة عليه. فالمعنى صحيح. لكن في
كونه هو المراد بالآية نظر. لأنه حذف في غير موضع الدلالة. ولم يؤلف الحذف
المذكور، ليكون مدلولا عليه إذا حذف. بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة. فإنه حذف
مألوف معروف. حتى إنه لا يذكر
(1/21)
البتة.
فإذا قلت: له درهم علي. كان الحذف معروفا مألوفا. فلو أردت عليّ نقده، أو عليّ
وزنه وحفظه، ونحو ذلك، وحذفت. لم يسغ. وهو نظير:
عليّ بيانه. المقدر في الآية، مع أن الذي قاله السلف أليق بالسياق. وأجلّ المعنيين
وأكبرهما.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه يقول: وهما نظير قوله تعالى:
92: 12، 13 إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى قال:
فهذه ثلاثة مواضع في القرآن في هذا المعنى.
قلت: وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلا معنى الوجوب، أي
علينا بيان الهدى من الضلال. ومنهم من لم يذكر في سورة النحل إلا في هذا المعنى
كالبغوي. وذكر في الحجر الأقوال الثلاثة.
وذكر الواحدي في بسيطة المعنيين في سورة النحل. واختار شيخنا قول مجاهد والحسن في
السور الثلاث.
فصل
والصراط المستقيم، هو صراط الله. وهو يخبر أن الصراط عليه سبحانه، كما ذكرنا.
ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم، وهذا في موضعين من القرآن: في هود والنحل،
قال في هود: 11: 56 ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ
رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال في النحل:
16: 76 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ
عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ
بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع. ولا تنطق ولا تعقل، وهي كلّ
على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه. فكيف يسوونه في
العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد. وهو قادر متكلم، غني. وهو على صراط
مستقيم في
(1/22)
قوله
وفعله. فقوله صدق ورشد ونصح وهدى. وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة. هذا أصح الأقوال
في الآية. وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره. ومن ذكر غير قدمه على الأقوال.
ثم حكاها بعده، كما فعل البغوي. فإنه جزم به، وجعله تفسير الآية. ثم قال:
قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم.
قلت: ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه على الصراط المستقيم. فإن
دلالته بفعله وقوله، وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله. فلا يناقض قول من
قال: إنه سبحانه على الصراط المستقيم.
قال: وقيل: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
قلت: وهذا حق لا يناقض القول الأول. فالله على الصراط المستقيم، ورسوله عليه. فإنه
لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه. وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار
وهاديهم، وهو الصنم الذي هو أبكم، لا يقدر على هدى ولا خير. وإمام الأبرار، وهو
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي يأمر بالعدل. وهو على صراط مستقيم.
وعلى القول الأول: يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار.
والقولان متلازمان. فبعضهم ذكر هذا. وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية. قال:
وقيل: كلاهما للمؤمن والكافر. يرويه عطية عن ابن عباس.
وقال عطاء: الأبكم أبيّ بن خلف، ومن يأمر بالعدل: حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن
مظعون «1» .
__________
(1) هو عثمان بن مظعون القرشي الجمحي، وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة بعد
رجوه من بدر، وقبّله النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ميت وكان يزوره ودفن إلى جنبه
ولده إبراهيم وكان
(1/23)
قلت:
والآية تحتمله. ولا يناقض القولين قبله، فإن الله على صراط مستقيم، ورسوله وأتباع
رسوله. وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم، والكافر التابع والمتبوع والمعبود. فيكون
بعض السلف ذكر أعلى الأنواع. وبعضهم ذكر الهادي. وبعضهم المستجيب القابل. وتكون
الآية: متناولة لذلك كله. ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأما آية هود: فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحدا. وهو أن الله سبحانه على صراط
مستقيم. وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم- فإن أقواله كلها صدق ورشد وهدى
وعدل وحكمة: 6: 115 وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا وأفعاله كلها
مصالح وحكم، ورحمة وعدل وخير.
فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة، لخروج الشر عن الصراط المستقيم. فكيف
يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله؟
وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: «لبيك وسعديك، والخير كله بيديك والشر ليس إليك
«1» »
ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله: والشر لا يتقرب به إليك، أو لا يصعد إليك. فإن
المعنى أجل من ذلك، وأكبر وأعظم قدرا. فإن من أسماؤه كلها حسنى. وأوصافه كلها
كمال، وأفعاله كلها حكم، وأقواله كلها صدق وعدل: يستحيل دخول الشر في أسمائه أو
أوصافه، أو أفعاله أو أقواله. فطابق بين هذا المعنى وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله: 11: 56
__________
ممن حرم الخمر على نفسه قبل تحريمها وكان عابدا مجتهدا، وسمع لبيد بن ربيعة ينشد:
«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فقال: صدقت، فلما قال: «وكل نعيم لا محالة زائل»
قال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، توفي في السنة الثانية للهجرة. (انظر شذرات الذهب)
.
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك عن انس 2/ 363.
(1/24)
إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي هو ربي، فلا يسلمني ولا يضيعني،
وهو ربكم فلا يسلطكم عليّ ولا يمنعكم مني! فإن نواصيكم بيده، لا تفعلون شيئا بدون
مشيئته. فإن ناصية كل دابة بيده، لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه. فهو المتصرف فيها.
ومع هذا في تصرفه فيها وتحريكه لها، ونفوذ قضائه وقدره فيها: على صراط مستقيم، لا
يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة، ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك
ما له الحمد عليه. لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم. لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا
بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله، لا معرفة القدرية المجوسية، والقدرية الجبرية، نفاة
الحكم والمصالح والتعليل. والله الموفق سبحانه.
فصل
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريد لسلوك طريق
مرافقه فيها غاية العزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرق، وعلى الأنس بالرفيق، نبه
الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم مع الذين أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم
الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني
جنسه. وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة
الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلّون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف:
عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة
الهالكين. وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم.
وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق
سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لك مثلين،
فليكونا منك على بال.
(1/25)
المثل
الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من
شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه. فوقف ورد عليه، وتماسكا. فربما كان شيطان
الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة. وربما كان
الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك
الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه. وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم
زاد في السعي والجمز «1» بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده،
وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه،
فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق: ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير
للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت
«اللهم اهدني فيمن هديت»
أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية أي
قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك.
فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم.
فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم،
وعلمني في جملة من علمته. وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
__________
(1) جمز الإنسان والبعير وغيره يجمز جمزا وجمزي وهو عدو دون الحضر وفوق العنيد،
وبعير جماز وناقة جمازة. يقال: حمار جمّاز: وثاب، وجمزي: سريع.
(1/26)
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجلّ المطالب ونيله أشرف المواهب:
علّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه،
وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم. توسل إليه بأسمائه
وصفاته. وتوسل إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء.
ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في
صحيحه، والإمام أحمد والترمذي. أحدهما:
حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا يدعو،
ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد،
الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا
سئل به أعطى»
قال الترمذي: حديث صحيح «1» . فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له
بالوحدانية. وثبوت صفاته المدلول عليها باسم «الصمد» وهو كما قال ابن عباس «العالم
الذي كمل علمه، القادر الذي كلمت قدرته» وفي رواية عنه «هو السيد الذي قد كمل فيه
جميع أنواع السؤدد» وقال أبو وائل: «هو السيد الذي انتهى سؤدده» وقال سعيد بن جبير
«2» : «هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأعماله» وبنفي التمثيل والتشبيه عنه
بقوله «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل
بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني:
حديث أنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن
لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنّان، بديع السموات
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 3475.
(2) هو سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي المقرئ المفسر الفقيه المحدث أحد
الأعلام، قتله الحجاج سنة خمس وتسعين وله نحو من خمسين سنة. [.....]
(1/27)
والأرض،
ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم» «1»
فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه، وتمجيده، والتوسل
إليه بعبوديته وتوحيده. ثم جاء سؤال أهم المطالب، وأنجح الرغائب، وهو الهداية، بعد
الوسيلتين. فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يدعو به إذا قام يصلّي من
الليل.
رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض
ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق،
ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد حق،
اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت.
فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» «2»
فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له. ثم سأله المغفرة.
فصل
في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات
الله وسلامه عليهم.
التوحيد نوعان: نوع في العلم والإعتقاد. ونوع في الإرادة والقصد.
ويسمى الأول: التوحيد العلمي. والثاني: التوحيد القصدي الارادي.
لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة. والثاني بالقصد والإرادة. وهذا الثاني أيضا نوعان:
توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية. فهذه ثلاثة أنواع.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 504.
(2) أخرجه الترمذي برقم 3418.
(1/28)
فأما
توحيد العلم: فمداره على إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التشبيه والمثال. والتنزيه عن
العيوب والنقائص. وقد دل على هذا شيئان:
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فإثبات الحمد له سبحانه. وأما المفصل: فذكر صفة الإلهية والربوبية،
والرحمة والملك. وعلى هذا الأربع مدار الأسماء والصفات. فأما تضمن الحمد لذلك: فإن
الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه والخضوع
له، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له. وكلما
كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده
بحسبها. ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها. ولأجل
هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا
يحصيها سواه. ولهذا ذم الله تعالي آلهة الكفار، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها.
فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم ولا تهدى، ولا تنفع ولا تضر. وهذه صفة
إله الجهمية، التي عاب بها الأصنام، نسبوها إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون
والجاحدون علوا كبيرا. فقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجّته
لأبيه: 19: 42 يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي
عَنْكَ شَيْئاً
فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة،
فكيف تنكر عليّ؟
لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهمية. وكذلك كفار قريش كانوا مع شركهم مقرين
بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه، وقال تعالى:
7: 148 وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً
لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟
اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا
إنكار عليهم، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك.
(1/29)
فإن
قيل: فالله تعالى لا يكلم عباده.
قيل: بلى، قد كلمهم، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب، منه إليه بلا واسطة، كموسى.
ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي.
وهم الأنبياء. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله. فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته
رسله عنه. وقالوا لهم: هذا كلام الله الذي تكلم به وأمرنا بتبليغه إليكم. ومن
هاهنا قال السلف: من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم. لأن حقيقتها
تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده، فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة وقال تعالى
في سورة طه عن السامري 20: 88 فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ
فَقالُوا: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فَنَسِيَ. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا
يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟ ورجع
القول: هو التكلم والتكليم. قال تعالى: 16: 76 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ،
أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فجعل نفي صفات الكلام موجبا لبطلان
الإلهية. وهذا أمر معقول بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية: أن فاقد صفات
الكمال لا يكون إلها، ولا مدبرا، ولا ربّا، بل هو مذموم معيب ناقص، ليس له الحمد
لا في الأولى، ولا في الآخرة. وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال،
ونعوت الجلال، التي لأجلها استحق الحمد. ولهذا سمي السلف كتبهم التي صنفوها في
السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه، وكلامه وتكليمه: توحيدا. لأن نفي ذلك
وإنكاره والكفر به إنكار للصانع، وجحد له، وإنما توحيده: إثبات صفات كماله،
وتنزيهه عن الشبيه والنقائص.
فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا، وجعلوا إثباتها لله تشبيها
وتجسيما وتركيبا. فسموا الباطل باسم الحق، ترغيبا فيه، وزخرفا ينفقونه به. وسموا
الحق باسم الباطل تنفيرا عنه، والناس أكثرهم مع ظاهر السّكّة، ليس لهم نقد النقاد:
18: 17 مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
(1/30)
الْمُهْتَدِ،
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن
إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا كمال.
كمال.
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه، وتعبد كل
شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، كما قال تعالى: 10: 68 قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَداً، سُبْحانَهُ، هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ.
وحمد نفسه على عدم الشريك، المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية، وتوحده بصفات الكمال
التي لا يوصف بها غيره، فيكون شريكا له. فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه. لأن
الموجود أكمل من المعدوم. ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذ كان متضمنا ثبوت
كمال. كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه
سنة ولا نوم، لتضمن ذلك قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في
الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، لكمال علمه وإحاطته. وحمد نفسه
بأنه لا يظلم أحدا، لكمال عدله وإحسانه.
وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار، لكمال عظمته، يرى ولا يدرك، كما أنه يعلم ولا
يحاط به علما. وإلا فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال. لأن العدم لا يرى، فليس في كون
الشيء لا يرى كمال البتة. وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا،
لعظمته في نفسه، وتعاليه عن إدراك المخلوق له. وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة
والنسيان، لكمال علمه.
فكل سلب في القرآن حمد به نفسه فلمضادته لثبوت ضده، ولتضمنه كمال ثبوت ضده. فعلمت
أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال، وأن نفيها نفي لحمده، ونفي الحمد مستلزم
لثبوت ضده.
(1/31)
فصل
فهذا دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات. وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها،
وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك: فمبني على أصلين:
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله. فهي مشتقة من الصفات.
فهي أسماء، وهي أوصاف. وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن
حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال. ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام
الرحمة والإحسان، وبالعكس، فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت المنتقم.
واللهم أعطني، فإنك أنت الضار المانع، ونحو ذلك. ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم
الإلحاد فيها. قال تعالى: 7: 180 وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ،
سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن
يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها، وأثبتها لنفسه،
وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى:
51: 58 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فعلم أن القويّ
من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله: 35: 10 فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعاً فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا.
وكذلك قوله: 4: 166 أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ 11: 14 فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ
بِعِلْمِ اللَّهِ 2: 255 وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن
ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل،
حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه «البصير»
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»
وفي الصحيح
(1/32)
حديث
الإستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك»
فهو قادر بقدرة. وقال تعالى لموسى: 7: 144 إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فهو متكلم بكلام. وهو العظيم الذي له العظمة، كما
في الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء
ردائي»
وهو الحكيم الذي له الحكم 40: 12 فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ وأجمع
المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت
يمينه، وكانت مكفرة. لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه.
وأيضا لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها. فلا
يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى
أصل الصفة استحال ثبوت حكمها.
وأيضا فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة، التي لم
توضع لمسماها معنى قام به. فكانت كلها سواء، ولم يكن فرق بين مدلولاتها. وهذا
مكابرة صريحة، وبهت بيّن. فإن من جعل معنى اسم «القدير» هو معنى اسم «السميع،
البصير» ومعنى اسم «التواب» هو معنى اسم «المنتقم» ومعنى اسم «المعطي» هو معنى اسم
«المانع» فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها. والإلحاد فيها أنواع، هذا أحدها.
الثاني: تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة. وقال ابن عباس ومجاهد «عدلوا بأسماء
الله تعالى عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم، فزادوا ونقصوا. فاشتقوا اللات من
الله، والعزى من العزيز ومناة من المنان» وروى عن ابن عباس يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ «يكذبون عليه» وهذا تفسير بالمعنى. وحقيقة الإلحاد فيها: العدول بها
(1/33)
عن
الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها، وإخراج حقائق معانيها عنها. هذا
حقيقة الإلحاد. ومن فعل ذلك فقد كذب على الله. ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب، أو
هو غاية الملحد في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها، وخرج بها
عن حقائقها أو بعضها، فقد عدل بها عن الصواب والحق، وهو حقيقة الإلحاد. فالإلحاد:
إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب،
وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات
المصنوعات، كإلحاد أهل الاتحاد. فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها،
حتى قال زعيمهم «1» : وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا، وبكل اسم مذموم
عقلا وشرعا وعرفا، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.
فصل
الأصل الثاني: أن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي
اشتق منها بالمطابقة. فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم. فيدل على الصفة
بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة. ويدل على الصفة الأخرى
باللزوم. فإن اسم «السميع» يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها، وعلى
السمع وحده بالتضمن. ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه
وصفاته. ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه. ومن هاهنا يقع اختلافهم في كثير
من الأسماء والصفات والأحكام. فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة، وأن
السمع والبصر لازم للحياة الكاملة، وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة. أثبت
من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما
__________
(1) هو ابو سعيد الخراز.
(1/34)
ينكره
من لم يعرف لزوم ذلك، ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها، وكذلك سائر صفاته. فإن اسم
«العظيم» له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها. وكذلك اسم «العلي» واسم
«الحكيم» وسائر أسمائه. فإن من لوازم اسم «العلي» العلو المطلق، بكل اعتبار. فله
العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. فمن جحد علو
الذات فقد جحد لوازم اسمه «العلي» .
وكذلك اسمه «الظاهر» من لوازمه: ألا يكون فوقه شيء، كما
في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء»
بل هو سبحانه فوق كل شيء، فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه «الظاهر» ولا
يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية فقط، كما يقال: الذهب فوق الفضة، والجوهر فوق
الزجاج. لأن هذه الفوقية لا تتعلق بالظهور، بل قد يكون المفوّق أظهر من الفائق
فيها. ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط، وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر
والغلبة، لمقابلة الاسم ب «الباطن» . وهو الذي ليس دونه شيء، كما قابل «الأول»
الذي ليس قبله شيء، ب «الآخر» الذي ليس بعده شيء.
وكذلك اسم «الحكيم» من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه
الأشياء في مواضعها، وإيقاعها على أحسن الوجوه. فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم
ولوازمه. وكذلك سائر أسمائه الحسنى.
فصل
إذا تقرر هذان الأصلان: فاسم «الله» دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا
بالدلالات الثلاث، فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي
أضدادها عنه. وصفات الإلهية: هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن
العيوب والنقائص
(1/35)
ولهذا
يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: 7: 180
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ويقال: الرحمن والرحيم، والقدوس والسلام، والعزيز
والحكيم: من أسماء الله. ولا يقال: الله، من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز،
ونحو ذلك.
فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال.
والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم «الله» واسم
«الله» دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا
إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال
الملك. والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله. إذ
يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال
لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
فصفات الجلال والجمال أخص باسم «الله» وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع،
والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم «الرب» .
وصفات الإحسان والجود والبر، والحنان والمنة والرأفة واللطف، أخص باسم «الرحمن»
وكرر إيذانا بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته.
فالرحمن: الذي الرحمة وصفه. والرحيم: الراحم لعباده. ولهذا يقول تعالى: 33: 43
وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً 9: 117 إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولم يجيء
رحمان بعباده، ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فعلان
من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: غضبان: للممتلئ غضبا، وندمان وحيران
(1/36)
وسكران
ولهفان لمن ملئ بذلك؟ فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواؤه على العرش
بهذا الإسم كثيرا كقوله تعالى: 20: 5 الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 25: 59
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأن العرش
محيط بالمخلوقات، قد وسعها.
والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: 7: 156 وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كل شيء.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب
غضبي»
وفي لفظ «فهو وضع عنده على العرش» .
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابق بين ذلك وبين
قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقوله: 26: 156 ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب
تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم.
وصفات العدل، والقبض والبسط. والخفض والرفع. والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال،
والقهر والحكم، ونحوها: أخص باسم «الملك» وخصه بيوم الدين، وهو الجزاء بالعدل،
لتفرده بالحكم فيه وحده، ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة. ولأنه الغاية، وأيام
الدنيا مراحل إليه.
فصل
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي: «الله، والرب، والرحمن» كيف
نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟
(1/37)
وكيف
جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع والفرق.
فاسم «الرب» له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخلقه، والقادر عليه
لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره.
فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألّهه وحده السعداء، وأقروا له
طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي الغبادة والتوكل، والرجاء
والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.
وهاهنا افترق الناس وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقا موحدين في
الجنة.
فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم فالدين والشرع، والأمر
والنهي، مظهره وقيامه: من صفة الإلهية، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة
الربوبية. والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار: من صفة الملك. وهو ملك يوم
الدين. فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته. وأثابهم وعاقبهم
بملكه وعدله. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له،
والربوبية منه لهم. والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل
عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم.
فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته، ف الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى مطابق لقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن
شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء
برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربا
(1/38)
للعالمين
ما يدل على علوه على خلقه، وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
فصل
في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها: ما يدل على أنه
محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله
محمود، رب محمود، ورحمان محمود، وملك محمود. فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من
هذا الإسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك: قوله تعالى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فالغنى صفة كمال. والحمد صفة كمال،
واقتران غناه بحمده كمال أيضا، وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة
كمال أيضا. وقدرته كمال. ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال، وكذلك العفو
بعد القدرة 4: 14 فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً واقتران العلم بالحلم 4:
11 وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد
علمك» واثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» فما كل
من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليما، ولا كل حليم
عالم. فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم. ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى
حمد، ومن عزة إلى رحمة: 26: 9 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ومن
هاهنا كان قول المسيح عليه السلام: 5: 121 إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أحسن من
أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن
(1/39)
عزة.
وهي كمال القدرة، وعن حكمة، وهي كمال العلم. فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني [لا
يكون قادرا حكيما عليما. فلا يكون ذلك إلا عجزا] فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة
وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها فهذا. أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا
الموضع، الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت. فإنه لو قال:
وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب
المغفرة لمن لا يستحقها ما نزه عنه منصب المسيح عليه السلام، لا سيما والموقف موقف
عظمة وجلال، وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا، أو اتخذ إلها من دونه. فذكر العزة
والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة.
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام: 14: 35 و 36 وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولم يقل:
فإنك عزيز حكيم. لأن المقام مقام استعطاف وتعريض بالدعاء، أي إن تغفر له وترحمه،
بأن توفقه للرجوع من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة كما
في الحديث: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به، وأن
كل اسم يناسب ما ذكر معه، واقترن به، من فعله وأمره. والله الموفق للصواب.
فصل
في مراتب الهداية الخاصة والعامة وهي عشر مراتب المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله
عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة، بل منه إليه. وهذه أعلى مراتبها، كما كلم موسى بن
عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. قال الله تعالى: 4: 164 وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً
(1/40)
فذكر
في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه
كلمه. وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول
الآية. ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر «كلم» وهو «تكليم» رفعا لما توهمه
المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام، أو إشارة، أو تعريف للمعنى
النفسي بشيء غير التكليم. فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز.
قال الفراء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل. ولكن ما تحققه
بالمصدر، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، كالإرادة يقال: فلان أراد
إرادة، يريدون حقيقة إرادة. ويقال: أراد الجدار، ولا يقال: إرادة. لأنه مجاز غير
حقيقة. هذا كلامه. وقال تعالى: 7: 143 وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وهذا التكليم غير التكليم
الأول الذي أرسله به إلى فرعون. وفي هذا التكليم الثاني سأل النظر، لا في الأول،
وفيه أعطى الألواح. وكان عن مواعدة من الله له. والتكليم الأول لم يكن عن مواعدة.
وفيه قال الله له: 7: 144 يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي أي بتكلمي لك بإجماع السلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه. فالنداء من بعد والنجاء من قرب. تقول
العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء أو نجاء وقال له أبوه آدم في محاجته «أنت موسى
الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده» . وكذلك يقول له أهل الموقف إذا
طلبوا منه الشفاعة إلى ربه. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السماء السادسة
أو السابعة، على اختلاف الرواية. قال «وذلك بتفضيله بكلام الله» ولو كان التكليم
الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن هذا التخصيص به في هذه
الأحاديث معنى. ولا كان يسمى «كليم الرحمن» وقال تعالى: 42:
51 وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ
حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ
(1/41)
رَسُولًا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
ففرق بين تكليم الوحي، والتكليم بإرسال الرسول، والتكليم من وراء حجاب.
فصل
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء. قال الله تعالى:
4: 163 إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ وقال:
42: 51 وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ- الآية فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم وجعله في آية
النساء قسيما للتكليم، وذلك باعتبارين: فإنه قسيم التكليم الخاص الذي بلا واسطة،
وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة، والوحي في اللغة: هو
الإعلام السريع الخفي، ويقال في فعله: وحى،
وأوحى- قال رؤية ... وحى لها فاستقرت
وهو أقسام، كما سنذكره.
فصل
المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري. فيوحي إليه عن الله ما
أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء، لا تكون لغيرهم، ثم هذا الرسول الملكي قد
يتمثل للرسول البشري رجلا، يراه عيانا ويخاطبه، وقد يراه على صورته التي خلق
عليها، وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثم يفصم عنه، أي يقلع. والثلاثة
حصلت لنبينا صلّى الله عليه وسلّم.
فصل
المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث. وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين،
كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في هذه
(1/42)
الأمة
فعمر بن الخطاب» .
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم
قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بإن الشرطية، مع أنها أفضل الأمم لاحتياج الأمم
قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة
بعده إلى محدث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام فهذا التعليق لكمال الأمة
واستغنائها لا لنقصها.
والمحدّث هو الذي يحدّث في سره وقلبه بالشيء، فيكون كما يحدث به.
قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث. لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن
التحديث والإلهام والكشف، فإنه قد سلم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول فاستغنى
به عما منه.
قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول.
فإن وافقه قبله، وإلا رده، فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: حدثني قلبي عن ربي: فصحيح
أن قلبه حدثه، ولكن عن من؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: حدثني قلبي عن ربي كان
مسندا الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به، وذلك كذب، قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول
ذلك، ولا تفوّه به يوما من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك. بل كتب كاتبه
يوما «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب. فقال: لا. امحه واكتب: هذا
ما رأى عمر بن الخطاب. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر، والله ورسوله
منه بريء» وقال في الكلالة «أقول فيها برأيي.
فإن يكن صوابا فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان» فهذا قول المحدث بشهادة
الرسول وأنت ترى الاتحادي والحلولي والإباحي الشطاح، والسماعي: مجاهر بالقحة
والفرية. يقول: حدثني قلبي عن ربي، فانظر إلى ما
(1/43)
بين
القائلين والمرتبتين والقولين والحالين. وأعط كل ذي حق حقه، ولا تجعل الزغل
والخالص شيئا واحدا.
فصل
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام. قال الله تعالى: 21: 78، 79 وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا
آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فذكر هذين النبيين الكريمين: فأثنى عليهما بالعلم
والحكم. وخص سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعينة،
وقال علي بن أبي طالب، وقد سئل: «هل خصكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء دون
الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في
كتابه، وما في هذه الصحيفة. وكان فيها العقل، وهو الديات وفكاك الأسير، وأن لا
يقتل مسلم بكافر»
وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري «1» رضي الله عنهما: «والفهم فيما أدلى
إليك» فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه.
يعرف به، ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع
استوائهما في حفظه. وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب
العلماء، حتى عدّ ألف بواحد، فانظر إلى فهم ابن عباس وقد
__________
(1) هو ابو موسى الأشعري اليمني المقرئ الأمير نسب إلى الأشعر أخي حميد بن سبأ
وكان من أهل السابقة والسبق في الإسلام وهاجر من بلده زبيد في نحو إثنين وخمسين
رجلا ورجع فركب البحر فألقتهم الريح إلى النجاشي فوقف مع جعفر وأصحابه حتى قدم
معهم في سفينته وجعفر وأصحابه في سفينة، وأسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لسفينتهم ولمن جاء معهم ولم يسهم لمن غاب غيرهم واستعمله النبي صلّى الله عليه
وسلّم على عدن واستعمله عمر على الكوفة والبصرة وفتحت على يده عدة أمصار، توفي سنة
أربع وأربعين للهجرة (انظر شذرات الذهب) .
(1/44)
سأله
عمر: ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وما
خص به ابن عباس من فهمه منها: أنها نعي الله سبحانه نبيه إلى نفسه، وإعلامه بحضور
أجله، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصحابة وابن عباس إذ ذاك
أحدثهم سنا، وأين تجد هذه السورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاص؟ ويدق هذا حتى
يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره. ولا يقع
الاستغناء بالنصوص في حقه، وأما في حق صاحب الفهم فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.
فصل
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام. وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته
وشواهده وأعلامه. بحيث يصير مشهودا للقلب، كشهود العين للمرئيات وهذه المرتبة هي
حجة الله على خلقه، التي لا يعذب أحدا ولا يضله، إلا بعد وصوله إليها. قال الله
تعالى 9: 115 وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى
يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ فهذا الإضلال عقوبة منه لهم، حين بين لهم فلم
يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا. فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله سبحانه
أحدا قط إلا من بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب وعلمت
حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: 61:
5 فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ 4: 155 وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا
غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر
طبع، وقوله: 6: 110 وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه. بأن قلّب
(1/45)
أفئدتهم
وأبصارهم فلم يهتدوا به.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم. قال تعالى:
41: 17 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى
فهذا هدى بعد البيان والدلالة وهو شرط لا موجب. فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده،
لم يحصل به كمال الاهتداء وهو هدى التوفيق والإلهام وهذا البيان نوعان: بيان
بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية. وكلاهما أدلة وآيات
على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به عنه، ولهذا يدعو عباده
بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة عليهم، ويحضهم على التفكر في هذه
وهذه.
وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يضل
الله من يشاء. قال الله تعالى: 14: 4 وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالرسل تبين والله هو الذي يضل من يشاء
ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
فصل
المرتبة السابعة: البيان الخاص، وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهو بيان تقارنه
العناية والتوفيق والاجتباء، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه
الهداية البتة. قال تعالى في هذه المرتبة: 16: 37 إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وقال: 28: 56 إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فالبيان الأول شرط. وهذا موجب.
فصل
المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع. قال الله تعالى: 8: 23 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
(1/46)
فِيهِمْ
خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
قال تعالى:
35: 22 وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ.
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ فإن ذلك
حاصل لهم، وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب. فإن
الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما. فسماع لفظه حظ الأذن،
وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب. فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود
والمراد الذي هو حظ القلب. وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله 21:
2: 3 ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ
وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام
الحجة عليه، أو تمكنه منها، وأما مقصود السماع وثمرته، والمطلوب منه: فلا يحصل مع
لهو القلب وغفلته وإعراضه، بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: 47: 16ماذا قالَ
آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ.
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام: أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن.
ومرتبة الإفهام أعم، فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه، ومرتبة الفهم أخص من
وجه آخر، وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه متعلقاته وإشاراته، ومرتبة السماع
مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب. ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة.
فصل
المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام. قال تعالى: 91: 7، 8 وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها.
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحصين بن الخزاعي
(1/47)
لمّا
أسلم «قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي» .
«1»
وقد جعل صاحب المنازل والإلهام هو مقام المحدثين. قال: وهو فوق مقام الفراسة لأن
الفراسة ربما وقعت نادرة. واستصعبت على صاحبها وقتا أو استعصت عليه، والإلهام لا
يكون إلا في مقام عتيد.
قلت: التحديث أخص من الإلهام: فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد
ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان، فأما التحديث:
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر»
يعني من المحدثين. فالتحديث إلهام خاص. وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من
المكلفين، كقوله تعالى: 28: 7 وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ
وقوله: 5: 111 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي وإما من غير المكلفين كقوله تعالى: 16: 69 وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة فقد احتج عليه بأن الفراسة: ربما وقعت نادرة كما تقدم.
والنادر لا حكم له وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه، والإلهام لا
يكون إلا في مقام عتيد، يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من الفراسة والإلهام ينقسم إلى عام وخاص كل واحد
منهما فوق عام الآخر، وعام كل واحد قد يقع كثيرا، وخاصة قد يقع نادرا، ولكن الفرق
الصحيح: أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل، وأما الإلهام فموهبة مجردة، لا تنال
بكسب البتة.
[ثم ذكر فصولا أربعة تكلم فيها عن درجات الإلهام الثلاثة. ثم قال] .
__________
(1) أخرجه البخاري باب التاريخ عن أبي هريرة 4/ 1/ 2 بلفظ: رؤيا الرجل الصالح ...
(1/48)
فصل
المرتبة العاشرة: من مراتب الهداية. الرؤيا الصادقة: وهي من أجزاء النبوة كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة» .
وقد قيل في سبب هذا سبب التخصيص المذكور: إن أول أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا
الصادقة، وذلك نصف سنة. ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة، من حين بعث
إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه، فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة
وأربعين جزءا.
وهذا حسن لولا ما جاء
في الرواية الأخرى الصحيحة «أنها جزء من سبعين جزءا» .
[ثم ذكر كلاما في الرؤيا، ثم قال] .
فصل
في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين:
شفاء القلوب، وشفاء الأبدان فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم
اشتمال. فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم. وفساد القصد.
ويترتب عليها داءان قاتلان، وهما الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب
ينتجه فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط
المستقيم: تتضمن الشفاء من مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه الهداية: أفرض دعاء على
كل عبد،
(1/49)
وأوجبه
عليه كل يوم وليلة. في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا
يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقق ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ علما ومعرفة وعملا وحالا:
يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل.
فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان
كلا نوعي قصده فاسدا، وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبة غير الله وعبوديته، من
المشركين ومتبعي الشهوات، الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرياسات المتبعين
لإقامة رئاستهم بأي طريق كان من حق أو باطل. فإذا جاء الحق معارضا في طريق رئاستهم
طحنوه وداسوه بأرجلهم. فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه
في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم
يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء
الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا وجالوا، وأتوا إليه مذعنين، لا لأنه حق، بل
لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به: 24: 48: 49: 50 وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ، أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي
طلبوها، واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم الناس ندامة
وتحسرا، إذا حق الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم،
وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة. وهذا يظهر كثيرا في الدنيا، ويظهر أقوى
من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ، وينكشف
كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حققت الحقائق. وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا
(1/50)
أنهم
كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغروين، فيا له هناك من علم لا ينفع عالمه، ويقين لا
ينجى مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولمن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة
له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه. فحاله
أيضا كحال هذا، وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء «إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
[1] عبودية الله لا غيره.
[2] بأمره وشرعه.
[3] لا بالهوى.
[4] ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم.
[5] بالاستعانة على عبوديته به.
[6] لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا ركبها الطبيب
اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء
فهو لفوات جزء من أجزائها أو إثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولا بد:
وهما الرياء، والكبر، فدواء الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ودواء الكبر ب إِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ
تدفع الرياء وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ ومن مرض الكبر والعجب
(1/51)
ب
إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومن مرض الضلال والجهل ب اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل «1» في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من
المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا
عنه، والضالين. وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على
هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى، كما سنبينه.
فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت الله وكلامه، وفهمت عنه فهما خاصا، اختصها به، من
معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن
الطرق.
[ثم ذكر فصلين في الرقية بالفاتحة وتأثيرها مستشهدا بحديث أبي سعيد وببعض تحليلات
نفسية، وبتجاربه. ثم قال] .
فصل
في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين عن أهل الملل والنحل، والرد على أهل
البدع والضلال من هذه الأمة.
وهذا يعلم بطريقين، مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق،
__________
(1) رفل في ثيابه أطالها وجرها متبخترا من باب نصر.
(1/52)
وإيثاره،
وتقديمه على غيره، ومحبته والانقياد له، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق: هو ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما جاء به علما
وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفي
حقائق الإيمان، التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى.
وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دون آراء الرجال وأوضاعهم
وأفكارهم واصطلاحاتهم، فكل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة
نبوته، وعليه السكة المحمدية، بحيث يكون من ضرب المدينة، فهو من الصراط المستقيم،
وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثمّ خروج عن هذه الطرق الثلاث:
طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به، وطريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف
الحق وعانده، وطريق أهل الضلال، وهي طريق من أضله الله عنه. ولهذا قال عبد الله بن
عباس وجابر ابن عبد الله رضي الله عنهم: «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هو الإسلام»
وقال عبد الله بن مسعود
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: «هو القرآن»
وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله: «طريق السنة والجماعة» .
وقال بكر بن عبد الله المزني «1» : «طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
ولا ريب أنه ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه علما وعملا وهو
معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره. فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
بهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل، وهو من صراط الأمتين: الأمة
الغضبية، وأمة أهل الضلال.
__________
(1) هو أبو عبد الله بكر بن عبد الله المربي البصري الفقيه روي عن المغيرة بن شعبة
وجماعة توفي سنة ست أو ثمان ومائة للهجرة.
(1/53)
فصل
وأما المفصل: فمعرفة المذاهب الباطلة، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها. فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى، وجاحد له، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد
على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه
بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنكار صانعه وجحده في
العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق على
المخلوق، والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزاكية
المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة: أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه
وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان، كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن. وهو الذي أشارت
إليه الرسل بقولهم لأممهم: 14: 10 أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟ أي أيشك في الله حتى يطلب
إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على
الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله روحه- يقول:
كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى الدليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار،
(1/54)
ومن
لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد: القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثم وجود
قديم خالق ووجود حادث مخلوق، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله، وهو حقيقة وجود
هذا العالم، فليس عند القوم رب وعبد، ولا مالك ومملوك، ولا راحم ومرحوم، ولا عابد
ومعبود، ولا مستعين ومستعان به، ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه، ولا
غضبان ومغضوب عليه، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته، والمالك هو عين المملوك،
والراحم هو عين المرحوم، والعابد هو نفس المعبود. وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب
مظاهر الذات وتجلياتها. فتظهر تارة في صورة معبود، كما ظهرت في صورة فرعون، وفي
صورة عبد، كما ظهرت في صورة العبيد، وفي صورة هاد، كما في صورة الأنبياء والرسل
والعلماء، والكل من عين واحد، بل هو العين الواحدة، فحقيقة العابد ووجوده، أو
إنّيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان
قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم..
فصل
والمقرّون بالرب سبحانه وتعالى: أنه صانع العالم نوعان:
نوع ينفي مباينته لخلقه، ويقولون: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه،
ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا خلفه ولا أمامه، ولا فيه ولا
بائن عنه.
فتضمنت الفاتحة للرد على هؤلاء من وجهين:
أحدهما: إثبات ربوبيته تعالى للعالم. فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب
للعالم بالذات، كما باينهم بالربوبية، وبالصفات والأفعال، فمن
(1/55)
لم
يثبت ربا مباينا للعالم، فما أثبت ربا، فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين،
لزوما لا انفكاك له عنه البتة: إما أن يكون هو نفس هذا العالم، وحينئذ يصح قوله.
فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه، ومن هاهنا دخل أهل الوحدة، وكانوا معطلة أولا،
واتحادية ثانيا.
وإما أن يقول: ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا، ولا داخلا ولا خارجا، كما قالته
الدهرية المعطلة للصانع.
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين: إثبات رب مغاير للعالم مع نفي
مباينته للعالم، وإثبات خالق قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارج العالم، ولا فوق
العالم ولا تحته، ولا خلفه ولا أمامه، ولا يمنته ولا يسرته: فقول له خبئ، والعقول
لا تتصوره حتى تصدق به. فإذا استحال في العقل تصوره. فاستحالة التصديق به أظهر
وأظهر. وهو منطبق على العدم المحض، والنفي الصّرف، وصدقه عليه أظهر عند العقول
والفطر من صدقه على رب العالمين، فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على
العدم المستحيل، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها، التي لم تحل في العالم،
ولا حلّ العالم فيها، ثم انظر أي المعلومين أولى به، واستيقظ لنفسك، وقم لله قومة
مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر، متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى
والحمية والعصبية، صادقا في طلب الهداية من الله، فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا
شأنه. وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه، مباين لخلقه، بل
هذا نفس ترجمتها.
فصل
ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان:
أهل توحيد، وأهل إشراك. وأهل الإشراك نوعان:
أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن
(1/56)
ضاهاهم
من القدرية، فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر، وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له،
والقدرية المجوسية تثبت مع الله خالقين للأفعال، ليست أفعالهم مقدورة لله، ولا مخلوقة
لهم، وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها، ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين
لها، بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين.
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي
ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان، ولا تناولتها
ربوبيته وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه؟ مع أن في عموم حمده ما
يقتضي حمده على طاعات خلقه، إذ هو المعين عليها والموفق لها، وهو الذي شاءها منهم،
كما قال في غير موضع من كتابه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فهو محمود
على أن شاءها لهم، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته، فهو المحمود عليها في الحقيقة.
وعندهم: أنهم هم المحمودون عليها، ولهم الحمد على فعلها، وليس لله حمد على نفس
فاعليتها عندهم، ولا على ثوابه وجزائه عليها.
أما الأول: فلأن فاعليتها بهم لا به، وأما الثاني: فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق
الأجرة على المستأجر، فهو محض حقهم، الذي عاوضوه «1» عليه.
وفي قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ رد ظاهر عليهم. إذا استعانتهم به إنما تكون عن
شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته، فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده، إن شاء
أوجده وإن شاء لم يوجده، بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا
مشيئته.
__________
(1) العوض واحد الأعواض تقول منه عاضه وأعاضه وعوضه تعويضا وعاوضه أعطاه العوض.
(1/57)
وفي
قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أيضا رد عليهم فإن الهداية المطلقة
التامة هي المستلزمة لحصول الاهتداء. ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه
إياها، وهي المتضمنة للإرشاد والبيان، والتوفيق والإقدار، وجعلهم مهتدين. وليس
مطلوبهم مجرد البيان والدلالة، كما ظنته القدرية.
لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى، ولا ينجي من الردى، وهو حاصل لغيرهم من الكفار،
الذين استحبوا العمى على الهدى، واشتروا الضلالة بالهدى.
فصل
النوع الثاني: أهل الإشراك به في إلهيته، وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه
وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وهم
مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين
اتخذوا من دون الله أندادا، فهؤلاء لم يوفوا «إياك نعبد» حقه، وإن كان لهم نصيب من
«نعبدك» . لكن ليس لهم نصيب من «إياك نعبد» المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حبا
وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما، ف «إياك نعبد» تحقيق لتوحيد لهذا التوحيد، وإبطال
للشرك في الإلهية، كما أن «إياك نستعين» تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به
فيها، وكذلك قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين» وأهل
الإشراك: هم أهل الغضب والضلال.
فصل
في تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات وذلك من وجوه:
أحدهما: من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فإن إثبات الحمد الكامل له يقضي
(1/58)
ثبوت
كل ما يحمد عليه من صفات كماله، ونعوت جلاله، إذ من عدم صفات الكمال فليس بمحمود
على الإطلاق، وغايته: أنه محمود من وجه دون وجه، ولا يكون محمودا بكل وجه، وبكل
اعتبار، بجميع أنواع الحمد: إلا من استولى على صفات الكمال جميعها، فلو عدم منها
صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها.
وكذلك في إثبات صفة الرحمة له: ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزمها من الحياة،
والإرادة والقدرة، والسمع والبصر، وغيرها.
وكذلك صفة الربوبية: تستلزم جميع صفات الفعل، وصفة الإلهية تستلزم جميع أوصاف
الكمال: ذاتا وأفعالا، كما تقدم بيانه.
فكونه محمودا إلها ربا رحمانا رحيما، ملكا معبودا، مستعانا، هاديا منعما، يرضى
ويغضب، مع نفي قيام الصفات به: جمع بين النقيضين.
وهو من أمحل المحال.
وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين:
أحدهما: أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه، ونزوله
كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني: من لوازم رحمته وربوبيته. وهكذا
سائر الصفات الخبرية الوجه الثاني: أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحا له،
وتعرفا منه إلى عباده بها. فجحدها وتحريفها عما دلت عليه، وأريد بها: مناقض لما
جاءت له، فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال، وأن تستدل بالعقل كما تقدم.
فصل
في تضمنها الرد على الجبرية. وذلك على وجوه:
أحدها: من إثبات عموم حمده سبحانه. فإنه يقتضي ألا يعاقب عبيده
(1/59)
على
ما لا قدرة لهم عليه، ولا هو من فعلهم، بل هو بمنزلة ألوانهم، وطولهم وقصرهم، بل
هو يعاقبهم على نفس فعله بهم. فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة، وهو المعاقب لهم
عليها. فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء، وينفيه أعظم النفي، فتعالى من له الحمد
كله عن ذلك علوا كبيرا، بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة. فهي
أفعالهم لا أفعاله. وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات الوجه الثاني: إثبات
رحمته ورحمانيته تنفي ذلك. إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط: أن يكون رحمانا
رحيما، ويعاقب العبد على ما لا قدرة له عليه، ولا هو من فعله، بل يكلفه ما لا
يطيقه، ولا له عليه قدرة البتة ثم يعاقبه عليه، وهل هذا إلا ضد الرحمة. ونقض لها
وإبطال؟ وهل يصح في معقول أحد: اجتماع ذلك، والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة؟.
الوجه الثالث: إثبات العبادة والاستعانة لهم، ونسبتها إليهم بقولهم:
«نعبد ونستعين» وهي نسبة حقيقية لا مجازية، والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة
التي هي من أفعال عبيده، بل العبد حقيقة: هو العابد المستعين. والله المعبود
المستعان به.
فصل
في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة. وبيان
أنه سبحانه فاعل مختار.
وذلك من وجوه:
أحدها: من إثبات حمده، إذ كيف يحمده على ما ليس مختارا لوجوده، ولا هو بمشيئته
وفعله؟ وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته؟
(1/60)
أو
النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة؟ وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته
على أفعاله الحميدة، هذا الذي ليس في العقول والفطر سواه.
فخلافه خارج عن الفطرة والعقل، وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح
بذلك، ويعده فخرا.
الثاني: إثبات ربوبيته تعالى: يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته، وليس
يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها، والماء لتبريده، والنبات الحاصل به، ولا
ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه البتة، وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية؟.
فالقوم كنوا للأغمار، وصرحوا لأولي الأفهام.
الثالث: إثبات ملكه. وحصول ملك لمن اختار له، ولا فعل ولا مشيئة غير معقول، بل كل
مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل: 16: 17 أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
الرابع: من كونه مستعانا، فإن الاستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة
محال.
الخامس: من كونه مسئولا أن يهدي عباده، فسؤال من لا اختيار له محال. وكذلك من كونه
منعما
فصل
في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله،
ولا عدد الأفلاك، ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا
يدعوه.
(1/61)
الثاني:
أن هذا مستحيل أن يكون إلها، وأن يكون ربا، فلا بد للإله المعبود والرب المدبر أن
يعلم عابده، ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته. فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه. فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته البتة. ولا شيئا من أحوال
مملكته البتة. ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانا.
السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديا.
الثامن كونه منعما.
التاسع كونه غضبانا على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيا، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين، فنفي علمه بالجزئيات مبطل
لذلك كله.
فصل
في بيان تضمنها للرد على منكري النبوات. وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده التام. فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا، ولا
يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولذلك نزّه نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه.
وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة، وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه
حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته، ولا قدره حق قدره، بل نسبه إلى ما لا يليق به،
ويأباه حمده ومجده.
فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه «أشهد أن محمدا رسول الله» كما
يستنبط منه «أشهد ألا إله إلا الله» وعلم قطعا أن
(1/62)
تعطيل
النبوات في منافاته للحمد كتعطيل صفات الكمال، وكإثبات الشركاء والأنداد.
الثاني: إلهيته، وكونه إلها. فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى
معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله.
الثالث: كونه ربا. فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم.
وجزاء محسنهم بإحسانه، ومسيئهم بإساءته. هذا حقيقة الربوبية. وذلك لا يتم إلا
بالرسالة والنبوة.
الرابع: كونه رحمانا رحيما. فإن كمال رحمته: أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على
ما يقربهم إليه، ويباعدهم منه، ويثيبهم على طاعته، ويجزيهم بالحسنى، وذلك لا يتم
إلا بالرسالة والنبوة. فكنت رحمته مقتضية لها.
الخامس: ملكه. فإن الملك يقتضي التصرف بالقول، كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل،
فالملك هو المتصرف بأمره وقوله، فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف
في ملكه بفعله، والله له الملك وله الملك، فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل.
وتصرفه بقوله نوعان: تصرف بكلماته الكونية، وتصرف بكلماته الدينية، وكمال الملك
بهما، فإرسال الرسل: موجب كمال ملكه وسلطانه، وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس
وعقولهم. فكل ملك لا تكون له رسل يبثها في أقطار مملكته فليس بملك. وبهذه الطريق
يعلم وجود ملائكته، وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه. فإنهم رسل الله في
خلقه وأمره.
السادس: ثبوت يوم الدين. وهو يوم الجزاء، الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا
وشرا، وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة،
(1/63)
وقيام
الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي.
السابع: كونه معبودا. فإنه لا يعبد إلّا بما يحبه ويرضاه، ولا سبيل للخلق إلى
معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله. فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا.
الثامن: كونه هاديا إلى الصراط المستقيم. وهو معرفة الحق والعمل به، وهو أقرب
الطرق الموصلة إلى المطلوب. فإن الخط المستقيم: هو أقرب خط موصل بين نقطتين، وذلك
لا يعلم إلا من جهة الرسل. فتوقفه على الرسل ضروري، أعظم من توقف الطريق الحسي على
سلامة الحواس.
التاسع: كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم. فإن إنعامه عليهم إنما
تم بإرسال الرسل إليهم، وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته، وبذلك ذكرهم منته
عليهم وإنعامه في كتابه.
العاشر: انقسام خلقه إلى منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين، فإن هذا الانقسام
ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق، والعمل به:
إلى عالم به عامل بموجبه، وهم أهل النعمة، وعالم به معاند له، وهم أهل الغضب.
وجاهل به، وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل. فلولا الرسل
لكانوا أمة واحدة. فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة. وهذا الانقسام
ضروري بحسب الواقع. فالرسالة ضرورية.
وقد تبين لك بهذه الطريق، والتي قبلها: بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد
الجسماني، وقيامة الأبدان، وعرفت اقتضاءها ضرورة ثبوت الثواب والعقاب والأمر
والنهى. وهو الحق الذي خلقت به وله السموات والأرض والدنيا والآخرة، وهو مقتضى
الخلق والأمر، ونفيه نفي لهما.
(1/64)
فصل
إذا ثبتت النبوات والرسالة ثبتت صفة التكلم والتكليم.
فإن حقيقة الرسالة: تبليغ كلام المرسل، فإذا لم يكن ثمّ كلام فماذا يبلغ الرسل؟ بل
كيف يعقل كونه رسولا؟ ولهذا قال غير واحد من السلف:
من أنكر أن يكون الله متكلما، أو يكون القرآن كلامه. فقد أنكر رسالة محمد صلّى
الله عليه وسلّم، بل ورسالة جميع الرسل، التي حقيقتها، تبليغ كلام الله تبارك
وتعالى. ولهذا قال منكرو رسالته صلّى الله عليه وسلّم عن القرآن: 74: 24، 25 إِنْ
هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ وإنما عنوا القرآن
المسموع الذي بلغوه وأنذروا به.
فمن قال: إن الله لم يتكلم به فقد ضاهأ قوله قولهم. تعالى الله عما يقول الظالمون
علوا كبيرا.
فصل
في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم وذلك من وجوه:
أحدها: إثبات حمده. فإنه يقتضي ثبوت أفعاله، لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن،
أو كلها، إنما هي على الأفعال، وكذلك هو هاهنا. فإنه حمد نفسه على ربوبيته
المتضمنة لأفعاله الاختيارية، ومن المستحيل: مقارنة الفعل لفاعله. هذا ممتنع في كل
عقل سليم، وفطرة مستقيمة. فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة.
وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة، ولا يكون متعلقها قديما البتة.
الثاني: إثبات ربوبيته للعالمين. وتقريره: ما ذكرناه، والعالم كل ما
(1/65)
سواه
فثبت أن كل ما سواه مربوب، والمربوب مخلوق بالضرورة، وكل مخلوق حادث بعد أن لم
يكن، فإذا ربوبيته تعالى لكل ما سواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث المربوب، ولا يتصور
أن يكون العالم قديما، وهو مربوب أبدا، فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له، وكل
مربوب فهو فقير بالذات، فلا شيء من المربوب بغني ولا قديم.
الثالث: إثبات توحيده، فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية،
والقدر من خصائص الربوبية، فالتوحيد ينفي ثبوته لغيره ضرورة، كما ينفي ثبوت
الربوبية والإلهية لغيره.
فصل
في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
إلى آخرها.
ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
منعم عليهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه.
ومغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه. وضالون، وهم الذين جهلوه فأخطأوه.
فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه
الصفة من الرافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض.
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما، فرأينا أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فتحوا بلاد الكفر، وقلبوها بلاد إسلام، وفتحوا القلوب بالقرآن
والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا
(1/66)
الرافضة
بالعكس في كل زمان ومكان، فإنه قطّ ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم
على الإسلام، وكم جرّوا على الإسلام وأهله من بلية؟ وهل عاثت سيوف المشركين عبّاد
الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد،
وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن
جرّائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في
الدين معلومة.
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله:
بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم، وهو كما
فسروه.
فإنه صراطهم الذي كانوا عليه، وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم،
وغضب على أعدائهم، وحكم لهم بالضلال، وقال أبو العالية «1» - رفيع الرياحي- والحسن
البصري «2» ، وهما من أجل التابعين: الصراط المستقيم: رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم وصاحباه، وقال أبو العالية أيضا في قوله
__________
(1) هو أبو العالية رفيع بن مهران الرباحي مولاهم البصري المقرئ المفسر دخل على
أبي بكر وقراء القرآن على أبي، وكان ابن عباس يرفعه على السرير وقريش أسفل، وقال
أبو بكر بن أبي داود: ليس بعد الصحابة أحد أعلم بالقرآن من أبي العالية وبعده سعيد
بن جبير، قال ابن قتيبة حج أبو العالية ستين حجة، وقال الأصمعي: كان أبو العالية
ومكحول- يعني مكحول الأزدي- جميلين وكان مزاحا. توفي سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة
تسعين. (انظر شذرات الذهب) .
(2) هو أبو سعيد الحسن بن أبي حسن البصري، إمام أهل البصرة وخير أهل زمانه، ولد
لسنتين بقيتا من خلافة عمر وسمع خطبته عثمان وشهد يوم الدار، أبوه مولى زيد بن
ثابت وأمه مولاة أم سلمة. كان جميلا فصيحا، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح
من الحسن والحجاج قال ابن سعد في طبقاته: كان جامعا عالم رفيعا فقيها حجة مأمونا
عابدا نساكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما. توفي سنة عشر ومائة. (انظر شذرات
الذهب) .
(1/67)
«صِراطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» هم آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر
وعمر، وهذا حق:
فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا،
وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما، معلومة عند الأمة. خاصها
وعامها.
وقال زيد بن أسلم «1» : الذين أنعم الله عليهم هم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأبو بكر وعمر. ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم:
هم الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة لهم وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته.
وأتباع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر، وأشد الأمة مخالفة لهما هم
الرافضة، فخلافهم لهما معلوم عند جميع فرق الأمة، ولهذا يبغضون السنة وأهلها،
ويعادونها ويعادون أهلها، فهم أعداء سنته صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته.
وأتباعه من بنيهم أكمل ميراث؟ بل هم ورثته حقا.
فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه، وطريق أهل الغضب والضلال: طريق
الرافضة. وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج.
فإن معاداتهم الصحابة معروفة.
فصل
وسر الخلق الأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب: انتهى إلى هاتين الكلمتين،
وعليهما مدار العبودية والتوحيد. حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب
__________
(1) هو زيد بن أسلم العدوي مولاهم الفقيه العابد لقي ابن عمر وجماعة وكانت له حلقة
للفتوى والعلم. بالمدينة قال أبو حازم الأعرج: لقد رأيتنا في حلقة زيد بن أسلم
أربعين فقيها أدنى خصلة بيننا التواسي بما في أيدينا، ونقل البخاري أن زين
العابدين بن علي بن علي بن الحسين كان يجلس إلى زيد بن أسلم، قال ابن ناصر الدين:
زيد بن أسلم القريش العدوي العمري مولاهم المدني أبو عبد الله، وقيل أبو اسامة
الإمام الفقيه، روي عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع وانس وأحزابهم وله تفسير القرآن
يوريه عنه ابنه عبد الله (انظر شذرات الذهب) .
(1/68)
وأربعة
كتب: جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في
القرآن. وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني
الفاتحة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين: فنصفها له تعالى وهو «إياك
نعبد» ونصفهما لعبده وهو «إياك نستعين» وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في
موضعه.
والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع. والعرب تقول: طريق معبد أي
مذلّل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدا له،
ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا له، حتى تكون محبا خاضعا، ومن هاهنا كان
المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبا لهم،
بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم: منكرين لكونه إلها، وإن أقروا
بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم، فهذا غاية توحيدهم. وهو توحيد الربوبية، الذي
اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به من الشرك، كما قال تعالى:
43: 87 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى:
39: 38 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ 23:
84- 89 قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها؟. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ولهذا يحتج
عليهم به على توحيد إلهيته، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا
رب سواه.
والاستعانة: تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد
من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره، مع ثقته به، لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه،
مع ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه.
فيحتاج إلى اعتماده عليه. مع أنه غير واثق به.
والتوكل معنى يلتئم من أصلين: من الثقة، والاعتماد، وهو حقيقة
(1/69)
«إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وهذان الأصلان- وهما التوكل والعبادة- قد ذكر في
القرآن في عدة مواضع، قرن بينهما فيها، هذا أحدها.
الثاني: [قوله تعالى في حكاية عن شعيب] «1» : 11: 88 وَما تَوْفِيقِي إِلَّا
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
الثالث: قوله تعالى: 11: 123: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60: 4 رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
الخامس: قوله تعالى: 73: 8 و 9 وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلًا.
السادس: قوله تعالى: 3: 13 قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ» .
وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ
العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن «إياك نعبد»
متعلق بألوهيته واسمه «الله» و «إياك نستعين» متعلق بربوبيته واسمه الرب. فقدم
«إياك نعبد» على «إياك نستعين» كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة، ولأن
«إياك نعبد» قسم الرب. فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه
أولى به، و «إياك نستعين» قسم العبد، فكان مع الشطر الذي له، وهو «اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.
__________
(1) وردت في المطبوع: قول شعيب.
(1/70)
ولأن
العبادة المطلقة: تتضمن الاستعانة، من غير عكس. فكل عابد لله عبودية تامة: مستعين
به، ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته. فكانت العبادة
أكمل وأتم. ولهذا كانت قسم الرب، ولأن الاستعانة جزء من العبادة، من غير عكس، ولأن
الاستعانة طلب منه، والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص،
والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك،
والاستعانة طلب العون على العبادة. وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه:
أهم من التعرض لصدقته. ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يجب أن يشكر، والإعانة
فعله بك وتوفيقه لك. فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقّها أعانك عليها، فكان
التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة. وكلما كان العبد أتم عبودية كانت
الإعانة من الله له أعظم.
والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها
على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه، ولأن «إياك نعبد» له. و «إياك
نستعين» به، وما له مقدم على ما به. لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه. وما به متعلق
بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تتعلق بمشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته.
والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي. والمتعلق بمحبته:
طاعاتهم وإيمانهم. فالكفار أهل مشيئة، والمؤمنون أهل محبته. ولهذا لا يستقر في
النار شيء لله أبدا. وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم «إياك نعبد» على «إياك نستعين» .
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه: أدبهم مع الله بتقديم اسمه على
فعلهم وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصر. فهو
في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك،
(1/71)
والحاكم
في ذلك ذوق العربية والفقه فيها، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما، وسيبويه نص
على الاهتمام، ولم ينف غيره. ولأنه يقبح من القائل: أن يعتق عشرة أعبد مثلا، ثم
يقول لأحدهم: إياك أعتقت، ومن سمعه أنكر ذلك عليه، وقال: وغيره أيضا أعتقت. ولولا
فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام، ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى: 2: 40 إِيَّايَ فَارْهَبُونِ 2: 41 وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ كيف
تجده في قوة: لا ترهبوا غيري، ولا تتقوا سواي؟ وكذلك «إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هو في قوة: لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك، وكل ذي ذوق
سليم يفهم هذا الاختصاص من هذا السياق، ولا عبرة بجدل من قلّ فهمه، وفتح عليه باب
الشك والتشكيك، فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم، مع أن في ضمير
«إياك» من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي «إياك
قصدت، وأحببت» من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك: قصدتك
وأحببتك. وإياك أعني: فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.
ومن هاهنا قال من قال من النحاة: إن «إيّا» اسم ظاهر، مضاف إلى الضمير المتصل، ولم
يردّ بردّ شاف.
ولولا أنّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة، وذكرنا مذاهب النحاة
فيها، ونصرنا الراجح، ولعل أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة «إياك» مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي
إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلا: إياك أحب،
وإياك أخاف. كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته، والاهتمام بذكره ما ليس في
قولك: إياك أحب وأخاف.
(1/72)
فصل
إذا عرف هذا: فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والاستعانة أربعة أقسام.
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم
وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان من أفضل ما يسأل الربّ
تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلّى الله عليه وسلّم لحبّه
معاذ بن جبل «1» .
فقال «يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «2» .
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب وجميع
الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.
فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء:
فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني: وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة ولا
استعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه
وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض: يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمدّ
هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه: عدوه إبليس ومع هذا فسأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه
بها، ولكن لما لم تكن عونا
__________
(1) هو سلطان العلماء وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل،
ورد أن العلماء تأتي تحت رايته يوم القيامة
،
وقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني أحبك يا معاذ»
وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، وهو الذي بني مسجد الجند بالمين وقيل بني بعده،
استشهد في طاعون عمداس سنة ثماني عشرة عن ست أو ثمان وثلاثين سنة. (انظر شذرات
الذهب) .
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 273 و 3/ 273. [.....]
(1/73)
له
على مرضاته: كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان
به على أمر وسأله إياه، ولم يكن عونا على طاعته، كان مبعدا له عن مرضاته، قاطعا له
عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة
كل سائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها
له من هوانه عليه وسقوطه من عينه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه
حماية وصيانة وحفظا لا بخلا، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته،
ويعامله بلطفه: فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه، ويراه يقضي حوائج غيره،
فيسيء ظنه بربه، وهذا حشو قلبه ولا يشعر به، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على
نفسه بصيرة، وعلامة هذا: حمله على الأقدار. وعتابه الباطن لها.
كما قيل:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فو الله لو كشف عن حاصله وسره لرأى هناك معاتبة القدر واتهامه، وأنه قد كان ينبغي
أن يكون كذا وكذا، ولكن ما حيلتي؟ والأمر ليس إليّ، والعاقل خصم نفسه والجاهل خصم
أقدار ربه، فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك، وإذا لم
تجد من سؤاله بدا، فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة، وقدم بين يدي سؤالك
الاستخارة، ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه
ولا قدرة له عليها، ولا اهتداء له إلى تفاصيلها. ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، بل
إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك، وانفرط عليه أمره. وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال:
تسأله أن يجعله عونا على طاعته وبلاغا إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعا لك عنه، ولا
مبعدا عن مرضاته. ولا تظن أن عطاءه كلّ ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما
يمنعه لهوان عبده عليه، ولكن عطاءه
(1/74)
ومنعه
ابتلاء وامتحان، يمتحن بهما عباده. قال الله تعالى: 89: 25 و 16 فَأَمَّا
الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ:
رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ، كَلَّا أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته: فقد
أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ ولكنه ابتلاء مني وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق
ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه، وأخول فيه غيره؟
وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه عليّ،
ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر؟ فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم
يتسخط؟ فيكون حظه السخط.
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل
عبدي بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ.
فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه يوسع على
الكافر لا لكرامته، ويقتّر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته
ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا وعلى هذا،
وهو الغني الحميد.
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
فصل
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة. وهؤلاء نوعان.
أحدها: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق
في مقدوره إعانة له على الفعل. فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق
وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل. فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، بل قد
ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة: فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ولكن أولياءه
اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، من غير أن يكون الله
سبحانه وفق
(1/75)
هؤلاء
لا بتوفيق زائد، أوجب لهم الإيمان، وخذل هؤلاء بأمر آخر، أوجب لهم الكفر، فعباد
هؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة، لا استعانة معه:
فهم موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد. قال ابن عباس رضي
الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه
توحيده.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع
قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر
كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك
لها، والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى
الفاعل. فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من «إياك نستعين» ولم يجدوا ذوق
التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف فهؤلاء لهم نصيب من
التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم. ولو توكل العبد على الله حق
توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأمورا بإزالته، لأزاله.
فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟.
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع،
والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه
الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا
بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مليّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم
أبوه، فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مليّان بهما.
فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبس همّه على إنزال ما ينويه
بهما. فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولا بد. قال الله
تعالى: 65: 3 وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
(1/76)
عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
أي كافيه. والحسب: الكافي. فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة،
وإن لم يكن من أهل التقوى فهو:
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضرر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم
يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته
وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به فقضيت له، وأسعف بها، ولكن لا عاقبة له، سواء
كانت أموالا أو رئاسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا، من كشف وتأثير وقوة وتمكين.
فإنها من جنس الملك الظاهر، والأموال لا تستلزم الإسلام، فضلا عن الولاية والقرب
من الله. فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر.
فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه، وأنه من أوليائه
المقربين. فهو من أجهل الجاهلين، وأبعدهم معرفة بالله ودينه، والتمييز بين ما يحبه
ويرضاه ويكرهه ويسخطه، فالحال من الدنيا. فهو كالملك والمال، إن أعان صاحبه على
طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره، ألحقه بالملوك العادلين البررة، وإلا فهو وبال
على صاحبه ومبعد له عن الله، وملحق له بالملوك الظلمة، والأغنياء الفجرة.
فصل
إذا عرف هذا: فلا يكون العبد متحققا بإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين.
أحدهما: متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق «إياك نعبد» .
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة. وهم أهل «إياك نعبد» حقيقة، فأعمالهم كلها
لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم
(1/77)
لله،
وبغضهم لله. فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده. لا يريدون بذلك من الناس جزاء
ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا
هربا من ذمهم. بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا،
ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فالعمل لأجل هؤلاء، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم،
ورجائهم للضر والنفع منهم، لا يكون من عارف بهم البتة، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل
بربه، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم. ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله، وعطاءه
ومنعه وحبه وبغضه، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق،
وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم، وكذلك أعمالهم كلها
وعباداتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله
من عامل سواه. وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله. قال الله تعالى 67: 2
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا، قال الفضيل بن عياض «1» : هو
أخلصه وأصوبه. قالوا يا أبا على: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا
ولم يكن صوابا.
لم يقبل. وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص:
ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة. وهذا هو المذكور في قوله تعالى 18: 110 فَمَنْ
كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً.
__________
(1) هو ابو على الفضيل بن عياض التميمي المروزي الزاهد الإمام أحد العلماء
الأعلام، قال فيه ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض وكان
قد قدم الكوفة شابا فحمل عن منصور وطبقته، قال شريك القاضي: فضيل حجة لأهل زمانه،
وقال ابن ناصر الدين: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر أبو علي التميمي اليربوعي
المروزي إمام الحرم شيخ الإسلام قدوة الأعلام حدث عنه الشافعي ويحيى القطان
وغيرهما وكان إماما ربانيا كبير الشأن ثقة نبيلا عابدا زاهدا جليلا توفي في عام
سنة سبع وثمانين ومائة. (انظر شذرات الذهب) .
(1/78)
وفي
قوله 4: 125 وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره، وما عدا
ذلك فهو مردود على عامله، يعود عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا.
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»
وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا. فإن الله تعالى إنما
بعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
فصل
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة. فليس عمله موافقا لشرع، ولا هو خالصا
للمعبود، كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله. وهؤلاء
شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل. ولهم أوفر نصيب من قوله 3: 188 لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِما لَمْ يَفْعَلُوا. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا
باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط
المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما
لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم. فهم أهل الغضب والضلال.
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد،
والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره، واعتقده قربة إلى
الله فهذا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها
الجمعة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن صيام يوم فطر الناس
كلهم قربة. وأمثال ذلك.
(1/79)
الضرب
الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله. كطاعة المرائين، وكالرجل
يقاتل رياء وحمية وشجاعة، ويحج ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها
أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير خالصة فلا تقبل 98: 5 وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله
بما أمر، والإخلاص له في العبادة. وهم أهل «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ» .
فصل
ثم أهل مقام «إياك نعبد» لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصص أربعة
طرق. فهم في ذلك أربعة أصناف.
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثا لا أصل له
«أفضل الأعمال أحمزها»
أي أصعبها وأشقها، وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض،
فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية
الإمكان، وطرح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها.
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه. ودعوا الناس
(1/80)
إليه،
وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة
ورأسها.
وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله، وجمع المهمة
عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته.
فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان،
والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو
فرّقهم وأذهب جمعيتهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب
على الله. فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه.
وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟
ثم هؤلاء أيضا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته، ومنهم من يقوم بها،
ويترك السنن والنوافل، وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل هؤلاء شيخا عارفا فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت
وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟.
فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي الله، ثم عد إلى موضعك. وهذا
لأن الجمعية على الله: حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي: حق الرب، ومن آثر حظ روحه
على حق ربه فليس من أهل «إياك نعبد» .
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد، فرأوه أفضل من
ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح
(1/81)
الناس
وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل. فتصدوا له وعملوا عليه
واحتجوا
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم
لعياله» رواه أبو يعلي.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير، وأين أحدهما من
الآخر؟.
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد: كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا:
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «لأن يهدي
الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»
وهذا التفضيل للنفع المتعدي، واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه،
من غير أن ينتقض من أجورهم شيء» «1»
واحتجوا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير»
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض،
حتى الحيتان في البحر والنملة في حجرها» .
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام
نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم
ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب، ولهذا أنكر النبي صلّى
الله عليه وسلّم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس،
ورأي هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه
بدون ذلك.
الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة برقم 2674.
(1/82)
في
كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد،
وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة
الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب،
وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر «1» : الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر
والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعلم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه،
والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن أو المال: الاشتغال
بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله
تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من
جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
__________
(1) السحر قبيل الصبح، تقول: لقيته سحرا إذا أردت به سحر ليلتك لم تصرفه لأنه
معدول عن الألف واللام وهو معرفة وقد غلب عليه التعريف من غير إضافة، ولا ألف ولام
وإن أردت به نكرة صرفته، قال الله تعالى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ
بِسَحَرٍ» .
(1/83)
والأفضل
في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل
والتحميد. فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي
لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم
القرآن، عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم
ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون
الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم
ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشر، فهي أفضل من
خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من عزلتهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال.
والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق.
والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من
العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقض وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة
الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها. فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية،
كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا
دأبه في
(1/84)
السير
حتى ينتهي سيره: فإن رأيت العلماء رأيته معهم. وإن رأيت العباد، رأيته معهم. وإن
رأيت المجاهدين رأيته معهم. وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين
المحسنين رأيته معهم. وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم،
فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على
مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات. بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة
نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق بإياك نعبد وإياك نستعين حقا، القائم بهما
صدقا. ملبسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر به في كل وقت بوقته،
ومجلسه حيث انتهى ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه
رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الأمر أنّى توجهت ركائبه «1» ،
ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع
نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها. وهو موضع الغلظة منه على
المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد
صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس. بل إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين
وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواها له. ما أغربه
بين الناس، وما أشدّ وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه
إليه!! والله المستعان. وعليه التكلان.
فصل
ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة. وهم في ذلك أربعة أصناف.
__________
(1) الركاب: الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها، والرّكاب
جميع راكب.
(1/85)
الصنف
الأول: نفاة الحكم والتعليل، الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة، وصرف الإرادة.
فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش
ولا معاد، ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا
في الخلق: إنه لم يخلق ما خلقه لعلة، ولا لغاية هي المقصود به، ولا لحكمة تعود
إليه منه، وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها، ولا فيها قوى ولا طبائع،
فليست النار سببا للإحراق، ولا الماء سببا للإدواء والتبريد، وإخراج النبات، ولا
فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك، وحصول الإحراق والري ليس بهما، لكن بإجراء العادة
الاقترانية على حصول هذا عند هذا، لا بسببه ولا بقوة قامت به، وهكذا الأمر عندهم
في أمره الشرعي سواء، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة
اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه، ولا
المنهي عنه صفة اقتضت قبحه.
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة. وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى
(بمفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة) وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين
وجها، وهو كتاب بديع في معناه. وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى (بسفر الهجرتين
وطريق السعادتين) .
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها، ولا يتنعمون بها، وليست قرة أعينهم،
وليست الأوامر سرور قلوبهم، وغذاء أرواحهم وحياتهم، ولهذا يسمونها تكاليف. أي قد
كلفوا بها، ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا، وقال:
إني إنما أفعله بكلفة، لم يعده أحد محبا له، ولهذا أنكر هؤلاء- أو كثير منهم- محبة
العبد لربه. وقالوا: إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به، لا أنه
يحب ذاته. فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه. وحقيقة العبودية: هي كمال المحبة، فأنكروا
حقيقة العبودية ولبّها. وحقيقة الإلهية: كونه مألوها محبوبا بغاية الحب، المقرون
(1/86)
بغاية
الذل والخضوع، والإجلال والتعظيم، فأنكروا كونه محبوبا. وذلك إنكار لإلهيته، وشيخ
هؤلاء: هو الجعد بن درهم الذي ضحّى به خالد بن القسري في يوم أضحى، وقال: إنه زعم
أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، وإنما كان إنكاره: لكونه
تعالى محبوبا محبا، لم ينكر حاجة إبراهيم إليه، التي هي الخلة عند الجهمية التي
يشترك فيها جميع الخلائق، فكلهم أخلّاء لله عندهم. وقد بينا فساد قولهم هذا
وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى (قرة عيون المحبين،
وروضة قلوب العارفين) وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق
الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية، وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك البتة،
كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة، ولا لعينه إلا بالنور الباصر، ولا
لأذنه إلا بالسمع، وأن الأمر فوق ذلك وأعظم.
فصل
الصنف الثاني: القدرية النفاة، الذين يثبتون نوعا من الحكمة.
والتعليل لا يقوم بالرب، ولا يرجع إليه، بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته،
فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها
بمنزلة استيفاء أجرة الأجير. قالوا: ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله 7: 43
وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
وقوله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟
وقوله صلّى الله عليه وسلّم، فيما يحكي عن ربه عز وجل «يا عبادي، إنما هي أعمالكم
أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها»
وقوله تعالى: 39:
10 إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ قالوا: وقد سماه
الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا. لأنه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه منه.
قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاء، ولا أجرا ولا ثوابا معنى.
(1/87)
قالوا:
ويدل عليه الوزن. فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها، وكونها
كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى. وقد قال تعالى:
7: 8، 9 وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ.
وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل. وبينهما أعظم التباين. فالجبرية لم تجعل
للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته، وينعم
من أفنى عمره في معصيته. وكرهما بالنسبة إليه سواء، وجوزت أن يرفع صاحب العمل
القليل على من هو أعظم عملا منه، وأكثر وأفضل درجات. والكل عندهم راجع إلى محض
المشيئة، من غير تعليل ولا سبب، ولا حكمة تقتضي هذا بالثواب، وهذا بالعقاب.
والقدرية أوجبت عليه رعاية الأصلح. وجعلت كله بمحض الأعمال وثمنا لها، وأن وصول
الثواب إلى العبد بدون عمله تنغيص باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن.
فقاتلهم الله ما أجهلهم بالله وأغرّهم به، جعلوا تفضله وإحسانه إلى العبد على
العبد، حتى قالوا: إن إعطاءه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن
يعطيه فضلا منه بلا عمل.
فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة. ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة.
والطائفتان جائرتان، منحرفتان عن الصراط المستقيم، الذي فطر الله عليه عباده،
وجاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. وهو أن الأعمال: أسباب موصلة إلى أثواب والعقاب.
مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله
وفضله ومنّه، وصدقته على عبده، إن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها
والقدرة عليها، وحبّبها إليه، وزينها في قلبه وكرّه إليه أضدادها، ومع هذا فليست
ثمنا لجزائه وثوابه، ولا هي على قدرة،
(1/88)
بل
غايتها- إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده، وأوقعها على أكمل الوجوه-:
أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك
النعمة بقية لم يقع بشكرها. فلذلك
لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته
خيرا لهم من أعمالهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
، ولهذا نفي النبي صلّى الله عليه وسلّم دخول الجنة بالعمل، كما
قال «لن يدخل الجنة أحدا منكم الجنة بعمله»
وفي لفظ لن يدخل أحدا الجنة منكم الجنة بعمله»
وفي لفظ «لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا:
ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»
وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل، كما في قوله: 16: 32 ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولا تنافي بينهما. إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى
واحد، فالمنفيّ استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنا وعوضا لها:
ردا على القدرية، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة.
وهذه الطائفة من أجهل الخلق بالله، وأغلظهم عنه حجابا. وحقّ لهم أن يكونوا مجوس
هذه الأمة، ويكفي في جهلهم بالله: أنهم لم يعلموا: أن أهل سماواته وأرضه في منته،
وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة:
اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق، وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة. وأعظمهم
منه منزلة، وأقربهم إليه: أعرفهم بهذه المنة، وأعظمهم إقرارا بها، وذكرا لها،
وشكرا عليها، ومحبة له لأجلها، فهل ينقلب أحد قط إلا في منته؟ 49: 17 يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
واحتمال منة المخلوق: إنما نقصا لأنه نظيره. فإذا منّ عليه استعلى عليه، ورأى
الممنون عليه نفسه دونه، هذا مع أنه ليس في كل مخلوق، فلرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم المنة على أمته، وكان أصحابه يقولون: «الله ورسوله أمنّ» ولا نقص في منة
الوالد على ولده، ولا عار عليه في احتمالها، وكذلك السيد
(1/89)
على
عبده، فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم، ومحض صدقته
عليهم: بلا عوض منهم البتة؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده.
فهو المنان عليهم. بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها، وأعانهم عليها، وكملها لهم،
وقبلها منهم على ما فيها؟ وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
فهذه باء السببية، ردا على القدرية والجبرية، الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال
والجزاء، ولا هي أسباب له، وإنما غايتها أن تكون أمارات.
قالوا: وليست أيضا مطردة، لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر.
فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.
فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء: كما هي مبطلة لقول أولئك، وأدلة المعقول والفطرة أيضا
تبطل قول الفريقين، وتبين لمن له قلب ولب: مقدار قول أهل السنة. وهم الفرقة الوسط.
المثبتون لعموم مشيئة الله، وقدرته، وخلقه العباد وأعمالهم، ولحكمته التامة
المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها، وانعقادها بها شرعا وقدرا، وترتيبها عليها عاجلا
وآجلا.
وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق، وارتكبت لأجله نوعا من
الباطل، بل أنواعا، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه 2: 213
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و 62:
4 ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ.
فصل
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة: رياضة النفوس، واستعدادها لفيض
العلوم عليها. وخروج قواها عن قوى النفوس السبعية والبهيمية، فلو عطلت عن العبادات
لكانت من جنس نفوس السباع والبهائم،
(1/90)
والعبادات
تخرجها عن مألوفاتها وعوائدها، وتنقلها إلى مشابهة العقول المجردة، فتصير عالمة
قابلة لا تناقش صور العلوم والمعارف فيها، وهذا يقوله طائفتان.
أحدهما: من يقرب إلى النبوات والشرائع من الفلاسفة، القائلين بقدم العالم، وعدم
الشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار.
الطائفة الثانية: من تفلسفت: من صوفية الإسلام. وتقرب إلى الفلاسفة.
فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس وتجردها، ومفارقتها العالم
الحسي، ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلا لهذا المعنى، فإذا حصل لها بقي مخيرا في حفظ
أوراده، أو الاشتغال بالوارد عنها، ومنهم من يوجب القيام بالأوراد والوظائف. وعدم
الإخلال بها، وهم صنفان أيضا.
أحدهما: من يوجبونه حفظا للقانون، وضبطا للناموس.
والآخرون: الذين يوجبونه حفظا للوارد، وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها له إلى
حالتها الأولى من البهيمية.
فهذه نهاية أقدام المتكلمين على طريق السلوك. وغاية مفارقتهم بحكم العبادة وما
شرعت لأجله، ولا تكاد تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة، على سبيل الجمع، أو
على سبيل البدل.
فصل
وأما الصنف الرابع وهم الطائفة: المحمدية الإبراهيمية: أتباع الخليلين، العارفون
بالله وحكمته في أمره وشرعه وخلقه، وأهل البصائر في عبادته، ومراده بها.
(1/91)
فالطوائف
الثلاثة محجوبون عنهم بما عندهم من الشبه الباطلة، والقواعد الفاسدة، ما عندهم
وراء ذلك شيء، قد فرحوا بما عندهم من المحال، وقنعوا بما ألفوه من الخيال، ولو
علموا أن وراءه، ما هو أجل منه وأعظم، لما ارتضوا بدونه، ولكن عقولهم قصرت عنه،
ولم يهتدوا إليه بنور النبوة، ولم يشعروا به ليجتهدوا في طلبه، ورأوا أن ما معهم
خير من الجهل، ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده.
فتركّب من هذه الأمور إيثار ما عندهم على ما سواه، وهذه بلية الطوائف. والمعافي من
عافاه الله.
فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها: إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل،
ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها، بل هو الإله الحق، وكل
إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة
موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات،
وكارتباطه المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة،
والعطاء بالجود. فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة
العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله؟ وكيف يستقيم له معرفة حكمة هي الغاية
المقصودة بالخلق، ولها خلقوا، ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجلها خلقت الجنة
والنار؟ وأن فرض تعطيل الخليقة عنها: نسبة لله إلى ما لا يليق به، ويتعالى عنه من
خلق السموات والأرض بالحق، ولم يخلقهما باطلا. ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه
سدى مهملا، قال تعالى:
23: 115 أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا
تُرْجَعُونَ؟ أي لغير شيء ولا حكمة، ولا لعبادتي ومجازاتي لكم، وقد صرح تعالى بهذا
في قوله 51: 56 وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
فالعبادة: هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها. قال الله تعالى: 75:
36
(1/92)
أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أي مهملا. قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى، وقال
غيره: لا يثاب ولا يعاقب، والصحيح: الأمران. فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر
والنهي والأمر والنهي هو طلب العبادة وإرادتها، وحقيقة العبادة امتثالهما. وقال
تعالى: 3: 191 وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنا ما
خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ. فَقِنا عَذابَ النَّارِ وقال 15: 85 وَما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وقال 45: 22
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ.
فأخبر أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمن: أمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
فإذا كانت السموات والأرض وما بينهما خلقت لهذا، وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه
لا علة له، ولا حكمة مقصودة هي غايته؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا
ينكّد عليهم الثواب بالمنة، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية. وارتياضها
بمخالفة العوائد؟.
فليتأمل اللبيب الفرقان بين هذه الأقوال، وبين ما دل عليه صريح الوحي يجد أن أصحاب
هذه الأقوال ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته.
فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته. مع الخضوع له والانقياد
لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله. فلا يحب معه
سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا
لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم
كحبه.
(1/93)
وإذا
كانت المحبة له حقيقة عبوديته وسرها. فهي إنما تتحقق باتباع أمره، واجتناب نهيه.
فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة. ولهذا جعل تعالى
اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: 3: 31 قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فجعل اتباع رسوله مشروطا
بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه
بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء
المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذا ثبوت
محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
ودل على أن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره،
ولا يكفي ذلك في العبودية، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما. فلا
يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو
الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله. قال الله تعالى: 9: 24
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها
وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ
فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول
الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه
والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،
وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على
حكم الله ورسوله. فذلك المقدّم عنده أحب من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على
من يقدم قول أحد أو حكمه أو
(1/94)
طاعته
أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول.
فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.
وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو
في بعض الأمور. ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به، فهذا الذي يخاف عليه.
وهو داخل تحت الوعيد. فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه.
فهو من الظلمة المعتدين. وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
فصل
وبنى «إياك نعبد» على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول
اللسان، والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع. فأصحاب «إياك نعبد» حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله
وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذبّ عنه، وتبيين بطلان البدع
المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له،
وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضى به وعنه،
والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به،
وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله
من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة
(1/95)
والجماعات،
ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
فإياك نعبد: التزام لأحكام هذه الأربعة، وإقرار بها، و «إياك نستعين» طلب للاعانة
عليها والتوفيق لها، و «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» متضمن للتعريف
بالأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله بهما
فصل
وجميع الرسل إنما دعوا إلى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» فإنهم كلهم
دعوا إلى توحيد الله وعبادته، من أولهم إلى آخرهم. فقال نوح لقومه 7:
59 اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وكذلك قال هود وصالح وشعيب 7:
65، 73، 85 وإبراهيم. قال الله تعالى: 16: 36 وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال 21: 25 وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال تعالى:
23: 51، 52 يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً
إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
فصل
والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه، وأقربهم إليه. فقال:
4: 172نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
وقال 40: 60 إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ وهذا يبين أن الوقف التام في قوله 21: 19
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هاهنا، ثم يبتدئ وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ
فهما جملتان تامتان مستقلتان: أي إن له من في السموات ومن في الأرض عبيدا وملكا.
ثم
(1/96)
استأنف
جملة أخرى فقال وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يعني أن
الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا
يستحسرون، فيعيون وينقطعون، يقال حسر واستحسر، إذا تعب وأعيا، بل عبادتهم وتسبيحهم
كالنفس لبني آدم، فالأول: وصف لعبيد ربوبيته.
والثاني: وصف لعبيد إلهيته وقال تعالى: 25: 63- 77 وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إلى آخر السورة. وقال 76: 6 عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً وقال 38: 17 وَاذْكُرْ عَبْدَنا
داوُدَ وقال 38: 41 وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ وقال 38: 45 وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وقال عن سليمان 38: 30 نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ وقال عن المسيح 43: 59 إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا
عَلَيْهِ فجعل غايته العبودية لا الإلهية، كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم
خلقه عليه، وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته.
فقال تعالى: 2: 23 وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا
وقال تبارك وتعالى: 25: 1 تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ
وقال 18: 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ فذكره
بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه والتحدي بأن يأتوا بمثله، وقال 72: 19
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَداً فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه. وقال 17: 1 سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى
بِعَبْدِهِ لَيْلًا فذكره بالعبودية في مقام الإسراء.
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح
ابن مريم فإنما أنا عبد.
فقولوا عبد الله ورسوله»
وفي الحديث «أنا عبد آكل كما يأكل العبيد، وأجلس كما يجلس العبيد»
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو قال «قرأت في التوراة صفة محمد صلّى الله
عليه وسلّم: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سميته المتوكل. ليس بفظّ ولا غليظ، ولا
صخّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر» .
(1/97)
وجعل
سبحانه البشارة المطلقة لعباده، فقال تعالى: 39: 17، 18 فَبَشِّرْ عِبادِ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وجعل الأمن المطلق
لهم، فقال تعالى: 43: 68، 69 يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا
أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ وعزل
الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة، وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به. فقال 15: 42
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْغاوِينَ وقال 16: 99، 100 إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم إحسان العبودية على مراتب الدين، وهو الإحسان.
فقال في حديث جبريل- وقد سأله عن الإحسان-: «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن
تراه فإنه يراك» «1»
. فصل
في لزوم «إياك نعبد» لكل عبد إلى الموت قال الله تعالى لرسوله 15: 99 وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وقال أهل النار 74: 46، 47 وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ واليقين هاهنا: هو الموت
بإجماع أهل التفسير.
وفي الصحيح، في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه
وسلّم قال «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه»
أي الموت وما فيه. فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في
البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان «من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم؟» ويلتمسان منه الجواب.
وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد
المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2610.
(1/98)
السجود،
فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب
تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا.
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه التعبد فهو زنديق، كافر بالله ورسوله، وإنما
وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه، وكلما تمكن العبد في منازل العبودية
كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان
الواجب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على
أممهم. والواجب على أولى العزم:
أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولى العلم: أعظم من الواجب على من
دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته.
فصل
في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برّهم وفاجرهم، مؤمنهم
وكافرهم. فهذه عبودية القهر والملك. قال تعالى:
19: 88- 93 وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً
إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمنِ عَبْداً فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: 25: 17 وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ فسماهم عباده مع ضلالهم، لكن
تسمية مقيدة بالإشارة، وأما المطلقة فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني، كما سيأتي
بيانه إن شاء الله.
وقال تعالى: 39: 46 قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ
(1/99)
الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
وقال 40: 31 وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ 40: 48 إِنَّ اللَّهَ قَدْ
حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر. قال تعالى: 43: 68 يا
عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وقال 39: 17، 18
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
وقال 25: 63، 64 وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وقال تعالى عن إبليس 15:
40 لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فقال
تعالى: 15:
40: 41 إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته: هم عبيد إلهيته.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء.
وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية: فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه: إما منكرا.
كقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ
عَبْداً والثاني: معرفا باللام كقوله 40: 31 وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعِبادِ 40: 48 إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ.
الثالث: مقيدا بالإشارة أو نحوها كقوله أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ.
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده. فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر. كقوله 39: 46
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم. كقوله 39: 53 قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وقد يقال: إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه،
(1/100)
واتبعوا
أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة.
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة: لأن أصل معنى اللفظة:
الذل والخضوع. يقال: «طريق معبد» إذا كان مذللا بوطء الأقدام، وفلان عبّده الحب
إذا ذلله، لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا، وانقيادا لأمره ونهيه،
وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة: انقسام القنوت إلى خاص وعام، والسجود كذلك.
قال تعالى في القنوت الخاص 39: 9 أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً
وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ وقال في حق مريم 66:
12 وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ وهو كثير في القرآن.
وقال في القنوت العام 2: 116 وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ أي خاضعون أذلاء.
وقال في السجود الخاص 40: 60 إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ وقال 19: 58 إِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا وهو كثير في القرآن.
وقال في السجود العام 13: 15 وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.
ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله 22:
18 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم
بالسجود في سورة النحل 16: 249 وهو سجود الذل والقهر والخضوع. فكل أحد خاضع
لربوبيته، ذليل لعزته. مقهور تحت سلطانه تعالى.
(1/101)
فصل
في مراتب «إياك نعبد» علما وعملا للعبودية مراتب، بحسب العلم والعمل. فأما مراتبها
العلمية فمرتبتان:
إحداهما: العلم بالله. والثانية: العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه،
وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان. إحداهما: دينه الأمر الشرعي. وهو الصراط المستقيم الموصل
إليه.
والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم العلم
بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين.
فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات وبعض
المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات،
زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم: قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساو
الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة، ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات،
وهؤلاء يأتونها إطاعات وقربات، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
(1/102)
فصل
ورحى العبودية على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية وبيانها: أن
العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح.
وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد
من القلب واللسان، والجوارح. فواجب القلب: منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه.
فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء،
والتصديق الجازم، والنية في العبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص هو
إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان.
إحداهما: تمييز العبادة عن العادة.
والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق. والفرق بينه وبين الإخلاص: أن للعبد مطلوبا وطلبا، فالإخلاص: توحيد
مطلوبه. والصدق: توحيد طلبه.
فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسما. والصدق: أن لا يكون الطلب منقسما: فالصدق
بذل الجهد، والإخلاص: إفراد المطلوب واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب
من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية. ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في
(1/103)
إيقاع
العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضى له. وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان، واجب مستحق. وهو مرتبة أصحاب
اليمين، وكمال مستحب. وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا
من القرآن، أو بضعا وتسعين، وله طرفان أيضا: واجب مستحق، وكمال مستحب.
[ثم ذكر القسم الواجب المختلف فيه- إلى أن قال] .
والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء- وهو القلب- قائما بعبوديته لله هو ورعيته وأما
المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي
نوعان: كفر ومعصية. فالكفر كالشك، والنفاق والشرك، وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله،
واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة
بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني
زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر،
وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة
منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب، وترك القيام بها.
(1/104)
فوظيفة
«إياك نعبد» على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا
بد. وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها
وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها، وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر،
بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك: كفر، وشهوة البدعة: فسق، وشهوة
الكبائر: معصية، فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب. وإن تركها عجزا عن بذله
مقدورة في تحصيلها: استحق عقوبة الفاعل، لتنزله منزلته في أحكام الثواب والعقاب،
وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع، ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول
في النار، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا
على قتل صاحبه» «1»
فنزله منزلة القاتل، لحرصه في الإثم دون الحكم، وله نظائر كثيرة في الثواب والقلب.
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
فصل
وأما عبوديات اللسان الخمس: فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من
القرآن. وهو ما يتوقف صحة صلاته عليه، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر
الله بها ورسوله، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود، وأمر بقول: «ربنا ولك
الحمد» بعد الاعتدال الواجبة بالتشهد، وأمر بالتكبير.
ومن واجبه: رد السلام. وفي ابتدائه قولان. ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء
__________
(1) أخرج النسائي حديثا مقاربا له 7/ 124.
(1/105)
الشهادة
المتعينة، وصدق الحديث.
وأما مستحبه: فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع، وتوابع
ذلك.
وأما محرمة فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث
الله به رسوله، والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها، وكالقذف وسب المسلم، وأذاه بكل
قول، والكذب، وشهادة الزور، والقول على الله بلا علم، وهو أشدها تحريما.
ومكروهه: التكلم بما تركه خير من الكلام به، مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السلف. هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين؟ على قولين. ذكرهما ابن
المنذر وغيره. أحدهما: أنه لا يخلو كل ما يتكلم به:
إما أن يكون له أو عليه. وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.
واحتجوا
بالحديث المشهور، وهو «كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ما كان من ذكر الله وما
والاه» «1» .
واحتجوا بأنه يكتب عليه كلامه كله. ولا يكتب إلا بالخير والشر.
وقالت طائفة: بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح.
قالوا: لأنّ كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي. وهذا شأن المباح.
والتحقيق: أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين، بل إما راجحة وإما مرجوحة.
لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح، وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر
اللسان، تقول: اتق الله فإنما نحن بك، فإن
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أم حبيبة برقم 2412.
وأخرجه البخاري في التاريخ عن أم حبيبة بلفظ: كل كلام ابن آدم عليه لا له إلّا
أمره بالمعروف 1/ 1/ 262.
(1/106)
استقمت
استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. وأكثر ما يكبّ الناس على مناخرهم في النار حصائد
ألسنتهم، وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضي الله ورسوله أولا، فإن كان
كذلك فهو الراجح، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح. وهذا بخلاف حركات سائر الجوارح،
فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين، لما له في ذلك من الراحة
والمنفعة، فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة،
وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة. فتأمله.
فإن قيل: فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين.
فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل.
قيل: حركته بها عند الحاجة إليها راجحة، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده.
فتكون عليه لا له.
فإن قيل: فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان الوسيلة إليه كذلك، إذ
الوسائل تابعة للمقصود في الحكم.
قيل: لا يلزم ذلك. فقد يكون الشيء مباحا، بل واجبا، ووسيلته مكروهة كالوفاء
بالطاعة المنذورة: هو واجب، مع أن وسيلته، وهو النذر مكروه منهي عنه، وكذلك الحلف
المكروه مرجوح، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه.
ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة، وهذا كثير جدا. فقد تكون الوسيلة متضمنة
مفسدة تكره أو تحرم لأجلها، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.
فصل
وأما المعبودات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا: إذ الحواس خمسة.
وعلى كل حاسة خمس عبوديات، فعلى السمع: وجوب الإنصات، والاستماع لما أوجبه الله
ورسوله عليه، من
(1/107)
استماع
الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام،
واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء.
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة. من ردّه،
أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة
ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يجب أن يطلعك عليه، ما لم يكن
متضمنا لحق الله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه، وتحذيره منه.
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن، إذا لم تدع إليه
حاجة، من شهادة، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو، كالعود والطنبور واليراع ونحوها. ولا
يجب عليه سدّ أذنه إذا سمع الصوت، وهو لا يريد استماعه، إلا إذا خاف السكون إليه
والإنصات، فحينئذ يجب تجنب سماعها وجوب سد الذرائع.
ونظير هذا المحرم: لا يجوز له تعمد شم الطيب، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في
مشامّه لم يجب عليه سد أنفه، ونظير هذا: نظرة الفجأة لا تحرم على الناظر، وتحرم
عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله،
واستماع كل ما يحبه الله، وليس بفرض.
والمكروه: عكسه، وهو استماع كل ما يكرهه ولا يعاقب عليه، والمباح ظاهر.
وأما النظر الواجب: فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها،
والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي
(1/108)
يأكلها
وينفقها ويستمتع بها، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها.
ونحو ذلك.
والنظر الحرام: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا، وبغيرها إلّا لحاجة، كنظر
الخاطب، والمستام والمعامل، والشاهد، والحاكم، والطبيب، ذي المحرم.
والمستحب: النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في
المصحف ووجوه العلماء الصالحين، الوالدين، والنظر في آيات الله المشهودة، ليستدل
بها على توحيده ومعرفته وحكمته.
والمكروه: فضول النظر الذي لا مصلحة فيه. فإن له فضولا كما للسان فضولا، وكم قاد
فضولها إلى فضول عزّ التخلص منها، وأعيي دواؤها. وقال بعض السلف: كانوا يكرهون
فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.
والمباح: النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة.
ومن النظر الحرام: النظر إلى العورات. وهي قسمان.
عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب.
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه
شيء، وذهبت هدرا، بنص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق على صحته.
وإن ضعفه بعض الفقهاء، لكونه لم يبلغه النص، أو تأوله، وهذا إذا لم يكن للناظر سبب
يباح لأجله، كعورة له هناك ينظرها. أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في اطلاعها.
وأما الذوق الواجب: فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه، وخوف الموت، فإن
تركه حتى مات، مات عاصيا قاتلا لنفسه. قال الإمام
(1/109)
أحمد
وطاوس «1» : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار.
ومن هذا: تناول الدواء إذا تيقن به من الهلاك، على أصح القولين.
وإن ظن الشفاء به، فهل هو مستحب مباح، أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف
والخلف.
والذوق الحرام: كذوق الخمر والسموم القاتلة. والذوق الممنوع منه للصوم الواجب.
وأما المكروه: فكذوق المشتبهات، والأكل فوق الحاجة، وذوق طعام الفجاءة، وهو الطعام
الذي تفجأ آكله، ولم يرد أن يدعوك إليه، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات
ونحوها،
وفي السنن: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن طعام المتبارين»
وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس.
والذوق المستحب: أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل، مما أذن الله فيه. والأكل مع
الضيف ليطيب له الأكل، فينال منه غرضه. والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها
أو المستحب.
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها، للأمر به عن الشارع.
__________
(1) هو الإمام طاوس بن كيسان اليماني الجندي الخولاني أحد الأعلام علما وعملا أخذ
عن عائشة وطائفة، قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا قط مثل طاوس، ولما ولي عمر بن
عبد العزيز كتب إليه طاوس: إن أردت أن يكون عملك كله خيرا فاستعمل أهل الخير فقال
عمر: كفى بها موعظة، توفي حاجا بمكة قبل يوم التروية بيوم وصلّى عليه هشام بن عبد
الملك، كان أعلم التابعين بالحلال والحرام. توفي سنة ست ومائة. (انظر شذرات الذهب)
.
(1/110)
والذوق
المباح: ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان.
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم، فالشم الواجب: كل شم تعين طريقا للتمييز
بين الحلال والحرام، كالشم الذي يعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سم
قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به، وما لا يملك؟ ومن هذا
شم المقوّم وربّ الخبرة عند الحكم بالتقويم، والعبيد ونحو ذلك.
وأما الشم الحرام: فالتعمد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق،
وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات للافتتان بما وراءه.
وأما الشم المستحب: فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس، ويبسط النفس للعلم
والعمل. ومن هذا: هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك.
ففي صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عرض عليه ريحان فلا يرده.
فإنه طيب الريح، خفيف المحمل» .
«1»
والمكروه: كشم الظّلمة، وأصحاب الشبهات، ونحو ذلك.
والمباح: ما لا منع فيه من الله ولا تبعة، ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له
بالشرع.
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس. فاللمس الواجب: كلمس الزوجة حين يجب جماعها،
والأمة الواجب إعفافها.
والحرام: لمس ما لا يحل من الأجنبيات.
والمستحب: إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله.
__________
(1) أخرجه النسائي بلفظ: من عرض عليه طيب فلا يرده 8/ 189.
(1/111)
والمكروه:
لمس الزوجة في الإحرام للذة، وكذلك في الاعتكاف. وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه.
ومن هذا لمس بدن الميت- لغير غاسله- لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له،
ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميص في أحد القولين، ولمس فخذ الرجل، إذا
قلنا: هو عورة.
والمباح: ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية.
وهذه المراتب أيضا مرتّبة على البطش باليد والمشي بالرجل. وأمثلها لا تخفى.
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهل عياله: واجب. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف،
والصحيح: وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة
الحج نظر، والأقوى في الدليل:
وجوبه لدخوله في الاستطاعة، وتمكنه بذلك من أداء النسك. والمشهور عدم وجوبه.
ومن البطش الواجب: إعانة المضطر ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم.
والحرام: كقتل النفس التي حرم الله، ونهب المال المغصوب، وضرب من لا يحل ضربه ونحو
ذلك، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنّرد، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل
المدينة كالشطرنج، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم. ونحو
كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا، إلا مقرونا بردها ونقضها، وكتابة
الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب، وكتابة ما فيه
مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولا سيما إن كسبت عليه مالا: 2: 9 79
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
وكذلك كتابة
(1/112)
المفتي
على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله، إلا أن يكون مجتهدا مخطئا، فالإثم موضوع
عنه.
وأما المكروه: فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة في كتابته، ولا
منفعة فيه في الدنيا والآخرة.
والمستحب: كتابة كل ما فيه منفعة في الدين، أو مصلحة لمسلم، والإحسان بيده بأن
يعين صانعا، أو يصنع لأخرق، أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقي، أو يحمل له على
دابته، أو يمسكها حتى يحمل عليها، أو يعاونه بيده فيما يحتاج إليه ونحو ذلك، ومنه:
لمس الركن بيده في الطواف، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان.
والمباح: ما لا مضرة فيه ولا ثواب.
وأما المشي الواجب: فالمشي إلى الجمعات والجماعات، في أصح القولين لبضعة وعشرين
دليلا، مذكورة في غير هذا الموضع. والمشي حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين
الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه، والمشي
إلى صلة رحمه، وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى
الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر.
والحرام: المشي إلى معصية الله، وهو من رجل الشيطان. قال تعالى: 17: 64 وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال مقاتل «1» :
__________
(1) هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي مولاهم الخراساني المفس وقال في المغني:
مقاتل بن سليمان البلخي هالك كذبه وكيع والنسائي. وقال ابن الأهول: كان نبيلا
واتهم في الرواية، قال مرة: سلوني عما دون العرش، فقيل له: من حلق رأس آدم لما حج؟
وقال له آخر: الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها فلم يدر ما يقول وقال:
ليس هذا علمكم لكن بليت به لعجبي بنفسي، وسأله المنصور: لم خلق الله الذباب، فقال:
ليذل به الجبابرة، وقال الشافعي: الناس عيال على مقاتل بن سليمان في
(1/113)
استعن
عليهم بركبان جندك ومشاتهم. فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس.
وكذلك تعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا:
فواجبه في الركوب في الغزو والجهاد والحج الواجب.
ومستحبه: في الركوب المستحب من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وفي
الوقوف بعرفة نزاع: هل الركوب فيه أفضل، أم على الأرض؟ والتحقيق: أن الركوب أفضل
إذا تضمن مصلحة: من تعليم للمناسك، واقتداء به، وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه
ضرر على الدابة.
وحرامه: الركوب في معصية الله عز وجل.
ومكروهه: الركوب للهو واللعب، وكل ما تركه خير من فعله.
ومباحه: الركوب لما لم يتضمن فوت أجر، ولا تحصيل وزر.
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم،
واليد، والرجل، والفرج، والإستواء على ظهر الدابة.
__________
التفسير وعلى زهير بن أبي سلمى في السقر وعلى أبي حنيفة في الفقه وعلى الكسائي في
النحو وعلى ابن إسحاق في المغازي. توفي سنة خمسين ومائة. (انظر شذرات الذهب) .
(1/114)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
سورة
البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
«الختم» قال الأزهري: أصله التغطية، وختم البذر في الأرض، إذا غطاه. قال أبو
إسحاق: معنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا
يدخله شيء، كما قال تعالى: 47: 24 أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها كذلك قوله: 2: 94
و 16: 108 وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ.
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم بصير
سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما المرض:
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما
كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
وقال 33: 32 فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
وقال: 74: 31 وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ
اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون
(1/115)
عارفا
بالحق محبا له، مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه.
فمرض المنافقين: مرض شك وريب، ومرض العصاة غي وشهوة.
وقد سمى الله سبحانه كلّا منهما مرضا.
قال ابن الأنباري: أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان:
فسد جسمه، وتغيرت حاله. ومرضت بالمرض: تغيرت وفسدت، قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر:
ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة ... لفقد الحسين، والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة. ومنه مرض الرجل في
الأمر، إذا ضعف فيه. ولم يبالغ، وعين مريضة النظر: أي فاترة ضعيفة. وريح مريضة:
إذا هبّ هبوبها، كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة
أي لينة ضعيفة، حتى لا يعفى أثرها.
وقال ابن الإعرابي: أصل المرض النقصان. ومنه: بدن مريض، أي ناقص القوة، وقلب مريض:
ناقص الدين، ومرض في حاجتي: إذا نقصت حركته.
وقال الأزهري، عن المنذري عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد
صفائها. قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية ... فما يضيء لها شمس ولا قمر
هذا أصله في اللغة.
(1/116)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
ثم
الشك، والجهل، والحيرة، والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب: تعود إلى
هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه الله بزيادة
المرض، لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها فلما أضاءت
لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا
حيارى تائهين. فهم كقوم سفّر ضلوا عن الطريق، فأقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما
أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد
سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه ويعقله
بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا
تعقل ما ينفعها.
وقيل: لما لم ينتفعوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر
ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى،
فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.
وقال سبحانه وتعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: ذهب نورهم.
وفيه سر بديع، وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى،
فإن الله تعالى مع المؤمنين، و 2: 153 إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ و 16: 128
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.
(1/117)
فذهاب
الله بذلك النور هو انقطاع المعية التي خصّ بها أولياءه، فقطعها بينه وبين
المنافقين، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: 9: 40
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ولا من 26: 63 كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي
سَيَهْدِينِ.
وتأمل قوله تعالى: أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل
ضوؤها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة، لا ملابسة ومخالطة. وكان الضوء
عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها. فرجع كل منهما
إلى أصله اللائق به، حجة من الله تعالى قائمة. وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي
الألباب من عباده.
وتأمل قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل بنارهم. ليطابق أول الآية. فإن
النار فيها إشراق وإحراق. فذهب بما فيها من الإشراق- وهو النور- وأبقى عليهم ما
فيها من الإحراق، وهو النارية وتأمل كيف قال: «بنورهم» ولم يقل بضوئهم، مع قوله:
فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ لأن الضوء هو زيادة في النور. فلو قال: ذهب الله
بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب
به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم.
وأيضا فإن الله تعالى سمّى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه
النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله.
وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ كيف
طابق بين هذه
(1/118)
التجارة
الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبذل الهدى في مقابلتها، وحصول
الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبذلوا
الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة
ما أشد غبنها!.
وتأمل كيف قال الله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحده، ثم قال:
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ فجمعها. فإن الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم، الذي
لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله
صلّى الله عليه وسلّم، ولا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله
صلّى الله عليه وسلّم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل.
فإنها متعددة متشعبة. ولهذا يفرد الله سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله تعالى: 2:
257 اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وقال تعالى: 6: 153 وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فجمع
سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق. ولا يناقض هذا قوله تعالى: 5: 16 يَهْدِي بِهِ
اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ فإن تلك هي طرق مرضاته التي
يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم. فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد
وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها.
وقد صح النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه: «خط خطا مستقيما، وقال: هذا سبيل الله، ثم
خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه،
ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وقد قيل: إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل
الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى: 5: 64 كُلَّما أَوْقَدُوا
(1/119)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
ناراً
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
ويكون قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ مطابقا لقوله تعالى «أَطْفَأَهَا
اللَّهُ» ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه: هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون
إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صم بكم عمي.
وهذا التقدير- وإن كان حقا- ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد
لغيره، ويأباه قوله تعالى: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ وموقد نار الحرب لا يضيء
ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وموقد نار الحرب لا
نور له. ويأباه قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ وهذا يقتضي
أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن: هو المنافق، أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال:
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه. وقال تعالى في حق
الكفار: 2: 171 صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فسلب العقل عن الكفار،
إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين، لأنهم آمنوا ثم
كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.
فصل
[سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ (19)
فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من النور والحياة
بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. فذهب نوره، وبقي في الظلمات
حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيّب، وهو المطر
الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى سفل. فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن
القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم
يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد
(1/120)
وبرق،
ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد، والشجر
والدواب، فإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى
كمال الانتفاع بذلك الصيب.
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق، ولوازم ذلك:
من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول
إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل،
لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب. وهذه حال أكثر
الخلق، إلا من صفت بصيرته. فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق،
والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته.
لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها
تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت
الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة
الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته
فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي
يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على
النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب
شيء وأشقه.
والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبلغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق
علما وعملا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق
والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة
الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبيه الكفر بالظلمة وما فيه من الوعد والوعيد
بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع من البلايا
(1/121)
والفتن
من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوي صيب.
والمراد: كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا.
قال: والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: أن المثلين جميعا من جهة
التمثيلات المتركبة، دون المفرقة، لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه.
وهذا القول الفحل، والمذهب الجزل، بيانه: أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها
عن بعض، لم يأخذ بحجزة ذاك. فتشبهها بنظائره، كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية
حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. كقوله
تعالى: 62: 5 مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الغرض: تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها
من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. وتساوي
الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر من ذلك إلا
بما يزيده من الكد والتعب، وكقوله تعالى: 18: 45 وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ المراد قلة بقاء زهرة الدنيا
كقلة هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالافراد غير منوبة بعضها ببعض،
وتصييرها شيئا واحدا فلا كذلك، لما وصف من وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا
فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد
إيقادها في ظلمة الليل. وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة، مع رعد وبرق
وخوف من الصواعق.
قال: فإن قلت أي المثلين أبلغ؟.
قلت: الثاني. لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، وفظاعته.
وكذلك أفرادهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.
(1/122)
فصل
وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة.
منها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه. فإذا ذهبت تلك
النار بقي في ظلمة. وهكذا المنافق، لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه،
وتصديق جازم. كان ما معه من النور كالمستعار.
ومنها: أن ضياء النار يحتاج دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة
الحيوان. فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح، يقوم
بها ويدوم بدوامها. فإذا لم توجد مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها.
ومنها: أن الظلمة نوعان، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور. وهي
أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه. فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة، فمثلت حاله
بحال المستوقد للنار، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات
لم يخرج منها قط.
ومنها: أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نورا
ظاهرا، كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا. ثم يطفأ ذلك أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن
له مادة باقية تحمله، وبقوا في الظلمة على الجسر، لا يستطيعون العبور. فإنه لا
يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر. فإن لم يكن لذلك النور مادة
من العلم النافع والعمل الصالح، وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه.
فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار، وبحالتهم يوم القيامة
عند ما يقسم النور.
ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» ولم يقل أذهب
الله نورهم.
(1/123)
فإن
أردت زيادة بيان وإيضاح، فتأمل ما
رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد سئل عن الورود؟
فقال:
«نجيء نحن القيامة على تل فوق الناس: قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد:
الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك، فيقول:
من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك،
فيتجلى ويضحك قال: فينطلق بهم، فيتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم- منافق أو مؤمن-
نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله تعالى. ثم يطفأ نور
المنافقين، ثم ينجو المؤمنون. فتنجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون
ألفا لا يحاسبون. ثم الذين يلونهم. كأضوأ نجم في السماء، ثم كذلك. ثم تحل الشفاعة،
ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن
شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء
. وذكر باقي الحديث» .
فتأمل
قوله: «فينطلق فيتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم نور: المنافق والمؤمن»
ثم تأمل قوله تعالى ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا
يُبْصِرُونَ وتأمل حالهم إذ أطفئت أنوارهم، فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في
نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل.
وتأمل
قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع كل
مشرك إلهه الذي كان يعبده»
والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كل معبود سواه باطل.
وتأمل قوله تعالى: 68: 42 يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع،
وقوله في الحديث: «فيكشف عن ساقه»
وهذه الإضافة تبين المراد بالساق المذكور في الآية.
(1/124)
وتأمل
ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه تعالى بعد هذا. وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد،
وفهم القرآن، ومعاملة الله سبحانه تعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده، ولم يشركوا
به شيئا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها،
فانطلق بها واتبعته إلى النار.
وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه. فسبحان الله رب العالمين.
قرت عيون أهل التوحيد في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم.
ومنها: أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة، التي هي الضلال والحيرة التي سدها
الهدى. والمثل الثاني: متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن. فلا أمن ولا هدى: 6: 82
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ
الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
قال ابن عباس وغيره من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة
مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله، فاتقى ما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طفئت
ناره، فبقي في ظلمته خائفا متحيرا. كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على
أموالهم وأولادهم، وناكحوا المؤمنين ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم. فذلك نورهم. فإذا
ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. قال مجاهد: إضاءة النور لهم: إقبالهم إلى المسلمين
والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضلالة. وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب
النور: بأنها في الدنيا، وفسرت بأنها في البرزخ وفسرت بيوم القيامة. والصواب: أن
ذلك شأنهم في الدور الثلاثة، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي
القيامة بمثل حالهم، جزاء وفاقا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فإن المعاد يعود
إلى العبد فيه ما كان حاصلا منه في الدنيا.
ولهذا يسمى يوم الجزاء 17: 72 وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا 19: 76 وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً
ومن كان
(1/125)
مستوحشا
مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد.
ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم
البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. ويعود عليه عمله
بعينه، فينعم ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة، وقرة العين
والنعيم، وقوة القلب واستبشار وحياته وانشراحه- ما هو من أفضل النعيم، وأجله
وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه، واستبشاره؟.
هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه، وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها
الأنفس وتلذها الأعين، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن
والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب
تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي
يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده متبوعها
والابتهاج بها، والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال ومتبوعه فيها في هذه
الدار.
وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة
ونعيما يخصه، لا يشبه أثر الآخر وجزاءه. لهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل
النار، وتنوع ما فيها من الطيبات والعقوبات. فليست لذة كل من ضرب في كل مرضاة الله
بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من إنما سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب
في كل مساخط الله بنصيب كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه.
وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن كمال ما يستمتع به العبد من الطيبات
في الآخرة بحسب كمال ما يقابله من الأعمال في الدنيا، فقد رأى قنوا من حشف معلقا
في المسجد للصدقة.
فقال: «إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم
(1/126)
القيامة»
فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله، فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.
وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد، وتفاوت الناس في أحواله، وما يجري
فيه من الأمور.
قوله تعالى ذكره:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ.
قال: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» ولم يقل: بنارهم فإن النار فيها الإحراق
والإشراق. فذهب بما فيها من الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيها من الأذى
والإشراق، وكذلك حال المنافقين: ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر
والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، وقلوبهم قد صليت بحرها وأذاها، وسمومها ووهجها
في الدنيا، فأصلاها الله تعالى إياها يوم القيامة نارا مؤصدة تطلع على الأفئدة.
فهذا مثل من لم يصبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به،
وهو حال المنافق، عرف ثم أنكر وأقر ثم جحد. فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى، كما قال
تعالى في حق إخوانهم من الكفار: 6: 39 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ
وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ وقال تعالى: 2: 171 مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
شبه الله تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد
النار، وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين
وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، قد
شاهدوا الضوء ورأوا النور
(1/127)
عيانا.
ولهذا قال تعالى في حقهم فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إليه. لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن
تلبسوا به واستناروا. فهم لا يرجعون إليه. وقال تعالى في حق الكفار فَهُمْ لا
يَعْقِلُونَ لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا له، لا بل
يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي.
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيا. وإلى الإيمان وحقائقه مناديا، وإلى
الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعيا، وإلى طريق الرشاد هاديا. لقد اسمع منادي
الإيمان لو صادف آذانا واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبا خالية. ولكن عصفت
على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها. وتمكنت منها أيدي الغفلة
والجهالة فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها. وران عليها كسبها فلم ينفع فيها
الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشبهات الباطل، فلم تصغ بعد إلى الملام.
ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأسر
الهوى والشهوة. وما لجرح بميت إيلام.
وأما الصم والوقر ففي قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وقوله:
47: 23 أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى
أَبْصارَهُمْ وقوله:
7: 179 وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ
قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ
آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ
هُمُ الْغافِلُونَ وقوله تعالى: 41: 44 وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
قال ابن عباس: في آذانهم صمم عن استماع القرآن، وهو عليهم عمى. أعمى الله قلوبهم
فلا يفقهون. أولئك ينادون من مكان بعيد، مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقال مجاهد: بعيد من قلوبهم. وقال الفراء: تقول للرجل الذي لا
(1/128)
يفهم
كذلك: أنت تنادى من مكان بعيد، قال: وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا
يسمعون. انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم.
وأما البكم فقال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ والبكم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق.
والبكم نوعان. بكم القلب وبكم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب ونطق اللسان.
وأشدهما: بكم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن.
فوصفهم الله سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.
والعلم يدخل من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه. وقد سدت عليهم هذه الأبواب
الثلاثة، فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم. ونظيره قوله تعالى:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها،
وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها وقد جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: 46:
26 وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً. فَما أَغْنى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ، إِذْ كانُوا
يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره.
وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
2: 19 أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ، فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ،
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ،
وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.
الصيب: المطر الذي يصوب من السماء أي ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الذي به
حياة القلوب، كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات
(1/129)
والحيوان.
فأدرك المؤمنون ذلك منه، وعلموا ما يحصل لهم به من الحياة التي لا خطر لها. فلم
يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلاث، التي
حذر الله بها من خالف أمره. وأخبر أنه منزلها على من كذب رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، أو ما فيه من الأوامر الشديدة، كجهاد الأعداء والصبر على الأمر، أو الأوامر
الشاقة على النفوس التي هي على خلاف أهوائها، فهي كالظلمات والرعد والبرق. ولكن من
علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد
والبرق. بل يستأنس بذلك ويفرح به، لما يرجو من ورائه من الحياة والخصب.
وأما المنافق فإنه قد عمي قلبه، ولم يجاوز بصره الظلمة، ولم ير إلا برقا يكاد يخطف
البصر، ووعدا عظيما وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه. فوضع أصابعه في أذنيه لئلا
يسمع صوت الرعد، وهاله مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه، وعظم نوره. فهو خائف أن
يختطف بصره. لأن بصره أضعف من أن يثبت معه. فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف،
ويرى ذلك البرق الخاطف. فإن أضاء له ما بين يديه مشي في ضوئه. وإن فقد الضوء قام
متحيرا، لا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة
الأرض والنبات، وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدا وبرقا وظلمة، ولا شعور له
بما وراء ذلك. فالوحشة لازمة له. والرعب والفزع لا يفارقانه، وأما من أنس بالصيب،
وعلم ما يحصل به من الخير والحياة والنفع، وعلم أنه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة
بسبب الغيم، فإنه يستأنس بذلك، ولا يستوحش منه، ولا يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من
الصيب.
فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل صلّى الله عليه وسلّم من عند رب العالمين
تبارك وتعالى على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ليحيي به القلوب والوجود
أجمع، اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيب من الماء،
(1/130)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
حكمة
بالغة، وأسبابا منتظمة، نظمها العليم الحكيم. فكان حظ المنافق من ذلك الصيب سحابه
ورعوده وبروقه فقط. لم يعلم ما وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب مما
اطمأن به العالمون، وشك فيما تيقنه المبصرون العارفون. فبصره في المثل الناري كبصر
الخفاش في نحر الظهيرة، وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد. وقد ذكر
عن بعض الحيوانات أنها تموت من سماع الرعد. فإذا صادف هذه العقول والأسماع
والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، جالت فيها وصالت، وقامت بها
وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر قيلها وقالها. فملأت الأسماع من هذيانها، والأرض
من دواوينها، وما أكثر المستجيبين لهؤلاء والقابلين منهم، والقائمين بدعوتهم،
والمحامين عن حوزتهم، والمقاتلين تحت ألويتهم، والمكثّرين لسوادهم. ولعموم البلية
بهم وضرر القلوب بكلامهم- هتك الله أستارهم في كتابه غاية الهتك، وكشف أستارهم
غاية الكشف، وبين علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم، ولم يزل عز وجل يقول: ومنهم، ومنهم،
ومنهم «1» . حتى انكشف أمرهم وبانت حقائقهم، وظهرت أسرارهم.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً
وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
فتأمل جلالة المبشّر ومنزلته وصدقه، وعظمته وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقد
بشرك به، وضمنه لك، وجعله أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين
نعيم البدن بالجنات، وما فيها
__________
(1) أنظر سورة التوبة.
(1/131)
من
الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، نعيم القلب، وقرة العين بمعرفة
دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه.
و «الأزواج» جمع زوج. والمرأة زوج للرجل، وهو زوجها. هذا هو الأفصح، وهو لغة قريش.
وبها نزل القرآن كقوله: 2: 35 اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ومن العرب من
يقول: زوجة، وهو نادر، لا يكادون يقولونه.
وأما «المطهرة» فإن جرى صفة على الواحد، فيجري صفة على جمع التكثير إجراء له مجرى
جماعة، كقوله تعالى: 61: 125 وَمَساكِنَ طَيِّبَةً وقولهم: قوى ظاهرة، ونظائره.
و «المطهرة» من طهرت من الحيض والبول والنفائس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر،
وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات
المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح إلى غير زوجها،
وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من القذرة وقال: «من
الحيض والغائط والنخامة والبصاق»
وقال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس «مطهرة: لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنجسن»
وقال ابن عباس أيضا «مطهرة من القذر والأذى، لا يبلن، ولا يتغوطن، ولا يمذين، ولا
يمنين، ولا يحضن، ولا يبصقن، ولا يتنخمن، ولا يلدن» وقال قتادة: «مطهرة من الإثم
والأذى، طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم» وقال عبد الرحمن بن زيد:
«المطهرة: التي لا يحيض، وأزواج الدنيا لسن بمطهرات، ألا تراهن يدمين، ويتركن
الصلاة والصيام؟
قال: وكذلك خلقت حواء، حتى عصت، فلما عصت قال الله لها: إني خَلَقْتُكَ، وسأدميك
كما أدميت هذه الشجرة.
(1/132)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
[سورة
البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه
الملائكة. فلما أمرهم بالسجود ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة، والخشية
والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد.
فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
فصل
وأما الأزواج فجمع زوج. وقد يقال الزوجة. والأول أفصح. وبها جاء القرآن. قال تعالى
لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وقال تعالى في حق زكريا: 21: 90
وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ.
ومن الثاني: قول ابن عباس في عائشة رضي الله عنها: «إنها زوجة نبيكم في الدنيا
والآخرة» . وقال الفرزدق:
وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشّرى يستبينها
وقد جمع على زوجات. وهذا إنما هو جمع زوجة، وإلا فجمع زوج أزواج قال تعالى: 36: 56
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ وقال تعالى: 43: 7
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان
بلفظ الزوج مفردا وجمعا. كما تقدم وقال تعالى: 33: 6 النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وقال تعالى: 33:
28 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ والإخبار عن أهل الشرك لفظ «المرأة»
قال تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ- إلى قوله- وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها وقال تعالى في فرعون: 66: 10 ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ فلما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم
يسمها زوجا لها. وقال تعالى: 66: 11 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا
امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ فلما
(1/133)
كانتا
مشركتين أوقع عليهما اسم «المرأة» وقال في حق آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم 33: 50 إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ
أَزْواجَكَ وقال في حق المؤمنين: 2: 25 وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ.
قالت طائفة، منهم السهيلي وغيره: إنما لم يقل في حق هؤلاء «الأزواج» . لأنهن لسن
بأزواج لرجالهن في الآخرة. ولأن التزويج حلية شرعية، وهو من أمر الدين، فجرد
الكافرة منه، كما جرد منه امرأة نوح وامرأة لوط.
ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا: 19: 5 وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وقوله تعالى
عن إبراهيم عليه السلام: 51: 29 فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ.
وأجاب: بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع، لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة.
فذكر المرأة أولى به. لأن الصفة- التي هي الأنوثة- هي المقتضية للحمل والوضع، لا
من حيث كانت زوجا.
قلت: ولو قيل: إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ «الأزواج» أن هذا اللفظ مشعر
بالمشاكلة والمجانسة والاقتران، كما هو المفهوم من لفظه:
لكان أولى. فإن «الزوجين» هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان، والمتساويان. ومنه
قوله تعالى: 37: 22 احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: «أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم» وقاله الإمام أحمد أيضا، ومنه
قوله تعالى: 81: 7 وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرن بين كل شكل وشكله في
النعيم والعذاب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية «الصالح مع الصالح
في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار» وقاله الحسن وقتادة والأكثرون وقيل:
زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين. وهو راجع إلى القول
الأول. وقال تعالى: 6: 143 ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم
(1/134)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
فسرها
بقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد. ومنه
قولهم «زوجا خف، وزوجا حمام» ونحوه. ولا ريب ان الله سبحانه قطع المشابهة
والمشاكلة بين الكفار والمؤمنين قال تعالى: 59: 20 لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وقال تعالى: في حق مؤمن أهل الكتاب وكافرهم 3: 113 لَيْسُوا
سَواءً، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ- الآية وقطع سبحانه المقارنة
بينهما في أحكام الدنيا، فلا يتوارثان ولا يتناكحان، ولا يتولى أحدهما صاحبه. فكما
انقطعت الصلة بينهما في المعنى انقطعت في الإسم.
فأضاف فيهما «المرأة» بلفظ الأنوثة المجرد، دون لفظ المشاكلة والمشابهة.
فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه. ولهذا وقع على المسلمة
امرأة الكافر، وعلى الكافرة امرأة المؤمن: لفظ «المرأة» دون لفظ «الزوجة» تحقيقا
لهذا المعنى، والله أعلم.
وهذا أولى من قول من قال: إنما سمى صاحبة أبي لهب امرأته، ولم يقل لها «زوجته» لأن
أنكحة الكفار لا يثيب لها حكم الصحة، بخلاف أنكحة أهل الإسلام.
فإن هذا باطل بإطلاق اسم «المرأة» على امرأة نوح وامرأة لوط، مع صحة ذلك النكاح.
وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ «الزوجة» دون
«المرأة» كما في قوله تعالى: 4: 12 وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إيذانا
بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا
تشاكل بينهما ولا تناسب. فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته
فوق عقول العالمين.
[سورة البقرة (2) : آية 36]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا
اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
(1/135)
قد
ظن الزمخشري أن قوله: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً خطاب لآدم وحواء خاصة، وعبر عنهما
بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما. قال: والدليل عليه قوله تعالى: 70: 123 قالَ اهْبِطا
مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال: ويدل على ذلك قوله: فَمَنْ
تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، ومعنى قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ما عليه
الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا.
وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية. فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما
هي بين آدم وإبليس وذريتهما، كما قال تعالى: 35: 6 إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان
والإنسان، وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو. وأما
آدم وزوجه فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها له ليسكن إليها وجعل بينهما مودة
ورحمة «1» . فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الشيطان والإنسان.
وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس، وهم ثلاثة، فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور،
مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه؟ مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه. فلم يصنع
الزمخشري شيئا.
وأما قوله تعالى في سورة طه: 20: 123 قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهذا خطاب لآدم وحواء. وقد جعل بعضهم لبعض عدوا، فالضمير في قوله
اهْبِطا مِنْها إما أن يرجع إلى آدم وزوجته، وإما أن يرجع إلى آدم وإبليس، ولم
يذكر الزوجة لأنها تبع له.
__________
(1) سورة الروم الآية: 21.
(1/136)
وعلى
هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما آدم وإبليس، فالأمر ظاهر.
وأما الأول- وهو رجوعه إلى آدم وزوجه- فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:
أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط.
والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه، وبين إبليس. ولهذا أتى بضمير الجمع في
الثاني، دون الأول. ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا. كما قال
تعالى: 20: 117 إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ وقال لذريته: إِنَّ
الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.
وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع، دون التثنية وأما
الإهباط: فتارة يذكر بلفظ الجمع، وتارة بلفظ التثنية. وتارة بلفظ الإفراد، كقوله
في سورة الأعراف: قالَ اهْبِطُوا وكذلك في سورة ص، وهذا لإبليس وحده. وحيث ورد
بصيغة الجمع، فهو لآدم وزوجه وإبليس، إذ مدار القصة عليهم. وحيث ورد بلفظ التثنية،
فإما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية.
وإما أن يكون لآدم وإبليس، إذ هما أبوا الثقلين، وأصلا الذرية. فذكر حالهما ومآل
أمرهما، ليكون عظة وعبرة لأولادهما. وقد حكيت القولين في ذلك.
والذي يوضح أن الضمير في قوله: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً لآدم وإبليس: أن الله
سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم، دون زوجه.
فقال: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ
وَهَدى. قالَ: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم
وإبليس الذي زين له المعصية. ودخلت الزوجة تبعا. فإن المقصود إخبار الله تعالى
الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فذكر أبويهما
(1/137)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
أبلغ
في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنسان فقط. وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها
أكلت مع آدم، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة. فعلم أن حكم الزوجة
كذلك، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم.
وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس
وأمهم، فتأمله.
وبالجملة. فقوله: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ظاهر في الجمع، فلا يسوغ
حمله على الاثنين في قوله: اهْبِطا من غير موجب.
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما
يُؤْمِنُونَ (88)
قد اختلف في معنى قولهم «قُلُوبُنا غُلْفٌ» .
فقالت طائفة: المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم. فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت
به؟ أو لا تحتاج إليك؟ وعلى هذا فيكون «غلف» جمع غلاف. والصحيح: قول أكثر
المفسرين: إن المعنى قلوبنا لا تفقهه، ولا تفهم ما تقول. وعلى هذا فهو جمع أغلف،
كأحمر وحمر. قال أبو عبيدة:
كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال: سيف أغلف، وقوس أغلف، ورجل أغلف، غير مختون.
وقال ابن عباس وقتادة: على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول.
هذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن. كقولهم:
41: 5 قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ وقوله تعالى: 18: 102 كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي
غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ونظائر ذلك.
وأما قول من قال: هي أوعية للحكمة، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة. وليس له في
القرآن نظير يحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم
والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول
(1/138)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
القائل:
قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غلف، أي أوعية للعلم.
والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء. فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله
العلم والحكمة. وهذا ظاهر جدا.
فإن قيل: فالإضراب: «بل» على هذا القول الذي قويتموه، ما معناه؟.
أما على القول الآخر فظاهر، أي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور. وهو انهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق
إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه. فكيف
تقوم به عليهم الحجة؟ وكأنهم ادعوا أنّ قلوبهم خلقت في غلف، فهم معذورون في عدم
الإيمان. فأكذبهم الله وقال: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وفي الآية
الأخرى: 4: 154 بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فأخبر سبحانه أن الطبع
والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على
الإيمان. فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة.
والمعنى: لم يخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه، ثم أمرهم بالإيمان، وهم لا
يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
[سورة البقرة (2) : آية 94]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)
هذه الآية فيها للناس كلام معروف.
قالوا: إنها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أعجز بها اليهود، ودعاهم إلى تمني
الموت، وأخبر أنهم لا يتمنونه أبدا. وهذا علم من أعلام نبوته صلّى الله عليه
وسلّم، إذ لا
(1/139)
يمكن
الاطلاع على بواطنهم إلا بإخبار عالم الغيب، ولن ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
وقالت طائفة: لما ادعت اليهود أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس.
وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته. كذبهم الله في دعواهم.
وقال: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت، لتصلوا إلى الجنة دار النعيم. فإن الحبيب
يتمنى لقاء حبيبه. ثم أخبر سبحانه أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من
الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه. فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
وقالت طائفة، منهم محمد بن إسحاق «1» وغيره: هذه من جنس آية المباهلة. وأنهم لما
عاندوا، ودفعوا الهدى عيانا، وكتموا الحق دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه. وهو أن
يدعوا بالموت على الكاذب المفتري، والتمني: سؤال ودعاء، فتمنوا الموت: أي سلوه،
وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري.
وعلى هذا: فليس المراد تمنوه لأنفسكم خاصة، كما قاله أصحاب القولين الأولين بل
ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل. وهذا أبلغ في إقامة الحجة، وبرهان الصدق، وأسلم من أن
يعارضوا بقولهم: فتمنوه
__________
(1) هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة رأى أنسا وسمع
الكثير من المقبري والأعرج وهذه الطبقة وكان بحرا من بحور العلم ذكيا حافظا طلابة
للعلم أخباريا نسابة علامة. قال شعبة: هو أمير المؤمنين في الحديث. قال ابن معين:
هو ثقة وليس بحجة وقال أحمد بن حنبل هو حسن الحديث وقال ابن الأهدل: لا تجهل
أمانته ووثقه الأكثرون في الحديث ولم يخرج له البخاري شيئا وخرج له مسلم حديثا
واحدا من أجل طعن مالك فيه وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه أنه قال: هاتوا حيث مالك
فأنا طبيب بعلله، ومن كتب ابن إسحاق أخذ عبد الملك بن هشام وكل من تكلم في السير
فعليه اعتماده، توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة. (انظر شذرات الذهب) . [.....]
(1/140)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
أنتم
أيضا إن كنتم محقين في دعواكم: أنكم أهل الجنة، لتقدموا على ثواب الله وكرامته،
وكانوا أحرص شيء على معارضته. فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله.
وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لفقره وبلائه. وشدة حاله، ويدعو به، وهذا
بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا، ولا وقع من أحد
منهم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم البتة. وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه،
وكفرهم به حسدا وبغيا، فلا يتمنونه أبدا، لعلمهم أنهم هم الكاذبون. وهذا القول
الذي نختاره. والله أعلم بما أراد من كتابه.
[سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (137)
والجواب من أوجه:
الأول: أن المراد به التبكيت، والمعنى: حصلوا دينا آخر مثله، وهو لا يمكن.
الثاني: أن كلمة «مثل» صلة.
الثالث: أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف. فإن آمنوا بالتوراة من غير
تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا.
الرابع: أن المراد إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين.
روى ابن جرير أن ابن عباس قال: قولوا آمنا بالله فإن آمنوا بالذي آمنتم به.
قال عبد الجبار: ولا يجوز ترك القراءة المتواترة.
[سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
(1/141)
أخبر
تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله
أندادا فهذا ندّ في المحبة، لا في الخلق والربوبية.
فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند. بخلاف ند المحبة. فإن أكثر أهل الأرض قد
اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم.
ثم قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وفي تقدير الآية قولان:
أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، وآلهتهم التي
يحبونها، ويعظمونها من دون الله.
والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين الأنداد لله. فإن محبة المؤمنين
خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها.
والمحبة الخالصة أشد من المحبة المشركة.
والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فإن
فيها قولان.
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله. فيكون قد أثبت لهم محبة لله، ولكنها محبة يشركون
فيها مع الله أندادا.
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم، كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة
المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول، ويقول:
إنما ذموا بأن شرّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله، كمحبة
المؤمنين له. وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم، وهم في النار: أنهم
يقولون لآلهتهم وأندادهم، وهي محضرة معهم في العذاب: 26: 97، 98 تَاللَّهِ إِنْ
كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
(1/142)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
الْعالَمِينَ
ومعلوم أنهم لم يسوهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة
والتعظيم.
هذا حال قلب المؤمن: توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه، لا يتطرق إليهما محو ولا
إزالة. ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته، ونسيانه سببا لزوال محبته أو
ضعفه. وكان الله سبحانه هو المستحق من عباده نهاية الحب مع نهاية التعظيم، بل
الشرك الذي لا يغفره الله لعبده: هو أن يشرك به في الحب والتعظيم، فيحب غيره ويعظم
من المخلوقات غيره كما يحب الله تعالى ويعظمه قال تعالى: 2: 165 وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ،
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما
يحب الله تعالى، وأن المؤمن أشد حبا لله من كل شيء. وقال أهل النار في النار: 26:
97، 98 تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعالَمِينَ ومن المعلوم: أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأليه والعبادة،
وإلا فلم يقل أحد قط: إن الصنم أو غيره من الأنداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي
أفعاله، وفي خلق السموات والأرض، وفي خلق عابده أيضا. وإنما كانت التسوية في
المحبة والعبادة.
وأيضا من هؤلاء وأسوأ حالا من سوّى كل شيء بالله سبحانه في الوجود، وجعله وجود كل موجود،
كامل أو ناقص، فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوّى بينه وبين الأصنام
في الحب، مع اعتقاد تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والأوصاف والأفعال، فكيف
بمن سوّى الله بالموجودات في جميع ذلك، بل كيف بمن جعل ربه كل هذه الموجودات؟
وزعم أن من عبد حجرا أو شجرا، أو حيوانا فما عبد غير الله في كل معبود.
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ
دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
(1/143)
تضمن
هذا المثل: ناعقا، أي مصوتا بالغنم وغيرها، ومنعوقا به.
وهو الدواب.
فقيل: الناعق العابد، وهو الداعي للصنم، والصنم: هو المنعوق به المدعو، وأن حال
الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه. هذا قول طائفة. منهم عبد الرحمن بن
زيد «1» وغيره.
واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول، وقالوا قوله:
إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لا يساعد عليه. لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء.
وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة.
أحدها: أن «إلّا» زائدة. والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء.
قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة
أي ما تنفك مناخة. وهذا جواب فاسد. فإن «إلا» لا تزاد في الكلام المثبت.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو.
الجواب الثالث: أن المعنى: أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم
كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك
المشرك ليس من دعائه وعبادته وليه الميت إلا العناء.
وقيل: المعنى: ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من
الصوت. فإن الراعي هو داعي الكفار، والكفار هم البهائم المنعوق بها.
__________
(1) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي العمري مولاهم المدني روي عن أبيه وجماعة
وهو ضعيف كثير الحديث توفي سنة اثنتين وثمانية ومائة. (انظر شذرات الذهب) .
(1/144)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قال
سيبويه: المعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به.
وعلى قوله: فيكون المعنى: مثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها.
ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق.
فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار- في عدم فقههم وانتفاعهم- بالغنم التي ينعق
بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد، الذي هو الدعاء والنداء.
وإن جعلته من التشبيه المفرق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى
الطريق والهدى بمنزلة البهائم التي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق،
وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق.
[سورة البقرة (2) : آية 179]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(179)
في ضمن هذا الخطاب: ما هو كالجواب لسؤال مقدر: إن في إعدام هذه البنية الشريفة،
وإيلام هذه النفس وإعدامها في عدم مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل،
فلأيّة حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء، وبهرت حكمته العقول؟ فتضمن الخطاب
جواب ذلك بقوله:
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كفّ عن القتل وارتدع، وآثر حب
حياته ونفسه. فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله.
ومن وجه آخر: وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم
(1/145)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قتلوا
به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيّه وقبيلته. وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما
يعم ضرره، وتشتد مؤنته، فشرع الله تعالى القصاص، وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله.
ففي ذلك حياة عشيرته وحيّه وأقاربه. ولم تكن الحياة في القصاص من حيث إنه قتل، بل
من حيث كونه قصاصا، يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره، فتضمن القصاص الحياة في
الوجهين.
وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز، والبلاغة الفصاحة، والمعنى
العظيم.
فصدر الآية بقوله: «ولكم» المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم، عائدة إليكم، فشرعه
إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم، فمنفعته ومصلحته لكم، إلا لمن لا يبلغ العباد
ضره ونفعه.
ثم عقبه بقوله «في القصاص» إيذانا بأن الحية الحاصلة إنما هي في العدل، وهو أن
يفعل به كما فعل بالمقتول.
و «القصاص» في اللغة: المماثلة، وحقيقته راجعة إلى الإتباع، ومنه قوله تعالى: 28:
11 وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اتبعي أثره. ومنه قوله: 18: 64 فَارْتَدَّا
عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي يقصان الأثر ويتبعانه.
ومنه: قص الحديث واقتصاصه، لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر، فسمى جزاء الجاني قصاصا.
لأنه يتبع أثره، فيفعل به كما فعل، وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما
فعل، فيقتل بمثل ما قتل به، لتحقيق معنى القصاص.
[سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ
فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
روى شعبة عن الحكم عن مجاهد قال: هو الولد. وقاله الحكم، وعكرمة، والحسن البصري،
والسدي، والضحاك.
(1/146)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
وأرفع
ما فيه: ما رواه محمد بن حر عن أبيه حدثني عمي عن أبيه حدثني أبي عن أبيه عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: «هو الولد» وقال ابن زيد: هو الجماع. وقال قتادة: ابتغوا
الرخصة التي كتب الله لكم.
وعن ابن عباس رواية أخرى: قال: ليلة القدر.
والتحقيق أن يقال: لما خفف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصوم إلى طلوع
الفجر، وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر، حتى لا يكاد يخطر بقلبه
غير ذلك، أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة. ولا يباشروهن بحكم
مجرد الشهوة، بل يبتغوا ما كتب الله لهم من الأجر والولد الذي يخرج من أصلابهم
يعبد الله ولا يشرك به شيئا، ويبتغون ما أباح لهم من الرخصة بحكم محبته بقبول
رخصه. فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته. ومما كتب الله لهم:
ليلة القدر، فأمروا أن يبتغوها.
لكن يبقى أن يقال: فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم؟
فيقال: فيه إرشاد إلى أن يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي
هي خير من ألف شهر. فكأنه سبحانه يقول: اقضوا وطركم من نسائكم ليلة الصيام، ولا
يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب الله لكم من هذه الليلة التي فضلكم بها. والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
في هذه الآية عدة حكم وأسرار، ومصالح للعبد. فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي
بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه. لم يأمن أن
(1/147)
توافيه
المضرة من جانب المسرّة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه
بالعواقب. فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد- أوجب ذلك للعبد أمورا-.
منها: أنه لا أنفع له من امتثال أمر ربه، وإن شق عليه في الابتداء.
لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات. ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع.
وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب المنهي، وإن هويته نفسه، ومالت إليه. وأن عواقبه
كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب.
وخاصة العاقل تحمّل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير،
واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل.
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيّس دائما ينظر إلى الغايات
من وراء ستور مباديها. فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة.
فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل. فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه عنه
ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء مرّ المذاق، مفض إلى العافية والشفاء، وكلما
نهاه مرارة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول، ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم، تدرك
به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق، لما يؤمل عند
الغاية من حسن العاقبة. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك. وإذا قوى يقينه هان
عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة-.
ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور،
والرضا بما يختاره له ويقتضيه له، لما يرجو من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم. فلعل
مضرته وهلاكه فيه. وهو لا يعلم. فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الإختيار
له، وأن يرضيه بما يختاره. فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له
(1/148)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
بالقوة
عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه. وأراه من
حسن عواقب اختياره ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الإختيارات، ويفرغ قلبه من
التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود
مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم عنده غير ملطوف به فيه، مع
اختياره لنفسه.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به. فيصير بين عطفه
ولطفه. فعطفه يقيه ما يحذره. ولطفه يهون عليه ما قدره.
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه: تحيله في رده.
فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميت. فإن السبع لا
يرضى أن يأكل الجيف.
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قول الله تعالى:
2: 226، 227 لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
حتم حكم الفيء، الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة، والإحسان إليها: بأنه غفور
رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته. إذا رجع إليه. والجزاء من جنس العمل. فكما
رجع العبد إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة: وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع، ومعنى
يقصد، عقبه باسم «السميع» لما نطق به «العليم» بمضمونه.
(1/149)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
[سورة
البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ
أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
لما ذكر سبحانه التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرّض في قلبه رغبة فيها
ومحبة لها، وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها، رفع الجناح عن
التعريض، وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة، ونفي مواعدتهن سرا.
فقيل: هو النكاح. والمعنى: لا تصرحوا لهن بالتزويج، إلا أن تعرّضوا تعريضا. وهو
القول المعروف.
وقيل: هو أن يتزوجها في عدتها سرا. فإذا انقضت العدة أظهر العقد. ويدل هذا على
قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وهو
انقضاء العدة. ومن رجح القول الأول قال: دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح،
وتحريم التصريح بالنهي عن المواعدة سرا، وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة. فلو
كان معنى مواعدة السر: هو إسرار العقد. كان تكرارا.
ثم عقب ذلك بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ أن تتعدوا ما حدّ لكم. فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون.
ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ولولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية
العنت، فإنه سبحانه مطلع عليكم، يعلم ما في قلوبكم، ويعلم ما تعملون، فإن وقعتم في
شيء فما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار. فإنه هو الغفور الحليم.
(1/150)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
[سورة
البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
صدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن معنى الطلب، وهو أبلغ
في الطلب من صيغة الأمر. والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازي عليه
أضعافا مضاعفة؟.
وسمي ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثّا للنفوس، وبعثا لها على البذل. لأن الباذل متى علم
أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه، وسهل عليه إخراجه. فإن علم أن
المستقرض ملئ وفيّ محسن، كان أبلغ في طيب فعله وسماحة نفسه.
فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه، وينميه له ويثمّره حتى يصير أضعاف ما
بذله كان بالقرض أسمح وأسمح.
فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض، فإن ذلك
الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يختلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل
والشح، أو عدم الثقة بالضمان.
وذلك من ضعف إيمانه. ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها.
وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية، فإنه سماه قرضا وأخبر أنه
هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته، وليعرف
مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به.
ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض، وهو الأضعاف المضاعفة.
ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم.
(1/151)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
وحيث
جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنا. وذلك يجمع أمورا ثلاثة.
أحدها: أن يكون من طيب ماله، لا من رديئه وخبيثة.
والثاني: أن يخرجه طيبة به نفسه، ثابتة عند بذله، ابتغاء مرضاة الله.
الثالث: أن لا يمن به ولا يؤذى.
فالأول يتعلق بالمال. والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله. والثالث بينه وبين
الآخذ.
[سورة البقرة (2) : آية 261]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ
يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)
شبه الله سبحانه نفقة المنفق في سبيله- سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل
الخير، من كل- بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة
حبة. والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه،
ونفع نفقته وقدرها.
ووقوعها موقعها.
فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص، والتثبيت عند
النفقة، وهو إخراج المال بقلب ثابت، قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج
من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه، غير جزع ولا هلع، ولا متبعه
نفسه، ترجف يده وفؤاده.
ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق بحسب مصادفته لموقعه، وبحسب طيب المنفق وزكائه.
(1/152)
وتحت
هذا المثل من الفقه: أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله، لا
لغيره: باذر ماله في أرض زكية. فمغلّه بحسب بذره، وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي،
ونفي الدغل، والنبات الغريب عنه. فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم يحرق الزرع نار، ولا
لحقته جائحة جاء أمثال الجبال، وكان مثله كمثل جنة بربوة. وهي المكان المرتفع الذي
تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتتربى الأشجار هناك أتم تربية. فنزل عليها من السماء
مطر عظيم القطر، متتابع. فرواها ونماها. فأتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها، لسبب ذلك
الوابل فإن لم يصبها وابل فطلّ، أي مطر صغير القطر يكفيها، لكرم منبتها تزكو على
الطل، وتنمو عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير
والقليل. فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا، ومنهم من يكون إنفاقه طلّا. والله لا
يضيع مثقال ذرة.
فإن عرض لهذا العامل ما يحرق أعماله، ويبطل حسناته، كان بمنزلة رجل له: جَنَّةٌ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، فَأَصابَها
إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ، فَاحْتَرَقَتْ فإذا كان يوم استيفاء الأعمال، وإحراز الأجور،
وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة. فحسرته حينئذ أشد من حسرة
هذا على جنته.
فهذا مثل ضربه الله سبحانه للحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها، مع عظم قدرها
ومنفعتها. والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف، فهو أحوج ما كان إلى نعمته. ومع
هذا فله ذرية ضعفاء، لا يقدرون على نفقته. والقيام بمصالحة بل هم في عياله. فحاجته
إلى جنته أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته. فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم
فيه من جميع الفواكه والثمر، وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها، وهو ثمر النخيل
والأعناب، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يوما وقد
(1/153)
وجده
محترقا كله كالصريم. فأي حسرة أعظم من حسرته؟.
قال ابن عباس: هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره. وقال مجاهد: هذا مثل
المفرط في طاعة الله حتى يموت. وقال السدي: هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق
لغير الله، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه.
وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية فقالوا له: الله أعلم. فغضب عمر.
وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس:
في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. قال: ضرب
مثلا لعمل. قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث له الشيطان فعمل
بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها.
قال الحسن: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر
صبيانه، فقد جنته أحوج ما كان إليها. وإن أحدكم والله لأفقر ما يكون إلى عمله إذا
انقطعت عنه الدنيا.
فصل
فإن عرض لهذه الأعمال- من الصدقات- ما يبطلها من المن والأذى والرياء. فالرياء
يمنع انعقادها سببا للثواب. والمن والأذى: يبطل الثواب التي كانت سببا له فمثل
صاحبها، وبطلان عمله كَمَثَلِ صَفْوانٍ وهو الحجر الأملس عليه تراب فَأَصابَهُ
وابِلٌ وهو المطر الشديد فَتَرَكَهُ صَلْداً لا شيء عليه.
وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به، تعرف عظمة القرآن
وجلالته.
فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي المانّ والمؤذي. فقلبه في قسوة عن الإيمان
والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر. والعمل الذي عمله لغير الله
(1/154)
بمنزلة
التراب الذي على ذلك الحجر. فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند
نزول الوابل. فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلاء. وكذلك المرائي
ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر. فإذا نزل عليه وابل الوحي تكشف
عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه. فبرز ما تحته حجرا صلدا، لا نبات فيه. وهذا
مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه،
أحوج ما كان إليه. وبالله التوفيق.
قول الله تعالى ذكره:
2: 282 أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى فيه دليل على
أن الشاهد إذا نسي شهادته فذكّره بها غيره لم يرجع إلى قوله، حتى يذكرها. وليس له
أن يقلده. فإنه سبحانه قال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ولم يقل: فتخبرها.
وفيها قراءتان: التثقيل والتخفيف. والصحيح: أنهما بمعنى واحد من «الذكر» وأبعد من
قال: فيجعلها «ذكرا» لفظا ومعنى. فإنه سبحانه جعل ذلك علة للضلال، الذي هو ضد
الذكر. فإذا ضلت أو نسيت ذكرتها الأخرى فذكرت.
وقوله: أَنْ تَضِلَّ تقديره عند الكوفيين: لئلا تضل إحداهما.
ويطردون ذلك في كل ما جاء من هذا. كقوله تعالى: 4: 175 يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
أَنْ تَضِلُّوا ونحوه.
ويرد عليهم نصب قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى إذ يكون تقديره:
لئلا تضلوا. ولئلا تذكر.
وقدره البصريون بمصدر محذوف. وهو الإرادة والكراهة والحذر.
(1/155)
ونحوها
فقالوا: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي حذر أن تضلوا، وكراهة أن
تضلوا ونحوه.
ويشكل عليهم هذا التقدير في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فإنهم إن قدروه كراهة
أن تضل إحداهما: كان حكم المعطوف- وهو «فتذكر» حكمه-، فيكون مكروها. وإن قدروها:
إرادة أن تضل إحداهما، كان الضلال مرادا.
والجواب عن هذا: أنه كلام محمول على معناه. والتقدير: أن تذكّر إحداهما الأخرى إن
ضلت. وهذا مراد قطعا.
وقال الشيخ ابن تيمية رحمة الله عليه: قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.
فيه دليل على استشهاد امرأتين مكان رجل هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت. وهذا
إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط. وإلى هذا
المعنى
أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «أما نقصان عقلهن: فشهادة امرأتين
بشهادة رجل»
فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل، لا لضعف الدين. فعلم بذلك عدل النساء
بمنزلة عدل الرجال. وإنما عقلها ينقص عنه. فما كان من الشهادة لا يخاف فيه الضلال
في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل. وما يقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هو في
أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل،
كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض، والنفاس، والعيوب تحت الثياب. فإن مثل هذا
لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من
الاقرار بالدين وغيره. فإن هذه معان معقولة. ويطول العهد بها في الجملة.
(1/156)
2:
261 مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وهذه الآية كأنها
كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض، ومثله سبحانه بهذا المثل
إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل
في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين
إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فيضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني
القرآني فيقوي إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق، وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه
الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على
سنبلات في قوله تعالى: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ فجاء بها على
جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص
برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه لصفات المنفق وأحواله وفي شدة
الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع، وقيل: والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به
على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.
واختلف في تقدير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة، وقيل:
مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة
أمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر، فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق
الممثل المنفق، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها،
وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر
لأن القرض لا يتعلق بذكره، فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية
البيان.
(1/157)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
وهذا
كثير من أمثال القرآن بل عامتها ترد على هذا النمط، ثم ختم الآية باسمين من أسمائه
الحسنى مطابقين لسياقها وهما الواسع العليم فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا
يضيق عنها عطفه فإن المضاعف واسع العطاء واسع الغني واسع الفضل ومع ذلك فلا يظن أن
سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها
ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله
مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه. ثم
[سورة البقرة (2) : آية 262]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما
أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله أي في مرضاته والطريق الموصلة
إليه ومن أنفعها سبيل الجهاد، وسبيل الله خاص وعام، والخاص جزء من السبيل العام
وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى، فالمن نوعان.
أحدهما: منّ بقلبه من غير أن يصرح له بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان
شهود منة الله عليه في عطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله
المنة عليه من كل وجه. فكيف يشهد قلبه منة لغيره؟.
والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه
اصطنعه وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول:
أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده، قال سفيان: يقول: أعطيتك فما شكرت. وقال
عبد الرحمن بن زياد «1» : كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا
__________
(1) هو شيخ أفريقية وقاضيها وأول من ولد بها من المسلمين عبد الرحمن بن زياد بن
أنعم الشعباني الأفريقي الزاهد الواعظ، روي عن أبي أبي عبد الرحمن الجبلي وطبقته
وقد وفد على المنصور فوعظه بكلام حسن وليس بقوي في الحديث توفي سنة ست وخمسين
ومائة (انظر شذرات الذهب) .
(1/158)
شيئا
ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكنّ سلامك عنه، وكانوا يقولون: إذا اصطنعتم صنيعة
فانسوها وإذا أسدى إليكم صنيعة فلا تنسوها، وفي ذلك قيل:
وإنّ امرأ أهدى إلى صنيعة ... وذكرنيها مرة لبخيل
وقيل: صفوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن، وحظر الله على عباده المن
بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأنه من العباد تكدير وتعيير، ومن الله سبحانه وتعالى
إفضال وتذكير.
وأيضا فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في
الحقيقة، وأيضا فالامتنان استعباد، وكسر، وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية
والذل إلا لله.
وأيضا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل، والإنعام، وأنه ولي النعمة،
ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله، وأيضا فالمانّ بعطائه يشهد نفسه مترفعا على
الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي
ذلك للعبد، وأيضا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض
ما أعطى عند الله. فأي حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا،
وادعى أن حقه في قبله.
ومن هنا والله أعلم بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض
تلك الصدقة عنده فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمن عليه بما
أعطاه بطلت معاوضته مع الله ومعاملته له، فتأمل هذه النصائح من الله لعباده
ودلالته على ربوبيته، وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته،
وإلهيته لا إله غيره، ولا رب سواه.
ونبه بقوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً على أن المن
والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود
(1/159)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
الإنفاق،
ولو أتى بالواو، وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال،
وإذا كان المن، والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب. فالمقارن
أولى، وأحرى، وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وقرنه بالفاء في قوله تعالى: 2:
274 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فإن الفاء الداخلة على خبر
المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ
من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد
الخبر عن الفاء فإن المعنى أن الذي ينفق ماله لله، ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق
الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله، ويمن ويؤذي ينفقته فليس المقام مقام شرط
وجزاء. بل مقام بيان للمستحق دون غيره.
وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية. فذكر عموم الأوقات،
وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو
نهار وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية. فإنه سبب الجزاء على كل حال فليبادر إليه
العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا
نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت
العلانية فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأجره وثوابه فتدبر هذه
الأسرار في القرآن فلعلك تظفر بها إذ تمر بك في التفاسير والمنة والفضل لله وحده
لا شريك له ثم
[سورة البقرة (2) : آية 263]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ
غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
فأخبر أن القول المعروف وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره.
والمغفرة وهي العفو عمن أساء إليك خير من الصدقة بالأذى. فالقول المعروف إحسان.
وصدقة بالقول والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة فهما نوعان من أنواع
الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ولا ريب أن حسنتين خير
من حسنة باطلة. ويدخل في المغفرة
(1/160)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
مغفرة
للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى لك بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن
يتصدق عليه ويؤذيه. هذا على المشهور من القولين في الآية، والقول الثاني: أن
المغفرة من الله أي مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من
صدقة يتبعها أذى، وفيها قول ثالث أي مغفرة وعفو من السائل إذ ردّ وتعذر المسؤول
خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى. وأوضح الأقوال هو الأول ويليه الثاني
والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ. والمعنى: أن
قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تصدق عليه وتؤذيه، ثم ختم الآية
بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ وفيه معنيان.
أحدهما: إن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في
الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غني
الله التام عنها وعن كل ما سواه ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة. وفي
ضمن هذا: الوعيد والتحذير.
والمعنى الثاني: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم
والتجاوز، والصفح مع عطائه وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه، وأذاه مع قلة
ما يعطي ونزارته وفقره، ثم
[سورة البقرة (2) : آية 264]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى
كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
فتضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة، وهذا دليل على أن الحسنة
قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: 49: 2 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ.
وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى
(1/161)
إعادته
وقد يقال: إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون أن يلحقها بعدها إلا
أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا، وقد
يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى
المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله،
ويجاب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان
المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل.
الثاني: أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤيا التي صاحبها يعمل
ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا
ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته.
وقوله: «كالذي ينفق» إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون قد شبه الأبطال
بالأبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق
بالمنفق.
وقوله: «فمثله» أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر
الأملس وفيه قولان: أحدهما: أنه واحد. والثاني: جمع صفوة عَلَيْهِ تُرابٌ
فَأَصابَهُ وابِلٌ وهو المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من
نبات ولا غيره. وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق
المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر، لشدته وصلابته
وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك
الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته
وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على
شيء من ثوابه لبطلانه وزواله. وفيه معنى آخر: وهو أن المنفق لغير الله هو في
الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في
التراب
(1/162)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
الطيب
أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه
وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه. فلا ينبت ولا
يخرج شيئا.
[سورة البقرة (2) : آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ
فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق. فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص.
والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا
منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية. إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا
من أغراضه الدنيوية. وهذا حال أكثر المنفقين، والآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها
وترددها. هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى: تزول بابتغاء مرضاة الله. والآفة الثانية:
تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجعها وتقويتها والأقدام بها على البذل. وهذا هو
صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك
كان مثله كجنة- وهي البستان الكثير الأشجار- فهو مجتنّ بها أي مستتر ليس قاعا
فارغا. والجنة بربوة وهو المكان المرتفع، لأنها أكمل من الجنة التي بالوهاد
والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح. وكانت ضاحية للشمس وقت
طلوعها واستوائها وغروبها. فكانت انضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره، فإن الثمار
تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الضلال، وإذا كانت
الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى: أَصابَها
وابِلٌ وهو المطر الشديد العظيم القدر، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها، فأخرجت ثمرتها
ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين
المقربين:
فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ فهو دون الوابل. فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب
مغرسها تكتفي في إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار والمقتصدين في
(1/163)
النفقة،
وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل
والنهار سرا وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وأصحاب الطلب
مقتصدهم.
فمثّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل،
وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف، فكذلك نفقتهم
كثيرة كانت أو قليلة، بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم، فهي
زاكية عند الله نامية مضاعفة.
واختلف في الضعفين. فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه، وضعفه مثله.
وقيل: ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا
زاد مثلا، والذي حمل هذا القائل على ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية
فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين، وهما
الضعف. فلو قيل: لها ضعفان. لم يكن فرق بين المفرد والمثنى. فالضعفان عنده مثلان
مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه ثلاثة أمثاله مضافة إلى
الأصل. وهكذا أبدا.
والصواب: أن الضعفين هما مثلان فقط، الأصل ومثله. وعليه يدل قوله تعالى: فَآتَتْ
أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي مثلين، وقوله تعالى: 33: 30 يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ أي مثلين. ولهذا قال في الحسنات:
33: 31 نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ.
وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل
مع الأصل، وليس كذلك، بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وان اعتبر مع
نظيره فهما ضعفان. والله أعلم.
واختلف في رافع قوله: فَطَلٌّ.
(1/164)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
فقيل:
هو مبتدأ خبره محذوف، أي وطله يكفيها.
وقيل: خبر مبتدؤه محذوف تقديره. فالذي يرويها ويصيبها طل، والضمير في أَصابَها إما
أن يرجع إلى الجنة، أو إلى الربوة، وهما متلازمان.
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
قال الحسن: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه
أفقر ما كان إلى جنته. وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه
الدنيا.
وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلّى الله عليه
وسلّم فيم هم يرون هذه الآية نزلت: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ الآية؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا
نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا
تحقر بنفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل
رجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
فقوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أخرجه مخرج الاستفهام الانكاري، وهو أبلغ من
النفي والنهي وألطف موقعا، كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا، فتقول له: لا يفعل هذا
عاقل، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة؟
وقال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما
تقول أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول: أيودون. وقوله:
أَيَوَدُّ أبلغ في الإنكار مما لو قيل: أيريد، لأن محبة هذا الحال المذكورة
وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.
(1/165)
وقوله
تعالى: أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ خص هذين النوعين من
الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء.
والدواء والشراب والفاكهة. والحلو والحامض، ويؤكلان رطبا، ويابسا، ومنافعهما كثيرة
جدا.
وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما.
فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب، وذكرت كل طائفة حججا لقولها، فذكرناها في
غير هذا الموضع.
وفصل الخطاب: أن هذا يختلف باختلاف البلاد. فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة
بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر.
فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون فيها العنب بها طائلا ولا كثيرا. لأنه
إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السخية، فينمو فيها ويكثر، وأما
النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة، وهي لا تناسب العنب. فالنخل في أرضه
وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها.
والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم.
والمقصود: أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها. فالجنة المشتملة عليهما
أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة.
وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها، ومع ذلك فلم يعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة،
بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين
كونها من نخيل وأعناب، وفِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.
ونظير هذا قوله تعالى: 18: 32، 33 وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا
لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ، وَجَعَلْنا
بَيْنَهُما زَرْعاً، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها، وَلَمْ تَظْلِمْ
مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ.
(1/166)
وقد
قيل: إن الثمار في آية الكهف وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال والسياق
يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها. لقوله في البقرة:
لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ثم قال تعالى: فَأَصابَها أي الجنة إِعْصارٌ
فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ وفي الكهف: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها، وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وما ذلك إلا
ثمار الجنة. ثم قال تعالى: وَأَصابَهُ الْكِبَرُ هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى
جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه.
أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.
الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.
الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.
الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كلّ عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس: أن نفقتهم
عليه، لضعفهم وعجزهم.
وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة، لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته
إليها. فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب
جنته إعصار، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها
نار، مرت بتلك الجنة فأحرقتها، وصيرتها رمادا، فصدق والله الحسن- هذا مثل قل من
يعقله من الناس- ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى
التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه فكذلك العبد إذا عمل
بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت
(1/167)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
كالإعصار
ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.
فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما
سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه
عند المعصية. ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فهو جاهل.
فإن قيل: الواو في قوله تعالى: وَأَصابَهُ الْكِبَرُ واو الحال أم واو العطف؟ وإذا
كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟.
قلت: فيه وجهان.
أحدهما: أنها واو الحال، اختاره الزمخشري، والمعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة
شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته.
والثاني: أن تكون للعطف على المعنى. فإن فعل التمني وهو قوله:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لطلب الماضي كثيرا. فكان المعنى: أيود لو كانت له جنة من
نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر.
وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان:
بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم
إيمانه وإخلاصه. ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله، ثم عرض له ما
أبطل ثوابه: بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها. ثم سلط عليها الأعصار
الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم أحرقه، والأول لم يحصل له
شيء يدركه الحريق.
فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
(1/168)
أضاف
سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند
الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم، ولا هو مقدورا لهم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف
مفعوله الذي لا قدرة عليه إليه. ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة
العبد وفعله وتأثيره عنه بالكلية. وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض
والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي: إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب
أموال القوم إذ ذاك. فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب
حرث وزرع. فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما، وإما
لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب يدخل فيه
التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق
والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول
حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض،
فكان ذكرهما أهم.
ثم قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ فنهى سبحانه عن قصد إخراج
الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس: تمسك الجيد لها وتخرج الرديء للفقير.
ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم،
بل عن اتفاق إذ كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان ماله من جنسه. فإن هذا لم يتيمم
الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله به عليه.
وموقع قوله: مِنْهُ تُنْفِقُونَ موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه.
ثم قال: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي لو كنتم أنتم
المستحقون له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا
فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه. ويقال للبائع:
(1/169)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
اغمض،
أي لا تستقص. كأنك لا تبصر. وحقيقته: من إغماض الجفن، فكأن الرائي لكراهته له لا
يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا، ومنه قول الشاعر:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضي ... م رجال يرضون بالإغماض
وفيه معنيان:
أحدهما: كيف تبذلون لله وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه
أن يهديه له؟ والله أحق من يختار له خيار الأشياء وأنفسها.
والثاني: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا؟.
ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ فغناه وحمده يأبيان قبوله الرديء، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله
لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغني عنه الشريف
القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله.
[سورة البقرة (2) : آية 268]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنها
اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعو إليه
داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين.
فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما
يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخلق.
فإن أحدهم يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه
(1/170)
داعيا
يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه، وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه خير
لك، حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صور له هذه الصورة أمره
بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين: أن الفحشاء،
هنا البخل. فهذا وعده وهذا أمره. وهو الكاذب في وعده، الغار الفاجر في أمره.
فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون. فإنه يدلي من يدعوه بغروره. ثم يورده شر
الموارد، كما قيل:
دلاهم بغرور، ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له، كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة
في بقائه غنيا، بل لا شيء إليه من فقره وحاجته. وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه
بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فستوجب منه الحرمان.
وأما الله سبحانه إنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما
أنفق وأضعافه أما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة.
فهذا وعد، الله وذاك وعد الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق أيّ الوعدين هو أوثق؟
وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. وهو الواسع
العليم.
وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الأسمين وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فإنه واسع العطاء
عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله. وهو بكل
شيء عليم.
فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن
الله خطابه وفهم مراده 29: 43 وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما
يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.
(1/171)
وتأمل
ختم هذه السورة، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم.
وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام: محسن، وهم المتصدقون. فذكر جزاءهم ومضاعفته، ومالهم
في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد
استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من
الرياء. ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها، ولا يتيمموا أردأها وخبيثها. ثم حذرهم
من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أن استجابتهم لدعوته سبحانه وثقتهم بوعده أولي
بهم. وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيها فقد أوتى
خيرا كثيرا: أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة،
فقال تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وقال تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فدل على أن ما يؤتيه الله عبده من حكمته خير له
من الدنيا وما عليها، ولا يعقل هذا كل أحد، بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكي.
فقال تعالى:
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع
لديه، بل يعلم ما كان منه لوجهه فيتولى هو سبحانه مجازاته من واسع فضله ويكل جزاء
من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير.
ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها، إن
أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة، لوجهه فقال:
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة
بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها،
وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين
إخراجها. فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى
(1/172)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
وقت
السر، وهذه كانت حال الصحابة.
[سورة البقرة (2) : آية 271]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها..
وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير
لكم، فإن من الصدقة ما لم يكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر أو غير
ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين
الناس، وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء
له فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدر زائد عن الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع
تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة وطلب المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من
إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم صدقة السر وأثنى على
فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة. ولهذا جعله
سبحانه خيرا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفي عليه
سبحانه أعمالكم ولا نياتكم. فإنه بما تعملون خبير.
ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف
يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها؟ وإن نفقة المؤمنين إنما تكون
ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم، وإن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة.
ولا يظلم منها مثقال ذرة.
وصدر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على
رسوله هداهم. بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.
ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة،
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً
فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ
بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
(1/173)
فوصفهم
بست صفات:
إحداها: الفقر.
الثانية: حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه، ونصر دينه، وأصل الحصر:
المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله وفي
سبيله.
الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، والضرب في الأرض: هو السفر. قال تعالى: 73: 20
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وقال تعالى: 4: 101 وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى.
يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.
الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله
بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء، لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف:
هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص المؤمنين، كما قال
تعالى 15: 75 إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
السادسة: تركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم إلحافا والإلحاف: هو الإلحاح والنفي
متسلط عليهما معا، أي لا يسألون ولا يلحفون. فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف.
وهذا كقوله على لا حب لا يهتدي لمناره أي ليس فيه منار فيهتدي به. وفيه كالتنبيه
على أن المذموم من السؤال: هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير
إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم.
(1/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
فهذه
ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر، وزيه من غير
حقيقته. وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. والله يختص
بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني: الظالمون، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر. فإذا
دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا.
فذكرهم تعالى بعد هذا فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 278]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول
الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل
التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند
انتفائه. ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده. وهي محاربة المرابي لله ورسوله،
[سورة البقرة (2) : آية 279]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
ففي ضمن هذا الوعيد: أن المرابي محارب لله ورسوله، قد آذنه الله بحربه. ولم يجيء
هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد، لأن كل
واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم.
وهذا بامتناعه من تفريح كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها. فأخبر عن قطاع
الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله. وأذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب
رسوله.
ثم قال: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ يعني إن تركتم الربا وتبتم
إلى الله منه، وقد عاقدتم عليه، فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون
الآخذ. ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب
إنظاره إلى ميسرة. وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو
(1/175)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
أفضل
لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحّت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما
ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم، فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه.
فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي.
ثم ذكر العادل في آية التداين
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ
يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا
الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ
تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها.
والغرض إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه
بلا زيادة ولا نقصان.
ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة، التي هي من كنز تحت عرشه.
والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه، وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام
وأصول الإيمان، ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا.
(1/176)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
سورة
آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
تضمنت هذه الآية الكريمة: إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع هذه الطوائف- التي
فصل عقائدها الباطلة قبل هذا- والشهادة ببطلان أقوالهم، ومذاهبهم. وهذا إنما يتبين
بعد فهم الآية، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية، والحقائق الإيمانية.
فتضمنت هذه الآية: أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها من أجلّ شاهد، بأجل مشهود.
وعبارات السلف في «شهد» تدور على: الحكم والقضاء، والإعلام والبيان والإخبار.
قال مجاهد: حكم وقضى. وقال الزجاج: بيّن. وقالت طائفة: أعلم وأخبر.
وهذه الأقوال كلها حق، لا تنافي بينها. فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد، وخبره
وقوله: وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب:
(1/177)
فأول
مراتبها: علم ومعرفة، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم هو به مع نفسه،
ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به، وبخبره به، ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها، ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية، والقيام بالقسط: تضمنت هذه المراتب الأربع:
علم الله سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره خلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
أما مرتبة العلم: فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا
علم له به. قال الله تعالى: 43: 86 شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «على مثلها فاشهد»
وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر: فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به.
وإن لم يتلفظ بالشهادة. قال تعالى: 6: 150 قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ
وقال تعالى:
43: 19 وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً،
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ فجعل ذلك منهم
شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» «1»
وشهادة الزور: هي قول الزور، كما قال تعالى: 22: 31 وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ وعند هذه الآية
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله»
فسمى قول الزور شهادة. وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة، قال تعالى:
__________
(1)
أخرجه الترمذي عن خريم بن فاتك بلفظ: عدلت شهادة الزور بالشرك..
برقم 2300.
(1/178)
4:
135 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. فشهادة المرء على نفسه: هي إقرار المرء على
نفسه.
وفي الحديث الصحيح في قصة ما عز «فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم»
وقال تعالى: 7: 37الُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن
يتلفظ بلفظ الشهادة، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة، وظاهر كلام أحمد. ولا يعرف عن
أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك.
وقد قال ابن عباس: «شهد عندي رجال مرضيّون- وأرضاهم عندي عمر- أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى
تغرب الشمس»
ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وسلم بالجنة: لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة، بل
قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة- الحديث»
.
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فقد دخل
في الإسلام، وشهد شهادة الحق، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة. وقد دخل في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله»
وفي اللفظ الآخر: «حتى يقولوا: لا إله إلا الله» «1»
فدل على أن قولهم:
«لا إله إلا الله» شهادة منهم، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده في الكتاب والسنة.
فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه. والله أعلم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار: فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل.
__________
(1)
أورده الترمذي عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله..»
الحديث. برقم 2606 و 2607.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 387 و 2/ 522.
(1/179)
وهذا
شأن كل معلّم لغيره بأمر: تارة يعلمه بقوله، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل دارا
مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها، وأذن بالصلاة فيها- معلما أنها وقف، وإن لم
يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار- معلما له ولغيره: أنه
يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله. وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه: يكون بقوله تارة، وبفعله تارة أخرى.
فالقول: هو ما أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مما قد علم بالاضطرار: أن جميع الرسل
أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو. وأخبر بذلك. وأمر عباده أن
يشهدوا به.
وشهادته سبحانه: «أنه لا إله إلا هو» معلومة من جهة كل من بلّغ عنه كلامه.
وأما بيانه وإعلامه بفعله: فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته
التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة.
وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة، والإرشاد والبيان،
فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره، كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان
بالفعل أظهر وأبلغ. وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما، لقيامه مقامه،
وأدائه مؤداه. كما قيل:
وقالت العينان: سمعا وطاعة ... وحدّرتا بالدّر لمّا يثقّب
وقال الآخر:
شكا إليّ جملي طول السّرى ... صبرا جميلي، فكلانا مبتلى
وقال الآخر:
امتلأ الحوض، وقال: قطني ... مهلا رويدا، قد ملأت بطني
(1/180)
ويسمى
هذا شهادة أيضا، كما في قوله تعالى: 9: 17 ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فهذه شهادة
منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله، فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون
على أنفسهم بما شهدت بها عليهم.
والمقصود: أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه. فإن دلالتها إنما هي
بخلقه وجعله، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية،
فتتطابقت شهادة القول وشهادة الفعل، كما قال تعالى: 41: 53 سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي
أن القرآن هو الحق. فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية
الكلامية.
وهذه الشهادة الفعلية: قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير.
قال ابن كيسان «1» : شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه:
أنه لا إله إلا هو.
فصل
وأما المرتبة الرابعة: وهي الأمر بذلك والإلزام به، وإن كان مجرد الشهادة لا
يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه، وتتضمنه.
فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر، وألزم عباده به كما قال تعالى:
17: 23 وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقال تعالى:
16: 51 وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ
واحِدٌ وقال تعالى: 98: 5 وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ وقال تعالى: 17: 22 لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وقال
تعالى: 26: 213
__________
(1) هو وهب بن كيسان المدني المؤدب توفي سنة سبع وعشرين ومائة عن سن عالية.
(1/181)
فَلا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد: «أنه لا إله إلا هو» فقد أخبر،
وبين، وأعلم وحكم وقضى: أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل، وإثباتها
أظلم الظلم. فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره. وذلك يستلزم
الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها. وهذا يفهمه المخاطب من
هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتي، أو يستشهد، أو يستطب من ليس أهلا
لذلك، ويدع من هو أهل، فتقول له: هذا ليس بمفت، ولا شاهد، ولا طبيب، المفتي فلان،
والشاهد فلان، والطبيب فلان. فإن هذا أمر منك ونهي.
وأيضا فإن الآية دلت أنه وحده هو المستحق للعبادة. فإذا أخبر أنه وحده المستحق
للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم،
وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت
شهادته الأمر والإلزام بتوحيده.
وأيضا: فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية
وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت. قال تعالى:
37: 151- 154 أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ؟ لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو: متضمن
للإلزام. والله سبحانه أعلم.
فصل
وقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ.
«القسط» هو العدل. فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله.
والتوحيد والعدل: هما جماع صفات الكمال. فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال
والجلال، والمجد والتعظيم الذي لا
(1/182)
ينبغي
لأحد سواه. والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة.
فهذا توحيد الرسل وعدلهم: إثبات حقائق الأسماء والصفات على ما يليق بالرب سبحانه،
والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإثبات القدر، والحكم والغايات المحمودة
بفعله وأمره، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية. الذي هو إنكار الصفات، وحقائق
الأسماء الحسنى، وعدلهم، الذي هو التكذيب بالقدر، أو نفي الحكم والغايات والعواقب
الحميدة التي يفعل الرب لأجلها ويأمر.
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته: يتضمن أمورا.
أحدها: أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق، وإنكارها
وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق. فلا أعدل من توحيد الرسل، ولا أظلم من الشرك. فهو
سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا، حيث شهد بها وأخبر، وأعلم عباده
وبيّن لهم تحقيقها وصحتها، وألزمهم بمقتضاها، وحكم به، وجعل الثواب والعقاب عليها،
وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها.
فالدين كله من حقوقها. والثواب كله عليها. والعقاب كله على تركها. وهذا هو العدل
الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة.
فأوامره كلها تكميل لها. وأمر بأداء حقوقها. ونواهيه كلها صيانة لها عما يهدمها
ويضادها.
وثوابه كلها عليها. وعقابه على تركها، وترك حقوقها.
وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها.
وهي الحق الذي خلقت به المخلوقات. وضدها: هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه
عنه، وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض.
(1/183)
قال
تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة 38: 27 وَما خَلَقْنَا السَّماءَ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ وقال تعالى: 46: 1- 3 حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا
أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ وقال تعالى: 10: 5 هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وقال تعالى:
30: 8 أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ؟ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ وقال تعالى: 15: 85 وَما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما
إِلَّا بِالْحَقِّ وهذا كثير في القرآن.
والحق الذي خلقت به السموات والأرض، ولأجله: هو التوحيد وحقوقه: من الأمر والنهي.
والثواب والعقاب، والشرع والقدر، والخلق، والثواب والعقاب: قائم بالعدل. والتوحيد
صادر عنهما. وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى. قال تعالى
حكاية عن نبيه هود أنه قال: 11: 56 إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها. إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله. فهو يقول الحق ويفعل العدل: 6: 115
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 33: 4 وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ.
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى: هو مقتضي التوحيد والعدل. قال
تعالى: 16: 76 وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا
يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(1/184)
والصنم
مثل العبد الذي هو كلّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير.
والمقصود: أن قوله تعالى قائِماً بِالْقِسْطِ:: هو كقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقوله: قائِماً بِالْقِسْطِ: نصب على الحال. وفيه وجهان.
أحدهما: أنه حال من الفاعل في «شهد الله» والعامل فيه معنى الفعل. والمعنى على هذا
على هذا: شهد الله حال قيامه بالقسط: أنه لا إله إلا هو.
والثاني: أنه حال من قوله: «هو» والعامل فيها معنى النفي، أي لا إله إلا هو حال
كونه قائما بالقسط.
وبين التقديرين فرق ظاهر. فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى: شهد الله متكلما
بالعدل به، آمرا به، فاعلا له، مجازيا عليه: أنه لا إله إلا هو.
فإن العدل يكون في القول والفعل، و «المقسط» هو العادل في قوله وفعله.
فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا: أنه لا إله إلا هو. وفي ذلك تحقيق لكون هذه
الشهادة شهادة عدل وقسط. وهي أعدل شهادة، كما أن المشهود به أعدل الشيء، وأصحه
وأحقه.
وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية: ما يشهد بذلك. وهو «أن حبرين من أحبار
الشام قدما على النبي صلّى الله عليه وسلّم. فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما
لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على
النبي صلّى الله عليه وسلّم قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا:
وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة. فإن أخبرتنا بها آمنا بك.
قال سلاني. قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت: شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية» .
(1/185)
وإذا
كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل: كان المعنى: أنه كان سبحانه يشهد، وهو
قائم بالعدل عالم به، لا بالظلم. فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا. فإنها تضمنت
أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون
السعداء. وأن الذين أشركوا به غيره: هم الضالون الأشقياء. فإذا شهد قائما بالعدل
المتضمن جزاء المخلصين بالجنة، وجزاء المشركين بالنار: كان هذا من تمام موجب
الشهادة، وتحقيقها. وكان قوله: «قائما بالقسط» تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد
لها. والله أعلم.
فصل
وأما التقدير الثاني- وهو أن يكون قوله: «قائما» حالا مما بعد «إلا» - فالمعنى:
أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل. فهو وحده المستحق الإلهية، مع كونه قائما بالقسط.
قال شيخنا: وهذا التقدير أرجح. فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم، يشهدون له
بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
قلت: مراده: أنه إذا كان قوله: «قائما بالقسط» حالا من المشهود به: فهو كالصفة له.
فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها. فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها، كان
كلاهما مشهودا به. فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط، كما
شهدوا بأنه لا إله إلا هو.
والتقدير الأول لا يتضمن ذلك. فإنه إذا كان التقدير: شهد الله قائما بالقسط: أنه
لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو- كان القيام
بالقسط حالا من اسم الله وحده.
وأيضا: فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة.
(1/186)
فإن
قيل: فإذا كان حالا من «هو» فهلا اقترن به؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينها
بالمعطوف، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها؟.
قلت: فائدته ظاهرة. فإنه لو قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط
والملائكة وأولو العلم- أو هم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله «قائما
بالقسط» ويحسن العطف لأجل الفصل. وليس المعنى على ذلك قطعا. وإنما المعنى على
خلافه. وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية. فهو وحده الإله
المعبود المستحق للعبادة. وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل.
قوله: «لا إله إلا هو» ذكر محمد بن جرير الطبري «1» أنه قال: الأولى وصف وتوحيد.
والثانية: رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
ومعنى هذا: أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها.
والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة الله، لا عن شهادته هو. وليس في ذلك شهادة من
التالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي. فيكون شاهدا هو بها أيضا.
وأيضا: فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد. والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله:
«الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فتضمنت الآية توحيده وعدله، وعزته وحكمته.
__________
(1) هو الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ والمصنفات
الكثيرة، سمع إسحاق بن إسرائيل ومحمد بن حميد الرازي وطبقتهما، وكان مجتهدا لا
يقلد أحدا، قاله في العبر قال إمام ائمة ابن خزيمة: ما اعلم على الأرض أعلم من
محمد بن جرير. قال أبو حامد الإسفرائني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحص
تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا، وكذلك أثنى ابن تيمية على تفسيره للغاية. ولد
بآمل طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة عشر وثلاثمائة ليومين بقيا من
شوال. (انظر شذرات الذهب) .
(1/187)
فالتوحيد
يتضمن ثبوت صفات كماله، ونعوت جلاله، وعدم المماثل له فيها، وعبادته وحده لا شريك
له.
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئا منها إلا
بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء،
وان كان هو الذي جعله مستحقا.
والعزة تتضمن كمال قدرته، وقوته وقهره.
والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهي، وخلق وقدر، لما له في ذلك من
الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.
فاسمه «العزيز» يتضمن الملك. واسمه «الحكيم» يتضمن الحمد.
وأول الآية يتضمن التوحيد، وذلك حقيقة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» .
وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنبيون من قبله.
و «الحكيم» الذي إذا أمر بأمر كان المأمور به حسنا في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان
المنهي عنه قبيحا في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلا كان صوابا.
وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره.
وهذا الوصف على الكمال: لا يكون إلا لله وحده.
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم،
وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب.
ففيها: الشهادة له بالتوحيد والعدل والقوة، والعلم والحكمة، ولهذا كانت أعظم
شهادة.
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف. إلا أهل السنة، وسائر طوائف أهل
البدع لا يقومون بها.
(1/188)
فالفلاسفة
أشد الناس إنكارا لها، وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها.
وطوائف الاتحادية: هم أبعد خلق الله منها من كل وجه.
وطائفة الجهمية: تنكر حقيقتها من وجوه.
منها: أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه، وإنابة.
وعندهم: أن الله لا يحبّ، ولا يحبّ.
ومنها: أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به. وهو عندهم: لا يقول ولا يتكلم، ولا
يشهد ولا يخبر.
ومنها: أنها تضمنت مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم: أنه لا يباين الخلق
ولا يحايثهم، وليس فوق العرش إله يعبد، ولا رب يصلى له ويسجد. وعند حلوليتهم: أنه
حال في كل مكان بذاته، حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكرها. فهؤلاء الجهمية،
وأولئك نفاتهم.
ومنها: أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله. وعندهم: أنه لم يقم به فعل، في مقدوره
ما يكون ظلما ولا قسطا، بل الظلم عندهم: هو المحال الممتنع لذاته. والقسط: هو
الممكن. فنزه نفسه سبحانه- على قولهم- عن المحال الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت
القدرة.
ومنها: أن العزة هي القوة والقدرة. وعندهم: لا يقوم به صفة.
ومنها: أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون
وجودها أولى من عدمها. وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه وتعالى. فلا يفعل لحكمة،
ولا غاية لفعله ولا أمره. وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل.
ومنها: أن الإله: هو الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهو
(1/189)
الذي
يفعل بقدرته، ومشيئته وحكمته. وهو الموصوف بالصفات والأفعال، المسمى بالأسماء التي
قامت به حقائقها ومعانيها. وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل، وهم أهل
العدل والتوحيد على الحقيقة.
فصل
فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب. ووجهه لا يراد، ولا يلتذ بالنظر إليه،
ولا تشتاق القلوب إليه، فهم في الحقيقة منكرون لإلهيته.
والقدرية: تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته
وخلقه. فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه.
والجبرية: تنكر حكمته، وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها. فهم
منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده.
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما: ينكرون أن يكون ربهم ماهية غير الوجود
المطلق، وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود. فهم في الحقيقة منكرون لذات
ربنا وصفاته وأفعاله، لا يتحاشون من ذلك.
والاتحادية: أدهى وأمرّ. فإنهم رفعوا القواعد من الأصل، وقالوا: ما ثم وجود خالق
ووجود مخلوق، بل الخلق المشبّه هو عين الحق المنزه، كل ذلك من عين واحدة، بل هو
العين الواحدة.
فهذه الشهادة العظيمة: كل هؤلاء هم بها غير قائمين. وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه
ورده، كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده. وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك
والتعطيل. ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل التوحيد والإثبات الذين يثبتون لله ما
أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويعبدونه وحده لا
يشركون به شيئا.
(1/190)
فصل
وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه لعباده، ودلالتهم وتعريفهم لما شهد به، وإلا
فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا بها، ولم يقم عليهم بها الحجة،
كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة، ولم يبينها. بل كتمها: لم ينتفع بها
أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة:
السمع، والبصر، والعقل.
أما السمع: فبسمع آياته المتلوة القولية، المتضمنة لإثبات صفات كماله. ونعوت جلاله
وعلوه على عرشه فوق سبع سماواته، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن يشاء من عباده تكلما
وتكليما، حقيقة لا مجازا.
وفي هذا إبطال لقول من قال: إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية: من
إثبات معانيها، وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها. فإن هذا ضد البيان والأعلام.
ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان. وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من
الله. وأخبر أنه من أظلم الظالمين.
فإذا كانت عند العبد شهادة من الله تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته، وتوحيد
مرسله، وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم، وكتم هذه الشهادة- كان من
أظلم الظالمين، كما فعله أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود الذين
كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم الشهادة الحقّ التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة
والمعطلة، ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها، ولا يجامعها
بوجه ما؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه القاهر فوق عباده، وبأن
ملائكته يخافونه من فوقهم، وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر،
(1/191)
وتنزل
من عنده به، وأن العمل الصالح يصعد إليه، وأنه يأتي ويجيء، ويتكلم ويرضى ويغضب
ويحب وينادي، ويفرح ويضحك، وأنه يسمع ويبصر، وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم
لقائه- إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه، وشهد له به رسله، وشهدت له الجهمية بضد ذلك،
وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص، فإن النصوص تضمنت كتمان الحق، وإظهار
خلافه. فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب، وتتضمن أن الذي شهد به بيّنه
وأوضحه وأظهره، حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان، وأنه لو كان الحق فيما
يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه. فإن الحق
الذي هو في نفس الأمر عندهم لم يشهد الله به لنفسه، ولم يظهره ولم يوضحه. فليس
بحق، ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين.
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها، والاستدلال بها. فإنها تدل على ما تدل
عليه آياته القولية السمعية. وآيات الرب: هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف
لعباده. فيها يعرفون أسماءه وصفاته، وتوحيده وأمره ونهيه.
فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به، وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك
بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك، وهي آياته العيانية. والعقل يجمع بين هذه وهذه.
فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتنفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.
وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر، وإقامته للحجة- لم
يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به. قال تعالى: 57: 35
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ
وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وقال تعالى: 16: 43، 44 وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وقال تعالى:
3: 183 قُلْ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
(1/192)
بِالْبَيِّناتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
وقال تعالى: 35: 25 وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ حتى
أن من أخفى آيات الرسل: آيات هود حتى قال له قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا
بِبَيِّنَةٍ ومع هذا فبينته من أظهر البينات. وقد أشار إليها بقوله 11: 54 إِنِّي
أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ،
فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ
رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهذا من أعظم الآيات: أن رجلا واحدا يخاطب أمة
عظيمة بهذا الخطاب، في غير جزع ولا فزع، ولا خور، بل هو واثق بما قاله جازم به. قد
أشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه، إشهاد واثق به، معتمد عليه، معلم
لقومه أنه سبحانه وليه وناصره، وغير مسلطهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة:
أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون، ويبذلون دماءهم وأموالهم في
نصرتها، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم، واحتقارهم، وازدرائهم، وأنهم لو يجتمعون
كلهم على كيده، وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، وفي ضمن ذلك: أنهم أضعف
وأعجز وأقل من ذلك، وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين.
ثم قرر دعوته أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه
ووكيله، القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم. فلا يخذل من توكل عليه، وآمن
به، ولا يشمت به أعداءه، ولا يكون معهم عليه. فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في
قوله وفعله: يمنع ذلك ويأباه.
وتحت هذا الخطاب: أن من صراطه المستقيم: أن ينتقم ممن خرج عنه، وعمل بخلافه، وينزل
به بأسه. فإن الصراط المستقيم: هو العدل الذي الرب تعالى عليه. ومنه: انتقامه من
أهل الشرك والإجرام، ونصره
(1/193)
أولياءه
ورسله على أعدائهم، وأن يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم، ولا يضره ذلك شيئا، وأنه
القائم سبحانه على كل شيء: حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء.
فأي آية وبرهان ودليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من الله
سبحانه لهم، بينها لعباده غاية البيان، وأظهرها لهم غاية الإظهار، بقوله وفعله،
وفي الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتى
من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ.
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
. ومن أسمائه تعالى «المؤمن» وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما
يقيم لهم من شواهد صدقهم. فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم
بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم، قضاء وخلقا. فإنه سبحانه أخبر،
وخبره الصدق. وقوله الحق:
أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية: ما يبين لهم أن الوحي الذي
بلغه رسوله حق. فقال تعالى 41: 53 سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي القرآن. فإنه هو
المتقدم في قوله 41: 52 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ
كَفَرْتُمْ بِهِ ثم قال 41:
53 أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟.
فشهد سبحانه لرسوله بقوله: أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية
الخلقية ما يشهد بذلك أيضا.
ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء. فإن من أسمائه
«الشهيد» الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له،
عليهم بتفاصيله.
وهذا الاستدلال بأسمائه وصفاته. والأول: استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال
بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
(1/194)
فإن
قلت: قد فهمت الاستدلال بكلماته، والاستدلال بمخلوقاته، فبين لي كيفية الاستدلال
بأسمائه وصفاته. فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا.
قلت: أجل، وهو لعمر الله كما ذكرت، وشأنه أجل وأعلى. فإن الرب تعالى هو المدلول
عليه وآياته هي الدليل والبرهان.
فاعلم أن الله سبحانه- في الحقيقة- هو الدال على نفسه بآياته. فهو الدليل لعباده
في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات. وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس
بالتقليد والتعطيل والجحود: أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل
كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
فالكمال كله والجلال، والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء: كله من لوازم ذاته،
يستحيل أن يكون على غيره ذلك. فالحياة كلها له، والعلم كله له، والقدرة كلها له،
والسمع، والبصر والإرادة، والمشيئة والرحمة، والغناء والجود، والإحسان والبر: كله
خاص له، قائم به. وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه، بل لا
نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه.
ومن كماله المقدس: اطلاعه على كل شيء، وشهادته عليه. بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه
تفاصيله، ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا. ومن هذا شأنه، كيف يليق بالعباد أن
يشركوا به غيره، وأن يعبدوا معه غيره، ويجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن
يقرّ من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك،
ويؤيده ويعلي كلمته، ويرفع شأنه ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات
والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر؟ وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر، ساع في الأرض
بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته على كل شيء،
(1/195)
وحكمته
وعزته وكماله المقدس: يأبى ذلك كل الإباء. ومن ظن ذلك به وجوزه عليه، فهو من أبعد
الخلق عن معرفته، وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة، وصفة المشيئة.
والقرآن مملوء من هذه الطريق. وهي طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة، هم الذين يستدلون
بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله، وما لا يفعله.
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك. فيبديه ويعيده لمن له فهم، وقلب واع عن
الله. قال الله تعالى: 69: 44 وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ 45 ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ 46 فَما
مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ 47 أفلا تراه كيف يخبر سبحانه: أن كماله
وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل أن يجعله عبرة لعباده.
كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه. وقال تعالى: 42: 24 أَمْ يَقُولُونَ:
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ
هاهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ: أنه يمح الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: 6: 91 وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِذْ قالُوا: ما
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم
يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمة كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر
الكاذب المفترى عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا في القرآن كثير
جدا يستدل بكماله المقدس، وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده، ويدعو
عباده إلى ذلك، كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في
قوله 59: 22- 23 هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ،
الْجَبَّارُ،
(1/196)
الْمُتَكَبِّرُ،
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن.
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة،
وأن كماله المقدس يمنع من شرعها، كقوله 7: 28 وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا:
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا، وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وقوله عقيب
ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش، والقول على الله بلا علم 17: 38 كُلُّ
ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه
فهو سبحانه يكرهه، وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا، فهو سبحانه يدل عباده
بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به، ويحبه ويبغضه، ويثيب عليه ويعاقب عليه،
ولكن هذه الطريقة لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة. فلذا كانت طريقة الجمهور
والدلالات بالآيات المشاهدة. فإنها أوسع وأسهل تناولا، والله سبحانه يفضل بعض خلقه
على بعض، ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره. فإنه الدعوة والحجة، وهو الدليل
والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود له، وهو الحكم والدليل، وهو الدعوى والبينة.
قال الله تعالى: 11: 13 أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ
شاهِدٌ مِنْهُ أي من ربه وهو القرآن. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله
له: 29: 50، 51 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى
عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى
بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ.
فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي من كل آية، ففيه الحجة،
والدلالة على أنه من الله، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله.
وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة والنجاة من العذاب. ثم قال 29:
(1/197)
52
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فإذا كان سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها.
فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به. فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم.
وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته، وقدرته وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه
وأمره، ورحمته عند ذكره إرسال رسله، وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم، وسمعه عند
دعائه ومسألته وعزته، وعلمه عند قضائه وقدرته.
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب.
فصل
ومن هذا قوله تعالى: 14: 43 وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا.
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتابِ.
فاستشهد على رسالته بشهادة الله له. ولا بد أن تعلم هذه الشهادة، وتقوم بها الحجة
على المكذبين له.
وكذلك قوله 6: 19 قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.
وكذلك قوله 4: 166 لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
وكذلك قوله 33: 1- 3 يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وقوله 2: 252 تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّكَ
لَمِنَ
(1/198)
الْمُرْسَلِينَ
وقوله 63: 2 وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وقوله 48:
29 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فهذا كله شهادة منه لرسوله. قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع
العذر بينه وبين عباده. وأقام الحجة عليهم.
فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة: عقليّها، ونقليّها، وفطريها،
وضروريها، ونظريها.
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها
وأظهرها، وصدقه بسائر التصديق: بقوله الذي أقام به البراهين على صدقه فيه، وبفعله
وإقراره، وبما فطر عليه عباده، من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا
يليق به. وكل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به
العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة، والظفر والتأييد. ويحكم
على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال، والعقوبات المعجلة، الدالة
على تحقيق العقوبات المؤجلة 48: 28 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
فيظهره ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان والدلالة، وظهورا بالنظر والغلبة والتأييد،
حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورا.
وقوله 4: 166 لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا
يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله، كما قال في الآية الأخرى 11: 13:
14 أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ. قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَياتٍ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله، وأنه معلوم له، كما يعلم سائر
(1/199)
الأشياء.
فإن كل شيء معلوم له سبحانه: من حق وباطل- وإنما المعنى:
إنزاله مشتملا على علمه. فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده، وأنه حق
وصدق.
ونظير هذا قوله 25: 6 قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ذكر سبحانه ذلك تكذيبا وردا على من قاله: افتراه.
فصل
ومن شهادته أيضا: ما أودعه في قلوب عباده: من التصديق الجازم، واليقين الثابت،
والطمأنينة بكلامه ووحيه.
فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين،
والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته، بل يوقع أعظم الريب والشك،
وتدفعه الفطر والعقول السليمة، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية
الخبيثة الضارة، التي لا تغذى، كالأبوال والأنتان. فإن الله سبحانه فطر القلوب على
قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه، ومحبته. وفطرها على بغض الكذب
والباطل، والنفور عنه، والريبة به. وعدم السكون إليه. ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت
غيره. ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن. فإن كل من تدبره أوجب له
تدبّره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق. وأن
الذي جاء به أصدق خلق الله، وأبرهم، وأكملهم علما وعملا ومعرفة، كما قال تعالى: 4:
82 أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وقال تعالى:
47: 24 أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فلو رفعت
الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت
علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية: من الفرح والألم،
(1/200)
والحب
والخوف- أنه من عند الله تكلم به حقا، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد.
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له
«فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
فقال: لا. فقال له: وكذلك الايمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد» .
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله 29: 49 بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي
صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وقوله 34: 6 وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وقوله 22: 54
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا
بِهِ وقوله 13: 19 أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ وقوله 13: 27 وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ،
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.
يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية، بل الله هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم
على أعظم آية وأجابها: وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكر الله الذي أنزله. فقال 13:
28 الَّذِينَ آمَنُوا، وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فطمأنينة القلوب الصحيحة، والفطر السليمة به.
وسكونها إليها: من أعظم الآيات، إذ يستحيل في العادة: أن تطمئن القلوب وتسكن إلى
الكذب والافتراء والباطل.
فإن قيل: فلم لم يذكر سبحانه شهادة رسله مع الملائكة. فقال: شهد الله أنه لا إله
إلا هو والملائكة والرسل، وهم أعظم شهادة من أولي العلم؟.
قيل: في ذلك عدة فوائد:
أحدها: أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء. فيدخلون هم وأتباعهم.
(1/201)
وثانيها:
أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة، وتعليقها بهم: ما يدل على أنها من موجبات
العلم. ومقتضياته، وأن من كان من أولي العلم، فإنه يشهد بهذه الشهادة، كما يقال:
إذا طلع الهلال، واتضح: كل من كان من أهل النظر يراه. وإذا فاحت رائحة ظاهرة: كل
من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة. قال تعالى: 79: 36 وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِمَنْ يَرى كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا.
ففي هذا بيان أن من لم يشهد له سبحانه بهذه الشهادة، فهو من أعظم الجهال وإن علم
من أمور الدنيا ما لم يعلمه غيره. فهو من أولي الجهل، لا من أولي العلم.
وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة وأداها على وجهها إلا أتباع الرسل:
أهل الإثبات. فهم أولو العلم. وسائر من عداهم أولو الجهل، وإن وسعوا القول وأكثروا
الجدال.
ومنها: الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة: أنهم أولو العلم.
فشهادته سبحانه لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة، والفرعونية لهم: بأنهم
جهال، وأنهم حشوية، وأنهم مشبهة، وأنهم مجسمة، ونوابت ونواصب.
فكفاهم شهادة أصدق الصادقين لهم: بأنهم من أولي العلم، إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد
به لنفسه، من غير تحريف ولا تعطيل. وأثبتوا له حقيقة هذه الشهادة بكل مضمونها.
وخصومهم نفوا عنه حقائقها، وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها.
فصل
وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية: الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم. فإنه
سبحانه قرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته. واستشهد
(1/202)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
بهم
جل وعلا على أجل مشهود به، وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة، كما يحتج بالبينة
على من أنكر الحق. فالحجة قامت بالرسل على الخلق، وهؤلاء نواب الرسل، وخلفاؤهم في
إقامة حجج الله على العباد.
فصل
قد فسرت شهادة أولي العلم: بالإقرار. وفسرت بالتبيين والإظهار.
والصحيح: أنها تتضمن الأمرين. فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام، وهم شهداء لله على
الناس يوم القيامة. قال الله تعالى: 2: 142 وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً وقال تعالى: 22: 78 هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي
هذا، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا، ونوّه بذكرهم قبل أن يوجدهم، لما سبق في
علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة. فمن لم يقم بهذه الشهادة
علما وعملا ومعرفة، وإقرارا ودعوة، وتعليما وإرشادا، فليس من شهداء الله. والله
المستعان.
[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
اختلف المفسرون: هل هو كلام مستأنف، أو داخل في مضمون هذه الشهادة. فهو بعض
المشهود به.
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر «إن» وفتحها. فالأكثرون على كسرها. على
الاستئناف. وفتحها الكسائي وحده.
والوجه: هو الكسر. لأن الكلام الذي قبله قد تم. فالجملة الثانية:
مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها. وهذا أبلغ في التقرير، وأدخل في المدح والثناء.
ولهذا كان كسر «إن» من قوله 52: 28 إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ
هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ أحسن من الفتح. وكان الكسر في قول الملبي «لبيك
(1/203)
إن
الحمد والنعمة لك» أحسن من الفتح.
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين. فهي واقعة على إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلامُ وهو المشهود به. ويكون فتح «أنه» من قوله «أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ» على إسقاط حرف الجر، أي بأنه لا إله إلا هو. وهذا توجيه الفراء. وهو
ضعيف جدا. فإن المعنى على خلافه، وأن المشهود به: هو نفس قوله «أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ» فالمشهود به «إن» وما في حيّزها.
والعناية إلى هذا صرفت، وبه حصلت.
ولكن لهذا القول- مع ضعفه- وجه. وهو أن يكون المعنى: شهد الله بتوحيده: أن الدين
عند الله الإسلام. والإسلام: هو توحيده سبحانه.
فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه: أنه الإسلام لا غيره.
الوجه الثاني: أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا، كلاهما مشهود به على تقدير
حذف الواو وإرادتها. والتقدير: وأن الدين عنده الإسلام. فتكون جملة استغنى فيها عن
حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه، كما وقع الاستغناء عنها في قوله: 18: 22
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ
كَلْبُهُمْ فيحسن ذكر الواو وحذفها، كما حذفت هاهنا، وذكرت في قوله 18: 22
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
الوجه الثالث: - وهو مذهب البصريين- أن يجعل «ان» الثانية بدلا من الأولى.
والتقدير: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام. وقوله «أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ» توطئة للثانية وتمهيد. ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول. فإن
الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله، هو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها.
ولك أن تجعله على هذا الوجه- من باب بدل
(1/204)
الاشتمال.
لأن الإسلام يشتمل على التوحيد.
فإن قيل: فكان ينبغي- على هذه القراءة- أن يقول: إن الدين عند الله الإسلام. لأن
المعنى: شهد الله أن الدين عنده الإسلام. فلم عدل إلى لفظ الظاهر؟
قيل: هذا يرجح قراءة الجمهور، وأنها أفصح وأحسن. ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام
المضمر. وقد ورد في القرآن، وكلام العرب كثيرا.
قال الله تعالى: 2: 196 وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ وقال 2: 235 اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
وقال تعالى:
7: 170 وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ. إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
قال ابن عباس: افتخر المشركون بآبائهم، فقال كل فريق: لا دين إلا دين آبائنا وما
كانوا عليه، فأكذبهم الله تعالى فقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
يعني الذي جاء به محمد، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس الله دين سواه 3:
85 وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وقد دل قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
على أنه دين أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا
يكون له دين سواه. قال أول الرسل نوح فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وقال إبراهيم وإسماعيل رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ 2: 132 وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ- إلى قوله- وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ وقال موسى لقومه إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ قالَ
(1/205)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
مَنْ
أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
وقالت ملكة سبأبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ.
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد
دينا سواه. فأديان أهل الأرض ستة: واحد للرحمن وخمسة للشيطان. فدين الرحمن هو
الإسلام والتي للشيطان: اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين.
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآيات العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل
الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل.
[سورة آل عمران (3) : آية 26]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ
الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
«اللهم» لا خلاف أن لفظ «اللهم» معناها: يا الله: ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب.
فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اللهم اغفر لي وارحمني.
واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم.
فقال سيبويه: زيدت عوضا من حرف النداء. ولذلك لا يجوز الجمع بينهما في اختيار
الكلام، فلا يقال «يا اللهم» إلا فيما ندر، كقول الشاعر:
إني إذا ما حدث ألمّا ... أقول: يا اللهم، يا اللهم
ويسمى ما كان من هذا الضرب عوضا. إذ هو في غير محل المحذوف. فإن كان في محله سمّي
بدلا، كالألف في «قام، وباع» فإنها بدل من الواو والياء. ولا يجوز عنده أن يوصف
هذا الاسم أيضا. فلا يقال:
يا اللهم الرحيم ارحمني، ولا يبدل منه.
والضمة التي على الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد. وفتحت الميم لسكونها وسكون الميم
التي قبلها. وهذا من خصائص هذا الاسم. كما
(1/206)
اختص
بالتاء في القسم. وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف، وبقطع همزة وصله في
النداء، وبتفخيم لامه وجوبا غير مسبوقة بحرف إطباق. هذا ملخص مذهب الخليل وسيبويه.
وقيل: الميم عوض عن جملة محذوفة. والتقدير: يا الله أمنّا بخير، أي اقصدنا ثم حذف
الجار والمجرور، وحذف المفعول. فبقي في التقدير:
يا الله أمّ. ثم حذفت الهمزة، لكثرة دوران هذا الاسم في الدعاء على ألسنتهم، فبقي
«يا اللهم» وهذا قول الفراء.
وصاحب هذا القول يجوّز دخول «يا» عليه. ويحتج بقول الشاعر:
يا اللهم ما اردد علينا سحا مسلما
وبالبيت المتقدم وغيرهما.
ورد البصريون هذا بوجوه.
أحدها: أن هذه التقادير لا دليل عليها، ولا يقتضيها القياس، فلا يصار إليها بغير
دليل.
الثاني: أن الأصل عدم الحذف، فتقدير هذه المحذوفات الكثيرة خلاف الأصل.
الثالث: أن الداعي بهذا قد يدعو بالشر على نفسه وعلى غيره. فلا يصح هذا التقدير
فيه.
الرابع: أن الاستعمال الشائع الفصيح يدل على أن العرب لم تجمع بين «يا» و «اللهم»
ولو كان أصله ما ذكره الفراء لم يمتنع الجمع. بل كان استعماله فصيحا شائعا. والأمر
بخلافه.
الخامس: أنه لا يمتنع أن يقول الداعي: اللهم أمّنا بخير. ولو كان التقدير كما
ذكره، لم يجز الجمع بينهما، لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه.
(1/207)
السادس:
أن الداعي بهذا الاسم لا يخطر ذلك بباله، وإنما تكون عنايته مجردة إلى المطلوب بعد
ذكر الاسم.
السابع: أنه لو كان التقدير ذلك لكان «اللهم» جملة تامة، يحسن السكوت عليها.
لاشتمالها على الاسم المنادى وفعل الطلب. وذلك باطل.
الثامن: أنه لو كان التقدير ما ذكره لكتب فعل الأمر وحده، ولم يوصل باسم المنادى
كما يقال: يا الله قه «1» ، ويا زيد عه «2» ، ويا عمرو فه «3» . لأن الفعل لا يوصل
بالاسم الذي قبله حتى يجعلا في الخط كلمة واحدة. هذا لا نظير له في الخط وفي
الاتفاق على وصل الميم باسم الله دليل على أنها ليست بفعل مستقل.
التاسع: أنه لا يسوغ ولا يحسن في الدعاء أن يقول العبد: اللهم أمّني بكذا بل هذا
مستكره من اللفظ والمعنى. فإنه لا يقال: اقصدني بكذا إلا لمن كان يعرض له الغلط
والنسيان، فيقول له: اقصدني. وأما من كان لا يفعل إلا بإرادته، ولا يضل ولا ينسى.
فلا يقال له: اقصد كذا.
العاشر: أنه يسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء.
كقوله صلّى الله عليه وسلّم في الدعاء «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكي، وأنت
المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله»
وقوله «اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك: أنك أنت الله
لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك»
وقوله تعالى: 3: 26 قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ
مَنْ تَشاءُ- وقوله:
39: 46 قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك،
اللهم اغفر لي» .
__________
(1) قه: فعل أمر من الوقاية.
(2) عه: فعل أمر من الوعي.
(3) فه: فعل أمر من الإيفاء.
(1/208)
فهذا
كله لا يسوغ فيه التقدير الذي ذكروه. والله أعلم.
وقيل: زيدت الميم للتعظيم والتفخيم، كزيادتها في زرقم، لشديد الزرقة، وابنم في ابن.
وهذا القول صحيح. لكن يحتاج إلى تتمة. وقائله لحظ معنى صحيحا، لا بد من بيانه.
وهو أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ومخرجها يقتضي ذلك.
وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى. كما هو مذهب أساطين
العربية. وعقد له أبو الفتح ابن جنى بابا في الخصائص. وذكره عن سيبويه. واستدل
عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى.
ثم قال: ولقد مكثت برهة يرد عليّ اللفظ لا أعلم موضوعه، فأجد معناه من قوة لفظه،
ومناسبة تلك الحروف لذلك المعنى. ثم أكشفه فأجده كما فهمته أو قريبا منه. فحكيت
لشيخ الإسلام هذا عن ابن جنى. فقال:
وأنا كثيرا ما يجرى لي ذلك. ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ
والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى
الحركات للمعنى الأقوى. والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف. والمتوسطة للمتوسط.
فيقولون: عزّ يعز. بفتح العين- إذا صلب. وأرض عزاز: صلبة. ويقولون: عز يعزّ-
بكسرها- إذا امتنع.
والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره. ثم يقولون: عزّه
يعزّه. إذا غلبه. قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام 38: 23 وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ والغلبة أقوى من الامتناع، إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه، متحصنا عن
عدوه، ولا يغلب غيره. فالغالب أقوى من الممتنع، فأعطوه أقوى الحركات- وهو الضمة-
والصلب أضعف من الممتنع. فأعطوه أضعف الحركات- وهو الفتحة- والممتنع المتوسط بين
المرتبتين حركة الوسط.
ونظير هذا قولهم «ذبح» - بكسر أوله- للمحل الذبوح: و «ذبح» -
(1/209)
بفتح
أوله- لنفس الفعل. ولا ريب أن الجسم أقوى من العرض، فأعطوا الحركة القوية للقوي،
والضعيفة للضعيف، وهو مثل قولهم «نهب، ونهب» بالكسر للمنهوب وبالفتح للفعل.
وكقولهم «ملء، وملء» بالكسر، لما يملأ الشيء، وبالفتح للمصدر، الذي هو الفعل.
وكقولهم «حمل، وحمل» فبالكسر لما كان قويا مثقلا لحامله على ظهره أو رأسه، أو
غيرهما من أعضائه، و «الحمل» بالفتح، لما كان خفيفا غير مثقل، كحمل الحيوان، وحمل
الشجرة به أشبه، ففتحوه.
وتأمل هذا في «الحبّ والحبّ» فجعلوا المكسور الأول لنفس المحبوب، ومضمومه للمصدر،
إيذانا بخفة المحبوب على قلوبهم، ولطف موقعه من أنفسهم وحلاوته عندهم، وثقل حمل
الحب ولزومه، كما يلزم الغريم غريمه، ولهذا يسمى غراما. ولهذا كثر وصفهم تحمله
بالشدة والصعوبة، وإخبارهم بأن أعظم المخلوقات وأشدها من الصخر والحديد ونحوهما لو
حمله لذاب من حمله، ولم يستقل به. كما هو كثير في أشعار المتقدمين والمتأخرين
وكلامهم. فكان الأحسن: أن يعطوا المصدر هنا الحركة القوية، والمحبوب الحركة التي
هي أخف منها.
ومن هذا: قولهم «قبض» بسكون وسطه للفعل، و «قبض» بتحريكه للمقبوض. والحركة أقوى من
السكون والمقبوض أقوى من المصدر.
ونظيره: «سبق» بالسكون للفعل، و «سبق» بالفتح: للمال المأخوذ في هذا العقد.
وتأمل قولهم «دار، دورانا» و «فارت القدر، فورانا» و «وغلت، غليانا» كيف تابعوا
بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى.
فطابق اللفظ المعنى.
وتأمل قولهم «حجر» و «هواء» كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد
(1/210)
هذه
الحروف الشديدة، ووضعوا للمعنى الخفيف: الهواية، التي هي من أخف الحروف.
وهذا أكثر من أن يحاط به، وإن مد الله في العمر وضعت فيه كتابا مستقلا إن شاء الله
تعالى.
ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن، ورقة طبع. ولا تتأتى مع غلظ القلوب، والرضى
بأوائل مسائل النحو والتصريف، دون تأملها وتدبرها، والنظر إلى حكمة الواضع،
ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق عن أكثر العقول. وهذا باب
ينبه الفاضل على ما وراءه 24: 40 وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما
لَهُ مِنْ نُورٍ.
وانظر في تسميتهم الغليظة الجافي بالعتلّ والجعظري، والجواظ، كيف تجد هذه الألفاظ
تنادي على ما تحتها من المعاني.
وانظر إلى تسميتهم الطويل بالعشنّق. وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى
الطول، وتسميتهم القصير بالبحتر، وموارتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل، وهو
العشنق، وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في البحتر، كيف يقتضي اللفظ الأول: انفتاح
الفم، وانفراج آلات النطق، وامتدادها، وعدم ركوب بعضها بعضا، وفي اسم البحتر الأمر
بالضد.
وتأمل قولهم: طال الشيء، فهو طويل، وكبر كبير. فإن زاد طوله وكبره قالوا: طوالا،
وكبارا، فأتوا بالألف التي هي أكثر مدا، وأطول من الياء في الأطول. فإن زاد كبر
الشيء، وثقل موقعه من النفوس ثقّلوا اسمه، فقالوا: كبّارا بشد الباء.
ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك لطال مداه، واستعصى على الضبط.
فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه فنقول:
(1/211)
الميم
حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه، فوضعته العرب علما على الجمع، فقالوا للواحد: أنت،
فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: أنتم. وقالوا للواحد الغائب: هو، فإذا جاوزوه إلى
الجمع، قالوا: هم. وكذلك في المتصل يقولون: ضربت، وضربتم، وإياك، وإياكم، وإياه،
وإياهم، ونظائره، نحو: به وبهم. ويقولون للشيء الأزرق، فإذا اشتدت زرقته واجتمعت
واستحكمت قالوا: زرقم ويقولون للكبير الاست: ستهم بوزن قنفذ.
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم، كيف تجد الجمع معقودا بها، مثل لمّ الشيء يلتمه،
إذا جمعه. ومنه لمّ الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. ومنه قولهم: دار لمومة.
أي تلم الناس وتجمعهم. ومنه: الأكل اللّمّ، جاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب
صاحبه. وأصله من اللم، وهو الجمع، كما يقال: لفه يلفّه. ومنه: ألم بالشيء، إذا
قارب الاجتماع به والوصول إليه.
ومنه اللمم. وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر. ومنه الملمة، وهي النازلة التي تصيب
العبد. ومنه اللّمّة، وهي الشعر الذي قد اجتمع، وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن، ومنه
لمّ الشيء، وما تصرف منها.
ومنه: بدر التّم: إذا كمل واجتمع نوره.
ومنه: التوأم للولدين المجتمعين في بطن.
ومنه: الأم. وأم الشيء: أصله الذي تفرع منه. فهو الجامع له، وبه سميت مكة أم
القرى، والفاتحة أم القرآن. واللوح المحفوظ: أم الكتاب.
قال الجوهري: أم الشيء أصله، ومكة: أم القرى. وأم مثواك:
صاحبة منزلك. يعني التي تأوى إليها وتجتمع معها، وأم الدماغ: الجلدة التي تجمع
الدماغ ويقال لها: أم الرأس. وقال تعالى في الآيات المحكمات
(1/212)
3:
7 هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ والأمة: الجماعة المتساوية في الخلقة، أو الزمان، أو
اللسان، قال تعالى: 6: 38 وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» » .
ومنه: الإمام الذي يجتمع المقتدون به على أتباعه.
ومنه: أمّ الشيء يؤمه إذا جمع قصده وهمه إليه.
ومنه: رمّ الشيء يرمه، إذا أصلحه. وجمع متفرقه.
قيل: ومنه سمي الرمان: لاجتماع حبه وتضامه.
ومنه: ضم الشيء يضمه: إذا جمعه.
ومنه: هم الإنسان، وهمومه، وهي إرادته وعزائمه التي تجتمع في قلبه.
ومنه: قولهم للأسود: أحم، والفحمة السوداء: حممة، وحم رأسه إذا اسود بعد حلقه كله.
هذا لأن السواد لون جامع للبصر، لا يدعه يتفرق.
ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود، من شعر أو خرقة، ليجمع عليه
بصره فتقوى القوة الباصرة.
وهذا باب طويل. فلنقتصر منه على هذا القدر.
وإذا علم هذا من شأن الميم، فهم قد ألحقوها في آخر هذا الاسم «اللهم» الذي يسأل
العبد به ربه سبحانه في كل حاجة، وكل حال، إيذانا بجمع أسمائه تعالى وصفاته. فإذا
قال السائل: اللهم إني أسألك، كأنه قال: أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات
العلى بأسمائه وصفاته.
فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم، إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه
__________
(1) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مغفل برقم 1486 وأخرجه النسائي في سننه 7/ 185.
(1/213)
كلها.
كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «ما أصاب عبدا قط همّ ولا حزن،
فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ
قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من
خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور
صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا.
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» «1» .
فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما في الاسم الأعظم
«اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديع السموات
والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم» «2»
وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى، كما ذكر في غير هذا الموضع «3» .
والدعاء ثلاثة أقسام.
أحدها: أن تسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته. وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: 7:
180 وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها.
والثاني: أن تسأله بحاجتك وفقرك، وذلّك. فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس
الذليل المستجير، ونحو ذلك.
والثالث: أن تسأل حاجتك ولا تذكروا أحدا من الأمرين.
فالأول أكمل من الثاني. والثاني أكمل من الثالث. فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة
كان أكمل.
__________
(1) أخرجه ابن حيان وأحمد والبراء من حديث ابن مسعود وأخرجه الحاكم.
(2) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم.
(3) في كتاب الوابل الصيب.
(1/214)
وهذه
عامة أدعية النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الدعاء الذي علمه صدّيق الأمة رضي الله عنه «1» ذكر الأقسام الثلاثة. فإنه
قال في أوله «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا»
وهذا حال السائل. ثم
قال: «وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»
وهذا حال المسؤول، ثم قال «فاغفر لي» فذكر حاجته وختم الدعاء باسمين من الأسماء
الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه.
وهذا القول الذي اخترناه قد جاء عن غير واحد من السلف. قال الحسن البصري «اللهم»
مجمع الدعاء وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله «اللهم» فيها تسعة وتسعون
اسما من أسماء الله تعالى، وقال النضر بن شميل: من قال «اللهم» فقد دعا الله بجميع
أسمائه.
وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع، فإنها من
مخرجها. فكأن الداعي بها يقول: يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى، والصفات
العليا، ولذلك شددت لتكون عوضا عن علامة الجمع. وهي الواو والنون في «مسلمون»
ونحوه.
وعلى الطريقة التي ذكرناها وهي أن نفس الميم دالة على الجمع لا يحتاج إلى هذا.
بقي أن يقال: فهلا جمعوا بين «يا» وبين هذه الميم، على المذهب الصحيح؟.
فالجواب: أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم، لمكان الألف واللام
منه. وإنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه، واضطرارهم إليه، واستغاثتهم
به. فإما أن يحذفوا الألف واللام منه. وذلك لا يسوغ للزومهما، وإما أن يتوصلوا
إليه بأيّ، وذلك لا يسوغ،
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم. [.....]
(1/215)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
لأنها
لا يتوصل بها إلا إلى نداء اسم الجنس المحلى بالألف واللام. كالرجل والرسول
والنبي. وأما في الأعلام فلا.
فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة. فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره
عوضا عن جمع الاسم، جعلوها عوضا عن حرف النداء، فلم يجمعوا بينهما، والله أعلم.
[سورة آل عمران (3) : آية 43]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
هذا مما قدم بالفضل، لأن السجود أفضل، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة، لأنه انتقال من علو إلى انخفاض.
والعلو بالطبع قبل الانخفاض، فهلا قدم الركوع؟.
الجواب أن يقال:
انتبه لمعنى الآية، من قوله ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ولم يقل:
اسجدي مع الساجدين، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة
المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها. ثم قال لها «ارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ» أي صلى مع المصلين في بيت المقدس، ولم يرد أيضا الركوع وحده، دون
أجزاء الصلاة، ولكنه عبر بالركوع عن الصلاة، كما تقول: ركعت ركعتين وأربع ركعات،
تريد الصلاة، لا الركوع بمجرده.
فصارت الآية متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود.
لأن السجود أفضل حالات العبد. وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها ثم صلاتها في
المسجد عبر عنها بالركوع. لأنه في الفضل دون السجود.
وكذلك صلاتها مع المصلين، دون صلاتها في بيتها وحدها في محرابها.
(1/216)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
وهذا
نظم بديع، وفقه دقيق.
[سورة آل عمران (3) : آية 44]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ (44)
قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم. فتشاحّ عليها بنو إسرائيل. فاقترعوا
عليها بسهامهم، أيهم يكفلها. فقرع زكريا، وكان زوج أختها، فضمها إليه. ونحوه عن
مجاهد.
وقال ابن عباس: لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي
فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ
عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ
صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95)
تضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا في إبطال النسخ. فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن
الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل قبل أن تنزل التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على
نفسه منه. ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان
لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده، إلى حين
تنزل التوراة. ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلالا لبني
إسرائيل. وهذا محض النسخ.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أي كانت حلالا لهم قبل نزول
التوراة. وهم يعلمون ذلك ثم قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
(1/217)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ
هل تجدون فيها أن إسرائيل حرّم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم، أم تجدون فيها
تحريم ما خصه بالتحريم، وهي لحوم الإبل وألبانها خاصة؟ وإذا كان إنما حرم هذا
وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه: ظهر كذبكم
وافتراؤكم في إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى في نسخها.
فتأمل هذا الوضع الشريف الذي حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه. وهذا أولى من
احتجاج كثير من أهل الكلام، عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة من المناكح
والذبائح، والأفعال والأقوال. وذلك نسخ بحكم البراءة الأصلية. فإن هذه المناظرة
ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب. إذ هذا
شأن كل الشرائع. وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، وتحليل ما
كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب. فلم ينكره أحد من أهل الملل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعة ربه ومرضاته.
فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء، وحسن
الذكر، ولا يبتغون به وجه لله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله وأتباع رسله-
بالزرع الذي يزرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا، يحرق
بردها كل ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
(1/218)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
واختلف
في الصرّ. فقيل: البرد الشديد. وقيل: النار. قاله ابن عباس.
وقال ابن الأنباري: إنما وصفت الريح بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب.
وقيل: الصر: الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها.
والأقوال الثلاثة متلازمة. فهو برد شديد محرق ليبسه الحرث، كما تحرقه النار وفيه
صوت شديد.
وفي قوله صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم. فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة،
حتى أهلكت زرعهم وأيبسته. فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
أما الخذلان
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (160)
وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلفت مع ولدها في المرعى
وتركت صواحباتها: خذول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس ولن يضرك
خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي لا تترك أمري للناس، وارفض الناس
لأمري.
ولخذلان: أن يخلق الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها والتوفيق ضده: أن لا
يدعه ونفسه، ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به ويعينه، ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة
الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلى بينه وبين نفسه فقد هلك كل الهلاك.
ولهذا كان
من دعائه صلّى الله عليه وسلّم «يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا
الجلال والإكرام لا إله إلا أنت،
(1/219)
برحمتك
أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك» .
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه. وإن خذله
وأعرض عنه افترسه الشيطان، كما يفترس الذئب الشاة.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على
الذئب وتنجو منه؟.
قيل: لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان، كما قال الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل
الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانا، مع ضعفها. فإذا أعطت بيدها وسالمت
الذئب ودعاها فلبت دعوته وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة،
وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله
كان صيدا لهم، فهل الذئب كل الذئب إلا الشاة؟ فكيف والراعي يحذرها ويخوفها
وينذرها؟ وقد أراها مصارع الشاة التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب المجالسة: سمعت ابن أبي الدنيا يقول: إن لله
سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره لقد حدثنا أبو
عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد القطان حدثنا عبيد الله بن بكر السهمي عن أبيه: أن
قوما كانوا في سفر فكان فيهم رجل يمر بالطائر، فيقول: أتدرون ما تقول هؤلاء؟
فيقولون: لا، فيقول:
تقول كذا وكذا فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق فيه هو أم كاذب؟ إلى أن مروا على غنم
وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتغثو، فقال: أتدرون ما
تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. قال: تقول للسخلة: الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك
عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل
عامك
(1/220)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
هذا؟
قال: نعم ولدت سخلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان، ثم أتينا على قوم فيهم
ظعينة على جمل لها وهو يرغو، ويحنو عنقه إليها. فقال:
أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على
مخيط وهو في سنامه. قال: فانتهينا إليهم. فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن
هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، وأنه في سنامه، قال: فأناخوا
البعير وحطوا عنه، فإذا هو كما قال.
فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه
مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح 14: 23 وَقالَ
الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا
أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ،
ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
فأمرهم بالصبر، وهو حال الصابر في نفسه.
والمصابرة: مقاومة الخصم في ميدان الصبر، فإنها مفاعلة، تستدعي وقوفها بين اثنين،
كالمشاتمة والمضاربة- فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه.
والمرابطة، وهي الثبات واللزوم، والإقامة على الصبر والمصابرة.
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر، ويرابط من
غير تعبد بالتقوى.
فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله: التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها.
(1/221)
فقال
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر، فهي لزوم ثغر
القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان، فيزيله عن مملكته.
(1/222)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
سورة
النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
قال الشافعي: أن لا يكثر عيالكم. فدل على أن قلة العيال. أدنى.
قيل: قد قال الشافعي ذلك، وخالف جمهور المفسرين من السلف والخلف، وقالوا: معنى
الآية: ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا. فإنه يقال: عال الرجل يعول عولا إذا مال
وجار. ومنه: عول الفرائض. لأن سهامها زادت. ويقال: عال يعيل عيلة إذا احتاج. قال
تعالى: 9: 28 وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وقال الشاعر:
وما يدري الفقير: متى غناه ... وما يدري الغني: متى يعيل؟.
أي متى يحتاج ويفتقر. وأما كثرة العيال فليس من هذا، ولا من هذا، ولكنه من أفعل.
يقال: أعال الرجل يعيل، إذا كثر عياله. مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر. هذا
قول أهل اللغة. قال الواحدي في بسيطه:
ومعنى تعولوا تميلوا وتجوروا، عن جميع أهل التفسير واللغة. وروى ذلك مرفوعا.
(1/223)
روت
عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أن لا تعولوا» قال: لا
تجوروا»
وروى: «أن لا تميلوا»
قال: وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن مالك وعكرمة والفراء
والزجاج وابن قتيبة وابن الأنباري.
قلت: ويدل على تعين هذا المعنى من الآية، وإن كان ما ذكره الشافعي لغة حكاه الفراء
عن الكسائي- قال: ومن الصحابة من يقول: عال يعول إذا كثر عياله. قال الكسائي: وهي
لغة فصيحة سمعتها من العرب، لكن يتعين الأول لوجوه.
أحدها: أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه، ولا يعرف: عال يعول، إذا كثر
عياله: إلا في حكاية الكسائي، وسائر أهل اللغة على خلافه.
الثاني: أن هذا مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان من الغرائب. فأنه
يصلح للترجيح.
الثالث: أنه مروي عن عائشة وابن عباس، ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال
الحاكم أبو عبد الله: تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع.
الرابع: أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وإخبار النبي صلّى الله
عليه وسلّم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير.
الخامس: أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون من الظلم والجور فيه إلى غيره.
فإنه قال في أولها 4: 3 وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ
فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء
البوالغ، وأباح لهم منهن أربعا. ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم
التسوية بينهن. فقال فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً
(1/224)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
أَوْ
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور. وهذا صريح في
المقصود.
السادس: أنه لا يلتئم قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا في الأربع فانكحوا
واحدة أو تسروا بما شئتم بملك اليمين. فإن ذلك أقرب إلى أن تكثر عيالكم، بل هذا
أجنبي من الأول. فتأمله.
السابع: أنه من الممتنع أن يقال لهم: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين الأربع فلكم أن
تتسروا بمائة سرية وأكثر. فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم.
الثامن: أن قوله: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تعليل لكل واحد من الحكمين
المتقدمين، وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ، ومن نكاح الأربع
إلى نكاح الواحدة، أو ملك اليمين. ولا يليق تعليل ذلك بقلة العيال.
التاسع: أنه سبحانه قال فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا ولم يقل: إن خفتم أن لا
تفتقروا وتحتاجوا. ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك.
العاشر: أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلته، أو أباح شيئا وعلق
إباحته بعلة. فلا بد أن تكون العلة مضادة لضد الحكم المعلل. وقد علل سبحانه إباحة
نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور.
ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل. فلا يحسن التعليل به- والله
أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 95]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ
دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ
عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
(1/225)
نفى
سبحانه التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثم أخبر سبحانه
عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة، ثم أخبر أنه فضلهم عليهم درجات.
وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس، من جهة أن القاعدين الذين فضّل عليهم
المجاهدون بدرجات، إن كانوا هم والقاعدون الذين فضّل عليهم أولو الضرر المجاهدون
بدرجات: هم غير أولي الضرر. فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا. وعلى هذا فما
وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين، وهم لا يستوون والمجاهدون أصلا؟ فيكون حكم
المستثنى والمستثنى منه واحدا.
فهذا وجه الإشكال.
ونحن نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله. فنقول:
اختلف القراء في إعراب «غير» فقرىء رفعا ونصبا وهما في السبعة، وقرئ بالجر في غير
السبعة. وهي قراءة أبي حبوة.
فأما قراءة النصب فعلى الاستثناء، لأن «غير» يعرب في الاستثناء إعراب الاسم الواقع
بعد «إلا» وهو النصب. هذا هو الصحيح.
وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أي لا يستوي القاعدون غير مضرورين، أي لا
يستوون في حال صحتهم هم والمجاهدون، والاستثناء أصح، فإن «غير» لا تكاد تقع حالا
في كلامهم إلا مضافة إلى نكرة، كقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وقوله عز
وجل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى» .
فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها. كقوله تعالى: صِراطَ
(1/226)
الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
ولو قلت: مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى لجررت «غير» هذا هو المعروف من
كلامهم.
والكلام في عدم تعريف «غير» بالإضافة، وحسن وقوعها إذ ذاك حالا له مقام آخر.
وأما بالرفع: فعلى النعت للقاعدين. هذا هو الصحيح.
وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: الذين هم غير أولي الضرر.
والذي حمله على هذا: ظنه أن «غير» لا يقبل التعريف بالإضافة.
فلا تجزى صفة للمعرفة. وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها، سوى أن «غير» توغلت
في الإبهام. فلا تتعرف بما يضاف إليه.
وجواب هذا: أنها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه.
وأما قراءة الجر: ففيها وجهان أيضا.
أحدهما- وهو الصحيح- أنه نعت للمؤمنين.
والثاني- وهو قول المبرد- أنه بدل منه. بناء على أنه نكرة. فلا ينعت به المعرفة.
وعلى الأقوال كلها: فهو مفهم معنى الاستثناء، وأن نفي التسوية غير مسلط على ما
أضيف إليه «غير» .
وقوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقاعِدِينَ دَرَجَةً هو مبين لمعنى نفي المساواة.
قالوا: والمعنى: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة
لامتيازهم عنهم بالجهاد بنفسهم ومالهم. ثم أخبر سبحانه أن
(1/227)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
الفريقين
كليهما موعود بالحسنى، فقال وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المجاهد والقاعد
المضرور لاشتراكهم في الإيمان.
قالوا: وفي هذا دليل على تفضيل الغني المنفق على الفقير. لأن الله أخبر أن المجاهد
بماله ونفسه أفضل من القاعد، وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. وأما الفقير
فنفى عنه الحرج بقوله 9: 92 وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ.
فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج؟.
قالوا: فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد.
وأما القاعد من غير أولي الضرر:
[سورة النساء (4) : آية 96]
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
وقوله «درجات» قيل: هو نصب على البدل من قوله «أجرا عظيما» وقيل: تأكيد له، وإن
كان بغير لفظه. لأنه هو هو في المعنى.
قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة
درجة، والقتل في الجهاد درجة.
وقال ابن زيد: الدرجات التي فضل الله بها المجاهد على القاعد سبع. وهي التي ذكرها
الله تعالى في براءة، إذ يقول تعالى: 9: 120 ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً
يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فهذه خمس.
ثم قال 9: 121 وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً، وَلا كَبِيرَةً، وَلا
يَقْطَعُونَ وادِياً، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ فهاتان اثنتان.
(1/228)
وقيل:
الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.
والصحيح: أن الدرجات هي المذكورة
في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه
قال «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان. فإن حقا على الله أن يدخله
الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. قالوا: يا رسول الله،
أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله.
كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. فإنه أوسط
الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن. ومنه تفجر أنهار الجنة»
قالوا: وجعل سبحانه تعالى: التفضيل الأول بدرجة فقط، وجعله هاهنا بدرجات، ومغفرة
ورحمة. وهذا يدل على أنه يفضل على غير أولي الضرر.
فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه.
ولكن بقي أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا لزم أن لا يستوي
مجاهد وقاعد مطلقا، فلا يبقى في تقييد القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة.
فإنه لا يستوي المجاهدون والقاعدون من أولي الضرر أيضا.
وأيضا فإن القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي
الضرر، لا القاعدون الذين هم أولو الضرر. فإنهم لم يذكر حكمهم في الآية، بل
استثناهم، وبين أن التفضيل على غيرهم. فاللام في القاعدين للعهد. والمعهود: هم غير
أولي الضرر، لا المضرورون.
وأيضا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من
العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما»
وقال صلّى الله عليه وسلّم «إن بالمدينة أقواما ما
(1/229)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
سرتم
مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم. قالوا: وهم بالمدينة؟ قال:
وهم بالمدينة، حبسهم العذر» .
وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلت على أن القاعدين من غير أولي الضرر عن الجهاد
لا يستوون هم والمجاهدون، وسكت عن حكمهم بطريق منطوقها ولا يدل مفهومها على
مساواتهم للمجاهدين، بل هذا النوع منقسم إلى معذورين من أهل الجهاد، غلبه عذره،
وأقعده عنه، ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها وإنما أقعده العجز.
فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم
بنفي التسوية.
وأما الأركاس
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
قال الفراء «أركسهم» ردهم إلى الكفر، وقال أبو عبيدة: يقال: أركست الشيء وركسته-
لغتان- إذا رددته. والركس: قلب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله على آخره. والارتكاس
الارتداد. قال أمية:
فأركسوا في حميم النار، إنهم ... كانوا عصاة، وقالوا الإفك والزورا
ومن هذا يقال للروث: الركس، لأنه رد إلى حال النجاسة. ولهذا المعنى سمي رجيعا
والركس والنكس، والمركوس والمنكوس: بمعنى واحد. قال الزجاج: أركسهم نكسهم وردهم.
والمعنى: أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار. وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه
فيهم وعدله، وإن إركاسه لهم كان بسبب كسبهم وأعمالهم، كما قال 83: 14 بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فهذا توحيده، وهذا عدله لا ما يقوله القدرية
والمعطلة من أن التوحيد: إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.
(1/230)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
[سورة
النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
وقال تعالى: 2: 269 يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وقال عن المسيح عليه السلام: 3: 48 وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.
الحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فسرت بالنبوة، وفسرت
بعلم القرآن. قال ابن عباس: هي علم القرآن ناسخه ومنسوخة، ومحكمة ومتشابهة، ومقدمه
ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله، وقال الضحاك: هي القرآن والفهم فيه. وقال مجاهد:
هي القرآن، والعلم والفقه، وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل. وقال
النخعي: هي معاني الأشياء وفهمها. وقال الحسن: الورع في دين الله، كأنه فسرها
بثمرتها ومقتضاها.
وأما الحكمة المقرونة بالكتاب فهي السنة. كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة. وقيل:
هي القضاء بالوحي، وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر.
وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: أنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في
القول والعمل. وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق
الإيمان.
(1/231)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
سورة
المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ
الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر. فكل إثم عدوان، إذ هو فعل ما نهى الله عنه، أو ترك
ما أمر الله به. فهو عدوان على أمره ونهيه. وكل عدوان إثم. فإنه يأثم به صاحبه،
ولكن عند اقترانهما فهما شيئان، بحسب متعلقهما.
فالإثم ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك.
والعدوان: ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر
المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه. إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو
عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه
أضعافه. وإذا قال فيه كلمة فيه أضعافها. فهذا كله عدوان وتعد للعدل.
(1/233)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
[سورة
المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام
إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه،
بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها، وأنه
لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذا الدار وفي دار
القرار.
وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم،
إذ هم القائمون به المقيمون له. وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم
بها عليهم، فهي نعمة حقا، وهم قابلوها.
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأمم.
وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء «أتممت» في
مقابلة أَكْمَلْتُ و «عليكم» في مقابلة لَكُمْ و «نعمتي» في مقابلة دِينِكُمْ وأكد
ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله 5: 3 وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً.
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى: 5: 41 أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وقال وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ
نَفْسٍ هُداها وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً
وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته تستلزم وجوده. فما شاء الله
وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد
مشيئته، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ وقال وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟.
(1/234)
قيل:
إن أريد بكونه مقدورا: سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه،
ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له. فنعم، هو
مقدور بهذا الاعتبار. وإن أريد بكونه مقدورا: القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة
له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل. فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك: أن القدرة نوعان: قدرة مصححة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة،
وهي مناط التكليف. وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له. وقدرة مقارنة للفعل،
مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف. فلا يتوقف صحته
وحسنه عليها.
فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته: مقدور بالاعتبار الأول، غير
مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء
الله تعالى.
فإذا قيل: هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة؟.
قيل: خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي. ولم يخلق له قدرة
موجبة للفعل مستلزمة له، لا يتخلف عنها. فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي
تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة؟.
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه. وقد عرفت جوابه. وبالله التوفيق.
قول الله تعالى: 5: 3 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
(1/235)
النعمة
نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيدة. فالنعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي
نعمة الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن
يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى، حيث يقول تعالى: 4:
69 وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ
وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه
النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً فأضاف الدين إليهم، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.
والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الرب، فيقال:
الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه ولهذا يقال في الدعاء: اللهم انصر دينك
الذي أنزلت من السماء.
ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة، مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها
إليهم. وهم محل محض النعمة قابلين لها. ولهذا يقال
في الدعاء المأثور للمسلمين «واجعلهم مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم»
وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال
«أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب
النعمة.
واللفظتان- وإن تقاربتا وتواخيتا- فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل.
فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني، ويطلق على الأعيان والذوات، ولكن باعتبار صفاتها
وخواصها، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم
ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد»
وقال عمر بن عبد العزيز «إن للإيمان حدودا وفرائض، وسننا وشرائع، فمن استكملها فقد
استكمل الإيمان» .
(1/236)
وأما
الإتمام فيكون في الإيمان والمعاني، ونعم الله أعيان وأوصاف ومعان.
وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه. فكانت نسبة الكمال إلى الدين
والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن.
والمقصود: أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل:
ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح، والنعمة الثانية: النعمة المقيدة
كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وبسطة الجاه، وكثرة الولد والزوجة الحسنة، وأمثال
هذه. فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر وإذا قيل: لله على
الكافر نعمة بهذا الاعتبار، فهو حق.
فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت
استدراجا للكافر، ومآلها إلى العذاب والشقاء، فكأنها لم تكن نعمة، وإنما كانت
بلية، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك. فقال تعالى: 89: 15، 16 فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي
أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ:
رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت
عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبار، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر
حاجته بقدر فضلة أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
فإن قيل: كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله «فأكرمه» فأثبت له الإكرام، ثم أنكر
عليه قوله «ربي أكرمن» وقال «كلا» أي ليس ذلك إكراما مني هو ابتلاء، فكأنه أثبت له
الإكرام ونفاه.
وقيل: الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من جنس النعمة
(1/237)
المطلقة
والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.
وكذلك أيضا إذا قيل: إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة، ولكنه رد نعمة الله
وبدّلها. فهو بمنزلة من أعطى مالا ليعيش به فرماه في البحر، كما قال 14: 28 أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وقال تعالى:
41: 17 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فهدايته
إياهم نعمة منه عليهم، فبدلوا نعمة الله، وآثروا عليها الضلال.
فهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر نعمة أم لا؟.
وأكثر اختلاف الناس من جهتين.
إحداهما: اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الإطلاق والتفصيل.
(1/238)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
سورة
الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 8 الى 9]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
إن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم 6: 8 لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يعنون
ملكا نشاهده ونراه، يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله.
فأجاب الله تعالى عن هذا، وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه:
بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا به ويصدقوه، لعوجلوا بالعذاب كما استمرت
به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح، وإذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها. فقال 6: 8
وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ثم بين سبحانه
أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم، لأنه إن أنزله في صورته لم
يقدروا على التلقي عنه، إذ البشر لا يقدر على مخاطبة الملك ومباشرته. وقد كان
النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أقوى الخلق- إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه
البرحاء «1» ، وتحدّر منه العرق في اليوم الشاتي. وإن جعله في صورة رجل حصل لهم
لبس: هل هو رجل أم ملك فقال تعالى: 6: 9 وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ
__________
(1) برحاء الحمر وغيرها بالضم والمد شدة الأذى.
(1/239)
في
هذه الحال ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون:
إذا رأوا الملك في صورة الإنسان لقالوا: هذا إنسان وليس بملك. هذا معنى الآية.
6: 27- 28 وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ
ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية، وما أوردوا ما يشفي.
فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلا، ولا تروي غليلا.
الآية معناها أجل وأعظم مما فسر وهابه. ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ب «بل» ولا للأمر
الذي بدا لهم، وكانوا يخفونه وظنوا أن الذي بدا لهم هو العذاب. فلما لم يروا ذلك
ملتئما مع قوله ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ قدروا مضافا محذوفا، وهو خبر ما
كانوا يحقون من قبل، فدخل عليهم أمر آخر، لا جواب لهم عنه. وهو: أن القوم لم
يكونوا يخفون شركهم وكفرهم، بل كانوا يظهرونه، ويدعون إليه، ويحاربون عليه. ولما
علموا أن هذا ورد عليهم، قالوا: إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا
شركهم وجحدوه، وقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فلما وقفوا على
النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه.
قال الواحدي: وعلى هذا أهل التفسير.
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا. فإن السياق والإضراب ب «بل» والإخبار عنهم بأنهم
لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقولهم «والله ربنا ما كنا مشركين» لا يلتئم بهذا
الذي ذكروه. فتأمله.
وقالت طائفة، منهم الزجاج: بل لاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء، من أمر البعث. وهذا
التفسير يحتاج إلى تفسير، وفيه من التكليف ما ليس بخاف.
(1/240)
وأجود
من هذا: ما فهمه المبرد من الآية، قال: كأن كفرهم لم يكن باديا لهم، إذا خفيت
عليهم مضرته.
ومعنى كلامه: أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله، فكأنه كان خفيا عنهم، لم
تظهر لهم حقيقته. فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره.
قال: وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل: قد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك. وقد
كان ظاهرا له قبل هذا. ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على
رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه، لخفاء عاقبته عنهم.
ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد، وقتل النفوس وسعى في الأرض بالفساد: إنه أخفى
ذلك، لجهله بسوء عاقبته، وخفائها عليه.
فمعنى الآية- والله أعلم بما أراد من كلامه-: أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على
النار، وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها، تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله
وآياته، ولا يعودون إلى تكذيب رسله. فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك، وأنهم ليس في
طبائعهم ولا سجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا
لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله. وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم: أنهم لو ردوا لآمنوا
وصدقوا.
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الإضراب ب «بل» وتبين معنى الذي بدا لهم،
والذي كانوا يخفونه، والحامل لهم على قولهم: «يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا»
فالقوم كانوا يعلمون أنهم في الدنيا على باطل، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن
الله، وتيقنوا ذلك وتحققوه، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم، بل تواصوا بكتمانه.
فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق
الرسل، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه. وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون
عليه
(1/241)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
من
علمهم أنهم على باطل، وأن الرسل على الحق، فعاينوا ذلك عيانا، بعد أن كانوا
يكتمونه ويخفونه. فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب.
فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق، وأن الشرك باطل. وإنما تمنوه
لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله. وهذا كمن كان يخفي محبة شخص
ومعاشرته، وهو يعلم أن حبه باطل، وأن الرشد في عدوله عنه. فيقال له: إن اطلع عليك
وليه عاقبك، وهو يعلم ذلك ويكابر، ويقول: بل محبته ومعاشرته هي الصواب، فلما أخذه
وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به
بعد ذلك وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة
العقوبة، بل بعد أن مسته العقوبة وأنهكته. فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من
معرفته بخطئه، وصواب ما نهاه عنه. ولو رد لعاد لما نهى منه.
وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى، وهو نفي قولهم: إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا.
لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق، أي ليس كذلك، بل كنتم تعلمون ذلك
وتعرفونه، وكنتم تخفونه، فلم يظهر لكم شيء جديد لتكونوا عالمين به لتعذروا، بل ظهر
لكم ما كان معلوما، وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه. والله أعلم.
وأما تقليب الأفئدة
[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى
رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ
أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
هذا عطف على قوله: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي نحول بينهم وبين الإيمان
ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.
واختلف في قوله: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقال كثير من
المفسرين: المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية، كما حلنا بينهم وبين
الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: ونقلب
(1/242)
أفئدتهم
وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي. قال: وهذا كقوله: 8: 24 وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم
بتقليب أفئدتهم وأبصارهم. وهذا معنى حسن. فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التعليل.
كقوله: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ،
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه: الإعلام بأن
الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم
إليها كما سألوا: أن يؤمنوا إذ جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا
صدقها. فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن
تكون عليه.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه
كيف يشاء، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا
على طاعتك»
وروى الترمذي من حديث أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول:
يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به. فهل
تخاف علينا؟ قال: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلى بن زياد عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله عنها:
«دعوة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يدعو بها: يا مقلب القلوب ثبت
قلبي على دينك. فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيرا ما تدعو بها؟ قال: إنه ليس من عبد
إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله. فإذا شاء أن يقيمه أقامه،
(1/243)
وإذا
شاء أن يزيغه أزاغه» .
وقوله: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: ابن عباس: أخذلهم وأدعهم
في ضلالهم يتمادون.
وأما التزيين وقال: 35: 8 أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً؟
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقال: 6: 43 وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
وأما التزيين إليه سبحانه خلقا ومشيئة. وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه، ومن
أجراه على يده تارة.
وهذا التزيين منه سبحانه حسن، إذ هو ابتلاء واختبار للعبد ليتميز المطيع منهم من
العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: 18: 7 إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى
الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وهو من الشيطان
قبيح.
وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيء عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده
وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيء من الحسن،
فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه
بعد أن رآه قبيحا. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره
وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه. فربما رآه حسنا عقوبة له،
فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في
غيه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم. ومع هذه
فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول.
فتزيين الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء
(1/244)
وظلم وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه، وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين. والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله. ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
(1/245)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
سورة
الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ
مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً
يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول. فتعلق التحريم بها لفحشها.
فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق.
يدل على أنه هو العلة المقتضية له. وهذا دليل في جميع الآيات التي ذكرناها. تدل
على أنه حرمها لكونها فواحش، وحرم الخبيث لكونه خبيثا.
وأمر بالمعروف لكونه معروفا. والعلة يجب أن تغاير المعلول. فلو كان كونه فاحشة هو
معنى كونه منهيا عنه، وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما: كانت العلة عين المعلول.
وهذا محال. فتأمله وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل
التحريم.
(1/247)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ومن
هذا قوله تعالى: 17: 33 وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ
سَبِيلًا فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة. ولو كان جهة كونه فاحشة
هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزنا فإنه
يقول لكم لا تقربوه، أو فإنه منهي عنه. وهذا محال من وجهين.
أحدهما: أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة.
والثاني: أنه تعليل للنهي بالنهي!
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة. ويراد به مجموعهما. وهما
متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه. ومن يملك
الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر.
ولهذا أنكر الله تعالى على عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في
القرآن. كقوله تعالى: 10: 18 وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله تعالى: 10: 106 وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ وقوله تعالى: 5: 76 قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ وقوله تعالى: 21: 66، 67 قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما
لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا
(1/248)
يَضُرُّكُمْ
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وقوله تعالى: 26: 69- 73 وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها
عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ وقوله تعالى: 25: 3 وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وقال تعالى: 25: 55
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ
الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً.
فنفي سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمعتدي. فلا يملكون
لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثير بيّن:
أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يدعى للنفع ودفع الضر.
ودعاء المسألة، ويدعى خوفا ورجاء، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان: فكل
دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
وعلى هذا قوله تعالى: 2: 186 وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت
الآية.
قيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان.
وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته
ومجازه، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا.
فتأمله فإنه موضع عظيم النفع، قل من يفطن له.
وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل.
ومثال ذلك قوله: 17: 78 أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ
(1/249)
اللَّيْلِ
فسر «الدلوك» بالزوال، وفسر بالغروب. وحكيا قولين في كتب التفسير. وليسا بقولين،
بل اللفظ يتناولهما معا. فإن الدلوك هو الميل.
ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى. فمبدؤه الزوال، ومنتهاه الغروب.
فاللفظ متناول لهما بهذا الإعتبار لا بتناول المشترك لمعنييه. ولا اللفظ لحقيقته
ومجازه.
ومثاله أيضا تفسير الغاسق: بالليل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولهما
لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة.
ومن ذلك قوله عز وجل: 25: 77 قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ.
قيل: لولا دعاؤكم إياه. وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى
المفعول. وعلى الأول مضافا إلى الفاعل. وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا: فالمراد
به نوعا الدعاء والعبادة أظهر، أي ما يعبأ لكم ربي لولا أنكم تعبدونه. عبادة
تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى: 40: 60 وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فالدعاء
يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهر. ولهذا عقبه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ فسر الدعاء في
الآية بهذا وهذا
وقد روى سفيان عن منصور عن زرّ عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يقول على المنبر: «إن الدعاء هو العبادة» . ثم قرأ:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رواه الترمذي
، وقال حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى: 22. 73 يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً، وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وقوله: 4: 117 إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً
وقوله: 41: 48
(1/250)
وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين
لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة، المتضمن دعاء المسألة. فهو في دعاء
العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا 39: 3 ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ
زُلْفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.
والثاني: أن الله تعالى فسّر هذا الدعاء في موضع آخر بأنه العبادة.
كقوله 26: 92- 93 وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ وقوله: 21: 98 إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقوله: قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وهو كثير في القرآن. فدعاؤهم لآلهتهم
وعبادتهم لها.
الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها يتقربون بها إلى الله. فإذا جاءتهم الحاجات
والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها. ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم
ويطلبون منها، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.
وقوله تعالى: 40: 14 فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ هو دعاء
العبادة. والمعنى: اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته، لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم الخليل عليه السلام: 14: 39 إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ
فالمراد بالسمع هنا: السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام. لأنه
سميع لكل مسموع.
وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب. وسمع الرب تبارك
وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب. فهو سميع لهذا ولهذا.
وأما قول زكريا عليه السلام: 19: 4 وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
(1/251)
فقد
قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد
والحرمان، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، كما حكي أن رجلا سأل
رجلا وقال: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا وكذا. فقال: مرحبا بمن توسل إلينا بنا،
وقضى حاجته. وهذا ظاهر هنا.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه
على عادته التي عوده: من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.
ويدل عليه: أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه
وأما قوله تعالى: 17: 110 قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما
تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فهذا الدعاء المشهور، وأنه دعاء المسألة،
وهو سبب النزول،
قالوا: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو ربه، فيقول مرة: يا الله، ومرة: يا
رحمن فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآية»
قال ابن عباس: «سمع المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو في سجوده: يا رحمن
يا رحيم فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله هذه
الآية قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.
وقيل: إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية، كقولهم: دعوت ولدي سعيدا. وادعه بعبد الله
ونحوه. والمعنى: سموا ربكم الله أو سموه الرحمن: فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية.
وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فإن المراد بتعدده:
معنى «أي» وعمومها هنا تعدد الأسماء ليس إلا. والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء
الله تعالى. إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمى سبحانه الأسماء
الحسنى. والضمير في «له» يعود إلى
(1/252)
المسمى.
فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية.
وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل
المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال، ودعاء الثناء
ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل
التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب.
فعلى هذا المعنى: يصح أن يكون في «تدعوا» معنى تسموا.
فتأمله. والمعنى أيّا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: 51: 28 إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ
الْبَرُّ الرَّحِيمُ فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة.
والمعنى: إنا كنا من قبل نخلص له العبادة. وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم، لا
بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن
في الأرض، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف: 18: 14 رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ
نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعبد غيره.
وكذلك قوله تعالى: 37: 125 أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ؟.
وأما قوله تعالى: 28: 64 وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ، فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ
فهذا من دعاء المسألة، يبكتهم الله عز وجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن
شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم. وليس المراد اعبدوهم.
وهو نظير قوله تعالى: 18: 52 وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.
(1/253)
وهذا
التقرير نافع في مسألة الصلاة، وأنها: هل نقلت عن مسماها في اللغة، فصارت حقيقة
شرعية منقولة استعملت في هذه العبادة مجازا، للعلاقة بينها وبين المسمي اللغوي، أو
هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائع؟.
وعلى ما قررناه: لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا
ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. فما
خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء، فتأمله إذا عرفت هذا. فقوله تعالى: ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يتناول نوعي الدعاء ولكنه ظاهر في دعاء المسألة
متضمن دعاء العبادة. ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة
العلانية سبعون ضعفا.
ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم
وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأن
الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله، وقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.
أحدها: أنه أعظم إيمانا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي
قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا وثانيها: أنه أعظم في الأدب
والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم
الأصوات، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله
المثل الأعلى.
فإذا كان ربنا يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
(1/254)
ثالثها:
أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل
الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل إذا انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى
إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته، وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه
بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت. وهذه
الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.
ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه
ويشتته. فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريده همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا- أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه
لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب
للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
ولهذا: أثنى سبحانه وتعالى على عبده زكريا بقوله: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً
خَفِيًّا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب،
وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما
أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل
الأعلى سبحانه. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى بعينه بقوله
في الحديث الصحيح. لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر
فقال: «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا
أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وقد جاء أن سبب نزولها: أن الصحابة قالوا: «يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم
بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: وَإِذا سَأَلَكَ
(1/255)
عِبادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن
هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى
النداء، وإنما يسأل مسألة القريب المناجى، لا مسألة البعيد المنادى.
وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه
وقريب من عابده،
و «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» «1»
وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو
قرب خاص من الداعي والعابد، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم راويا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرا
تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا»
فهذا قربه من عابده. وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.
وقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب.
وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر، وشأن آخر، كما قد ذكرناه في
كتاب التحفة المكية. على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا،
لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب. وإياك ثم إياك أن تعبر
عنه بغير هذه العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل بك قدم بعد
ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من
الطامات والشطح، وقابلهم من غلظ حجابه، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه
وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من
طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق.
والمقصود هاهنا: الكلام على هذه الآية.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 3579.
(1/256)
وسابعها:
أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما
إذا رفع صوته فإنه قد يكلّ لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا
صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا
أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره، وإذا جهر به تفطنت له
الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته
وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء
لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
وتاسعها: أن أعظم النعم هو الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه والتبتل
إليه. ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين
المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد
إظهارها له. وقد قال يعقوب ليوسف: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وكم من
صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار، فأصبح
يقلب كفيه. ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه
أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهدا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه مكان الإنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به
وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدي والسالك. فإذا تمكن
(1/257)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
أحدهم
وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطبية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث
لا يخشى من العواصف، فإنه إذا أبدي حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم
يبال. وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على
الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدة
شريفة نافعة.
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه
وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الدعاء الحمد لله»
فسمى «الحمد لله» دعاء، وهو ثناء محض. لأن الحمد يتضمن الحب والثناء.
والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيا من
السائل الطالب من ربه حاجة ما.
فتأمل هذا الموضع فإذا تأملته لا تحتاج إلى ما قيل: إن الذكر متعرض للنوال وإن لم
يكن مصرحا بالسؤال، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض، كما قال أمية بن أبي الصلت
في ممدوحه:
أأذكر حاجتي، أم قد كفاني ... حباؤك؟ إن شيمتك الحباء
إذا اثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها نفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب
المحب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه.
[سورة الأعراف (7) : آية 205]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)
فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه. قال مجاهد وابن
(1/258)
جريج:
أمر أن يذكره في الصدر بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم
حديث أبي موسى: «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فارتفعت أصواتنا
بالتكبير فقال: يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا،
إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
وتأمل كيف قال في آية الذكر: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
وفي آية الدعاء: 7: 55 ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فذكر التضرع فيهما
معا. وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية
لما ذكرنا من الحكم وغيرها. وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر
يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد. فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته والمحبة ما
لم تقرن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره. لأنها توجب الإدلال والإنبساط،
وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا:
المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له.
فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من
هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ:
أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟
فقال له بلى. فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، أو كما قال. وهو
إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه.
فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله.
فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه، أو كما
قال.
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام، جملة فإن من سلك
هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة
الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من
(1/259)
الله
بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده
بالخوف وحده فهو حروري. ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ.
ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث
بقوله: 17: 57 أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ
فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف.
فهذه طريقة عباده وأوليائه.
وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات، ويقول: المحب لا يضره
ذنب وقد صنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا «إذا أحب الله العبد لم تضره
الذنوب» وهذا كذب قطعا مناف للإسلام. فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن.
ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ. وأما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فمعاذ الله من ذلك- فله محمل، وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على
ذنب. لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر
إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحى أثره ولا يضره الذنب. وكلما أذنب وتاب وأناب إلى
الله زال عنه أثر الذنب وضرره، فهذا المعنى صحيح.
والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف
جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن
الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها. فإذا
لم يكن للمطية سوط ولا عصا تردها إذا حادت عن الطريق، وتركت تركب تعاسيف خرجت عن
الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه.
وما وصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن
(1/260)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
هذه
الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه.
فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر، والخفية بالدعاء، مع دلالته
على اقتران الخيفة بالدعاء والخفية بالذكر أيضا، فإنه قال: اذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ فلم يحتج بعدها أن يقول: «خفية» وقال في الدعاء: 7: 56 وَادْعُوهُ
خَوْفاً وَطَمَعاً فلم يحتج أن يقول في الأولى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فانتظمت كل
واحدة من الآيتين، للخفية والخفية والتضرع أحسن انتظام، ودلت على ذلك أكمل دلالة.
وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبنى عليه، فإن الداعي ما لم
يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه، إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر
الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم. فذكر في كل آية ما هو اللائق
بها والأولى بها: من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدى
ورحمة للمؤمنين.
[سورة الأعراف (7) : آية 55]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء. كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل
الأنبياء وغير ذلك.
وقد روى أبو داود في سننه من حديث حماد ابن سلمة عن سعيد الجريري عن ابي معاوية أن
عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: «اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا
دخلتها فقال:
يا بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول:
«إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»
وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على
المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله، مثل يسأله تخليده إلى يوم
(1/261)
القيامة،
أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن
يطلعه على غيبه أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير
زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء. فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن
مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب
رسله.
وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت في
الدعاء، والنداء في الدعاء والصياح وبعد: فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء
في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء، دعاء
كان أو غيره، كما قال: 2: 190 وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ.
وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين
يدعون معه غيره. فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا. فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع
العبادة في غير موضعها. فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله: إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
ومن العدوان: أن يدعوه دعاء غير متضرع، بل دعاء مدلّ، كالمستغني بما عنده المدل
على ربه به. وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من
كل جهة في مجموع حالاته. فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.
ومن الاعتداء: أن تعبده بما لا يشرعه، وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن
فيه. فإن هذا الاعتداء في دعاء الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء
المسألة والطلب.
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين.
أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مرضى له، وهو الدعاء تضرعا وخفية.
(1/262)
والثاني:
مكروه له مبغوض مسخوط، وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه، وحذر مما
يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير. وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم
يحبه الله فأي خير يناله؟.
وفي قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عقب قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين
لا يحبهم.
فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داع لله تضرعا وخفية، ومعتد بترك ذلك.
فصل
وقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها.
قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح
الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله. فإن عبادة غير الله
والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما
هو بالشرك به ومخالفة أمره. قال تعالى: 30: 41 ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ وقال عطية في الآية: ولا تعصوا في
الأرض، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقال غير واحد من السلف: إذا قحط
المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم، وتقول: اللهم ألعنهم، فبسببهم أجدبت الأرض
وقحط المطر.
وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن
يكون الله وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع لرسوله ليس
إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول. فإذا أمر
(1/263)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
بمعصيته
وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه، وبالأمر بتوحيده،
ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله.
ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة
رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله
والدعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين- وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره
عموما وخصوصا. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل
[سورة الأعراف (7) : آية 56]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع. فأمر أولا بدعائه تضرعا
وخفية، ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا، وفصل بين الجملتين بجملتين
إحداهما خبرية متضمنة للنهي، وهي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ والثانية
طلبية، وهي قوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها والجملتان
مقررتان مقويتان للجملة الأولى، مؤكدتان لمضمونها. ثم لما تم تقريرها وبيان ما
يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا، ثم قرر ذلك وأكد مضمونه بجملة خبرية، وهي
قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فتعلق هذه الجملة
بقوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً كتعلق قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً.
ولما كان قوله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً مشتملا على جميع مقامات
الإيمان والإحسان، وهي الحب والخوف والرجاء، عقبها بقوله:
(1/264)
إِنَّ
رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي إنما ينال الرحمة من دعاه خوفا
وطمعا، فهو المحسن والرحمة قريب منه. لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
لما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله:
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وانتصاب قوله «تضرعا، وخفية، وخوفا، وطمعا» قيل: هو على الحال أي ادعوه متضرعين
مخفين خائفين طامعين، وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره.
وقيل: هو نصب على المفعول له. وهذا قول كثير من النحاة.
وقيل: هو نصب على المصدر. وفيه على هذا تقديران.
أحدهما: أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر، والمعنى تضرعوا إليه تضرعا وأخفوا
خفية.
الثاني: أنه منصوب بالفعل المذكور لأنه في معنى المصدر، فإن الداعي متضرع في حصول
مطلوبه خائف من فواته. فكأنه قال: تضرعوا تضرعا.
والصحيح في هذا: أنه منصوب على الحال، والمعنى إليه، فإن المعنى ادعوا ربكم
متضرعين إليه خائفين طامعين. ويكون وقوع المصدر موقع الإسم على حد قوله: 2: 177
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وقولهم:
رجل عدل، ورجل صوم. قال الشاعر فإنما هي إقبال وإدبار وهو أحسن من أن يقال: ادعوه
متضرعين خائفين وأبلغ. والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان: الدعاء الموصوف المقيد
بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع. فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة،
وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها. فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون
صفة
(1/265)
للفاعل
وصفة للفعل المأمور به.
فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت: اذكر ربك تضرعا فإنك تريد: اذكره متضرعا إليه،
واذكره ذكر تضرع، فأنت مريد للأمرين معا. ولذلك إذا قلت: ادعه طمعا أي ادعه دعاء
طمع وادعه طامعا في فضله، وكذلك إذا قلت: ادعه رغبة ورهبة، كقوله تعالى: 21: 90
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً
كقوله تعالى: يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وادعه دعاء رغبة ورهبة.
فتأمل هذا الباب تجده كذلك، فأتى فيه المصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة،
وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال.
ومما يدل على هذا: أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف.
فإذا قيل: كيف ادعوه؟ قيل: تضرعا وخفية، وتجد اقتضاء «كيف» لهذا أشد من اقتضاء
«لم» ولو كان مفعولا له لكان جوابا للم، ولا تحسن هنا.
ألا ترى أن المعنى ليس عليه. فإنه يصح أن يقال لم أدعوه؟ فيقول تضرعا وخفية. وهذا
واضح، ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه
من صلاحيته جوابا لكيف.
وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال، بل الإتيان بالحال هاهنا بلفظ
المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال، فهو أتم معنى ولا تنافي
بينهما. والله أعلم.
فصل
قول الله تعالى: 7: 56 إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم
من الله هو رحمته القريبة من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا
وطمعا، فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب
(1/266)
أدائكم
لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم.
فإن الله هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وقوله: إِنَّ رَحْمَتَ
اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله
ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله
وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته
بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة، وإنما
أختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه
تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن
إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه
الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب، فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد
عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من
المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه. فأعظم
الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد
الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله
كأنك تراه»
وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمة الله قريب من صاحبه، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده
المؤمنين به وإنما كتب رحمته: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل
الرحمة، كما أنهم هم المحسنون، وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان. وهل جزاء الإحسان إلا
الإحسان؟ يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه؟ قال بان عباس: هل
جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا
الجنة؟.
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن
(1/267)
مالك
قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ، ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال يقول: هل
جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»
. فصل
وأما الإخبار عن الرحمة- وهي مؤنثة بالتاء- بقوله «قريب» وهو مذكر ففيه اثنا عشر
مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب.
المسلك الأول: أن فعيلا على ضربين: أحدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم.
والثاني: يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح، وكف خضيب. وطرف كحيل وشعر دهين، كله بمعنى
مفعول. فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون
المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيحة وصبي وصبية ومليح ومليحة وطويل
وطويلة ونحوه. وإذا أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يصحب الموصوف كرجل قتيل
وامرأة قتيل أو يفرد عنه. فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل
وامرأة قتيل، وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني
فلان. ومنه قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ- إلى قوله-
وَالنَّطِيحَةُ هذا حكم فعيل، وفعول قريب منه لفظا ومعنى، فإنهما مشتبهان في الوزن
والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول.
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم
لثقل التضعيف إذا قالوا: جالل وعازز وذالل، فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين
بالياء الساكنة، ولم يأتوا في هذا بفعول لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه
من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في
أسماء الله تعالى أكثر من
(1/268)
فعول.
فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور
والشكور والصبور والودود والعفو، ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة.
وإذا ثبت التشابه بين فعيل وفعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل
بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا:
رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ. فإن قصد بالتاء
المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامرأة كذلك، وإن كان فعول في
معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة.
فإذا تقرر ذلك فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل
بمعنى اسم الفاعل العام. فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى
مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقة
التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة فحملوا على جميلة
وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم
إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر.
ونظيره قوله تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فحمل رميما وهي بمعنى
فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النجاة وعليه يعتمدون وقد
اعترض عليه بثلاثة اعتراضات.
أحدها: أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمعتدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه
الفعل المتعدي وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل
المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكن ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي
وهو ممتنع.
(1/269)
الاعتراض
الثاني: أن هذا إن ادعى على وجه العموم فباطل، وإن ادعى على سبيل الخصوص فما
الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ؟.
الاعتراض الثالث: أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من
التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته:
نعم القرين وكنت علق مضنة ... وارى بنعق بلية الأحجار
فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل. وقال:
فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقرن فقيده بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة. وقال الفرزدق:
فداويته عامين وهي قريبة ... أراها وتدنو لي مرارا وأرشف
ويقولون: امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء، وهو بمعنى فاعل وقالوا: امرأة
فروك وهلوك ورشوف وأنوف ورضوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور. وقالوا امرأة عروب
فجردوه أيضا ثم قالوا امرأة ملولة وفروقة فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضا.
ودعوى أن التاء هاهنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في
الاقتران بالتاء والتجرد منها. فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها
ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكر. وأما ما استشهد تم به من
قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فهو على وفق قياس العربية، فإن
العظام جمع عظم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير جوز أن يراعى فيه تأنيث
الجماعة وباعتباره قال: «وهي» ولم يقل وهو. ويراعى فيه معنى الواحد وباعتباره قال
«رميم» كما يقال: عظم «رميم» مع أن رميما يطلق على المذكر مفردا وجمعا. قال جرير:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رميما فلا أصل ولا طرف
(1/270)
فهذا
الاعتراض على هذا المسلك.
فصل
المسلك الثاني: أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى
كقول الشاعر:
أري رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤوّل الرحمة وهي مؤنثة
بالإحسان فيذكر خبرها.
قالوا وتأويل الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين أحدهما: أن الرحمة
معنى قائم بالراحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من الحسنين أظهر
منه في الرحمة.
الثاني: أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان
الذي صدر منهم باعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن
إحسان الله قريب من أهل الإحسان، كما قال تعالى: 55: 60 هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ
إِلَّا الْإِحْسانُ فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة المذكر وهو الإحسان فيفهم
المقابلة المطلوبة.
قالوا: ومن تأويل بمذكر ما أنشده الفراء:
وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة
فتأول الوقائع وهو مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال «تسعة»
ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة.
قالوا: وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال: جاءته كتابي أي صحيفتي. وفي
قول الشاعر:
يا أيها الراكب المربى مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
(1/271)
أي
ما هذه الصيحة مع أنه حمل أصل على فرع فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع
على أصل أولى وأحرى وهذا وجه وجيه.
وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين.
أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال: كلمتني زيد،
وأكرمتني عمرو، وكلمني هند وأكرمني زينب، تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا
لهند وزينب بالشخص والشبح. وهذا باطل، وهذا الاعتراض غير لازم، فإنهم لم يدّعوا
إطراد ذلك وإنما ادّعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل، وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان
وبين ما يطرد، كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني.
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن
يذكر هاهنا ولا ينكره نحوي أصلا. وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات
والمناقضات؟ وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك. فلو أنهم قالوا يجوز تأويل
كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وإنما قالوا يسوغ أحيانا تأويل أحدهما
بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان.
الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقته أو مجازه
وهما ممتنعان. فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر، لأن
الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها. وقد
يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعه كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه
وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده. وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز
إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا. أما الحقيقة فظاهر. وأما المجاز: فإن شرطه خطور
المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر
بالذهن.
(1/272)
وهذا
الاعتراض أفسد من الذي قبله. وهو من باب التعنت والمناكدة.
وأين هذا من قول أكثر المتكلمين- ولعل هذا المعترض منهم-: أنه لا معنى للرحمة
غائيّا إلا الإحسان المحض. وأما الرقة الحنان التي في الشاهد فلا يوصف الله بها
وإنما رحمته مجرد إحسانه، ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل نثبت لله تعالى الرحمة
حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبرأة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر
صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وسائر صفات كماله- فلم نذكره إلا لنبين
فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقول المتكلمين.
ثم نقول: الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته، استلزام
الخاص للعام، فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو
إرادته يستحيل وجودها.
وأما قضية الأم العاجزة: فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة
بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما
بدعاء وإما بإيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك، فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه
عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك
القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم
لا يستلزم الأخص، وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم.
وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور ليس بإحسان
في الحقيقة، وإن كانت صورته صورة الإحسان.
وبالجملة: فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله.
(1/273)
فصل
المسلك الثالث: إن «قريب» في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع
الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: إن مكان الرحمة قريب من المحسنين، ثم حذف المكان
وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره. ومن ذلك قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
فقال: «يصفق» بالياء و «بردى» هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال: «هذان حرام على
ذكور أمتي»
فقال: «حرام» بالإفراد والمخبر عنه مثنى، كأنه قال: استعمال هذين حرام. وهذا
المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا
وإلا لا لتلبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة. إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر
متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف، يخرجه
عن تعلق الأمر والنهي والخبرية، فيقول الملحد في قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ أي معرفة حج البيت وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي معرفة الصيام.
وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة، وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا
يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة، كما إذا قيل: أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت
لحمها فحذف المضاف لا يلبس، وكذلك إذا قلت أكل فلان كد فلان إذا أكل ماله، فإن
المفهوم أكل ثمرة كده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة.
وليس منه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم
للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من
الشراب، والذنوب للدلو الملآن ماء والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.
(1/274)
ثم
إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة
وعلى المسكن بحسب سياق الكلام وبساطه، وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه ولا إضمار
في ذلك ولا حذف.
فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه.
وإذا عرفت هذا فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ليس في
اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضماره
خطأ قطعا. لأنه يتضمن الأخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينصب على إرادته دليلا
لا صريحا ولا لزومها. فدعوى المدعي أنه أراده: دعوى باطلة.
وأما قوله «بردى يصفق» فليس أيضا من باب حذف المضاف بل أراد ببردى النهر، وهو
مذكر، فوصفه بصفة المذكر فقال «يصفق» فلم يذكر بناء على خذف المضاف، وإنما ذكر
بناء على أن بردى المراد به النهر.
فإن قلت: فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لأنفس النهر.
قلت: هذا إن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر «يصفق» باعتبار
الماء المحذوف، فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر، فلا يدل على
ما ادعوه.
وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هذان حرام»
ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده
موصوف بأنه حرام، فلو ثنّى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى. فلهذا أفرد
الخبر، فكأنه قال: كل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الأخبار عن كل
واحد واحد بمفرده.
فتأمله فإنه من بديع اللغة. وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة:
(1/275)
«كلا
وكلتا» وأن قولهم: كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن «كلا» مفرد كما ذهب إليه
البصريون بل هو مثنى حقيقة، وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الأخبار عن كل واحد
منهما بالقيام. وقد قررنا ذلك بما فيه كفايية.
فصل
المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كأنه قال: إن رحمة
الله شيء قريب من المحسنين، أو لطف قريب، أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير.
فمنه قول الشاعر:
قامت تبكيه على قبره ... من لي بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر
المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة. ولولا ذلك لقالت: تركتني غربة. ومنه قول
آخر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد وأنت شخص أو إنسان صديق.
وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة: حائض وطامث وطالق. فقال: كأنهم قالوا:
شيء حائض وشيء طامث، وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه.
أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة
يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره.
الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم
والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن
الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي
نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
(1/276)
وقوله:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب. وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار
على الصفة فلا يحسن أن تقول: جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا، وأنت تريد جاءني
رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا، ولا تقول سكنت في قريب، تريد في مكان قريب مع
دلالة السكنى على المكان.
الثاني: أن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن، فليس في تقديره ولا في
اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فصيحا بليغا فضلا عن أن يكون بها في أعلى
مراتب الفصاحة والبلاغة، فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق: شيء
حائض وشيء طامث وشيء طالق؟ وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع. فكيف يقدر في الكلام
معه أنه لا يتضمن فائدة أصلا؟ إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم
ولا كمال ولا نقصان.
وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل
بمجرد الاحتمال النحوي الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى
ما، فإن هذا المقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها
بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع
السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام
آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن، مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ:
وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً بالجر: إنه قسم. ومثل قول
بعضهم في قوله تعالى:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن المسجد
مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
(1/277)
مِنْ
قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
أن المقيمين مجرور بواو القسم. ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير. بل
القرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه
والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل
أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها
التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز
تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم.
فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي.
فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع في معرفة ضعف كثير من أقوال
المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه. وسنزيد هذا إن شاء
الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم
أصوله.
الوجه الثالث: أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء
إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس، فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث
فلا لبس، فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب.
في ذلك وهو المذهب الكوفي.
فإن قلت: هذا خلاف مذهب سيبويه.
قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين؟
هذه طريقة الخفافيش. فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين
أبدا، وقليل ما هم. ولا ريب أن أبا بشر رحمه الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى
وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلّى في
هذا المضمار، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب، وأنه لا حق
إلا ما قاله. وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه
(1/278)
والمبرزون
منهم؟ ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به.
ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة: مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه
والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك. فسيبويه رحمه الله ممن
يؤخذ من قوله ويترك وإما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا.
وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان
الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد.
فإن قلت: يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله
تعالى: 22: 2 يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت: ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا
المذهب ولا إبطال له، فإن دخول التاء هاهنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين
الإتيان بها، وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع، فالمراد الفعل لا مجرد الوصف
ولا أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل: مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»
فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف
عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها، ويقال على من قام بها بالفعل
أدخلت التاء هاهنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة
هول زلزلة الساعة.
وأكد هذا المعنى بقوله: عَمَّا أَرْضَعَتْ
فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ. وترجيح هذا المذهب له
موضع غير هذا.
فصل
المسلك الخامس: أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف
والاستغناء عنه بالثاني. كقول الشاعر:
(1/279)
لما
أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وقال الآخر:
بغي النفوس معيدة نعماءهما ... نقما، وإن عمهت وطال غرورها
فأنث في الأول «السور» المضاف إلى المدينة، وفي الثاني «المر» المضاف إلى الرياح
وفي الثالث «البغي» المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل
والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث
أولى، لأنه حمل للفرع على الأصل، ومن الأول أيضا قول الشاعر:
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
فأنث الصدر لإضافته إلى القناة. وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا
المعنى بإسناد لا يحضرني:
تجنب صديقا مثل ما واحذر الذي ... تواه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يردى وشاهدي ... كما شرقت صدر القناة من الدم
ومنه قول النابغة:
حتى استغثن بأهل الملح ضاحية ... يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
ومنه قول لبيد:
فمضى وقدمها، وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت أقدامها
وهذا المسلك- وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء- فليس بقوي، لأنه إنما يعرف
مجيئه في الشعر، ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر، كقولهم: ذهبت بعض
أصابعه. والذي قواه هاهنا شدة اتصال
(1/280)
المضاف
بالمضاف إليه، وكونه جزؤه حقيقة، فكأنه قال: ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه. وحمل
القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه:
ليس بسهل.
فصل
المسلك السادس: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر، لكونه تبعا له
ومعنى من معانيه. فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: 26: 4 إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فاستغني عن خبر الأعناق
بالخبر عن أصحابها.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: 9: 62 وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ المعنى: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فاستغنى بإعادة الضمير إلى
الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول: يرضوهما.
فعلى هذا يكون الأصل في الآية: إن الله قريب من المحسنين. وأن رحمة الله قريبة من
المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسى تعبيرا أحسن من هذا. وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على
الافهام. وهو من أسرار القرآن.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة
قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها. فإذا كانت قريبة من
المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك
وتعالى من المحسنين.
(1/281)
وقد
تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله
بإجابته، وذكرنا شواهد ذلك، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب
من ربه الإحسان، وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا
تقرب منه باعا. فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم، قربه
يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء هاهنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة،
وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربه وقرب رحمته. ولو قال إن
رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم، لأن قربه تعالى أخص من
قرب رحمته والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو
قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك. فإن له شأنا. وهو متضمن لسر بديع من أسرار
الكتاب. وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به. وإنما أراد أن
الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الاخبار عن قرب رحمته منهم.
فهو مسلك سابع: في الآية وهو المختار، وهو من أليق ما قيل فيها.
وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك
أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم، وإذا كان
المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين
من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ لها وأشرفه وأجله
على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو
غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في
العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده
إلا غلبت عليه من شقاوته ولا قوة إلا بالله.
(1/282)
فصل
المسلك الثامن: أن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث
وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقوله
فيما
حكى عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي»
ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرا والمصادر لاحظ للتأنيث فيها لم يعد
عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة
والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك.
فصل
المسلك التاسع: أن القريب يراد به شيئان أحدهما: النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول
فلانة قريبة لي والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانة قريبا مني ولا
تقول قريبة مني وهذا مسلك الفراء رحمه الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو
إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا. فأما إذا
كان اسما محضا فلا.
فصل
المسلك العاشر: أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع
الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر
المؤنث فأما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس
طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء.
(1/283)
فصل
المسلك الحادي عشر: ان قريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء، لأنك
إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء.
ولهذا تقول: امرأة عدل، ولا تقول: عدلة، وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره.
وهذا المسلك من أفسد ما قيل في: «قريب» فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا، وإنما
هو وصف والمصدر هو «قرب» لا «قريب» .
فصل
المسلك الثاني عشر: أن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان
أو غير حقيقي، كما قال امرؤ القيس:
برهرهة رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر
قطيع القيام، فتور الكلام ... تفتر عن ذي عزوب خصر
وقال أيضا:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال جرير:
أتنفعك الحياة وأمّ عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار؟
وقال جرير أيضا:
كأن لم نحارب يابثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
وقال أيضا:
دعون الهوى ثم ارتهن قلوبنا ... بأسهم أعداء، وهن صديق
قالوا: وشواهد ذلك كثيرة.
(1/284)
وفي
هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات.
وهذا المسلك ضعيف أيضا. وممن رده أب عبد الله بن مالك، فقال:
هذا القول ضعيف، لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما
يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإما أن يريد أن فعيلا في هذا
الموضع خاصة محمول على فعول. فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في
ظريفة وشريفة وأشباههما وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى:
وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا وقوله: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أن الأصل هو بغوي على
فعول، فلذلك لم تلحقه التاء، ثم أعلّ بإبدال الواو ياء والضمة كسرة، فصار لفظه
كلفظ فعيل، ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء، فقيل: لم أك بغية. والثاني أيضا
مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعا له، بل العكس
أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل، ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول، وهما مختلفان لفظا
ومعنى أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأنّ قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي
قرب وإن قل، وفعول لا بد فيه من المبالغة.
وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها، ثم يقصد به
المبالغة، فتغير بنيته كضارب وضروب، وعالم وعليم. وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه.
وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه.
أحدها: أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستحوذ واستوثق
البعير، وأغيمت السماء وأغور وأحول، وما كان كذلك فلا حكم له.
الثاني: أن يكون أراد قطيعة القيام، ثم حذف التاء للإضافة، فإنها يجوز حذفها عند
الفراء وغيره، وعليه حمل قوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ
(1/285)
أي
إقامتها، لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة، ولا يقال «إقام» دون إضافة كما
لا يقال «إراد» في إرادة ولا «إقال» في إقالة، لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف
إفعال أو عينه، لأن أصل إقامة إقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا
فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاؤوا بالتاء عوضا، فلزمت إلا مع الإضافة، فإن حذفها
جائز عند قوم قياسا، وعند آخرين سماعا.
ومثلها في اللزوم: تاء عدة وزنة. وأصلهما وعد ووزن، فحذفت الواو، وجعلت التاء عوضا
منها فلزمت. وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي أخلفوك عدة الأمر، فحذف التاء.
وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ
عُدَّةً بالهاء أي عدته. فحذف التاء.
الثالث: أن يكون فعيل في قوله «قطيع القيام» بمعنى مفعول، لأن صاحب المحكم حكى أنه
يقال قطعه وأقطعه إذا بكتّه، وقطع هو فهو قطيع القول. فقطيع على هذا بمعنى مقطوع
أي مبكت، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس.
وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع: فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه
على المؤنث أنه شبه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، فأجرى مجراه.
فهذا تمام اثني عشر مسلكا في هذه الآية، أصحها المسلك المركب من السادس والسابع.
وباقيها ضعيف واه ومحتمل والمبتدي والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا
يخفى عليه قويها من ضعيفها. وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم.
(1/286)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة
الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا
أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ
فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ (58)
أخبر سبحانه إنهما إحياء ان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه.
ثم ذكر قياسا آخر: أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة. فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت
نباتها بإذن ربها. فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة.
فشبه سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض،
لحصول الحياة بهذا وهذا.
وشبه القلوب بالأرض، إذ هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي
لا ينتفع بالوحي، ولا يزكو عليه، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر، ولا
تخرج نباتها به إلا قليلا، لا ينفع.
وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها
بالمطر.
فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله، وتدبره بان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرح
ويخصب، ويحسن أثر المطر عليه، فينبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه. والله
الموفق.
[سورة الأعراف (7) : آية 157]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(157)
إذا كان لا معنى عند نفاة الحكمة عن الرب، والحسن والقبح
(1/287)
الفطريين-
للمعروف: إلا ما أمر به، فصار معروفا بالأمر فقط، ولا للمنكر: إلا ما نهى عنه.
فصار منكرا بنهيه فقط فأي معنى لقوله تعالى:
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عما ينهاهم عنه؟.
وهذا كلام ينزه عنه كلام آحاد العقلاء، فضلا عن كلام رب العالمين.
وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر،
فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم. ونهاهم عما هو منكر في الطباع
والعقول بحيث إذا عرض أمره ونهيه على العقل السليم قبله أعظم قبول، وشهد بحسنه كما
قال بعض الأعراب، وقد سئل:
بم عرفت أنه رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهي عنه.
ولا نهى عن شيء، فقال: ليته أمر به.
فهذا الاعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر
به وقبح ما نهى عنه، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته.
ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل.
بل كان يطلب له الدليل من غيره.
ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه.
ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به، والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه،
وشواهد نبوته. ومن يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول ولضده صفات
أوجبت قبحه ونفور العقل عنه، فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة، وجعلها
مستدلا عليه فقط.
(1/288)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ومما
يدل على صحة ذلك قوله تعالى:
7: 157 وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فهذا
صريح في أن الحلال كان طيبا قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه. ولم يستفد
طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين.
أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال: 7:
157 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ،
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ فلو كان الطيب
والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن
يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم. وهذا أيضا باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو
الوجه الثاني.
فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيبا آخر، فصار منشأ طيبه
من الوجهين معا.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها وكمالها
وبهجتها وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين: أن تكون بخلاف ما وردت
به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما يليق به.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 176]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ
بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (176)
(1/289)
فشبه
سبحانه من آتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره. فترك العمل به واتبع هواه،
وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق: بالكلب الذي هو
من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا.
ومن حرصه: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها. ولا يزال
يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته.
وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة
أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم
يدع كلبا يتناول معه منها شيئا إلّا هرّ عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زريّة نبحه، وحمل
عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة وثياب جميلة
ورئاسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في
حال لهثه: سر بديع. وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته
واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن الله والدار
الآخرة. فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه.
واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.
فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك
(1/290)
اللهث
وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا،
وترك اللهف عليها. فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها. وهذا يلهث من قلة صبره
عن الماء. فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش،
وإن كان فيه صبر على الجوع. وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثا: يلهث قائما،
وقاعدا، وماشيا، وواقفا. وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام
اللهث.
فهكذا مشبهه: شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه
بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إن تحمل عليه
الحكمة لم يحملها. وإن تتركه لم يهتد إلى خير، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد
لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق، دعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ. كالكلب
يلهث طردا وتركا.
وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه
يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال.
كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث.
ونظيره قوله سبحانه: 7: 193 وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ
سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ.
(1/291)
وتأمل
ما في هذا المثل من الحكم والمعاني.
فمنها قوله: آتَيْناهُ آياتِنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته. فإنها نعمة
والله هو الذي أنعم بها علينا. فأضافها إلى نفسه. ثم قال: فَانْسَلَخَ مِنْها أي
خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها. وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل: فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها قوله سبحانه: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم
فرعون: 26: 60 فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ وكان محفوظا محروسا بآيات الله محميّ
الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرّة وخطفة. فلما انسلخ من آيات
الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ العاملين بخلاف
علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافة، كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها فأخبر سبحانه أن الرفعة
عنده ليست بمجرد العالم. فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره،
وقصد مرضاة الله. فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه. ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه
به. نعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله
فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا. فإن الرب الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر.
(1/292)
والمعنى:
لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء:
لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق. والأول هو مراده الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو
المراد منها.
قوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض. وقال
مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ في مشيته. ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن
تخرج رباعيته.
وقال الزجاج: خلد وأخلد. وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء.
يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: 56: 17 يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي قد
خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا.
وقيل: هم المقرّطون في آذانهم والمسورون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة
ببعض لوازمها. وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين.
وقوله: وَاتَّبَعَ هَواهُ قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا
(1/293)
وأطاع
شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال ابن
يمان: اتبع امرأته لأنه هي التي حملته على ما فعل.
فإن قيل: الإستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت،
كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه، ول شئت لما فعلت كذا لكني فعلته.
والإستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفعه، فكيف استدرك
بقوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ بعد قوله: لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ
بِها.
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى
المعاني. وذلك أن مضمون قوله: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أنه لم يتعاط
الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر
الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها. فذكر المشيئة والمراد ما هي
تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل: لو لزمها لرفعناه بها. قال:
ألا ترى إلى قوله: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله.
فوجب أن يكون: ولو شئنا في معنى: ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن
يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ.
فهذا من الزمخشري شنشنة «1» نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة، مبعد للنجعة في
جعل كلام الله معتزليا قدريا.
فأين قوله: وَلَوْ شِئْنا من قوله: ولو لزمها. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على
مشيئة الله- وهو الحق- بطل أصله.
وقوله: إن مشيئة الله تابعة للزوم الآيات: من أفسد الكلام وأبطله، بل لزومه لآياته
تابع لمشيئة الله، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة. وسبب
__________
(1) الشنشنة: الخلق والطبيعة.
(1/294)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
لا
مسبب. وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده.
[سورة الأعراف (7) : آية 189]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها
لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ
بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن
الأنقص من الصور. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره، ولا يجد محيدا
لقلبه عنه.
ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه. فعلمنا أنه
شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة بسبب من الأسباب، فتفنى بفنائه.
(1/295)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
سورة
الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأنفال (8) : آية 17]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى،
وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى
الرب وحده. وهذا أغلظ منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال.
فيقال: ما صليت، وما صمت إذا صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته،
ولكن الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعاتهم ومعاصيهم،
إذ لا فرق. فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده، تناقضوا، فهؤلاء
لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد: فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر بقبضة
من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا
تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله
سبحانه وتعالى نيابة، وهو الإيصال. فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفي عنه
رمي الإيصال الذي هو نهايته.
(1/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
ونظير
هذا قوله في الآية نفسها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ثم
قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى فأخبر أنه وحده هو الذي
تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن
ذلك من رسوله. ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة لدفع
المشركين، وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس. فكان
ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه، وبه، وهو خير الناصرين.
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
فتضمنت هذه الآية أمورا.
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة
فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة
الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء،
وإن ماتوا وغيرهم أموات وأن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة
أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة. فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة. وفيه من
الحياة بحسب ما استجاب للرسول. قال مجاهد لِما يُحْيِيكُمْ يعني:
للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا
والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر.
قال بن إسحاق وعروة بن الزبير- واللفظ له- لما يحييكم: يعني للحرب التي أعزكم الله
بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
(1/298)
وهذه
كلها عبارات عن حقيقة واحدة. وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله: لِما يُحْيِيكُمْ هو الجهاد. وهو قول
ابن إسحاق، واختيار أكثر أهل المعاني.
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى
بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم، واجترأ عليهم عدوهم.
قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة. أما في
الدنيا: فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.
وأما في البرزخ: فقد قال تعالى: 3: 169 وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم
ولهذا قال ابن قتيبة: لما يحييكم يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين: لما يحييكم
يعني الجنة. فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي
الجرجاني. والآية تتناول هذا كله. فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي
القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة. والرسول داع إلى الإيمان وإلى
الجنة. وهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة
حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه
هذه الحياة له من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب
الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافي من ذلك.
وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال
فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين
(1/299)
النافع
والضار في العلوم والإرادات، والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق،
وقوة البغض والكراهة للباطل: فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة. كما
أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع
ونصرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن. وذلك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت
حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار،
كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه. فيصير
حيا بذلك النفخ. وكان فضل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ
فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الروح الذي ألقى الله إليه قال تعالى: 16: 2
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وقال: 40: 15 يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وقال: 42: 52 وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. ما كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ
مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا فأخبر أن وحيه روح ونور. فالحياة والاستنارة موقوفة على
نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له
الحياتان.
ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين، وفاتته الأخرى.
قال تعالى: 6: 122 أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ
مِنْها فجمع له بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة.
قال ابن عباس وجميع المفسرين: كان كافرا ضالا فهديناه.
وقوله: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يتضمن أمورا.
أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور، وهم في الظلمة. فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم
عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور
(1/300)
يمشي
به في الطريق ويراها، ويرى ما يحذره فيها.
وثانيها: أنه يمشي بنوره فهم يقتبسون فيه لحاجتهم إلى النور.
وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في
ظلمات شركهم ونفاقهم.
وقوله، 8: 4 وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
المشهور في الآية: أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قول ابن عباس
وجمهور المفسرين: وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى
عليه خافية. فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة.
وكان هذا أنسب بالسياق. لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن.
دون القلب. فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه. فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل
أضمر ذلك أو أضمر خلافه.
وعلى القول الأول: فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا
تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم. فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة، وعقوبة
لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته، فيكون كقوله: 6: 110 وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقوله:
61: 5 فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله: 7:
101 فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ.
ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب، وإن استجاب بالجوارح.
وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة، وبين القدر
والإيمان به. فهي كقوله: 81: 28، 29 لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما
تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قوله:
(1/301)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
74:
55: 56 فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والله
أعلم.
[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(64)
أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك. فلا يحتاجون معه إلى أحد.
وهاهنا تقديران.
أحدهما: أن تكون الواو عاطفة «من» على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير
المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية.
والثاني أن تكون الواو واو المعية وتكون «من» في محل نصب عطفا على الموضع فإن
«حسبك» في معنى كافيك، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيدا
درهم قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند
وهذا أصح التقديرين:
وفيها تقدير ثالث: أن تكون «من» في موضع رفع بالابتداء أي: ومن اتبعك من المؤمنين
حسبهم الله.
وفيها تقدير رابع- وهو خطأ من جهة المعنى- وهو أن يكون «من» في موضع رفع عطفا على
اسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك.
وهذا- وإن قال به بعض الناس- فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب
والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوي والعبادة. قال الله تعالى: 8: 62 وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
(1/302)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ
ففرق بين الحيب والتأييد. فجعل الحيب له وحده، وجل التأييد له بنصره وبعباده.
وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال
تعالى: 3: 173 الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى
لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله «الله وأتباعك حسبك» وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى
بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه؟ فكيف يشرك الله بينهم وبينه في حسب رسوله؟
هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل.
ونظير هذا قوله تعالى: 9: 59 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَرَسُولُهُ. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ.
وتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله. كما قال تعالى: 59: 7 وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص
حقه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل
الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: 94: 7، 8 فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى
رَبِّكَ فَارْغَبْ.
فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله
وحده والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى.
ونظير هذا: قوله تعالى: 39: 36 أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ فالحسب هو
الكافي. فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده. فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه
الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا.
وأما التثبيط
[سورة التوبة (9) : آية 46]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
(1/303)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
والتثبيط
رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله. قال ابن عباس: يريد خزلهم وكسلهم عن الخروج. وقال
في رواية أخري: حبسهم. قال مقاتل: وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين. وقد بين
سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال: 9: 45- 46 إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ فلما تركوا الإيمان به
وبلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعة الله، ولم يستدعوا
له، ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه. فإن من لم يرفع به وبرسوله
وكتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه،
ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا. فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله
يكرهه سبحانه فثبّطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن
يقعد مع القاعدين ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم
[سورة التوبة (9) : آية 47]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (47)
والخبال: الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم. فأوقعوا
بينهم الاضطراب والاختلال. قال ابن عباس: ما زادوكم إلا خبالا: عجزا وجبنا. يعني
يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم، وتعظيمهم في صدورهم. ثم قال: 9: 47
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد. قال ابن
عباس: يريد أضعفوا شجاعتكم، يعني بالتفريق بينهم، لتفرق الكلمة فيجبنوا عن لقاء
العدو.
وقال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين. وقال الكلبي:
ساروا بينكم يبغونكم العيب. قال لبيد:
(1/304)
أرانا
موضعين لحتم عيب ... وسحر بالطعام وبالشراب
أي مسرعين. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة.
يتألهن بالعرفان لما عرفتني ... وقلن امرؤ باغ أكلّ وأوضعا
أي أسرع حتى كلت مطيته يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم، وقال ابن إسحاق: وفيكم قوم أهل محبة لهم
وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم. ومعناه على هذا القول: وفيكم أهل سمع وطاعة
لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت: تتضمن «سماعون» معنى مستجيبين. وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: المعنى وفيكم
ميول لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، أي جواسيس والقول هو الأول. كما قال تعالى:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي قابلون له. ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين. فإن
المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم، ويجالسونهم،
ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم. فإن هذا
إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها. وأرصد بينهم عيونا له. فالقول قول
قتادة وابن إسحاق والله أعلم.
فإن قيل: انبعاثهم إلى طاعته طاعة له. فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو
يحب ضدها لا محالة، إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم
محبوبا له، فكيف يعاقبهم عليه؟.
قيل: هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب.
وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم.
فالجبرية: تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح. وكل ممكن فهو جائز عليه.
ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما
(1/305)
يبغضه
ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء.
وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية: تجيب عنه على أصولها أنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم، بل هم
منعوا أنفسهم، وثبطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد.
ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج
مع رسوله.
قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الإنبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة، من غير أن يكره
هو سبحانه انبعاثهم. فإنه أمرهم به.
قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه. ولا يخفى على من نوّر الله بصيرته فساد هذين
الجوابين وبعدهما من دلالة القران.
فالجواب الصحيح: أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة ولأمره واتباعا لرسوله صلّى الله
عليه وسلّم، ونصرة له وللمؤمنين، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينا، وعلم سبحانه أن
خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله
وللمؤمنين، فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه،
فكان مكروها له من هذا الوجه، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أو يساؤه. وهو
يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه له. فكرهه وعاقبة على ترك الخروج الذي
يحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه.
وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبتهم عليه ولم يرضه
معهم. وهذا الخروج المكروه له ضدان.
أحدهما: الخروج المضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه.
والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه. وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا.
وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه
(1/306)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
لا
ينافي كراهته لهذا الضد.
فنقول للسائل: قعودهم مبغوض له، ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه. أحدهما: أكره
له من الآخر. لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره
أكره إليه. ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه. فدفع المكروه الأعلى
بالمكروه الأدنى. فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه. فإن مفسدة
قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين. فتأمل هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟.
قلت: قد تقدم الجواب مثل هذا السؤال مرارا. وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق
في غير محله. وعند غير أهله. فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله. وليس كل محل
يصلح لذلك. ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلت: وعلى ذلك فهو جعل المحال كلها صالحة.
قلت: يأباه كمال ربوبية وملكه، وظهور آثار السماء وصفاته في الخلق والأمر وهو
سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له. فإنه يجب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحّد ويعبد،
ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه بين استواء أقدام الخلائق في الطاعة
والإيمان. وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم
وتخصيصهم بفضله. وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته
وشدة أخذه وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق، ولو تناهوا في
العلم والمعرفة. إلى الإحاطة بها. ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة
عصفور في بحر.
[سورة التوبة (9) : آية 103]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
أصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين. أحدهما: الدعاء والتبريك. والثاني
العبادة.
فمن القول الأول: 9: 103 خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقوله تعالى
في حق المنافقين: 9:
84 وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب، فإن كان صائما
فليصل» فسر بهما «1» .
قيل: فليدع لهم بالبركة، وقيل: يصلي عندهم بدل أكله.
وقيل: إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
والعابد داع، كما أن السائل داع. وبهما فسر قوله تعالى: 40: 60 وَقالَ رَبُّكُمُ:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قيل: أطيعوني أثبكم.
وقيل: سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى: 2: 186 وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.
والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه.
فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: 34: 22 قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ
وَلا فِي الْأَرْضِ وقوله تعالى: 16: 20 وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وقوله تعالى: 25: 77 قُلْ ما يَعْبَؤُا
بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ والصحيح من القولين: لولا أنكم تدعونه وتعبدونه،
أيّ شيء يعبؤه بكم لولا عبادتكم إياه. فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل. وقال تعالى:
7:
55، 56 ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وأبن ماجة عن أبي هريرة.
(1/307)
ورسله:
21: 90 إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً
وَرَهَباً.
وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول
الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول من موضعه في اللغة. فيكون
حقيقة شرعية، أو مجازا شرعيا؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة،
وهو الدعاء. والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة. والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين
دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا، ولا منقولة، لكن خص اسم
الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض
مسماها كالدابة والرأس ونحوها. فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا
يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم.
فصل
هذه الصلاة من الآدمي.
وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان: عامة وخاصة.
أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال تعالى: 33:
43 هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ومنه
دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة وعلى آحاد المؤمنين كقوله: «اللهم صل على
آل أبي أوفى»
وفي حديث آخر: «أن امرأة قالت له: صلّ عليّ وعلى زوجي. قال: صلّى الله عليك وعلى
زوجك» .
النوع الثاني صلاته الخاصة: على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلّى
الله عليه وسلّم. فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال.
(1/309)
أحدها:
أنها رحمة. قال إسماعيل: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن
الضحاك قال «صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء» .
وقال المبرد: أصل الصلاة الرحمة، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رحمة واستدعاء
الرحمة من الله.
وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
والقول الثاني: أن صلاة مغفرته. قال إسماعيل حدثنا محمد بن أبي بكر قال: حدثنا
محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك «هو الذي يصلي عليكم، قال: صلاة الله مغفرته.
وصلاة الملائكة الدعاء» .
وهذا القول هو من جنس الذي قبله. وهما ضعيفان لوجوه.
أحدها: أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته. فقال:
2: 155: 156: 157 وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ فعطف الرحمة على
الصلاة: فاقتضى ذلك فغايرهما. هذا أصل العطف.
وأما قولهم:
وألفى قولها كذبا ومينا
فهو شاذ نادر، لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب.
الوجه الثاني: أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. وأما
رحمته فوسعت كل شيء. فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة
وموجباتها وثمراتها. فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها. وهذا
كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن.
(1/310)
والرسول
صلّى الله عليه وسلّم يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها لتفسير الريب بالشك. والشك
جزء من الريب. وتفسير المغفرة بالستر، فهو جزء من مسمي المغفرة.
وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان. وهو لازم الرحمة. ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في
أصول التفسير.
الوجه الثالث: أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين. واختلف السلف والخلف في
جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله
تعالى.
فعلم أنهما ليسا بمترادفين.
الوجه الرابع: أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر
وأسقطت الوجوب عند من أوجبها، إذا قال: اللهم ارحم محمدا وآل محمد. وليس الأمر
كذلك.
الوجه الخامس: أنه لا يقال عن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه أنه صلّى
عليه. ويقال: إنه قد رحمه.
الوجه السادس: أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة، ولا
يصلي عليه.
الوجه السابع: أن الصلاة لا بد فيها من كلام. فهي ثناء من المصلي على من يصلي
عليه، وتنويه به وإشادة بمحاسنه وما فيه وذكره. ذكر البخاري في صحيحه عن أبي
العالية قال «صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة» وقال إسماعيل في كتابه
حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي
العالية «ان الله وملائكته يصلون على النبي قال: صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه،
وصلاة الملائكة عليه: الدعاء» .
الوجه الثامن: أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعها في
(1/311)
فعل
واحد. وقال: 33: 56 إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة. وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته
عليه.
ولا يقال: الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا.
لأن في ذلك، محاذير متعددة.
أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد، كما نص
على ذلك أئمة اللغة: منهم المبرد وغيره. وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا، بسبب تعدد
الواضعين. ثم تختلط اللغة فيعرض الاشتراك.
الثاني: أن الأكثرين لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق
الحقيقة، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه.
وإنما أخذ من قوله: إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم. فظن
من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما. وهذا ليس بصحيح.
فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه يقولان بدخول
نوعي الموالي في هذا اللفظ. وهو عنده عام متواطئ لا مشترك.
وأما ما حكى عن الشافعي أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله:
5: 6 أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قد قيل له: وقد يراد بالملامسة الجامعة.
فقال: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي،
ولا هو من جنس المألوف من كلامه. وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين. وقد ذكرنا
على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا في بضعة عشر دليلا في مسألة القرء
من كتاب التعليق على الأحكام.
(1/312)
فإذا
كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما
هو المعروف من هذه اللفظة، لم يكن الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل
يكون مستعملا في معنى واحد. وهذا هو الأصل في الألفاظ وسنعود إن شاء الله تعالى
إلى هذه المسألة في الكلام على قوله تعالى: 33: 56 إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.
وأما الصرف فقال تعالى: 9: 127 وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ فأخبر سبحانه عن فعلهم، وهو
الانصراف، وعن فعله فيهم، وهو صرف قلوبهم ان القرآن وتدبره، لأنهم ليسوا أهلا لها.
فالمحل غير صالح ولا قابل. فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد.
وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة. وقد صرح سبحانه بهذا في قوله:
8: 23 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم
لا خير فيهم يدخل الإيمان بسببه إلى قلوبهم. فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به،
وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل
لهم. ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم، يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم. هذا
السماع الخاص، وهو الكبر التولي والاعراض. فالأول:
مانع من الفهم. والثاني: مانع من الانقياد والإذعان. فأفهامهم سيئة وقصودهم رديئة
وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء. كما أن سمة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح، وقصد صالح.
والله المستعان.
وتأمل قوله سبحانه: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ كيف جعل هذه
الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة- عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر
غير الصرف الأول. فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لا قبالهم لأنه لا
صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم الإقبال
(1/313)
والإذعان،
فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير
الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول، كما قال:
61: 5 فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه
سبحانه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال إليه. ولتكن قصة إبليس منكر على
ذكر تنتفع بها أتم انتفاع. فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك
عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى
كل معصية وفروعها، صغيرها وكبيرها. وصار هذا الإعراض والكفر عقوبة لذلك الإعراض
والكفر السابق. فمن عقاب السيئة السيئة بعدها. كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى:
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وأَنَّى يُؤْفَكُونَ وقال: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين، فكيف ينعي ذلك عليهم؟
قيل: هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق،
وهيأ لهم الأسباب. فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله.
وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الردى وأسباب
الفلاح. وجعل لهم أسماعا وأبصارا، فآثروا الهوى على التقوى، واستحبوا العمى على
الهدى، وقالوا:
معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في
دنيانا من عبادتك. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته
ومحبته. فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم. فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة
منهم واختيارا، فسده عليهم اضطرارا. فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولاهم ما تركوه
ومكنهم
(1/314)
فيما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه. وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه، وهم معرضون. فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله. ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة. ولأنشأهم على غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، والطيب والخبيث والملائكة والشياطين، والنساء والذباب، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له. فبعضها بطباعها، وبعضها بإرادتها ومشيئتها. وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجب حمده، ومقتضي كماله المقدس، وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما. إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.
(1/315)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
سورة
يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة يونس (10) : آية 23]
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(23)
شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها، وتعجبه،
فيميل إليها، ويهواها، اغترارا منه بها. حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها
بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها. فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها،
فتعشب ويحسن نباتها، ويروق منظرها للناظر، فيغتر بها، ويظن أنه قادر عليها، مالك
لها. فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة، فتصبح كأن لم تكن قبل شيئا. فيخيب
ظنه، وتصبح يداه منها صفرا.
فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء.
وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
[سورة يونس (10) : آية 25]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (25)
ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات وجنة الآخرة سليمة منها، قال:
(1/317)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
10:
25 وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ فسماها هاهنا دار السلام، لسلامتها من
هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا. فعم بالدعوة إليها، وخص بالهداية لها من يشاء.
فذاك عدله. وهذا فضله.
[سورة يونس (10) : آية 30]
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس 10: 30 وبين قوله في سورة سبأ
34: 24 قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قيل:
هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها، وألطفها فرقا، فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع،
فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به، ولم يمكنهم
إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم، ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبر أمورهم
وغيرها. ومخرج الحي من الميت والميت من الحي.
فلما كانوا مقرين بهذا كله حين الاحتجاج به عليهم: أن فاعل هذا هو الله الذي لا
إله غيره. فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا، ولا
يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى: فَسَيَقُولُونَ:
اللَّهُ أي لا بد أنهم يقرون بذلك، ولا يجحدونه. فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون
به. والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه
السماء التي يشاهدونها بالحق، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء
إلى سماء، حتى تنتهي إليهم، ولم يصل علمهم إلى هذا. فأفرد لفظ السماء هنا، فإنهم
لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها، لا سيما والرزق هاهنا إن كانوا هو المطر فمجيئه
من السماء التي هي السحاب، فإنه يسمى سماء لعلوه. وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب
في السماء بقوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ والسحاب إنما هو
(1/318)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
مبسوط
في جهة العلو، لا في نفس الفلك. وهذا معلوم بالحس، فلا يلتفت إلى غيره. فلما انتظم
هذا بذكر الاحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء، لأنهم لا يقرون بما ينزل
من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح. فلا بد من الوحي الذي به الحياة
الحقيقية الأبدية. وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية.
فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والمواد الربانية، والتنزلات
الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق. ولكن القوم لم
يكونوا مقرين به، فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم، بحيث لا يمكنهم إنكاره.
أما الآية التي في سبأ: فلم تنتظم ذكر إقرارهم بما ينزل من السموات. ولهذا أمر
رسوله بأن يتولى الجواب فيها، ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون. فقال قُلْ:
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ اللَّهُ ولم يقل: سيقولون
الله. فأمر تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي
ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات السبع. وأما الأرض فلم يدع السياق
إلى جمعها في واحدة من الاثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر، وبر وفاجر.
[سورة يونس (10) : آية 58]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم: ورحمته القرآن، فجعلوا رحمته أخص من
فضله. فإن فضله الخاص على أهل الإسلام، ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض.
فجعلهم مسلمين بفضله، وأنزل إليهم كتابه برحمته. قال تعالى: 28: 86 وَما كُنْتَ
تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وقال أبو
سعيد الخدري «فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله» .
قلت: يريد بذلك أن هاهنا أمرين:
(1/319)
أحدهما:
الفضل في نفسه. والثاني: استعداد المحل لقبوله، كالغيث يقع على الأرض القليلة
النبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له. والله أعلم.
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: مطلق، ومقيد. فالمطلق:
جاء في الذم كقوله: 28: 76 لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
وقوله 11: 10 إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ والمقيد نوعان أيضا: مقيد بالدنيا، ينسى
صاحبه فضل الله ومنته، فهو مذموم. كقوله 6: 44 حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ والثاني: مقيد بفضل الله وبرحمته،
وهو نوعان أيضا: فضل ورحمة بالسبب وفضل ورحمة بالمسبب.
فالأول: كقوله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
والثاني: كقوله 3: 17 فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فالفرح بالله
ورسوله وبالإيمان والسنة وبالعلم والقرآن من علامات العارفين. قال الله تعالى: 9:
134 وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ
هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً، وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ وقال 13: 36 وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه
ومحبته له. وإيثاره له على غيره. فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله على قدر محبته له
ورغبته فيه. فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله، ولا يحزنه فواته. فالفرح
تابع للمحبة والرغبة. فالفرق بينه وبين الاستبشار: أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله،
والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى:
3: 170 فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ.
(1/320)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
والفرح
صفة كمال. ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه بتوبة التائب أعظم
من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها
والناس من حصولها.
والمقصود: أن الفرح على أنواع: نعيم القلب ولذته، وبهجته، والفرح والسرور: نعيمه.
والهم والحزن: عذابه. والفرح بالشيء فوق الرضى به، فإن الرضى طمأنينته وسكونه
وانشراحه. والفرح لذته وبهجته وسروره. فكل فرح راض. وليس كل راض فرح. ولهذا كان
الفرح ضد الحزن، والرضى ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه. والسخط لا يؤلمه، إلا إن كان
مع العجز عن الانتقام. والله أعلم.
[سورة يونس (10) : آية 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(87)
هو من أحسن النظم وأبدعه، فإنه ثنى أولا، إذ كان موسى وهارون هما الرسولان
المطاعان. ويجب على بني إسرائيل طاعة كل واحد منهما، سواء. وإذا تبوآ البيوت
لقومهما فهم لهما تبع.
ثم جمع الضمير فقال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ لأن إقامتها فرض على الجميع، ثم وحده في
قوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأن موسى هو الأصل في الرسالة وأخاه ردءه ووزير،
وكما كان موسى الأصل في الرسالة فهو الأصل في البشارة.
وأيضا: فإن موسى وأخاه لما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا، كقوله تعالى: 26:
16نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
فهذا الرسول هو الذي قيل له: وبشر المؤمنين.
(1/321)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
سورة
هود
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة هود (11) : آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)
والخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض، وبه فسر ابن عباس وقتادة لفظ
«المخبتين» وقالا: هم المتواضعون. وقال مجاهد:
المخبت: المطمئن إلى الله عز وجل.
قال: والخبت المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش:
الخاشعون.
وقال: إبراهيم النخعي: المصلون المخلصون.
وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون، وإذا
ظلموا لم ينتصروا.
وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع، والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدّي ب
«إلى» تضمينا، لمعنى الطمأنينة والإنابة، والسكون إلى الله.
(1/323)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
[سورة
هود (11) : آية 24]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
فإنه ذكر سبحانه الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون،
ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية
الظاهر والباطن، ثم جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية
الحق، أعمى أصم عن سماعه.
فشبه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن استماع الأصوات.
والفريق الآخر: بصير القلب سميعه بصير العين، سميع الأذن.
وقد تضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين. ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله:
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا.
[سورة هود (11) : آية 32]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
أودع الله في قلوب أتباع رسله سرا من أسرار معرفته ومحبته، والإيمان به خفي على
أعداء الرسل، فنظروا إلى ظواهرهم، وعموا عن بواطنهم، فازدروهم واحتقروهم وقالوا
للرسول: وهؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك، وقالوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فقال نوح لقومه وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ
اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما
فِي أَنْفُسِهِمْ.
قال الزجاج: المعنى: إن كنتم تزعمون أنهم اتبعوني في بادئ الرأي وظاهره فليس عليّ
أن أطلع على ما في أنفسهم، فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في
نفوسهم إلى الله. وهذا معنى حسن.
والذي يظهر من الآية: أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهّلهم، لقبول
(1/324)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
دينه،
وتوحيده، وتصديق رسله، والله سبحانه وتعالى حكيم، يضع العطاء في مواضعه.
وتكون هذه الآية مثل قوله 6: 53 وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟.
فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهّلهم للهدى والحق، وحرمه رؤساء الكفار وأهل
العزة منهم والثروة، كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة، فأخبر سبحانه
أنه أعلم بمن يؤهله لذلك، لسر عنده من معرفة قدر النعمة ورؤيتها من مجرد فضل
المنعم ومحبته وشكره عليها، وليس كل أحد عنده هذا السر، فلا يؤهل لهذا العطاء كل
أحد.
[سورة هود (11) : آية 56]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
أخبر عن عموم قدرته تعالى، وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته، وأنه آخذ بنواصيهم.
فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم. ثم عقب ذلك بالإخبار عن تصرفه فيهم،
وأنه بالعدل لا بالظلم، وبالإحسان لا بالإساءة، وبالصلاح لا بالفساد. فهو يأمرهم
وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم. لا حاجة إليهم، ولا بخلا عليهم. بل جودا
وكرما وبرا ولطفا ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة. لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين
واجب يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة. لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما. كما يعاقب
الملوك وغيرهم. بل هو على الصراط المستقيم. وهو صراط العدل والإحسان. في أمره
ونهيه، وثوابه وعقابه.
فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة، وكمال الملك، ومن تمام الحكمة
والعدل والإحسان، وما تضمنته من الرد على الطائفتين، فإنها من كنوز القرآن. ولقد
كفت وشفت لمن فتح عليه باب فهمها.
فكونه تعالى على صراط مستقيم: ينفي ظلمه للعباد. وتكليفه إياهم ما
(1/325)
لا
يطيقون. وينفي العيب من أفعاله وشرعه، ويثبت لها غاية الحكمة والسداد، ردا على
منكري ذلك، وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته، وهو آخذ بناصيتها. ينبغي أن لا يقع في
ملكه من أحد من مخلوقاته شيء بغير مشيئته وقدرته.
وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا
بإقداره ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى وهذا أبلغ رد على منكري ذلك من القدرية.
فالطائفتان ما وفوا الآية معناها، ولا قدروها حق قدرها.
فهو سبحانه على صراط مستقيم في إعطائه ومنعه، وهدايته وإضلاله، وفي نفعه وضره،
وعافيته وبلائه، وإغنائه وإفقاره، وإعزازه وإذلاله، وإنعامه وانتقامه، وثوابه
وعقابه، وإحيائه وإماتته، وأمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، وفي كل ما يخلق، وكل ما
يأمر به، وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم.
(1/326)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
سورة
يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة يوسف (12) : آية 30]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ
نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر.
أحدها: قولهن: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها ولم يسموها باسمها، بل ذكروها
بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل، فصدور الفاحشة من ذات الزوج
أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثاني: أن زوجها عزيز مصر، ورئيسها، وكبيرها. وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.
الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حرّ. وذلك أبلغ في القبح.
الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها، وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت. بخلاف من
تطلب ذلك من الأجنبي البعيد.
والخامس: أنها هي المراودة الطالبة.
(1/327)
السادس:
أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.
السابع: أن في ضمن هذا: أنه أعفّ منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هي المراودة الطالبة،
وهو الممتنع، عفافا وكرما وحياء. وهذا غاية الذم لها.
الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع
حالا واستقبالا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف
ضيفا، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام، ويحمل الكلّ. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه
وعادته.
التاسع: قولهن إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية
الاستقباح. فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن
يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان
هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن
معاونتها عليه.
العاشر: أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط، فلم
تقتصد في حبها، ولا في طلبها.
أما العشق فقولهن قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها.
وأما الطلب المفرط فقولهن تُراوِدُ فَتاها والمراودة: الطلب مرة بعد مرة فنسبوها
إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة.
فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت
إليهن، فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن.
وقيل: إنها جملته، وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة.
فلم يرعهنّ إلا وأحسن خلق الله وأجمله قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك
(1/328)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
المنظر
البهي. وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلن، فدهش حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن.
وقد قيل: إنهن أبنّ أيديهن. ولكن الظاهر خلاف ذلك. وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها،
وشقها بالمدى، لدهشتهن بما رأين. فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت
هذه في النساء غاية في المكر.
[سورة يوسف (12) : آية 40]
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزّى، وهي
مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة.
فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا
مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى. فما عبدوا إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن
سمى قشور البصل لحما، وأكلها. فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن
سمى التراب خبزا وأكله، يقال له: ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في
آلهتهم. فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه. وما الحكمة ثمّ إلا مجرد الاسم.
فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ
رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
فإن قيل: فكيف قال وقت ظهور براءته؟ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي.
قيل: هذا قد قاله جماعة من المفسرين. وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا: إن
هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف عليه السلام.
والصواب معهم من وجوه.
أحدها: أنه متصل بكلام المرأة، وهو قولها 12: 51- 53 الْآنَ
(1/329)
حَصْحَصَ
الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي
ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه ما.
والقول في مثل هذا لا يحذف، لئلا يوقع في اللبس. فإن غايته: أن يحتمل الأمرين.
فالكلام الأول أولى به قطعا.
والثاني: أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه، بل كان في السجن لما
تكلمت بقولها الآن «حصحص الحق» والسياق صحيح صريح في ذلك. فإنه لما أرسل إليه
الملك يدعوه قال للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ، فَسْئَلْهُ: ما بالُ النِّسْوَةِ
اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. فأرسل إليهن الملك وأحضرهن، وسألهن، وفيهن
امرأته. فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته، ولم يمكنهن إلا قول الحق، فقال النسوة
حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقالت امرأة العزيز أَنَا
راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
فإن قيل: لكن قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ
اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام،
أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال
غيبته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وَما
أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ
رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا من تمام معرفته صلّى الله عليه وسلّم
بربه ونفسه. فإنه لما أظهر نزاهته وبراءته مما قذف به أخبر عن حال نفسه، وأنه لا
يذكيها ولا يبرئها، فإنها أمارة السوء، لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه. فرد
الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته.
قيل: هذا وإن كان قد قاله طائفة. الصواب أنه من تمام كلامها، ولكن فإن الضمائر
كلها في نسق واحد يدل عليه. وهو قول النسوة ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقول
امرأة العزيز أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هذه
خمسة ضمائر بين بارز ومستتر. ثم اتصل بها قوله:
(1/330)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
12:
52 ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فهذا هو المذكور أولا
بعينه.
فلا شيء يفصل الكلام من نظمه، ويضمر فيه قول لا دليل عليه.
فإن قيل: فما معنى قولها: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» .
قيل: هذا من تمام الاعتذار، قرنت الاعتذار بالاعتراف، فقالت ذلك أي قولي هذا
وإقراري ببراءته: ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته، وإن خنته في وجهه في
أول الأمر، فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته، ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وَما
أُبَرِّئُ نَفْسِي ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرئ نفسها، وهي أن النفس أمارة
بالسوء.
فتأمل ما أعجب أمر هذه المرأة، أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها، ثم اعتذرت عن
نفسها، ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت، ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله
ورحمته، وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر.
فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى.
وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت، ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين
الشرك. فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه، وإن أشركوا معه غيره.
ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال 12: 29 وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ
كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ
فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه، والبراءة
من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات
(1/331)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
العبد،
وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.
[سورة يوسف (12) : آية 108]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قال الفراء: وجماعة «ومن اتبعني» معطوف على الضمير في «أدعو» يعني أنا ومن اتبعني
يدعو إلى الله كما أدعو، وهذا قول الكلبي، قال: حق على كل من أتبعه أن يدعو إلى ما
دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة.
ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة:
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله «إلى الله» ثم يبتدئ بقوله «على
بصيرة أنا ومن اتبعني» فيكون الكلام على قوله جملتين، أخبر في أولاهما أنه يدعو
إلى الله، وفي الثانية: بأنه مع أتباعه على بصيرة، والقولان متلازمان فلا يكون
الرجل من أتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه ويكون على بصيرة.
وقول الفراء أحسن وأقرب إلى الفصاحة والبلاغة.
وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها: فهي لا تحصل إلا
بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد
أقصى يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم: أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله
يؤتي فضله من يشاء.
(1/332)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
سورة
الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الرعد (13) : آية 8]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما
تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8)
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ من التسعة أشهر وَما تَزْدادُ:
ما تزيد فيها، ووافقه على هذا أصحابه، كمجاهد وسعيد بن جبير.
وقال مجاهد أيضا: إذا حاضت المرأة على ولدها كان نقصانا من الولد، وما تزداد، قال:
إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها.
وقال أيضا: ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد، والزيادة ما زاد
على تسعة أشهر، وهو تمام النقصان.
وقال الحسن: ما تغيض الأرحام: ما كان من سقط، وما تزداد: تلد المرأة لعشرة أشهر.
وقال عكرمة: ما تغيض الأرحام: الحيض بعد الحمل، فكل يوم رأت فيه الدم حاملا
ازدادته في الأيام طاهرا، فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل.
(1/333)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
وقال
قتادة: الغيض: السقط، وما تزداد: فوق التسعة أشهر.
وقال سعيد بن جبير: إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد، فهو نقصان في
غذاء الولد، وزيادة في الحمل.
«تغيض، وتزداد» فعلان متعديان مفعولهما محذوف، وهو العائد إلى «ما» الموصولة،
والغيض: النقصان. ومنه 11: 44 وَغِيضَ الْماءُ وضده الزيادة.
والتحقيق في معنى الآية: أنه يعلم مدة الحمل، وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان،
فهو العالم بذلك دونكم، كما هو العالم بما تحمل كل أنثى: هل هو ذكر أو أنثى؟ وهذا
أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، كما
في الصحيحين عنه صلّى الله عليه وسلّم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا
يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله»
فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم، وعلم مدة إقامته فيه، وما يزيد في بدنه، وما
ينقص.
وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتمام، ورؤية الدم وانقطاعه.
والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن، وما يتصل بها من زيادة ونقصان.
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ
حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
شبه الله الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي
(1/334)
أنزله
لحياة الأرض بالنبات. وشبه القلوب بالأودية. فقلب كبير. يسع علما عظيما. كواد كبير
يسع ماء كثيرا. وقلب صغير إنما يسع بحسبه، كواد صغير، فسالت أودية بقدرها. واحتملت
قلوب من الهدى والعلم بقدرها، وكما أن السيل إذا خالط القلوب أثار ما فيها من
الشهوات والشبهات، ليقلعها ويذهبها، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه،
فيتكدر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء. فإنه إنما أثارها ليذهب بها، فإنه لا
يجامعها ولا يشاركها. وهكذا يضرب الله الحق والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ
حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة
والنحاس والحديد، فتخرجه النار وتميزه، وتفصله من الجوهر الذي ينتفع به، فيرمى
ويطرح ويذهب جفاء، وكذلك الشهوات والشبهات يرميها العلم والهدى من قلب المؤمن
ويطرحها. ويجفوها، كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث، ويستقر في
قرار الوادي الماء الصافي الذي يستسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم. كذلك
يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره.
ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما.
والله الموفق.
وقال في مفتاح دار السعادة: 13: 17 أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً.
هذا هو المثل المائي. شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب بالماء الذي أنزله من
السماء. وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علما عظيما
كواد كبير يسع ماء كثيرا، وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا، فحملت القلوب من
هذا العلم بقدرها، كما سالت الأودية بقدرها.
(1/335)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
ولما
كانت الأودية مجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل، فيحتمله السيل،
فيطفو على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكما، ولكن تحته الماء الفرات الذي به
حياة الأرض، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى ذلك منه شيء، ويبقى
الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والشجر
والدواب والغثاء يذهب جفاء يجفى ويطرح على شفير الوادي، فكذلك العلم والإيمان،
الذي أنزله في القلوب، فاحتملته، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات
وزبد الشبهات الباطلة. فيطفو في أعلاها. واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر
القلوب. فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئا فشيئا حتى يزول كله.
ويبقى العلم النافع، والإيمان الخالص في هذا القلب، يرده الناس فيشربون ويسقون
ويمرعون.
[سورة الرعد (13) : آية 28]
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
الطمأنينة: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه. ومنه الأثر المعروف «الصدق
طمأنينة، والكذب ريبة» أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكونا إليه.
والكذب يوجب اضطرابا وارتيابا. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «البر ما اطمأن إليه القلب»
أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.
وفي «ذكر الله» هاهنا قولان.
أحدهما: أنه ذكر العبد ربّه، فإنه يطمئن إليه قلبه، ويسكن. فإذا اضطرب القلب وقلق
فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله.
ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه. فمنهم من قال: هذا في الحلف واليمين، إذا حلف
المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه، واطمأنت. ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله
عنهما.
(1/336)
ومنهم
من قال: بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه، يسكن إليه قلبه، ويطمئن.
والقول الثاني: أن ذكر الله هاهنا القرآن، وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به
طمأنينة قلوب المؤمنين. فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين.
ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن. فإن سكون القلب وطمأنينته من
يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه. والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون
والأوهام. فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به. وهذا القول هو المختار.
وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: 43: 36 وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على
رسوله، وهو كتابه من أعرض عنه قيض الله له شيطانا يضله ويصده عن السبيل. وهو يحسب
أنه على هدي.
وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: 20: 124 وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى والصحيح أنه ذكره
الذي أنزله على رسوله وهو كتابه. ولهذا يقول المعرض عنه 20: 125، 126 رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا
فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى.
وأما تأويل من تأوله على الحلف ففي غاية البعد عن المقصود. فإن ذكر الله بالحلف
يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر. والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق
ولو لم يحلف. ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون منه ولو حلف.
وجعل الله الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم. وجعل الغبطة والمدحة والبشارة
بدخول الجنة لأهل الطمأنينة. فطوبى لهم وحسن مآب.
(1/337)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
سورة
إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة إبراهيم (14) : آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ
هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
شبه الله تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح
شديدة في يوم عاصف.
فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور، لكونها على غير
أساس من الإيمان والإحسان، وكونها لغير الله عز وجل، وعلى غير أمره: برماد طيرته
الريح العاصف. فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه. فلذلك قال: لا
يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من
أعمالهم على شيء. فلا يرون له أثرا من ثواب، ولا فائدة نافعة. فإن الله لا يقبل من
العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، موافقا لشرعه.
والأعمال أربعة: فواحد مقبول. وثلاثة مردودة.
فالمقبول: الخالص الصواب. فالخالص: أن يكون لله لا لغيره.
(1/339)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
والصواب
أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله.
والثلاثة المردودة ما خالف ذلك.
وفي تشبيهها بالرماد سرّ بديع. وذلك للتشابه بين أعمالهم وبين الرماد، في إحراق
النار وإذهابها لأصل هذا وهذا. فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده:
طعمة للنار، وبها تسعّر النار على أصحابها.
وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا، كما ينشئ لأهل الأعمال
الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا، فأثرت النار في
أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا. فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 25]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (25)
شبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة. لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح،
والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين
يقولون: الكلمة الطيبة: هي شهادة أن لا إله إلا الله. فإنها تثمر جميع الأعمال
الصالحة، الظاهرة والباطنة. فكل عمل صالح مرض لله فهو ثمرة هذه الكلمة.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا الله.
كشجرة طيبة: وهو المؤمن. أصلها ثابت قول: لا إله إلا الله في قلب المؤمن
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وقال الربيع بن أنس: كلمة طيبة: هذا مثل الإيمان. فإن الإيمان الشجرة الطيبة،
وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه. وفرعها في
(1/340)
السماء:
خشية الله. والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن. فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد
في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علوا، التي لا
تزال تؤتي ثمرتها كل حين.
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي
فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء. ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال
الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته
بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها. فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه
بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن
صبغة منها. فعرف حقيقة إلهيته التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها
جوارحه، ونفي تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا
النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا
غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا. كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا.
فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل
الصالح الصاعد إلى الله كل وقت. فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح
إلى الرب تعالى.
وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا، يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل الصالح
الكلم الطيب، كما قال تعالى: 35: 10 إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فأخبر سبحانه، أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.
والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا
وإثباتا، ومتصفا بموجبها، قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته.
فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في
قلبه. وفروعها متصلة بالسماء. وهي مخرجة ثمرتها كل وقت.
(1/341)
ومن
السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة. ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح.
ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه. كما قال محمد بن سعد: حدثني أبي حدثني عمي حدثني
أبي عن ابن عباس في قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ يعني بالشجرة الطيبة: المؤمن، ويعني بالأصل الثابت
في الأرض، والفرع في السماء: بكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم، فيبلغ عمله وقوله
السماء. وهو في الأرض.
وقال عطية العوفي في قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ قال: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى
الله.
وقال الربيع بن أنس: أصلها ثابت وفرعها في السماء، قال: ذلك المؤمن ضرب مثله في
الإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له، أصلها ثابت قال: أصل عمله ثابت في الأرض،
وفرعها في السماء قال: ذكره في السماء.
ولا اختلاف بين القولين.
والمقصود بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبه بها. وإذا كانت النخلة شجرة
طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك.
ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة. فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علم الرب الذي
تكلم به، وحكمته سبحانه.
فمن ذلك: أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر.
فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه له. فعروقها: العلم
(1/342)
والمعرفة،
واليقين وساقها: الإخلاص، وفروعها: الأعمال وثمرتها: ما توجبه الأعمال الصالحة من
الآثار الحميدة، والصفات الممدوحة، والأخلاق الزكية، والسّمت الصالح والهدى
والدّلّ المرضي. فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور.
فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا
لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال
موافقة للأمر، والهدى والدّل والسّمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها: علم أن شجرة
الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة، التي اجتثّت
من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها. فإذا قطع عنها السقي أوشك
أن تيبس. فهكذا شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت
بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر،
وإلا أوشك أن تيبس.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم» .
وبالجملة: فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك.
ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب
الأوقات، ومن عظيم رحمته، وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده: أن وظفها عليها وجعلها
مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه
دغل ونبت غريب، ليس من جنسه. فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه
(1/343)
كمل
الغرس والزرع، واستوى وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب، وأذكى. وإن تركه أوشك أن
يغلب على الغراس والزرع، ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة
بحسب كثرته وقلته.
ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به، فإنه يفوته ربح كبير.
وهو لا يشعر.
فالمؤمن دائما سعيه في شيئين: سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها.
فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم. والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم.
ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة.
وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان،
وذكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني
كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.
وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من
بعدهم كالتفاوت الذي بينهم وبينهم في الفضل. والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله،
ويختص من يشاء برحمته.
فصل
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة. فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق
الأرض، ما لها من قرار، فلا عرق ثابت، ولا فرع عال، ولا ثمرة زاكية. فلا أصل، ولا
جنّى، ولا ساق قائم، ولا عرق في الأرض ثابت. فلا أسفلها مغدق، ولا أعلاها مونق ولا
جنى لها، ولا تعلو، بل تعلى.
(1/344)
وإذا
تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم. وجده كذلك. فالخسران كل
الخسران: الوقوف معه، والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه، الذي هو كتاب الرب
سبحانه.
قال الضحاك: ضرب الله مثل الكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يقول:
ليس لها أصل ولا فرع. وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة. كذلك الكافر لا يعمل خيرا،
ولا يقوله، ولا يجعل له فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس: ومثل كلمة خبيثة: وهي الشرك، كشجرة خبيثة:
يعني الكافر. اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به
الكافر، ولا برهان. ولا يقبل الله مع الشرك عملا، فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد
إلى الله، فليس له أصل ثابت في الأرض، ولا فرع في السماء يقول: ليس له عمل صالح في
السماء ولا في الأرض.
وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا
فرع، ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض، ولا يصعد إلى السماء.
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم، فقال له: ما
تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا، ولا في السماء مصعدا،
إلا أن تلزم عنق صاحبها، حتى يوافي بها القيامة.
وقوله «اجتثت» أي استؤصلت من فوق الأرض.
ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين: أصحاب الكلم الطيب، وأصحاب الكلم
الخبيث. فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه
في الدنيا والآخرة، وأنه يضل الظالمين،
(1/345)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
وهم
المشركون عن القول الثابت. فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم، وثبت المؤمنين بفضله
لإيمانهم.
[سورة إبراهيم (14) : آية 27]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
ما يَشاءُ (27)
تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفّق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد
غنم، ومن حرمه فقد حرم.
وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين. فإن لم يثبته الله، وإلا زالت
سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله 17: 74
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا
وقال تعالى لأكرم خلقه 8: 12 إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: «وهو
يسألهم ويثبتهم» وقال تعالى لرسوله: 11: 120 وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.
والخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت.
ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أمر به العبد.
فبهما يثبت الله عبده. فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال
تعالى: 4: 66 وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ
وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.
فأثبت الناس قلبا: أثبتهم قولا.
والقول الثابت: هو القول الحق الصدق. وهو ضد القول الباطل الكذب.
فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له.
وأثبت القول: كلمة التوحيد ولوازمها. فهي أعظم ما يثبت الله بها
(1/346)
عبده
في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا، والكاذب من أبغض
الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا، وأقلهم ثباتا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من
ثبات قلبه وقت الاخبار وشجاعته ومهابته.
ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك. ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به؟.
فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست صولة مبطل.
فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج
ما يكونون إليه في قبورهم، ويوم معادهم. كما
في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إن هذه الآية
نزلت في عذاب القبر» .
(1/347)
سورة
الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15) : آية 21]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ (21)
متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومن مفاتيح تلك
الخزائن بيديه، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده، ولا يقدر عليه.
وقوله: 53: 42 وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى متضمن لكنز عظيم.
وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به، وإلا فهو مضمحل منقطع. فإنه ليس
المنتهى. وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها. فانتهت إلى خلقه
ومشيئته. وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء
وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل.
وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.
فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
واجتمع ما يراد له كله في قوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فليس وراءه
سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى.
[سورة الحجر (15) : آية 75]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
(1/348)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
سورة
الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15) : آية 21]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ (21)
متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومن مفاتيح تلك
الخزائن بيديه، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده، ولا يقدر عليه.
وقوله: 53: 42 وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى متضمن لكنز عظيم.
وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به، وإلا فهو مضمحل منقطع. فإنه ليس
المنتهى. وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها. فانتهت إلى خلقه
ومشيئته. وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء
وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل.
وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.
فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ
واجتمع ما يراد له كله في قوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فليس وراءه
سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى.
[سورة الحجر (15) : آية 75]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
(1/349)
قد
مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه. هذا منها.
والمتوسمون: هم المتفرسون الذين يأخذون بالسيماء، وهي العلامة.
يقال: توسمت فيك كذا، أي تفرسته، كأنها أخذت من السيماء، وهي فعلاء من السمة، وهي
العلامة.
وقال تعالى: 47: 30 وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ
وقال تعالى: 2: 273 يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ وفي الترمذي مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور
الله» «1» ثم قرأ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
وقال في مدارج السالكين:
قال مجاهد رحمه الله: المتوسمين المتفرسين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
للناظرين. وقال قتادة: للمقرين، وقال مقاتل: للمتفكرين.
ولا تنافي بين هذه الأقوال. فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم،
وما آل إليه أمرهم، أورثه فراسة وعبرة وفكرة. وقال تعالى في حق المنافقين وَلَوْ
نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ فالأول فراسة النظر والعين. والثاني فراسة الأذن والسمع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة
ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط، بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال:
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام ومغزاه.
واللحن ضربان. صواب وخطأ.
فلحن الصواب نوعان. أحدهما: الفطنة.
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمتخاصمين «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته
من بعض» .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 3127.
(1/350)
والثاني:
التعريض والإشارة. وهو قريب من الكتابة. ومنه قول الشاعر:
وحديث ألذه، وهو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب، وتلحن أحيا ... نا، وخير الحديث ما كان لحنا
والثالث: فساد المنطق في الاعراب، وحقيقته: تغيير الكلام عن وجهه، إما إلى خطأ،
وإما إلى معنى خفي، لم يوضع له اللفظ.
والمقصود: أنه سبحانه أقسم على معرفته المنافقين من لحن خطابهم.
فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه. فإن
دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من دلالة السيماء المرئية. والفراسة تتعلق
بالنوعين: بالنظر، والسماع.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
.
(1/351)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
سورة
النحل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 76]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ
يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ
كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ
وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس. وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه.
فإن القياس نوعان: قياس طرد، يقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه.
وقياس عكس، يقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.
فالمثل الأول: ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل
شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده، سرا وجهرا، وليلا ونهارا، يمينه ملأى لا يغيضها
نفقة، سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة لعابديها
(1/353)
عاجزة
لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لله، ويعبدونها من دونه، مع هذا التفاوت
العظيم، والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، مثل المؤمن في الخير الذي عنده،
ثم رزقه منه رزقا حسنا. فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا. والكافر
بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء، لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند
أحد من العقلاء؟.
والقول الأول: أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب وأعظم
في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا
يَسْتَطِيعُونَ. فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ثم قال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا
يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ.
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه: أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه الله رزقا حسنا
والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس رضي الله عنهما منبها على
إرادته، لا أن الآية اختصت به.
فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرمان فيظن
الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
فصل
وأما المثل الثاني: فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه
أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم، لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم
القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء
البتة. ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك
(1/354)
بخير،
ولا يقضي لك حاجة. والله سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل- وهو الحق- يتضمن أنه سبحانه
عالم به، معلّم له، راض به، آمر لعباده به، محب لأهله. لا يأمر بسواه، بل ينزه عن
ضده، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم
أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور.
وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني.
وكلاهما عدل، لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح «اللهم إني عبدك ابن عبدك،
ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» فقضاؤه: هو أمره الكوني.
فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا يأمر إلا بالحق والعدل، وقضاؤه
وقدره القائم به حق وعدل.
وإن كان في المقضي المقدّر ما هو جور وظلم. فالقضاء غير المقضي، والقدر غير
المقدر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله هود 11: 56 إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها نظير
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناصيتي بيدك»
وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ نظير قوله «عدل في قضاؤك» فالأول
ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك. وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط
مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو
مصلحة ورحمة، وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما
يكون ظالما له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه
من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره،
ولا
(1/355)
يفعل
قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات
المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم: يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إن
ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا
منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به.
ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: 89: 14 إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد: هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه.
وهؤلاء، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس هو كما زعموا. ولا دليل
على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل، وبين كونه على صراط مستقيم.
وإن أرادوا: أن حثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد
أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مرد العباد والأمور كلها إلى
الله، لا يفوته شيء منها.
وهؤلاء: إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا: أن هذا من لوازم كونه
على صراط مستقيم، ومن مقتضاه وموجبه: فهو حق.
(1/356)
وقالت
فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره، وفي ملكه وقبضته.
وهذا- وإن كان حقا- فليس هو معنى الآية. وقد فرق هود عليه السلام بين قوله: ما
مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: 6: 39، 100 مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وإذا كان الله سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على صراط مستقيم في أقوالهم
وأفعالهم، فهو وسبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله. وإن كان صراط
الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه: هو ما يقتضيه حمده
وكماله ومجده، من قول الحق وفعله.
وبالله التوفيق.
وقال في مفتاح دار السعادة:
فالمثل الأول للصنم وعابديه. والمثل الثاني: ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمر
بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
فكيف تسوّى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع
عباده: هو غاية الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم، وأمرهم
ونهيهم.
(1/357)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
فدعوى
المدعي: أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض، ويسبي بعضهم
بعضا أكذب دعوى وأبطلها. والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره، والتنبيه
عليه. والحمد لله الغني الحميد. فغناه التام فارق، وحمده وملكه، وعزته وحكمته
وعلمه، وإحسانه وعدله، ودينه وشرعه وحكمه وكرمه، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة،
والصفح عن المسيئين، وقبوله توبة التائبين، وصبر الصابرين، وشكر الشاكرين الذين
يؤثرونه على غيره، ويتطلبون مرضاته، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده سيرة العدل
والإحسان والنصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته.
ليتميز الخبيث من الطيب، ووليه من عدوه، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى
الخارج، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب، والحمد
لأوليائه والذم لأعدائه.
[سورة النحل (16) : آية 99]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (99)
فإن قيل: فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه
مقررا له 14: 23 وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي وقال
تعالى: 34: 20، 21 وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ
إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ.
قيل: السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه من وجهين.
أحدهما: أن السلطان الثابت: هو سلطان التمكن منهم، وتلاعبه
(1/358)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
بهم،
وسوقه إياهم كيف أراد، بتمكينهم إياه من ذلك، بطاعته وموالاته.
والسلطان الذي نفاه: سلطان الحجة. فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها، غير أنه
دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.
الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء ألبتة، ولكن هم سلطوه على أنفسهم
بطاعته، ودخولهم في جملة جنده وحزبه، فلم يتسلط عليهم بقوته، فإن كيده ضعيف. وإنما
تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.
والمقصود: أن من قصده أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه، فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته
وسلمهم إلى عدوه. كان من عقوبته: أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.
[سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق. فالمستجيب القابل الذكي الذي لا
يعاند الحق ولا يأباه: يدعى بطريق الحكمة.
والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر: يدعى بالموعظة الحسنة. وهي الأمر والنهي
المقرون بالترغيب والترهيب.
والمعاند الجاحد: يجادل بالتي هي أحسن.
هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية.
لا ما يزعم أسير منطق اليونان: أن الحكمة قياس البرهان. وهي دعوة الخواص، والموعظة
الحسنة: قياس الخطابة، وهي دعوة العوام.
وبالمجادلة بالتي هي أحسن: القياس الجدلي. وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلّم
المقدمات.
وهذا باطل. وهو مبني على أصول الفلسفة. وهو مناف لأصول المسلمين. وقواعد الدين من
وجوه كثيرة. ليس هذا موضع ذكرها.
(1/359)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
سورة
الأسراء
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 82]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ خَساراً (82)
وأخبر عن خليله إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم: أنه سأله أن يهب له لسان صدق في
الناس. فقال: 26: 84 وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وبشر عباده: أن
لهم عنده قدم صدق. ومقعد صدق. فقال تعالى: 10: 2 وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقال: 54: 54، 55 إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ.
وهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله. وهو
ما كان به وله، من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا
(1/360)
بالله،
ولله، وفي مرضاته، متصلا بالظفر بالبغية، وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله،
الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها. كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج
الصدق: كمخرجه صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله
المدينة كان مدخل صدق بالله، ولله، وابتغاء مرضاة الله. فاتصل به التأييد والظفر
والنصر، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن
يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب. فإنه لم يكن لله، ولا بالله، بل كان محادة لله
ولرسوله. فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.
وكذلك مدخل من دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصن بني
قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابهم معه ما أصابهم.
فكل مدخل ومخرج كان بالله ولله وابتغاه مرضاة الله: فصاحبه ضامن على الله. فهو
مدخل صدق ومخرج صدق.
وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء وقال:
اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك. يريد أن لا يكون المخرج
مخرج صدق. ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة،
ودخوله المدينة. ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل. فإن هذا المدخل والمخرج من أجلّ
مداخله ومخارجه صلّى الله عليه وسلّم. وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج
صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته.
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب. فمخرج كل واحد
ومدخله لا يعدو الصدق والكذب. والله المستعان.
وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه صلّى الله عليه وسلّم من سائر الأمم
بالصدق، ليس ثناء بالكذب. كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل
(1/361)
عليهم
صلوات الله وسلامه 19: 50 وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
والمراد باللسان هاهنا: الثناء الحسن. فلما كان الصدق باللسان، وهو محله، أطلق
الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق، جزاء؟ وعبر به عنه.
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا، واللغة، لقوله تعالى: 14:
5 وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وقوله: 30: 22
وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ وقوله: 16: 103 لِسانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ويراد به الجارحة نفسها كما في قوله: 75: 16 لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ.
وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة، وفسر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وفسر بالأعمال
الصالحة.
وحقيقة القدم: ما قدموه، ويقدمون عليه يوم القيامة. وهم قدموا الأعمال والإيمان
بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
فمن فسره بها أراد ما يقدمون عليه. ومن فسره بالأعمال وبالنبي صلّى الله عليه
وسلّم فإنهم قدموها وقدموا الايمان به بين أيديهم. فالثلاثة قدم صدق.
وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم لثبوته واستقراره، وأنه حق مستلزم لدوامه ونفعه وكمال
عائدته. فإنه متصل بالحق سبحانه، كائن به وله. فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل.
ودائم غير زائل، ونافع غير ضار. وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.
قول الله تعالى: 17: 45 وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وقوله: 41: 5 وَمِنْ
بَيْنِنا وَبَيْنِكَ
(1/362)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
حِجابٌ
على أصح القولين. والمعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم
وبين فهمه وتدبره، والأيمان به، وبيّنه قوله: 17: 45 وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: 41: 5 وَقالُوا قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ فأخبر سبحانه أن ذلك جعله.
فالحب يمنع من رؤية الحق، والأكنة تمنع من فهمه، والوقر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي: الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب
ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه.
ووصفه بكونه مستورا فقيل: بمعنى ساتر. وقيل: على النسب، أي في ستر والصحيح: أنه
على بابه، أي مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت. والنسب
في مفعول لم يشتق من فعله، كمكان محول أي ذي حول، ورجل مرطوب، أي ذي رطوبة. فأما
مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل. كمضروب ومجروح ومستور.
[سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
و «من» هاهنا لبيان الجنس، لا للتبعيض. فإن القرآن كله شفاء. كما قال في الآية
الأخرى 10: 57 يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
فهو شفاء للقلوب من داء الجهل، والشك والريب. فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء
قط أعم ولا أنفع، ولا أعظم، ولا أسرع في إزالة الداء من القرآن.
(1/363)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
سورة
الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ
وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل
الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة. كان
أمره فرطا.
ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده
وفلاحه: ضائع، قد فرط فيه.
وفسر بالإسراف، أي قد أفرط بالإهلاك. وفسر بالخلاف للحق.
وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نهي عن طاعة من جمع هذه الصفات. فينبغي للرجل أن
ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه. فإن وجده كذلك فليبعد منه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر
الله تعالى عز وجل واتباع
(1/365)
السنة،
وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه.
وقد سئل أبو العباس ثعلب عن قوله تعالى: أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا فقال:
جعلناه غافلا. قال: ويكون في الكلام: أغفلته، سميته غافلا:
ووجدته غافلا.
قلت: الغفل الشيء الفارغ، والأرض الغفل: التي لا علامة بها، والكتاب الغفل: الذي
لا شكل عليه. فأغفلناه: تركناه غافلا عن الذكر فارغا منه. فهو إبقاء له على العدم
الأصلي، لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر، فبقي غافلا، فالغفلة وصفه. والإغفال فعل
الله فيه بمشيئته، وعدم مشيئته لتذكرة. فكل منهما مقتض لغفلته. فإذا لم يشأ له
التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر.
فإن قيل: فهل تضاف الغفلة والكفر والأعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب لأضدادها، أم
إلى عدم مشيئته لوقوعها؟
قيل: القرآن قد نطق بهذا وبهذا. قال تعالى: 5: 41 أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وقال: 5: 41 وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وقال: 6: 125 فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.
فإن قيل: فكيف يكون عدم السبب المقتضي موجبا للأثر؟
قيل: الأثر إن كان وجوديا فلا بد من مؤثر وجودي، وأما العدم فيكفى فيه عدم سببه
وموجبه. فيبقى على العدم الأصلي. فإذا أضيف إليه، كان من باب إضافة الشيء إلى
دليله. فعدم السبب دليل على عدم المسبب.
وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحّة في ذلك وإما أن يكون العدم أثرا
ومؤثرا فلا.
(1/366)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
وهذا
الإغفال ترتب عليه اتباع هواه، وتفريطه في أمره.
قال مجاهد: كان أمره فرطا: أي ضياعا.
وقال قتادة: ضاع أكبر الضيعة.
وقال السدي: هلاكا.
وقال أبو الحسن بن الهيثم: أمر فرط: متهاون به مضيّع. والتفريط تقديم العجز.
: أمر فرط: متهاون به مضيّع. والتفريط تقديم العجز.
وقال أبو إسحاق: من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه.
وقال الليث: الفرط الأمر الذي يفرط فيه. يقال: كل أمر فلان فرط.
وقال الفراء: فرطا متروكا، فرط فيما لا ينبغي التفريط فيه، واتبع ما لا ينبغي
اتباعه. وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
[سورة الكهف (18) : آية 57]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما
قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً
أَبَداً (57)
وهي جمع كنان، كعنان وأعنة. وأصله: من الستر والتغطية.
ويقال: كنه، وأكنه، وكنان، بمعنى واحد، بل بينهما فرق. فأكنه، إذا ستره وأخفاه.
كقوله تعالى: 2: 177 أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وكنه: إذا صانه وحفظه،
كقوله: 37: 49 كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ويشتركان في الستر، والكنان: ما أكنّ
الشيء وستره. وهو كالغلاف.
وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا: 41: 5 قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ
فذكروا غطاء القلب: وهو الأكنة، وغطاء الأذن، وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب.
والمعنى: لا نفقه كلامك، ولا نسمعه، ولا نراك.
(1/367)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
والمعنى:
إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول، ولا يراك. قال ابن عباس: قلوبنا
في أكنة: مثل الكنانة التي فيها السهام. وقال مجاهد: كجعبة النّبل. وقال مقاتل:
عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.
[سورة الكهف (18) : آية 101]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
وهذا يتضمن معنيين.
أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله، وأدلة توحيده، وعجائب
قدرته.
والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره، والاهتداء به. وهذا الغطاء
للقلب أولا، ثم يسري منه إلى العين.
(1/368)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
سورة
مريم
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة مريم (19) : آية 39]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يجاء بالموت يوم
القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون
هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم. هذا الموت، ثم يقال: يا أهل النار، هل
تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون:
نعم. هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت،
ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ متفق عليه.
وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قال «يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم،
فيقول: يا أهل الجنة، لا موت، ويا أهل النار، لا موت.
كلّ خالد فيما هو فيه»
وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار
أهل النار إلى النار، أتى بالموت، حتى يجعل بين النار والجنة. ثم ينادي مناد: يا
أهل الجنة، لا موت. ويا أهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا. ويزداد أهل
النار حزنا»
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(1/369)
قال
«إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبّبا، فيوقف على السور
الذي بين أهل الجنة وأهل النار، ثم يقال: يا أهل الجنة، فيطّلعون خائفين. ثم يقال:
يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة. فيقال لأهل الجنة وأهل النار: هل
تعرفون هذا؟ فيقول هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناه، هو الموت الذي وكّل بنا، فيضجع فيذبح
ذبحا على السور، قم يقال: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت»
رواه النسائي والترمذي
، وقال: حديث حسن صحيح.
وهذا الكبش والأضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل، كما
أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحا. وقال: الموت عرض والعرض لا يتجسم، فضلا عن أن يذبح.
وهذا لا يصح. فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال
صورا يثاب بها صاحبها ويعاقب، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض
مادة لها. وينشئ من الأجسام أعراضا، كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضا. ومن
الأجسام أجساما.
فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى، ولا يستلزم جمعا بين النقيضين، ولا
شيئا من المحال، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت، فهذا كله من
الاستدراك الفاسد على الله ورسوله، ومن التأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل،
وسببه: قلة الفهم لمراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كلامه، فظن هذا القائل:
أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح.
وظن غالط آخر: أن العرض يعدم ويزول، ويصير مكانه جسم يذبح، ولم يهتد الفريقان إلى
هذا القول الذي ذكرناه، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساما ويجعلها مادة لها،
كما
في الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم قال «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة
كأنهما غمامتان- الحديث»
فهذه هي القراءة التي
(1/370)
ينشئ
منها الله سبحانه غمامتين. وكذلك قوله
في الحديث الآخر «ما تذكرون من جلال الله: من تسبيحه وتحميده وتهليله؟ يتعاطفن حول
العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن» ذكره أحمد
. وكذلك
قوله في عذاب القبر ونعيمه للصورة التي يراها المقبور «فيقول: من أنت؟
فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا عملك السيء»
وهذا حقيقة لا خيال، ولكن الله سبحانه أنشأ للمؤمن من عمله صورة حسنة وللفاجر من
عمله وصورة قبيحة.
وهل النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلا نفس إيمانهم؟
أنشأ الله سبحانه لهم منه نورا يسعى بين أيديهم؟ فهذا أمر معقول، وإن لم يرد به
النص، فورود النص به من باب تطابق العقل والسمع.
وقال سعيد عن قتادة: بلغنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن المؤمن إذا
اخرج من قبره صور الله له عمله في صورة حسنة وبشارة حسنة، فيقول له: من أنت؟
فو الله إني لأراك امرأ صدق، فيقول: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة.
وأما الكافر فإذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، وبشارة سيئة، فيقول: من
أنت؟ فو الله إني لأراك امرأ سوء، فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار»
وقال مجاهد مثل ذلك.
وقال ابن جريج: يمثل له عمله في صورة حسنة، وريح طيبة، يعارض صاحبه ويبشره بكل
خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، فيجعل له نورا بين يديه، حتى يدخله
الجنة، فذلك قوله: 10: 9 يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ والكافر يمثل له
عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويليله، حتى يقذفه في النار.
وقال ابن المبارك: حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن أنه ذكر هذه الآية 37: 58، 59
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ؟ قال: علموا أن كل نعيم بعده الموت: أنه يقطعه، فقالوا:
(1/371)
أفما
نحن بميتين إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمعذبين؟ قيل: لا، قالوا: إن هذا لهو الفوز
العظيم.
وكان يزيد الرقاشي يقول في كلامه: أمن أهل الجنة من الموت، فطاب لهم العيش، وأمنوا
من الأسقام، فهنأهم في جوار الله طول المقام، ثم يبكي حتى تجري دموعه على لحيته.
(1/372)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
سورة
طه
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة طه (20) : آية 10]
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي
آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)
قيل: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك بها.
وقيل: مضاف إلى المذكور، أي لتذكروني بها، واللام على هذا لام التعليل، وقيل: هي
اللام الوقتية، أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله:
17: 78 أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ وقوله تعالى: 21: 47 وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ.
وهذا المعنى يراد بالآية، لكن تفسيرها به على أنه معناها فيه نظر، لأن هذه اللام
الوقتية بابها أسماء الزمان والظروف. والذكر: مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف، أي
عند وقت ذكري، وهذا محتمل.
والأظهر: أنها لام التعليل، أي أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون
إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه، فذكر الله سابق على ذكره، فإنه لما ذكره
ألهمه ذكره. فالمعاني الثلاثة حق.
قول الله تعالى ذكره.
(1/373)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
[سورة
طه (20) : الآيات 118 الى 119]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها
وَلا تَضْحى (119)
تأمل كيف قابل الجوع بالعرى، والظمأ بالضحى.
والواقف مع القالب ربما يخيل إليه: أن الجوع يقابل بالظمأ، والعرى بالضحى.
والداخل إلى بلد الفقه عن الله: يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن
الجوع ألم الباطن، والعرى ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع
الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي
جميع الآفات ظاهرا وباطنا.
[سورة طه (20) : آية 124]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده
أخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه، فقال:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي عن الذكر الذي
أنزلته، فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، كقيامي وقراءتي، لا إلى المفعول، وليس
المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني، بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره.
وأحسن من هذا الوجه: أن يقال: الذكر هاهنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر
إلى معمولاتها.
والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: 21: 50
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ وقال تعالى: 3: 58
(1/374)
ذلِكَ
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ وقال تعالى: 68: 52 وَما
هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وقال تعالى: 41: 41 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وقال تعالى: 36: 11
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ
وأمثالها كثير.
فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي يقصد بها إضافة العامل إلى معموله.
ونظيره في إضافة اسم الفاعل قوله: 40: 3 غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقابِ فإن هذه الإضافات لا يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد بها
قصد الوصف الثابت اللازم، ولذلك أرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى
في قوله: 145: 2- 3 تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
فصل
قوله تعالى: 20: 124 فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فسره غير واحد من السلف بعذاب
القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: نَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيراً؟ قالَ: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.
ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون 40: 46 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا فهذا في البرزخ 40: 46 وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ فهذا في القيامة الكبرى.
ونظيره قوله تعالى: 6: 93 وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ
(1/375)
وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ
الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ
آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
فقول الملائكة «اليوم تجزون عذاب الهون» المراد به: عذاب البرزخ الذي أوله يوم
القبض والموت.
ونظيره قوله تعالى: 8: 51 وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ فهذه الإذاقة هي في البرزخ. وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله:
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام
عليه. كنظائره.
وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه «1» في قوله
تعالى: 14: 27 يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب
القبر تكاد تبلغ حد التواتر.
والمقصود: أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره- وهو الهدى الذي من اتبعه لا
يضل ولا يشقى- فإن له معيشة ضنكا. وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه
أجره في الآخرة. فقال تعالى:
16: 97 مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ،
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي
الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في
العذاب بالآخرة.
__________
(1) هو أبو عمارة البراء بن عازب الأنصاري الحارثي نزيل الكوفة كان من أقران ابن
عمر استصغر يوم بدر، توفي سنة إثنين وسبعين (انظر شذرات الذهب) .
(1/376)
وقال
سبحانه: 43: 36، 37 وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ،
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من
الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله.
فكان عقوبة هذا الأعراض أن قيض له شيطانا يقارنه، فيصده عن سبيل ربه، وطريق فلاحه.
وهو يحسب أنه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينة، وعاين هلاكه وإفلاسه.
قال: 43: 38 يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ.
وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله؟ إذ كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: 7: 30
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
قيل: لا عذر لهذا لا لأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي
جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولو ظن أنه مهتد. فإنه مفرط بإعراضه عن
اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه.
وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها.
فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول.
وأما الثاني: فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: 17:
15 وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وقال تعالى:
4: 165 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقال تعالى في أهل النار: 43: 76 وَما
ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وقال تعالى: 39: 56- 59 أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتُ
لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
(1/377)
الْكافِرِينَ
وهذا كثير في القرآن.
فصل
وقوله تعالى: 20: 124 وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ: رَبِّ، لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ اختلف فيه: هل هو من عمى البصيرة، أو
من عمى البصر؟ والذين قالوا: هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله: 19: 38
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا وقوله:
50: 22 لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وقوله: 25: 22 يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا
بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وقوله: 102: 6، 7 لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ.
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة.
كقوله تعالى: 42: 45 وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وقوله: 52: 13، 14 يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ
جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ
هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ وقوله: 18: 53 وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها.
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه.
لقوله: 20: 124 قالَ: رَبِّ، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وهو
لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق،
فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله:
20: 125 كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى بل هذا
الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن
الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة.
وتركه في العذاب، كما ترك هو الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في
الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب.
(1/378)
وقال
تعالى: 17: 97 وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى
وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا.
وقد قيل في هذه الآية أيضا: إنهم عمى وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله «ونحشره
يوم القيامة أعمى، قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون» .
ومن نصر أنه العمى والبكم والصم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم: هو عمى
وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. ولهذا قد روي عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال «لا يرون شيئا يسرهم» .
وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من
قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن
الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار
والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: 23: 108 اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا
يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن
مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم: أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا
أن لهم لهم حجة هم عمى عنها، بل هم عمى عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد
يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم
القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
(1/379)
وفصل
الخطاب: أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة: الحشر إلى موقف القيامة.
كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا»
وكقوله تعالى: 81: 5 وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وكقوله تعالى:
18: 42 وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ويراد به الضم والجمع إلى
دار المستقر. فحشر المتقين: جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين:
جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى: 19: 85 يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً وقال تعالى: 37: 22، 23 احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ
وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ
فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف، وهو حشرهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر
عنهم أنهم قالوا: 37: 21 يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ثم قال تعالى: 37: 22 احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وهذا الحشر الثاني.
وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف
إلى النار، فعند الحشر الأول: يسمعون ويبصرون، ويجادلون، ويتكلمون وعند الحشر الثاني:
يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب
تعالى، وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا 4: 82 وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
(1/380)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
سورة
الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأنبياء (21) : آية 83]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (83)
جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم
المحبة في التملق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين.
والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره. ومتى وجد المبتلي هذا كشفت عنه
بلواه. وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره.
[سورة الأنبياء (21) : آية 107]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
أصح القولين في هذه الآية: أنها على عمومها.
وفيها على هذا التقدير وجهان.
(1/381)
أحدهما:
أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته. أما أتباعه:
فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وأما أعداؤه المحاربون له: فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم لأن حياتهم زيادة لهم
في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة. وهم قد كتب عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم
خير لهم من طول أعمارهم في الكفر.
وأما المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته. وهم أقل شرا بذلك العهد
من المحاربين له.
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الايمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها
وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيرها.
وأما الأمم النائية عنه: فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض،
فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا
واخرى، والكفار ردوها، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكن لم يقبلوها، كما
يقال: هذا دواء لهذا المرض. فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض.
(1/382)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
سورة
الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحج (22) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ (1)
المرضع: من لها ولد ترضعه. والمرضعة: من ألقمت الثدي للرضيع.
وعلى هذا فقوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ
أبلغ من مرضع في هذا المقام. فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر
للرضاعة. فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر هو أعظم عندها من
اشتغالها بالرضاع.
وتأمل رحمك الله السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: ذاتِ حَمْلٍ
فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل، وعلى من هي في أول حملها ومباديه. فإذا
قيل: ذات حمل لم يكن إلا لمن قد ظهر حملها وصلح للوضع كاملا، أو سقطا. كما يقال:
ذات ولد.
(1/383)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
فأتى
في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها.
وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 31]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ
السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ
(31)
فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله. وتعلق بغيره.
ويجوز لك في هذا التشبيه أمران.
أحدهما: أن تجعله تشبيها مركبا. ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد
تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة. فصور حاله بصورة حال من خرّ من السماء
فاختطفته الطير في الهواء فتفرق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في
بعض المطارح البعيدة.
وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
الثاني: أن يكون من التشبيه المفرق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به.
وعلى هذا فيكون قد شبه الايمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي
مصعده ومهبطه. فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها.
وشبه تارك الايمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين، من حيث التضييق
الشديد والآلام المتراكمة. والطير التي تتخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين
التي يرسلها سبحانه وتعالى عليه تؤزه أزّا وتزعجه وتدفعه إلى مظان هلاكه. فكل
شيطان له مزعة من دينه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي
تهوى به في مكان سحيق: هو هواه الذي يحمله
(1/384)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
على
إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
[سورة الحج (22) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ (73)
حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره.
فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه.
وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره.
والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب، ولو اجتمعوا
كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم
شيئا محا عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه. فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي
هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما سلبهم إياه. فلا أعجز من
هذه الآلهة، ولا أضعف منها. فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟
وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله، وتقبيح
عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة، حيث
أعطوا الآلهة التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات، ولإحاطة بجميع
المعلومات، والغني عن جميع المخلوقات، وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات، وتفريج
الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات- فأعطوها الصور وتماثيل يمتنع عليها
القدرة على أقل مخلوقات الإلة الحق، وأذلها وأصغرها وأحقرها. ولو اجتمعوا لذلك
وتعاونوا عليه.
(1/385)
وأدل
من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم: أن هذا الخلق الأقل الأذل والعاجز الضعيف لو
اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا
عليه.
ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ قيل: الطالب والعابد، والمطلوب: المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز.
وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب منه وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف
والعجز.
وعلى هذا فقيل: الطالب الإله الباطل، والمطلوب الذباب يطلب منه، ما استلبه منه.
وقيل: الطالب الذباب، والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه.
والصحيح: أن اللفظ يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود والمستسلب.
فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز، فما قدر الله حق قدره، ولا عرفه حق معرفته ولا
عظمه حق تعظمه.
(1/386)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
سورة
المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 10 الى 11]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (11)
والفردوس: اسم يقال على جميع الجنة. ويقال: على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا
الاسم من غيره من الجنات.
وأصل الفردوس: البستان، والفراديس البساتين. قال كعب: هو البستان الذي فيه
الأعناب. وقال الليث: الفردوس جنة ذات كروم، يقال:
كرم مفردس، أي معرش. وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة بالأشجار، وهو اختيار المبرد.
وقال: الفردوس- فيما سمعت من كلام العرب-:
الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وجمعه الفراديس. قال: ولهذا سمي باب الفراديس
بالشام. وأنشد لجرير:
فقلت للركب، إذ جد المسير بنا ... يا بعد ما بين أبواب الفراديس
وقال مجاهد: هذا البستان بالرومية. واختاره الزجاج. فقال: هو
(1/387)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
بالرومية،
منقول إلى لغة العرب. قال وحقيقته: أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين.
قال حسان:
وإن ثواب الله كل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
[سورة المؤمنون (23) : آية 91]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ
كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ (91)
تأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين. فإن الإله الحق لا بد أن يكون
خالقا فاعلا، يوصل إلى عابديه النفع، ويدفع عنهم الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان
له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضي شركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره والتفرد
بالالهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه، وذهب به، كما ينفرد ملوك
الدنيا بعضهم عن بعض بمماليكهم، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه.
فلا بد من أحد أمور ثلاثة: وإما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه. وإما أن يعلو بعضهم
على بعض. وإما أن يكونوا كلهم تحت قهر إله واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه،
ويمتنع من حكمهم ولا يمتنعون من حكمه. فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد
المبوبون المقهورون.
وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا
يختلف، ولا يفسد. من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره كما دل دليل التمانع
على أن خالقه واحد، لا رب غيره.
فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في الغاية والألوهية.
فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون له إلهان
معبودان.
(1/388)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
سورة
النور
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ
الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(35)
قال أبي بن كعب «1» : مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه الله في
قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره. وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم
به، وجعلهم يمشون به بين الناس. وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر
على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل وثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم، وإن كان
سائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين
أيديهم في ظلمة
__________
(1) أبي بن كعب: أخد الأربعة الذين جمعوا القرآن توفي سنة إثنين وعشرين للهجرة.
(1/389)
الجسر
حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا.
منهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نورا
على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأعطي على
الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في
الدنيا، بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا ماله؟؟؟ إلى الظلمة والذهاب.
وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوّة في
الحائط فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب
الدري في بياضه وصفائه. وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب
المؤمن، وهي الصفاء والرقة والصلابة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة
والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق، ويصلب
فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة اخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها 48: 29
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وقال تعالى: 3: 159 فَبِما
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وقال تعالى: 66: 9 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
وفي أثر «القلوب آنية الله تعالى في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها» .
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان على طرفي نقيض.
أحدهما: قلب حجري قاس، لا رحمة فيه، ولا إحسان ولا بر، ولا له صفاء يرى به الحق،
بل جبار جاهل، لا علم له بالحق ولا رحمة فيه للخلق.
(1/390)
وبإزائه
قلب ضعيف مائي لا قوة ولا استمساك، بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور،
ولا قوة التأثير في غيره. وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف، وطيب وخبيث.
وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته.
ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول
النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى أنه ليكاد من صفائه يضيء
بلا نار.
فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن: هو من شجرة
الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها عن الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها
وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين
المذمومين في كل شيء.
فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت
بها إضاءته وقويت مادة ضوء النارية فيه كان ذلك نورا على نور.
وهكذا المؤمن: قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه،
فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه. وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي
فطره الله تعالى عليه. فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة. نور على نور، فيكاد
ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثرا، ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته، فيكون
نورا على نور.
فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا، فينشأ
إيمانه عن شهادة الوحي وعن شهادة الفطرة.
(1/391)
فليتأمل
اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فقد ذكر سبحانه وتعالى
نوره في السموات والأرض، ونوره في قلب عباده المؤمنين: النور المعقول المشهور
بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم
العلوي والسفلي. فهما نوران عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر.
وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره، لأن الحيوان
إنما يكون حيث يكون النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها
حيوان ولا يكون البتة، فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والايمان ميتة ولا بد، وقلب
فقد منه هذا النور: ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان في مكان لا
نور فيه.
24: 35 اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها
مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ،
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. نُورٌ عَلى نُورٍ، يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقد فسر قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بكونه منور السموات
والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدي أهل السموات والأرض.
وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم
النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى.
والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى
فاعله.
(1/392)
فالأول
كقوله عز وجل: 39: 69 وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها فهذا إشراقها يوم
القيامة بنوره تعالى، إذا جاء لفصل القضاء.
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعاء المشهور «أعوذ بنور وجهك الكريم:
أن تضلّني. لا إله إلا أنت» .
وفي الأثر الآخر «أعوذ بوجهك، أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» .
فأخبر صلّى الله عليه وسلّم: أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله، كما أخبر تعالى: أن
الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدرامي وغيرها: عن ابن مسعود
رضي الله تعالى عنه قال «ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور
وجهه» .
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أقرب إلى تفسيره الآية من قول من
فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض.
وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض فلا يتنافى بينه وبين قول ابن مسعود.
والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال «قام بيننا رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن
ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل
الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
هل رأيت ربك؟ قال: نور. أنّي أراه» .
(1/393)
سمعت
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معناه: كان ثمّ نور، أو حال دون رؤيته نور،
فإنّي أراه؟
قال: ويدل عليه: أن
في بعض الألفاظ الصحيحة «هل رأيت ربك؟
فقال: رأيت نورا» .
وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس، حتى صححه بعضهم فقال «نور إني أراه»
على أنها ياء النسب. والكلمة كلمة واحدة.
وهذا خطأ لفظا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الأشكال والخطأ: انهم لما اعتقدوا أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه، وكان قوله «أني أراه» كالانكار للرؤية
حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه.
وكل هذا عدول عن موجب الدليل.
وقد حكي عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه
ليلة المعراج. وبعضهم استثني ابن عباس فيمن قال ذلك.
وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه.
وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين، حيث قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه
عز وجل. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنه.
ويدل على صحته: ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه:
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الآخر «حجابه النور»
فهذا النور هو- والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه «رأيت
نورا» .
فصل
وقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ هذا مثل لنوره في قلب عبده
المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره.
(1/394)
وقد
اختلف في مفسر الضمير في «نوره» فقيل: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم أي مثل نور
محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقيل: مفسره المؤمن، أي مثل نور المؤمن.
والصحيح: أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى
في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور: رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة،
وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى، إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه.
ويضاف إلى العبد، إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل
وقابل، ومحل وحامل، ومادة.
قد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل:
هو الله تعالى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء. والقابل: العبد المؤمن.
والمحل: قلبه. والحامل: همته وعزيمته وإرادته. والمادة:
قوله وعمله.
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته
على عبده المؤمن بما؟ من نوره: ما تقربه عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان.
إحداهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه
الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته
بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن.
فتأمل صفة المشكاة، وهي كوّة تنفذ لتكون أجمع للضوء- قد وضع
(1/395)
فيها
مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبيه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من
أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث
تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محمية بأطرافه، تصيبها
الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه
يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي
وصفه في قلب عبده المؤمن، وخصه به.
والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة:
قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها.
وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن، ويتحنن، ويشفق على
الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر
والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر الله ويتصلب في ذات
الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى.
وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف «القلوب آنية الله في أرضه،
فأحبها إلى الله أرقها وأصلبها وأصفاها» والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة
المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد
منها. والنور على النور نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح ونور الوحي والكتاب،
فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق
والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق
به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي
جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل، بل
يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه
(1/396)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
أمواج
الشبه الباطلة، والخيالات الفاسدة، من الظنون، والجهليات التي يسميها أهلها
القواطع العقليات. فهي في صدره كما قال الله 24: 40 أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ
لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ
بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.
فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق انتظمت طوائف بني آدم أتم انتظام واشتملت عليها
أكمل اشتمال. فإن الناس قسمان: أهل الهدى والبصائر. الذين عرفوا أن الحق فيما جاء
به الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الله سبحانه، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه
أمرها على من قل نصيبه من العقل والسمع، فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به، وهي:
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً
حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ
حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع، والعمل الصالح، الذين صدقوا
الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أخباره، ولم يعارضوه بالشبهات، وأطاعوه في أوامره،
ولم يضيعوها بالشهوات. فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين، الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم، الذين حبطت أعمالهم في
الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره
أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون،
مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم
من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان التي
(1/397)
قد
رضوا بها واطمأنوا إليها، وقدموها على السنة والقرآن إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا
كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله
يجادلون في آيات الله بغير سلطان.
فصل
القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم، والظلم لأنفسهم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم 53:
23 إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
وهؤلاء قسمان:
أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل
المركب، الذين يجهلون الحق ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه، ويوالون أهله
58: 18 وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ.
فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب، الذي يحسبه الظمآن
ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي
لا يخون صاحبه أحوج ما هو إليه. ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان. كما هو حال
من أمّ السراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك: أنه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل
العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل
الذر.
وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباء منثورا، إذ لم يكن خالصا لوجهه، ولا
على سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها
علوما نافعة كذلك هباء منثورا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.
(1/398)
و
«السراب» ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه
الأرض، كأنه ماء يجرى.
و «القيعة» والقاع: هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد.
فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله: بسراب يراه المسافر في شدة الحر
فيؤمه، فيخيب ظنه، ويجده نارا تتلظى.
فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس، واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب
فيحسبونه ماء، وإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب فنقلوهم إلى نار
الجحيم: 47: 15 وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ وذلك الماء الذي
سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله
تعالى حميما، وسقاهم إياه، كما أن طعامهم 88: 6، 7نْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة، التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغنى من
جوع.
وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم 18: 103، 104 قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا،
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً وهم الذين عنى الله بقوله: 25:
22 وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.
وهم الذين عنى بقوله تعالى: 2: 167 كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ
حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
القسم الثاني من هذا الصنف: أصحاب الظلمات.
وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاطت بهم جاهليتهم من كل وجه، وهم لذلك بمنزلة
الأنعام، بل هم أضل سبيلا.
فهؤلاء أعمالهم التي يعملونها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد،
(1/399)
واتباع
الآباء من غير نور من الله تعالى.
فظلمات: جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع
الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله
صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى
النور.
فالمعرض عما بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من الهدى ودين
الحق يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة،
ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت
بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم من النور جدّ في الهرب
منه، وكاد نوره يخطف بصره. فهرب إلى ظلمات الآراء. التي هي به أنسب. كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار، ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع،
فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انجحر في جحرة الحشرات.
قوله فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ «اللجى» العميق، منسوب إلى لجة البحر.
وهو معظمه.
وقوله تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ تصوير
لحال هذا المعرض عن وحيه.
فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر.
وأنها أمواج بعضها فوق بعض.
والضمير الأول في قوله «يغشاه» راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله «من فوقه»
عائد إلى الموج.
(1/400)
ثم
إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب.
فههنا ظلمات: ظلمة البحر اللجى، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك
كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.
واختلف في معنى ذلك:
فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد
ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال: لم يقارب رؤيتها بوجه.
قال هؤلاء: «كاد» من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات.
فإذا قيل: كاد يفعل فهو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل: لم يكد يفعل: فهو نفي
لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد.
وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات.
قالوا: لأن «كاد» لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت
أثبتت، فإذا قلت: ما كدت أصل إليك. فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة: فهذا
إثبات للوصول. وإذا قلت: كاد زيد يقوم.
فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى: 72: 19 وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ومنه قوله تعالى: 68: 51 وَإِنْ
يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.
أنحوي هذا العصر: ما هي لفظة ... جرت في لسان جرهم وثمود
وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت ... فإن أثبتت قامت مقام جحود؟
وقالت فرقة ثالثة، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضى نفي
خبرها، كقولك: كاد زيد يقوم: واستعمالها منفية يقتضى
(1/401)
نفيه
بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر، سواء كانت منفية أو مثبتة. فلم يكد زيد يقوم
أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد
نفت مقاربة الفعل، وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها
لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه.
واعتذر عن مثل قوله تعالى: 2: 71 فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وعن مثل
قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم: بأن هذا وارد على كلامين
متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له. فالأول يقتضى وجود الفعل. والثاني
يقتضى أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران
متباينان.
وذهبت فرقة رابعة: إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي
لمقاربة الفعل، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي فإن
كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله لَمْ يَكَدْ يَراها وإن
كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات، نحو قوله فَذَبَحُوها وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ.
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.
والصحيح: أنها فعل يقتضى المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من
لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا
اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا، فيكون منفيا باللزوم.
وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت: لا
يكاد البطال يفلح، ولا يكاد البخيل يسود، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.
وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.
(1/402)
فهذا
التحقيق في أمرها.
والمقصود: أن قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة
الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟
قال ذو الرمة:
إذا غيّر النأى المحبين، لم يكد ... رسيس الهوى من حب ميّة يبرح
أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول؟.
فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه
من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.
وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة
في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.
فيا له تشبيها ما أبدعه، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد الله
سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وترك به كتابه.
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم
الفاسدة باللزوم.
وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها،
وظلمات لا نور فيها.
وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة.
فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل
الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه
وأعدائه.
(1/403)
وقال
في أعلام الموقعين:
ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن
المعرضين عن الهدى والحق نوعان.
أحدهما: من يظن أنه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه
حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت
الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها
كانت كسراب بقيعة، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير
الله، وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك. وهذه الأعمال التي قال
الله عز وجل فيها 25: 23 وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ
هَباءً مَنْثُوراً.
وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالبقيعة- وهي الأرض القفراء الخالية من البناء،
والشجر والنبات والعالم- فجعل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له،
وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.
وتأمل ما تحت قوله: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً والظمآن: الذي قد اشتد عطشه فرأى
السراب فظنه ماء فتبعه، فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما
كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولغير الله جعلت كالسراب،
فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا، ووجدوا الله سبحانه
ثمّ فجازاهم بأعمالهم، ووفاهم حسابهم.
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث التجلي
يوم القيامة «ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود:
ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة
ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم:
(1/404)
اشربوا،
فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟
فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد،
فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون»
وذكر الحديث.
وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه.
فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل.
فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا، وكذلك إذا كانت غاية العمل
باطلة، كالعمل لغير الله، أو على غير أمره، بطل العمل ببطلان غايته. وتضرر عامله
من بطلانه، وبحصول ضد ما كان يؤمله، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه،
بل صار معذبا بفوات نفعه، وبحصول ضد النفع فلهذا قال الله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.
فصل
النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا
عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس وظلمة الجهل،
حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان
في بحر لجي، لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب
مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب.
وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان.
وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة، وهو الماء، والظلمات
(1/405)
المضادة
للنور: نظير المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين، وهما المثل المائي،
والمثل الناري، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما
الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة، فكذلك الكفار في هذين المثلين. حظهم
من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة.
وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة
الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.
ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين
عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم
يحسنون صنعا.
وأصحاب المثل الثاني: هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على
الحق، وعموا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا حال المغضوب عليهم،
والأول حال الضالين.
وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ- إلى قوله-
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ،
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم، وهم أهل النور، والضالين، وهم
أصحاب السراب، والمغضوب عليهم: وهم أهل الظلمات المتراكمة، والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع.
والمثل الثاني: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة،
(1/406)
وكلاهما
مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك
والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم: بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج
متراكمة، من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي
قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.
فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين: يعرف عظمة القرآن
وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه، أن الموجب لذلك: أنه لم يجعل لهم نورا، بل تركهم على الظلمة التي
خلقوا فيها، فلم يخرجهم منها إلى النور، فإنه سبحانه ولى الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور.
وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال «إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور
اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله» .
فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيي به قلبه
وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه.
فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سمى سبحانه
الوحي روحا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى:
16: 2 يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وقال 40: 15 يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وقال تعالى:
42: 52 وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ
مِنْ عِبادِنا.
فجعل وحيه روحا ونورا، فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورا منه
فهو في الظلمات وما له من نور.
(1/407)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
سورة
الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الفرقان (25) : آية 44]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
فشبه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى
والانقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها
فتهتدي، وتتبع الطريق، فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا، والأكثرون يدعوهم الرسل
ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون، ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما
ينفعهم.
والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه، وما ينفعها فتؤثر.
والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك
لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار.
فهم أضل من البهائم. فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه هو أضل
وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
(1/409)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
[سورة
الفرقان (25) : آية 45]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً
ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)
أخبر تعالى أنه بسط الظل ومدّه، وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس، ولو شاء لجعله
ساكنا لا يتحرك، إما بسكون المظهر له والدليل عليه، وإما بسبب آخر.
[سورة الفرقان (25) : آية 46]
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46)
ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء، لم يقبضه جملة.
فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته.
فندب سبحانه إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته. ولو شاء ربنا
لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له، من جبل وبناء وشجر وغيره، فلم ينتفع به أهله، فإن
كمال الانتفاع به تابع لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان.
وفي مده وبسطه، ثم قبضه شيئا فشيئا: من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى. فلو
كان ساكنا دائما، أو قبض دفعة واحدة، لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس،
فمدّ الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم.
وفي دلالة الشمس على الظلال: ما تعرف به أوقات الصلوات، وما مضى من اليوم، وما بقي
منه.
وفي تحركه وانتقاله: ما يبرد ما أصابه حر الشمس، وينفع الحيوانات والشجر والنبات،
فهو من الآيات الدالة عليه.
وفي الآية وجه آخر: وهو أنه سبحانه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة، ودحا
الأرض من تحتها، فألقت القبة ظلها عليها. فلو شاء
(1/410)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
سبحانه
لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال. ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل، فهو
يتبعها في حركتها، يزيد بها، وينقص، ويمتد ويقلص. فهو تابع لها تبعية المدلول
لدليله.
وفيها وجه آخر: وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، وهي الأجرام
التي تلقي الظلال، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء
أسبابه.
وقوله: قَبَضْناهُ إِلَيْنا كأنه يشعر بذلك.
وقوله: قَبْضاً يَسِيراً يشبه قوله: 50: 44 ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ.
وقوله: قَبَضْناهُ بصيغة الماضي لا ينافي ذلك، كقوله تعالى:
16: 1 أَتى أَمْرُ اللَّهِ والوجه في الآية: هو الأول.
[سورة الفرقان (25) : آية 55]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ
الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
هذا من ألطف خطاب القرآن، وأشرف معانيه، وأن المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه
وشيطانه وعدو ربه. وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه. فهو مع الله على
عدوه الداخل فيه والخارج عنه، يحاربهم ويعاديهم ويبغضهم له سبحانه، كما يكون خواص
الملك معه على حرب أعدائه، والبعيدون منه فارغون من ذلك غير مهتمين به.
والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربه.
وعبارات السلف على هذا تدور. ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير
قال: عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.
وقال ليث ومجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله، يعينه عليها وقال زيد بن سلم:
ظهيرا أي مواليا.
والمعنى: أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه
(1/411)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
مغيب
له على مساخط ربه، فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر
والفاجر مع الشيطان، ومع نفسه وهواه وملذاته.
ولهذا صدر الآية بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا
يَضُرُّهُمْ وهذه العبادة: هي الموالاة والمحبة والرضى بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم
الخاصة لهم فظاهر أعداء الله على معاداته ومخالفته، ومساخطه.
بخلاف وليه سبحانه. فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه.
وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله. وبالله التوفيق.
[سورة الفرقان (25) : آية 73]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا
وَعُمْياناً (73)
قال مقاتل: إذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما، لم يسمعوه، وعميانا: لم يبصروه،
ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به.
وقال ابن عباس: لم يكونوا عليها صما وعميانا: بل كانوا خائفين خاشعين.
وقال الكلبي: يخرون عليها سمعا وبصرا.
وقال الفراء: وإذا تلى عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوه.
فذلك الخرور، وسمعت العرب تقول: قعد يشتمني، كقولك: قام يشتمني وأقبل يشتمني.
والمعنى على ما ذكر: لم يصيروا عندها صما وعميانا.
وقال الزجاج: المعنى إذا تليت عليهم آيات ربهم خروا سجدا وبكيا سامعين، مبصرين.
كما أمروا به.
وقال ابن قتيبة: أي لم يتغافلوا عنها، كأنهم صم لم يسمعوها، وعمى لم يروها.
(1/412)
قلت: هاهنا أمران: ذكر الخرور، وتسليط النفي عليه. وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صم وعمه. فلهم عليها حرور بالقلب خضوعا، أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور، وعبر به عن القعود؟.
(1/413)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
سورة
الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الشعراء (26) : آية 89]
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
والسليم: هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف.
فالسليم: القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد
المريض والسليم والعليل.
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم.
والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة
تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبته مع
تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار
مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا
تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيها شركة بوجه ما، بل قد خلصت
عبوديته لله تعالى: إرادة، ومحبة وتوكلا، وإنابة،
(1/414)
وإخباتا،
وخشية، ورجاء. وخلص عمله وأمره كله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن بغض أبغض في
الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد
والتحكم لكل من عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما
على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأموال والأعمال: من أقوال القلب،
وهي العقائد. وأقوال اللسان، وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة
والمحبة والكراهية وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحكم عليه في ذلك كله دقّة
وجلّه:
لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا
عمل، كما قال تعالى: 49: 1 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.
قال بعض السلف: ما من فعلة، وإن صغرت، إلا ينشر لها ديوانان:
لم؟ وكيف؟ أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟.
فالأول سؤال: عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من
أغراض النفس في محبة المدح من الناس وخوف ذمهم؟ أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه
عاجل، أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية لله، وطلب التودد والتقرب إلى الرب
سبحانه، وابتغاء الوسيلة إليه؟.
ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك؟.
والثاني: سؤالك عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد؟ أي هل كان
ذلك العمل بما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟.
فالأول: سؤال عن الإخلاص. والثاني: عن المتابعة. فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا
بهما.
(1/415)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
فطريق
التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص. وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق
المتابعة. وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص ومن هوى يعارض الاتباع. فهذا حقيقة
سلامة القلب.
فمن سلم قلبه ضمنت له النجاة والسعادة.
[سورة الشعراء (26) : آية 98]
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا، لا في الخلق والقدرة
والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار، كقوله:
6: 1 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
وأصح القولين: أن المعنى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فيجعلون له عدلا يحبونه
ويقدسونه ويعبدونه، كما يعبدون الله ويعبدونه، ويعظمون أمره.
وقال في طريق الهجرتين:
وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات، بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه
في أفعاله وصفاته. وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية
والتعظيم، مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها. فتصحيح هذه: هو تصحيح شهادة أن لا
إله إلّا الله.
فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها: أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا،
وتكون أهم الأشياء عنده، وأجلّ علومه وأعماله، فإن الشأن كله فيها، والمدار كله
عليها، والسؤال يوم القيامة عنها. قال تعالى:
15: 92- 93 فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
قال غير واحد من السلف: هو عن قول «لا إله إلا الله» وهذا حق. فإن السؤال كله
عنها،
(1/416)
وعن
أحكامها وحقوقها، وواجباتها ولوازمها. فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها،
ولوازمها وحقوقها. قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا
كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟.
فالسؤال عما ذا كانوا يعبدون: هو السؤال عنها نفسها. والسؤال عما ذا أجابوا
المرسلين: سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها: هل سلكوها وأجابوا الرسل لما
دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر،
ويعضّ عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر.
ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضلة، بل يجعل هو المطلب الأعظم، وما سواه
إنما يطلب على الفضلة. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
(1/417)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
سورة
النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النمل (27) : آية 59]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
هؤلاء هم أعلى الطبقات وأكرمها على الإطلاق. وهم المرسلون.
فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه: هم رسله. وهم المصطفون من عباده،
الذين سلم عليهم في العالمين، كما قال تعالى: 27: 181 وَسَلامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ. وقال تعالى: 37: 79 سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وقال 37:
108، 109 سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وقال 37: 130
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
وقال في بدائع الفوائد:
هل السلام من الله؟ فيكون المأمور به: الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في
القول والأمر بهما جميعا؟.
فالجواب عنه: أن الكلام يحتمل الأمرين. ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح.
(1/419)
فيرجح
كونه داخلا في جملة القول لأمور:
منها: اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضى أن يكون فعل القول واقعا على
كل واحد منهما. هذا هو الأصل، ما لم يمنع منه مانع. ولهذا إذا قلت: قل: الحمد لله،
وسبحان الله. فإن التسبيح هنا داخل في القول.
ومنها: أنه إذا كان معطوفا على القول. كان عطف خبر على خبر، وهو الأصل. ولو كان
منقطعا عنه. كان عطف جملة خبرية على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها: أن قوله: «قل الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى» ظاهر في أن المسلم
هو القائل: الحمد لله. ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل: سلام على عبادي.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور:
أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن، من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى،
كقوله: 37: 79 سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وقوله:
37: 108 سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وقوله: 37: 120 سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ وقوله:
37: 130 سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
والثاني: أن عباده الذين اصطفى: هم المرسلون. والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه
وسلامه عليهم. وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم.
أما الأول: فقال تعالى: 37: 180، 181 سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق
بجلاله، ثم سلام على رسله. وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من
أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع، فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا، كما نزه
نفسه عما يقول ضلال خلقه فيه، ثم سلم على
(1/420)
المرسلين.
وهذا يقتضى سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم، المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل
ما رماهم أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد.
وأعظم ما جاءوا به: التوحيد ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه
على ألسنتهم. وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد:
فهو الحق المحض. وما خالفه: فهو الباطل، والكذب المحال.
وهذا المعنى بعينه في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفى. فإنه يتضمن حمده بما هو من نعوت الكمال وأوصاف الجلال،
والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن
سلامة ما جاءوا به من كل باطل.
فقابل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد بكون السلام
هنا من الله تعالى، كما هو في آخر الصافات.
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره. فمنه قوله تعالى: 21:
112 قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ وقوله:
23:
118 وَقُلْ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ وقوله: 7: 89
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفاتِحِينَ ونظائره كثيرة جدا.
وفصل الخطاب في ذلك: أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا، وتنتظمها انتظاما واحدا.
فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه، وليس له فيه إلا البلاغ، والكلام كلام الرب
تبارك وتعالى، فهو الذي حمد نفسه، وسلم على صفوة عباده، وأمر رسوله بتبليغ ذلك.
فإذا قال الرسول: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى كان قد حمد الله وسلم
على عباده بما حمد الرب به نفسه وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء،
ومن المبلغ بلاغا، ومن العباد: اقتداء وطاعة. فنحن نقول كما أمرنا ربنا تعالى:
«الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى» .
(1/421)
وكلمة
«السلام» هاهنا يحتمل أن تكون داخلة في حيّز القول. فتكون معطوفة على الجملة
الخبرية، وهي «الحمد لله» ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا.
وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب، محكية بالقول.
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة، معطوفة على جملة. الطلب وعلى هذا: فلا محل
لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح.
وعليه يكون السلام من الله عليهم، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله
صلّى الله عليهم وسلّم.
وعلى التقدير الأول: يكون أمرنا بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر
على الطلب، مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: قم وذهب زيد، ولا أخرج وقعد
عمرو.
ويجاب عن هذا: بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا يمتنع العطف فيه
بالخبر على الجملة الطلبية. لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى:
10: 101 قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ؟.
فقوله تعالى: «وما تغنى الآيات» ليس معطوفا على القول وهو «انظروا» بل معطوف على
الجملة الكبرى، على أن عطف الخبر على الطلب كثير، كقوله تعالى: 21: 112 قالَ:
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ
وقوله: 23: 118 وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
والمقصود: أنه على هذا القول: يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده،
والرسل أفضلهم. وقد أخبر تعالى: أنه أخلصهم كما
(1/422)
قال:
38: 46، 47 إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ.
ويكفي في شرفهم وفضلهم: أن الله اختصهم بوحيه. وجعلهم أمناءه على رسالته، وواسطته
بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته، فمنهم من اتخذه خليلا. ومنهم من كلمه
تكليما، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات. ولم يجعل لعباده طريقا للوصول
إليه إلا من طريقهم، ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم.
(1/423)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
سورة
القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة القصص (28) : آية 47]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا
رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (47)
فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة. وأنه سبحانه لو
أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم
كتابا. فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل. وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة، بحيث استحقوا أن
يصابوا بها بالمصيبة. ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل. وهذا هو فصل
الخطاب.
وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم: أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب
الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة. وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة
والكلابية كليهما، فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى، لعدم جمعها بين هذين
الأمرين. فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل،
وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي. وأحسنوا في رد ذلك عليهم.
(1/425)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
واستطالت
المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن القبح العقليين جملة، وجعلهم انتفاء العذاب قبل
البعثة دليلا على انتفاء القبح، واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا
عليهم.
فكل طائفة استطالت على الأخرى لسبب إنكارها الصواب.
وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله،
ولا الظفر عليه أصلا. فإنه لوافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له، مخالف
لها في باطلها منكر له.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 72]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا
تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ
سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)
خص سبحانه النهار بذكر البصر، لأنه محله. وفيه سلطان البصر وتصرفه. وخص الليل بذكر
السمع. لأن سلطان السمع يكون بالليل، وتسمع فيه الحيوانات ما لا تسمع في النهار.
لأنه وقت هدوء الأصوات، وخمود الحركات، وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر.
والنهار بالعكس، فيه قوة سلطان البصر، وضعف سلطان السمع.
فقوله: أَفَلا تَسْمَعُونَ راجع إلى قوله «قل أرأيتم» أي إن جعل الله عليكم الليل
سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم به؟.
وقوله: «أفلا تبصرون» راجع إلى قوله «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا
إلى يوم القيامة» .
(1/426)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
سورة
العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة العنكبوت (29) : آية 41]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم.
فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا.
وهو أوهن البيوت وأضعفها.
وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء.
فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا على ضعفهم كما قال تعالى: 19: 81، 82
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا
سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا وقال تعالى:
36: 74، 75 وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وقال بعد أن ذكر
إهلاك الأمم المشركين 11: 101 وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
.
(1/427)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
فهذه
أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به، ويتكبر به،
ويستقر به لم يحصل له به إلّا ضد مقصوده.
وفي القرآن أكثر من ذلك، وهو من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك، وعلى خسران
صاحبه وحصوله على مقصوده.
فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله:
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
فالجواب: أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم
بأن اتخاذهم الموتى أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا، فلو علموا ذلك ما فعلوه،
ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة. والأمر في الواقع بخلاف
ما ظنوه.
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)
وقيل: المعنى: أنكم في الصلاة تذكرون الله، وهو ذاكركم ولذكر الله تعالى إياكم أكبر
من ذكركم إياه. وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود رضي الله
عنهم.
وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» قال:
هو قوله تعالى: 2: 152 فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فذكر الله تعالى لكم أكبر من
ذكركم إياه.
وقال ابن زيد وقتادة: معناه، ولذكر الله أكبر من كل شيء.
وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ.
ويشهد لهذا
حديث أبي الدرداء «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق
الذهب والورق- الحديث»
.
(1/428)
كان
شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه يقول:
الصحيح أن معنى الآية: أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر.
فإنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولما فيها من ذكر
الله تعالى، أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.
وذكر ابن أبي الدنيا ابن عباس: أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
(1/429)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
سورة
الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الروم (30) : آية 28]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ
تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (28)
هذا دليل قياس. احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبده وملكه
شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم.
ومن أبلغ الحجاج. أن يأخذ الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها،
معلوم لها. فقال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم وإمائكم
شركاء في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك
سواء؟ تخافون أن يقاسموكم أموالكم، ويشاطروكم إياها، ويستكثرون ببعضها عليكم، كما
يخاف الشريك شريكه.
وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.
(1/431)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
والمعنى:
هل يرضي أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله، حتى يساويه في التصرف في ذلك؟
فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار؟
فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا
الحكم باطلا في فطركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، ممكن في حقكم، إذ ليس عبيدكم
ملكا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد لي،
فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي؟ مع أن جعلتموهم بي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟
فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.
[سورة الروم (30) : آية 41]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
قال مجاهد: إذا ولي الظالم أساء بالظلم والفساد، فيحبس بذلك القطر، ويهلك الحرث
والنسل. والله لا يحب الفساد. ثم قرأ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار، فهو بحر، وقال
عكرمة: ظهر الفساد في البر والبحر، أما إني لا أقول لكم: بحركم هذا، ولكن كل قرية
على ماء.
وقال قتادة: أما البر: فأهل العمور، وأما البحر: فأهل القرى والريف.
قلت: وقد سمى الله تعالى الماء العذب بحرا، فقال: 25: 53 وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وليس في العالم بحر حلو
واقفا، إنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح والساكن. وتسمى القرى التي على
المياه الجارية باسم تلك المياه.
(1/432)
وقال
ابن زيد: ظهر الفساد في البر والبحر، قال: الذنوب.
قلت: أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر، وإن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها،
فيكون اللام في قوله: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لام العاقبة
والتعليل. وعلى الأول: فالمراد بالفساد: النقص والشر والآلام التي يحدثها الله في
الأرض بمعاصي العباد فكلما أحدثوا ذنبا أحدث الله لهم عقوبة. كما قال بعض السلف:
كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة.
والظاهر- والله أعلم- أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها.
ويدل عليه قوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا فهذا حالنا دائما،
أذاقنا الله الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من
دابة.
(1/433)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
سورة
سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة سبإ (34) : آية 22]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما
لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك
وسدت بها عليهم الباب أبلغ سد وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من
نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أبدا. وحينئذ فلا بد أن
يكون المعبود إما مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو شريكا لمالكها، أو ظهيرا
أو وزيرا أو معاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور
الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده.
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض.
فقد يقول المشرك: هي شريكة للمالك الحق. فنفى شركها له.
فيقول المشرك: قد تكون ظهيرا أو وزيرا، أو معاونا. فقال: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ
ظَهِيرٍ.
(1/435)
ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين. فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع وإلى معاونته له فيقبل شفاعته، وإن لم يأذن له منها. وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته فهو الغني بذاته عن كل ما سواه. فكيف يشفع عنده أحد بغير إذنه؟.
(1/436)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
سورة
فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة فاطر (35) : آية 15]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم، لا ينفك عنهم، كما أن
كونه غنيا حميدا ذاتي فغناه وحمده ثابت له لذاته: لا لأمر أوجبه. وفقر من سواه
إليه ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي
للفقير. فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة. كما أن غنى الرب
سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما أن الغنى أبدا وصف له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة. وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر
والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك. إذ ما بالذات لا يعلّل لفقير
بذاته محتاج إلى الغنى بذاته. فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر
لا أسباب له.
ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير
(1/437)
القولين
اللذين تذكرهما الفلاسفة والمتكلمون.
فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان. والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث.
والصواب: أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم
إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من ادلة على هذا الفقر.
والمقصود: أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما
أخبر عن ذاته المقدسة، وحقيقته أنه غني حميد.
فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي.
والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون
العبد إلا فقيرا. ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلّا غنيّا. كما أنه يستحيل أن يكون
العبد إلا عبدا ويستحيل أن يكون الرب إلا ربّا.
(1/438)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
سورة
يس
بسم الله الرحمن الرحيم وأما الغل
[سورة يس (36) : آية 8]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (8)
قال الفراء: حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله. وقال أبو عبيدة: منعناهم عن الايمان
بموانع. ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب
مانعا من الايمان.
فإن قيل: فالغل المانع من الايمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق.
قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب. كقوله
تعالى: 17: 13 وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ومن هذا قولهم:
اثمي في عنقك. وهذا في عنقك. ومن هذا قوله:
17: 29 وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ شبه الإمساك عن الإنفاق
باليد إذا غلت إلى العنق. ومن هذا قال الفراء: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا:
(1/439)
حبسناهم
عن الاتفاق. قال أبو إسحاق: إنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي لزومه
كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق. فقال أبو علي: هذا مثل قولهم: طوقتك كذا
وقلدتك. ومنه: قلده السلطان كذا، أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة،
ومكان الطوق.
قلت: ومن هذا قولهم: قلدت فلانا حكم كذا وكذا. كأنك جعلته طوقا في عنقه. وقد سمى
الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله: 7: 157 وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها. قال
الحسن: هي الشدائد التي كانت في العبادة. كقطع أثر البول والنجاسة، وقتل النفس في
التوبة. وقطع الأعضاء الخاطئة. وتتبع العروق من اللحم. وقال ابن قتيبة: هي تحريم
الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وجعلها أغلالا
لأن التحريم يمنع، كما يفيض الغل اليد.
وقوله: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ قالت طائفة: الضمير يعود إلى الأيدي، وإن لم تذكر
لدلالة السياق عليها. قالوا: لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد. ولذلك سمي
جامعة. وعلى هذا فالمعنى: فأيديهم، أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم. وهذا قول
الفراء والزجاج.
وقالت طائفة: الضمير يرجع إلى الأغلال. وهذا هو الظاهر. وقوله:
فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أي واصلة وملزوزة إليها، فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى
وصل إلى الذقن.
وقوله: فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال الفراء والزجاج: المقمح: هو الغاض بصره بعد رفع
رأسه. ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر. يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح.
وقال الأصمعي: بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. قال الأزهري: لما غلت
أيديهم إلى
(1/440)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
أعناقهم
رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى.
فإن قيل: فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والايمان.
قيل: أحسن وجه وأبينه. فإن الغل إذا كان في العنق واليد. مجموعة إليها منع اليد عن
التصرف والبطش. فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه.
وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه، لا تستطيع له حركة، ثم أكد هذا المعنى والحبس قوله:
[سورة يس (36) : آية 9]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
قال ابن عباس: منعهم عن الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن
خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى. فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من
الايمان، عقوبة لهم، ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال يوم قد وضعت الأغلال
العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم، وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين، لا
يستطيعون النفوذ من بينها، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا.
وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة
وجدت هذا المثل مطابقة له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما بين هذا
وبين التصرف. والله المستعان.
(1/441)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
سورة
الصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الصافات (37) : آية 78]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
قول الله تعالى:
قال تعالى عن نوح: 37: 78- 80 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى
نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
وقال عن إبراهيم خليله: 37: 108، 109 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ
عَلى إِبْراهِيمَ.
وقال في موسي وهارون: 37: 119، 120 وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ
عَلى مُوسى وَهارُونَ.
وقال: 37: 130 سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين: هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين، منهم: مجتهد وغيره «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ» الثناء الحسن، ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا. ولا
ينبغي أن يحكى هذا قولان للمفسرين، كما يفعله من ليس عناية
(1/443)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
بحكاية
الأقوال، بل هما قول واحد.
[سورة الصافات (37) : آية 79]
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
فمن قال: إن المتروك هو السلام عليهم في الأخرى نفسه، فلا ريب أن قوله «سَلامٌ
عَلى نُوحٍ» جملة في موضع نصب بتركنا. والمعنى: أن العالمين يسلمون على نوح ومن
بعده من الأنبياء.
ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن. نظر إلى لازم السلام وموجبه، وهو الثناء
عليهم، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم.
وقد زعمت طائفة، منهم: ابن عطية وغيره. أن من قال: تركنا عليه ثناء لها حسنا ولسان
صدق. كان: «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» جملة ابتدائية، لا محل من
الإعراب. وهو سلام من الله سلم به عليه.
قالوا: فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر:
قاله الطبراني.
وقد يقوي هذا القول: أنه سبحانه أخبر أن المتروك عليه هو في الأخرى وأن المسلم
عليه في العالمين، وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أبقى الله عليه ثناء حسنا.
وهذا القول ضعيف لوجوه.
أحدها: أنه يلزم منه حذف المفعول لتركنا، ولا يبقى في الكلام فائدة على هذا
التقدير، فإن المعنى يؤول إلى: أنا تركنا عليه في الآخرين أمرا لا ذكر له في
اللفظ. لأن السلام عند هذا القائل منقطع بما قبله، لا تعلق له بالفعل.
الثاني: أنه لو كان المفعول محذوفا كما ذكره لذكروه في موضع واحد، ليدل على المراد
منه عند حذفه. ولم يطرد حذفه في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء
الحسن. وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح: أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في
موضع آخر، لدلالة فصيح: أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر، لدلالة
(1/444)
المذكور
على المحذوف. وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل. وإما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره
في موضع واحد، ولا في اللفظ ما يدل عليه.
فهذا لا يقع في القرآن.
الثالث: أن في قراءة ابن مسعود، وتركنا عليه في الآخرين. سلاما فالنصب وهذا يدل
على أن المتروك هو السلام نفسه.
الرابع: أنه لو كان السلام منقطعا مما قبله لأخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته، ولما
حسن الوقوف على ما قبله.
وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ كيف يجد
قلبه متشوفا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه، ولا يجد فائدة الكلام
انتهت وتمت، ليظهر عندها، بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك. فالوقف على
«الآخرين» ليس بوقف تام.
فإن قيل: فيجوز حذف المحذوف من هذا الباب، لأن «ترك» هنا في معنى «أعطى» لأنه
أعطاه ثناء حسنا أبقاه عليه في الأخرى ويجوز في باب «أعطى» ذكر المفعولين وحذفهما
والاقتصار على أحدهما: وقد وقع ذلك في القرآن. كقوله: 108: 1 إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فذكرهما. وقال:
92: 5 فَأَمَّا مَنْ أَعْطى فحذفهما. وقال لسوف: 98: 5 وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فحذف الثاني، واقتصر على الأول. وقال: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ فحذف الأول.
واقتصر على الثاني.
قيل: فعل الإعطاء فعل مدح، لفظه دليل على أن المفعول المعطي قد ناله عطاء المعطى
والإعطاء إحسان ونفع وبر، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب
الغرض المطلوب من الفعل.
فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع،
المنافي للإحسان ذكر الفعل مجردا. كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ
(1/445)
أَعْطى
وَاتَّقى
ولم يذكر ما أعطى، ولا من أعطى. وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت»
لما كان المقصود بهذا تفرّد الرب سبحانه بالإعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا
لحظ المعطى معنى، بل المقصود: أن حقيقة الإعطاء والمنع إليك لا إلى غيرك، بل أنت
المتفرد بها، لا يشركك فيها أحد، فذكر المفعولين هنا يخلّ بتمام المعنى وبلاغته.
وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى: 108: 1 إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فإن المقصود إخباره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بما خصه به وأعطاه
إياه من الكوثر. ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين. وكذا قوله تعالى: 76: 8
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.
وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه. كقوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
المقصود به: أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم، ولا يهملونه.
فذكره لأنه هو المقصود.
وقوله ان أهل النار: 74: 43، 44 لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للاطعام أنهم بخلوا
عنه. ومنعوه حقه من الإطعام، وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود، دون ذكر
المطعوم.
وتدبر هذه الطريقة في القرآن، وذكره للأهم المقصود، وحذفه لغيره، يطلعك على باب من
أبواب إعجازه وكمال فصاحته.
وأما فعل الترك: فلا يشعر بشيء من هذا، ولا يمدح به. فلو قلت:
فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة أصلا، بخلاف قولك: يطعم، ويعطي، ويهب، ونحوه، بل لا
بد أن تذكر ما يترك. ولهذا لا يقال: فلان يأكل، ويقال: مطعم ومطعم. ومن أسمائه
سبحانه المعطى.
فقياس «ترك» على «أعطى» من أفسد القياس.
(1/446)
وسَلامٌ
عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ جملة محكية. قال الزمخشري:
وتركنا عليه في الآخرين من الأمم. هذه الكلمة- وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ- يعني يسلمون
عليه تسليما. ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك: قرأت: سورة أنزلناها.
الخامس: أنه قال: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ فأخبر سبحانه أن هذا السلام
عليه في العالمين، ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه، كلهم يسلم
عليه، ويثني عليه، ويدعو له. فذكره بالسلام عليه فيهم.
وأما سلام الله سبحانه عليه. فليس مقيدا بهم، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى
مثل ذلك: فلا يقال: السلام على رسول الله في العالمين، ولا: اللهم سلم على رسولك
في العالمين، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم
به.
وأما قولهم: إن الله سلم عليه في العالمين. وترك عليه في الآخرين.
فالله سبحانه وتعالى أبقى على أنبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم،
جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم، واحتمالهم للأذى من أممهم في الله. وأخبر أن
هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعا، لا
يخلون منها. فأدامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق، وعالما بعد عالم
مجازاة لنوح عليه السلام بصبره، وقيامه بحق ربه، وبأنه أول رسول أرسله إلى أهل
الأرض. وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه، كما قال تعالى: 42: 13 شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية.
وقولهم: إن هذا قول ابن عباس، فقد تقدم. أن ابن عباس وغيره:
إنما أرادوا بذلك أن السلام عليهم من الثناء الحسن ولسان الصدق. فذكروا بمعنى
السلام عليه وفائدته. والله سبحانه أعلم.
(1/447)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
[سورة
الصافات (37) : آية 130]
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130)
فهذه الآية فيها قراءتان.
إحداهما: إلياسين بوزن إسماعيل. وفيه وجهان.
أحدهما: أنه اسم ثان للنبي إلياس والياسين. كميكال وميكائيل.
والوجه الثاني: أنه جمع وفيه وجهان.
أحدهما: أنه جمع إلياس. وأصله إلياسين. بياءين. كعبرانيين.
خففت إحدى الياءين. فقيل: إلياسين. والمراد: أتباعه، كما حكي سيبويه: الأشعرون
مثله الأعجمون والثاني: أنه جمع إلياس محذوف الياء.
والقراءة الثانية سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ وفيه أوجه.
أحدها: أن «ياسين» اسم لأبيه، فأضيف إليه الآل، كما يقال: آل إبراهيم.
والثاني: أن «آل ياسين» هو إلياس نفسه. فيكون «آل» مضافة إلى «ياسين» والمراد
بالآل: ياسين نفسه: كما ذكر الأولون.
والثالث: أنه على حذف ياء النسب، فيقال: ياسين وأصله:
ياسيين، كما تقدم. وآلهم أتباعهم على دينهم.
والرابع: أن «ياسين» هو القرآن، وآله هم أهل القرآن.
والخامس: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وآله أقاربه وأتباعه. كما سيأتي وهذه
الأقوال كلها ضعيفة.
والذي حمل قائليها عليها: استشكالهم إضافة آل إلى «ياسين» واسمه «الياس» و
«الياسين» ورووها في المصحف مفصولة. وقد قرأها بعض القراء «آلياسين» فقال طائفة
منهم: له أسماء ياسين، والياسين. وإلياس.
(1/448)
وقالت
طائفة: ياسين: اسم لغيره.
ثم اختلفوا: فقال الكلبي «ياسين» محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقالت طائفة: هو القرآن. وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه.
والصواب- والله أعلم- في ذلك أن أصل الكلمة «آل ياسين» كآل إبراهيم، فحذفت الألف
واللام من أوله لاجتماع الأمثال، ودلالة الاسم على موضع المحذوف. وهذا كثير في
كلامهم، إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها، فحذفوا منها ما لا لبس في حذفه،
وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال. ولهذا يحذفون النون من إني
وأني وكأني ولكني. ولا يحذفونها من ليتني. ولما كانت اللام في «لعل» شبيهة بالنون
حذفوا النون معها، ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له،
فيقولون مرة: إلياسين. ومرة: إلياس. ومرة: ياسين، وربما قالوا:
يأس.
ويكون على إحدى القراءتين: قد وقع السلام عليه، وعلى القراءة الأخرى: على آله.
(1/449)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
سورة
ص
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة ص (38) : آية 50]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50)
تأمل قوله، كيف تجد تحته معنى بديعا؟ وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها
عليهم، بل تبقى مفتحة كما هي. وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها.
كما قال تعالى: 104: 8 إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة. ومنه سمي
الباب وصيدا. وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها.
كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب.
قال مقاتل: يعني أبوابها عليهم مطبقة. فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم. ولا
يدخل فيها روح آخر الأبد.
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في
الجنة حيث شاؤوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف
(1/451)
والألطاف
من ربهم، ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت.
وأيضا فيه إشارة إلى أنها دار أمن، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب، كما كانوا
يحتاجون إلى ذلك في الدنيا.
وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة. فقال
الكوفيون: التقدير مفتحة لهم أبوابها. والعرب تعاقب بين الألف واللام والاضافة،
فيقولون: مررت برجل حسن العين، أي عينه. ومنه قوله تعالى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوى أي مأواه. وقال بعض البصريين: التقدير مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف
الضمير وما اتصل به.
قال: وهذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف.
لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء. لأن الهاء والألف اسم،
والألف واللام دخلتا للتعريف. فلا يبدل حرف من اسم، ولا ينوب عنه.
قالوا: وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في «مفتحة» ضمير
الجنات، ويكون المعنى: مفتحة هي، ثم أبدل منها الأبواب ولو كان كذلك لوجب نصب
الأبواب، لكون «مفتحة» قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر، لامتناع
ارتفاع فاعلين بفعل واحد.
فلما ارتفع «الأبواب» دل على أن «مفتحة» حال من ضمير، و «الأبواب» مرتفعة يه. وإذا
كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني، كما تقول: مررت برجل حسن الوجه. ولو رفعت
الوجه ونونت «حسنا» لم يجز. فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا، فلا بد من ضمير
يعود على الموصوف الذي هو «جنات عدن» ولا ضمير في اللفظ. فهو محذوف، تقديره:
الأبواب منها.
وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين. فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام
خلف وعوض عن الضمير تغني عنه. وإجماع العرب على قولهم: حسن الوجه، وحسن وجهه: شاهد
بذلك. وقد قالوا: إن التنوين
(1/452)
بدل
من الألف واللام، بمعنى أنهما لا يجتمعان، وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين
والتنوين بدلا من الاضافة بمعنى التعاقب والتوارد. ولا يريدون بقولهم: هذا بدل من
هذا: أن معنى البدل معنى المبدل منه، بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في
الآخر.
فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في «الأبواب» أغنت عن الضمير أو قيل: أبوابها،
وهذا صحيح. فإن المقصود الربط بين الصفة والموصوف بأمر يجعلها له، لا مستقلة. فلما
كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال وكذلك لام التعريف فإن كلا من
الضمير واللام يعين صاحبه، هذا يعين مفسره وهذا يعين ما دخل عليه. وقد قالوا في
زيد نعم الرجل: أن الألف واللام أغنت عن الضمير. والله أعلم.
وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابا اعترض عليه فيه. فقال «جنات عدن» معرفة لقوله:
19: 61 جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وانتصابها
على أنها عطف بيان لَحُسْنَ مَآبٍ و «مفتحة» حال، والعامل فيها ما في «المتقين» من
معنى الفعل. وفي «مفتحة» ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي
الأبواب، كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل. وهو من بدل الاشتمال. هذا إعرابه.
فاعترض عليه بأن «جنات عدن» ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأما قوله «التي وعد
الرحمن عباده» فبدل لا صفة. وبأن جنات عدن لا يسهل أن يكون عطف بيان لحسن مآب، على
قوله. لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به. فإن القائل قائلان.
أحدهما: أنه لا يكون إلا في المعارف، كقول البصريين. والثاني: أنه يكون في المعارف
والنكرات، بشرط المطابقة، كقول الكوفيين وأبي علي الفارسي.
وقوله: إن في «مفتحة» ضمير الجنات. فالظاهر خلافه. فإن الأبواب ترتفع به ولا ضمير
فيه.
(1/453)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
وقوله:
إن «الأبواب» بدل اشتمال. فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره: أنه لا بد فيه من
الضمير. وإن نازعهم فيه آخرون، ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به. وأن يكون
مقدرا. وهاهنا لم يلفظ به. فلا بد من تقدير، أي الأبواب منها. فإذا كان التقدير:
مفتحة لهم هي الأبواب منها:
كان فيه تكثير للاضمار وتقليله أولى.
[سورة ص (38) : آية 75]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
إن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع. مفردا، ومثنى، ومجموعا.
فالمفرد: كقوله: 68: 1 بِيَدِهِ الْمُلْكُ والمثنى كقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
والمجموع كقوله: عَمِلَتْ أَيْدِينا.
فحيث ذكر اليد مثناة. أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعلى بالباء
إليهما، وقال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
وحيث ذكرها مجموعة أضاف الفعل إليها، ولم يعدّ الفعل بالباء.
فهذه ثلاثة فروق: فلا يحتمل «خلقت بيدي» من المجاز ما يحتمله عَمِلَتْ أَيْدِينا
فإن كل أحد يفهم من قوله: عَمِلَتْ أَيْدِينا ما يفهمه من قوله: عملنا وخلقنا، كما
يفهم ذلك من قوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأما قوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فلو
كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف
وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟
وسرّ الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه. كقوله: بِما
قَدَّمَتْ يَداكَ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي
بالباء إلى اليد مفردة أو مثناة، فهو مما باشرته يده.
(1/454)
ولهذا
قال عبد الله بن عمر «إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا خلق آدم بيده، وغرس جنة
الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده» فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص
بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة.
وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن «أهل الموقف يأتونه يوم القيامة، فيقولون:
يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده»
وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له
«اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك الألواح بيده»
وفي لفظ آخر «كتب لك التوراة بيده»
وهو من أصح الأحاديث. وكذلك
الحديث المشهور «أن الملائكة قالوا: يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون، وينكحون،
ويركبون، فأجعل لهم الدنيا ولنا الأخرى، فقال الله تعالى: لا أجعل صالح ذرية من
خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن فكان» .
وهذا التخصيص إنما فهم من قوله «خلقت بيديّ» فلو كان مثل قوله:
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فهم المسلمون أن
قوله: 38: 75 ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يوجب له تخصيصا
وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهل الموقف حين
جعلوه من خصائصه: كانت التسوية بينه وبين قوله:
36: 71 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا
أَنْعاماً خطأ محضا.
(1/455)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
سورة
الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الزمر (39) : آية 29]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (29)
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد. فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة
متنازعون، مختلفون متشاحّون.
والرجل الشّكس: الضيق الخلق. فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتّى شبه بعبد يملكه جماعة
متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.
والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم
مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه. فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم
لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه
إليه، وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان؟
وهذا من أبلغ الأمثال. فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته
إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
(1/457)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[سورة
الزمر (39) : آية 62]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
احتج المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ونحو ذلك من
الآيات.
فأجاب الأكثرون: بأنه عام مخصوص، يختص محل النزاع، كسائر الصفات: من العلم والنحو.
قال ابن عقيل في الإرشاد: ووقع نحو لي هذا أن القرآن لا تتناوله هذه الأخبار، ولا
تصلح لتناوله، قال: لأن به حصل عقد الإعلام بكون الله خالقا لكل شيء، وما حصل به
عقد الأعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر. قال: ولو أن شخصا قال: لا أتكلم
اليوم كلاما إلا كذبا. لا يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به.
قلت: ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله في قصة مريم:
19: 26 فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ صَوْماً، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وإنما أمرت بذلك لئلا
تسأل عن ولدها. فقولها «فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» به يحصل إخبارها
بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر، وإلا كان قولها مخالفا
لنذرها.
[سورة الزمر (39) : آية 73]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا
جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73)
عقّب دخولها على الطيب بحرف الفاء، الذين يؤذن بأنه سبب للدخول، أي بسبب طيبكم قيل
لكم: ادخلوها- فإنها دار الطبيين لا يدخلها إلا طيب.
وقال في حادي الأرواح:
(1/458)
قال
لأهل الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو.
وقال في صفة النار: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها بغير واو.
فقالت طائفة: هذه واو الثمانية. دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية، وأبواب النار
سبعة، فلم تدخلها الواو. وهذا قول ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، ولا أئمة
العربية. وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين.
وقالت طائفة أخرى: الواو زائدة. والجواب الفعل الذي بعدها، كما هو في الآية
الثانية. وهذا أيضا ضعيف. فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم، ولا يليق بأسفه
الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة.
وقالت طائفة ثالثة: الجواب محذوف.
وقوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها عطف على قوله: جاؤُها وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد
والزجاج وغيرهم.
قال المبرد: وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم.
وقال أبو الفتح ابن جنّي: وأصحابنا يدفعون زيادة الواو، ولا يجيزونه، ويرون أن
الجواب محذوف للعلم به.
بقي أن يقال: فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية أهل النار؟
فيقال: هذا أبلغ في الموضعين. فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها، وأبوابها مغلقة،
حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم، فيفجؤهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت
أبوابها بلا مهلة. فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط: أن يكون عقيبه. والنار
دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من
(1/459)
الدخول.
وأما الجنة فإنها دار الله، ودار كرامته، ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها
صادفوا أبوابها مغلقة، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتتحها ويستشفعون إليه
بأولي العزم من رسله، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم
وأفضلهم. فيقول «أنا لها» فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا حربه فيدعه ربه ساجدا ما
شاء أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه، وأن يسأل حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح
أبوابها، فيشفعه، ويفتحها تعظيما لخاطرها، وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه، وأن
مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك
الأهوال العظيمة، التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها،
وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق، وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة، حتى أذن الله
تعالى لخاتم أنبيائه ورسله، وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم. وهذا أبلغ
وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدّر بخلاف ذلك، لئلا ينوهم الجاهل
أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء. فجنة الله عالية غالية، وبين الناس وبينها
من العقبات والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلّا به. فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى
على الله الأماني ولهذه الدار؟ فليعد عنها إلى ما أولى به. وقد خلق له وهيئ له.
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا: من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم،
كل زمرة على حدة، كمشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين
أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت إجماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا،
ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدار الأخرى: النار يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم
بعضا، ويتأذى بعضهم ببعض. وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة. من أن يساقوا
واحدا واحدا.
فلا تهمل وتدبر قوله: زُمَراً وقول خزنة الجنة لأهلها «سَلامٌ
(1/460)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
عَلَيْكُمْ»
فبدءوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه، أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم
ما تكرهون، ثم قالوا لهم «طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» أي سلامتكم ودخولكم
الجنة بطيبكم، فإن الله حرمها إلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب، والدخول
والخلود.
أما أهل النار فإنهم حين انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن، فتحت
لهم أبوابها وقفوا عليها، وزيدوا على ما هم عليه: توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم
بقولهم «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ،
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟» فاعترفوا وقالوا «بلى» فبشروهم بدخول
النار والخلود فيها، وأنها بئس المثوى والمآب لهم.
وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها «ادخلوها» وقول خزنة النار لأهلها «ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ» تجد تحته سرا لطيفا، ومعنى بديعا، لا يخفى على المتأمل. وهو
أنه لما كانت النار دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا، وأعظمه غما، يستقبل
الداخل فيها من العذاب ما هو أشد منها، ويدنو من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول
الأبواب. فقيل «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» صغارا لهم، وإذلالا وخزيا. ثم قيل
لهم: لا يقتصر بكم العذاب على مجرد دخول الأبواب الفظيعة، ولكن وراءها الخلود في
النار.
[سورة الزمر (39) : آية 75]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ (75)
وأمام الجنة: فهي دار الكرامة، والمنزل الذي أعده الله لأوليائه، فبشّروا من أول
وهلة بالدخول إلى الأرائك والمنازل والخلود فيها.
39: 75 وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ.
فحذف فاعل القول، لأنه غير معين، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم به،
فيحمده السموات وأهل الأرض: الأبرار،
(1/461)
والفجار،
والإنس والجن، حتى أهل النار.
قال الحسن: وغيره: لقد دخلوا النار، وإن حمده لفي قلوبهم، ما وجدوا لهم عليه
سبيلا.
وهذا- والله أعلم- هو السر الذي الذي حذف لأجله الفاعل في قوله:
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها وفي قوله: 66: 12 وَقِيلَ
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ كأن الكون كله نطق بذلك، وقال لهم ذلك،
والله أعلم بالصواب.
(1/462)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
سورة
غافر
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة غافر (40) : آية 37]
أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
قرأ أهل الكوفة «وصد» على البناء للمفعول، حملا على «زين» وقرأه الباقون «وصد»
بفتح الصاد، ويحتمل معنيين.
أحدهما: أعرض، فيكون لازما.
والثاني: يكون صد ومنع غيره، فيكون متعديا، والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان.
وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى: 10: 88، 89 وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا،
رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ،
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ، قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما.
فهذا الشد على القلب: هو الصد والمنع، ولهذا قال ابن عباس:
(1/463)
يريد
منعها، والمعنى قسّها واطبع عليها، حتى لا تلين، ولا تنشرح للايمان.
وهذا مطابق لما في التوراة: إن الله سبحانه قال لموسى: اذهب إلى فرعون، فإني سأقسي
قلبه، فلا يؤمن حتى أظهر آياتي وعجائبي بمصر.
وهذا الشد والتقسية، من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه، فإنه جعله عقوبة لهم على
كفرهم وإعراضهم، كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودا، فهو حسن منه، وأقبح شيء
منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه. فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني
عليم، يضع الخير والشر في أليق المواضع لهما والمقضي المقدر يكون من العبد ظلما
وجورا وسفها، وهو فعل جاهل ظالم سفيه.
(1/464)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
سورة
حم السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة فصلت (41) : آية 16]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ (16)
لا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت
أياما نحسات عليهم، لأن النحس أصابهم فيها، وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين،
فهي نحس على المكذبين، سعد للمؤمنين.
وهذا كيوم القيامة، فإنه عسير على الكافرين، يوم نحس لهم، يسير على المؤمنين، يوم
سعد لهم.
قال مجاهد: أيام نحسات مشائيم، وقال الضحاك: معناه شديد، أي شديد البرد، حتى كان
البرد هذابا لهم.
وقال أبو على: وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس: نحسات متتابعات. وكذلك قوله: 54: 19 إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ.
(1/465)
وكان
اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم فيه، أي لا يقلع فيه، أي لا يقلع عنهم، كما
تقلع مصائب الدنيا التي تأتي وتذهب، بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل.
و «مستمر» صفة للنحس، لا لليوم، ومن ظن أنه صفة لليوم، وأنه كان يوم أربعاء آخر
شهر، وأن هذا اليوم نحس أبدا. فقد غلط وأخطأ فهم القرآن، فإن اليوم المذكور بحسب
ما يقع فيه، فكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم، وكم له فيه من بلايا ونقم
على أعدائه، كما يقع ذلك في غيره من الأيام، فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود
الأعمال، وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال: إنما هو بمخالفتها لما جاءت به
الرسل.
واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة، كما كان يوم بدر يوم سعد
للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين.
وقال تعالى: 41: 33 وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وقال تعالى: 82: 108 قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ،
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وسواء كان المعنى: أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على
بصيرة، أو كان الوقف عند قوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ثم يبتدئ: عَلى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فالقولان متلازمان. فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله
الدعوة إلى الله. فمن دعا إلى الله تعالى. فهو على سبيل رسوله صلّى الله عليه
وسلّم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو
على بصيرة، ولا هو من أتباعه. فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم،
وهم خلفاء الرسل في أممهم. والناس تبع لهم. والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما
أنزل إليه من ربه وضمن له حفظه وعضمته من الناس.
وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه،
وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن
بلغ عنه ولو حديثا.
(1/466)
وتبليغ
سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو. لأن تبليغ السهام يفعله كثير
من الناس. وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم.
جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
وهم كما قال عمر بن الخطاب في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع
له، إذ قال:
«الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل
العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بكتاب الله أهل
العمى، كم من قتيل لا بليس قد أحيوه. وضال قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون
هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم. يغلبونهم في
سالف الدهر، وإلى يومنا هذا. فما نسيهم ربك. وما كان ربك نسيا، جعل قصصهم هدى،
وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصر عنهم، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة»
.
وقال عبد الله بن مسعود «إن لله عند كل بدعة كيد بها للإسلام وليا من أوليائه يذب
عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله» .
ويكفي في هذا
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي ولمعاذ أيضا «لأن يهدي بك الله رجلا واحدا
خير لك من حمر النعم»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «من أحيي شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين.
وضم بين إصبعيه»
وقوله «من دعا إلى الهدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة» .
فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم. والحظ الجسيم بشيء من علمه. وإنما ذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
(1/467)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
سورة
الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ
الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
معناها: أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة، قال الكلبي:
يكثرها لكم ويكثر نسلكم في هذا التزويج، ولولا هذا التزويج لم يكثر النسل.
والمعنى: يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر: من جعله لكم وللأنعام أزواجا، فإن سبب
خلقتنا وخلق الحيوان بالأزواج.
والضمير في قوله «فيه» يرجع إلى الجعل.
ومعنى «الذرء» الخلق، وهو هاهنا الخلق الكثير، فهو خلق وتكثير.
فقيل «في» بمعنى الباء، أي يكثركم بذلك. وهذا قول الكوفيين.
والصحيح: أنها على بابها، والفعل متضمن معنى ينشئكم، وهو يتعدى بفي كما قال تعالى:
56: 61 وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
.
(1/468)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
[سورة
الشورى (42) : آية 49]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49)
قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام، اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدره
بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته:
أن يتسخط ما وهبه.
وبدأ سبحانه بذكر الإناث. فقيل: خيرا لهن لأجل استقبال الوالدين لمكانهما.
وقيل- وهو أحسن- إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء، لا لما يشاء
الأبوان. فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما
يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان.
وعندي وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات، حتى كأن
الغرض بيان أن هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.
وتأمل كيف نكّر سبحانه الإناث، وعرف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص
التأخير للذكور بالتعريف. فإن التعريف تنزيه. كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان
الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.
[سورة الشورى (42) : آية 50]
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير.
والله أعلم بما أراد من ذلك.
والمقصود: أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله سبحانه في قوله:
16: 58 وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ: أَيُمْسِكُهُ عَلى
هُونٍ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي
(1/469)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
التُّرابِ؟
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ
وقال تعالى: 43: 17 وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ.
ومن هاهنا عبّر بعض المعبرين لرجل قال له: رأيت كأن وجهي أسود.
فقال له: ألك امرأة حامل؟ قال: نعم. قال تلد لك أنثى؟
[سورة الشورى (42) : آية 52]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ
مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
قد قيل: إن الضمير في «جعلناه» عائدا إلى الأمر. وقيل: إلى الكتاب. وقيل: إلى
الإيمان.
والصواب: أنه عائد إلى «الروح» أي جعلنا الذي أوحيناه إليك نورا، فسماه روحا لما
يحصل به من الحياة الطيبة، والعلم والقوة. وجعله نورا لما يحصل به من الإشراق
والإضاءة، وهما متلازمان. فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الإضاءة
والاستنارة، وحيث وجدت الاستنارة والإضاءة وجدت الحياة.
فمن لم يقبل قلبه هذا الروح فهو ميت مظلم، كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو
هالك مضمحل.
فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة، وبالنار
من الإشراق والنور، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة.
(1/470)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
سورة
الدخان
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الدخان (44) : آية 51]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51)
المقام: موضع الإقامة. و «الأمين» الآمن من كل سوء وآفة ومكروه. وهو الذي قد جمع
صفات الأمن كلها. فهو آمن من الزوال والخراب، وأنواع النقص. وأهله آمنون فيه من
الخروج والنقص والنكد، والبلد الأمين الذي قد أمن أهله فيه مما يخاف منه سواهم.
وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله: 44: 51 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ
أَمِينٍ وفي قوله تعالى: 44: 55 يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ فجمع
لهم بين أمن المكان. وأمن الطعام. فلا يخافون انقطاع الفاكهة، ولا سوء عاقبتها
ومضرتها وأمن الخروج منها. فلا يخافون ذلك، وأمن الموت، فلا يخافون فيها موتا.
44: 52- 56 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ. كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ
بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيها
(1/471)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
بِكُلِّ
فاكِهَةٍ آمِنِينَ. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى
وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ
. جمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه، واشتماله على الثمار
والأنهار، وحسن اللباس، وكمال العشرة بمقابلة بعضهم بعضا، وتمام اللذة بالحور
العين، ودعائهم لجميع أنواع الفاكهة، مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها،
وختام ذلك: أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا.
[سورة الدخان (44) : آية 54]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
«والحور» جمع حوراء. وهي المرأة الشابة الحسناء، الجميلة، البيضاء شديدة سواد العين.
وقال زيد بن أسلم: الحوراء التي يحار فيها الطرف. و «عين» حسان الأعين. وقال
مجاهد: الحوراء التي يحار فيها الطرف، من رقة الجلد، وصفاء اللون. وقال الحسن:
الحوراء شديدة بياض العين، شديدة سواد العين.
واختلف في اشتقاق هذه اللفظة. فقال ابن عباس: الحور في كلام العرب: البيض. وكذلك
قال قتادة: والحور البيض. وقال مقاتل: الحور البيض الوجوه وقال مجاهد: الحور
العين: التي يحار فيهن الطرف، باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في
كبد إحداهن، كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون، وهذا من الاتفاق. وليست اللفظة مشتقة
من الحيرة. وأصل الحور: البياض، والتحوير التبييض. والصحيح:
أن الحور مأخوذ من الحور في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها. فهو يتضمن
الأمرين. وفي الصحاح للجوهري «الحور» شدة بياض العين في شدة سوادها، وامرأة حوراء
بينة الحور. وقال أبو عمرو:
الحور: أن تسود العين كلها، مثل أعين الظباء والبقر. وليس في بني آدم حور وإنما
قيل للنساء: حور العين. لأنهن شبهن بالظباء والبقر. وقال الأصمعي: ما أدري ما
الحور في العين؟
قلت: خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة، ورد الحور
(1/472)
إلى
السواد، والناس غيره إنما ردوه إلى البياض، وإلى بياض في سواد.
والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل واحد
منهما الحسن من الآخر. ويقال عين حوراء، إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها. ولا
تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد.
«والعين» جمع عيناء. وهي العظيمة العين من النساء، ورجل أعين:
إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء. والجمع عين. والصحيح: أن العين هن اللاتي جمعت
أعينهن صفات الحسن والملاحة. قال مقاتل: العين حسان الأعين. ومن محاسن المرأة:
اتساع عينها في طول. وضيق العين في المرأة من العيوب.
44: 54 وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ قال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجا، كما يزوج
النعل بالنعل. جعلناهم اثنين اثنين. وقال يونس: قرناهم بهن، وليس من عقد التزويج.
قال: والعرب لا تقول: تزوجت بها، وإنما تقول: تزوجتها. قال ابن نصر: هذا والتنزيل
يدل على ما قاله يونس.
وذلك قوله تعالى: 33: 37 فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ولو
كان على تزوجت بها لقال: زوجناك بها. وقال ابن سلام: تميم تقول: تزوجت امرأة.
وتزوجت بها. وحكاه الكسائي أيضا. قال الأزهري: تقول العرب:
زوجته امرأة، وتزوجت امرأة وليس من كلامهم: تزوجت بامرأة.
قوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم، وقال الفراء: هي لغة في أزد
شنوءة. قال الواحدي: وقول أبي عبيدة في هذا أحسن، لأنه جعله من التزويج الذي هو
بمعنى جعل الشيء زوجا. لا بمعنى عقد النكاح. ومن هذا يجوز أن يقال: كان فردا
فزوجته بآخر، كما يقال: شققته بآخر. وإنما تمنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى
عقد التزويج.
(1/473)
قلت: ولا يمتنع أن يراد الأمران معا. فلفظ التزويج يدل على النكاح. كما قال مجاهد: أنكحناهم الحور. ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم. وهذا أبلغ من حذفها والله أعلم.
(1/474)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
سورة
الجاثية
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الجاثية (45) : آية 23]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
الغشاوة: هي الغطاء. وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب. فإن ما في القلب من
الخير والشر يظهر على العين، فالعين مرآة القلب، تظهر ما فيه. وأنت إذا بغضت رجلا
بغضا شديدا أبغضت كلامه ومجالسته، فتجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته. فذلك
أثر البغض والإعراض عنه.
وغلطت الغشاوة على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول صلّى الله عليه
وسلّم، وعما جاء به من الهدى ومن الحق. وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما
تحتها كالغمامة، ولما غشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك الغشي غشاوة على أعينهم،
فلا تبصر مواقع الهدى.
(1/475)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
سورة
الأحقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأحقاف (46) : آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (15)
قال الزجاج من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين. وقال ابن عباس في رواية عطاء:
سن الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وروي عنه أيضا ثلاثون. وقال الضحاك: عشرون سنة. وقال
مقاتل ثماني عشرة.
وقد أحكم الأزهري تفسير اللفظة، فقال بلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ
الرجال إلى أربعين سنة، قال: فبلوغ الأشد مرتبة بين البلوغ وبين الأربعين.
ومعنى اللفظة من الشدة، وهي القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي. فالأشد القوي.
قال الفراء واحدها شد في القياس، ولم أسمع لها بواحد.
وقال أبو الهيثم: واحدها شدة كالنعمة وأنعم.
وقال بعض أهل اللغة: واحدها شد- بضم الشين-.
وقال آخرون منهم هو اسم مفرد وليس لجمع حكاه ابن الأنباري.
(1/476)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
سورة
محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة محمد (47) : آية 24]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)
قال ابن عباس: يريد على قلوب هؤلاء أقفال.
وقال مقاتل: يعني الطبع على القلب. وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج، الذي قد ضرب
عليه قفل. فإنه إن ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه.
وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان ولا القرآن.
وتأمل تنكير القلوب وتعريف الأقفال بالإضافة إلى ضمير القلوب. فإن تنكير القلوب
يتضمن إرادة قلوب هؤلاء من هم بهذه الصفة. ولو قال: أم على القلوب أقفالها. لم
تدخل قلوب غيرهم في الجملة.
وفي قوله «أقفالها» بالتعريف نوع تأكيد. فإنه لو قال: أقفال. لذهب الوهم إلى ما
يعرف بهذا الاسم. فلما أضافها إلى ضمير القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب
بمنزلة العقل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها، التي لا تكون لغيرها والله
أعلم.
(1/477)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
سورة
الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، لما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى
بني المصطلق- بعد الوقعة- مصدّقا. وكان بينه وبينهم عداوة في الجهلية. فلما سمع به
القوم تلقوه، تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فحدثه الشيطان: أنهم يريدون قتله، فهابهم، ورجع من الطريق إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه، ونؤدي إليه ما
قبلنا من حق الله، فبدا لنا، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب
غضبته علينا. وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتهمهم رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم، وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال
له «أنظر، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ
(1/478)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
منهم
زكاة أموالهم. وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار» ففعل ذلك خالد، ووافاهم،
فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلا الطاعة
والخير. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر. فنزلت 49: 6 يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر، إذا كان له شأن. «والتبيّن» طلب بيان حقيقته،
والإحاطة بها علما.
وهاهنا فائدة لطيفة. وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه وشهادته جملة.
وإنما أمر بالتبين. فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق،
ولو أخبر به من أخبر.
فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته. وكثير من الفاسقين يصدقون في
أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري، وفسقه من
جهات أخر. فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت
أكثر الحقوق، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة، ولا سيما من فسقه من جهة الكذب: فإن
كثر منه وتكرر، بحيث يغلب كذبه على صدقه. فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته.
وإن ندر منه مرة أو مرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء، وهما روايتان
عن الإمام أحمد رحمهم الله.
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
(1/479)
وهذا
من أحسن القياس التمثيلي. فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه.
ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة
روحه عنه بالموت.
ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن مجلس ذمه كان بمنزلة الميت
الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر، فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها
من الذم والعيب والطعن: كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه، والأخوة تقتضي حفظه وصيانته
والذب عنه.
ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه، متفكها بغيبته وذمه، متحليا بذلك شبّه بآكل
لحم أخيه بعد تقطيعه.
ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به: شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك
قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل، وحسن موقعه، ومطابقة المعقول فيه للمحسوس وتأمل
إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم
في أولها: أن يحب أحدهم ذلك، فكما أن هذا مكروه في طباعهم، فكيف يحبون ما هو مثله
ونظيره؟.
فأحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه. وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم،
وهم أشد شيء نفرة عنه.
فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة: أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه.
وبالله التوفيق.
(1/480)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة
الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قالوا: الحس شاهد: أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي
فيه من أبيه. فثبت أن تكوينه من مني الأم ودم الطمث، ومني الأب عاقد له كالأنفحة.
ونازعهم الجمهور، وقالوا: إنه يتكون من مني الرجل والأنثى، ثم لهم قولان.
أحدهما: أن يكون من مني الذكر أعضاؤه، وأجزاؤه، ومن مني الأنثى صورته.
والثاني: أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين، وأنهما امتزجا
واختلطا وصارا ماء واحدا. وهذا هو الصواب، لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى
الأب، وتارة إلى الأم. والله أعلم.
وقد دل على هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى والأصل: هو الذكر. فمنه البذر، ومنه السقي. والأنثى وعاء ومستودع لولده.
تربيه في بطنها، كما تربيه في حجرها. ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا. وأما
تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكوّن وصار ولدا في بطنها، وغذته بلبانها
مع الجزء الذي فيه منها. وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته.
وكان أشرفهما دينا أولى به، تغليبا لدين الله وشرعه.
(1/481)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
سورة
ق
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة ق (50) : آية 37]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ (37)
إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فأجمع قلبك عند تلاوته. وألق سمعك.
واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه. فإنه خطاب منه سبحانه لك
على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم. قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ
كانَ لَهُ قَلْبٌ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر،
وانتفاء المانع الذي يمنع منه: تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه. وأدله
على المراد.
فقوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى» إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا.
وهذا هو المؤثر وقوله: «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» فهذا هو المحل القابل. والمراد
به:
القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: 36: 69، 70 إِنْ هُوَ
(1/483)
إِلَّا
ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا
أي حي القلب.
وقوله: «أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له.
وهذا هو شرط التأثير بالكلام.
وقوله: «وَهُوَ شَهِيدٌ» أي شاهد القلب حاضر، غير غائب. قال ابن قتيبة: استمع
لكتاب الله وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه.
وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثر. وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له،
والنظر فيه وتأمله.
فإذا حصل المؤثر، وهو القرآن، والمحل القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط، وهو
الإصغاء، وانتفي المانع، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى
شيء آخر: حصل الأثر، وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر.
فإن قيل: إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه. فما وجه دخول أداة «أو» في قوله
«أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ» والموضع موضع واو الجمع، لا موضع «أو» التي هي لأحد
الشيئين؟
قيل: هذا سؤال جيد. والجواب عنه أن يقال:
خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو. فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه،
تام الفطرة. فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه على صحة القرآن، وأنه الحق، وشهد
قلبه بما أخبر به القرآن. فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة. وهذا
وصف الذين قيل فيهم:
34: 6 وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وقال في حقهم: 24: 35 اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، يَكادُ زَيْتُها
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، نُورٌ عَلى نُورٍ، يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.
(1/484)
فهذا
نور الفطرة على نور الوحي. وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي.
فصاحب القلب الحي بين قلبه وبين معاني القرآن أتم الاتصال، فيجدها كأنها قد كتبت
فيه. فهو يقرؤها عن ظهر قلب.
ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة فيحتاج إلى شاهد
يميز له بين الحق والباطل. ولم تبلغ حياة قلبه لتأمله والتفكر فيه، وتعقل معانيه،
فيعلم حينئذ أنه الحق.
فالأول: حال من رأى بعينيه ما دعي إليه وأخبر به.
والثاني: حال من علم صدق الخبر وتيقنه. وقال: يكفيني خبره، فهو في مقام الإيمان،
والأول في مقام الإحسان. هذا قد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين
اليقين. وذلك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام.
فعين اليقين نوعان: نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة. فالحاصل في الدنيا نسبته إلى
القلب، كنسبة الشاهد إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة
بالأبصار. وفي الدنيا بالبصائر. فهو عين يقين في المرتبتين.
(1/485)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
سورة
الذاريات
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الذاريات (51) : آية 24]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة.
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. وهذا على أحد القولين:
أنه بإكرام لا إبراهيم لهم. والثاني: أنهم المكرمون عند الله. ولا تنافي بين
القولين: فالآية تدل على معنيين.
[سورة الذاريات (51) : آية 25]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
الثاني: قوله تعالى: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ» فلم يذكر استئذانهم. ففي هذا دليل
على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم. فصار
منزله مضيفة مطروقا لمن ورده، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل إليه
دخوله. وهذا غاية ما يكون من الكرم.
الثالث: قوله «سلام» بالرفع. وهم سلموا عليه بالنصب. والسلام
(1/487)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
بالرفع
أكمل. فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والتجدد، والمنصوب يدل على
الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد. فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم. فإن
قولهم «سلاما» يدل على: سلمنا سلاما وقوله: «سلام» أي سلام عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: «قوم منكرون» فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم
من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال: أنتم مكرمون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف
الكلام.
الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول، وحذف فاعله، فقال:
«منكرون» ولم يقل: إني أكرمكم. وهو أحسن في هذا المقام، وأبعد من التنفير
والمواجهة بالخشونة.
[سورة الذاريات (51) : آية 26]
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
السادس: أنه راغ إلى أهله ليحييهم بنزلهم. والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث يكاد
لا يشعر به. وهذا من كرم رب المنزل المضيّف: أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به
الضيف، فيشق عليه ويستحي. فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه
وهو يقول له، أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف
واحتشامه.
السابع: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة. فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا
للضيفان. ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه، أو يستقرضه.
الثامن: قوله: «فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» يدل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر
لهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه. وهذا أبلغ في إكرام
الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه صلّى الله عليه
وسلّم.
(1/488)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
العاشر:
أنه سمين لا هزيل. فمعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية،
فآثر به ضيفانه.
[سورة الذاريات (51) : آية 27]
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه، ولم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أنه قربه إليهم، ولم يقربهم إليه. وهذا أبلغ في الكرامة. أن تجلس
الضيف ثم تقرب الطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر
ضيفك بأن يتقرب إليه.
الثالث عشر: أنه قال: «ألا تأكلون؟» وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله:
كلوا، أو مدوا أيديكم ونحوها. وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه. ولهذا
يقولون: بسم الله: أو ألا تتصدق؟ أو ألا تجبر؟ ونحو ذلك.
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون
معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا وهؤلاء الضيوف لما
امتنعوا من الأكل قال لهم «ألا تأكلون؟» ولهذا أوجس منهم خيفة، أي أحسها وأضمرها
في نفسه، ولم يبدها لهم. وهو:
الوجه الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم، ولم يظهر لهم
الخوف منهم. فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: «لا تخف» وبشروه بالغلام الحليم.
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي
هي تخلف وتكلف: إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم. وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا.
فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما، وعلى سائر النبيين.
(1/489)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
سورة
الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الطور (52) : آية 21]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ (21)
روي قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا
دونه في العمل لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ 52: 21 وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال: «ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين»
وذكر ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس- قال شريك: أظنه حكاه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل الرجل
الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، أو عملك. فيقول.
يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق بهم، ثم تلا ابن عباس وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ
إلى آخر الآية.
(1/491)
وقد
اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية، هل المراد بها الصغار أو الكبار أو
النوعان؟ على ثلاثة أقوال. واختلافهم مبني على أن قوله:
«بإيمان» حال من الذرية التابعين أو المؤمنين المتبوعين. فقالت طائفة:
المعنى والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمانهم فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا
به ألحقناهم بهم في الدرجات. قالوا: ويدل على هذا قراءة من قرأ وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ فجعل الفعل في الاتباع لهم. قالوا: وقد أطلق الله سبحانه الذرية
على الكبار، كما قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وقال: ذُرِّيَّةَ
مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وقال: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ،
أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟ وهذا قول لكبار العقلاء. قالوا: ويدل
على ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه «إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى
درجته وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه» فهذا يدل على أنهم دخوا بأعمالهم،
ولكن لم يكن لهم أعمال يبلغوا بها درجة آبائهم. فبلّغهم إياها، وإن تقاصر عملهم عنها.
قالوا: وأيضا فالإيمان هو القول والعمل والنية. وهذا إنما يمكن من الكبار، وعلى
هذا فيكون المعنى: أن الله سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل
إيمانه، إذ هذا حقيقة التبعية، وإن كانوا دونه في الإيمان، رفعهم الله إلى درجته
إقرارا لعينه، وتكميلا لنعيمه. وهذا كما أن زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم معه
في الدرجة تبعا، وإن لم يبلغوا تلك الدرجة بأعمالهن.
وقالت طائفة أخرى: الذرية هاهنا الصغار. والمعنى: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم
في إيمان الآباء. والذرية تتبع الآباء. وإن كانوا صغارا في الإيمان وأحكامه من
الميراث، والدية والصلاة عليهم، والدفن في قبور المسلمين، وغير ذلك، إلّا فيما كان
من أحكام البالغين.
ويكون قوله: «بإيمان» على هذا في موضع نصب على الحال من المفعولين، أي وأتبعناهم
ذرياتهم بإيمان الآباء.
(1/492)
قالوا:
يدل على صحة هذا القول: أن البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، فإنهم
مستقلون بأنفسهم، ليسوا تابعين للآباء في شيء من أحكام الدنيا، ولا أحكام الثواب
والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم. ولو كان المراد بالذرية البالغين لكان أولاد الصحابة
البالغون كلهم في درجة آبائهم، ولكان أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة
آبائهم، وهلم جرا إلى يوم القيامة. فيكون الآخرون في درجة السابقين.
قالوا: ويدل عليه أيضا: أنه سبحانه جعلهم معهم تبعا في الدرجة.
كما جعلهم تبعا معهم في الإيمان. ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعا، بل إيمان
استقلال.
قالوا: ويدل عليه أن الله سبحانه جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال. في حق
المستقلين. وأما الأتباع فإن الله سبحانه يرفعهم إلى درجة أهليهم. وإن لم يكن لهم
أعمال. كما تقدم.
وأيضا فالحور العين والخدم في درجة أهليهم، وإن لم يكن لهم عمل، بخلاف المكلفين
البالغين. فإنهم يرفعون إلى حيث بلغت بهم أعمالهم.
وقالت فرقة، منهم الواحدي: الوجه أن تحمل الذرية على الصغار والكبار. لأن الكبير
يتبع الأب بإيمان نفسه، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب.
قالوا: والذرية تقع على الصغير والكبير، والواحد والكثير، والإبن والأب، كما قال
تعالى: 36: 41 وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ أي آباءهم. والإيمان يقع على الإيمان التبعي وعلى الاختياري الكسبي.
فمن وقوعه على التبعي قوله: 4: 92 فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فلو أعتق صغيرا
جاز.
(1/493)
قالوا:
وأقوال السلف تدل على هذا. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إن الله يرفع ذرية
المؤمنين في درجتهم. وإن كانوا دونهم في العمل، لتقرّ بهم عيونهم. ثم قرأ هذه
الآية. وقال ابن مسعود في هذه الآية: الرجل يكون له القدم، ويكون له الذرية، فيدخل
الجنة، فيرفعون إليه، لتقرّ بهم عينه، وإن لم يبلغوا ذلك. وقال أبو مجلز: يجمعهم
الله له، كما كان يحب أن يجتمعوا في الدنيا. وقال الشعبي أدخل الله الذرية بعمل
الآباء الجنة.
وقال الكلبي عن ابن عباس: إن كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء
إلى الآباء. وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء.
وقال إبراهيم: أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئا.
قال: ويدل على صحة هذا القول: أن القراءتين كالآيتين، فمن قرأ وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ فهذا في حق البالغين الذين تصح نسبة الفعل إليهم، كما قال تعالى:
9: 100 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ومن قرأ 52: 21 وأتبعناهم ذرياتهم فهذا في
حق الصغار الذين أتبعهم الله إياهم في الإيمان حكما. فدلت القراءتان على النوعين.
قلت: واختصاص الذرية هاهنا بالصغار أظهر، لئلا يلزم استواء المتأخرين والسابقين في
الدرجات. ولا يلزم مثل هذا في الصغار، فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته.
والله أعلم.
(1/494)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
سورة
النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النجم (53) : آية 8]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8)
كأن الشيخ «1» فهم من الآية: أن الذي دنا فتدلى، فكان من محمد صلّى الله عليه
وسلّم قاب قوسين أو أدني- هو الله عز وجل. وهذا، وإن كان قد قاله جماعة من
المفسرين- فالصحيح: أن ذلك هو جبريل عليه السلام. فهو الموصوف بما ذكر من أول
السورة إلى قوله: 53: 13، 14 وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى هكذا فسره النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح.
قالت عائشة رضي الله عنها: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية؟
فقال: ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين» .
ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.
أحدها: أنه قال: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» وهذا جبريل الذي وصفه بالقوة في سورة
التكوير فقال: 81: 19، 20 إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ.
__________
(1) هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.
(1/495)
الثاني:
أنه قال: «ذو مرة» أي حسن الخلق، وهو الكريم في سورة التكوير.
الثالث: أنه قال: «فاستوى وهو بالأفق الأعلى» وهو ناحية السماء العليا. وهذا
استواء جبريل بالأفق. وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.
الرابع: أنه قال: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى»
فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض، حيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما
الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوق السموات.
فهناك دنا الجبار جل جلاله منه وتدلى. فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي
في الآية. وإن اتفقا في اللفظ.
الخامس: أنه قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى
والمرئي عند السدرة هو جبرئيل قطعا. وبهذا
فسره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لعائشة «ذاك جبريل» .
السادس: أن مفسر الضمير في قوله: «ولقد رآه» وقوله: «ثم دنا فتدلى» وقوله:
«فاستوى» وقوله: «وهو بالأفق الأعلى» واحدة. فلا يجوز أن يخالف بين المفسر
والمفسّر من غير دليل.
السابع: أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين:
الملكي، والبشري. ونزّه البشري عن الضلال والغواية، والملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا
ضعيفا، بل هو قوي كريم حسن الخلق. وهذا نظير المذكور في سورة التكوير سواء.
الثامن: أنه أخبر هناك: انه رآه بالأفق المبين، وهاهنا: أنه رآه بالأفق الأعلى.
وهو واحد وصف بصفتين، فهو مبين وأعلى. فإن الشيء كلما علا بان وظهر.
(1/496)
التاسع:
أنه قال: «ذو مرّة» والمرة: الخلق الحسن المحكم.
فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ساق الخبر كله عنه نسقا
واحدا العاشر: أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه مرتين: مرة بالأفق، ومرة عند السدرة.
ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر
وقد سأله: هل رأيت ربك- قال: «نور، أنّى أراه؟»
فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين، ثم
يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنى أراه»
وهذا أبلغ من قوله: «لم أره» لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط. وهذا
يتضمن النفي وطرقا من الإنكار على السائل، كما إذا قال لرجل: هل كان كيت وكيت؟
فيقول: كيف يكون ذلك؟
الحادي عشر: أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله: «ثم دنا
فتدلى» والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له، وإنما هو لعبده.
الثاني عشر: أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر، ويترك عوده إلى المذكور، مع كونه
أولى به؟
الثالث عشر: أنه قد تقدم ذكر «صاحبكم» وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. ثم ذكر
بعده شديد القوى. ذا المرة. وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. والخبر كله عن هذين
المفسّرين، وهما الرسول الملكي، والرسول البشري.
الرابع عشر: أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنا فتدلّى: كان بالأفق الأعلى وهو أفق
السماء، بل هو تحتها، وقد دنا من الأرض، فتدلى من رسول رب العالمين صلّى الله عليه
وسلّم، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك: كان من فوق العرش، لا إلى
الأرض.
(1/497)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
الخامس
عشر: أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه، ولا أخبرهم بها لتقع
مماراتهم له عليها. وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله
إياه. ولو أخبرهم برؤية الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليهم أعظم من مماراتهم على
رؤية المخلوقات.
السادس عشر: أنه سبحانه قرر صحة ما رآه. وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله:
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى
والمماراة على ذلك منهم: لكان تقرير تلك الرؤية أولى، والمقام إليها أحوج. والله
أعلم.
[سورة النجم (53) : آية 12]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12)
والمأوى مفعل عن أوى يأوي، إذا انضم إلى المكان وصار إليه، واستقر به وقال عطاء عن
ابن عباس: هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة.
وقال مقاتل والكلبي: هي الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء.
وقال كعب: جنة المأوى جنة فيها طير خضر، ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي
الله عنها وزرّ بن حبيش: هي جنة من الجنان.
والصحيح: أنه اسم من أسماء الجنة، كما قال تعالى:
79: 40، 41 وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى وقال في النار: 79: 39 فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوى وقال:
وَمَأْواكُمُ النَّارُ.
[سورة النجم (53) : آية 32]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ
رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
(1/498)
اللمم:
طرف من الجنون. ورجل ملموم. أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا من الجن لمّة. وهو
المس، والشيء القليل. قاله الجوهري.
قلت: وأصل اللفظة من المقاربة. ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ.
وهي الصغائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة
رضي عنه «إن العين تزني، وزناها النظر، واليد تزني، وزناها البطش والرجل تزني، وزناها
المشي، والفم يزني وزناه القبل» .
ومنه. ألمّ بكذا. أي قاربه ودنا منه. وغلام ملمّ، أي قارب البلوغ
وفي الحديث «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم»
أي يقرب من ذلك قول الله تعالى:
53: 59- 61 أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ.
قال عكرمة عن ابن عباس: السمود: الغناء في لغة حمير، يقال:
اسمدي لنا، أي غنّي لنا. وقال أبو زبيد:
وكأن العزيف فيها غناء ... للنّدامى من شارب مسمود
قال أبو عبيدة: المسمود: الذي غنّي له. وقال عكرمة: كانوا إذا سمعوا القرآن
تغنّوا. فنزلت هذه الآية.
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود: هو الغفلة والسهو عن الشيء.
قال المبرد: هو الاشتغال عن الشيء بهمّ أو فرح يتشاغل به. وأنشد:
(1/499)
رمي
الحدنان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري: السامد اللاهي، والسامد: الساهي. والسامد:
المتكبر والسامد: القائم.
وقال ابن عباس في الآية: وأنتم مستكبرون.
وقال الضحاك أشرن بطرون.
وقال مجاهد: غضاب مبرطمون. وقال غيره: لاهون غافلون معرضون. فالغناء يجمع هذا كله
ويوجبه.
(1/500)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
سورة
الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الرحمن (55) : آية 26]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26)
لم يقل «فيها» لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين.
[سورة الرحمن (55) : آية 54]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دانٍ (54)
وقال تعالى: 56: 34 وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ.
فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق. وهذا يدل على أمرين.
أحدهما: أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها. لأن بطائنها للأرض، وظهائرها للجمال
والزينة والمباشرة.
قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة ابن مريم عن ابن مسعود في قوله:
بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ قال: هذه البطائن قد أخبرتم بها.
فكيف بالظهائر؟
(1/501)
الثاني:
يدل على أنها فرش عالية، لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة وقد روي في سمكها
وارتفاعها آثار- إن كانت محفوظة- فالمراد:
ارتفاع محلها، كما
رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله:
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما
خمسمائة عام»
قال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد.
قيل: ومعناه: أن الارتفاع المذكور للدرجات والفرش عليها.
قلت: رشدين بن سعد عنده مناكير. قال الدارقطني: ليس بالقوى.
وقال أحمد: لا يبالي عمن يروي. وليس به بأس في الرقاق. وقال: أرجو أنه صالح
الحديث. وقال يحي بن معين: ليس بشيء. وقال أبو زرعة:
ضعيف. وقال الجوزجاني: عنده مناكير. لا ريب أنه كان سيء الحفظ.
فلا يعتمد على ما ينفرد به.
وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث عن درّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ
قال: «ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض» .
وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ. فالله أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داوود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن
علي بن زيد عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير عن كعب في قوله عز وجل: وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ قال «مسيرة أربعين سنة»
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيم بن نائلة حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا
إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: «سئل رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم عن الفرش المرفوعة؟ فقال: لو طرح فراش من أعلاها
(1/502)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
لهوى
إلى قرارها مائة خريف» .
وفي رفع هذا الحديث نظر. فقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا اسحق بن إسماعيل حدثنا
معاذ بن هشام قال: وجدت في كتاب أبي عن القاسم عن أبي أمامة في قوله عز وجل:
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال: «لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها بعد أربعين خريفا» .
[سورة الرحمن (55) : آية 56]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ
(56)
وصفهن سبحانه بقصر في ثلاثة مواضع. أحدها: هذا.
والثاني: قوله تعالى في الصافات: 37: 48 وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ.
والثالث: قوله تعالى في ص: 38: 52 وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ.
وأجمع المفسرون كلهم على أن المعنى: أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يطمحن إلى
غيرهم.
وقيل: قصرن طرف أزواجهن عليهن. فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن.
وهذا صحيح من جهة المعنى. وأما من جهة اللفظ: فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان
الوجوه. وأصله قاصر طرفهن، أي ليس بطامح متعد.
قال آدم: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:
قاصِراتُ الطَّرْفِ قال: يقول قاصرات الطرف على أزواجهن، فلا يبغين
(1/503)
غير
أزواجهن. وقال آدم: حدثنا المبارك بن فضالة «1» عن الحسن قال:
قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم. والله ما هن متبرجات، ولا متطلعات.
وقال منصور عن مجاهد: قصرن أبصارهن وقلوبهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم.
وفي تفسير سعيد عن قتادة قال: قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم.
وأما «الأتراب» فجمع ترب، وهو لدة الإنسان.
قال أبو عبيدة، وأبو إسحاق: أقران، أسنانهن واحدة. قال ابن عباس. وسائر المفسرين:
مستويات على سن واحدة، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة. وقال مجاهد «أتراب»
أمثال. وقال أبو إسحاق: هن في غاية الشباب والحسن، وسمي ندّ الإنسان وقرنه: تربة.
لأنه مسّ تراب الأرض معه في وقت واحد.
والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن: أنهن ليس فيهن عجائز، قد فات حسنهن، ولا
ولائد لا يطقن الوطء، بخلاف الذكور، فإن فيهم الولدان، وهم الخدم.
وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله: «فيهن» .
فقالت طائفة: مفسره الجنتان، وما حوتاه من القصور والغرف والخيام.
__________
(1) هو مبارك بن فضالة البصري مولى قريش. قال ابن ناصر الدين المبارك بن فضالة بن
أبي أمية كان كثير التدليس فتكلم فيه وذكر ابو زرعة وغيره أن المبارك إذا قال
حدثنا فهو ثقة مقبول. وقال أبو داود: مدلس فإذا قال حدثنا فهو ثبت. وقال مبارك:
جالست الحسن ثلاث عشرة سنة وقال أحمد ما رواه عن الحسن يحتج به، وخرج له الترمذي
وأبو داود والعقيلي. توفي سنة أربع وستين ومائة. (انظر شذرات الذهب) .
(1/504)
وقالت
طائفة: مفسره الفرش المذكورة في قوله: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ و «في» هنا بمعنى «على» .
وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال أبو عبيدة:
لم يمسهن، يقال: ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسّه.
وقال يونس: تقول العرب: هذا جمل ما طمثه حبل قط، أي ما مسه.
وقال الفراء: الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية. والطمث هو الدم. وفيه لغات.
طمث: يطمث، ويطمث.
قال الليث: طمثت الجارية، إذا افترعتها، والطامث في لغتهم هي الحائض. وقال أبو
الهيثم: يقال للمرأة طمثت تطمث، إذا أدميت بالافتضاض. وطمثت عليّ- فعلت- تطمث، إذا
حاضت أول ما تحيض، فهي طامث. وقال في قول الفرزدق:
خرجن إليّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسن. قال المفسرون: لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن. هذه ألفاظهم. وهم
مختلفون في هؤلاء. فبعضهم يقول: هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها. وبعضهم يقول:
يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا. كما وصفن. قال الشعبي: نساء من نساء
الدنيا، لم يمسسن منذ أنشئن خلقا. وقال مقاتل: لأنهن خلقن في الجنة. وقال عطاء، عن
ابن عباس: هن الآدميات اللاتي متن أبكارا. وقال الكلبي: لم يجامعهن في هذا الخلق
الذي أنشئن فيه إنس ولا جان.
قلت: ظاهر القرآن. أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وإنما هن من الحور العين.
وأما نساء الدنيا فنساء الإنس قد طمثهن الإنس، ونساء الجن قد طمثهن الجن. والآية
تدل على ذلك.
(1/505)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
قال
أبو إسحاق: وفي هذه الآية دليل على أن الجني يغشى كما أن الإنسي يغشى.
ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة: أنه سبحانه جعلهن مما أعده الله في
الجنة لأهلها، من الفواكه والثمار والأنهار والملابس وغيرها.
ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ
ثم قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال الامام أحمد:
والحور العين لا يمتن عند النفخ في الصور، لأنهن خلقهن للبقاء.
وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور: أن مؤمني الجن في الجنة، كما أن كافرهم في
النار. وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال «باب ثواب الجن وعقابهم» ونص عليه غير
واحد من السلف. قال ضمرة بن حبيب- وقد سئل: هل للجن ثواب؟ فقال: نعم. وقرأ هذه
الآية. ثم قال: الإنسيات للانس، والجنيات للجن. وقال مجاهد في هذه الآية: إذا جامع
الرجل ولم يسمّ انطوى الجان على إحليله فجامع معه.
والضمير في قوله: «قبلهم» للمعنيين بقوله «متكئين» وهم أزواج هؤلاء النسوة.
[سورة الرحمن (55) : آية 58]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)
وقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، قال الحسن وعامة المفسرين: أراد
صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان،
ويدل عليه ما قاله عبد الله «إن المرأة من نساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة
من حرير، فيرى بياض ساقيها من ورائهن، ذلك بأن الله يقول: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ
وَالْمَرْجانُ ألا وإن الياقوت حجر، لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته لنظرت إلى السلك
من وراء الحجر» .
(1/506)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
[سورة
الرحمن (55) : آية 70]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70)
فالخيرات: جمع خيرة، وهي مخففة، من خيّرة كسيّدة ولينة، و «حسان» جمع حسنة. فهن
خيرات الصفات والأخلاق والشيم، حسان الوجوه. قال وكيع: حدثنا سفيان عن جابر عن
القاسم عن أبي برزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال: «لكل مسلم خيّرة، ولكل
خيّرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية
وكرامة، لم تكن قبل ذلك. لا ترحات ولا ذفرات، ولا بخرات ولا طماحات» .
[سورة الرحمن (55) : آية 72]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72)
المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: خدرن في الخيام.
وكذلك قال مقاتل في الخيام. وفيه معنى آخر. هو أن يكون المراد أنهن محبوسات على
أزواجهن لا يرين غيرهم، وهم في الخيام. وهذا معنى قول من قال: قصرن على أزواجهن،
فلا يرين غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، وذكره الفراء.
قلت: وهذا معنى «قاصرات الطرف» لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات، وقوله:
«في الخيام» على هذا القول: صفة لحور.
أي هن في الخيام. وليس معمول لمقصورات، وكأن أرباب هذا القول فسروه بأن يكن
محبوسات في الخيام لا يفارقنها إلى الغرف والبساتين.
وأصحاب القول الأول: يجيبون عن هذا: بأن الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات
المصونات. وذلك أجمل في الوصف. ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف
والبساتين، كما أن نساء الملوك
(1/507)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
ومن
دونهن من النساء المخدرات المصونات يمنعن أن يخرجن في سفر وغيره إلى متنزه وبستان
ونحوه فوصفهن اللازم لهن: هو القصر في البيت، وإن كان يعرض لهن مع الخدم الخروج
إلى البساتين ونحوها.
وأما مجاهد فقال: مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ.
وقد تقدم وصف النسوة الأول. بكونهن قاصرات الطرف، وهؤلاء بكونهن مقصورات. والوصفان
لكلا النوعين، فإنهما صفتا كمال. فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج،
وهذه الصفة قصرهن عن التبرج والبروز والظهور للرجال.
[سورة الرحمن (55) : آية 76]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
وقال تعالى:
88: 13- 15 فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ،
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ.
وذكر هشام عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: الرفرف رياض الجنة. والعبقري: عتاق
الزرابي. وذكر إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء عن الحسن. في قوله تعالى:
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قال: هي البسط. قال: وأهل
المدينة يقولون: هي البسط.
وأما النمارق. فقال الواحدي: هي الوسائد في قول الجميع، واحدتها: نمرقة. بضم
النون. وحكى الفراء نمرقة بكسرها، وأنشد أبو عبيدة:
إذا ما بساط اللهو مدّ وقربت ... للذاته أنماطه ونمارقه
وقال الكلبي: وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض. وقال مقاتل: هي الوسائد مصفوفة على
الطنافس. والزرابي بمعنى البسط، والطنافس.
(1/508)
واحدتها:
زربية. في قول جميع أهل اللغة والتعبير، و «مبثوثة» مبسوطة ومنشورة.
فصل
وأما «الرفرف» فقال الليث: هو ضرب من الثياب خضر تبسط.
الواحد رفرفة. وقال أبو عبيدة: الرفارف: البسط وأنشد لابن مقبل:
وإنا لنزّالون تغشى نعالنا ... سواقط من أصناف ريط ورفرف
وقال أبو إسحاق، قالوا، الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقالوا: الرفرف الوسائد. وقالوا:
الرفرف المحابس. وقالوا: فضول المحابس للفرش.
وقال المبرد: هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره.
قال الواحدي: وكأن الأقرب هذا. لأن العرب تسمى كسر الخباء والخرقة التي تخلط في
أسفل الخباء رفرفا. ومنه
الحديث في وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة»
.
قال ابن الاعرابي: الرفرف هاهنا طرف الفسطاط. فشبه ما فضل من المحابس عما تحته
بطرف الفسطاط، فسمي رفرفا.
قلت: أصل هذه الكلمة من الطرف أو الجانب، فمنه الرفرف في الحائط، ومنه الرفرف، وهو
كسر الخباء، وجوانب الدرع، وما تدلى منها، الواحدة رفرفة. ومنه: رفرف الطير إذا
حرك جناحه حول الشيء، يريد أن يقع عليه. والرفرف: ثياب خضر يتخذ منها المحابس.
الواحدة رفرفة، وكل ما فضل من شيء فثني وعطف: فهو رفرف، وفي حديث ابن مسعود في قول
الله عز وجل: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: «رأى رفرفا أخضر سدّ
الأفق» وهو في الصحيحين.
(1/509)
فصل
وأما «العبقري» فقال أبو عبيدة: كل شيء من البسط عبقري. قال:
ويرون أنها أرض توشّى البسط فيها، وقال الليث: عبقر: موضع بالبادية كثير الجن،
يقال: كأنه جن عبقر.
قال أبو عبيدة، في
حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، حين ذكر عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه»
وإنما أصل هذا، فيما يقال: أنه نسب إلى عبقر، وهي أرض يسكنها الجن، فصار مثلا لكل
منسوب إلى شيء رفيع، وأنشد لزهير:
تخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعملوا
وقال أبو الحسن الواحدي: وهذا القول هو الصحيح في العبقري.
وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن، أو شبهته بهم.
ومنه قول لبيد:
جن الردى رواسيا أقدامها وقال آخر يصف امرأة:
جنية، ولها جن يعلمها ... رمى القلوب بقوس ما لها وتر
وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة، وأنهم يأتون كل أمر عجيب ولما كان «عبقر»
معروفا بسكناهم نسبوا كل شيء يبالغ فيه إليه، يريدون بذلك أنه من عملهم وصنعهم،
هذا هو الأصل، ثم صار العبقري نعتا لكل ما بولغ في صفته.
ويشهد لما ذكرنا: بيت زهير، فإنه نسب الجن إلى عبقر.
ثم رأينا أشياء كثيرة نسبت إلى عبقر غير البسط والثياب، كقوله في صفة عمر «عبقريا»
وروى سلمة عن الفراء قال: العبقري الرشيد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان
والجوهر، فلو كانت «عبقر» مخصوصة
(1/510)
بالوشي،
لما نسب إليها غير الموشّى وإنما نسب إليها البسط الموشاة العجيبة الصنعة، كما
ذكرنا. كما نسب إليها كل شيء ما بولغ في وصفه، قال ابن عباس: وعبقري، يريد البسط
والطنافس، وقال الكلبي: هي الطنافس المجمّلة، وقال قتادة: هي عتاق الزرابي، وقال
مجاهد: الديباج الغليظ.
وعبقري، جمع، واحده عبقرية، ولها وصف بالجمع فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى
الفرش بأنها مرفوعة، والزرابي بأنها مبثوثة، والنمارق بأنها مصفوفة، فرفع الفرش
دال على سمكها ولينها.
وبث الزرابي دال على كثرتها، وأنها في كل موضع، لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره،
ووصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما، ليست مخبأة تصف في وقت دون
وقت.
وللجنة عدة أسماء، باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذات. فهي مترادفة من
هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات. فهي متباينة من هذا الوجه. وهكذا أسماء الرب
سبحانه وتعالى، وأسماء الرب سبحانه وتعالى، وأسماء كتابه. وأسماء رسله. وأسماء
اليوم الآخر. وأسماء النار.
فالاسم الأول: «الجنة» وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من
أنواع النعيم واللذة، والبهجة والسرور، وقرة الأعين.
وأصل اشتقاق هذه اللفظة: من التسر والتغطية. ومنه الجنين، لاستتاره في البطن،
والجان لاستتاره عن العيون، والمجنّ لستره ووقايته الوجه. والمجنون لاستتار عقله
وتواريه عنه. والجان، وهي الحية الصغيرة الرقيقة.
ومنه قول الشاعر:
فدقّت وجلت واسبكرّت وأكملت ... فلو جنّ إنسان من الحسن جنت
أي لو غطي وستر عن العيون لفعل بها ذلك. ومنه سمي البستان جنة.
(1/511)
لأنه
يستر داخله بالأشجار ويغطيه. ولا يستحق هذا الاسم إلا الموضع الكثير الأشجار
المختلفة الأنواع.
والجنة- بالضم- ما يستجن به، من ترس أو غيره. ومنه قوله تعالى:
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يستترون بها من إنكار المؤمنين عليهم. ومنه
الجنة- بالكسر- وهم الجن، كما قال تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.
وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة. واحتجوا بقوله تعالى: 37: 158
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قالوا: وهذا النسب قولهم:
الملائكة بنات الله. ورجحوا هذا القول بوجهين.
أحدهما: أن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه لا بين الجن
وبينه.
الثاني: قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي قد
علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب.
والصحيح: خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وأن الجنة هم الجن أنفسهم، كما قال تعالى: مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وعلى هذا ففي الآية قولان.
أحدهما: قول مجاهد: قال: قالت كفار قريش: الملائكة بنات الله.
فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن. وقال الكلبي: قالوا تزوج من
الجن، فخرج من بينهما الملائكة. وقال قتادة، قالوا: صاهر الجن. والقول الثاني: هو
قول الحسن. قال: أشركوا الشياطين في عبادة الله. فهو النسب الذي جعلوه.
والصحيح قول مجاهد وغيره.
وما احتج به أصحاب القول الأول ليس بمستلزم لصحة قولهم. فإنهم لما قالوا: الملائكة
بنات الله، وهم من الجن، عقدوا بينه وبين الجنة نسبا
(1/512)
بهذا
الإيلاد وجعلوا هذا النسب متولدا بينه وبين الجن.
وأما قوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ فالضمير يرجع
إلى الجنة، أي قد علمت الجنة أنهم محضرون الحساب. قاله مجاهد، أي لو كان بينه
وبينهم نسب لم يحضروا الحساب، كما قال تعالى: 5: 18 وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم
وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة.
وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله.
الإسم الثاني: دار السلام، وقد سماها الله تعالى بهذا الإسم في قوله: 6: 127
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقوله: 10: 25 وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى
دارِ السَّلامِ وهي أحق بهذا الإسم. فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه.
وهي دار الله. واسمه سبحانه وتعالى «السلام» الذي سلمها وسلم أهلها، وتحيتهم فيها
سلام وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ والرب تعالى يسلم عليهم من فوقهم، كما قال تعالى:
36: 57، 58 لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ. سَلامٌ قَوْلًا مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ وحديث جابر في سلام الرب تعالى على أهل الجنة. وكلامهم كله فيها
سلام، أي لا لغو فيها، ولا فحش ولا باطل، كما قال تعالى: 19: 62 لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً.
وأما قوله تعالى: 56: 90، 91 وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فأكثر المفسرين حاموا حول المعنى، وما
وردوه. وقالوا أقوالا لا يخفي بعدها عن المقصود.
وإنما معنى الآية- والله أعلم- فسلام لك أيها الراحل عن الدنيا حال كونك من أصحاب
اليمين، أي فسلام لك كائنا من أصحاب اليمين الذين سلموا من الدنيا وأنكادها، ومن
النار وعذابها، فبشر بالسلامة عند ارتحاله
(1/513)
من
الدنيا وقدومه على الله، كما يبشر الملك روحه عند أخذها، بقوله:
«أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان» .
وهذا أول البشرى التي للمؤمن في الآخرة.
الإسم الثالث: دار الخلد. وسميت بذلك. لأن أهلها، لا يظعنون عنها أبدا كما قال
تعالى: 11: 108 عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقال:
38: 54 إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ وقال: 13: 35 أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها وقال: 15: 48 وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ.
الإسم الرابع: دار المقامة. قال تعالى حكاية عن أهلها 35: 34 وَقالُوا: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ،
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ قال
مقاتل: أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدا، لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا.
قال الفراء والزجاج: المقامة: مثل الإقامة. يقال: أقمت بالمكان إقامة، ومقامة،
ومقاما.
الإسم الخامس: جنة المأوى. قال تعالى: 53: 15 عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى.
الإسم السادس: جنات عدن. فقيل: هي اسم لجنة من الجنان:
والصحيح أنه اسم لجملة الجنان، وكلها جنات عدن. قال تعالى:
19: 61 جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وقال
تعالى 35: 33 جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وقال تعالى: 9: 72 وَمَساكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن. فإنه من
الإقامة والدوام.
يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به. وعدنت البلد: توطنته. وعدنت الإبل بمكان كذا:
لزمته فلم تبرح منه. وقال الجوهري: ومنه جنات عدن، أي
(1/514)
إقامة.
ومنه سمي المعدن- بكسر الدال- لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء. ومركز كل شيء:
معدنه. والعادن: الناقة المقيمة في المرعى.
الإسم السابع: دار الحيوان. قال تعالى: 29: 64 وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ والمراد: الجنة عند أهل التفسير. قالوا: وإن الآخرة. يعني الجنة، لهي
الحيوان. لهي دار الحياة التي لا موت فيها.
وقال الكلبي: هي حياة لا موت فيها. وقال الزجاج: هي دار الحياة الدائمة وأهل اللغة:
على أن «الحيوان» بمعنى الحياة.
قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الحياة الحيوان. وقال أبو عبيدة: الحياة، والحيوان،
والحي- بكسر الحاء- قال أبو علي: يعني أنها مصادر.
فالحياة: فعلة. كالجلبة، والحيوان: كالنّزوان والغليان، والحيّ: كالعي، قال
العجاج:
كنا بها إذا الحياة حيّ
أي إذا الحياة حياة. وأما أبو زيد: فخالفهم، وقال: الحيوان: لما فيه روح. والموتان
الموت: مما لا روح فيه.
والصواب: أن الحيوان يقع على ضربين.
أحدهما: كما حكاه أبو عبيدة.
والثاني: وصف، كما حكاه أبو زيد.
وعلى قول أبي زيد: الحيوان مثل الحي، خلاف الميت.
ورجح القول الأول: بأن الفعلان: بابه المصادر، كالنزوان، والغليان، بخلاف الصفات.
فإن بابها: فعلان، كسكران وغضبان.
وأجاب من رجح القول الثاني: بأن فعلان قد جاء في الصفات أيضا.
قالوا: رجل ضميان للسريع الخفيف، وزفيان. قال في الصحاح: ناقة
(1/515)
زفيان
سريعة. وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم.
فيحتمل قوله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ معنيين.
أحدهما: أن حياة الآخرة هي الحياة، لأنها لا تنغيص فيها، ولا نفاد لها، أي لا
يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار.
فيكون «الحيوان» مصدرا على هذا.
الثاني: أن يكون المعنى: أنها الدار التي لا تفنى، ولا تنقطع، ولا تبيد، كما يفنى
الأحياء في هذه الدنيا. فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت.
الاسم الثامن: الفردوس. قال تعالى: 23: 11 أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ
يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ وقال تعالى:
18: 107، 108 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ
جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا.
الاسم التاسع: جنات النعيم. قال تعالى: 31: 8 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ.
وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات، لما تضمنته، من الأنواع التي يتنعم بها أهلها:
من المأكول، والمشروب، والملبوس، والصور الجميلة، والرائحة الطيبة، والمنظر
البهيج، والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن.
الاسم العاشر: المقام الأمين. قال تعالى: 44: 51 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ
أَمِينٍ.
الاسم الحادي عشر والثاني عشر: مقعد الصدق، وقدم الصدق.
قال تعالى: 54: 54، 55 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ
صِدْقٍ فسمي جنته: مقعد صدق، لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها،
(1/516)
كما
يقال: مودة صادقة، إذا كانت ثابتة تامة. وحلاوة صادقة وحملة صادقة. ومنه الكلام
الصدق، لحصول مقصوده منه.
وموضع هذه اللفظة في كلامهم: الصحة والكمال. ومنه: الصدق في الحديث، والصدق في
العمل. والصدّيق: الذي يصدق قوله بالعمل.
والصّدق- بفتح الصاد والدال- الصلب من الرماح، ويقال للرجل الشجاع:
إنه لذو صدق أي صادق الحملة. وهذا مصداق هذا: أي ما يصدّقه. ومنه الصداقة: لصفاء
المودة والمخالّة. ومنه: صدقني القتال: وصدقني المودة. ومنه: قدم صدق. ولسان صدق.
ومدخل صدق. ومخرج صدق. وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه. بخلاف الكذب
الباطل، الذي لا شيء تحته. وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط.
وفسر قوم «قدم صدق» بالجنة، وفسرها آخرون بالأعمال التي تنال بها الجنة. وفسر
بالسابقة التي سبقت لهم من الله. وفسر بالرسول الذي على يده، وبهدايته نالوا ذلك.
والتحقيق: أن الجميع حق. فإنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب
التي قدمها لهم على يد رسله، وادخر لهم جزاءها يوم القيامة. ولسان الصدق: وهو لسان
الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق.
وفي كونه لسان صدق: إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنه ثناء بحق لا بباطل ومدخل
الصدق، ومخرج الصدق: هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله. وهو
دخوله وخروجه بالله ولله، وهذه الدعو من أنفع الدعاء للعبد. فإنه لا يزال داخلا في
أمر، فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك، كان قد أدخل مدخل صدق، وأخرج مخرج
صدق، والله المستعان.
(1/517)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
سورة
الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الواقعة (56) : آية 35]
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)
أعاد الضمير إلى النساء، ولم يجر لهن ذكر. لأن الفرش دلت عليهن، إذ هي محلهن،
وقيل: الفرش في قوله: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ كناية عن النساء، كما يكنى عنهن
بالقوارير والأزر وغيرها، ولكن قوله:
«مرفوعة» يأبى هذا إلا أن يقال: المراد رفعة القدر، وقد تقدم تفسير النبي صلّى
الله عليه وسلّم للفرش وارتفاعها.
فالصواب: أنها الفرش نفسها، ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا.
قال قتادة وسعيد بن جبير: خلقناهن خلقا جديدا. وقال ابن عباس:
يريد نساء الآدميات.
وقال الكلبي، ومقاتل: يعني نساء أهل الدنيا العجّز الشّمط. يقول الله: خلقناهن بعد
الكبر والهرم بعد الخلق الأول في الدنيا.
(1/519)
ويؤيد
هذا التفسير: حديث أنس المرفوع «هن عجائزكم العمش الرمص» رواه الثوري عن موسى بن
عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه.
ويؤيده أيضا ما
رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة «أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم دخل عليها، وعندها عجوز. فقال:
من هذه؟ فقالت: إحدى خالاتي، فقال: أما إنه لا يدخل الجنة عجوز، فدخل على العجوز
من ذلك ما شاء الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا أنشأهن إنشاء خلقا آخر،
يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، وأول من يكسي إبراهيم خليل الله، ثم قرأ النبي
صلّى الله عليه وسلّم إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً.
قال آدم بن أبي إياس. حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن
سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «يعني الثيبات والأبكار اللاتي كن في الدنيا» .
قال آدم: وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «لا يدخل الجنة العجز» ، فبكت عجوز، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أخبروها أنها يومئذ ليست بعجوز، إنها يومئذ شابة. إن الله عز وجل يقول:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً» .
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتته
عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، أدع الله أن يدخلني الجنة. فقال النبي صلّى
الله عليه وسلّم: إن الجنة لا يدخلها عجوز. فذهب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم،
فصلى. ثم رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة. فقال صلّى
الله عليه وسلّم: إن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حوّلهن أبكارا» .
وذكر مقاتل قولا آخر، وهو اختيار الزجاج: أنهن الحور العين اللاتي ذكرهن قبل،
أنشأهن الله عز وجل لأوليائه لم يقع عليهن ولادة.
(1/520)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
والظاهر:
أن المراد أنشأهن الله في الجنة إنشاء. ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه قد قال في حق السابقين يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ
بِأَكْوابٍ- إلى قوله- كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فذكر سدرهم، وآنيتهم،
وشرابهم، وفاكهتهم وطعامهم، وأزواجهم من الحور العين. ثم ذكر أصحاب الميمنة،
وطعامهم، وشرابهم، وفرشهم، ونساءهم. والظاهر أنهن مثل نساء من قبلهم، خلقن في
الجنة.
الثاني: أنه سبحانه قال: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً وهذا ظاهر: أنه إنشاء
أول لا ثان. لأنه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يقيده بذلك، كقوله: 53: 47
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وقوله: 56: 62 وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولى.
الثالث: أن الخطاب بقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً إلى آخره:
للذكور والإناث. والنشأة الثانية أيضا عامة للنوعين. قوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ
إِنْشاءً ظاهره اختصاصهن بهذا الإنشاء.
وتأمل تأكيده بالمصدر. والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف،
بل يدل على مشاركتهن للحور العين في هذه الصفات المذكورة. فلا يتوهم انفراد الحور
العين عنهن بما ذكر من الصفات، بل هن أحق به منهن فالإنشاء واقع على الصنفين.
والله اعلم.
[سورة الواقعة (56) : آية 37]
عُرُباً أَتْراباً (37)
وقوله: «عربا» جمع عروب. وهن المتحببات إلى أزواجهن. قال ابن الاعرابي: العروب من
النساء: المطيعة لزوجها، المتحببة إليه.
وقال أبو عبيدة: العروب الحسنة التبعّل قلت: يريد حسن موافقتها وملاطفتها لزوجها
عند الجماع.
وقال المبرد: هي العاشقة لزوجها. وأنشد للبيد:
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ربّا الروادف يعشى دونها البصر
(1/521)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وذكر
المفسرون في تفسير العرب: أنهن العواشق، المتحببات، الغنجات، الشّكلات، المتعشقات،
الغلمات، المغنوجات. كل ذلك من ألفاظهم. وقال البخاري في صحيحه «عربا» مثقلة،
واحدها: عروب، مثل صبور وصبر. تسميها أهل مكة العربة وأهل المدينة: الغنجة. وأهل
العراق: الشّكلة. والعرب المتحببات الى أزواجهن» هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق.
وقال في كتاب التفسير في سورة الواقعة! عربا مثقلة- أي مضمومة الراء- واحدها عروب.
مثل صبور وصبر. تسميها أهل مكة: العربة، وأهل المدينة الغنجة، وأهل العراق:
الشكلة.
قلت: فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها. وهذا غاية ما يطلب من النساء، وبه
تكمل لذة الرجل بهن.
وفي قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ إعلام بكمال اللذة
بهن. فإن لذة الرجل بالمرأة التي لم يطأها سواه لها فضل على لذته بغيرها.
وكذلك هي أيضا.
[سورة الواقعة (56) : آية 74]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
اللفظ المؤلف من الزاى والياء والدال- مثلا- له حقيقة متميزة متحصلة، فأستحق أن
يوضع له لفظ يدل عليه، لأنه شيء موجود في اللسان، مسموع بالأذان. فاللفظ المؤلف من
همزة الوصل والسين والميم:
عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاى والياء والدال، مثلا.
واللفظ المؤلف من الزاى والياء والدال: عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان
والأذهان.
(1/522)
وهذا
المسمى والمعنى. واللفظ الدال عليه، الذي هو الزاى والياء والدال: هو الاسم.
وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى، من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم: عبارة عنه.
فقد بان لك أن «الاسم» في أصل الوضع ليس هو المسمى. ولهذا تقول: سميت هذا الشخص
بهذا الاسم، كما تقول: حلّيته بهذه الحلية.
والحلية غير المحلى، فكذلك الاسم غير المسمى. وقد صرح بذلك سيبويه. وأخطأ نسب إليه
غير هذا، وادعى أن مذهبه: اتحادهما.
والذي غرّ من ادعي ذحك: قوله: الأفعال أمثلة، أخذت من لفظ أحداث الأسماء. وهذا لا
يعارض نصه قبل هذا. فإنه نص على أن الاسم غير المسمى. فقال «الكلم اسم، وفعل،
وحرف» فقد صرح بأن الاسم كلمة. فكيف تكون الكلمة هي المسمى. والمسمى شخص؟ ثم قال
بعد هذا: تقول سميت زيدا بهذا الاسم، كما تقول: علمته بهذه العلامة.
وفي كتابه قريب من ألف موضع: أن الاسم هو اللفظ الدال على المسمى. ومتى ذكر الخفض
أو النصب، أو التنوين، أو اللام، أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان، وتصغير
وتكبير، وإعراب وبناء- فذلك كله من عوارض الاسم: تعلق لشيء من ذلك بالمسمى أصلا.
وما قال نحوي قط ولا عربي: إن الاسم هو المسمى. ويقولون: أجل مسمى. ولا يقولون أجل
اسم. ويقولون: مسمى هذا الاسم كذا. ولا يقول أحد: اسم هذا الاسم، ويقولون: هذا
مسمى بزيد. ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد. ويقولون: باسم الله، ولا يقولون: بمسمى
الله.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لي خمسة أسماء»
ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات.
وقال: «فتسموا باسمي»
ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي.
وقال «لله تسعة وتسعون اسما»
ولا يصح أن يقال: لله تسعة وتسعون مسمى.
(1/523)
وإذا
ظهر الفرق بين الاسم والمسمى. فبقي هاهنا التسمية. وهي التي اعتبرها من قال:
باتحاد الاسم والمسمى. والتسمية: عبارة عن فعل المسمّي ووضعه الاسم للمسمّي، كما
أن التحلية: عبارة عن فعل المحلّى، ووضعه الحلية على المحلّى.
فهنا ثلاث، حقائق: اسم ومسمى، وتسمية، كحلية، ومحلّى، وتحلية. وعلامة ومعلم،
وتعليم. ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد، لتباين حقائقها.
وإذا جعلت الاسم هو المسمى: بطل واحد من هذه الحقائق الثلاث ولا بد.
فإن قيل: فحلوا لنا شبهة من قال: باتحادهما ليتم الدليل. فإنكم أقمتم الدليل
فعليكم الجواب عن المعارض.
فمنها: أن الله وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق. فلو كانت أسماؤه غيره لكانت
مخلوقة. وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل، ولا صفة. لأن أسماءه صفات. وهذا هو
السؤال الأعظم، الذي قاد متكلمي الإثبات الى أن يقولوا: الإسم هو المسمى. فما
عندكم في دفعه؟
والجواب: أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق اللفظة مجملة لمعنيين. صحيح وباطل.
فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني، وتنزيل ألفاظها عليها. ولا ريب أن الله
تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها. فلم يزل
بأسمائه وصفاته: رب واحد، وإله واحد، له الأسماء الحسنى والصفات العلا. وأسماؤه
وصفاته داخلة في مسمى اسمه، وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق. فليست
صفاته وأسماؤه غيره. وليست هي نفس الإله، وبلاء القوم من لفظة «الغير» فإنها يراد
بها معنيين.
أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة بالله. وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا
الاعتبار. فلا يكون إلا مخلوقا.
(1/524)
ويراد
بها: مغايرة الذات إذا خرجت عنها. فإذا قيل: علم الله، وكلام الله غيره: وعنى أنه
غير الذات المجردة عن العلم، والكلام: كان المعنى صحيحا. ولكن الإطلاق باطل. وإذا
العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره: كان باطلا لفظا
ومعنى.
وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن، وقالوا: كلامه تعالى داخل في
مسمى اسمه. ف «الله» اسم للذات الموصوفة بصفات الكمال. ومن تلك الصفات: صفة
الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته، وسمعه وبصره: غير مخلوقة. وإذا كان القرآن
كلامه، وهو صفة من صفاته. فهو متضمن لأسمائه الحسنى. فإذا كان القرآن غير مخلوق،
ولا يقال: إنه غير الله، فكيف يقال: إن بعض ما تضمنه- وهو أسماؤه- مخلوقة، وهي
غيره؟
فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الإشكال، وبان أسماءه الحسنى التي في القرآن من
كلامه. وكلامه غير مخلوق. ولا يقال: هو غيره، ولا هو هو.
وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره. وهي مخلوقة،
ولمذهب من رد عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته، لا غيره.
وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب والحمد الله.
حجة ثانية لهم: قالوا: قال تبارك وتعالى: 55: 78 تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ و 73: 8
اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و 87: 1 سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
وهذه الحجة عليهم في لا لهم الحقيقة. لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم امتثل هذا
الأمر،
وقال: «سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم»
ولو كان الأمر كما زعموا لقال: سبحان اسم ربي العظيم.
(1/525)
ثم
إن الأمة كلهم لا يجوز أحد منهم أن يقول: عبدت اسم ربي، ولا سجدت لاسم ربي، ولا
ركعت لاسم ربي، ولا اسم ربي ارحمني. وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى، لا
بالاسم.
وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به ب «اسم» فقد قيل فيه: إن التعظيم
والتنزيه إذا وجب للمعظم قد تعظم ما هو من سببه، ومتعلق به، كما يقال: سلام على
الحضرة العالية، والباب السامي، والمجلس الكريم. ونحوه. وهذا جواب غير مرض لوجهين.
أحدهما: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يفهم هذا المعنى، وإنما قال «سبحان
ربي» فلم يعرج على ما ذكرتموه.
الثاني: أنه يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل، وسائر ما يطلق
على المسمى، فيقال: الحمد لاسم الله. ولا إله إلا اسم الله، ونحوه. وهذا مما لم
يقله أحد.
بل الجواب الصحيح: أن الذكر الحقيقي حله القلب، لأنه ضد النسيان. والتسبيح نوع من
الذكر. فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان. والله
تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما
واجتماعهما.
فصار معنى الآيتين: سبح ربك بقلبك ولسانك. واذكر ربك بقلبك ولسانك. فأقحم الاسم
تنبيها على هذا المعنى. حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان: لأن ذكر
القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم، دون ما سواه. والذكر باللسان: متعلقه
اللفظ مع مدلوله. لأن اللفظ لا يراد لنفسه. فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح، دون
ما يدل عليه من المعنى.
وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن هذا المعنى
(1/526)
بعبارة
لطيفة وجيزة، فقال: المعنى سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به.
وكذا سبح اسم ربك: المعنى: سبح ربك ذاكرا اسمه.
وهذه الفائدة تساوي رحلة، ولكن لمن يعرف قدرها. فالحمد لله المنان بفضله ونسأله
تمام نعمته.
حجة ثالثة لهم: قالوا: قال تعالى: 12: 40 ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وإنما عبدوا مسمياتها.
والجواب: أنه كما قلتم: إنهم إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء
باطلة، كاللاتي والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة، لا مسمى لها في الحقيقة.
فإنهم سموها آلهة. وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا
مجرد الأسماء، لا حقيقة المسمى.
فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن سمى قشور البصل لحما، وأكلها،
فيقال له: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه. وكمن سمى التراب خبزا، وأكله.
يقال: ما أكلت إلّا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في نفي الإلهية آلهتهم. فإنه لا
حقيقة لإلهيتها بوجه. وما الحكمة ثمّ إلّا مجرد الاسم.
فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل: فما الفائدة في دخول الباء في قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ ولم تدخل في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟.
قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد، دون معنى آخر. ويراد به مع ذلك
الصلاة. وهو ذكر وتنزيه مع عمل. ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا.
فإذا أريد التسبيح المجرد، فلا معنى للباء. لأنه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت
بالله. وإذا أردت المقرون بالفعل، وهو الصلاة، أدخلت الباء، تنبها على ذلك المراد،
كأنك قلت: سبح مفتتحا باسم ربك، أو ناطقا باسم ربك. كما تقول: صلّ مفتتحا، أو
ناطقا باسمه، ولهذا السر-
(1/527)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
والله
أعلم- دخلت اللام في قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
والمراد التسبيح الذي هو السجود والخضوع والطاعة، ولم يقل في موضع: سبح الله ما في
السموات والأرض، كما قال تعالى 13: 15 وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ.
وتأمل قوله تعالى: 7: 205 إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ فكيف قال: «ويسبحونه» لما ذكر
السجود باسمه الخاص، فصار التسبيح: ذكرهم له، وتنزيههم إياه.
[سورة الواقعة (56) : آية 79]
لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
والصحيح في الآية: أن المراد به: الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة.
منها: أنه وصفه بأنه مكنون، والمكنون المستور عن العيون، وهذا إنما هو في الصحف
التي بأيدي الملائكة.
ومنها: أنه قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهم الملائكة ولو أراد
المؤمنين المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال تعالى: 2:
251 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فالملائكة
مطهرون، والمؤمنون والمتوضئون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم.
والأصل في الخبر، أن يكون خبرا صورة ومعنى.
ومنها: أن هذا رد على من قال. إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه في
كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء:
26: 210- 212 وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما
يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وأنما تناله الأرواح
(1/528)
المطهرة،
وهم الملائكة.
ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس به: 80: 12- 16مَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ
بَرَرَةٍ
قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ أنها مثل هذه الآية في سورة عبس.
ومنها: أن الآية مكية، في سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد،
وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي، وهو حكم
مس المحدث المصحف.
ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا
القسم العظيم كثير فائدة، ومن المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب، حقا
أو باطلا، بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله،
لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية.
فهذا المعنى أليق وأجل بالآية بلا شك.
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل هذه الآية وإشارتها على
أنه لا يمس المصحف إلا طاهر. لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون،
لكرامتها على الله. فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر.
(1/529)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
سورة
الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ
ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
«رهبانية» منصوب بابتدعوها على الإشتغال، إما بنفس الفعل المذكور، على قول
الكوفيين. وإما بمقدر محذوف، مفسر بهذا المذكور، على قول البصريين. أي وابتدعوا
رهبانية. وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه. فالوقف التام عند قوله «ورحمة» ثم يبتدئ
«وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» أي لم نشرعها لهم، ولم نكتبها عليهم، بل هم
ابتدعوها من عند أنفسهم.
وفي نصب قوله: «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه مفعول له، أي لم نكتبها عليها إلا ابتغاء رضوان الله.
وهذا فاسد. فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه. كيف وقد أخبر أنهم هم الذين ابتدعوها فهي
مبتدعة غير مكتوبة.
(1/531)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
وأيضا
فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية. نحو:
قمت إكراما. فالقائم هو المكرم، وفعل الفاعل المعلل هاهنا: هو الكتابة، وابتغاء
رضوان الله: فعلهم لا فعل الله.
فلا يصلح أن يكون علة لفعل لاختلاف الفاعل.
وقيل: هو بدل من مفعول «كتبناها» أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وهو
فاسد أيضا، إذ ليس رضوان الله عين الرهبانية. فيكون بدل الشيء من الشيء، ولا
بعضها. فيكون بدل بعض من كل، ولا أحدهما مشتمل على الآخر، فيكون بدل اشتمال. وليس
ببدل غلط.
فالصواب: أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع، أي: لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب
رضوان الله.
ودل على هذا قوله «ابتدعوها» ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية،
وأنه طلب رضوان الله، ثم ذمهم بترك رعايتها. إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله
إياه من أنواع القرب، لزمه رعايته وإقامته، حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في
طاعة مستحبة بإتمامها، وجعلوا التزامها بالشروع، كالتزامها بالنذر، كما قال أبو
حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وهو إجماع، أو كالإجماع في أحد النسكين.
قالوا: والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول. فكما يجب عليه رعاية ما التزمه
بالنذر وفاء، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما. وليس هذا موضع استقصاء هذه
المسألة.
والقصد: أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها.
فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده، وأذن بها، وحث عليها؟.
[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
(1/532)
في
قوله «تمشون به» إعلام بأن تصرفهم، وتقبلهم الذي ينفعهم:
إنما هو بالنور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم. ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر
من نفعه.
وفيه: أن أهل النور هم أهل المشي في الناس، ومن سواهم أهل الزّمانة والانقطاع. فلا
مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات. وكذلك لا
تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم.
وفي قوله: «تمشون به» نكتة بديعة. وهي: أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون
بها بين الناس في الدنيا. ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على
الصراط، فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه.
(1/533)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
سورة
المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
إن قيل: فما تقولون في قول المظاهر: أنت عليّ كظهر أمي: هل هو إنشاء أو إخبار؟ فإن
قلتم: إنشاء كان باطلا من وجوه.
أحدها: أن الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب. والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة
مواضع.
أحدها: في قوله «ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» فنفي ما أثبتوه. وهذا حقيقة التكذيب. ومن
طلق امرأته، لا يحسن أن يقال: ما هي مطلقته والثاني: في قوله «إِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ» والإنشاء لا يكون
(1/535)
منكرا
من القول، وإنما يكون المنكر هو الخبر.
والثاني: أنه سماه «زورا» والزور: هو الكذب.
وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء.
الثالث: أن الظهار محرم، وليس جهة تحريمه إلّا كونه كذبا.
والدليل على تحريمه: خمسة أشياء.
أحدها: وصفه بالمنكر. والثاني وصفه بالزور. والثالث: أنه شرع فيه الكفارة. ولو كان
مباحا لم يكن فيه كفارة. والرابع: أن الله قال:
ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ والوعظ إنما يكون في غير المباحات. والخامس:
قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ والعفو والمغفرة: إنما يكونان عن الذنب.
وإن قلتم: هو إخبار، فهو باطل من وجوه.
أحدها: أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله
الكفارة. وهذا متفق عليه بين أهل العلم. ولو كان خبرا لم يوجب التحريم. فإنه إن
كان صدقا فظاهر. وإن كان كذبا: فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم.
والثاني: أنه لفظ الظهار يوجب حكمه الشرعي بنفسه، وهو التحريم.
وهذا حقيقة الإنشاء، بخلاف الخبر. فإنه لا يوجب حكمه بنفسه. فسلب كونه إنشاء مع
ثبوت حقيقة الإنشاء فيه: جمع بين النقيضين.
والثالث: أن إفادة قوله: أنت علي كظهر أمي: للتحريم، كإفادة قوله: أنت حرة، وأنت
طالق. وبعتك ورهنتك، وتزوجتك، ونحوها:
لأحكامها. فكيف يقولون: هذه إنشاءات دون الظهار؟ وما الفرق؟
قيل: أما الفقهاء فيقولون: الظهار إنشاء. ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك. وقال:
الصواب أنه إخبار.
(1/536)
وأجاب
عما احتجوا به من كونه إنشاء.
قال: أما قولهم: كان طلاقا في الجاهلية: فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به
الطلاق، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون به العصمة عند النطق به.
فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء، كما زعمتم، أو لكونه كذبا، وجرت عادتهم أن من
أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه. وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة
من الولد. ونحو ذلك.
قال: وأما قولكم: إنه يوجب التحريم المؤقت. وهذا حقيقة الإنشاء، لا الإخبار- فلا
نسلم أن ثم تحريما البتة- والذي دل عليه القرآن: وجوب تقديم الكفارة على الوطء،
كتقديم الطهارة على الصلاة. فإذا قال الشارع:
لا تصل حتى تتطهر: ولا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه، بل ذلك نوع ترتيب.
سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ
له، ودلالته عليه. وهذا هو الإنشاء. وقد يكون عقوبة محضة، كترتيب حرمان الإرث على
القتل.
وليس القتل إنشاء للتحريم، وكترتيب التعزير على الكذب، وإسقاط العدالة به. فهذا
ترتيب بالوضع الشرعي، لا بدلالة اللفظ.
وحقيقة الإنشاء: أن يكون ذلك اللفظ وضع لذلك الحكم. ويدل عليه، كصيغ العقود.
فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره.
فكل إنشاء سبب، وليس كل سبب إنشاء. فالسببية أعم. فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء.
فإن الأعم لا يستلزم الأخص. فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق، وترتبه على
الظهار.
قال: وأما قولكم: إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها:
فقياس في الأسباب. فلا نقبله. ولو سلمناه نص القرآن يدفعه.
(1/537)
وهذه
الاعتراضات عليهم باطلة.
وأما قوله: إن كونه طلاقا في الجاهلية فلا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلخ
فكلام باطل قطعا. فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار بالكذب ليترتب عليه التحريم، بل
كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق. ولم يكونوا عند أنفسهم
كاذبين ولا مخبرين. وإنما كانوا منشئين للطلاق به. ولهذا كان هذا ثابتا في أول
الإسلام. حتى نسخه الله بالكفارة في
قصة خولة بنت ثعلبة وكانت تحت عبادة بن الصامت. فقال لها «أنت علي كظهر أمي. فأتت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألته عن ذلك. فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم حرمت عليه. فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق،
وإنه أبو ولدي. وأحب الناس إلي. فقال: حرمت عليه. فقالت:
أشكو إلى الله فاقتي وحدتي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أراك إلا قد
حرمت عليه. ولم أومر في شأنك بشيء. فجعلت تراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا قال لها: حرمت عليه. هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وأن لي صبية
صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا.
وجعلت ترفع رأسها الى السماء، وتقول: اللهم إني أشكوا إليك. وكان هذا أول ظهار في
الإسلام. فنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما قضي الوحي.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ادعي زوجك، فتلا عليه رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم قوله تعالى:
58: 1- 4 قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما الآيات.
فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام، ثم نسخ
ذلك بالطلاق. وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادها عشرة أبطن ونحوه.
فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم، بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا
السبب.
(1/538)
وأما
قوله: إنا لا نسلم أنه يوجب تحريما: فكلام باطل. فإنه لا نزاع بين الفقهاء أن
الظهار يقتضي تحريما تزيله الكفارة. فلو وطئها قبل التكفير أثم بالإجماع المعروف
من الدين. والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام، وبالصيام وبالحيض.
وأما تنظيره بالصلاة مع الطهر ففاسد. فإن الله أوجب على المصلي أن يصلي صلاة بطهر.
فإذا لم يأت بالطهر ترك ما أوجب الله عليه، فأستحق الإثم. وأما المظاهر فإنه حرم
على نفسه امرأته وشبّهها بمن تحرم عليه.
فمنعه الله من قربانها حتى يكفر. فهنا تحريم مستند إلى كفارة. وفي الصلاة لا تجزئ
منه بغير طهر. لأنها صلاة غير مشروعة أصلا.
وقوله: التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، وقد يكون عقوبة إلخ.
جوابه: أنهما غير متنافيين في الظهار، فإنه حرام، وتحرم المرأة به تحريما مؤقتا
حتى يكفر. وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء، كجمع الثلاث عند من يوقعها، والطلاق في
الحيض، فإنه يحرم ويعقبه التحريم. وقد قلتم: إن طلاق السكران يقع عقوبة له، مع أنه
لم يقصد إنشاء سبب تطلق به امرأته اتفاقا. فكون التحريم عقوبة لا ينفي أن يستند
إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها.
وقوله: السببية أعم من الإنشاء.
جوابه: أن السبب نوعان. فعل وقول، فمتى كان قولا لم يكن إلا إنشاء. فإن أردتم
بالعموم: أن سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارا فممنوع. وإن أردتم أن مطلق
السببية أعم من كونها سببية بالفعل وبالقول.
فمسلم. ولا يفيدكم شيئا.
وفصل الخطاب: أن قوله: أنت علي كظهر أمي: يتضمن إنشاء
(1/539)
وإخبارا.
فهو إنشاء من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ، وإخبار من حيث تشبيهها بظهر أمه ولهذا
جعله الله منكرا من القول زورا. فهو منكر باعتبار الإنشاء، وزور باعتبار الإخبار.
وأما قوله: إن المنكر هو الخبر الكاذب من النّكر. والنكر أعم منه.
فالإنكار في الإنشاء والإخبار. فإنه ضد المعروف. فما لم يؤذن فيه من الإنشاء فهو
منكر. وما لم يكن صدقا من الأخبار فهو زور.
(1/540)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
سورة
الصف
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
وقال عن عباده المؤمنين إنهم سألوه التثبيت على الهدى بقولهم:
3: 8 رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.
وأصل الزيغ: الميل، ومنه: زاغت الشمس، إذا مالت. فإزاغة القلب: إمالته عن الهدى.
وزيغه: ميله عن الهدى الى الضلال.
والزيغ: يوصف به القلب والبصر، كما قال تعالى: 33: 10 وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ،
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ.
قال قتادة ومقاتل: شخصت فرقا. وهذا تقريب للمعنى: فإن الشخوص غير الزيغ. وهو أن
يفتح عينيه ينظر إلى الشيء، فلا يطرف.
ومنه: شخص بصر الميت.
ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل
جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر، فمالت عنه.
(1/541)
وشخصت
بالنظر إلى الأحزاب.
وقال الكلبي: مالت أبصارهم إلّا من النظر إليهم. وقال الفراء:
زاغت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها، متحيرة تنظر إليه.
قلت: القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف، فزاغ البصر عن
الوقوع عليه. وهو مقابله.
(1/542)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
سورة
الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ
الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به، ويعمل به، ويدعو إليه. ثم خالف ذلك ولم يحمله
إلا على ظهر قلب، فقرأه بغير تدبر، ولا تفهم، ولا اتباع له، ولا تحكيم له، ولا عمل
بموجبه: كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، فحظه منها: حملها على ظهره
ليس إلا. فحظ هذا من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره.
فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك
العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته.
(1/543)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
سورة
المنافقون
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المنافقون (63) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
المقصود: أن دوام الذكر لما كان سببا لدوام المحبة، وكان الله سبحانه أحق بكمال
الحب والعبودية والتعظيم والإجلال، كان كثرة ذكره من أنفع ما للعبد. وكان عدوه حقا
هو الصاد له عن ذكر ربه، وعبوديته.
ولهذا أمر سبحانه بكثرة ذكره في القرآن. وجعله سببا للفلاح. فقال تعالى:
62: 10 اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال: 33: 41 يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وقال: 33: 35
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وقال: 63: 9 يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقال: 2: 152
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله وما المفردون؟
قال: الذاكرون الله كثيرا»
وفي الترمذي عن أبي الدرداء عن
(1/544)
النبي
صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم،
وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم
فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله»
وهو في الموطأ موقوف على أبي الدرداء.
وقال معاذ بن جبل «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله» .
وذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبع لذكره.
والمقصود: أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة.
فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به.
وهو أنواع: ذكره بأسمائه وصفاته، والثناء عليه بها.
الثاني: تسبيحه وتحميده، وتكبيره وتهليله، وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ
الذكر عند المتأخرين.
الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه. وهو ذكر أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي
ذكرهم لربهم.
ومن أفضل ذكره: ذكره بكلامه. قال تعالى: 20: 124 وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى فذكره
هاهنا هو كلامه الذي أنزله على رسوله، وقال تعالى: 13: 28 الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ.
ومن ذكره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه.
فهذه خمسة أنواع من الذكر.
(1/545)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
سورة
التحريم
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التحريم (66) : آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
إن لغة العرب متنوعة في إفراد المضاف، وتثنيته وجمعه، بحسب أحوال المضاف إليه. فإن
أضافوا الواحد المتصل الى مفرد أفردوه. وإن أضافوه الى اسم جمع ظاهر أو مضمر
جمعوه. وإن أضافوه الى اسم مثنى فالأصح في لغتهم جمعه. كقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما وإنما هما قلبان، وكقوله: 5: 38 وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وتقول العرب: اضرب أعناقهما. وهذا أفصح في استعمالهم.
[سورة التحريم (66) : آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
(1/547)
فاشتملت
هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار. ومثلين للمؤمنين.
فيتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا
ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين عن لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من
أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله
وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الايمان،
لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله
شيئا، وقيل: ادخلا النار مع الداخلين. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله،
وخالف امره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا
أشد الاتصال. فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه،
ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا. قال الله تعالى:
60: 3 لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وقال تعالى: 82: 19 يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ
شَيْئاً وقال تعالى: 2: 48 وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً وقال:
31: 33 وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وهذا كله تكذيب لإطماع
المشركين الباطلة: أن ما تعلقوا به من دون الله من قرابة، أو صهر، أو نكاح أو صحبة
ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله، أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال
بني آدم، وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الذي بعث الله جميع رسله
وأنزل جميع كتبه بإبطاله، ومحاربة أهله، ومعاداتهم.
(1/548)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
فصل
[سورة التحريم (66) : آية 11]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما: امرأة فرعون.
ووجه المثل: أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا، إذا فارقه في كفره وعمله.
فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب
العقوبة التي تحل بأهل الأرض، إذا أضاعوا أمر الله، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة
فرعون اتصالها به. وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما
وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح. والمرأة
الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر. والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد.
فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها.
والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها.
والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة. فإنها سيقت في ذكر
أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحذيرهن من التظاهر عليه، وأنهن إن لم يطعن
الله ورسوله، ويردن الدار الآخرة: لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، كما لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط اتصالهما بهما.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل
الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة
[سورة التحريم (66) : آية 12]
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ
رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ
(12)
وفي ضرب المثل للمؤمنين مريم أيضا: اعتبار آخر، وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا
قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها الى ما
(1/549)
برأهما
الله منه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين.
فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه.
وفي هذا أيضا تسلية لعائشة أم المؤمنين، إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك.
وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون، إن كانت قبلها.
كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما تعمدتاه في حق النبي
صلّى الله عليه وسلّم.
فتضمن هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد،
والتسلية وتوطيد النفس لمن أوذي منهن، وكذب عليهن.
وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما اسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا
العالمون.
(1/550)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
سورة
ن
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة القلم (68) : آية 48]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ
مَكْظُومٌ (48)
قال ابن عباس: نهاه أن يتشبه بصاحب الحوت، حيث لم يصبر صبر أولي العزم.
وهاهنا سؤال نافع، وهو أن يقال: العامل في الظرف، وهو قوله «إذ نادى» لا يمكن أن
يكون المنهي عنه، إذ يصير المعنى: لا تكن مثله في ندائه. وقد اثنى الله سبحانه
عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به. فقال:
21: 87، 88 وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ، أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال «دعوة أخي ذي النون، إذ
دعي في بطن الحوت: ما دعي بها مكروب إلا فرج الله عنه: لا إله إلا أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين»
فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة، وهي النداء الذي نادى به
(1/551)
ربه.
وإنما نهى عن التشبه به في السبب الذي أفضى به إلى هذه المناداة، وهي مغاضبته التي
أفضت به الى حبسه في بطن الحوت، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم. والكظيم
والكاظم الذي قد امتلأ غيظا وغضبا، أو هما وحزنا، وكظم عليه فلم يخرجه.
فإن قيل: وعلى ذلك فما العامل في الظرف؟
قيل: ما في «صاحب الحوت» من معنى الفعل.
فإن قيل: فالسؤال بعد قائم، فإنه إذا قيد المنهي بقيد أو زمن كان داخلا في حين
النهي فإن كان المعنى: لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال، أو هذا الوقت. كان
نهيا عن تلك الحالة.
قيل: لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت، فنهى أن يشبه به في الحال التي أفضت
به إلى صحبته الحوت وألجأته إلى النداء، وهو ضعف العزيمة وعدم الصبر لحكمه تعالى،
ولم يقل تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت، فنادى، بل طوى
القصة واختصرها، وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر، واكتفى بغايتها وما انتهت
إليه.
فإن قيل: فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهي عنه؟ أي لا تكن مثله في ندائه
وهو ممتلئ غيظا وهما وغما، بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى ربه عليه، قد تلقاه
بالرضى والتسليم وسعة الصدر، لا نداء كظيم.
قيل: هذا المعنى، وإن كان صحيحا، فلم يقع النهي عن التشبه به في مجرده. وإنما نهي
عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضبا، حتى سجن في بطن الحوت.
ويدل عليه قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ثم قال: وَلا
(1/552)
تَكُنْ
كَصاحِبِ الْحُوتِ
أي في ضعف صبره لحكم ربه. فإن الحالة التي نهى عنها هي ضد الحالة التي امر بها.
فإن قيل: فما منعك أن تصير إلى أنه أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذي قدره
عليه، ولا تكن كصاحب الحوت، حيث لم يصبر عليه، بل نادى وهو كظيم لكشفه. فلم يصبر
على احتماله والسكون تحته.
قيل: منع من ذلك: أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف
ما بهم من ضر، وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.
فَنادى فِي الظُّلُماتِ: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فكيف ينهي عن التشبه به فيما يثني به عليه ويمدحه به؟
وكذلك أثنى على أيوب بقوله: مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
وعلى يعقوب بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وعلى موسى بقوله: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي-
الحديث»
فالشكوى إليه سبحانه لا تنافى الصبر الجميل، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره
جملة، وجعل الشكوى إليه وحده: هو الصبر.
والله تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه، وتضرعه ودعاؤه.
وقد ذم الله سبحانه من لم يتضرع إليه. ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما
يَتَضَرَّعُونَ.
والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه، بل
أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه، ويحب من
يشكو ما به إليه.
(1/553)
وقيل
لبعضهم: كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه؟ فقال: ربي يرضى ذل العبد إليه.
والمقصود: أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه
اختيارا. وهذا أكمل الصبر، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء، حتى
ردوها إلى أفضلهم وخيرهم، وأصبرهم لحكم الله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(1/554)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
سورة
المزمل
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المزمل (73) : آية 8]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
التبتل: الانقطاع. وهو تفعّل من البتل. وهو القطع. وسميت مريم: البتول. لانقطاعها
عن الأزواج، وعن نظراء نساء زمانها. ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا، وقطعت منهن.
ومصدر تبتل إليه تبتيلا كالتّعلّم والتفهم. ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر
لطيف.
فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف، والتعمل والتكثر والمبالغة.
فأتي بالفعل الدال على أحدهما، وبالمصدر الدال على الآخر. فكأنه قيل: بتّل نفسك
إلى الله تبتيلا. وتبتل إليه تبتلا. ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في
القرآن. وهو من حسن الاختصار والإيجاز
(1/555)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
سورة
المدثر
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المدثر (74) : آية 4]
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب، فكنى عن النفس بالثوب. وهذا قول إبراهيم
والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير.
قال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا قذر، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة
الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست، ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: طاهر الثياب، وتقول للفاجر والغادر: دنس
الثياب.
وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم، ولكن البسها وأنت برّ طاهر.
(1/556)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
وقال
الضحاك: عملك فأصلح. وقال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب،
وإذا كان فاجرا: إنه لخبيث الثياب.
وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر.
وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من
النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها. لأن المشركين كانوا لا يتطهرون، ولا يطّهرون
ثيابهم.
وقال طاوس: وثيابك فقصر. لأن تقصير الثياب طهرة لها.
والقول الأول: أصح الأقوال. ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها: من جملة
التطهير المأمور به، إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق. لأن نجاسة الظاهر تورث
نجاسة الباطن. ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها.
[سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 51]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرّماة ففرت منه.
وهذا من بديع القياس والتمثيل، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر
وهي لا تعقل شيئا. فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور. وهذا غاية
الذم لهؤلاء. فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم. كنفور الحمر عما
يهلكها ويعقرها.
وتحت «المستنفرة» معنى أبلغ من النافرة. فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا
وحضه على النفور. فإن في الاستفعال من الطلب قدرا
(1/557)
زائدا
على الفعل المجرد. كأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه.
ومن قرأها بفتح الفاء: فالمعنى: أن القسورة استنفرها، وحملها على النفور ببأسه
وشدته.
(1/558)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
سورة
القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة القيامة (75) : آية 36]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)
قال الشافعي رضي الله عنه: أي هملا لا يؤمر ولا ينهى؟
وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.
والقولان واحد. لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي. فهو سبحانه خلقهم للأمر
والنهي في الدنيا. والثواب والعقاب في الآخرة.
فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك
واستهجانه. وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين.
(1/559)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
سورة
النبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 33]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ
أَتْراباً (33)
فالكواعب: جمع كاعب، وهي الناهد. قاله قتادة ومجاهد والمفسرون. وقال الكلبي: هن
الفلكات اللواتي تكعب ثديهن. وتفلكت.
وأصل اللفظ: من الاستدارة. والمراد: أن ثديهن نواهد، كالرمان، ليست متدلية إلى
أسفل ويسمين نواهد وكواعب.
(1/560)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
سورة
التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا
الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3)
وقرأ قارئ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وفي الحاضرين أبو الوفا ابن عقيل. فقال له
قائل: يا سيدي، هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب، وزوج النفوس بقرنائها بالثواب
والعقاب، فلم هدم الأبنية وسيّر الجبال، ودكّ الأرض، وفطّر السماء، ونثر النجوم،
وكوّرت الشمس؟
فقال: إنما بني لهم الدار للسكنى والتمتع، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر
والاستدلال عليه: لحسن التأمل والتذكر. فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار
خرّبها، لانتقال الساكن منها. فأراد أن يعلمهم بأن الكون كان معموا بهم. وفي إحالة
الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وبيان المقدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد،
وزنادقة المنجمين،
(1/561)
وعبّاد
الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. فإذا رأوا
آلهتهم قد انهدمت، وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت، ومحالّها قد تشققت ظهرت
فضائحهم وتبين كذبهم، وظهر أن العالم مربوب محدث، مدبّر، له رب يصرفه كيف يشاء،
تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم.
فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار، ودلالة على عظيم عزته وقدرته، وسلطانه،
وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره، وإذعانها لمشيئته. فتبارك
الله رب العالمين.
(1/562)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
سورة
المطففين
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة المطففين (83) : آية 14]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قال: هو الذنب بعد الذنب. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب.
وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم.
وأصل هذا: أن القلب يصدأ عن المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير رانا، ثم
يغلب حتى يصير طبقا وقفلا وختما. فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد
الهدى والبصيرة انتكس، فصار أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاه عدوه، ويسوقه حيث أراد،
والمعافى من عافاه الله.
وقال في شفاء العليل.
وأما الران: فقد قال الله تعالى: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا
(1/563)
يَكْسِبُونَ
قال أبو عبيدة: غلب عليها. والخمر ترين على عقل السكران، والموت يرين على الميت،
فيذهب به، ومن هذا الحديث أسيفع جهينة وقول عمر: «فأصبح قدرين به» أي غلب عليه،
وأحاط به الرّين.
وقال أبو معاذ النحوي: الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع:
أن يطبع على القلب. وهو أشد من الرين. والأقفال أشد من الطبع. وهو أن يقفل على
القلب.
وقال الفراء: كثرت الذنوب والمعاصي منهم، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها.
وقال أبو إسحاق: ران غطّى، يقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا.
أي غشيه. قال: والرين كالغشاء يغشي القلب. ومثله العين.
قلت: أخطأ أبو إسحاق. فالغين ألطف شيء وأرقه.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في
اليوم مائة مرة»
وأما الرين والران: فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد: هو الذنب على
الذنب، حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب.
وقال مقاتل: غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة،
وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب
صقل قلبه.
وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه. وهو الران الذي ذكر الله كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقال عبد الله بن مسعود «كلما أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود القلب كله»
فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم، فكان سبب الران
منهم. وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب
(1/564)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
ومسببه،
لكن السبب باختيار العبد، والمسبب خارج عن قدرته واختياره.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 20]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما
عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)
أخبر تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم، تحقيقا. لكونه مكتوبا كتابة حقيقية. وخص تعالى
كتاب الأبرار: أنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين سادات
المؤمنين. ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار، تنويها بكتاب الأبرار وما وقع لهم
به، وإشهارا له وإظهارا لمكانتهم بين خواص خلقه، كما يكتب الملوك تواقيع يعظمون
بين الأمراء وخواص أهل المملكة، تنويها باسم المكتوب له، وإشهارا بذكره. وهذا نوع
من صلاة الله سبحانه وتعالى وملائكته على عبده.
(1/565)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
سورة
الانشقاق
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الانشقاق (84) : آية 19]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
أي حالا بعد حال. فأول أطباقه: كونه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنينا، ثم مولودا،
ثم رضيعا، ثم فطيما، ثم صحيحا أو مريضا، غنيا أو فقيرا، معافى أو مبتلى- إلى جميع
أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت، ثم يبعث، ثم يوقف بين يدي الله، ثم يصير
الى الجنة أو النار.
فالمعنى: لتركبن حالا بعد حال، ومنزلا بعد منزل، وأمرا بعد أمر.
قال سعيد بن جبير وابن زيد: لتكونن في الآخرة بعد الأولى، ولتصيرنّ أغنياء بعد
الفقر، وفقراء بعد الغنى.
وقال عطاء: شدة بعد شدة.
والطبق والطبقة: الحال. ولهذا يقال: كان فلان على طبقات شتّى.
قال عمرو بن العاص: «لقد كنت على طبقات ثلاث» أي أحوال.
(1/567)
قال
ابن الاعرابي: الطبق الحال على اختلافها.
وقد ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفة إلى وقت ميلاده. ثم نذكر
الطباقات بعد ولادته إلى آخرها.
(1/568)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
سورة
الطارق
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 7]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ
مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: التربة، موضع القلادة من الصدر، والجمع: ترائب.
وقال أبو عبيدة: الترائب معلق الحلق من الصدر، وهو قول جميع أهل اللغة، وقال عطاء
عن ابن عباس رضي الله عنهما. يريد صلب الرجل وترائب المرأة. وهو موضع قلادتها، وهو
قول الكلبي ومقاتل وسفيان وجمهور أهل التفسير وهو المطابق لهذه الأحاديث، وبذلك
أجرى الله العادة في إيجاد ما يوجده من أصلين، كالحيوان والنبات وغيرهما من
المخلوقات.
فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى، كما ينعقد النبات من الماء والتراب
والهواء. ولهذا قال تعالى: 6: 101 بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ
لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؟ فإن الولد لا يكون إلا من بين الذكر
وصاحبته.
(1/569)
ولا
ينقض هذا بآدم وحواء أبوينا، ولا بالمسيح، فإن الله سبحانه خلط تراب آدم بالماء
حتى صار طينا، ثم أرسل الله الهواء والشمس عليه حتى صار كالفخار، ثم نفخ فيه
الروح، وكانت حواء مستلّة منه، وجزءا من أجزائه.
والمسيح خلق من ماء مريم، ونفخ الملك. فكانت النفخة له كالأب لغيره.
(1/570)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة
والشمس وضحاها
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 10]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
المعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله، وأظهرها، وقد خاب وخسر من أخفاها،
وحقرها وصغرها بمعصية الله.
وأصل التدسية: الإخفاء. ومنه قوله تعالى: 16: 49 أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ
فالعاصي يدسّ نفسه بالمعصية، ويخفي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به،
قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق.
فالطاعة والبر: تكبر النفس وتعزها وتعليها، حتى تصير أشرف شيء وأكبره، وأزكاه
وأعلاه، ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى.
وبهذا الذل لله حصل لها العز والشرف والنمو، فما صغّر النفس مثل ومعصيته الله، وما
كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
(1/571)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
سورة
الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الضحى (93) : آية 11]
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
في هذا التحديث قولان.
أحدهما: أنه ذكر النعمة والإخبار بها. وقول العبد: أنعم الله علي بكذا وكذا.
قال مقاتل: يعني أشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة من الإيواء مع اليتم،
والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة. والتحدث بنعمة الله شكر.. كما
في حديث جابر مرفوعا «من صنع إليه معروف فليجز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن
عليه. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط، كان
كلابس ثوبي زور» .
فذكر أقسام الخلق الثلاثة. شاكر النعمة المثني بها، والجاحد لها، والكاتم لها،
والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها. فهو متحل بما لم يفعله.
(1/573)
وفي
أثر آخر مرفوع «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير. ومن لم يشكر الناس لم يشكر
الله. والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر.
والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» .
والقول الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله،
وتبليغ رسالته، وتعليم الأمة. قال مجاهد: هي النبوة.
وقال الزجاج: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله.
وقال الكلبي: هو القرآن، امره أن يقرأه على الناس.
والصواب: أنه يعم النوعين، إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها، والتحدث بها. وإظهارها
من شكرها.
(1/574)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
سورة
التكاثر
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ
لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ (8)
أخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم
الموت، فزاروا المقابر دون الموت، ولم يفيقوا من رقدة إلهاء التكاثر.
وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت، إيذانا بأنهم غير مستبقين ولا مستقرين في
القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين، يحضرونها مرة ثم يظعنون عنها، كما كانوا في
الدنيا كذلك زائرين لها، غير مستقرين فيها، ودار القرار هي الجنة أو النار.
ولم يعين سبحانه المتكاثر به، بل ترك ذكره، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر
بالشيء، لا المتكاثر به. كما يقال: شغلك اللعب واللهو،
(1/575)
ولم
يذكر ما يلعب ويلهو به، وإما إرادة الإطلاق، وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من
أسباب الدنيا، من مال أو جاه أو عبيد. أو إماء أو بناء، أو غراس، أو علم لا يبتغى
به وجه الله، أو عمل لا يقر به إلى الله. فكل هذا من التكاثر الملهي عن الله
والدار الآخرة.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله ابن الشخّير أنه قال: «انتهيت إلى النبي صلّى الله
عليه وسلّم، وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل
لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت؟» .
ثم توعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا، إذا عاين تكاثره قد ذهب هباء
منثورا، وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعا وغرورا، فوجد عاقبة تكاثره
اليه لا له، وخسر هنالك تكاثره. كما خسره أمثاله. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه،
وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره
في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره
في دنياه، ثم عذب في البرزخ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره. إذ
أفاد منه العطب، دون الغنيمة والسلامة. فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين،
ولم يحظ من علوه به في الدنيا إلا بأن حصل مع الأسفلين.
فيا له تكاثرا ما أثقله وزرا، وما أجلبه من غنى جالبا لكل فقر، وخيرا توصل به إلى
كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة
الله قبل وفاتي رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فقيل
له كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تلك كلمته يقولها. فلا يعول عليها.
ورجعته يسألها، فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولا «رب» استغاث بربه، ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين
يدي ربه تبارك وتعالى، وقال: «ارجعوني» ثم ذكر سبب سؤال الرجعة. وهو أن يستقبل
العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه
(1/576)
وسلطانه
وقوته وأسبابه، فيقال له «كلا» لا سبيل لك إلى الرجعة، وقد عمّرت ما يتذكر فيه من
تذكر.
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله، وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما
فاته- أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة: هو قائلها، لا حقيقة تحتها،
وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا. لو أجيب. وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه، وإنه
لو ردّ لعاد لما نهى عنه، وإنه من الكاذبين.
فحكمة أحكم الحاكمين، وعزته وعلمه وحمده، يأبى إجابته إلى ما سأل. فإنه لا فائدة
من ذلك. ولو رد لكانت حاله الثانية مثل حاله الأولى، كما قال تعالى: 6: 27 وَلَوْ
تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ
بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا
يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ.
وقوله: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابه محذوف، دل عليه ما تقدم،
أي لما ألهاكم التكاثر، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لمّا فقد
منكم علم اليقين، وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات، التي لا يشك ولا
يماري في صحتها وثبوتها. ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه
شيء عن موجبه، ولترتب أثره عليه. فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا
يكفي في تركه. فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد. فإذا صار
عين يقين، كجملة المشاهدات، كان تخلّف موجبه عنه اندر شيء.
وفي هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أهل بدر:
سرنا، وساروا إلى بدر، لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
(1/577)
قيل:
تأكيد لحصول العلم. كقوله: 78: 4، 5 كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ.
وقيل: ليس تأكيدا، بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت.
والعلم الثاني في القبر. وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.
ويدل على صحة هذا القول: عدة أوجه.
أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل. وقد أمكن اعتباره، مع فخامة المعنى
وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني: توسط «ثم» بين العلمين، وهي مؤذنة بتراخي ما بين المرتبين زمانا وخطرا.
الثالث: أن هذا القول مطابق للواقع. فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان
عليه، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما يقينا، هو فوق العلم الأول.
الرابع: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب
القبر.
قال الترمذي: حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج
بن منهال بن عمرو بن زر عن علي رضي الله عنه قال: «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى
نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ»
قال الواحدي: يعني أن معنى قوله: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» في القبر.
الخامس: أن هذا مطابق لما بعده من قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين: إطلاق الأولى، وتقييد
الثانية بعين اليقين، وتقدم الأولى، وتراخي الثانية عنها.
ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد، والنون الثقيلة
(1/578)
عن
سؤال النعيم. فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا: هل ناله من حلاله
ووجهه أم لا؟ فإذ تخلص من هذا السؤال، سئل سؤالا آخر: هل شكر الله تعالى عليه،
باستعانة به على طاعته أم لا؟
فالأول سؤال عن سبب استخراجه.
والثاني: عن محل صرفه. كما
في جامع الترمذي من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم قال: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن
عمره: فيما أفناه؟ وعن شبابه:
فيما أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وفيما ذا عمل فيما علم؟» .
وفيه أيضا: عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تزول قدما
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيما أفناه؟ وعن علمه: فيما عمل فيه؟
وعن ماله: من أين اكتسبه وفيما أبلاه؟»
وقال: هذا حديث صحيح «1» .
وفيه أيضا: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول
ما يسأل عنه العبد يوم القيامة- يعني من النعيم- أن يقال له: ألم نصحّ جسمك؟
ونرويك من الماء البارد؟» .
وفيه أيضا: من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: «لما نزلت لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول الله: فأي النعيم نسأل عنه، وإنما
هو الأسودان: التمر والماء؟ قال: أما إنه سيكون»
وقال: هذا حديث حسن.
وعن أبي هريرة نحوه. وقال «إنما هو الأسودان: العدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا.
فقال: إن ذلك سيكون» .
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي برزة برقم 2467.
(1/579)
وقوله
صلّى الله عليه وسلّم: «إن ذلك سيكون»
إما أن يكون المراد به: أن النعيم سيكون ويحدث لكم، وإما ان يرجع إلى السؤال، أي
إن السؤال يقع عن ذلك، وإن كان تمرا وماء، فإنه من النعيم.
ويدل عليه:
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح- وقد أكلوا معه رطبا ولحما، وشربوا من
الماء البارد- «هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة»
فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.
وفي الترمذي من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالعبد يوم
القيامة، كأنه بذج «1» فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول الله: أعطيتك وخوّلتك،
وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب جمعته، وثمرته، فتركته أوفر ما كان،
فأرجعني آتيك به. فإذا أعيد لم يقدم خيرا، فيمضي به إلى النار» «2» » .
وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا،
وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وترتع، أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا؟
فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني» .
وقال: هذا حديث صحيح.
وقد زعم طائفة من المفسرين: أن هذا الخطاب خاص بالكفار، وأنهم هم المسؤولون عن
النعيم. وذكروا ذلك عن الحسن ومقاتل. واختار الواحدي ذلك.
واحتج بحديث أبي بكر «لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله:
أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم،
__________
(1) أخرجه الترمذي بلفظ: يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنخ بذج.. برقم 2427.
(2) البذج ولد الضأن، وجمعه بذجان.
(1/580)
وبسر
قد ذنّب، وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما ذلك للكفار، ثم قرأ 43: 17 وَهَلْ نُجازِي إِلَّا
الْكَفُورَ؟.
وقال الواحدي: والظاهر يشهد بهذا القول. لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد
لهم. والمعنى أيضا يشهد بهذا القول، وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم، حيث
أشركوا بربهم وعبدوا غيره، فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم، توبيخا لهم، هل
قاموا بالواجب فيه، أم ضيعوا حق النعمة؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.
قال: وهذا معنى قول مقاتل، وهو قول الحسن. قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
قلت: ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص
الخطاب بالكفار، بل ظاهر اللفظ، وصريح السنة والاعتبار: يدل على عموم الخطاب لكل
من اتصف بأنه ألهاه التكاثر. فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك.
ويدل على ذلك:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قراءة هذه السورة «يقول ابن آدم: مالي مالي،
وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت- الحديث» وهو في صحيح مسلم
. وقائل ذلك قد يكون مسلما.
وقد يكون كافرا.
ويدل عليه أيضا: الأحاديث التي تقدمت، وسؤال الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم،
وفهمهم العموم، حتى قالوا له «وأي نعيم نسأل عنه، وإنما هو الأسودان» فلو كان
الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك.
وقال: مالكم ولها؟ إنما هي للكفار.
فالصحابة فهموا العموم، والأحاديث صريحة في التعميم. والذي أنزل عليه القرآن أقرهم
على فهم العموم.
(1/581)
وأما
حديث أبي بكر الذي احتج به أرباب هذا القول. فحديث لا يصح. والحديث الصحيح في تلك
القصة يشهد ببطلانه. ونحن نسوقه بلفظه.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ذات يوم أو ليلة. فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما في هذه
الساعة؟ قالا: الجوع، يا رسول الله. قال: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي
أخرجكما، قوما، فقاما معه. فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته
امرأته قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين فلان؟
قالت: ذهب ليستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وصاحبيه، فقال: الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني. قال: فانطلق
فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا من هذا. فأخذ المدية، فقال له رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: إياك والحلوبة. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق،
وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر:
والذي نفسي بيديه لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم
لم ترجعوا حتى أصبتم هذا النعيم» .
فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب، وأنه غير مختص بالكفار.
وأيضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع بين المسلمين كثيرا،
بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر. وخطاب القرآن عام لمن بلغه، وإن كان أول من دخل فيه
المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو متناول لمن بعدهم. وهذا معلوم
بضرورة الدين، وإن نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين.
فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى: 2:
(1/582)
183
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ونظائره، كما دخل تحته
الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين.
فقوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف.
وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر. ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن
ألهاه.
قيل: هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار، لأنه لم يمكنهم حمله على
العموم، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد، فخصوهم به.
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن في تناول الذم له
من حيث هو إنسان. كقوله: 17: 11 وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا 17: 67 وَكانَ
الْإِنْسانُ كَفُوراً 100: 6 إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ 33: 73
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا 22: 66 إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ ونظائره كثيرة.
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله
سبحانه هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه. وليس له ذلك من نفسه. بل ليس له من نفسه
إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه، لا
من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته، التي هي له من نفسه. ولا خروج له عن ذلك
إلا بتزكية الله له، وجعله مريدا للآخرة، مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا. فإن
أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد.
أما احتجاجهم بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار. فيقال:
الوعيد المذكور مشترك، وهو العلم عند معاينة الآخرة. فهذا أمر
(1/583)
يحصل
لكل أحد، لم يكن حاصلا له في الدنيا. وليس في قوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يقتضى
دخول النار، فضلا عن التخليد فيها. وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من
رآها. فإن أهل الموقف يرونها، ويشاهدونها عيانا، وقد أقسم الرب تبارك وتعالى أن لا
بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم 19: 71 وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا.
فليس في جملة هذه السورة ما ينفي عموم خطابها.
وأما ما ذكروه عن الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. فباطل قطعا، إما عليه
وإما منه. والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده. وبالله التوفيق.
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها. وما تضمنته من تحذير
الإنسان عن التكاثر الملهي، وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها
إلى آخرها بالكفار، ولا يليق ذلك بها.
ويكفي في ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها. والله أعلم.
وتأمل ما في هذا العتاب الراجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها،
إلى أن زار القبور، ولم يستيقظ من نوم الإلهاء، بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق
منه إلا وهو في عسكر الأموات.
وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتعين لك أن العموم مقصود.
وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به،
ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا، على اختلاف أجناسها وأنواعها.
وأيضا فإن التكاثر تفاعل، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكاثر صاحبه. فيكون أكثر
منه فيما يتكاثره به. والحامل له على ذلك: توهمه أن
(1/584)
العزة
للكاثر كما قيل:
ولست بالأكثر منهم غنى ... وإنما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من
الصحابة، ولم تضرهم. إذ لم يتكاثروا بها. وكل من كاثر إنسانا في دنياه، أو جاهه،
أو غير ذلك، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة.
فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه، وتكمل
به وتزكوا، وتصير مفلحة. فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه
المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.
وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم. فهذا تكاثر مله عن الله وعن الدار الآخرة.
وهو جارّ إلى غاية القلة.
فعاقبة هذا التكاثر: قلّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه.
وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى. وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن
يرى غيره أفضل منه قولا، وأحسن منه عملا، وأغزر منه علما. وإذا رأى غيره أكثر منه
في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو قادر على
المكاثرة بها. وليس هذا التكاثر مذموما، ولا قادحا في إخلاص العبد، بل هو حقيقة
المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره.
وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما. فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر له
قال: «والله لا أسابقك إلى شيء أبدا» .
(1/585)
فصل
ومن تأمل حسن موقع «كلا» في هذا الموضع، فإنها تضمنت ردعا لهم، وزجرا عن التكاثر،
ونفيا وإبطالا لما يؤملونه، من نفع التكاثر لهم، وعزتهم وكمالهم به، فتضمنت اللفظة
نهيا ونفيا، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم،
وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية،
وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم: من أين استخرجوها؟ وفيم صرفوها؟.
فلله ما أعظمها من سورة، وأجلها وأعظمها فائدة، وأبلغها موعظة وتحذيرا، وأشدها
ترغيبا في الآخرة، وتزهيدا في الدنيا على غاية اختصارها، وجزالة ألفاظها وحسن
نظمها. فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا.
فصل
وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين، بل هم مستودعون
في المقابر مدة، وبين أيديهم دار القرار. فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية
زائرين، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار؟ فهم فيها عابرو سبيل إلى محل
الزيارة، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر.
فهنا ثلاثة أمور: عبور السبيل في هذه الدنيا، وغايته زيارة القبور، وبعدها النقلة
إلى دار القرار.
(1/586)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة
الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الكافرون (109) : الآيات 3 الى 6]
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
«ما» على بابها لأنها واقعة على معبوده صلّى الله عليه وسلّم على الإطلاق، لأن
امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا
جاهلين به. فقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي لا أنتم تعبدون معبودي.
ومعبوده هو كان صلّى الله عليه وسلّم عارفا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب
بعضهم.
وقال آخرون: إن «ما» هنا مصدرية. لا موصولة، أي لا تعبدون عبادتي. ويلزم من
تبرئتهم من عبادته تبرئتهم من المعبود، لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشيء. إذ
المقصود: براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود
المعبود لا العبادة.
وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلّى الله عليه وسلّم حسدا له، وأنفة من أتباعه.
فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباعه صلّى الله عليه
وسلّم،
(1/587)
وحرصا
على مخالفته في العبادة. وعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ
«ما» لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله:
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ وفَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
فكذلك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ومعبودهم لا يعقل. ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ فاستوى اللفظان، وإن اختلف المعنيان، ولهذا
لا يجيء في الأفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا «من» كقوله قل أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ؟
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ؟ أَمَّنْ
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ؟ إلى أمثال ذلك.
وعندي فيه وجه خامس، أقرب من هذا وهو: أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه
أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى ب «ما» الدالة على هذا المعنى. كأنه قيل: ولا أنتم
عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظة «من» لكانت إنما تدل على
الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة.
ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد، وبين أن يكون تعريفا محضا أو وصفا
مقتضيا لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدا. وهذا معنى قوله النحاة:
إن «ما» تأتي لصفات من يعلم.
ونظيره فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لما كان المراد الوصف، وأن
السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح، وقصده- وهو الطيب- فتنكح المرأة الموصوفة به: أتى
ب «ما» دون «من» ، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.
وإذا قد أفضى الكلام بنا إلى هنا، فلنذكر فائدة ثانية على ذلك، وهي
(1/588)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
تكرير
الأفعال في هذه السورة.
ثم فائدة ثالثة، وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين، وأتى
في حقهم بالماضي.
ثم فائدة رابعة، وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل، وجاء في
نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.
ثم فائدة خامسة: وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا» دون «لن» .
ثم فائدة سادسة، وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي
عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد.
والنفي المحض ليس بتوحيد. وكذلك الإثبات بدون النفي. فلا يكون التوحيد إلا متضمنا
للنفي والإثبات، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله» .
فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض، وما سر ذلك؟.
وفائدة سابعة، وهي: ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن
معبوده؟.
وفائدة ثامنة، وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا،
والذين هادوا، كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ
ولم يجيء:
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟.
[سورة الكافرون (109) : آية 6]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وفائدة تاسعة، وهي: أن في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ معنى زائد على
النفي المتقدم، فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده، وقد فهم هذا من النفي فما
أفاد التقسيم المذكور؟.
وفائدة عاشرة، وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص، وتقديم ذكر
شأنه وفعله في أول السورة.
(1/589)
وفائدة
حادية عشرة، وهي: أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار:
أحدهما: براءته من معبودهم، وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدا.
الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم.
فهل هذا متاركة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف، أو التخصيص ببعض الكفار، أم
الآية باقية على عمومها وحكمها، غير منسوخة ولا مخصوصة؟.
فهذه عشر مسائل في هذه السورة. فقد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهي وقوع «ما» فيها
بدل «من» .
فلنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من
الخطأ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان
والله ورسوله بريئان منه.
فأما المسألة الثانية، وهي: فائدة تكرار الأفعال. فقيل فيها وجوه:
أحدها: أن قوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفى للحال والمستقبل، وقوله: أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابله، أي لا تفعلون ذلك. وقوله:
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى
في عبادتهم بلفظ الماضي فقال «ما عبدتم» فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ مقابله، أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده
أنا دائما.
وعلى هذا فلا تكرار أصلا. وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن
عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأخصره وأبينه، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها.
فلنقتصر عليه ولا نتعداه إلى غيره. فإن الوجوه
(1/590)
التي
قيلت في مواضعها، فعليك بها.
وأما المسألة الثالثة، وهي: تكرير الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ
الماضي حين أخبر عنهم.
ففي ذلك سر، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله لنبيه عن الزيغ والانحراف عن
عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده الحق واحد في الحال والمآل على
الدوام، لا يرضى به بدلا، ولا يبغي عنه حولا، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون
أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم. فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا،
وغدا غيره. فقال: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ يعني الآن وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ
ما أَعْبُدُ أي الآن أيضا.
ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة
لما عبدتم أيها الكافرون، وأشبهت «ما» هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل
بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما
عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط، وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها وهي موصولة. فما
أبعد الشرط منها؟.
قلنا: لم نقل: إنها نفسها شرط، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه لوقوعها على
غير معين وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى
الشرط باديا على صفحاته. فإذا قلت لرجل مّا- تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل
ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام: مهما
فعلت من شيء فإني لا أفعله؟.
وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى: قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا؟ كيف تجد معنى الشرطية فيه؟ حتى وقع الفعل بعد «من» بلفظ الماضي، والمراد
به المستقبل، وأن المعنى: من كان في المهد صبيا
(1/591)
كيف
نكلمه؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين: أن «كان»
نبيا. بمعنى «يكون» لكنهم لم يأتوا إليه من بابه، بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل،
وعزب فهم غيرهم عن هذا، للطفه ودقته.
فقالوا: «كان» زائدة.
والوجه ما أخبرتك به، فخذه عفوا، لك غنمه، وعلي غرمه. هل على «من» في الآية قد عمل
فيها الفعل وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله: وَلا أَنا
عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره.
فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله: وَلا
أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ بخلاف قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لبعد
«ما» فيها عن معنى الشرط، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه،
وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.
وأما المسألة الرابعة هي: أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء
بالفعل تارة وباسم الفاعل أخرى.
فذلك- والله أعلم- لحكمة بديعة وهي: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه
وفي كل وقت. فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا
النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال:
عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا لي. فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل. أي إن الوصف
الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما ثبت لمن خص
الله وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من
عابديه. وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك
(1/592)
يعبد
الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي اعتزلتم معبوديهم، إلّا الله، فإنكم لم تعتزلوه.
وكذا قال المشركون عن معبوديهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى
اللَّهِ زُلْفى فهم كانوا يعبدون معه غيره، فلم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى
الوصف لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها.
فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وأنه عبده
المستقيم على عبادته: إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى
غيره، ولم يشرك به أحدا في عبادته، وأنه إن عبده وأشرك معه غيره، فليس عابدا لله،
ولا عبدا له.
وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص، التي تعدل
ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه
الله فهما من عنده. فله الحمد والمنة.
وأما المسألة الخامسة، وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا» دون «لن» فلما
تقدم تحقيقه عن قرب أن النفي «بلا» أبلغ منه «بلن» وأنها أدل على دوام النفي وطوله
من «لن» وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد، وأن هذا ضد ما
فهمته الجهمية والمعتزلة من أن «لن» إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر
النفي في الاستقبال، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق،
فالإتيان «بلا» متعين هنا. والله أعلم.
وأما المسألة السادسة، وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض، فهذا هو خاصة هذه
السورة العظيمة، فإنها سورة البراءة من الشرك، كما جاء في وصفها: أنها براءة من
الشرك. فمقصودها الأعظم:
هو البراءة المطلوبة. وهذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا. فقوله: لا
(1/593)
أَعْبُدُ
ما تَعْبُدُونَ
براءة محضة وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إثبات أن له معبودا يعبده وحده،
وأنتم بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات، وطابقت قول إبراهيم إمام الحنفاء
43: 27 إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وطابقت قول
الفئة الموحدة 18: 16 وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
فانتظمت حقيقة «لا إله إلا الله» ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرنها
بسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في سنة الفجر وسنة المغرب.
فإن هذين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة
للعبد ولا فلاح له إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما
لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع
وَلَمْ يُولَدْ فيكون له أصل وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فيكون له نظير.
ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها.
فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق به من الشريك
أصلا وفرعا ونظيرا. فهذا توحيد العلم والاعتقاد.
والثاني: توحيد القصد والإرادة وهو: ألا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته
سواه، بل يكون وحده هو المعبود.
وسورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ مشتملة على هذا التوحيد.
فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يفتتح بهما
النهار في سنة الفجر، ويختتمه بهما في سنة المغرب.
وفي السنن «أنه كان يوتر بهما»
فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار.
ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة. وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتبعها
ببراءتهم من معبوده فتأمله.
وأما المسألة الثامنة. وهي: إثباته هنا بلفظ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ دون
(1/594)
يا
أيها الذين كفروا فسّره- والله أعلم- إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا
ثابتا له لازما لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرأ الله منه، ويكون هو أيضا بريئا من
الله، فحقيق بالموحد البراءة منه، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد
والمجانبة بحقيقة حاله، التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم، في غاية
المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم
والبراءة منكم ثابتة لي دائما أبدا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار في
مقابلة الكفر الثابت المستمر. وهذا واضح.
وأما المسألة التاسعة. وهي: ما هي الفائدة في قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم؟.
فيقال: في ذلك من الحكمة- والله أعلم- أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور
منه، ولا ينبغي له: أن يعبد معبوديهم، وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفاد
آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم
ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له: لا تدخل في حدى، ولا أدخل
في حدك، لك أرضك، ولي أرضي.
فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا، فأصابنا التوحيد
والإيمان، فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله
والكفر به، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم فيه، فتبارك من أحيا قلوب
من شاء من عباده بفهم كلامه.
وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب. رافلة في حللها، فإنها تسبي القلوب وتأخذ
بمجامعها، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزفّ إلى ضرير مقعد، فالحمد لله على
مواهبه التي لا منتهي لها، ونسأله إتمام نعمته.
وأما المسألة العاشرة. وهي: تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه
(1/595)
ونصيبه،
وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم.
فهذا من أسرار الكلام، وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها، فإن
السورة ما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضى كل بقسمه،
وكان المحق هو صاحب القسمة، وقد أبرز النصيبين وميّز القسمين، وعلم أنهم راضون
بقسمهم الدون، الذي لا أردأ منه ولا أدون، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف
والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء، فرضي مقاسمة بالسم، فإنه يقول
له: لا تشاركني في قسمي، ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك، ولي قسمي.
فتقدم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقدم وزعمت
أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم، فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم بهم،
والنداء على سوء اختيارهم، وقبح ما رضوه لأنفسهم من الحسن والبيان، ما لا يوجد في
ذكر تقديم قسم نفسه، والحاكم في هذا هو الذوق. والفطن يكتفي بأدنى إشارة، وأما
غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان.
ووجه ثان. وهو: أن مقصود السورة براءته صلّى الله عليه وسلّم من دينهم ومعبودهم،
هذا هو لبها ومغزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني، مكملا
لبراءته ومحققا لها، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة، ثم
جاء قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ مطابقا لهذا المعنى، أي لا أشارككم في دينكم، ولا أوافقكم
عليه، بل هو دين باطل تختصون أنتم به ولا أشارككم فيه أبدا. فطابق آخر السورة
أولها، فتأمل.
وأما المسألة الحادية عشرة. وهي: أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه، هل هو
إقرار؟ فيكون منسوخا، أولا نسخ في الآية ولا تخصيص؟.
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوها منسوخة
بآية السيف، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير
(1/596)
لهم
على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا
القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة، وعمومها نص محفوظ،
وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت
عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى
سورة الإخلاص كما تقدم.
ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال
بالسيف، فقالوا: هو منسوخ.
وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار، وهم من لا كتاب لهم. فقالوا:
هذا مخصوص بأهل الكتاب.
ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا، فلم يزل
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في
الإنكار عليهم، وعيب دينهم، وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد لهم كل وقت، وفي
كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم. وعيب دينهم، ويتركونه وشأنه، فأبى إلا
مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ
الله من هذا الزعم الباطل، إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم، وأن ما أنتم
عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا، فإنه دين باطل، فهو مختص بكم، لا نشارككم
فيه، ولا أنتم تشاركوننا في ديننا الحق. وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في
دينهم، فأين الإقرار؟ حتى يدعو النسخ أو التخصيص؟.
أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر
الله منهم عباده وبلاده.
وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل سنته وبين
أهل
(1/597)
البدع
المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته:
لكم دينكم ولنا ديننا. لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا: براءة
منهم ومن بدعتهم. وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.
فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة، والنبذة المثيرة إلى عظمة هذه
السورة، وجلالتها ومقصودها، وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه
الكلمات من مظان توجد فيه، بل هي استجلاء مما علمه الله وألهمه، بفضله وكرمه،
والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، وبالغت في استحسانها. وعسى
الله، المانّ بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين: أن يعين على
تعليق تفسير على هذا النمط وهذا الأسلوب.
وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة
وبالبيت المقدس. والله المرجو إتمام نعمته.
(1/598)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
سورة
الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
روى مسلم في صحيحه من حديث قيس بن حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: أعوذ برب الفلق. أعوذ
برب الناس» .
وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة: أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم قال له «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذون؟ قلت: بلى. قال:
قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» .
وفي الترمذي: حدثنا قتيبة أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن
عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوذتين في
دبر كل صلاة»
وقال: هذا حديث غريب.
وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود. عن عبد الله بن حبيب قال: «خرجنا في ليلة مطر
وظلمة، نطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي لنا، فأدركناه، فقال:
قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. فلم أقل شيئا. ثم قال: قل. قلت:
(1/599)
يا
رسول الله، ما أقول؟ قال: قل: قل هو الله أحد والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح،
ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي الترمذي أيضا: من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان. فلما
نزلتا أخذهما وترك ما سواهما» قال: وفي الباب عن أنس.
وهذا حديث غريب.
وفي الصحيحين عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه نفث
في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه. وما بلغت يداه من
جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به» .
قلت: هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. ذكره البخاري.
ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى
يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث. فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عليه بيده،
رجاء بركتها»
وكذلك
قال معمر عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان ينفث على
نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد
نفسه لبركتها. فسألت ابن شهاب: كيف كان ينفث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما
وجهه» ذكره البخاري
أيضا.
وهذا هو الصواب: أن عائشة كانت تفعل ذلك. والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرها
ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة
رواه بالمعنى. فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه
(1/600)
كان
يأمرها. وفرق بين الأمرين. ولا يلزم من كون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أقرها
على رقيته أن يكون هو مسترقيا. فليس أحدهما بمعنى الآخر. ولعل الذي كان يأمرها به:
إنما هو المسح على نفسه بيده. فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على
سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه. ويكون هذا غير قراءتها هي عليه، ومسحها على
بدنه. فكانت تفعل هذا وهذا. والذي أمرها به إنما هو نقل يده لا رقيته. والله أعلم.
والمقصود: الكلام على هاتين السورتين. وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل
الضرورة إليهما. وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر
والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من
حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان:
قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول. وهي أصول الاستعاذة.
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثانية: المستعاذ به.
والثالثة: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
فنعقد لهما ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الاستعاذة. والثاني: في المستعاذ به.
والثالث في المستعاذ منه.
الفصل الأول
اعلم أن لفظة «عاذ» وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة. وحقيقة معناها:
الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا.
(1/601)
وفي
الحديث «أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها،
قالت: أعوذ بالله منك. فقال لها. لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك» .
فمعنى «أعوذ» ألتجئ وأعتصم، وأتحرز.
وفي أصله قولان. أحدها: أنه مأخوذ من الستر.
والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه من الستر فقال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد
استتر بها «عوّذ» بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر
بأصلها وظلها: سموه عوّذا. فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه
واستجنّ به منه.
ومن قال: هو لزوم المجاورة قال: العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلّص منه
«عوّذ» لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم
به، ولزمه.
والقولان حق. والاستعاذة تنتظمهما معا. فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به،
معتصم به. قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا
وقصده به، فهرب منه. فعرض له أبوه في طريق هربه. فإنه يلقي نفسه عليه، ويستمسك به
أعظم استمساك. فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر
إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه.
وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات.
وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام،
والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه:
أمر لا تحيط به العبارة.
(1/602)
ونظير
هذا: التعبير عن معنى محبته وخشيته، وإجلاله ومهابته. فإن العبارة تقصر عن وصف
ذلك، ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة
الوقاع لعنّين لم تخلق له شهوة أصلا، فمهما قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به،
لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه. فإذا وصفتها لمن خلقت الشهوة فيه وركبت فيه عرفها
بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: «أعوذ» بتسكين العين وضم الواو، ثم أعلّ بنقل حركة الواو إلى
العين وتسكين الواو. فقالوا: أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في
اسم الفاعل: عائذ. وأصله: عاوذ. فوقعت الواو بعد ألف فاعل، فقلبوها همزة، كما
قالوا: قائم، وخائف. وقالوا في المصدر: عياذا بالله. وأصله: عواذا كلوذ، فقلبوا
الواو ياء لكسرة ما قبلها، ولم تحصنها حركتها. لأنها قد ضعفت بإعلالها في العمل.
وقالوا:
مستعيذ. وأصله: مستعوذ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، فلما كسرت
العين قبلت قبلها كسرة، فقلبت ياء على أصل الباب.
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله:
16: 98 فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ولم تدخل في الماضي
والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ بالله، وتعوّذت، دون أستعيذ، واستعذت؟.
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: أستعيذ بالله، أي أطلب العياذ به. كما
إذا قلت: أستخير الله: أي أطلب خيرته، وأستغفره.
أي أطلب مغفرته. وأستقيله. أي أطلب إقالته. فدخلت في الفعل إيذانا بطلب هذا المعنى
من المعاذ. فإذا قال المأمور: أعوذ بالله. فقد امتثل ما طلب منه. لأنه طلب منه
الالتجاء والاعتصام. وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان
المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما
(1/603)
بالله،
أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: استغفر الله. فقال: أستغفر الله. فإنه طلب منه أن يطلب
المغفرة من الله. فإذا قال: أستغفر الله، كان ممتثلا. لأن المعنى: أطلب من الله أن
يغفر لي.
وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين والتاء، فيقول: أستعيذ
بالله. أي أطلب منه أن يعيذني. ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب
إليه.
فالأول: مخبر عن حاله وعياذه بربه. وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه. كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني.
فحال الأول أكمل. ولهذا
جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في امتثال هذا الأمر «أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم» . و «أعوذ بكلمات الله التامات» . و «أعوذ بعزة الله وقدرته»
دون: أستعيذ، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ
بِرَبِّ النَّاسِ دون أستعيذ. فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ومعلوم أنه إذا
قيل:
قل الحمد لله، وقل: سبحان الله فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله، ولا
يقول: قل سبحان الله.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبيّ بن كعب على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعينه،
وأجابه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقد قال البخاري في صحيحه. حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عاصم وعبدة عن زرّ بن حبيش
قال: «سألت أبيّ بن كعب عن
(1/604)
المعوذتين؟
فقال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال. قيل لي، فقلت. فنحن نقول كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ثم قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان
حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش. وحدثنا عاصم عن زر قال «سألت أبيّ بن كعب.
قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا. فقال: إني سألت رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم؟ فقال: قيل لي، فقلت: قل.
فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: قيل لي قل، أو قيل لي هذا اللفظ. فقلت كما قيل
لي.
وتحت هذا من السر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس له في القرآن إلا إبلاغه، لا
أنه هو أنشأه من قبل نفسه، بل هو المبلغ له عن الله. وقد قال الله له:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فكان مقتضى البلاغ التام أن يقول: قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي
أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه بقوله «قيل لي، فقلت»
أي إني لست مبتدئا، بل أنا مبلغ، أقول كما يقال لي، وأبلغ كلام ربي كما أنزله
إليّ.
فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وقال كما قيل له. فكفانا
من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القرآن العربي وهذا النظم كلامه
ابتدأ هو به. ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ
القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى إنه لما قيل له «قل» قال هو «قل» لأنه
مبلغ محض. وما على الرسول إلا البلاغ.
الفصل الثاني
في المستعاذ. وهو الله وحده، رب الفلق. ورب الناس، ملك الناس، إله الناس. الذي لا
ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين،
ويعصمهم. ويمنعهم من شر ما
(1/605)
استعاذوا
من شره. وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه: أن استعاذته زادته طغيانا
ورهقا. فقال حكاية عن مؤمني الجن: 72: 6 وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً جاء في التفسير: أنه «كان
الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي
من شر سفهاء قومه. فيبيت في أمن وجوار منهم، حتى يصبح» أي فزاد الإنس الجن
باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا. يقولون: سدنا الانس والجن. و
«الرهق» في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم. فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما
كان محظورا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
واحتج أهل السنة على المعتزلة، في أن كلمات الله غير مخلوقة: بأن النبي صلّى الله
عليه وسلّم استعاذ
بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات»
وهو صلّى الله عليه وسلّم لا يستعيذ بمخلوق أبدا.
ونظير ذلك:
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق. وكذلك
قوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته»
وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»
وما استعاذ به النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مخلوق، فإنه لا يستعيذ إلا بالله،
أو بصفة من صفاته.
وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب، والملك، والإله.
وجاءت الربوبية فيهما مضافة إلى الفلق، وإلى الناس. ولا بد من أن يكون ما وصف به
نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة.
ويقتضى دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.
وقد قررنا في مواضع متعددة: أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى.
فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في هاتين السورتين «أنه ما تعوذ المتعوذون
بمثلهما»
فلا بد أن يكون الاسم المستعاذ به
(1/606)
مقتضيا
للمطلوب. وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.
وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث. وهو الشيء المستعاذ منه.
فتتبين المناسبة المذكورة. فنقول:
الفصل الثالث
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها. فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه. ويكون هذا الشر
هو الذنوب وموجباتها. وهو أعظم الشرين وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره. وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره،
وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجني. وغير المكلف: مثل الهوام وذوات الحمة «1»
وغيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على
المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه
فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة.
أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع شر الحاسد إذا حسد.
__________
(1) الحمة: كثبة. وهو الإسم والإبرة التي يضرب بها العقرب والحية أو بلوغ بها ونحو
ذلك.
(1/607)
فنتكلم
على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها،
وبماذا تدفع بعد وقوعها؟.
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر: ما هو؟ وما حقيقته؟.
فنقول: الشر. يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه.
وليس له مسمى سوى ذلك. فالشرور: هي الآلام وأسبابها. فالمعاصي والكفر والشرك
وأنواع الظلم: هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور. لأنها
أسباب للآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها. فترتب الألم عليها
كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق
بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها، ولا بد، ما لم يمنع من
السبية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب
المعاصي قوة الإيمان، وعظم الحسنات الماحية وكثرتها. فيزيد في كميتها أو كيفيتها
على أسباب العذاب. فيدفع الأقوى الأضعف.
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود: أن هذه الأسباب التي فيها لذة مّا هي شر، وإن نالت بها النفس مسرة
عاجلة. وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكل لذّ لأكله وطاب له
مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل. فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد، حتى لو لم يخبر
الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة والخاصة والعامة من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؟ فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة حفظها
عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه 13: 11 إِنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ
اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
(1/608)
8:
53 ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه:
إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله.
وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه. وجد ذلك كله من سوء
عواقب الذنوب، كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره. ولا زالت
عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه. فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار
في الحطب اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
والمقصود: أن هذه الأسباب شرور ولا بد.
وأما كون مسبباتها شرورا: فلأنها آلام نفسية وبدنية. فيجتمع على صاحبها مع شدة
الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات. ولو تفطن العاقل اللبيب
لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب
الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا،
حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور
عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول:
89: 24 يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي و 39: 56 يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللَّهِ.
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي صلّى الله عليه وسلّم
جميعها مدارها على هذين الأصلين. فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما
(1/609)
مؤلم،
وإما سبب يفضى إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع. وأمر بالاستعاذة منهن وهي:
«عذاب القبر، وعذاب النار» فهذان أعظم المؤلمات «وفتنة المحيا والممات، وفتنة
المسيح الدجال» وهذان سبب العذاب المؤلم. فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصا.
وذكر نوعي الفتنة.
لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت. ففتنة الحياة: قد يتراخى عنها العذاب مدة،
وأما فتنة بعد الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ.
فعادت الاستعاذة إلى الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابها.
وهذا من آكد أدعية الصلاة، حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في
التشهد الأخير. وأوجبه ابن حزم في كل تشهد. فإن لم يأت به فيه بطلت صلاته.
ومن ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل،
والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال»
فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان.
فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذّباتها. والفرق بينهما: أن الهم توقع
الشر في المستقبل. والحزن: هو التألم على حصول المكروه في الماضي، أو فوات
المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح. فإن تعلق بالماضي سمي حزنا. وإن تعلق
بالمستقبل سمى همّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم. لأنهما يستلزمان فوات المحبوب. فالعجز
يستلزم عدم القدرة. والكسل يستلزم عدم إرادته.
فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبن والبخل قرينان. لأنهما عدم النفع بالمال والبدن. وهما من أسباب الألم. لأن
الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة، لا تنال إلا بالبذل والشجاعة.
والبخل يحول بينه وبينها. فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.
(1/610)
وضلع
الدين، وقهر الرجال: قرينان. وهما مؤلمان للنفس معذبان لها. أحدهما: قهر بحق، وهو
ضلع الدين. والثاني: قهر بباطل، وهو غلبة الرجال.
وأيضا: فضلع الدين. قهر بسبب من العبد في الغالب. وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.
ومن ذلك تعوذه صلّى الله عليه وسلّم «من المأثم والمغرم» فإنهما يسببان الألم
العاجل.
ومن ذلك
قوله: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»
فالسخط: سبب الألم، والعقوبة: هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
فصل
والشر المستعاذ منه نوعان.
أحدهما: موجود، يطلب رفعه. والثاني: معدوم، يطلب بقاؤه على العدم، وأن لا يوجد.
كما أن الخير المطلق نوعان. أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه.
والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين. وعليها مدار طلباتهم.
وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران
في قولهم: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ: أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ. فَآمَنَّا، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا فهذا الطلب لدفع الشر الموجود. فإن الذنوب والسيئات شر، كما تقدم
بيانه. ثم قال:
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى
يتوفاهم عليه. فهذان قسمان.
(1/611)
ثم
قال: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم
إياه. ثم قال: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر
المعدوم، وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام، مرتبة أحسن ترتيب، قدم فيها النوعان
اللذان في الدنيا، وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت.
ثم أتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة، وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله، وأن
لا يخزيهم يوم القيامة.
فإذا عرف هذا.
فقوله صلّى الله عليه وسلّم في تشهد الخطبة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا»
يتناول الاستعاذة من شر النفس، الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة. فيسأل دفعه وأن لا
يوجد.
وأما قوله: «من سيئات أعمالنا» ففيه قولان.
أحدهما: أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت. فيكون الحديث قد تناول نوعي
الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد، ومن الشر الموجود. فطلب دفع الأول ورفع
الثاني.
والقول الثاني: أن سيئات الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها.
وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب.
والأول دفع السبب. فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن
الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الأول: تكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه. فإن
الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
وعلى الثاني: تكون من باب إضافة المسبب إلى سببه، والمعلول إلى علته. كأنه قال: من
عقوبة عملي. والقولان محتملان.
(1/612)
فتأمل
أيهما أليق بالحديث وأولى به. فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح. فيترجح الأول
بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس. فشر النفس يولد الأعمال السيئة، فاستعاذ من
صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة. وهذان جماع الشر، وأسباب كل ألم.
فمتى عوفي منهما عوفي من الشر بحذافيره.
ويترجح الثاني: بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل، وأسبابها شر
النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها.
والقولان في الحقيقة متلازمان. والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.
فصل
ولما كان الشر له سبب: هو مصدره، وله مورد ومنتهى. وكان السبب إما من ذات العبد،
وإما من خارج. ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره: كان هنا أربعة أمور: شر مصدره
من نفسه، ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى. وشر مصدره من غيره، وهو السبب فيه.
ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى-
جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق
رضي الله عنه: أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه «اللهم فاطر السموات
والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك
من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن اقترف على نفسي سوءا، أو أجرّه إلى مسلم»
فذكر مصدري الشر، وهما النفس والشيطان وذكر مورديه ونهايتيه وهما عوده على النفس،
أو على أخيه المسلم. فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظ وأحضره وأجمعه
وأبينه.
(1/613)
فصل
فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الأول: العام في قوله مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ و «ما» هاهنا موصولة ليس إلا.
والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله
وتكوينه، فإنه لا شرفيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في
أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى. فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص
فيه بوجه من الوجوه. وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها
ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر
سبحانه لاشتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى
ربنا وتقدس عن ذلك.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستق العقوبة منهم: هو خير محض إذ هو محض
العدل والحكمة، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم. فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم،
لا في فعله القائم به تعالى. ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه
خالق الخير والشر.
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال.
أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا
له، ولا فعلا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به،
وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه. فله وجهان، هو من أحدهما خير، وهو الوجه
الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة، لما فيه من الحكمة
البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس
تضيق عقولهم عن
(1/614)
مبادئ
معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني
الحميد، وفاعل الشر لا يفعله إلا لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي
لحمده. فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا.
وإن كان هو الخالق للخير والشر.
فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه
ومبدعه. فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته.
ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء.
وقد بسطت هذا في كتاب «التحفة المكية» وكتاب «الفتح القدسي» وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة.
أحدهما: أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى
عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي
القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي
لهم المضرّ بهم. فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد
من عباده، والثناء عليه والمحبة له.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في
أعراضهم. فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على
أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعله سعادة العباد في
معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان
إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي.
(1/615)
فالشر:
ما قام به من تلك العقوبة. وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل
فهو عين الخير والحكمة.
فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم. والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح
لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه: كما أنه
البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمته رحمته. بل
يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما
مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع
العقوبة والغضب، ولا أن يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته.
ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء،
ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها
أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها، كقوله تعالى:
68: 35، 36 أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ؟ وقوله: 45: 21 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
وقوله:
38: 28 أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ فأنكر سبحانه على من ظن
به هذا الظن السيء، ونزه نفسه عنه.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته
وعزته وإلهيته لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع
(1/616)
الرحمة
والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثلة وزيادة. فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته
فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى
من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمه
غاية الإكرام، ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من
فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى
المحال بها، وأحقها بالعقوبة؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم تلق، ولظهرت
مناقضة الحكمة، كما قال الشاعر:
نعمة الله لا تعاب، ولكن ... ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في
خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في
أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره. فهم مضادون له في كل ما يريد،
يحبون ما يبغضه، ويدعون إليه. ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض
الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله: كما قال تعالى: 25: 55 وَكانَ الْكافِرُ
عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً وقال: 18: 50 وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ؟.
فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره
باخبارنا: أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده
(1/617)
ولعنه،
وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني.
وقد لعنته وطردته، إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم، فواليتموه
وتركتموني. أفليس هذا من أعظم الغبن، وأشد الحسرة عليكم؟
ويوم القيامة يقول تعالى «أليس عدلا مني أن أولّي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار
الدنيا؟» .
فليعلمن أولياء الشيطان: كيف حالهم يوم القيامة: إذا ذهبوا مع أوليائهم، وبقي
أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ويقول «ألا تذهبون حيث ذهب الناس؟
فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه
ونعبده. فيقول: هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، إنه لا مثل له.
فيتجلى لهم ويكشف عن ساق، فيخرون له سجدا» .
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا
مع مولاهم الحق. فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه 8: 34
إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
ولا تستطل هذا البسط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله، ونزولها منه منازلها في
الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
فصل
إذا عرفت هذا عرفت معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر
ليس إليك»
وأن معناه أجل وأعظم من قول من قال: والشر لا يتقرب به إليك، وقول من قال: والشر
لا يصعد إليك، وأن هذا الذي قالوه- وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب
(1/618)
به
إليه- فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر. بخلاف لفظ المعصوم الصادق
المصدق. فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما، لا في
صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه.
وإن دخل في مخلوقاته كقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما
خَلَقَ.
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به. كقوله:
2: 254 وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقوله: 5: 111 وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وقوله: 4: 160 فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وقوله:
6: 146 ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وقوله: 43: 76 وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره. وإنما
المقصود التمثيل.
وتارة بحذف فاعله. كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن 72: 10 وَأَنَّا لا نَدْرِي:
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ. أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً؟
فحذفوا فاعل الشر ومريده، وصرحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه، والضلال منسوبا إلى
من قام به، والغضب محذوفا فاعله.
ومثله قول الخضر في السفينة 18: 79 فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفي الغلامين 18: 82
فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ ومثله قوله: 49: 7 وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ
وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيانَ فنسب هذا التزيين المحبوب إليه. وقال: 3: 14 زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فحذف الفاعل المزين. ومثله قول
الخليل صلّى الله عليه وسلّم: 26: 78- 82 الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ
(1/619)
فنسب
إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها، وهو المرض والخطيئة.
وهذا كثير في القرآن ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك
السر في مجيء 2: 121 الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ 2: 101 والَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ والفرق بين الموضعين، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في
سياق المدح. وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما. وذلك من أسرار
القرآن.
ومثله 35: 32 ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا
وقال:
42: 14 وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ وقال: 7: 168 فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى.
وبالجملة: فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة، وعدل. والشر ليس إليه.
فصل
وقد دخل في قوله تعالى: «من شر ما خلق» الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به
الشر: من حيوان، أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة أو دابة أو ريحا، أو صاعقة،
أي نوع كان من أنواع البلاء.
فإن قلت: فهل في «ما» هاهنا عموم؟.
قلت: فيها عموم تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر.
فعمومها من هذا الوجه. وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله. فإن الجنة
وما فيها ليس فيها شر. وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض. والخير كله حصل
على أيديهم، فالاستعاذة من شر ما خلق: تعم شر كل مخلوق فيه شر. وكل شر في الدنيا
والآخرة، وشر
(1/620)
شياطين
الإنس والجن وشر السباع والهوام، وشر النار والهواء، وغير ذلك.
وفي الصحيح: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ
بكلمات الله التامات من شر ما خلق. لم يضره شيء، حتى يرتحل منه» رواه مسلم.
وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر
ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدبّ عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية
والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد» .
وفي الحديث الآخر «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر: من شر
ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في
الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقا يطرق
بخير يا رحمن» .
فصل
الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب. فهذا خاص بعد عام. وقد قال أكثر المفسرين: إنه
الليل.
قال ابن عباس: الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق، ودخل في كل شيء وأظلم والغسق:
الظلمة. يقال: غسق الليل، وأغسق: إذا أظلم.
ومنه قوله تعالى: 17: 78 أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ وكذلك قال الحسن ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل.
والوقوب: الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس. وقال مقاتل: يعني ظلمة الليل إذا
دخل سواده في ضوء النهار.
وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر: أنه من البرد، والليل أبرد من النهار، والغسق:
البرد. وعليه حمل ابن عباس قوله تعالى: 38: 57 فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
وقوله: 78: 24، 25 لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
(1/621)
شَراباً
إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً
قال: هو الزمهرير يحرقهم ببرده. كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل:
هو الذي انتهى برده.
ولا تنافي بين القولين. فإن الليل بارد مظلم. فمن ذكر برده فقط، أو ظلمته فقط:
اقتصر على أحد وصفيه.
والظلمة في الآية أنسب لمكان الاستعاذة. فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى
بالاستعاذة من البرد الذي في الليل. ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور:
من شر الغاسق، الذي هو الظلمة. فناسب الوصف المستعاذ به المعنى المطلوب
بالاستعاذة. كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله.
فإن قيل: فما تقولون فيما
رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عائشة
قالت: «أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فنظر إلى القمر، فقال: يا عائشة،
استعيذي بالله من شر هذا. فإن هذا هو الغاسق إذا وقب»
قال الترمذي: هذا حسن صحيح. وهذا أولى من كل تفسير. فيتعين المصير إليه؟.
قيل: هذا التفسير حق، ولا يناقض التفسير الأول، بل يوافقه، ويشهد لصحته. فإن الله
تعالى قال: 17: 12 وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً
فالقمر هو آية الليل، وسلطانه فيه. فهو أيضا غاسق إذا وقب، كما أن الليل غاسق إذا
وقب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب. وهذا خبر صدق.
وهو أصدق الخبر، ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب. وتخصيص النبي صلّى الله
عليه وسلّم له بالذكر لا ينفي شمول الاسم لغيره.
ونظير هذا: قوله في المسجد الذي أسس على التقوى- وقد سئل عنه-
فقال: «هو مسجدي هذا»
ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قباء مؤسسا على التقوى مثل ذاك.
(1/622)
ونظيره
أيضا:
قوله في على وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين «اللهم هؤلاء أهل بيتي»
فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخول
في لفظ أهل بيته.
ونظير هذا:
قوله: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان،
ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا، ولا يعطن له فيتصدّق عليه»
وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف، بل ينفي اختصاص الاسم به، وتناول المسكين
لغير السائل أولى من تناوله له.
ونظير هذا:
قوله: «ليس الشديد بالصّرعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب»
فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرع الرجال، ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه
عند الغضب أولى.
ونظيره: الغسق، والوقوب، وأمثال ذلك.
فكذلك
قوله في القمر «هذا هو الغاسق إذا وقب»
لا ينفي أن يكون الليل غاسقا، بل كلاهما غاسق.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن المراد به القمر إذا خسف
واسودّ. وقوله: «وقب» أي دخل في الخسوف، أو غاب خاسفا؟.
قيل: هذا القول ضعيف. ولا نعلم به سلفا. والنبي صلّى الله عليه وسلّم لما أشار إلى
القمر،
وقال: «هذا الغاسق إذا وقب»
لم يكن خاسفا إذ ذاك. وإنما كان مستنيرا، ولو كان خاسفا لذكرته عائشة. وإنما
قالت «نظر إلى القمر، وقال: «هذا هو الغاسق»
ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه. فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار
صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها، لما فيه من التلبيس.
وأيضا: فإن اللغة لا تساعد على هذا. فلا نعلم أحدا قال: الغاسق:
(1/623)
القمر
في حال خسوفه.
وأيضا: فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة: إنه الخسوف، وإنما هو الدخول، من
قولهم: وقبت العين: إذا غارت، وركية وقباء: غار ماؤها. فدخل في أعماق التراب. ومنه
الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور. وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم: أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت،
فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها، وترتفع عند طلوعها؟.
قيل: إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل. وإن أراد: أن
اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما: فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده
وتنبيهه. وأما أن يختص به اللفظ به فباطل.
فصل
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو: أن
الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة. وفيه تنتشر الشياطين.
وفي الصحيح «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت
الشياطين» ولهذا قال: «فاكفتوا صبيانكم، واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء»
وفي حديث آخر «فإن الله يبث من خلقه ما يشاء» .
والليل هو محل الظلام. وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار. فإن
النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، وعلى أهل
الظلمة.
وروى أن سائلا سأل مسيلمة: كيف يأتيك؟ فقال: في ظلماء حندس.
وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم «كيف يأتيك؟ فقال: في مثل ضوء النهار»
(1/624)
فاستدل
بهذا على نبوته، وأن الذي يأتيه ملك من عند الله، وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان.
ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي
عندهم: هو السحر القوي التأثير. ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين
وبيوتهم ومأواهم، والشياطين تجول فيها، وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه. وكلما
كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع، وهو فيه أثبت وأمكن.
فصل
ومن هاهنا: تعلم السر في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع.
فإن الفلق: هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام، وعسكر
المفسدين في الليل. فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كنّ
أو غار، وتأوي الهوام إلى أجحرتها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها
ومحالها. فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر
عسكرها وجيشها.
ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب: أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار
في ظلمات كفرهم. قال الله تعالى: 2: 257 اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ
وقال تعالى: 6: 122 أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ
مِنْها؟ وقال في أعمال الكفار 24: 40 أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان
ونورهم 24: 36 اللَّهُ نُورُ
(1/625)
السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي
زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشاءُ.
فالإيمان كله نور، ومآله إلى نور، ومستقره في القلب المضيء المستنير، والمقترن
بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة. والكفر والشرك كله ظلمة، ومآله إلى
الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة، والمقترن بأهله الأرواح المظلمة.
فتأمل الاستعاذة برب الفلق من شر الظلمة، ومن شر ما يحدث فيها ونزّل هذا المعنى
على الواقع يشهد بأن القرآن، بل هاتان السورتان، من أعظم أعلام النبوة، وبراهين
صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومضادته لما جاء به الشياطين من كل وجه، وأن
ما جاء به ما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه، ولا يليق
بهم، ولا يتأتى منهم، ولا يقدرون عليه.
وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي
قصّر المتكلمون غاية التقصير في دفعها، وما شفوا في جوابها.
وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها. فلم يحوجنا إلى متكلم، ولا إلى
أصولي، ولا إلى نظّار. فله الحمد والمنّة، لا نحصي ثناء عليه.
فصل
واعلم أن الخلق كله فلق. وذلك أن «فلقا» فعل بمعنى مفعول، كقبض وسلب، وقنص: بمعنى
مقبوض ومسلوب ومقنوص. والله عز وجل 6: 96 فالِقُ الْإِصْباحِ و 6: 95 فالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوى وفالق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر،
والأرحام عن
(1/626)
الأجنّة،
والظلام عن الإصباح. ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة: فلقا وفرقا. يقال: هو أبيض من
فرق الصبح وفلقه.
وكما أن في خلقه فلقا وفرقا. فكذلك أمره كله فرقان، يفرق بين الحق والباطل. فيفرق
ظلام الباطل بالحق، كما يفرق ظلام الليل بالإصباح. ولهذا سمى كتابه «الفرقان»
ونصره فرقانا، لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه. ومنه فلقه البحر لموسى، وسماه
فلقا.
فظهرت حكمة الاستعاذة برب الفلق في هذه المواضع. وظهر بهذا إعجاز القرآن، وعظمته
وجلالته، وأن العباد لا يقدرون قدره، وأنه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
فصل
الشر الثالث: شر النّفاثات في العقد.
وهذا الشر هو شر السحر. فإن النفاثات في العقد: هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط،
وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر. والنفث: هو النفخ مع ريق. وهو
دون التّفل. وهو مرتبة بينهما.
والنفث: فعل الساحر. فإذا تكيّف نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين
عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس
ممازج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك. وقد تساعد هو والروح الشيطانية على
أذى المسحور. فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري. لا الأمري الشرعي.
فإن قيل: فالسحر يكون من الذكور والإناث، فلم خص الاستعاذة من الإناث دون الذكور؟.
قيل في جوابه: إن هذا خرج على السبب الواقع، وهو أن بنات لبيد
(1/627)
ابن
الأعصم سحرن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
هذا جواب أبي عبيدة وغيره. وليس هذا بسديد. فإن الذي سحر النبي صلّى الله عليه
وسلّم هو لبيد بن الأعصم، لا بناته، كما جاء في الصحيح.
والجواب المحقق: أن النفاثات هنا: هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء
النفاثات. لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة، والأرواح الشريرة
وسلطانه إنما يظهر منها. فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث، دون التذكير.
والله أعلم.
ففي الصحيح: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
طبّ، حتى إنه ليخيّل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه، وإنه دعا ربه، ثم قال:
أشعرت أن الله قد أفتاني فيما أستفتيه فيه؟ فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟
قال: جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ فقال أحدهما لصاحبه: ما
وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال فيما ذا؟
قال: في مشط ومشاطة، وجفّ طلع ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، بئر في بني زريق.
قالت عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجع إلى
عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قالت:
فقلت له:
يا رسول الله، هلّا أخرجته؟ قال: أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس
شرا. فأمر بها، فدفنت»
قال البخاري: وقال الليث وابن عيينة عن هشام «في مشط ومشاقة» .
ويقال: إن المشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة: من مشاقة الكتان.
قلت: هكذا في هذه الرواية: أنه لم يخرجه، اكتفاء بمعافاة الله له.
وشفائه إياه.
(1/628)
وقد
روى البخاري من حديث ابن عيينة قال: «أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل
عروة عن عروة. فسألت هشاما عنه؟ فحدثنا عن أبيه عن عائشة: كان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان: وهذا أشد ما
يكون من السحر، إذا كان كذا. فقال:
يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما
عند رأسي، والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب.
قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود. وكان منافقا.
قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاقة. قال: وأين؟ قال في جفّ طلع ذكر، تحت راعوفة في بئر
ذروان.
قال: فأتي البئر حتى استخرجه. فقال: هذه البئر التي أريتها، وكأنّ ماءها نقاعة
الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين. قال: فاستخرج. قالت.
فقلت: أفلا- أي تنشّرت-؟ قال: أمّا الله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من
الناس شرا» .
ففي هذا الحديث: أنه استخرجه. وترجم البخاري عليه: باب هل يستخرج السحر. وقال
قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طبّ، ويؤخذ عن امرأته أيحلّ عنه وينشر؟ قال:
لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح. فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه.
فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما. فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه: الأول
فيه: أنه لم يستخرجه. وحديث ابن جريج عن هشام فيه «أنه استخرجه» ولا تنافي بينهما.
فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شفي. وقول عائشة «هلا
استخرجته؟» أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه؟ فأخبرها بالمانع له من ذلك،
وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك، فيقع الإنكار، ويغضب للساحر قومه،
فيحدث الشر. وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة. فأمر بها
(1/629)
فدفنت،
ولم يستخرجها للناس. فالاستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة.
والذي يدل عليه: أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم
يجيء لينظر إليها ثم ينصرف، إذ لا غرض له في ذلك. والله أعلم.
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى بالقبول بينهم.
لا يختلفون في صحته. وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشد
الإنكار. وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا، حمل فيه على هشام. وكان
غاية ما أحسن القول فيه: أن قال: غلط، واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء.
قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يجوز أن يسحر. فإنه يكون تصديقا لقول
الكفار 17: 47 25: 8 إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً.
قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى 17: 101 إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً
وكما قال قوم صالح له 26: 153 إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وكما قال قوم
شعيب له 26: 85 إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ.
قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا. فإن ذلك ينافي حماية الله لهم، وعصمتهم
من الشياطين.
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم
يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه. فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد
رواه غير هشام عن عائشة. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم
فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة. والقصة مشهورة عن أهل التفسير والسنن والحديث
والتاريخ والفقهاء. وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن
(1/630)
حباب
عن زيد بن أرقم قال «سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك
أياما. قال: فأتاه جبريل، فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، وعقد لذلك عقدا. فأرسل
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا. فاستخرجها، فجاء بها، فجعل كلّما حلّ عقدة
وجد لذلك خفّة. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال. فما ذكر
ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط»
وقال ابن عباس وعائشة «كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فدنت إليه اليهود. فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم،
وعدّة أسنان من مشطه. فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولّى ذلك لبيد بن الأعصم:
رجل من اليهود. فنزلت هاتان السورتان فيه» .
قال البغوي: وقيل «كانت مغروزة بالأبر. فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين. وهما
أحد عشر آية: سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة،
حتى انحلت العقد كلها. فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنما أنشط من عقال» قال:
وروى أنه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان.
قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه. ولا نقص في
ذلك، ولا عيب بوجه ما. فإن المرض يجوز على الأنبياء. وكذلك الإغماء. فقد أغمى عليه
صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ووقع حين انفكّت قدمه وجحش شقّه وهذا من البلاء
الذي يزيده الله به رفعة في درجاته.
ونيل كرامته. وأشد الناس بلاء الأنبياء. فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به: من
القتل، والضرب، والشتم، والحبس. فليس ببدع أن يبتلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من
بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه. وابتلى بالذي ألقى على ظهره
السّلا «1» وهو ساجد، وغير ذلك. فلا نقص عليهم. ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم،
وعلو درجاتهم عند الله.
__________
(1) السلاما يخرج من بطن الناقة ونحو ما مع الولد. مما علن في الرحم لحفظه.
[.....]
(1/631)
قالوا:
وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري «أن جبريل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقال: يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم. فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر
كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك»
فعوّذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد، لما اشتكى. فدل على أن هذا التعويذ مزيل
لشاكيته صلّى الله عليه وسلّم، وإلّا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره.
وقالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها فلا حجة لكم فيها.
أما قوله تعالى عن الكفار: إنهم قالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا
مَسْحُوراً وقول قوم صالح وشعيب لهما إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقيل:
المراد به من له سحر، وهي الرّثة، أي إنه بشر مثلهم، يأكل ويشرب، ليس بملك، وليس
المراد به السحر.
وهذا جواب غير مرض. وهو في غاية البعد. فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر
بمسحور، ولا يعرف هذا في لغة من اللغات. وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ
البشر، فقالوا: 36: 15 ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا و 23: 48 أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا و 17: 94 أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. وأما المسحور
فلم يريدوا به ذا السّحر، وهي الرئة. وأيّ مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع؟.
ثم كيف يقول فرعون لموسى إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً؟
أفتراه ما علم أن له سحرا، وأنه بشر؟.
ثم كيف يجيبه موسى بقوله: 17: 102 إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً
ولو أراد بالمسحور: أنه بشر لصدّقه موسى، وقال: نعم، أنا بشر أرسلني الله إليك،
كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم 14: 10 إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا
فقالوا: 14: 11 إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ولم ينكروا ذلك.
(1/632)
فهذا
الجواب في غاية الضعف.
وأجابت طائفة، منهم ابن جرير وغيره: بأن المسحور هنا هو معلّم السحر الذي قد علمه
إياه غيره. فالمسحور عنده: بمعنى ساحر، أي عالم بالسحر.
وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة. وهو أن من علّم السحر يقال له مسحور. ولا يكاد هذا
يعرف في الاستعمال، ولا في اللغة. وإنما المسحور من سحره غيره، كالمطبوب والمضروب
والمقتول وبابه. وأما من علّم السحر فإنه يقال له: ساحر، بمعنى أنه عالم بالسحر،
وإن لم يسحر غيره. كما قال قوم فرعون لموسى 7: 109 إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ
ففرعون قذفه بكونه مسحورا، وقومه قذفوه بكونه ساحرا.
فالصواب: هو الجواب الثالث. وهو جواب صاحب الكشاف وغيره:
أن «المسحور» على بابه. وهو من سحر حتى جنّ. فقالوا: مسحور، مثل مجنون أي زائل
العقل، لا يعقل ما يقول. فإن المسحور الذي لا يتّبع: هو الذي فسد عقله، بحيث لا
يدرى ما يقول. فهو كالمجنون. ولهذا قالوا فيه 44: 14 مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ فأما من
أصيب في بدنه بمرض من الأمراض يصاب به الناس، فإنه لا يمنع ذلك من اتّباعه. وأعداء
الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان، وإنما قذفوهم بما يحذّرون به سفهاءهم من
أتباعهم. وهو أنهم قد سحروا، حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون، بمنزلة المجانين.
ولهذا قال تعالى: 17: 48 انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ؟ فَضَلُّوا.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا مثّلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة،
والمسحور أخرى. فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيّره طريقا يسلكه، فلا
يقدر عليه. فإنه أيّ طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة. فهو متحير في أمره، لا يهتدي
سبيلا، ولا يقدر على سلوكها.
فهكذا حال أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه، حتى ضربوا له أمثالا، برّأه
الله منها.
(1/633)
وهو
أبعد الله عنها. وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان.
وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم
ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته،
وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على
الرسل والأنبياء، صبروا ورضوا، وتأسّوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعدّ
لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير
الأرض منهم. فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم. وله
الحكمة البالغة، والنعمة السابغة لا إله غيره، ولا رب سواه.
وقد دل قوله: مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وحديث عائشة المذكور على
تأثير السحر، وأن له حقيقة.
وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
وقالوا: إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض، ولا قتل، ولا حل، ولا عقد.
قالوا: وإنما ذلك تخييل لأعين الناظرين، لا حقيقة له سوى ذلك.
وهذا خلاف ما تواترت به الآراء عن الصحابة والسلف، واتفق عليه الفقهاء، وأهل التفسير
والحديث. وما يعرفه عامة العقلاء.
والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وعقدا وحبا وبغضا ونزيفا وغير ذلك من الآثار موجود،
تعرفه عامة الناس. وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه، وقوله تعالى: وَمِنْ
شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال
غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا، كما يقوله هؤلاء. لم
يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه.
وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم
(1/634)
حتى
يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغيير في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في
تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم؟ وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية
والتغيير الواقع في صفة أخرى من صفات النفس والبدن؟ فإذا غير إحساسه حتى صار يرى
الساكن متحركا، والمتصل منفصلا، والميت حيا، فما المحيل لأن يغير صفات نفسه، حتى
يجعل المحبوب إليه بغيضا، والبغيض محبوبا، وغير ذلك من التأثيرات. وقد قال تعالى
عن سحرة فرعون إنهم 7: 155 سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ
بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فبين سبحانه أن أعينهم سحرت. وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في
المرئي، وهو الحبال والعصيّ، مثل أن يكون السحرة استغاثت بأرواح حركتها، وهي
الشياطين. فظنوا أنها تحركت بأنفسها. وهذا كما إذا جرّ من لا تراه حصيرا أو بساطا
فترى الحصير والبساط ينجر، ولا ترى الجار له، مع أنه هو الذي يجره، فهكذا حال
الحبال والعصي التبستها الشياطين، فقلبتها كتقليب الحية. فظن الرائي أنها تقلبت
بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي. حتى
رأى الحبال والعصي تتحرك، وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا،
فتارة يتصرف في نفس الرائي وإحساسه، حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به، وتارة يتصرف في
المرئي باستغاثته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها.
وأما ما يقوله المنكرون: من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها،
مثل الزئبق وغيره، حتى سعت. فهذا باطل من وجوه كثيرة. فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا
خيالا، بل حركة حقيقية. ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس، ولا يسمى ذلك سحرا، بل
صناعة من الصناعات المشتركة. وقد قال تعالى: 20: 66 فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ولو كانت تحركت
بنوع حيلة- كما يقوله المنكرون- لم يكن هذا من السحر في شيء. ومثل هذا لا يخفى.
(1/635)
وأيضا
لو كان ذلك بحيلة- كما قال هؤلاء- لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزيبق.
وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها.
وأيضا: فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة، بل يكفي فيها حذاق
الصاع. ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة، وخضوعه لهم، ووعدهم بالتقريب
والجزاء.
وأيضا: فإنه لا يقال في ذلك 20: 71، 26: 49 إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها.
وبالجملة: فبطلان هذا أظهر أن يتكلف رده، فلنرجع إلى المقصود.
فصل
الشر الرابع: شر الحاسد إذا حسد. وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي
المحسود. فنفس حسده شر متصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه.
فإن الله تعالى قال: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فحقق الشر منه عند صدور
الحسد. والقرآن ليس فيه لفظة مهملة.
ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد، كالضارب، والشاتم، والقاتل
ونحو ذلك. ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود، لاه عنه، فإذا
خطر على ذكره وقلبه انبعث نار الحسد من قلبه إليه، وتوجهت إليه سهام الحسد من
قبله. فيتأذى المحسود بمجرد ذلك. فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من
الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره بمقدار
توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
فقوله تعالى: إِذا حَسَدَ بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
(1/636)
وقد
تقدم في حديث أبي سعيد الصحيح: رقية جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها «بسم
الله أرقيك. من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك» فهذا فيه
الاستعاذة من شر عين الحاسد.
ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، إذا لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه، كما ينظر إلى
الأرض والجبل وغيره، لم يؤثر فيه شيئا، وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسه
الخبثة وانسمّت، واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت
في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد. فربما أعطبه وأهلكه، بمنزلة من
فوّق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا. وربما صرعه وأمرضه. والتجارب عند الخاصة
والعامة بهذا أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة. وهي في ذلك بمنزلة الحيّة التي
إنما يؤثر سمها إذا عضّت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك
الكيفية السمّ، فتؤثر في اللديغ، وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى
تؤثر بمجرد نظرة. فتطمس البصر، وتسقط الحبل. كما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم
في الأبتر، وذي الطّفيتين منها.
فقال «اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل»
فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت
بكيفيتها الغضبية، وانسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟ فلله كم من قتيل؟ وكم من
سليب؟ وكم من معافى عاد مضنى على فراشه، يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو؟ فصدق.
ليس هذا الداء من علم الطبائع. هذا من علم الأرواح وصفاتها. وكيفياتها ومعرفة
تأثيراتها في الأجسام والطبائع، وانفعال الأجسام عنها.
وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس، والمحجوبون منكرون له. ولا يعلم تأثير ذلك
وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه.
وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى؟ وهل الانفعال والتأثير، وحدوث ما
(1/637)
يحدث
عنها من الأفعال العجيبة، والآثار الغريبة إلا من الأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة
الصانع؟ فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع.
ومن له أدنى فطنة وتأمل لأحوال العالم وقد لطفت روحه، وشاهدت أحوال الأرواح
وتأثيرتها، وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها. وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، خالق
الأسباب والمسببات- رأى عجائب في الكون، وآيات دالة على وحدانية الله، وعظمة
ربوبيته، وأن ثم عالما آخر تجرى عليه أحكام أخر، تشهد آثارها. وأسبابها غيب عن
الأبصار.
فتبارك الله رب العالمين. وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر وآياته
أعجب.
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من
اللحم؟ فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال
العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات؟
كيف ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواء هو والتراب؟ وهل يخاطبك من الإنسان أو
يراك أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخفّ عليك أو يثقل، ويؤنسك أو يوحشك إلا ذلك
الأمر الذي هو وراء الهيكل المشاهد بالبصر؟.
فرب رجل عظيم الهيولى كبير الجثة. خفيف على قلبك، حلو عندك. وآخر لطيف الخلقة،
صغير الجثة، أثقل على قلبك من جبل. وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها،
وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها.
وبالجملة: فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد:
إنما هي للأرواح أصلا والأشباح تبعا.
(1/638)
فصل
والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء.
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه.
فالعائن: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته.
والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا.
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد أو حيوان، أو زرع أو مال، وإن
كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه. فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب
وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية: تؤثر في العين.
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: 58: 51 وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ: إنه الإصابة
بالعين. أرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فنظر إليه قوم من
العائنين، وقالوا: ما رأينا مثله، ولا مثل حجته. وكان طائفة منهم تمر به الناقة
والبقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل والدرهم وائتنا بشيء من
لحمها. فما تبرح حتى تقع. فتنحر.
وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه،
فتمر به الإبل، فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه. فما تذهب إلا
قليلا حتى يسقط منها طائفة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم بالعين، ويفعل به كفعله في غيره. فعصم الله رسوله وحفظه. وأنزل عليه
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ هذا قول طائفة.
وقالت طائفة أخرى، منهم ابن قتيبة: ليس المراد: أنهم يصيبونك
(1/639)
بالعين،
كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن
نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك. قال الزجاج: يعني من شدة العداوة
يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك.
وهذا مستعمل في الكلام. يقول القائل: نظر إليّ نظرا كاد يصرعني.
قال: ويدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهم كانوا يكرهون
ذلك أشدّ الكراهية، فيحدّون إليه النظر بالبغضاء.
قلت: النظر الذي يؤثر في المنظور: قد يكون سببه شدة العداوة والحسد فيؤثر نظره
فيه، كما تؤثر نفسه بالحسد، ويقوى تأثير النفس عند المقابلة. فإن العدو إذا غاب عن
عدوه فقد يشغل نفسه عنه. فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه، وتوجهت النفس بكليتها
إليه. فيتأثر بنظره، حتى إن من الناس من يسقط، ومنهم من يحمّ، ومنهم من يحمل إلى
بيته. وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا.
وقد يكون سببه الإعجاب. وهو الذي يسمونه: بإصابة العين. وهو أن الناظر يرى الشيء
رؤية إعجاب به أو استعظام، فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين. وهذا هو الذي
يعرفه الناس من رؤية المعين. فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه، فيصاب بذلك.
قال عبد الرزاق: عن معمر عن هشام بن قتيبة قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «العين حق. ونهى عن الوشم» .
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة «أن أسماء بنت عميس
قالت: يا رسول الله، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال: نعم. فلو كان
شيء يسبق القضاء لسبقته العين» .
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العداوة. فهو نظر يكاد يزلقه.
(1/640)
لولا
حفظ الله وعصمته. فهذا أشد من نظر العائن، بل هو جنس من نظر العائن فمن قال: إنه
من الإصابة بالعين أراد: هذا المعنى. ومن قال: ليس به. أراد: أن نظرهم لم يكن نظر
استحسان وإعجاب. فالقرآن حق.
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ من
عين الإنسان»
فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها.
وفي الترمذي من حديث على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة
التميمي حدثني أبي: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا شيء في
الهام. والعين حق» .
وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم يقول: لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا»
وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. وهذا حديث صحيح.
والمقصود: أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد. ولهذا- والله أعلم- إنما جاء في
السورة ذكر الحساد دون العائن. لأنه أعم. فكل عائن حاسد ولا بد. وليس كل حاسد
عائنا. فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن. وهذا من شمول القرآن وإعجازه
وبلاغته.
وأصل الحسد: هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها.
فالحاسد عدو النعم. وهذا الشر هو من نفسه وطبعها. ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها، بل
هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر. فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى، واستعانة
بالأرواح الشيطانية. فلهذا- والله أعلم- قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر.
لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن. فالحسد من شياطين
الإنس والجن، والسحر من النوعين.
(1/641)
وبقي
قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب. فذكره في السورة الأخرى، كما
سيأتي الكلام عليها إن شاء الله. فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل
منه. بل هو أذى من أمر عنه. ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق.
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له، وقبوله منه.
ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها
الأفعال، والعزم الجازم. لأن ذلك بسعيه وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا
يعاقب عليه. إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته. فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة، وقرن
بين شر الساحر والحاسد في سورة. وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة.
ولهذا كان اليهود أسحر الناس وأحسدهم. فإنهم لشدة خبثهم: فيهم من السحر والحسد ما
ليس في غيرهم. وقد وصفهم الله في كتابه بهذا وهذا. فقال: 2: 102 وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى
يَقُولا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَلا تَكْفُرْ. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلاقٍ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر
السحر، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر
خشية الالتباس. وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما- في موضع غير هذا.
وإذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا
يقوم غيرهما مقامهما.
(1/642)
وأما
وصفهم بالحسد فكثير في القرآن. كقوله تعالى: 4: 55 أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى
ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وفي قوله: 2: 109 وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.
والشيطان يقارن الساحر والحاسد، ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين
بلا استدعاء منه للشيطان. لأن الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه. لأنه
يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوال نعم الله عنهم، كما أن إبليس حسد آدم
لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدا. فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فهو يطلب
من الشيطان أن يعينه ويستعينه. وربما يعبده من دون الله، حتى يقضي له حاجته، وربما
يسجد له.
وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد
معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ. وكان سحر عباد الأصنام
أقوى من أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام. وهم الذين
سحروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الموطأة عن كعب قال: «كلمات أحفظهن من التوراة، لولاها لجعلتني يهود حمارا:
أعوذ بوجه الله العظيم، الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا
يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم: من شر ما
خلق، وذرأ، وبرأ» .
والمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه
للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه، ويزين له حسده، ويأمره بموجبه. والساحر بعلمه،
وكسبه، واستعانته بالشياطين.
(1/643)
فصل
وقوله: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ يعم الحاسد من الجن والإنس.
فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. كما حسد إبليس
أبانا آدم، وهو عدو لذريته، كما قال تعالى: 35: 6 إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص
بشياطين الإنس. والوسواس يعمهما، كما سيأتي بيانهما.
والحسد يعمهما أيضا. فكلا الشيطانين حاسد موسوس. فالاستعاذة من شر الحاسد
تتناولهما جميعا.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم.
وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها: شرا عاما. وهو شر ما خلق. وشر الغاسق إذا وقب.
فهذان نوعان.
ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان أيضا. لأنهما من شر النفس الشريرة. وأحدهما
يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر. وقلّما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان،
وتقرب إليه: إما بذبح باسمه، أو بذبح يقصد به هو، فيكون ذبحا لغير الله، وبغير ذلك
من أنواع الشرك والفسوق.
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان. فهو عبادة له، وإن سماه بما سماه به. فإن
الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه. فمن سجد لمخلوق، وقال:
ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة، كما أقبّلها بالنعم، أو هذا
إكرام: لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما يشاء.
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به، وتقرب إليه بما يحب.
فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداما، وصدق. هو استخدام من الشيطان
له. فيصير من خدم الشيطان وعابديه. وبذلك يخدمه
(1/644)
الشيطان،
لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة. فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده، كما يفعل
هو به.
والمقصود: أن هذا عبادة منه للشيطان. وإنما سماه استخداما. قال تعالى: 36: 60
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ؟
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وقال تعالى: 34: 40، 41 وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟
قالُوا: سُبْحانَكَ، أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ
الْجِنَّ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ.
فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين. وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة. ولبئس
المولى، ولبئس العشير. فهذا أحد النوعين.
والنوع الثاني: من يعينه الشيطان، وإن لم يستعن هو به. وهو الحاسد. لأنه نائبة
وخليفته. لأن كليهما عدو نعم الله، ومنغصها على عباده.
فصل
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله «إذا حسد» لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن
يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، بل يجد في
قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله. فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا
من عصمه الله.
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك لإخوة يوسف.
لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها، بل يعصيها
طاعة الله وخوفا وحياء منه، وإجلالا له. أن يكره نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة
لله وبغضا لما يحب الله، ومحبة لما يبغضه. فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها
بالدعاء للمحسود، وتمنى زيادة الخير له، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده، ورتب على
حسده مقتضاة: من الأذى بالقلب، واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم. هذا كله حسد
(1/645)
تمنى
الزوال.
وللحسد ثلاث مراتب: إحداها هذه.
والثانية: تمنى استصحاب عدم النعمة. فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن
يبقى على حاله من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه. فهو
يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب. فهذا حسد على شيء مقدر. والأول حسد على شيء
محقق.
وكلاهما حاسد، عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى، وعند الناس. ولا
يسود أبدا، ولا يواسى فإن الناس لا يسوّدون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم. فأما
عدو نعمة الله عليهم فلا يسوّدونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء
والمصائب التي ابتلاهم الله بها. فهم يبغضونه وهو يبغضهم.
والحسد الثالث: حسد الغبطة، وهو تمنى أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول
النعمة عنه. فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة، وقد قال
تعالى: 83: 26 وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل
آتاه الله مالا، وسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة. فهو يقضى بها
ويعلمها الناس»
فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها،
والدخول في جملتهم، وأن يكون من سبّاقهم وعليتهم ومصلّيهم لا من فساكلهم «1» فتحدث
له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمنى دوام
نعمة الله عليه. فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد. فإنها تتضمن التوكل على الله،
__________
(1) الفسكل بوزن قنفذ وذبرج الفرس الذي يجيء في حلبة السباق آخر الخيل.
(1/646)
والالتجاء
إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة. فهو مستعيذ بولي النعم وموليها. كأنه
يقول: يا من أولاني نعمته وأسداها إليّ أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني،
ويزيلها عني. وهو حسب من توكل عليه، وكافى من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف،
ويجير المستعير. وهو نعم المولى ونعم النصير. فمن تولاه واستنصر به، وتوكل عليه
وانقطع بكليته إليه، تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه أمّنه مما يخاف
ويحذر.
وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع 65: 2، 3 وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته. فإن الله بالغ أمره. وقد
جعل الله لكل شيء قدرا. لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ومن لم يخفه أخافه من كل شيء، وما
خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله. قال تعالى: 16: 98، 99 فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما
سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ
وقال: 3: 175 إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. فَلا
تَخافُوهُمْ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يخوفكم بأوليائه، ويعظمهم في
صدوركم. فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.
فصل
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب.
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة،
والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به: سمع
الإجابة، لا السمع العام. فهو مثل قوله: «سمع الله لمن حمده» وقول الخليل صلّى
الله عليه وسلّم: 14: 39 إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ومرة يقرنه بالعلم،
ومرة بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه،
ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ
(1/647)
ذلك.
فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا
المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، لينبسط أمل
المستعيذ، ويقبل بقلبه على الدعاء.
وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه
بلفظ «السميع العليم» في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين
يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ «السميع البصير» في سورة حم المؤمن. فقال: 40: 56
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ
فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر.
وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العلم. فأمر
بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى
بالبصر، ويدرك بالرؤية. والله أعلم.
السبب الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى الله تولّى الله حفظه،
ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: 3: 121 وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عباس «احفظ الله يحفظك، احفظ الله
تجده تجاهك»
فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان الله حافظه وأمامه فممن
يخاف؟ ومن يحذر؟.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه
أصلا. فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله ولا يستطل
تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغى عليه المحسود، يقاتل
به الباغي نفسه. وهو لا يشعر. فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه. ولو رأى المبغى
عليه ذلك لسرّه بغيه عليه.
ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله. وقد قال تعالى: 22: 60
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
(1/648)
اللَّهُ
فإذا كان الله قد ضمن له النصر، مع أنه قد استوفى حقه أولا، فكيف بمن لم يستوف
شيئا من حقه، بل بغى عليه وهو صابر؟ وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة
الرحم. وقد سبقت سنة الله: أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
السبب الرابع: التوكل على الله. فمن يتوكل على الله فهو حسبه.
والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم
وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك. فإن الله حسبه، أي كافيه. ومن كان الله
كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد،
والجوع والعطش، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا.
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار
بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف:
جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال:
65: 3 وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ولم يقل: نؤته كذا وكذا
من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه،
وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له
ربه مخرجا من ذلك، وكفاه ونصره.
وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده، وعظم منفعته، وشدة حاجة العبد إليه في «كتاب
الفتح القدسي» وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات
العوام. وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة. وبينا أنه من أجلّ مقامات العارفين، وأنه كلما
علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد، وأنه على قدر إيمان العبد يكون
توكله.
وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد، والعائن، والساحر،
والباغي.
(1/649)
السبب
الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما
خطر له. فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من
يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه لم
يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه، حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا
علق روحه وشبّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما، لا يفتر عنه، وهو
يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار.
ودام الشر، حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به،
وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو
أنفع له وأولى به. بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا. فإن الحسد كالنار، فإذا لم
تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.
وهذا باب عظيم النفع لا يلقّاه إلّا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية، وبين
الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب
والروح اشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شيئا آلم لروحه من ذلك، ولا يصدق
بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن
نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها. فوثقت بالله، وسكنت إليه، واطمأنت به، وعلمت
أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلا.
فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصر
مخلوق مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس:
وهو الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والانابة
(1/650)
إليه
في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئا، حتى يقهرها
ويغمرها ويذهبها بالكلية. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب،
والتقرب إليه وتملقه وترضيه، واستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه
المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه. فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره، ولا
روحه انصرافا عن محبته. فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه
معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريق إلى الانتقام منه، والتدبير عليه؟
هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله، وطلب مرضاته. بل
إذا مسّه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج، ناداه حرس قلبه: إياك وحمى الملك. اذهب
إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حلّ فيها، ونزل بها. مالك ولبيت السلطان الذي
أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس، وأحاطه بالسور، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس:
أنه قال:
38: 82، 83 فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فقال تعالى: 15: 42 إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطانٌ وقال:
16: 99، 100 إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وقال في حق الصديق يوسف صلّى الله عليه وسلّم:
12: 24 كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُخْلَصِينَ.
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من
تحصّن به. ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه ذلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن الله
تعالى يقول: 42: 30 وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
(1/651)
كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ
وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه صلّى الله عليه وسلّم: 3:
165 أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ:
أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من
ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره.
وفي الدعاء المشهور «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم.
واستغفرك لما لا أعلم» .
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط
عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك.
فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟
فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلّا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي
العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه
خصومه شيء أنقع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها
وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح
عيوبه. والله يتولى نصرته وحفظه، والدفع عنه ولا بد. فما أسعده من عبد، وما أبركها
من نازلة نزلت به. وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله. لا مانع
لما أعطى، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا. لا معرفة به، ولا إرادة له،
ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1/652)
السبب
الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ودفع
العين، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به. فما
تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا
فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنّة واقية، وحصن حصين.
وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها.
ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن. فإنه لا يفتر ولا يني، ولا يبرد قلبه حتى
تزول النعمة عن المحسود. فحينئذ يبرد أنينه، وتتطفئ ناره، لا أطفأها الله. فما حرس
العبد نعمة الله بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو
كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن
له جند ولا عسكر، وله عدو. فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر. والله
المستعان.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من
عظم حظه من الله- وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما
ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنك
تصدّق بأن هذا يكون، فضلا عن أن تتعاطاه.
فاسمع الآن قوله عز وجل: 41: 34- 36 وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
(1/653)
وَما
يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وقال: 28: 54 أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا،
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وتأمل حال النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ ضربه قومه حتى أدموه. فجعل يسلت الدم
عنه،
ويقول «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؟.
أحدها: عفوه عنهم. والثاني: استغفاره لهم. والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه.
فقال «اغفر لقومي»
كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به. هذا ولدي: هذا غلامي. هذا صاحبي، فهبه
لي.
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به.
اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك
ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك،
ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك، وتحب أن
يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؟ ليعاملك
الله تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك
يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك، جزاء وفاقا. فانتقم بعد ذلك، أو اعف، وأحسن أو
اترك. فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
فمن تصور هذا المعنى، وشغل به فكره. هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه.
(1/654)
وهذا
مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم
يسيئون إليه.
فقال «لا يزال معك من الله ظهير، ما دمت على ذلك» .
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه. فإن كل من سمع
أنه محسن إلى ذلك الغير، وهو مسيء إليه.
وجد قلبه وداءه وهمته مع المحسن على المسيء. وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده.
فهو بهذا الإحسان، قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعا
ولا خبزا.
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه،
فيستعبده وينقاد له، ويذل له، ويبقى الناس إليه. وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره،
إن أقام على إساءته إليه. فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب
هذا عرفه حق المعرفة. والله هو الموفق والمعين. بيده الخير كله، لا إله غيره، وهو
المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه.
وفي الجملة: ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة.
سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد،
والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات
بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا
بإذنه. فهو الذي يحسن عبده بها.
وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: 10: 107 وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا
رَادَّ لِفَضْلِهِ
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما «واعلم أن
الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو
اجتمعوا على
(1/655)
أن
يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك» .
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن
يخافه مع الله، بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه. وخرج من قلبه اهتمامه به،
واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلا، واشتغالا به عن غيره،
فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو
جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن
الذين آمنوا، فإن كان مؤمنا بالله فالله يدافع عنه ولا بد. وبحسب إيمانه يكون دفاع
الله عنه.
فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج، مزج له. وإن كان مرة الله عليه
جملة. ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة. ومن كان مرة ومرة فالله له مرة
ومرة.
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: من خاف
الله خافه كل شيء. ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى
الله وإقباله عليه، وتوكله عليه، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه
منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه.
ولا يرجو إلا إياه. ومتى علّق قلبه بغيره ورجاه وخافه: وكل إليه وخذل من جهته، فمن
خاف شيئا غير الله سلّط عليه. ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره. هذه
سنة الله في خلقه. ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فصل
فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة
(1/656)
المهمة
التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه، ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها
تأثير، وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنّفث في العقد.
وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق.
ففرقة: أنكرت تأثير هذا وهذا. وهم فرقتان.
فرقة: اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن، وأنكرت تأثيرهما البتة.
وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقوى والتأثيرات.
وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية. وقالت: لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس،
وصفاته وأعراضه فقط. ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به. وهذا قول كثير
من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام. وهو قول شذاذ من
أهل الكلام الذين ذمهم السلف، وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة.
الفرقة الثانية: أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن، وأقرت بوجود الجن
والشياطين، وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.
الفرقة الثالثة: بالعكس، أقرت وجود النفس الناطقة المفارقة البدن، وأنكرت وجود
الجن والشياطين. وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها. وهذا قول كثير من
الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم.
وهؤلاء يقولون إن ما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهو من
تأثيرات النفس، ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها، بغير واسطة
شيطان منفصل، وابن سينا وأتباعه على هذا القول، حتى إنهم يجعلون معجزات الرسل من
هذا الباب.
ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم.
وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل. ليسوا من أتباع الرسل جملة.
(1/657)
الفرقة
الرابعة: وهم أتباع الرسل، وأهل الحق: أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن،
وأقروا بوجود الجن والشياطين، وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما، وشرهما،
واستعاذوا بالله منه. وعلموا أنه لا يعيذهم منه، ولا يجيرهم إلّا الله.
فهؤلاء أهل الحق. ومن عداهم مفرط في الباطل، أو معه باطل وحق. والله يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم.
فهذا ما يسر الله من الكلام على سورة الفلق.
(1/658)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
سورة
الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ
شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه.
فالاستعاذة تقدمت.
وأما المستعاذ به: فهو الله بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ.
فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في
الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم.
فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة، فنقول:
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لحقهم وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم،
وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر
(1/659)
عنهم،
وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم. وذلك يتضمن قدرته التامة. ورحمته
الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم، وكشف كرباتهم.
الإضافة الثانية: إضافة الملك: فهو ملكهم المتصرف فيهم: وهم عبيده ومماليكه، وهو
المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام
عليهم، فهو ملكهم الحق: الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم
ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون
إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية. فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه
ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في
ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في
إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد
الإلهية والعبادة.
وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه.
ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره. فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا
يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذلّ لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكّل إلا عليه، لأن من
ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه: إما أن يكون مربّيك والقيم بأمورك، ومتولي شأنك
وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده
ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم
من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.
(1/660)
فمن
كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه ولا
يلجئوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم، ومتولي أمورهم جميعا
بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى
ربه ومالكه وإلهه؟.
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة: من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة،
وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا.
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه. فيقول:
رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له. فأعاد ذكرهم عند كل اسم
من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره
إلها. فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن
المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره باطلا.
ووسّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره. فهو
المطاع إذا أمر. وملكه لهم تابع لخلقه إياهم. فملكه من كمال ربوبيته. وكونه إلههم
الحق من كمال ملكه. فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه.
وملكه يستلزم إلهيته: يقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم
بربوبيته وقهرهم بملكه. واستعبدهم بإلهيته.
فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام،
وأحسن سياق «رب الناس، ملك الناس، إله الناس» .
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان،
(1/661)
وتضمنت
معاني أسمائه الحسنى.
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى. فإن الرب هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي
القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي. المانع، الضار
النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من
يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء- إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما
يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرّف أمور عباده كما يحب،
ويقلّبهم كما يشاء. وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز،
الجبار المتكبر، الحكم العدل، الخافض الرافع، المعز المذل، العظيم الجليل الكبير،
الحسيب المجيد، الوالي المتعالي، مالك الملك، المقسط الجامع- إلى غير ذلك من
الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الإسم جميع
الأسماء الحسنى. ولهذا كان القول الصحيح: أن «الله» أصله الإله. كما هو قول سيبويه
وجمهور أصحابه، إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء
الحسنى والصفات العلى. فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى.
فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر. وإنما غاية أولي العلم
الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن نسبة باديه إلى الخافي يسير.
(1/662)
فصل
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها. وهو
الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد. وهو شر
من خارج.
وسورة الناس: تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه.
لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني في سورة الناس: يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي. فهذا شر المعائب.
والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب. ولا ثالث لهما.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات. وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر
العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.
فصل
إذا عرف هذا، فالوسواس: فعلال من وسوس.
وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما
بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد.
(1/663)
ومن
هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر- والله أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من
شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي.
لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها
بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير
مسماه.
ونظير هذا: ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه، كالدوران،
والغليان، والنزوان، وبابه.
ونظير ذلك: زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء. لأن الزلزلة حركة متكررة. وكذلك
الدكدكة، والقلقلة. وكذلك كبكب الشيء: إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكبّ فيه كبا بعد
كب كقوله تعالى: 26: 94 فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ومثله: رضرضه إذا
كرر رضّة مرة بعد مرة.
ومثله: ذرذره. إذا ذره شيئا بعد شيء. ومثله صرصر: الباب: إذا تكرر صريره. ومثله:
مطمط الكلام: إذا مططه شيئا بعد شيء. ومثله: كفكف الشيء: إذا كرر كفّه، وهو كثير.
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب. لأن الثلاثي لا
يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت: ذرّ الشيء وصر الباب، وكفّ الثوب،
ورض الحبّ: لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه.
فتأمله. فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني.
وقد تقدم التنبيه على ذلك. فلا وجه لإعادته.
(1/664)
وكذلك
قولهم: عج العجل: إذا صوت. فإن تابع صوته، قالوا:
عجعج. وكذلك. ثجّ الماء إذا صبّ. فإن تكرر ذلك قيل: ثجثج.
والمقصود: أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها، قيل:
وسوس.
فصل
إذا عرف هذا. فاختلف الن
حاة في لفظ الوسواس: هل هو وصف، أو مصدر؟ على قولين. ونحن نذكر حجة كل قول. ثم
نبين الصحيح من القولين بعون الله وفضله.
فأما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل، والوصف من فعلل إنما مفعلل،
كمدحرج، ومسرهف، ومبيطر، ومسيطر. وكذلك هو من فعل بوزن مفعل، كمقطع، ومخرج، وبابه.
فلو كان بالوسواس صفة لقيل:
موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل: مزلزل، لا زلزال. وكذلك من دكدك: مدكدك.
وهو مطرد. فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة. أو يكون على حذف
مضاف، تقديره: ذو الوسواس.
قالوا: والدليل عليه أيضا قول الشاعر:
تسمع للحلى بها وسواسا
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.
قال أصحاب القول الآخر: الدليل على أنه وصف: أن فعلل ضربان.
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، وبيطر. وقياس مصدر هذا الفعللة،
كالدحرجة والسّرهفة، والبيطرة، والفعلان- بكسر الفاء- كالسّرهاف والدحراج. والوصف
منه: مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني: فعّل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس. وهذا فرع على فعلل المجرد عن
التكرار. لأن الأصل السلامة من التكرار. ومصدر
(1/665)
هذا
النوع والوصف منه: مساو لمصدر الأول ووصفه. فمصدره يأتي على الفعللة، كالوسوسة،
والزلزلة، والفعلان كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: الفعلان. لأمرين.
أحدهما: أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون
الثاني. فجعل إفعال مصدر أفعل، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل
الفعلان. فكان الفعلال أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة
فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، مع أن فعللة
أرجح في الاستعمال وأكثر. هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا. إذا عوى، وعظعظ السهم «1»
عظعاظا. والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة. وهذا المفتوح نادر. لأن
الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة
وفعلال بالكسر. فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك. لأن
الفرع لا يخالف أصله، بل يحتذي فيه حذوه. وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال
بالفتح. فإن شذ حفظ ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر،
ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي. لأنهما متشاركان وزنا.
فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال
__________
(1) في القاموس عظعظ السهم عظعظة وعظ بالكسر ارتعش في مضيه والتوى.
(1/666)
فيها
نصيب. فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر.
وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على
الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال
الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران.
أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه «ذو» تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به.
كرضى وصوم وفطّر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط:
وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن. لأن غاية ما يمكن أن
يستدل به على المصدرية قولهم: وسوس إليه الشيطان وسواسا. وهذا لا يتعين للمصدرية،
لاحتمال أن يراد به الوصفية: وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن
الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى: 4: 79
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا و 16: 12 سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع: أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك
مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك؟
فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن «وسواسا» مصدر مضاف إليه «ذو» تقديرا: أن
المصدر المضاف إليه «ذو» تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة،
ليعلم أصالته في المصدرية، وأنه عارض
(1/667)
الوصفية
فيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم، وذوات
صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فنقول: رجل ثرثار، وامرأة
ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» وقالوا:
ريح رقراقة، أي تحرك الأشجار، وريح سفسافة أي تنخل التراب، ودرع فضفاضة أي متسعة،
والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك
فعلال بالفتح وكذلك قالوا: تمتام وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير
الكلام وهرهار أي ضحاك، وكهكاه، ووطواط أي ضعيف، وحشحاش، وعسعاس أي خفيف. وهو
كثير. ومصدره كله الفعللة، والوصف فعلال بالفتح، ومثله هفهاف أي خميص، ومثله
دحداح، أي قصير، ومثله: بجباج أي جسيم، وتختاج:
أي ألكن، وشمشام: أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد قضقاض: أي كاسر،
وحيّة نضناض: تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس
بابه؟.
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر: وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في
الوصفية، وهو «الخناس» فالوسواس، والخناس: وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
وحسّن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه.
والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا. فيقع اللبس كالطويل والقبيح،
والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك. فإنه يجرى
(1/668)
مجرى
الاسم، ويحسن حذف الموصوف: كالمسلم والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني،
والشاهد والوالي، ونحو ذلك. فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر: أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما
تقدم. فلو أريد المصدر لأتى بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية. فإن
اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينه تدل على تعيين أحدهما. فكيف
والوصفية أغلب عليه من المصدرية؟.
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنهما مصادر لا تلتبس بالأوصاف.
فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة،
على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن «الوسواس» هو الشيطان نفسه. وأنه ذات لا مصدر. والله أعلم.
فصل
وأما الخناس: فهو فعّال، من خنس يخنس: إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، وأنا
جنب. فانخنست منه» .
وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء. ولهذا وصفت بها الكواكب في
قوله تعالى: 81: 15 فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل
وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس
بالنهار فلا ترى.
(1/669)
وقالت
طائفة: الخنّس: هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء. و «الخناس» مأخوذ من هذين المعنيين. فهو من
الاختفاء والرجوع والتأخر. فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان.
وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه
واستعاذ به، انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء ليتوارى. وذلك الانخناس والانقباض: هو
أيضا تجمّع ورجوع، وتأخر عن القلب إلى خارج. فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
وخنس وانخنس: يدل على الأمرين معا. قال قتادة: الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في
صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنسه.
ويقال: رأسه كرأس الحية. وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه. فإذا ذكر
الله خنس. وإذا لم يذكره عاد، ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه.
وجيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس: إيذانا بشدة
هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر الله. وأن ذلك دأبه وديدنه لا أنه يعرض له ذلك
ذكر الله أحيانا. بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر. فإن ذكر الله هو مقمعته التي
يقمع بها، كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصىّ
ونحوها. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالسياط والمقامع التي تؤذي من
يضرب بها.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر
الله وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر. لأنه
كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر، والتوجه
(1/670)
والاستغفار
والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة
ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه
شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء «الوسواس» مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم
عليها العبد. وجاء بناء «الخناس» على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه
كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا
لمعنييهما.
فصل
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام
معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا
النبي صلّى الله عليه وسلّم أسرعا. فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان
يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا» .
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط.
فإذا قضى
(1/671)
أقبل.
فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا
اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر:
أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو» .
ومن وسوسته: ما
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يأتي الشيطان
أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:
من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته» .
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «يا رسول الله إن
أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به.
قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» .
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف
النسيان إليه إضافته إلى سببه. قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: 18: 63
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه
«الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس» ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم
الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعم كل شره. ووصفه بأعظم
صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ
الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله،
فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في
خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى
وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا
صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة.
فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث
(1/672)
الجنود
في الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم.
كما قال تعالى: 19: 83 أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى
الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى
الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة
بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه
أن يصير قوادا لكل من عصى الله. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء: إنما هو الوسوسة. فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها
أهم من كل مستعاذ منه. وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره: أنه لص سارق لأموال الناس. فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله
فيه حظ بالسرقة والخطف. وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام
الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقا ويخرج مغيرا. ويدل على
عوراتهم. فيأمر العبد بالمعصية. ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون
به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل
وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به.
فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب
لم يره إلا الله. ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقل من يتفطن من الناس
لهذه الدقيقة.
(1/673)
ومن
شره: أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة.
كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم- إذا هو نام- ثلاث عقد، يضرب على كل
عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عقدة. فإن توضأ
انحلت عقدة. فإن صلى انحلت عقده كلها.
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» .
ومن شره: أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما
ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح. فقال:
ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه» رواه البخاري.
ومن شره: أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. فما من طريق من طرق الخير إلا
والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه. فإن خالفه وسلكه ثبّطه فيه وعوّقه وشوش
عليه بالمعارضات والقواطع. فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ويرده على
حافرته.
ويكفي من شره: أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم.
وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره: أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة. ثم لم يكفه
ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف:
تسعمائة وتسعة وتسعين. ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من
الأرض وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد هو من دون الله. فهو ساع بأقصى جهده على
إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من
الأرض.
ويكفي من شره: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار.
فرد الله كيده عليه. وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
(1/674)
وتصدى
للمسيح صلّى الله عليه وسلّم حتى أراد اليهود قتله وصلبه. فرد الله كيده.
وضان المسيح ورفعه إليه.
وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الكفار على قتله بجهده. والله تعالى يكبته
ويرده خاسئا.
وتفلّت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به. وهو في
الصلاة.
فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألعنك بلعنة الله» .
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده
وإعاذته؟.
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها. إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه. ولكن
ينحصر شره في ستة أجناس. لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر.
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله. فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد
أنينه، واستراح من تعبه معه. وهو أول ما يريد من العبد.
فلا يزال به حتى يناله منه. فإذا نال ذلك صيّره من جنده وعسكره، واستنابه على
أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونوّابه. فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له
الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر.
وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي. لأن ضررها في نفس الدين. وهو ضرر
متعد. وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به.
وهي باب الكفر والشرك. فإذا نال
(1/675)
منه
البدعة، وجعله من أهلها صار أيضا نائبه، وداعيا من دعاته.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة
أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر. وهي الكبائر على اختلاف
أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها. ولا سيما إن كان عالما متبوعا. فهو حريص
على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من
يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر. فإن
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. هذا
إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم،
ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه. كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا- ولو بلغت عنان السماء- هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه
لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدّل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك: فظلم للمؤمنين، وتتبع لعوراتهم، وقصد لفضيحتهم. والله سبحانه
بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدر، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا
اجتمعت فربما أهلكت صاحبها. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم
نزلوا بفلاة من الأرض»
وذكر حديثا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا
واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها
أحسن حالا منه.
(1/676)
فإن
أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي اشغاله بالمباحات التي
لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه
وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب: نقله إلى المرتبة السادسة وهي: أن
يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل
الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو
أفضل وأعلى منه. وقلّ من يتنبه لهذا من الناس. فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا
إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة. فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان
فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله.
وهو معذور. ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما
ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوّت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا
وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد
متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله.
وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله، ولكتابه،
ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلّى
الله عليه وسلّم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك.
فلا يخطر ذلك بقلوبهم. والله يمنّ بفضله على من يشاء من عباده.
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن
بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه
ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس
(1/677)
من
الانتفاع به. فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه، لا يفتر
ولا يني. فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب، ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر
أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمل هذا الفصل. وتدبر موقعه، وعظيم منفعته، واجعله ميزانك تزن به الناس، وتزن به
الأعمال. فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق. والله المستعان، وعليه
التكلان.
ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه.
فصل
وتأمل السر في قوله تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل:
في قلوبهم والصدر: هو ساحة القلب وبيته. فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر
ثم تلج في القلب. فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى
الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: 3: 154 وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ.
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو موسوس
في الصدر. ووسوسته واصلة إلى القلب. ولهذا قال تعالى: 20: 120 فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ ولم يقل «فيه» لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك، وأوصله إليه. فدخل في
قلبه.
فصل
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور:
بم يتعلق؟.
(1/678)
فقال
الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم.
والمعنى: يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس، أي الموسوس في صدورهم
قسمان: إنس وجن. فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للانسي.
وعلى هذا القول: فيكون «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» نصب على الحال.
لأنه مجرور بعد معرفة، على قول البصريين. وعلى قول الكوفيين: نصب بالخروج من المعرفة.
هذه عبارتهم. ومعناها: أنه لما لم يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها. فكان
موضعه نصبا.
والبصريون يقدرونه حالا. أي كائنين من الجنة والناس. وهذا القول ضعيف جدا، لوجود:
أحدها: أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني.
ويدخل فيه، كما يدخل في إنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. فأي دليل يدل على هذا،
حتى يصح حمل الآية عليه؟.
الثاني: أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا. فإنه قال: «الذي يوسوس في صدور الناس» فكيف
يبين الناس بالناس. فإن معنى الكلام على قوله:
يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين، من الجنة والناس. أفيجوز أن يقال: في
صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو في الاستعمال فصيح.
الثالث: أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين: جنة، وناس. وهذا غير صحيح. فإن الشيء لا
يكون قسيم نفسه.
الرابع: أن «الجنة» لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا ولا اشتقاقا ولا
استعمالا. ولفظهما يأبى ذلك. فإن الجن إنما سمو جنّا من الاجتنان، وهو الاستتار.
فهم مستترون عن أعين البشر. فسمو جنّا لذلك،
(1/679)
من
قولهم جنّة الليل وأجنّة: إذا ستره. وأجن الميت: إذا ستره في الأرض.
قال:
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه. قال تعالى:
53: 32 وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ومنه المجن: لاستتار
المحارب به من سلاح خصمه. ومنه الجنة: لاستتار داخلها بالأشجار. ومنه الجنة- بالضم
لما يقي الإنسان من السهام والسلاح. ومنه المجنون: لاستتار عقله.
وأما الناس: فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط. وهو
عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد.
والإنس والإنسان: مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس. ومنه قوله: 28: 29 آنَسَ
مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رآها ومنه 4: 6 فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
أي أحسستموه ورأيتموه.
فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس، أي بالعين يرى. والناس فيه قولان.
أحدهما: أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد. والأصل عدم القلب.
والثاني: وهو الصحيح، أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة.
فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة، كما سمي الرجل حارث وهمام، وهما أصدق
الأسماء كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «أصدق الأسماء: حارث وهمام»
لأن كل أحد له هم وإرادة، هي مبدأ، وحرث وعمل، هو منتهي.
فكل أحد حارث وهمام. والحرث والهم: حركتا الظاهر والباطن. وهو حقيقة النّوس.
وأصل ناس: نوس، تحركت الواو، وقبلها: فتحة. فصارت ألفا.
هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق «الناس» .
(1/680)
وأما
قول بعضهم: إنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه.
وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم: فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان، الذي مادته ن
س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.
وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير
هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم: أنسن، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون
الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من
الأنس.
إذ ليس في كلامهم: انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.
فإن قلت: فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار
إنسانا؟
قلت: يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له.
وذلك كله فاسد، على أن «الناس» قد قيل: إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل:
الناس. واستدل بقول الشاعر:
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير
ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس، ويكون الناس
كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس- على هذا القول-: عال. لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول: يكون وزنه: فعل. لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف: يكون وزنه: فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين، فصار
ناسا وزنه فلعا.
(1/681)
والمقصود:
أن «الناس» اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون «مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» بيانا لقوله: فِي صُدُورِ النَّاسِ وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل: لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال.
كما في قوله تعالى: 72: 6 وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم:
الناس؟.
قلت: هذا هو الذي غرّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من
الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت: إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك:
لم يلزم من ذلك: وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن
الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله:
55: 33امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ يقتضى أنهما
متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا
متقابلين. فلا يقال: الجن والرجال، كما يقال: الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس» لأنه قابل بين
الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
(1/682)
فالصواب:
القول الثاني. وهو أن قوله: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس، وأنهم
نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان: إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين
الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج
إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد
يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما
في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الملائكة
تحدث في العنان- والعنان الغمام- بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين الكلمة،
فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» .
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني.
قال تعالى: 6: 112 وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
غُرُوراً.
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله.
فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا: تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل
الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول: إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط.
فتأمله فإنه بديع جدا.
(1/683)
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين. وله الحمد والمنة. وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط. فما ذلك على الله بعزيز. والحمد لله رب العالمين. ونختم الكلام على السورتين بذكر:
(1/684)
قاعدة
نافعة
فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويستدفع به شره، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب.
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان. قال تعالى: 41: 36 وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ وفي موضع آخر 7: 200 إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد تقدم: أن السمع
المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة «هو» الدال على تأكيد
النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد،
وتركه في سورة الأعراف، لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع
بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس. وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا
أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. كما قال الله تعالى.
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذلّ وعجز، ويسلّط
(1/685)
عليه
عدوه، فيدعوه إلى الانتقام، ويزينه له. فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا
يسيء إليه ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده
على حظه العاجل. فكان المقام مقام تأكيد وتحريض. فقال فيه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ.
وأما في سورة الأعراف: فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين. وليس فيها الأمر بمقابلة
إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس، غير مستعصى عليها. فليس حرص
الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين. وبين قوله في حم المؤمن: 40: 56
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وفي صحيح البخاري عن عدى بن ثابت عن سليمان بن صرد قال: «كنت جالسا مع النبي صلّى
الله عليه وسلّم ورجلان يستبّان. فأحدهما احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه. فقال النبي
صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد» .
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين. فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من
شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما»
وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل
صلاة.
وتقدم
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا
حين يصبح، كفته من كل شيء» .
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
ففي الصحيح من حديث محمد بن
(1/686)
سيرين
عن أبي هريرة قال: «وكّلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتى
آت، فجعل يحثو من الطعام. فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم- فذكر الحديث، إلى أن قال- فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه
لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان» .
وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير
العظيم في التحرز من الشيطان، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها
وكنوزها بعون الله وتأييده.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة:
ففي الصحيح من حديث سهل بن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا.
وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان» .
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» «1» .
وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب
كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا
يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» «2» .
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مع آية الكرسي.
ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن
أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم المؤمن
إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم 2881.
(2) أخرجه الترمذي بلفظ: قبل أن يخلق الخلق. برقم 2882.
(1/687)
حفظ
بهما حتى يسمي. ومن قرأهما حين يسمي حفظ بهما حتي يصبح»
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلّم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في
قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع:
«لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
مائة مرة.
ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد. وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له
مائة حسنة. ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم
يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل
ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله
أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها،
وأنه عاد أن يبطئ بها. فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني
إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم.
فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس
فامتلأ، وقعدوا على الشرف. فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن
تعملوا بهن: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن مثل من أشرك بالله كمثل
رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل وأدّ
إليّ. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله
أمركم بالصلاة. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما
لم يلتفت. وأمركم بالصيام. فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة
(1/688)
معه
صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح
المسك. وأمركم بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه،
وقدموه ليضربوا عنقه. فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم.
وأمركم أن تذكروا الله. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى أتى
على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع والطاعة.
والجهاد.
والهجرة. والجماعة. فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه،
إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم. فقال رجل: يا رسول الله،
وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام. فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين
عباد الله»
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة. وله
غير هذا الحديث.
فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من
الشيطان إلا بذكر الله. وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس، وتجمع
وانقبض. وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر
كله. فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة. وهذا من أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند توارد
قوة الغضب والشهوة. فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم.
كما
في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا
وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فمن
أحسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض» .
وفي أثر آخر «إن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء»
فما
(1/689)
أطفأ
العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة. فإنها نار والوضوء يطفئها، والصلاة
إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله. وهذا أمر تجربته تغنى
عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام، ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما
يتسلط على ابن آدم، وينال منه غرضه: من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو
إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به، والفكرة في الظفر
به.
فمبدأ الفتنة من فضول النظر، كما
في المسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «النظرة سهم مسموم من سهام
إبليس، فمن غضّ بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه»
أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم.
فالحوادث العظام إنما هي كلها من فضول النظر. فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة؟ كما
قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر؟
وقال الآخر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه ... فمن المطالب، والقتيل القاتل؟
ولي من أبيات:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي، فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقّه، إنه يرتد بالعطف
(1/690)
ترجو
الشفاء بأحداق بها مرض ... فهل سمعت ببرء جاء من عطب؟
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم ... وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها ... لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ماله خطر ... بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ... ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر ... أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ... لكل داهية تدنى من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ... ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من ... تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فأفرش الخد ذياك التراب، وقل ... ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفا يطوف به ... غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج ... أشهى إلى ناظري من خدك الترب
منازلا كان يهواها ويألفها ... أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له ... يهوى إليها هوى الماء في صبب
أحيا له الشوق تذكار العهود بها ... فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه ... وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن ... بثثته بعض شأن الحب، فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتديا ... بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة ... وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضيء به ... يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه ... إلا بنور ينجي العبد في الكرب
والمقصود: أن فضول النظر أصل البلاء.
(1/691)
وأما
فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول
الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها. وكم من حرب جرتها كلمة واحدة.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار
إلا حصائد ألسنتهم»
وفي الترمذي «أن رجلا من الأنصار توفّي فقال بعض الصحابة: طوبى له. فقال النبي
صلّى الله عليه وسلّم: فما يدريك؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه»
.
وأكثر المعاصي: إنما يولدها فضول الكلام والنظر. وهما أوسع مداخل الشيطان. فإن
جارحتيهما لا يملان، ولا يسأمان، بخلاف شهوة الباطن. فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه
إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف،
كثيرة الشعب، عظيمة الآفات.
وكان السلف يحذرون من فضول النظر، كما يحذرون من فضول الكلام، كانوا يقولون: ما
شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وأما فضول الطعام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى
المعاصي، ويثقلها عن الطاعات. وحسبك بهذين شرا. فكم من معصية جلبها الشبع وفضول
الطعام؟ وكم من طاعة حال دونها؟.
فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما.
والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام.
ولهذا جاء في بعض الآثار «ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم» وقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن» .
ولو لم يكن في الامتلأ من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل،
وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده، ومنّاه وشهّاه، وهام
به في كل واد. فإن النفس إذا شبعت تحركت
(1/692)
وجالت،
وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر. وكم سلبت المخالطة والمعاشرة
من نعمة. وكم زرعت من عداوة. وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات،
وهي في القلوب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة. وإنما ينبغي
للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.
ويجعل الناس فيها أربعة أقسام: متي خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل
عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة. فإذا أخذ حاجته منه
ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام. وهذا الضرب أعز من الكبريت
الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون
لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض. فما دمت صحيحا فلا حاجة
لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج
من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك
من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من.
القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.
فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا
دنيا. ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا
أو
أحدهما. فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك، فإذا فارقك سكن الألم.
ومنهم من مخالطته حمى الروح. وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم
فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها، بل إن
تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث
من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس. وإن سكت فأثقل من نصف الرحا
العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض. ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه
قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعفت
القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت
أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة. أو كما قال.
وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد
أن يبتلى بواحد من هذا الضرب. وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف،
حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم.
فإن اتفق لآكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس
لأكثرهم الله. وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، الداعون إلى خلافها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، فيجعلون
البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
إن
جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين.
وإن جردت المتابعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أهدرت الأئمة
المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلوّ ولا تقصير قالوا:
أنت من المشبهين.
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من
المنكر، قالوا: أنت من المفتنين.
وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين.
وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا، قالوا:
أنت من الملبسين.
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين، وعندهم من
المنافقين.
فالحزم كل الحزم: التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل
بإعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم. فإنه عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر:
وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم، وهي
فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة. واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة
التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق. وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح
عليها أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا
الدواء. فعند الممات يحمد القوم التقى. وفي الصباح يحمد القوم السّرى. والله
الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق