اجتماع
الجيوش الإسلامية
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى:
751هـ)
[مُقَدِّمَةٌ]
اجْتِمَاعُ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ
(2/33)
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهُوَ حَسْبِي وَكَفَى مُقَدِّمَةٌ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الْمَسْئُولُ الْمَرْجُوُّ الْإِجَابَةَ أَنْ يُمَتِّعَكُمْ بِالْإِسْلَامِ
وَالسُّنَّةِ وَالْعَافِيَةِ فَإِنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَنَعِيمَهُمَا وَفَوْزَهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ
وَمَا اجْتَمَعْنَ فِي عَبْدٍ بِوَصْفِ الْكَمَالِ إِلَّا وَقَدْ كَمُلَتْ
نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَنَصِيبُهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ
نَصِيبِهِ مِنْهَا.
[أَقْسَامُ النِّعْمَةِ]
[النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ]
((أَقْسَامُ النِّعْمَةِ)) وَالنِّعْمَةُ نِعْمَتَانِ: نِعْمَةٌ مُطْلَقَةٌ
وَنِعْمَةٌ مُقَيَّدَةٌ.
1 - فَالنِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ: هِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِسَعَادَةِ الْأَبَدِ
وَهِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي أَمَرَنَا
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَسْأَلَهُ فِي صَلَاتِنَا أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ
أَهْلِهَا وَمَنْ خَصَّهُمْ بِهَا وَجَعَلَهُمْ أَهْلَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى
حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ، هُمْ أَهْلُ هَذِهِ النِّعْمَةِ
الْمُطْلَقَةِ، وَأَصْحَابُهَا أَيْضًا هُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا - فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. . .} [المائدة: 3] ،
فَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ ; إِذْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا الدِّينِ الْقَيِّمِ
دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَالدِّينُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ، وَتَارَةً
يُضَافُ إِلَى الرَّبِّ، فَيُقَالُ الْإِسْلَامُ دِينُ اللَّهِ (الَّذِي) لَا
يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ
(2/33)
وَلِهَذَا
يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ الَّذِي أَنْزَلْتَهُ مِنَ
السَّمَاءِ) وَنُسِبَ الْكَمَالُ إِلَى الدِّينِ وَالتَّمَامُ إِلَى النِّعْمَةِ
مَعَ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ وَلِيُّهَا وَمُسْدِيهَا إِلَيْهِمْ،
وَهُمْ مَحَلٌّ مَحْضٌ لِنِعَمِهِ قَابِلِينَ لَهَا، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي
الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ لِلْمُسْلِمِينَ (وَاجْعَلْهُمْ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ
قَابِلِيهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْهِمْ) .
وَأَمَّا الدِّينُ فَلَمَّا كَانُوا هُمُ الْقَائِمِينَ بِهِ الْفَاعِلِينَ لَهُ
بِتَوْفِيقِ رَبِّهِمْ نَسَبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وَكَانَ الْكَمَالُ فِي جَانِبِ الدِّينِ وَالتَّمَامُ
فِي جَانِبِ النِّعْمَةِ وَاللَّفْظَتَانِ وَإِنْ تَقَارَبَتَا وَتَوَازَنَتَا
فَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَطِيفٌ يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ فَإِنَّ الْكَمَالَ
أَخَصُّ بِالصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ
وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهَا وَخَوَاصِّهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ
مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ،
وَخَدِيجَةُ
(2/34)
بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ» ) . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " إِنَّ
لِلْإِيمَانِ حُدُودًا وَفَرَائِضَ وَسُنَنًا وَشَرَائِعَ فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا
فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ "، وَأَمَّا التَّمَامُ فَيَكُونُ فِي
الْأَعْيَانِ وَالْمَعَانِي، وَنِعْمَةُ اللَّهِ أَعْيَانٌ وَأَوْصَافٌ وَمَعَانٍ.
وَأَمَّا دِينُهُ فَهُوَ شَرْعُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ
وَمَحَابِّهِ فَكَانَتْ نِسْبَةُ الْكَمَالِ إِلَى الدِّينِ وَالتَّمَامِ إِلَى
النِّعْمَةِ أَحْسَنَ كَمَا كَانَتْ إِضَافَةُ الدِّينِ إِلَيْهِمْ وَالنِّعْمَةِ
إِلَيْهِ أَحْسَنَ، وَالْمَقْصُودُ
(2/35)
أَنَّ
هَذِهِ النِّعْمَةَ هِيَ النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَصَّتْ
بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ
بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صَحِيحٌ.
[النِّعْمَةُ الْمُقَيَّدَةُ]
وَالنِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: النِّعْمَةُ الْمُقَيَّدَةُ كَنِعْمَةِ الصِّحَّةِ،
وَالْغِنَى، وَعَافِيَةِ الْجَسَدِ، وَبَسْطِ الْجَاهِ، وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ، وَالزَّوْجَةِ
الْحَسَنَةِ، وَأَمْثَالِ هَذِهِ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ
الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَإِذَا قِيلَ: لِلَّهِ عَلَى
الْكَافِرِ نِعْمَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ حَقٌّ، فَلَا يَصِحُّ
إِطْلَاقًا السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ; وَهُوَ أَنَّ
النِّعَمَ الْمُقَيَّدَةَ، لَمَّا كَانَتِ اسْتِدْرَاجًا لِلْكَافِرِ وَمَآلُهَا
إِلَى الْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً وَإِنَّمَا
كَانَتْ بَلِيَّةً كَمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ،
فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي - وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا. . .}
[الفجر: 15 - 16] الْآيَةَ أَيْ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَكْرَمْتُهُ فِي الدُّنْيَا
وَنَعَّمْتُهُ فِيهَا
(2/36)
فَقَدْ
أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً مِنِّي لَهُ،
وَاخْتِبَارًا، وَلَا كُلُّ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَجَعَلْتُهُ بِقَدْرِ
حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، بَلْ أَبْتَلِي عَبْدِي
بِالنِّعَمِ كَمَا أَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ.
فَإِنْ قِيلَ - فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ:
{فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] . فَأَثْبَتَ الْإِكْرَامَ ثُمَّ أَنْكَرَ
عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {رَبِّي أَكْرَمَنِي} [الفجر: 15] وَقَالَ: (كَلَّا) . أَيْ:
لَيْسَ ذَلِكَ إِكْرَامًا مِنِّي وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ فَكَأَنَّهُ أَثْبَتَ
لَهُ الْإِكْرَامَ وَنَفَاهُ؟ .
قِيلَ: الْإِكْرَامُ الْمُثْبَتُ غَيْرُ الْإِكْرَامِ الْمَنْفِيِّ، وَهُمَا مِنْ
جِنْسِ النِّعْمَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ، فَلَيْسَ هَذَا الْإِكْرَامُ
الْمُقَيَّدُ بِمُوجِبٍ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِكْرَامِ
الْمُطْلَقِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا قِيلَ إِنَّ اللَّهَ أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةً
مُطْلَقَةً وَلَكِنَّهُ رَدَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَبَدَّلَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
مَنْ أُعْطِيَ مَالَا يَعِيشُ بِهِ فَرَمَاهُ فِي الْبَحْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] ،
فَهِدَايَتُهُ إِيَّاهُمْ نِعْمَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا نِعْمَتَهُ
وَآثَرُوا عَلَيْهَا الضَّلَالَ. فَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ: هَلْ
لِلَّهِ عَلَى الْكَافِرِ نِعْمَةٌ أَمْ لَا؟ وَأَكْثَرُ اخْتِلَافِ النَّاسِ مِنْ
جِهَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا:
(2/37)
اشْتِرَاكُ
الْأَلْفَاظِ وَإِجْمَالُهَا، وَالثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّفْصِيلِ.
فَصْلٌ: " فِي أَنَّ النِّعْمَةَ الْمُطْلَقَةَ هِيَ الَّتِي يُفْرَحُ بِهَا
فِي الْحَقِيقَةِ مَعَ بَيَانِ مَنْزِلَةِ السُّنَّةِ وَصَاحِبِهَا ":
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الَّتِي يُفْرَحُ بِهَا فِي
الْحَقِيقَةِ، وَالْفَرَحُ بِهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ
لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:
58] .
وَقَدْ دَارَتْ أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ هِيَ
الْإِسْلَامُ وَالسُّنَّةُ وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فَرَحُهُ
بِهِمَا، وَكُلَّمَا كَانَ أَرْسَخَ فِيهِمَا كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ فَرَحًا
حَتَّى إِنَّ الْقَلْبَ لَيَرْقُصُ فَرَحَا إِذَا بَاشَرَ رُوحَ السُّنَّةِ أَحْزَنَ
مَا يَكُونُ النَّاسُ، وَهُوَ مُمْتَلِئٌ أَمْنًا أَخْوَفَ مَا يَكُونُ النَّاسُ.
[بَيَانُ مَنْزِلَةِ السُّنَّةِ]
فَإِنَّ السُّنَّةَ حِصْنُ اللَّهِ الْحَصِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ
الْآمِنِينَ. وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ إِلَيْهِ مِنَ
الْوَاصِلِينَ تَقُومُ بِأَهْلِهَا وَإِنْ قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ
وَيَسْعَى نُورُهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
(2/38)
إِذَا
طُفِئَتْ لِأَهْلِ " الْبِدَعِ وَالنِّفَاقِ أَنْوَارُهُمْ "، وَأَهْلُ
السُّنَّةِ: هُمُ الْمُبْيَضَّةُ وُجُوهُهُمْ إِذَا اسْوَدَّتْ وُجُوهُ أَهْلِ
الْبِدْعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِائْتِلَافِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالتَّفَرُّقِ.
وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالنُّورُ " اللَّذَانِ " بِهِمَا سَعَادَةُ
الْعَبْدِ وَهُدَاهُ وَفَوْزُهُ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. . .} [الأنعام: 122] .
[بَيَانُ مَنْزِلَةِ صَاحِبِ السُّنَّةِ وَصَاحِبِ الْبِدْعَةِ]
فَصَاحِبُ السُّنَّةِ: حَيُّ الْقَلْبِ، مُسْتَنِيرُ الْقَلْبِ، وَصَاحِبُ
الْبِدْعَةِ: مَيِّتُ الْقَلْبِ مُظْلِمُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي كِتَابِهِ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَعَلَهُمَا صِفَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ ضِدَّهُمَا
صِفَةَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْحَيَّ الْمُسْتَنِيرَ
هُوَ الَّذِي عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، وَأَذْعَنَ وَفَهِمَ عَنْهُ، وَانْقَادَ
لِتَوْحِيدِهِ، وَمُتَابَعَةِ مَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ الْمُظْلِمُ الَّذِي لَمْ
يَعْقِلْ عَنِ اللَّهِ وَلَا انْقَادَ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وَلِهَذَا يَصِفُ سُبْحَانَهُ
(2/39)
هَذَا
الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، وَبِأَنَّهُمْ
فِي الظُّلُمَاتِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتِ الظُّلْمَةُ
مُسْتَوْلِيَةً عَلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ مُظْلِمَةٌ
تَرَى الْحَقَّ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ، وَالْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ،
وَأَعْمَالُهُمْ مُظْلِمَةٌ، وَأَقْوَالُهُمْ مُظْلِمَةٌ، وَأَحْوَالُهُمْ
كُلُّهَا مُظْلِمَةٌ، وَقُبُورُهُمْ مُمْتَلِئَةٌ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً.
وَإِذَا قُسِمَتِ الْأَنْوَارُ دُونَ الْجِسْرِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ بَقُوا فِي
الظُّلُمَاتِ، وَمُدْخَلُهُمْ فِي النَّارِ مُظْلِمٌ، وَهَذِهِ الظُّلْمَةُ هِيَ
الَّتِي خُلِقَ فِيهَا الْخَلْقُ أَوَّلًا، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِهِ السَّعَادَةَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، وَمَنْ أَرَادَ
بِهِ الشَّقَاوَةَ تَرَكَهُ فِيهَا، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ
مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ
ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ» ) "،
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى
أَنْ يَجْعَلَ لَهُ
(2/40)
نُورًا
فِي قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ
وَدَمِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
وَخَلْفَهُ وَأَمَامَهُ وَأَنْ يَجْعَلَ ذَاتَهُ نُورًا، فَطَلَبَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّورَ لِذَاتِهِ وَلِأَبْعَاضِهِ وَلِحَوَاسِّهِ
الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَلِجِهَاتِهِ السِّتِّ.
وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ": "
الْمُؤْمِنُ مُدْخَلُهُ مِنْ نُورٍ، وَمُخْرَجُهُ مِنْ نُورٍ، وَقَوْلُهُ نُورٌ،
وَعَمَلُهُ نُورٌ. . " وَهَذَا النُّورُ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ
يَظْهَرُ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَمِينِهِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ نُورُهُ كَالشَّمْسِ، وَآخَرُ كَالنَّجْمِ، وَآخَرُ
كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، وَآخَرُ دُونَ ذَلِكَ حَتَّى " إِنَّ "
مِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا عَلَى رَأْسِ إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً
وَيُطْفِئُ أُخْرَى، كَمَا كَانَ نُورُ إِيمَانِهِ وَمُتَابَعَتِهِ فِي الدُّنْيَا
كَذَلِكَ، فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ يَظْهَرُ هُنَاكَ لِلْحِسِّ وَالْعِيَانِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا. .} [الشورى: 52] الْآيَةَ فَسَمَّى
وَحْيَهُ وَأَمْرَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ
وَالْأَرْوَاحِ. وَسَمَّاهُ نُورًا ; لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْهُدَى
وَاسْتِنَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
(2/41)
وَقَدِ
اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ " عَزَّ وَجَلَّ ": {وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] فَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ، وَقِيلَ:
عَلَى الْإِيمَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الرُّوحِ، فِي قَوْلِهِ:
{رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ
أَمَرَهُ رُوحًا وَنُورًا وَهُدًى، وَلِهَذَا تَرَى صَاحِبَ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ
وَالسُّنَّةِ قَدْ كُسِيَ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ
الْحَلَاوَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ وَالْقَبُولِ مَا قَدْ حُرِمَهُ
غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ رُزِقَ حَلَاوَةً
وَمَهَابَةً) ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. .} [البقرة: 257]
، فَأَوْلِيَاؤُهُمْ يُعِيدُونَهُمْ إِلَى مَا خُلِقُوا فِيهِ، مِنْ ظُلْمَةِ
طَبَائِعِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَكُلَّمَا أَشْرَقَ لَهُمْ نُورُ
النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ وَكَادُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ مَنَعَهُمْ
أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْهُ وَصَدُّوهُمْ، فَذَلِكَ إِخْرَاجُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْهَا. .} [الأنعام: 122] فَأَحْيَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِرُوحِهِ الَّذِي هُوَ وَحْيُهُ وَهُوَ رُوحُ
(2/42)
الْإِيمَانِ
وَالْعِلْمِ، وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الظُّلْمَةِ كَمَا
يَمْشِي الرَّجُلُ بِالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ فِي الظُّلْمَةِ، فَهُوَ يَرَى هْلَ
الظُّلْمَةِ فِي ظُلُمَاتِهِمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ كَالْبَصِيرِ الَّذِي
يَمْشِي بَيْنَ الْعُمْيَانِ.
[فَصْلٌ فِي أَنَّ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الرُّسُلِ يَتَقَلَّبُونَ فِي
الظُّلُمَاتِ وَأَنَّ أَتْبَاعَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي عَشَرَةِ أَنْوَارٍ]
وَالْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ الرُّسُلِ " صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ " وَمُتَابَعَتِهِمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي عَشْرِ ظُلُمَاتٍ:
ظُلْمَةُ الطَّبْعِ، وَظُلْمَةُ الْجَهْلِ، وَظُلْمَةُ الْهَوَى، وَظُلْمَةُ
الْقَوْلِ، وَظُلْمَةُ الْعَمَلِ، وَظُلْمَةُ الْمُدْخَلِ، وَظُلْمَةُ
الْمُخْرَجِ، وَظُلْمَةُ الْقَبْرِ، وَظُلْمَةُ الْقِيَامَةِ، وَظُلْمَةُ دَارِ
الْقَرَارِ. فَالظُّلْمَةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثِ.
وَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يَتَقَلَّبُونَ
فِي عَشَرَةِ أَنْوَارٍ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا مِنَ النُّورِ مَا
لَيْسَ لِأُمَّةٍ غَيْرِهَا، وَلَا لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ "
نَبِيٍّ " مِنْهُمْ نُورَيْنِ، وَلِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ نُورٌ تَامٌّ، كَذَلِكَ
صِفَتُهُ وَصِفَةُ أُمَّتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]
وَفِي قَوْلِهِ: {تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] إِعْلَامٌ بِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ
وَتَقَلُّبَهُمُ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ إِنَّمَا هُوَ النُّورُ، وَأَنَّ مَشْيَهُمْ
بِغَيْرِ النُّورِ غَيْرُ مُجْدٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَافِعٌ لَهُمْ بَلْ ضَرَرُهُ
أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ.
(2/43)
وَفِيهِ:
أَنَّ أَهْلَ النُّورِ هُمْ أَهْلُ الْمَشْيِ فِي النَّاسِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ
أَهْلُ الزَّمَانَةِ وَالِانْقِطَاعِ فَلَا مَشْيَ لِقُلُوبِهِمْ وَلَا
لِأَحْوَالِهِمْ، وَلَا لِأَقْوَالِهِمْ، وَلَا لِأَقْدَامِهِمْ إِلَى
الطَّاعَاتِ. وَكَذَلِكَ لَا تَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ إِذَا مَشَتْ بِأَهْلِ
الْأَنْوَارِ أَقْدَامُهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ
وَهِيَ: أَنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى الصِّرَاطِ بِأَنْوَارِهِمْ كَمَا يَمْشُونَ
بِهَا بَيْنَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ لَا نُورَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْقُلَ قَدَمًا عَنْ قَدَمٍ عَلَى الصِّرَاطِ، فَلَا
يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ.
[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْأَنْوَارِ وَفِيهِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ]
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ نُورًا، وَجَعَلَ كِتَابَهُ
نُورًا، وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُورًا، وَدِينَهُ نُورًا،
وَاحْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ بِالنُّورِ، وَجَعَلَ دَارَ أَوْلِيَائِهِ نُورًا
تَتَلَأْلَأُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ
نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]
وَقَدْ فُسِّرَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. .} [النور: 35]
الْآيَةَ بِكَوْنِهِ: مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهَادِي أَهْلِ
السَّمَاوَاتِ
(2/44)
وَالْأَرْضِ،
فَبِنُورِهِ اهْتَدَى أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ
فِعْلُهُ، وَإِلَّا فَالنُّورُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَوْصَافِهِ، قَائِمٌ بِهِ،
وَمِنْهُ اشْتُقَّ لَهُ اسْمُ النُّورُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى.
وَالنُّورُ يُضَافُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِضَافَةُ
صِفَةٍ إِلَى مَوْصُوفِهَا، وَإِضَافَةُ مَفْعُولٍ إِلَى فَاعِلِهِ. فَالْأَوَّلُ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا. .} [الزمر: 69]
الْآيَةَ فَهَذَا إِشْرَاقُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُورِهِ تَعَالَى إِذَا
جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ:
( «أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ تُضِلَّنِي لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ» ) . وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: ( «أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي
أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ» ) فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الظُّلُمَاتِ أَشْرَقَتْ لِنُورِ وَجْهِهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ
الْأَرْضَ تُشْرِقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنُورِهِ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَالسُّنَّةِ لَهُ، وَكِتَابِ عُثْمَانَ
الدَّارِمِيِّ، وَغَيْرِهَا، عَنِ ابْنِ
(2/45)
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( «لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ» ) ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْرَبُ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، " وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ كُلِّهَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ
(2/46)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ " كَلِمَاتٍ " فَقَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ " عَمَلِ " النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ " عَمَلِ " اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» ) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: (نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ) » فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: مَعْنَاهُ كَانَ ثَمَّ نُورٌ، أَوْ حَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ
(2/47)
نُورٌ
فَأَنَّى أَرَاهُ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ
الصَّحِيحِ «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ نُورًا» ، وَقَدْ أُعْضِلَ
أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى صَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ
فَقَالَ: «نُورَانِيٌّ أَرَاهُ» ، عَلَى أَنَّهَا يَاءُ النَّسَبِ، وَالْكَلِمَةُ
كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا خَطَّأٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ
لَهُمْ هَذَا الْإِشْكَالَ وَالْخَطَأَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ وَكَانَ
قَوْلُهُ: «أَنَّى أَرَاهُ» ، كَالْإِنْكَارِ لِلرُّؤْيَةِ حَارُوا فِي الْحَدِيثِ
وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِاضْطِرَابِ لَفْظِهِ وَكُلُّ هَذَا عُدُولٌ عَنْ مُوجَبِ
الدَّلِيلِ.
وَقَدْ حَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، فِي كِتَابِ " الرَّدِّ
" لَهُ، إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ
الْمِعْرَاجِ، وَبَعْضُهُمُ اسْتَثْنَى ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ، وَشَيْخُنَا
يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِخِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ
يَقُلْ: رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: " أَنَّهُ رَآهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَقُلْ
بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَلَفْظُ أَحْمَدَ
(2/48)
كَلَفْظِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ
شَيْخُنَا فِي " مَعْنَى " حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: حِجَابُهُ
النُّورُ. فَهَذَا النُّورُ هُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - النُّورُ الْمَذْكُورُ
فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " «رَأَيْتُ نُورًا» .
[فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (مَثَلُ نُورِهِ. .) . الْآيَةَ]
فَصْلٌ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ. .} [النور: 35] .
الْآيَةَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ. .} [النور:
35] الْآيَةَ هَذَا مَثَلٌ لِنُورِهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الضَّمِيرِ
فِي نُورِهِ، فَقِيلَ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ:
مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: تَفْسِيرُهُ
الْمُؤْمِنُ، أَيْ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَعْنَى: مَثَلُ نُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فِي قَلْبِ عَبْدِهِ، وَأَعْظَمُ عِبَادِهِ نَصِيبًا مِنْ هَذَا النُّورِ رَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا مَعَ مَا تَضَمَّنَهُ عَوْدُ
الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ يَتَضَمَّنُ
التَّقَادِيرَ الثَّلَاثَةَ، وَهُوَ أَتَمُّ مَعْنًى وَلَفْظًا.
(2/49)
وَهَذَا
النُّورُ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ مُعْطِيهِ لِعَبْدِهِ
وَوَاهِبُهُ إِيَّاهُ، وَيُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ إِذْ هُوَ مَحَلُّهُ
وَقَابِلُهُ، فَيُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ، وَلِهَذَا النُّورِ
فَاعِلٌ وَقَابِلٌ، وَمَحَلٌّ وَحَامِلٌ، وَمَادَّةٌ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ
ذِكْرَ هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ.
فَالْفَاعِلُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى مُفِيضُ الْأَنْوَارِ الْهَادِي لِنُورِهِ
مَنْ يَشَاءُ، وَالْقَابِلُ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ، وَالْمَحَلُّ قَلْبُهُ،
وَالْحَامِلُ: هِمَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَالْمَادَّةُ: قَوْلُهُ
وَعَمَلُهُ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ الْعَجِيبُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ
فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْمَعَانِي وَإِظْهَارِ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَى
عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ بِمَا أَنَالَهُ مِنْ نُورِهِ مَا تَقَرَّ بِهِ عُيُونُ
أَهْلِهِ وَتَبْتَهِجُ بِهِ قُلُوبُهُمْ.
وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ لِأَهْلِ الْمَعَانِي طَرِيقَتَانِ: أَحَدُهُمَا:
طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ وَهِيَ أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَأَسْلَمُ مِنَ
التَّكَلُّفِ، وَهِيَ أَنْ تُشَبَّهَ الْجُمْلَةُ بِرُمَّتِهَا بِنُورِ
الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَفْصِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ
الْمُشَبَّهِ وَمُقَابَلَتِهِ بِجُزْءٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَعَلَى هَذَا
عَامَّةُ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
فَتَأَمَّلْ صِفَةَ مِشْكَاةٍ، وَهِيَ كُوَّةٌ لَا تَنْفَذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ
لِلضَّوْءِ قَدْ وُضِعَ فِيهَا مِصْبَاحٌ وَذَلِكَ الْمِصْبَاحُ دَاخِلَ زُجَاجَةٍ
تُشْبِهُ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي صَفَائِهَا وَحُسْنِهَا، وَمَادَّتُهُ مِنْ
أَصْفَى
(2/50)
الْأَدْهَانُ
وَأَتَمِّهَا وَقُودًا مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ فِي وَسَطِ الْقَرَاحِ، لَا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، بِحَيْثُ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ
طَرَفَيِ النَّهَارِ بَلْ هِيَ فِي وَسَطِ الْقَرَاحِ مَحْمِيَّةٌ بِأَطْرَافِهِ،
تُصِيبُهَا الشَّمْسُ أَعْدَلَ إِصَابَةٍ وَالْآفَاتُ إِلَى الْأَطْرَافِ دُونَهَا،
فَمِنْ شِدَّةِ إِضَاءَةِ زَيْتِهَا وَصَفَائِهِ وَحُسْنِهِ يَكَادُ يُضِيءُ مِنْ
غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ نَارٌ، فَهَذَا الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ هُوَ مَثَلُ
نُورِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي وَضَعَهُ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ
وَخَصَّهُ بِهِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ التَّشْبِيهِ الْمُفَصَّلِ، فَقِيلَ:
الْمِشْكَاةُ صَدْرُ الْمُؤْمِنِ وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ، وَشَبَّهَ قَلْبَهُ
بِالزُّجَاجَةِ لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا وَصَلَابَتِهَا، وَكَذَلِكَ قَلْبُ
الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ يَرْحَمُ
وَيُحْسِنُ وَيَتَحَنَّنُ وَيُشْفِقُ عَلَى الْخَلْقِ بِرِقَّتِهِ.
وَبِصَفَائِهِ تَتَجَلَّى فِيهِ صُوَرُ الْحَقَائِقِ وَالْعُلُومِ عَلَى مَا هِيَ
عَلَيْهِ وَيُبَاعَدُ الْكَدَرُ وَالدَّرَنُ وَالْوَسَخُ بِحَسَبَ مَا فِيهِ مِنَ
الصَّفَاءِ، وَبِصَلَابَتِهِ يَشْتَدُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَيَتَصَلَّبُ فِي ذَاتِ اللَّهِ
(2/51)
تَعَالَى
وَيَغْلُظُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُومُ بِالْحَقِّ لِلَّهِ
تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُلُوبَ كَالْآنِيَةِ، كَمَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ
أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا.
وَالْمِصْبَاحُ هُوَ نُورُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَالشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ
هِيَ شَجَرَةُ الْوَحْيِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْهُدَى، وَدِينُ الْحَقِّ وَهِيَ
مَادَّةُ الْمِصْبَاحِ الَّتِي يَتَّقِدُ مِنْهَا، وَالنُّورُ عَلَى النُّورِ:
نُورُ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِدْرَاكِ الصَّحِيحِ، وَنُورُ الْوَحْيِ
وَالْكِتَابِ، فَيَنْضَافُ أَحَدُ النُّورَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَزْدَادُ
الْعَبْدُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَلِهَذَا يَكَادُ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَالْحِكْمَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ " مَا " فِيهِ بِالْأَثَرِ ثُمَّ
يَبْلُغُهُ الْأَثَرُ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ وَنَطَقَ بِهِ فَيَتَّفِقُ
عِنْدَهُ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالْفِطْرَةُ وَالْوَحْيُ فَيُرِيَهُ
عَقْلُهُ وَفِطْرَتُهُ وَذَوْقُهُ " أَنَّ " الَّذِي جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ لَا يَتَعَارَضُ
عِنْدَهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ الْبَتَّةَ بَلْ يَتَصَادَقَانِ وَيَتَوَافَقَانِ
فَهَذَا عَلَامَةُ النُّورِ عَلَى النُّورِ، عَكْسُ مَنْ تَلَاطَمَتْ فِي قَلْبِهِ
" أَمْوَاجُ " الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ
مِنَ الظُّنُونِ الْجَهْلِيَّاتِ الَّتِي يُسَمِّيهَا
(2/52)
أَهْلُهَا
الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّاتِ، فَهِيَ فِي صَدْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ
مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ
نُورٍ} [النور: 40] فَانْظُرْ كَيْفَ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ طَرَائِفَ
بَنِي آدَمَ كُلِّهِمْ أَتَمَّ انْتِظَامٍ، وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَكْمَلَ
اشْتِمَالٍ.
[أَقْسَامُ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
[الْقِسْمُ الْأَوَّلِ أَهْلُ الْهُدَى وَالْبَصَائِرِ]
[أَقْسَامُ النَّاسِ] : بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلِ: [أَهْلُ الْهُدَى وَالْبَصَائِرِ] :
فَإِنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ: أَهْلُ الْهُدَى وَالْبَصَائِرِ، الَّذِينَ عَرَفُوا
أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَارَضَهُ فَشُبُهَاتٌ يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ
قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَمْرُهَا فَيَظُنُّهَا شَيْئًا لَهُ
حَاصِلٌ يَنْتَفِعُ بِهِ وَهِيَ: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ
فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39 - 40] .
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أَصْحَابُ الْعِلْمِ
النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْبَارِهِ وَلَمْ يُعَارِضُوهَا بِالشُّبُهَاتِ،
وَأَطَاعُوهُ فِي أَوَامِرِهِ وَلَمْ يُضَيِّعُوهَا بِالشَّهَوَاتِ، فَلَا هُمْ
فِي عَمَلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْخَوْضِ الْخَرَّاصِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ
سَاهُونَ، وَلَا هُمْ فِي
(2/53)
عَمَلِهِمْ
مِنَ الْمُسْتَمْتِعِينَ بِخَلَاقِهِمُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أَضَاءَ لَهُمْ نُورُ الْوَحْيِ الْمُبِينِ فَرَأَوْا فِي نُورِهِ أَهْلَ
الظُّلُمَاتِ فِي ظُلُمَاتِ آرَائِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي ضَلَالَتِهِمْ
يَتَهَوَّكُونَ، وَفِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، مُغْتَرِّينَ بِظَاهِرِ السَّرَابِ،
مُمْحِلِينَ مُجْدِبِينَ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، إِنْ
عِنْدَهُمْ إِلَّا نُخَالَةُ الْأَفْكَارِ وَزُبَالَةُ الْأَذْهَانِ الَّتِي قَدْ
رَضُوا بِهَا وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا وَقَدَّمُوهَا عَلَى السُّنَّةِ
وَالْقُرْآنِ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ
أَوْجَبَهُ لَهُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَنَخْوَةُ الشَّيْطَانِ وَهُمْ لِأَجْلِهِ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ.
(2/54)
[فَصْلٌ
الْقِسْمُ الثَّانِي أَهْلُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ] [أَهْلُ الْجَهْلِ
الْمُرَكَّبِ]
فَصْلٌ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَهْلُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ
الْجَهْلِ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالظُّلْمِ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمُ، الَّذِينَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا
تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] .
وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَهُدًى وَهُمْ أَهْلُ
جَهْلٍ وَضَلَالٍ، فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الَّذِينَ
يَجْهَلُونَ الْحَقَّ وَيُعَادُونَهُ وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ، وَيَنْصُرُونَ
الْبَاطِلَ وَيُوَالُونَهُ وَيُوَالُونَ أَهْلَهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، فَهُمْ لِاعْتِقَادِهِمُ
الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ رَائِي السَّرَابِ
الَّذِي يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا،
فَهَكَذَا هَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ وَعُلُومُهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ الَّذِي
يَخُونُ صَاحِبَهُ أَحْوَجَ مَا هُوَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ
الْخَيْبَةِ وَالْحِرْمَانِ كَمَا هُوَ حَالُ مَنْ أَمَّ السَّرَابَ فَلَمْ
يَجِدْهُ مَاءً بَلِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ أَحْكَمَ
الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلَ الْعَادِلِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَحَسَبَ لَهُ مَا
عِنْدَهُ
(2/55)
مِنَ
الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَوَفَّاهُ إِيَّاهُ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ، وَقَدِمَ
إِلَى مَا عَمِلَ مِنْ عَمَلٍ يَرْجُو نَفْعَهُ فَجَعَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا:
إِذْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَلَا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَتْ تِلْكَ الشُّبُهَاتُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي
كَانَ يَظُنُّهَا عُلُومًا نَافِعَةً كَذَلِكَ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَصَارَتْ
أَعْمَالُهُ وَعُلُومُهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِ.
وَالسَّرَابُ مَا يُرَى فِي الْفَلَوَاتِ الْمُنْبَسِطَةِ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ
وَقْتَ الظَّهِيرَةِ يُسَرِّبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ مَاءٌ يَجْرِي.
وَالْقِيعَةُ وَالْقَاعُ هُوَ: الْمُنْبَسِطُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي لَا جَبَلَ
فِيهِ وَلَا وَادٍ فَشَبَّهَ عُلُومَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ عُلُومَهُ مِنَ الْوَحْيِ
وَأَعْمَالَهُ، بِسَرَابٍ يَرَاهُ الْمُسَافِرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَيَؤُمُّهُ
فَيَخِيبُ ظَنُّهُ وَيَجِدُهُ نَارًا تَلَظَّى، فَهَكَذَا عُلُومُ أَهْلِ
الْبَاطِلِ وَأَعْمَالُهُمْ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ وَاشْتَدَّ بِهِمُ الْعَطَشُ
بَدَتْ لَهُمْ كَالسَّرَابِ فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً فَإِذَا أَتَوْهُ وَجَدُوا
اللَّهَ عِنْدَهُ فَأَخَذَتْهُمْ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ فَعَتَلُوهُمْ إِلَى
نَارِ الْجَحِيمِ فَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ، وَذَلِكَ
الْمَاءُ الَّذِي سُقُوهُ هُوَ تِلْكَ الْعُلُومُ الَّتِي لَا تَنْفَعُ.
وَالْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَيَّرَهَا اللَّهُ
تَعَالَى حَمِيمًا سَقَاهُمْ إِيَّاهُ كَمَا أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ لَا
يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَهُوَ تِلْكَ الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ
(2/56)
الْبَاطِلَةُ
الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ،
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:
103] وَهُمُ الَّذِينَ عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَهُمُ الَّذِينَ عَنَى
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] .
[أَصْحَابُ الظُّلُمَاتِ]
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الصِّنْفِ: أَصْحَابُ الظُّلُمَاتِ وَهُمُ
الْمُنْغَمِسُونَ فِي الْجَهْلِ بِحَيْثُ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، فَهَؤُلَاءِ
أَعْمَالُهُمُ - الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ
التَّقْلِيدِ وَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ نُورٍ " مِنَ " اللَّهِ
تَعَالَى - كَظُلُمَاتٍ - جَمْعُ ظُلْمَةٍ - وَهِيَ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ،
وَظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَظُلْمَةُ الظُّلْمِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَظُلْمَةُ
الشَّكِّ وَالرَّيْبِ، وَظُلْمَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ،
وَالنُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَهُمْ لِيُخْرِجَ بِهِ النَّاسَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسِ ظُلُمَاتٍ، قَوْلُهُ ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ
ظُلْمَةٌ، وَمُدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمُخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ إِلَى
الظُّلْمَةِ، فَقَلْبُهُ مُظْلِمٌ، وَوَجْهُهُ مُظْلِمٌ، وَكَلَامُهُ مُظْلِمٌ، وَحَالُهُ
مُظْلِمَةٌ، وَإِذَا قَابَلَتْ بَصِيرَتُهُ الْخُفَّاشِيَّةُ مَا بَعَثَ اللَّهُ
بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
(2/57)
النُّورِ
جَدَّ فِي الْهَرَبِ مِنْهُ وَكَادَ نُورُهُ يَخْطِفُ بَصَرَهُ فَهَرَبَ إِلَى
ظُلُمَاتِ الْآرَاءِ الَّتِي هِيَ بِهِ أَنْسَبُ وَأَوْلَى كَمَا قِيلَ.
خَفَافِيشُ أَعَشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ
مُظْلِمُ فَإِذَا جَاءَ إِلَى زُبَالَةِ الْأَفْكَارِ وَنُحَاتَةِ الْأَذْهَانِ،
جَالَ وَصَالَ، وَأَبْدَى وَأَعَادَ، وَقَعْقَعَ وَفَرْقَعَ. فَإِذَا طَلَعَ نُورُ
الْوَحْيِ وَشَمْسُ الرِّسَالَةِ، انْحَجَرَ فِي أَحْجِرَةِ الْحَشَرَاتِ.
[فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ. . .)
الْآيَةَ]
[فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ}
[النور: 40] . . .) الْآيَةَ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: 40] ، اللُّجِّيُّ:
الْعَمِيقُ مَنْسُوبٌ إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ وَهِيَ مُعْظَمُهُ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:
40] تَصْوِيرٌ لِحَالِ هَذَا الْمُعْرِضِ عَنْ وَحْيِهِ فَشَبَّهَ تَلَاطُمَ
أَمْوَاجِ الشُّبَهِ وَالْبَاطِلِ فِي صَدْرِهِ بِتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ ذَلِكَ
الْبَحْرِ وَأَنَّهَا أَمْوَاجٌ بَعْضُهَا
(2/58)
فَوْقَ
بَعْضٍ، وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: (يَغْشَاهُ) رَاجِعٌ إِلَى
الْبَحْرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: (مِنْ فَوْقِهِ) عَائِدٌ إِلَى
الْمَوْجِ، ثُمَّ إِنْ تِلْكَ الْأَمْوَاجَ مُغْشَاةٌ بِسَحَابٍ، فَهَاهُنَا
ظُلُمَاتٌ: ظُلْمَةُ الْبَحْرِ اللُّجِّيِّ، وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ الَّذِي فَوْقَهُ،
وَظُلْمَةُ السَّحَابِ: الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أَخْرَجَ - مَنْ فِي
هَذَا الْبَحْرِ - يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
[مَطْلَبٌ فِي بَحْثِ كَادَ]
" مَطْلَبٌ فِي بَحْثِ كَادَ " وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَقَالَ
كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ: هُوَ نَفْيٌ لِمُقَارَبَةِ رُؤْيَتِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ
مِنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُنْفَى وُقُوعُ الشَّيْءِ وَلَا تُنْفَى
مُقَارَبَتُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا بِوَجْهٍ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَكَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَهَا حُكْمُ سَائِرِ
الْأَفْعَالِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قِيلَ: كَادَ يَفْعَلُ،
فَهُوَ إِثْبَاتٌ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ
فَهُوَ نَفْيٌ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، بَلْ هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرَاهَا
بَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ رُؤْيَتِهَا بَعْدَ أَعْظَمِ
الْعُسْرِ ; لِأَجْلِ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، قَالُوا: لِأَنَّ كَادَ لَهَا شَأْنٌ
لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا إِذَا
(2/59)
أَثْبَتَتْ
نَفَتْ وَإِذَا نَفَتْ أَثْبَتَتْ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا كِدْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ
فَمَعْنَاهُ: وَصَلْتُ إِلَيْكَ بَعْدَ الْجُهْدِ وَالشِّدَّةِ فَهَذَا إِثْبَاتٌ
لِلْوُصُولِ، وَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ فَهِيَ نَفْيٌ لِقِيَامِهِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ
يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ. .} [القلم: 51]
الْآيَةَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مُلْغِزًا:
أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ ... جَرَتْ فِي لِسَانَيْ جُرْهُمٍ
وَثَمُودِ
إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي صُورَةِ النَّفْيِ أُثْبِتَتْ ... وَإِنْ أُثْبِتَتْ
قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ
وَغَيْرُهُ: إِنَّ اسْتِعْمَالَهَا مُثْبَتَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ خَبَرِهَا
كَقَوْلِكَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَاسْتِعْمَالُهَا مَنْفِيَّةٌ يَقْتَضِي
نَفْيَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَهِيَ عِنْدُهُ تَنْفِي الْخَبَرَ سَوَاءٌ كَانَتْ
مَنْفِيَّةً أَوْ مُثْبَتَةً (فَلَمْ يَكَدْ زَيْدٌ يَقُومُ) أَبْلَغُ عِنْدَهُ
فِي النَّفْيِ مِنْ (لَمْ يَقُمْ) ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ وَهِيَ
مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ فَقَدْ نَفَتْ مُقَارَبَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ
أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ مُثْبِتَةً فَهِيَ تَقْتَضِي
مُقَارَبَةَ اسْمِهَا لِخَبَرِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ
وَاعْتَذَرَ عَنْ مَثْلِ
(2/60)
قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ. .} [البقرة: 71] الْآيَةَ
وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: وَصَلْتُ إِلَيْكَ وَمَا كِدْتُ أَصِلُ. وَسَلِمْتُ وَمَا
كِدْتُ أَسْلَمُ. بِأَنَّ هَذَا وَارِدٌ عَلَى كَلَامَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ أَيْ:
فَعَلْتُ كَذَا بَعْدَ أَنْ لَمْ أَكُنْ مُقَارِبًا لَهُ فَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي
وُجُودَ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَارِبًا لَهُ
بَلْ كَانَ آيِسًا مِنْهُ فَهُمَا كَلَامَانِ مَقْصُودٌ بِهِمَا أَمْرَانِ
مُتَغَايِرَانِ، وَذَهَبَتْ فَرِقَّةٌ رَابِعَةٌ: إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ
مَاضِيهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ فَهِيَ
لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ
الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِ النَّفْيِ، فَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ
الْمُسْتَقْبَلِ كَانَتْ لِنَفْيِ الْفِعْلِ وَمُقَارَبَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ، وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ
الْمَاضِي فَهِيَ تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ لِلنُّحَاةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهَا فِعْلٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَبَةَ وَلَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْأَفْعَالِ،
وَنَفْيُ الْخَبَرِ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ لَفْظِهَا وَوَضْعِهَا فَإِنَّهَا لَمْ
تُوضَعْ لِنَفْيِهِ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهَا
إِذَا اقْتَضَتْ مُقَارَبَةَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فَيَكُونُ مَنْفِيًّا
بِاللُّزُومِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ مَنْفِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ فِي
كَلَامٍ وَاحِدٍ فَهِيَ لِنَفْيِ الْمُقَارَبَةِ كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا يَكَادُ
الْبَطَّالُ يُفْلِحُ وَلَا يَكَادُ الْبَخِيلُ يَسُودُ وَلَا يَكَادُ الْجَبَانُ يَفْرَحُ
وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي كَلَامَيْنِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ الْفِعْلِ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَارِبًا كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، فَهَذَا
التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِهَا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ
(2/61)
تَعَالَى
{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَإِذَا كَانَ
لَا يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا غَيَّرَ النَّائِي الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ
حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أَيْ: لَمْ يُقَارِبِ الْبَرَاحَ وَهُوَ الزَّوَالُ فَكَيْفَ يَزُولُ، فَشَبَّهَ
سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ أَوَّلًا فِي فَوَاتِ نَفْعِهَا وَحُصُولِ ضَرَرِهَا
عَلَيْهِمْ بِسَرَابٍ خَدَّاعٍ يَخْدَعُ رَائِيِهِ مِنْ بَعِيدٍ فَإِذَا جَاءَهُ
وَجَدَ عِنْدَهُ عَكْسَ مَا أَمَّلَهُ وَرَجَاهُ، وَشَبَّهَهَا ثَانِيًا فِي
ظُلْمَتِهَا وَسَوَادِهَا لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً خَالِيَةً عَنْ نُورِ الْإِيمَانِ
بِظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ فِي لُجُجِ الْبَحْرِ الْمُتَلَاطِمِ الْأَمْوَاجِ
الَّذِي قَدْ غَشِيَهُ السَّحَابُ مِنْ فَوْقِهِ فَيَالَهُ تَشْبِيهًا مَا
أَبْدَعَهُ وَأَشَدَّهُ مُطَابَقَةً بِحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ
وَحَالِ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى خِلَافِ مَا بَعَثَ
بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ بِهِ
كِتَابَهُ.
وَهَذَا التَّشْبِيهُ هُوَ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ
بِالْمُطَابَقَةِ وَالتَّصْرِيحِ وَلِعُلُومِهِمْ وَعَقَائِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ
بِاللُّزُومِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّرَابِ وَالظُّلُمَاتِ مَثَلٌ لِمَجْمُوعِ
عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَهِيَ سَرَابٌ لَا حَاصِلَ لَهَا وَظُلُمَاتٌ لَا
نُورَ فِيهَا.
(2/62)
وَهَذَا
عَكْسُ مُثُلِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِ وَعُلُومِهِ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ
مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهَا مِثْلُ الْغَيْثِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ
الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَمِثْلُ النُّورِ الَّذِي بِهِ انْتِفَاعُ أَهْلِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا. . .) الْآيَةَ]
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا} [البقرة: 17] . . .) الْآيَةَ:
وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ فِي الْقُرْآنِ
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ كَمَا ذَكَرَهُمَا فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ
فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
[البقرة: 17] .
شَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْدَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْمٍ أَوْقَدُوا
نَارًا لِتُضِيءَ لَهُمْ وَيَنْتَفِعُوا بِهَا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمُ
النَّارُ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَأَبْصَرُوا
الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا حَيَارَى تَائِهِينَ فَهُمْ كَقَوْمٍ سَفْرٍ
ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ فَأَوْقَدُوا النَّارَ لِتُضِيءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ ;
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَبْصَرُوا وَعَرَفُوا طُفِئَتْ تِلْكَ النَّارُ
وَبَقُوا فِي الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُونَ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ
الْهُدَى الثَّلَاثُ، فَإِنَّ الْهُدَى يَدْخُلُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَبْوَابٍ، مِمَّا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَيَعْقِلُهُ
بِقَلْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْهُدَى فَلَا
تَسْمَعُ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا وَلَا تُبْصِرُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَا يَنْفَعُهَا.
وَقِيلَ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ
نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عَقْلَ،
وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
[البقرة: 18] ; لِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا فِي ضَوْءِ النَّارِ وَأَبْصَرُوا
الْهُدَى فَلَمَّا طُفِئَتْ عَنْهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى مَا رَأَوْا
وَأَبْصَرُوا وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
(2/63)
{ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، وَلَمْ يَقُلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، وَفِيهِ
سِرٌّ بَدِيعٌ وَهُوَ انْقِطَاعُ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ
لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] ، فَذَهَابُ
اللَّهِ بِذَلِكَ النُّورِ انْقِطَاعٌ لِمَعِيَّتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ
لِلْمُؤْمِنِينَ خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ فَقَطَعَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ بَعْدَ ذَهَابِ نُورِهِمْ وَلَا
مَعَهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَلَا مِنْ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي
سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] كَيْفَ
جَعَلَ ضَوْءَهَا خَارِجًا عَنْهُ مُنْفَصِلًا وَلَوِ اتَّصَلَ ضَوْءُهَا بِهِ
وَلَابَسَهُ لَمْ يَذْهَبْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَوْءَ مُجَاوَرَةٍ لَا مُلَابَسَةٍ
وَمُخَالَطَةٍ وَكَانَ الضَّوْءُ عَارِضًا وَالظُّلْمَةُ أَصْلِيَّةً فَرَجَعَ
الضَّوْءُ إِلَى مَعْدِنِهِ وَبَقِيَتِ الظُّلْمَةُ فِي مَعْدِنِهَا فَرَجَعَ
كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى أَصْلِهِ اللَّائِقِ بِهِ، حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ قَائِمَةٌ،
وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ تَعَرَّفَ بِهَا إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ عِبَادِهِ،
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وَلَمْ
يَقُلْ: بِنَارِهِمْ لِتُطَابِقَ أَوَّلَ الْآيَةِ ; فَإِنَّ النَّارَ فِيهَا
إِشْرَاقٌ وَإِحْرَاقٌ، فَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْرَاقِ وَهُوَ النُّورُ
وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الْإِحْرَاقِ وَهُوَ النَّارِيَّةُ.
(2/64)
وَتَأَمَّلْ
كَيْفَ قَالَ: {بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وَلَمْ يَقُلْ: بِضَوْئِهِمْ مَعَ
قَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] ; لِأَنَّ الضَّوْءَ
هُوَ زِيَادَةٌ فِي النُّورِ، وَلَوْ قِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ لَأَوْهَمَ
الذَّهَابَ بِالزِّيَادَةِ فَقَطْ دُونَ الْأَصْلِ، فَلَمَّا كَانَ النُّورُ
أَصْلُ الضَّوْءِ كَانَ الذَّهَابُ بِهِ ذَهَابًا بِالشَّيْءِ وَزِيَادَتِهِ،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ
الظُّلُمَاتِ الَّذِينَ لَا نُورَ لَهُمْ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى سَمَّى كِتَابَهُ نُورًا، وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُورًا، وَدِينَهُ نُورًا، وَهُدَاهُ نُورًا، وَمِنْ أَسْمَائِهِ
النُّورُ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، فَذَهَابُهُ سُبْحَانَهُ بِنُورِهِمْ ذَهَابٌ
بِهَذَا كُلِّهِ.
وَتَأَمَّلْ مُطَابَقَةَ هَذَا الْمَثَلِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ، كَيْفَ طَابَقَ
هَذِهِ التِّجَارَةَ الْخَاسِرَةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الضَّلَالَةِ
وَالرِّضَى بِهَا وَبَذْلَ الْهُدَى فِي مُقَابَلَتِهَا وَحُصُولَ الظُّلُمَاتِ
الَّتِي هِيَ الضَّلَالَةُ وَالرِّضَى بِهَا، بَدَلًا عَنِ النُّورِ الَّذِي هُوَ
الْهُدَى وَالنُّورُ فَبَذَلُوا الْهُدَى وَالنُّورَ وَتَعَوَّضُوا عَنْهُ
بِالظُّلْمَةِ وَالضَّلَالَةِ فَيَالَهَا " مِنْ " تِجَارَةٍ مَا
أَخْسَرَهَا وَصَفْقَةٍ مَا أَشَدَّ غَبْنَهَا. وَتَأَمَّلْ
(2/65)
كَيْفَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] فَوَحَّدَهُ،
ثُمَّ قَالَ: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]
فَجَمَعَهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَهُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ
الَّذِي لَا صِرَاطَ يُوصِلُ إِلَيْهِ سِوَاهُ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَطُرُقِ الْخَارِجِينَ عَمَّا بَعَثَ
اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِخِلَافِ طُرُقِ
الْبَاطِلِ، فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ وَلِهَذَا يُفْرِدُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحَقَّ، وَيَجْمَعُ الْبَاطِلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} [البقرة: 257] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فَجَمَعَ سُبُلَ الْبَاطِلِ وَوَحَّدَ سَبِيلَهُ
الْحَقَّ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ
طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا سَبِيلُهُ الْوَاحِدُ وَصِرَاطُهُ
الْمُسْتَقِيمُ، فَإِنَّ طُرُقَ مَرْضَاتِهِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى صِرَاطٍ
وَاحِدٍ وَسَبِيلٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ سَبِيلُهُ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا
مِنْهَا وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
خَطَّ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا
عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ
مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَمَا يُوقِدُونَهُ مِنْ نَارِ
الْفِتْنَةِ الَّتِي يُوقِعُونَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
(2/66)
وَيَكُونُ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ}
[المائدة: 64] وَيَكُونُ تَخْيِيبُهُمْ وَإِبْطَالُ مَا رَامُوهُ هُوَ تَرْكُهُمْ
فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا وَقَعُوا
فِيهِ وَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلًا بَلْ هُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
وَهَذَا التَّقْدِيرُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَفِي كَوْنِهِ مُرَادًا بِالْآيَةِ
نَظَرٌ، فَإِنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا قُصِدَ لِغَيْرِهِ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] وَمَوْقِدُ نَارِ
الْحَرْبِ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَهُ أَبَدًا، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وَمَوْقِدُ نَارِ الْحَرْبِ لَا نُورَ لَهُ،
وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}
[البقرة: 17] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ
وَالْبَصِيرَةِ إِلَى ظُلْمَةِ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ، قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ
اللَّهُ: هُوَ الْمُنَافِقُ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ وَعَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ،
وَلِهَذَا قَالَ: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] . " أَيْ: لَا
يَرْجِعُونَ " إِلَى النُّورِ الَّذِي فَارَقُوهُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] فَسَلَبَ الْعَقْلَ عَنِ الْكُفَّارِ إِذْ
(2/67)
لَمْ
يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ وَسَلَبَ الرُّجُوعَ عَنِ
الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى
الْإِيمَانِ.
[فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ. . .}
[البقرة: 19] الْآيَةَ]
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ مَائِيًّا
فَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] فَشَبَّهَ نَصِيبَهُمْ
مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ بِنَصِيبِ الْمُسْتَوْقِدِ لِلنَّارِ الَّتِي طُفِئَتْ
عَنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَذَهَبَ نُورُهُ وَبَقِيَ فِي الظُّلُمَاتِ
حَائِرًا تَائِهًا لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا، وَبِنَصِيبِ
أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَصُوبُ أَيْ يَنْزِلُ مِنْ
عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ فَشَبَّهَ الْهُدَى الَّذِي هَدَى بِهِ عِبَادَهُ
بِالصَّيِّبِ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَا بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ،
وَنَصِيبَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْهُدَى بِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ
مِنَ الصَّيِّبِ إِلَّا ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِيمَا
وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصَّيِّبِ مِنْ حَيَاةِ الْبِلَادِ
وَالْعِبَادِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ، وَأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي
فِيهِ، وَذَلِكَ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ
إِلَى كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الصَّيِّبِ، فَالْجَاهِلُ لِفَرْطِ جَهْلِهِ
يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِمَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ ظُلْمَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ
وَلَوَازِمُ ذَلِكَ مِنْ بَرْدٍ شَدِيدٍ وَتَعَطُّلِ مُسَافِرٍ عَنْ سَفَرِهِ
وَصَانِعٍ عَنْ صَنْعَتِهِ، وَلَا بَصِيرَةَ لَهُ تَنْفُذُ إِلَى مَا يَئُولُ
إِلَيْهِ أَمْرُ ذَلِكَ الصَّيِّبِ مِنَ الْحَيَاةِ
(2/68)
وَالنَّفْعِ الْعَامِّ، وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ قَاصِرِ النَّظَرِ ضَعِيفِ الْعَقْلِ لَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الظَّاهِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ. وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ صَحَّتْ بَصِيرَتُهُ، فَإِذَا رَأَى ضَعِيفُ الْبَصِيرَةِ مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ " التَّعَبِ " وَالْمَشَاقِّ وَالتَّعَرُّضِ لِتَلَافِ الْمُهْجَةِ وَالْجِرَاحَاتِ الشَّدِيدَةِ وَمَلَامَةِ اللُّوَّامِ وَمُعَادَاةِ مَنْ يَخَافُ مُعَادَاتَهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي إِلَيْهَا تَسَابَقَ الْمُتَسَابِقُونَ وَفِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرِ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَلَمْ " يَعْلَمْ " مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَّا مَشَقَّةَ السَّفَرِ وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ وَمُقَاسَاةَ الشَّدَائِدِ وَفِرَاقَ الْمَأْلُوفَاتِ وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ آخِرَ ذَلِكَ السَّفَرِ وَمَآلَهُ وَعَاقِبَتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ وَحَالُ هَؤُلَاءِ حَالُ ضَعِيفِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي يَرَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّوَاجِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ الشَّاقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ الَّتِي تَفْطِمُهَا عَنْ رِضَاعِهَا مِنْ ثَدْيِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالْفِطَامُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْعَبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ صِبْيَانُ الْعُقُولِ إِلَّا مَنْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَلِبَّاءِ وَأَدْرَكَ الْحَقَّ عِلْمًا وَعَمَلًا وَمَعْرِفَةً فَهَذَا الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَاءِ الصَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: شَبَّهَ دِينَ
(2/69)
الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَا بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْكُفَّارِ بِالظُّلُمَاتِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ مِنَ الْأَفْزَاعِ وَالْبَلَايَا وَالْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ وَالْمُرَادُ كَمَثَلِ قَوْمٍ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَقُوا مِنْهَا مَا لَقُوا. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ لَا يَتَخَطَّوْنَهُ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ لَا يَتَكَلَّفُ لِوَاحِدٍ وَاحِدٌ شَيْئًا يُقَدَّرُ شَبَهُهُ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ الْفَحْلُ، وَالْمَذْهَبُ الْجَزْلُ بَيَانُهُ أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى مَعْزُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَأْخُذْ هَذَا بِحُجْزَةِ ذَاكَ فَشَبَّهَهَا بِنَظَائِرِهَا. . كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ شَبَّهَ كَيْفِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ قَدْ تَضَامَنَتْ وَتَلَاصَقَتْ حَتَّى
(2/70)
عَادَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] الْآيَةَ، الْغَرَضُ تَشْبِيهُ حَالِ الْيَهُودِ فِي جَهْلِهَا بِمَا مَعَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَآيَاتِهَا الْبَاهِرَةِ بِحَالِ الْحِمَارِ فِي جَهْلِهِ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ أَسْفَارِ الْحِكْمَةِ، وَتُسَاوِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَهُ مَنْ حَمَلَ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ وَحَمَلَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْأَوْقَارِ وَلَا يَشْعُرُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا يَمُرُّ بِدُفَّيْهِ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] الْآيَةَ، الْمُرَادُ: قِلَّةُ بَقَاءِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَقِلَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْخَضِرِ، فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ تَشْبِيهُ الْأَفْرَادِ بِالْأَفْرَادِ غَيْرِ مَنُوطٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَمَصِيرُهُ شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا. فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ وُقُوعَ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَمَا خُبِّطُوا فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ شُبِّهَتْ حَيْرَتُهُمْ وَشِدَّةُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طُفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ وَخَوْفٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ التَّمْثِيلَيْنِ أَبْلَغُ؟ قُلْتُ: الثَّانِي لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ
(2/71)
الْحَيْرَةِ
وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ، وَلِذَلِكَ أُخِّرَ وَهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي
مِثْلِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ.
[أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْهُدَى الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
[الْقِسْمُ الْأَوَّلِ قَبِلُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا]
(أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْهُدَى الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قُلْتُ: " قَالَ شَيْخُنَا ": النَّاسُ فِي الْهُدَى الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةُ
أَقْسَامٍ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ
إِلَى هُنَا.
الْقِسْمُ الْأَوَّلِ: قَبِلُوهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُمْ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْفِقْهِ فِيهِ وَالْفَهْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَهُمُ
الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى كِتَابَهُ وَفَهِمُوا
مُرَادَهُ وَبَلَّغُوهُ إِلَى الْأُمَّةِ وَاسْتَنْبَطُوا أَسْرَارَهُ
وَكُنُوزَهُ، فَهَؤُلَاءِ كَمَثَلِ الْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي قَبِلَتِ
الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ فَرَعَى النَّاسُ فِيهِ
وَرَعَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَأِ الْغِذَاءَ وَالْقُوتَ
وَالدَّوَاءَ وَسَائِرَ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ.
النَّوْعُ الثَّانِي: حَفِظُوهُ وَضَبَطُوهُ وَبَلَّغُوا أَلْفَاظَهُ إِلَى
الْأُمَّةِ فَحَفِظُوا عَلَيْهِمُ النُّصُوصَ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ
الِاسْتِنْبَاطِ وَالْفِقْهِ فِي مُرَادِ الشَّارِعِ، فَهُمْ أَهْلُ حِفْظٍ
وَضَبْطٍ وَأَدَاءٍ لِمَا سَمِعُوهُ وَالْأَوَّلُونَ أَهْلُ فَهْمٍ وَفِقْهٍ
وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِثَارَةٍ لِدَفَائِنِهِ وَكُنُوزِهِ وَهَذَا النَّوْعُ
الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الَّتِي أَمْسَكَتِ الْمَاءَ لِلنَّاسِ فَوَرَدُوهُ
وَشَرِبُوا مِنْهُ وَسَقَوْا مِنْهُ أَنْعَامَهُمْ وَزَرَعُوا بِهِ.
[فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي مَنْ رَدَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَفَرَ بِهِ
وَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا]
فَصْلٌ:
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ رَدَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَفَرَ بِهِ وَلَمْ
يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَرَفَهُ وَتَيَقَّنَ صِحَّتَهُ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَلَكِنْ حَمَلَهُ
الْحَسَدُ وَالْكِبْرُ وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ
(2/72)
وَالتَّقَدُّمِ
بَيْنَ قَوْمِهِ عَلَى جَحْدِهِ وَدَفْعِهِ بَعْدَ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
سَادَاتُنَا وَكُبَرَاؤُنَا وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا يَقْبَلُونَهُ وَمَا
يَرُدُّونَهُ وَلَنَا أُسْوَةٌ بِهِمْ وَلَا نَرْغَبُ بِأَنْفُسِنَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ،
وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانُوا هُمْ أَهْلَهُ وَأَوْلَى بِقَبُولِهِ، وَهَؤُلَاءِ
بِمَنْزِلَةِ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ يُسَاقُونَ حَيْثُ يَسُوقُهُمْ
رَاعِيهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {إِذْ
تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا
كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ
النَّارِ} [البقرة: 166] . وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا
الرَّسُولَ - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ
وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 - 68] .
وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ
أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47] .
وَقَالَ فِيهِمْ: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ - هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ
إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص: 57 - 60] أَيْ
سَنَنْتُمُوهُ لَنَا وَشَرَعْتُمُوهُ: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا
فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61] فَقَوْلُهُمْ: {لَا مَرْحَبًا
بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص: 59] أَيْ: دَخَلُوهَا كَمَا دَخَلْنَاهَا
وَمُقَاسُونَ عَذَابَهَا كَمَا نُقَاسِيِهِ فَأَجَابَهُمُ الْأَتْبَاعُ وَقَالُوا:
{قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص:
60] وَفِي الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَمِيرُ الْكُفْرِ
وَالتَّكْذِيبِ وَرَدُّ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاسْتِبْدَالُ
(2/73)
غَيْرِهِ
بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنْتُمْ زَيَّنْتُمْ لَنَا الْكُفْرَ وَدَعَوْتُمُونَا
إِلَيْهِ وَحَسَّنْتُمُوهُ لَنَا، وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ قَوْلُ
الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا:
أَنْتُمْ شَرَعْتُمْ لَنَا تَكْذِيبَ الرُّسُلِ وَرَدَّ مَا جَاءُوا بِهِ
وَالشِّرْكَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَدَأْتُمْ بِهِ
وَتَقَدَّمْتُمُونَا إِلَيْهِ فَدَخَلْتُمُ النَّارَ قَبْلَنَا فَبِئْسَ
الْقَرَارُ، أَيْ: بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ وَالْمَنْزِلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ
لَنَا. ضَمِيرُ الْعَذَابِ وَصِلِيِّ النَّارِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ،
وَهُمَا حَقٌّ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا
ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَتْبَاعُ دَعَوْا عَلَى
سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ
حَمَلُوهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ
أَهْلِ النَّارِ سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يَزِيدَ مَنْ سَنَّ لَهُمُ الشِّرْكَ
وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ضِعْفًا، وَهُمُ
الشَّيَاطِينُ.
[فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْهُدَى الَّذِي
بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَبِلُوا
مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ
ظَاهِرًا وَجَحَدُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ بَاطِنًا]
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ " مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْهُدَى
الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ":
الَّذِينَ قَبِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَآمَنُوا بِهِ ظَاهِرًا وَجَحَدُوهُ وَكَفَرُوا بِهِ بَاطِنًا وَهُمُ
الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ هَذَانِ الْمَثَلَانِ بِمُسْتَوْقَدِ
النَّارِ وَبِالصَّيِّبِ وَهُمْ أَيْضًا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِي، وَعَلِمَ ثُمَّ جَهِلَ، وَأَقَرَّ ثُمَّ
أَنْكَرَ، وَآمَنَ ثُمَّ كَفَرَ، فَهَؤُلَاءِ رُءُوسُ
(2/74)
أَهْلِ
النِّفَاقِ وَسَادَاتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ، وَمَثَلُهُمْ مَثَلُ مَنِ اسْتَوْقَدَ
نَارًا ثُمَّ حَصَلَ بَعْدَهَا عَلَى الظُّلْمَةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: ضُعَفَاءُ الْبَصَائِرِ الَّذِينَ أَعْشَى بَصَائِرَهُمْ
ضَوْءُ الْبَرْقِ فَكَادَ أَنْ يَخْطِفَهَا لِضَعْفِهَا وَقُوَّتِهِ، وَأَصَمَّ
آذَانَهُمْ صَوْتُ الرَّعْدِ فَهُمْ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
مِنَ الصَّوَاعِقِ وَلَا يَقْرَبُونَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ ;
بَلْ يَهْرُبُونَ مِنْهُ وَيَكُونُ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَسْمَعُ الرَّعْدَ
الشَّدِيدَ، فَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهُ يَجْعَلُ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ،
وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ خَفَافِيشِ الْبَصَائِرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِ
الْوَحْيِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً لِمَا تَلَقَّاهُ عَنْ أَسْلَافِهِ
وَذَوِي مَذْهَبِهِ، وَمَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ وَرَآهَا مُخَالِفَةً لِمَا
عِنْدَهُ عَنْهُمْ هَرَبَ مِنَ النُّصُوصِ وَكَرِهَ مَنْ يُسْمِعُهُ إِيَّاهَا،
وَلَوْ أَمْكَنَهُ لَسَدَّ أُذُنَيْهِ عِنْدَ سَمَاعِهَا وَيَقُولُ: دَعْنَا مِنْ
هَذِهِ وَلَوْ قَدَرَ لَعَاقَبَ مَنْ يَتْلُوهَا وَيَحْفَظُهَا وَيَنْشُرُهَا
وَيُعَلِّمُهَا، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا مَا يُوَافِقُ مَا عِنْدَهُ مَشَى
فِيهَا وَانْطَلَقَ فَإِذَا جَاءَتْ بِخِلَافِ مَا عِنْدَهُ أَظْلَمَتْ عَلَيْهِ
فَقَامَ حَائِرًا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، ثُمَّ يَعْزِمُ لَهُ التَّقْلِيدُ
وَحُسْنُ الظَّنِّ بِرُؤَسَائِهِ وَسَادَتِهِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا قَالُوهُ
دُونَهَا، وَيَقُولُ مِسْكِينُ الْحَالِ: هُمْ أَخْبَرُ بِهَا مِنِّي وَأَعْرَفُ،
فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ! أَوَلَيْسَ أَهْلُهَا وَالذَّابُّونَ عَنْهَا
وَالْمُنْتَصِرُونَ لَهَا وَالْمُعَظِّمُونَ لَهَا وَالْمُخَالِفُونَ لِأَجْلِهَا
آرَاءَ الرِّجَالِ، الْمُقَدِّمُونَ لَهَا عَلَى مَا خَالَفَهَا، أَعْرَفَ بِهَا
أَيْضًا مِنْكَ وَمِمَّنِ اتَّبَعْتَهُ فَلِمَ كَانَ مَنْ خَالَفَهَا وَعَزَلَهَا
عَنِ الْيَقِينِ وَزَعَمَ أَنَّ الْهُدَى وَالْعِلْمَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا
وَأَنَّهَا أَدِلَّةٌ لَفْظِيَّةٌ لَا تُفِيدُ شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ
التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَيُسَمِّيهَا الظَّوَاهِرَ النَّقْلِيَّةَ، وَيُسَمِّي
مَا خَالَفَهَا الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ، فَلِمَ كَانَ هَؤُلَاءِ أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا وَكَانَ أَنْصَارُهَا وَالذَّابُّونَ عَنْهَا وَالْحَافِظُونَ لَهَا
هُمْ أَعْدَاؤُهَا وَمُحَارِبُوهَا؟ ! .
(2/75)
وَلَكِنْ
هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّهُمْ يُعَادُونَ الْحَقَّ
وَأَهْلَهُ وَيَنْسِبُونَهُمْ إِلَى مُعَادَاتِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، كَالرَّافِضَةِ
الَّذِينَ عَادَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ
وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَنَسَبُوا أَتْبَاعَهُ وَأَهْلَ سُنَّتِهِ إِلَى مُعَادَاةِ
أَهْلِ بَيْتِهِ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا
الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34] ،
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ صِنْفَانِ: أَئِمَّةٌ وَسَادَةٌ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَقَدْ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ. وَأَتْبَاعٌ لَهُمْ
بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ وَالْبَهَائِمِ، فَأُولَئِكَ زَنَادِقَةٌ
مُسْتَبْصِرُونَ، وَهَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ مُقَلِّدُونَ. فَهَؤُلَاءِ أَصْنَافُ
بَنِي آدَمَ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَا يُجَاوِزُ هَذِهِ السُّنَّةَ
اللَّهُمَّ إِلَّا مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ وَأَبْطَنَ الْإِيمَانَ كَحَالِ
الْمُسْتَضْعَفِ بَيْنَ الْكُفَّارِ الَّذِي تَبَيَّنَ لَهُ الْإِسْلَامُ وَلَمْ
يُمْكِنْهُ الْمُهَاجِرَةُ بِخِلَافِ قَوْمِهِ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الضَّرْبُ فِي
النَّاسِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَعْدِهِ، وَهَؤُلَاءِ عَكْسُ
الْمُنَافِقِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
(مُوجَزٌ لِأَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ
رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
وَعَلَى هَذَا فَالنَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِمَّا كَافِرًا
ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ مُؤْمِنٌ ظَاهِرًا كَافِرٌ بَاطِنًا أَوْ كَافِرٌ
ظَاهِرًا مُؤْمِنٌ بَاطِنًا. وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ قَدِ اشْتَمَلَ
عَلَيْهَا الْوُجُودُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَحْكَامَهَا، فَالْأَقْسَامُ
الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا أَوَّلُ سُورَةِ
الْبَقَرَةِ.
[الْقِسْمُ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْهُدَى الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
إِيمَانَهُمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِهِ]
" الْقِسْمُ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ فِي الْهُدَى الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ. .}
[الفتح: 25] الْآيَةَ
(2/76)
فَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَكْتُمُونَ إِيمَانَهُمْ فِي قَوْمِهِمْ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ النَّجَّاشِيُّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ مَلِكَ نَصَارَى الْحَبَشَةِ وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنًا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ وَأَمْثَالَهُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 199] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113] فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُتَمَسُّكَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْكُفْرِ وَأَوْجَبَ لَهُمُ النَّارَ فَلَا يُثْنَى عَلَيْهِمْ بِهَذَا الثَّنَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَايَنَ قَوْمَهُ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ الِاعْتِبَارُ قَدْ زَالَ بِالْإِسْلَامِ وَاسْتَحْدَثُوا اسْمَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الِاسْمَ عَلَى مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا " هُوَ " الْمَعْرُوفُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. . .} [آل عمران: 70] الْآيَةَ. {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. .} [آل عمران: 64]
(2/77)
{يَاأَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ. .} [آل عمران: 65] الْآيَةَ.
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ. .} [البقرة: 144] الْآيَةَ.
وَلِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ،
وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. .} [آل عمران: 199] الْآيَةَ، أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ زَادَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَأَصْحَابُهُ، وَذَكَرَ
ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ
قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اخْرُجُوا فَصَلُّوا عَلَى
أَخٍ لَكُمْ فَصَلَّى بِنَا فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ فَقَالَ: هَذَا
النَّجَاشِيُّ أَصْحَمَةُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا
يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. . .} [آل
عمران: 199] الْآيَةَ» . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ قَدْ
ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَبَيَّنَ أَحْكَامَهَا فِي الدُّنْيَا
وَأَحْكَامَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْأَقْسَامِ مَنْ
آمَنَ ظَاهِرًا وَكَفَرَ بَاطِنًا، وَأَنَّهُمْ نَوْعَانِ: رُؤَسَاؤُهُمْ
وَسَادَاتُهُمْ، وَأَتْبَاعُهُمْ وَمُقَلِّدُوهُمْ، وَعَلَى
(2/78)
هَذَا
فَأَصْحَابُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ النَّارِيِّ شَرٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ
الثَّانِي الْمَائِيِّ كَمَا يَدُلُّ السِّيَاقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ: -
وَهُوَ أَوْلَى - إِنَّ الْمَثَلَيْنِ لِسَائِرِ النَّوْعِ. وَأَنَّهُمْ قَدْ
جَمَعُوا بَيْنَ مُقْتَضَى الْمَثَلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِنْكَارِ بَعْدَ
الْإِقْرَارِ. وَالْحُصُولِ فِي الظُّلُمَاتِ بَعْدَ النُّورِ، وَبَيْنَ مُقْتَضَى
الْمَثَلِ الثَّانِي مِنْ ضِعْفِ الْبَصِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ وَسَدِّ الْآذَانِ
عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ هَذَا
وَهَذَا، وَقَدْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ،
وَعَلَى فَرِيقٍ " مِنْهُمْ " الْمَثَلَ الثَّانِي.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْحِكَمِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمَثَلَانِ
الْمُتَقَدِّمَانِ]
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَانِ الْمَثَلَانِ عَلَى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ:
مِنْهَا: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِالنَّارِ مُسْتَضِيءٌ بِنُورٍ مِنْ جِهَةِ
غَيْرِهِ لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ تِلْكَ النَّارُ بَقِيَ فِي
ظُلْمَةٍ. وَهَكَذَا الْمُنَافِقُ لَمَّا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ
اعْتِقَادٍ وَمَحَبَّةٍ بِقَلْبِهِ وَتَصْدِيقٍ جَازِمٍ كَانَ مَا مَعَهُ مِنَ
النُّورِ كَالْمُسْتَعَارِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ضِيَاءَ النَّارِ يَحْتَاجُ فِي دَوَامِهِ إِلَى مَادَّةٍ
تَحْمِلُهُ وَتِلْكَ الْمَادَّةُ لِلضِّيَاءِ بِمَنْزِلَةِ غِذَاءِ الْحَيَوَانِ،
فَكَذَلِكَ نُورُ الْإِيمَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَادَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ يَقُومُ بِهَا وَيَدُومُ بِدَوَامِهَا فَإِذَا انْقَطَعَتْ
مَادَّةُ الْإِيمَانِ طُفِيءَ كَمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِفَرَاغِ مَادَّتِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الظُّلْمَةَ نَوْعَانِ: ظُلْمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَمْ
يَتَقَدَّمْهَا نُورٌ، وَظُلْمَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ النُّورِ وَهِيَ أَشَدُّ
الظُّلْمَتَيْنِ وَأَشَقُّهُمَا عَلَى مَنْ كَانَتْ حَظَّهُ، وَظُلْمَةُ
الْمُنَافِقِ ظُلْمَةٌ بَعْدَ إِضَاءَةٍ فَمُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ
الْمُسْتَوْقِدِ لِلنَّارِ الَّذِي حَصَلَ فِي الظُّلْمَةِ بَعْدَ الضَّوْءِ،
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي الظُّلُمَاتِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا قَطُّ.
(2/79)
وَمِنْهَا:
أَنَّ فِي هَذَا الْمَثَلِ إِيذَانًا وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا ظَاهِرًا كَمَا كَانَ نُورُهُمْ فِي الدُّنْيَا
ظَاهِرًا ثُمَّ يُطْفَأُ ذَلِكَ النُّورُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهِ إِذْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ مَادَّةٌ بَاقِيَةٌ تَحْمِلُهُ وَيَبْقَوْنَ عَلَى الْجِسْرِ فِي
الظُّلْمَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعُبُورَ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ
عُبُورَهُ إِلَّا بِنُورٍ ثَابِتٍ يَصْحَبُهُ حَتَّى يَقْطَعَ الْجِسْرَ، فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ النُّورِ مَادَّةٌ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ
الصَّالِحِ وَإِلَّا ذَهَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ
صَاحِبُهُ، فَطَابَقَ مَثَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِحَالَتِهِمُ الَّتِي هُمْ
عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَبِحَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَمَا
تُقَسَّمُ الْأَنْوَارُ دُونَ الْجِسْرِ وَيَثْبُتُ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ
وَيُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ.
وَمِنْ هَاهُنَا تَعْلَمُ السِّرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ. . .} [البقرة: 17] الْآيَةَ وَلَمْ يَقُلْ: أَذْهَبَ اللَّهُ
نُورَهُمْ، فَإِنْ أَرَدْتَ زِيَادَةَ بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ فَتَأَمَّلْ مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا.
وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْوُرُودِ فَقَالَ: ( «نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
" عَلَى تَلٍّ " فَوْقَ النَّاسِ قَالَ: فَتُدْعَى الْأُمَمُ
بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، ثُمَّ يَأْتِينَا
رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْتَظِرُونَ؟
فَيَقُولُونَ نَنْتَظِرُ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ:
حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ
بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُنَافِقٍ أَوْ
مُؤْمِنٍ نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبَ
وَحَسَكٍ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ
الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ
(2/80)
فَيَنْجُو
أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا
لَا يُحَاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَاءِ نَجْمٍ فِي
السَّمَاءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تُحَلُّ الشَّفَاعَةُ وَيُشَفَّعُونَ حَتَّى
يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي
قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً فَيُجْعَلُونَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ
وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ» . وَذَكَرَ بَاقِي
الْحَدِيثِ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: «فَيَنْطَلِقُ فَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ
مِنْهُمْ نُورًا الْمُنَافِقِ وَالْمُؤْمِنِ» ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ
تَعَالَى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] الْآيَةَ. وَتَأَمَّلْ حَالَهُمْ إِذَا أُطْفِئَتْ
أَنْوَارُهُمْ فَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي نُورِ إِيمَانِهِمْ
يَتَّبِعُونَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «لِتَتْبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا
كَانَتْ تَعْبُدُ» " فَيَتْبَعُ كُلُّ " مُشْرِكٍ إِلَهَهُ الَّذِي
كَانَ يَعْبُدُهُ. وَالْمُوَحِّدُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَتْبَعَ الْإِلَهَ الْحَقَّ
الَّذِي كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ
يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:
42] وَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،
وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ: فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقِهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ
تُبَيِّنُ الْمُرَادَ بِالسَّاقِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَتَأَمَّلْ ذِكْرِ
الِانْطِلَاقِ وَاتِّبَاعِهِ سُبْحَانَهُ، بَعْدَ هَذَا وَذَلِكَ يَفْتَحُ لَكَ بَابًا
مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَمُعَامَلَةِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ وَلَمْ
يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ الَّتِي عَامَلَ بِمُقَابِلِهَا
أَهْلَ الشِّرْكِ حَيْثُ ذَهَبَتْ
(2/81)
كُلُّ
أُمَّةٍ مَعَ مَعْبُودِهَا فَانْطَلَقَ بِهَا وَاتَّبَعَتْهُ إِلَى النَّارِ،
وَانْطَلَقَ الْمَعْبُودُ الْحَقُّ وَاتَّبَعَهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَابِدُوهُ
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي قَرَّتْ عُيُونُ أَهْلِ
التَّوْحِيدِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفَارَقُوا النَّاسَ فِيهِ
أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ الظُّلْمَةِ الَّتِي
هِيَ الضَّلَالُ وَالْحَيْرَةُ الَّتِي ضِدُّهَا الْهُدَى، وَالْمَثَلَ الثَّانِي:
مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ الْخَوْفِ الَّذِي ضِدُّهُ الْأَمْنُ، فَلَا هُدَى وَلَا
أَمْنَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ
لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: مَثَلُ هَؤُلَاءِ فِي نِفَاقِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ
أَوْقَدَ نَارًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَدْفَأَ وَرَأَى مَا
حَوْلَهُ فَاتَّقَى مِمَّا يَخَافُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ
نَارُهُ فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ خَائِفًا مُتَحَيِّرًا كَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ
بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ
وَنَاكَحُوا الْمُؤْمِنِينَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ، فَذَلِكَ
نُورُهُمْ فَإِذَا مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
(إِضَاءَةُ النَّارِ لَهُمْ إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْهُدَى،
وَذَهَابُ نُورِهِمْ إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالضَّلَالَةِ) وَقَدْ
فُسِّرَتْ تِلْكَ الْإِضَاءَةُ وَذَهَابُ النُّورِ بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا
وَفُسِّرَتْ بِالْبَرْزَخِ، وَفُسِّرَتْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالصَّوَابُ
أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمْ فِي الدُّورِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا
كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا جُوزُوا فِي الْبَرْزَخِ وَفِي الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ
حَالِهِمْ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فَإِنَّ الْمَعَادَ يَعُودُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ مَا
كَانَ حَاصِلًا لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلِهَذَا يُسَمَّى يَوْمَ الْجَزَاءِ:
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ
سَبِيلًا} [الإسراء: 72] ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى. .}
[مريم: 76] الْآيَةَ.
(2/82)
وَمَنْ كَانَ مُسْتَوْحِشًا مَعَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَوَحْشَتُهُ مَعَهُ فِي الْبَرْزَخِ يَوْمَ الْمَعَادِ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ، وَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ فِي " هَذِهِ الْحَيَاةِ " الدُّنْيَا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ وَيَوْمَ الْبَعْثِ فَيَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَيَعُودُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ بِعَيْنِهِ فَيَنْعَمُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. فَيُورِثُهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ " وَقُرَّةِ الْعَيْنِ " وَالنَّعِيمِ وَقُوَّةِ الْقَلْبِ وَاسْتِبْشَارِهِ وَحَيَاتِهِ وَانْشِرَاحِهِ وَاغْتِبَاطِهِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ النَّعِيمِ وَأَجَلِّهِ وَأَطْيَبِهِ وَأَلَذِّهِ، وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا طِيبُ النَّفْسِ وَفَرَحُ الْقَلْبِ وَسُرُورُهُ وَانْشِرَاحُهُ وَاسْتِبْشَارُهُ، هَذَا وَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ وَتَلَذُّهُ عَيْنُهُ مِنْ سَائِرِ الْمُشْتَهَيَاتِ الَّتِي تَشْتَهِيهَا الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّهَا الْأَعْيُنُ وَيَكُونُ تَنَوُّعُ تِلْكَ الْمُشْتَهَيَاتِ وَكَمَالُهَا وَبُلُوغُهَا مَرْتَبَةَ الْحُسْنِ وَالْمُوَافِقَةِ بِحَسَبِ كَمَالِ عَمَلِهِ وَمُتَابَعَتِهِ فِيهِ وَإِخْلَاصِهِ وَبُلُوغِهِ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ فِيهِ، وَبِحَسَبِ تَنَوُّعِهِ، فَمَنْ تَنَوَّعَتْ أَعْمَالُهُ الْمُرْضِيَةُ لِلَّهِ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ تَنَوَّعَتِ الْأَقْسَامُ الَّتِي يَتَلَذَّذُ بِهَا فِي تِلْكَ الدَّارِ وَتَكَثَّرَتْ لَهُ بِحَسَبِ تَكَثُّرِ أَعْمَالِهِ هُنَا وَكَانَ مَزِيدُهُ مِنْ تَنَوُّعِهَا وَالِابْتِهَاجِ بِهَا وَالِالْتِذَاذِ بِنَيْلِهَا هُنَاكَ عَلَى حَسَبِ مَزِيدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَتَنَوُّعِهِ فِيهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَحْبُوبَةِ لَهُ وَالْمَسْخُوطَةِ أَثَرًا وَجَزَاءً وَلَذَّةً وَأَلَمًا يَخُصُّهُ لَا يُشْبِهُ أَثَرُ الْآخَرِ وَجَزَاءُهُ. وَلِهَذَا تَنَوَّعَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآلَامُ أَهْلِ النَّارِ، وَتَنَوَّعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ فَلَيْسَتْ لَذَّةُ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ مَرْضَاةِ اللَّهِ بِسَهْمٍ وَأَخَذَ مِنْهَا بِنَصِيبٍ كَلَذَّةِ مَنْ أَنْمَى سَهْمَهُ وَنَصِيبَهُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَا أَلَمُ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ
(2/83)
مَسْخُوطٍ
لِلَّهِ بِنَصِيبٍ وَعُقُوبَتُهُ كَأَلَمِ مَنْ ضَرَبَ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ فِي
مَسَاخِطِهِ.
وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ كَمَالَ
مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآخِرَةِ بِحَسَبِ كَمَالِ مَا
قَابَلَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا (. . . . «فَرَأَى قِنْوًا مَنْ
حَشَفٍ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّدَقَةِ فَقَالَ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا
يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ] فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَهُ يَكُونُ
مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ فَيُجْزَى عَلَى تِلْكَ الصَّدَقَةِ بِحَشَفٍ مِنْ جِنْسِهَا.
وَهَذَا الْبَابُ يَفْتَحُ لَكَ أَبْوَابًا عَظِيمَةً مِنْ فَهْمِ الْمَعَادِ
وَتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي أَحْوَالِهِ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُتَنَوِّعَةِ، فَمِنْهَا: خِفَّةُ حِمْلِ الْعَبْدِ عَلَى ظَهْرِهِ وَثِقَلِهِ
إِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ خِفَّةِ وِزْرِهِ وَثِقَلِهِ، إِنْ
خَفَّ خَفَّ وَإِنْ ثَقُلَ ثَقُلَ.
وَمِنْهَا: اسْتِظْلَالُهُ بِظِلِّ الْعَرْشِ أَوْ ضِحَاؤُهُ لِلْحَرِّ
وَالشَّمْسِ إِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْخَالِصَةِ
وَالْإِيمَانِ مَا يُظِلُّهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ حَرِّ الشِّرْكِ
وَالْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ اسْتَظَلَّ هُنَاكَ فِي ظِلِّ أَعْمَالِهِ تَحْتَ
عَرْشِ الرَّحْمَنِ. وَإِنْ كَانَ ضَاحِيًا هُنَا لِلْمَنَاهِي وَالْمُخَالَفَاتِ
وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ ضَحَى هُنَاكَ لِلْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَمِنْهَا: طُولُ وُقُوفِهِ فِي الْمَوْقِفِ وَمَشَقَّتُهُ عَلَيْهِ وَتَهْوِينُهُ
" عَلَيْهِ " إِنْ طَالَ وُقُوفُهُ فِي الصَّلَاةِ لَيْلًا وَنَهَارًا
لِلَّهِ، وَتَحَمَّلَ لِأَجْلِهِ الْمَشَاقَّ فِي مَرْضَاتِهِ وَطَاعَتِهِ خَفَّ
عَلَيْهِ " الْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
(2/84)
وَسَهُلَ
عَلَيْهِ وَإِنْ آثَرَ الرَّاحَةَ " هُنَا وَالدَّعَةَ الْبَطَالَةَ
وَالنِّعْمَةَ طَالَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ هُنَاكَ وَاشْتَدَّتْ مَشَقَّتُهُ
عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا
أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 23] فَمَنْ
سَبَّحَ اللَّهَ لَيْلًا طَوِيلًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثَقِيلًا عَلَيْهِ
بَلْ كَانَ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ثِقَلَ مِيزَانِهِ هُنَاكَ بِحَسَبِ تَحَمُّلِهِ ثِقَلَ الْحَقِّ
فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا بِحَسَبِ مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا
يَثْقُلُ الْمِيزَانُ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَذْلِهِ إِذَا
سُئِلَ، وَأَخْذِهِ إِذَا بَذَلَ كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ فِي وَصِيَّتِهِ
لِعُمَرَ: (وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ
بِالنَّهَارِ وَلَهُ حَقٌّ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَاعْلَمْ
أَنَّهُ إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ
الْحَقَّ وَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَحُقَّ لِمِيزَانٍ
يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ
مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي
دَارِ الدُّنْيَا خِفَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ
إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا. .) .
وَمِنْهَا: أَنَّ وُرُودَ النَّاسِ الْحَوْضَ وَشُرْبَهُمْ مِنْهُ يَوْمَ
الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ بِحَسَبِ وُرُودِهِمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشُرْبِهِمْ مِنْهَا، فَمَنْ وَرَدَهَا فِي هَذِهِ
الدَّارِ وَشَرِبَ مِنْهَا وَتَضَلَّعَ وَرَدَ هُنَاكَ حَوْضَهُ وَشَرِبَ مِنْهُ
وَتَضَلَّعَ، فَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْضَانِ عَظِيمَانِ:
حَوْضٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ سُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَحَوْضٌ فِي
الْآخِرَةِ، فَالشَّارِبُونَ مِنْ هَذَا الْحَوْضِ فِي الدُّنْيَا هُمُ
الشَّارِبُونَ مِنْ حَوْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَشَارِبٌ وَمَحْرُومٌ
وَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ وَالَّذِينَ يَذُودُهُمْ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ عَنْ
حَوْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَذُودُونَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَتْبَاعَهُمْ عَنْ سُنَّتِهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فَمَنْ ظَمِأَ
مِنْ سُنَّتِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ
(2/85)
يَكُنْ
لَهُ مِنْهَا شُرْبٌ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ ظَمَأً وَأَحَرُّ كَبِدًا
وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ أَشَرِبْتَ
فَيَقُولُ: نَعَمْ وَاللَّهِ فَيَقُولُ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا شَرِبْتُ،
وَاعَطَشَاهُ.
فَرِدْ أَيُّهَا الظَّمْآنُ وَالْوِرْدُ مُمْكِنٌ فَإِنْ لَمْ تَرِدْ فَاعْلَمْ
بِأَنَّكَ هَالِكُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِضْوَانُ يَسْقِيكَ شَرْبَةً
سَيَسْقِيكَهَا إِذْ أَنْتَ ظَمْآنُ مَالِكُ وَإِنْ لَمْ تَرِدْ فِي هَذِهِ
الدَّارِ حَوْضَهُ سَتُصْرَفُ عَنْهُ يَوْمَ يَلْقَاكَ آنِكُ وَمِنْهَا: قَسْمُهُ
الْأَنْوَارَ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْطَى مِنَ
النُّورِ هُنَاكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُورِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَإِخْلَاصِهِ
وَمُتَابَعَتِهِ لِلرَّسُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ
نُورُهُ كَالشَّمْسِ وَدُونَ ذَلِكَ كَالْقَمَرِ وَدُونَهُ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ فِي
السَّمَاءِ إِضَاءَةً.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَكُونُ نُورُهُ كَالسِّرَاجِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَمَا
بَيْنَ ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يُعْطَى نُورٌ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِئُ مَرَّةً
وَيُطْفِيُ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ فِي دَارِ
الدُّنْيَا فَهُوَ هَذَا النُّورُ بِعَيْنِهِ أَبْرَزَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ فِي
الْآخِرَةِ ظَاهِرًا يُرَى عِيَانًا بِالْأَبْصَارِ، وَلَا يَسْتَضِيءُ بِهِ
غَيْرُهُ وَلَا يَمْشِي أَحَدًا إِلَّا فِي نُورِ نَفْسِهِ إِنْ كَانَ " لَهُ
" نُورٌ مَشَى فِي نُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ أَصْلًا لَمْ
يَنْفَعْهُ نُورُ غَيْرِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ فِي الدُّنْيَا قَدْ حَصَلَ لَهُ نُورٌ ظَاهِرٌ
غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ وَلَا مُتَّصِلٍ بِبَاطِنِهِ وَلَا لَهُ مَادَّةٍ مِنَ
الْإِيمَانِ أُعْطِيَ فِي الْآخِرَةِ نُورًا ظَاهِرًا لَا مَادَّةَ لَهُ ثُمَّ
يُطْفَأُ عَنْهُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَشْيَهُمْ عَلَى
الصِّرَاطِ فِي السُّرْعَةِ وَالْبِطْءِ بِحَسَبِ " سُرْعَةِ "
سَيْرِهِمْ وَبُطْئِهِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا
فَأَسْرَعُهُمْ سَيْرًا هُنَا أَسْرَعُهُمْ هُنَاكَ وَأَبْطَأُهُمْ هُنَا
أَبْطَأُهُمْ هُنَاكَ.
وَأَشَدُّهُمْ ثَبَاتًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ " هُنَا "
أَثْبَتُهُمْ هُنَاكَ وَمَنْ خَطِفَتْهُ كَلَالِيبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ
وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ هُنَا خَطِفَتْهُ الْكَلَالِيبُ الَّتِي كَأَنَّهَا
شَوْكُ السَّعْدَانِ هُنَاكَ وَيَكُونُ
(2/86)
تَأْثِيرُ
الْكَلَالِيبِ فِيهِ هُنَاكَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ الشَّهَوَاتِ "
وَالشُّبُهَاتِ " وَالْبِدَعِ فِيهِ هَاهُنَا فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ
مُسَلَّمٌ، وَمَخْزُولٌ أَيْ: مُقَطَّعٌ بِالْكَلَالِيبِ مُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ
كَمَا أَثَّرَتْ فِيهِمْ تِلْكَ الْكَلَالِيبُ فِي الدُّنْيَا {جَزَاءً وِفَاقًا}
[النبأ: 26] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرَبَ لِعِبَادِهِ
الْمَثَلَيْنِ الْمَائِيَّ وَالنَّارِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ
الرَّعْدِ، وَفِي سُورَةِ النُّورِ لِمَا تَضَمَّنَ الْمَثَلَانِ مِنَ الْحَيَاةِ
وَالْإِضَاءَةِ. فَالْمُؤْمِنُ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَنِيرُهُ، وَالْكَافِرُ
وَالْمُنَافِقُ مَيِّتُ الْقَلْبِ مُظْلِمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]
الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا
الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي
الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19] الْآيَةَ فَجَعَلَ مَنِ اهْتَدَى
بِهُدَاهُ وَاسْتَنَارَ بِنُورِهِ بَصِيرًا حَيًّا فِي ظِلٍّ يَقِيهِ مِنْ حَرِّ
الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالِ وَالْبِدَعِ وَالشِّرْكِ مُسْتَنِيرًا بِنُورِهِ
وَالْآخِرُ أَعْمَى مَيْتًا فِي حَرِّ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالضَّلَالِ
مُنْغَمِسًا فِي الظُّلُمَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:
52] الْآيَةَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُفَسَّرِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] فَقِيلَ: هُوَ الْإِيمَانُ "
لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِينَ. وَقِيلَ: هُوَ الْكِتَابُ " فَإِنَّهُ
النُّورُ الَّذِي هَدَى بِهِ عِبَادَهُ. قَالَ شَيْخُنَا: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ
عَائِدٌ عَلَى الرُّوحِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(2/87)
{وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] الْآيَةَ، أَيْ:
جَعَلْنَا ذَلِكَ الرُّوحَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا،
فَسَمَّى وَحْيَهُ رُوحًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ
وَالْأَرْوَاحِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَنْ عَدِمَهَا فَهُوَ
مَيْتٌ لَا حَيٌّ وَالْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ السَّرْمَدِيَّةُ فِي دَارِ
النَّعِيمِ هِيَ ثَمَرَةُ حَيَاةِ الْقَلْبِ بِهَذَا الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَى
إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَمْ يَحْيَا بِهِ فِي
الدُّنْيَا فَهُوَ مِمَّنْ لَهُ جَهَنَّمُ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
وَأَعْظَمُ النَّاسِ حَيَاةً فِي الدُّورِ الثَّلَاثِ، دَارِ الدُّنْيَا، وَدَارِ
الْبَرْزَخِ، وَدَارِ الْجَزَاءِ، أَعْظَمُهُمْ نَصِيبًا مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ
بِهَذِهِ الرُّوحِ.
وَسَمَّاهُ رُوحًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] وَقَالَ
تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}
[النحل: 2] .
وَسَمَّاهُ نُورًا لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ اسْتِنَارَةِ الْقُلُوبِ
وَإِضَاءَتِهَا وَكَمَالِ الرُّوحِ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: بِالْحَيَاةِ
وَالنُّورِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِمَا بُعِثُوا بِهِ وَتَلَقِّي
الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ وَإِلَّا
فَالرُّوحُ مَيْتَةٌ مُظْلِمَةٌ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشَارًا إِلَيْهِ
بِالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْكَلَامِ وَالْبُحُوثِ فَإِنَّ
الْحَيَاةَ وَالِاسْتِنَارَةَ بِالرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ نُورًا يَهْدِي
بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَيْسَ الْعِلْمُ
كَثْرَةَ النَّقْلِ وَالْبَحْثِ وَالْكَلَامِ، وَلَكِنْ نُورٌ يَمِيزُ بِهِ
صَحِيحَ الْأَقْوَالِ مِنْ سَقِيمِهَا، وَحَقِّهَا مِنْ بَاطِلِهَا، وَمَا هُوَ
مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مِمَّا هُوَ مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ وَيَمِيزُ
النَّقْدَ الَّذِي عَلَيْهِ سِكَّةُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِي لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثَمَنًا لِجَنَّتِهِ سِوَاهُ مِنَ النَّقْدِ
الَّذِي عَلَيْهِ " سِكَّةُ " جَنْكِيزْخَانْ
(2/88)
وَنُوَّابِهِ
مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ وَكُلِّ مَنِ اتَّخَذَ
لِنَفْسِهِ سِكَّةً وَضَرْبًا وَنَقْدًا يُرَوِّجُهُ بَيْنَ الْعَالَمِ فَهَذِهِ
الْأَثْمَانُ كُلُّهَا زُيُوفٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي
ثَمَنِ جَنَّتِهِ شَيْئًا مِنْهَا بَلْ تُرَدُّ عَلَى عَامِلِهَا أَحْوَجَ مَا
يَكُونُ إِلَيْهَا وَتَكُونُ مِنَ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا هَبَاءً مَنْثُورًا وَلِصَاحِبِهَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103] وَهَذَا حَالُ أَرْبَابِ
الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ أَرْبَابِ
الْعُلُومِ وَالْأَنْظَارِ الَّتِي لَمْ يَتَلَقَّوْهَا عَنْ مِشْكَاةِ
النُّبُوَّةِ، وَلَكِنْ تَلَقَّوْهَا عَنْ زُبَالَةِ أَذْهَانِ الرِّجَالِ
وَكُنَاسَةِ أَفْكَارِهِمْ فَأَتْبَعُوا قُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ
وَأَذْهَانَهُمْ فِي تَقْرِيرِ آرَاءِ الرِّجَالِ أَوِ الِانْتِصَارِ لَهُمْ،
وَفَهْمِ مَا قَالُوهُ وَبَثِّهِ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَحَاضِرِ، وَأَعْرَضُوا
عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَفْحًا، وَمَنْ بِهِ رَمَقٌ مِنْهُمْ يُعِيرُهُ
أَدْنَى الْتِفَاتٍ طَلَبًا لِلْفَضِيلَةِ.
وَأَمَّا تَجْرِيدُ اتِّبَاعِهِ وَتَحْكِيمُهُ وَاسْتِفْرَاغُ قُوَى النَّفْسِ فِي
طَلَبِهِ وَفَهْمِهِ وَعَرْضُ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَيْهِ " وَرَدُّ مَا
يُخَالِفُهُ مِنْهَا وَقَبُولُ مَا وَافَقَهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ
آرَائِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ " إِلَّا إِذَا أَشْرَقَتْ عَلَيْهَا شَمْسُ
الْوَحْيِ وَشَهِدَ لَهَا بِالصِّحَّةِ فَهَذَا أَمْرٌ لَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا
مِنْهُمْ يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أُخَيَّتَهُ
وَمَطْلُوبَهُ وَهَذَا الَّذِي لَا يُنْجِي سِوَاهُ فَوَارَحْمَتًا لِعَبْدٍ
شَقِيٍّ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَاسْتَفْرَغَ فِيهِ قُوَاهُ وَاسْتَنْفَذَ فِيهِ
أَوْقَاتَهُ وَآثَرَهُ عَلَى مَا النَّاسُ فِيهِ، وَالطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْدُودٌ، وَقَلَبُهُ عَنِ
الْمُرْسِلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ
(2/89)
وَالسُّرُورِ
بِقُرْبِهِ مَطْرُودٌ وَمَصْدُودٌ، " وَ " قَدْ طَافَ عُمْرَهُ كُلَّهُ
عَلَى أَبْوَابِ الْمَذَاهِبِ فَلَمْ يَفُزْ إِلَّا بِأَخَسِّ الْمَطَالِبِ "
سُبْحَانَ اللَّهِ " إِنْ هِيَ وَاللَّهِ إِلَّا فِتْنَةٌ أَعْمَتِ
الْقُلُوبَ عَنْ مَوَاقِعَ رُشْدِهَا، وَحَيَّرَتِ الْعُقُولَ عَنْ طُرُقِ
قَصْدِهَا، تَرَبَّى فِيهِ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، فَظَنَّتْ
خَفَافِيشُ الْأَبْصَارِ أَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي تَسَابَقَ إِلَيْهَا
الْمُتَسَابِقُونَ، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي تَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ، وَهَيْهَاتَ
أَيْنَ الظَّلَامُ مِنَ الضِّيَاءِ، وَأَيْنَ الثَّرَى مِنْ كَوْكَبِ
الْجَوْزَاءِ، وَأَيْنَ الْحَرُورُ مِنَ الظِّلَالِ، وَأَيْنَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ مِنْ طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَأَيْنَ الْقَوْلُ الَّذِي لَمْ
تُضْمَنْ لَنَا عِصْمَةُ قَائِلِهِ بِدَلِيلٍ مَعْلُومٍ مِنَ النَّقْلِ
الْمُصَدَّقِ عَنِ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ، وَأَيْنَ الْعِلْمُ الَّذِي سَنَدُهُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
جِبْرَائِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى " الْخَوْضِ " الْخَرْصِ الَّذِي سَنَدُهُ
شُيُوخُ [أَهْلِ] الضَّلَالِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَفَلَاسِفَةِ
الْمَشَّائِينَ، بَلْ أَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي أَعْلَى دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ
عِنْدَ الضَّرُورَةِ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ إِلَى النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ
الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا فِي
مَوَارِدِ النِّزَاعِ، وَأَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي نَهَى قَائِلُهَا عَنْ
تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَحَذَّرَ إِلَى النُّصُوصِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ
أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا وَيَتَبَصَّرَ.
وَأَيْنَ الْأَقْوَالُ وَالْآرَاءُ الَّتِي إِذَا مَاتَ أَنْصَارُهَا
وَالْقَائِمُونَ بِهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ إِلَى النُّصُوصِ
الَّتِي لَا تَزُولُ إِلَّا إِذَا زَالَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ.
لَقَدِ اسْتَبَانَ - وَاللَّهِ - الصُّبْحُ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ نَاظِرَتَانِ
وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ لِمَنْ لَهُ أُذُنَانِ وَاعِيَتَانِ، لَكِنْ
عَصَفَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَهْوِيَةُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْآرَاءِ الْمُخْتَلِفَاتِ
فَأَطْفَأَتْ مَصَابِيحَهَا وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا أَيْدِي الشَّهَوَاتِ
فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَ رُشْدِهَا، وَأَضَاعَتْ مَفَاتِيحَهَا وَرَانَ عَلَيْهَا
كَسْبُهَا
(2/90)
وَتَقْلِيدُهَا لِآرَاءِ الرِّجَالِ فَلَمْ تَجِدْ حَقَائِقَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا مُنْقِذًا وَتَمَكَّنَتْ فِيهَا أَسْقَامُ الْجَهْلِ وَالتَّخْلِيطِ فَلَمْ تَنْتَفِعْ مَعَهَا بِصَالِحِ الْغِذَاءِ وَاعَجَبًا جَعَلَتْ غِذَاءَهَا مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَلَمْ تَقْبَلْ الِاغْتِذَاءَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَصِّ نَبِيِّهِ الْمَرْفُوعِ وَاعَجَبًا لَهَا كَيْفَ اهْتَدَتْ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ فِيهَا وَالصَّوَابِ وَعَجَزَتْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِمَطَالِعِ الْأَنْوَارِ وَمَشَارِقِهَا مِنَ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ فَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَلَقِّي الْهُدَى وَالْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاةِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، ثُمَّ تَلَقَّتْهُ مِنْ رَأْيِ فُلَانٍ وَرَأْيِ فُلَانٍ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا حُرِمَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ وَاقْتِبَاسِ الْهُدَى مِنْ مِشْكَاتِهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ وَمَاذَا فَاتَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَةِ الْبَصَائِرِ قَنِعُوا بِأَقْوَالٍ اسْتَنْبَطَتْهَا مَعَاوِلُ الْآرَاءِ " فِكْرًا " وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا زُبُرًا، وَأَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا فَاتَّخَذُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، دُرَسَتْ مَعَالِمُ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدُثِرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا، وَوَقَعَتْ أَعْلَامُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَيْسُوا يَرْفَعُونَهَا، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ مِنْ آفَاقِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَعُقَدِهَا فَلَيْسُوا يُثْبِتُونَهَا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّحْرِيفِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَاتِ فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْ جُيُوشِهِمُ الْمَخْذُولَةِ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ
(2/91)
لِئَامٍ
فَعَامَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ،
وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي صُدُورِهَا وَالْأَعْجَازِ،
وَقَالُوا: مَا لَكَ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَعَلَى
سَبِيلِ الْمَجَازِ، أَنْزَلُوا النُّصُوصَ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ الْعَاجِزِ
فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ لَهُ السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ، وَمَا لَهُ حُكْمٌ
نَافِذٌ وَلَا سُلْطَانٌ، حُرِمُوا وَاللَّهِ الْوُصُولَ بِخُرُوجِهِمْ عَنْ
مَنْهَجِ الْوَحْيِ وَتَضْيِيعِ الْأُصُولِ " وَ " تَمَسَّكُوا
بِأَعْجَازٍ لَا صُدُورَ لَهَا فَخَانَتْهُمْ أَحْرَصَ مَا كَانُوا عَلَيْهَا
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا حَتَّى إِذَا
بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَتَمَيَّزَ لِكُلِّ
قَوْمٍ حَاصِلُهُمُ الَّذِي حَصَّلُوهُ وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقِيقَةُ مَا
اعْتَقَدُوهُ وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوهُ (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا
لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) وَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَ " الْحَصَادِ
لَمَّا عَايَنُوا غَلَّةَ مَا بَذَرُوهُ فَيَا شِدَّةَ الْحَسْرَةِ عِنْدَمَا
يُعَايِنُ " الْمُبْطِلُ سَعْيَهُ وَكَدَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَيَا
عِظَمَ الْمُصِيبَةِ عِنْدَمَا تَتَبَيَّنُ بِوَارِقُ آمَالِهِ وَأَمَانِيهِ
خُلَّبًا غُرُورًا.
فَمَا ظَنُّ مَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى
وَالتَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] ، وَمَا عُذْرُ مَنْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمٍ لَا
يَنْفَعُ " فِيهِ " الظَّالِمِينَ الْمَعَاذِرُ، أَفَيُظَنُّ
الْمُعْرِضُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَنْجُوَ غَدًا بِآرَاءِ الرِّجَالِ " أَوْ "
يَتَخَلَّصُ مِنْ مُطَالَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِكَثْرَةِ الْبُحُوثِ
وَالْجِدَالِ، أَوْ ضُرُوبِ
(2/92)
الْأَقْيِسَةِ
وَتَنَوُّعِ الْأَشْكَالِ أَوْ بِالشَّطَحَاتِ وَالْإِشَارَاتِ وَأَنْوَاعِ
الْخَيَالِ، هَيْهَاتَ وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ وَمَنَّتْهُ
نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ
هُدَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَأَتَمَّ
بِالدَّلِيلِ وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَاسْتَمْسَكَ مِنَ التَّوْحِيدِ
وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سُمَيْعٌ عَلِيمٌ.
[فَصْلٌ فِي التَّوْحِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى]
وَمِلَاكُ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَوْزِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدَيْنِ
اللَّذَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَحْقِيقِهِمَا
بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَإِلَيْهِمَا رَغَّبَ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ " كُلُّهُمْ " مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ.
أَحَدُهُمَا التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ الِاعْتِقَادِيُّ
الْمُتَضَمِّنُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ
فِيهَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ.
وَالتَّوْحِيدُ الثَّانِي: عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَجْرِيدُ
مَحَبَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، وَالتَّوَكُّلُ
عَلَيْهِ، وَالرِّضَى بِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَوَلِيًّا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُ
عَدْلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
(2/93)
وَقَدْ
جَمَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي
سُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ وَهُمَا: سُورَةُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
[الكافرون: 1] الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ الْإِرَادِيِّ،
وَسُورَةُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الْمُتَضَمِّنَةُ
لِلتَّوْحِيدِ الْخَبَرِيِّ الْعِلْمِيِّ.
فَسُورَةُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِيهَا بَيَانُ مَا يَجِبُ
لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ
عَنْهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْأَمْثَالِ، وَسُورَةُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا
الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِيهَا إِيجَابُ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ (لَا شَرِيكَ
لَهُ) وَالتَّبَرِّي مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَلَا يَتِمُّ أَحَدُ
التَّوْحِيدَيْنِ إِلَّا بِالْآخَرِ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ
وَالْمَغْرِبِ وَالْوِتْرِ اللَّتَيْنِ هُمَا فَاتِحَةُ الْعَمَلِ وَخَاتِمَتُهُ
لِيَكُونَ مَبْدَأُ النَّهَارِ تَوْحِيدًا وَخَاتِمَتُهُ تَوْحِيدًا.
فَالتَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ لَهُ ضِدَّانِ التَّعْطِيلُ
وَالتَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ فَمَنْ نَفَى صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ
وَعَطَّلَهَا كَذَّبَ تَعْطِيلُهُ تَوْحِيدَهُ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ
وَمَثَّلَهُ بِهِمْ كَذَّبَ تَشْبِيهُهُ وَتَمْثِيلُهُ تَوْحِيدَهُ.
وَالتَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الْعَمَلِيُّ لَهُ ضِدَّانِ: الْإِعْرَاضُ عَنْ
مَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ أَوَالْإِشْرَاكُ
بِهِ فِي ذَلِكَ وَاتِّخَاذُ أَوْلِيَائِهِ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ.
وَقَدْ جَمَعَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ التَّوْحِيدَيْنِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21]
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[غافر: 61] .
(2/94)
وَمِنْهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 4] .
[الرَّدُّ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ]
وَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى طَوَائِفِ
الْمُعَطِّلِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَقَوْلُهُ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ
قَوْلِ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ
وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَنْ
أَثْبَتَ مِنْهُمْ وُجُودَ الرَّبِّ جَعَلَهُ لَازِمًا لِذَاتِهِ أَوَّلًا
وَأَبَدًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَالنَّصِيرِ
الطُّوسِيِّ وَأَتْبَاعِهِمَا مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْجَاحِدِينَ لِمَا اتَّفَقَتْ
عَلَيْهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْكُتُبُ وَشَهِدَتْ
بِهِ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يَتَضَمَّنُ
إِبْطَالَ قَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ
عَلَى الْعَرْشِ شَيْءٌ سِوَى الْعَدَمِ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى
عَرْشِهِ، وَلَا تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ، وَلَا رَفَعَ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِ،
وَلَا عُرِجَ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
إِلَيْهِ " وَلَا تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وَلَا
يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا
غَيْرُهُ، وَلَا يَنْزِلُ هُوَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا
يَخَافُهُ عِبَادُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
(2/95)
وَغَيْرِهِمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِيَانًا
بِأَبْصَارِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَلَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ
بِالْأَصَابِعِ إِلَى فَوْقٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْظَمِ مَجَامِعِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَجَعَلَ
يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ اشْهَدْ.
[إِثْبَاتُ اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِالْكِتَابِ]
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: " وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى
آخِرِهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَّةُ
كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ مَمْلُوءٌ
بِمَا هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ
كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مُسْتَوٍ عَلَى
عَرْشِهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل
عمران: 55] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}
[النساء: 158] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (. . . . . . . . . {ذِي
الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 3]
الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] الْآيَةَ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ
بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
[يونس: 3] ، فَذَكَرَ التَّوْحِيدَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(2/96)
{تَنْزِيلًا
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} [طه: 4] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا
يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحديد: 4] فَذَكَرَ
عُمُومَ عِلْمِهِ وَعُمُومَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ إِحَاطَتِهِ وَعُمُومَ
رُؤْيَتِهِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]
، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36] الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: وَقَدِ احْتُجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
الْجَهْمِيَّةِ فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ اللَّهَ " فَوْقَ " السَّمَاوَاتِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى حِكَايَةُ كَلَامِهِ بِحُرُوفِهِ.
(2/97)
[إِثْبَاتُ
اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِالسُّنَّةِ]
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا قِصَّةُ الْمِعْرَاجِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ
«وَتَجَاوُزِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " السَّمَاوَاتِ
" سَمَاءً سَمَاءً حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فَقَرَّبَهُ
وَأَدْنَاهُ وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ صَلَاةً فَلَمْ يَزَلْ
يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى، يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ إِلَى عِنْدِ مُوسَى فَيَسْأَلُهُ كَمْ
فَرَضَ عَلَيْهِ؟ فَيُخْبِرُهُ فَيَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ
التَّخْفِيفَ فَيَصْعَدُ إِلَى رَبِّهِ " فَيَسْأَلُهُ التَّخْفِيفَ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي
تَغْلِبُ غَضَبِي» . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ
فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» ) وَفِي لَفْظٍ:
«وُضِعَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ» ، وَفِي لَفْظٍ: «فَهُوَ مَكْتُوبٌ "
عِنْدَهُ " فَوْقَ الْعَرْشِ» . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا صِحَاحٌ فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ
وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ
وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ
(2/98)
كَشَفَهُ
لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، «وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ عَلَا بِهِ -
يَعْنِي جِبْرَائِيلَ - فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى
جَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى
حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا
أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،
ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا
عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً " كُلَّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ " قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ " ذَلِكَ "
فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرَائِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ
فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرَائِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا
بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ وَهُوَ مَكَانُهُ: يَا رَبِّ
خَفِّفْ عَنَّا. . . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ:
يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ
وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرَ ثُمَّ يَعْرُجُ
الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - فَيَقُولُ:
كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ
وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ". وَلَمَّا «حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ
وَتُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ حَكَمَتْ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ
فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» وَفِي لَفْظٍ «مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» .
وَأَصْلُ الْقِصَّةِ فِي
(2/99)
الصَّحِيحَيْنِ
وَهَذَا السِّيَاقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
«بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ
مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا. قَالَ: فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ
بَيْنَ - عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدٍ الْخَيْرِ
" وَالرَّابِعُ: إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ
الطُّفَيْلِ "، قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ
بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي
السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً» ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ «قَالَ: لَطَمْتُ جَارِيَةً لِي فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قَلَتْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَفَلَا أَعْتِقُهَا؟ قَالَ: بَلَى ائْتِنِي بِهَا
(2/100)
قَالَ:
فَجِئْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا:
أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ
رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: " اعْتِقْهَا " فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ
أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: «أَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ
الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا
نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْحَكَ! أَتُدْرِي
مَا تَقُولُ؟ " وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ
قَالَ: " وَيْحَكَ! إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ
خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ! أَتُدْرِي مَا اللَّهُ؟
إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا " وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ
الْقُبَّةِ عَلَيْهِ " وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ
بِالرَّاكِبِ» ". وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: «كُنْتُ فِي الْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا
فَقَالَ: " مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ " قَالُوا: السَّحَابُ قَالَ: "
وَالْمُزْنُ " قَالُوا: وَالْمُزْنُ قَالَ: " وَالْعَنَانُ " قَالُوا:
وَالْعَنَانُ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ؟ " قَالُوا: لَا
(2/101)
نَدْرِي
قَالَ: " إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ
أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً ثُمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ "
حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " ثُمَّ فَوْقَ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ
أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ مِثْلَ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ فَوْقَ
ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالَ بَيْنَ أَظْلَافِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلَ مَا
بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ الْعَرْشُ (بَيْنَ)
أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ ذَلِكَ» " زَادَ أَحْمَدُ: «وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ
مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ» .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوِ
اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي
السَّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، وَاغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا
وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ
وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى " هَذَا " الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ» ،
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ
(2/102)
أَحْمَدَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَارِيَةٍ سَوْدَاءَ أَعْجَمِيَّةٍ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَقَالَ لَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ
بِإِصْبَعِهَا السَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا؟
فَأَشَارَتْ بِإِصْبَعِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّمَاءِ أَيْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَعْتِقْهَا»
) ، وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي
الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي: يَا حُصَيْنُ كَمْ
تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً، سِتَّةً فِي الْأَرْضِ
وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟
قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا أَنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ
عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ يَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حَصِينٌ جَاءَ
فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي
قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي.
» وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ
إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»
" وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " «أَتَى جِبْرِيلُ وَفِي كَفِّهِ مِرْآةٌ
بَيْضَاءُ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ
(2/103)
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذِهِ يَا (جِبْرِيلُ) ؟ قَالَ: هَذِهِ
الْجُمْعَةُ فُضِّلْتَ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ وَفِيهَا سَاعَةٌ لَا
يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ وَهِيَ
عِنْدُنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدُ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ
فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ فِيهِ كُثُبٌ مِنْ مِسْكٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
الْجُمْعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ
وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَقَاعِدُ النَّبِيِّينَ وَحَفَّ
تِلْكَ الْمَنَابِرَ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ
وَالزَّبَرْجَدِ عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ فَجَلَسُوا مِنْ
وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا
رَبُّكُمْ وَقَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي فَاسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَقُولُونَ:
رَبَّنَا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ وَلَكُمْ مَا
تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِمَا
يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ
رَبُّكَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَفِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ
تَقُومُ السَّاعَةُ» .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ طُرُقٍ جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ
فِي جُزْءٍ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ
نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ فَقَالَ السَّلَامَ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ قَالَ:
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ،
قَالَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى
شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ
عَنْهُمْ وَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ» ، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
(2/104)
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرْبِيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» ". وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا لَيْسَ فِيهِمَا شَيْءٌ» ) ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ زَهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ " وَأَشْهَدُ " أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» " وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ، «فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ» ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ هَكَذَا قَالَ فِي
(2/105)
دَارِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثِ يُرِيدُ مَوَاضِعَ الشَّفَاعَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي يَسْجُدُ فِيهَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: «خَرَجَ عَبْدٌ أَسْوَدُ لِبَعْضِ أَهْلِ خَيْبَرَ حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ فَتَشَهَّدَ فَقَاتَلَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ» وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: " «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِي فَوْقَ عَرْشِي مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا بَيْتٍ وَلَا رَجُلٍ بِبَادِيَةٍ كَانُوا عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَتَحَوَّلُوا عَنْهَا إِلَى مَا أَحْبَبْتُ مِنْ طَاعَتِي إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ مِنْ عَذَابِي إِلَى مَا يُحِبُّونَ مِنْ رَحْمَتِي» ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْعَرْشِ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ. وَصَحَّ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً " فَضَلًا " يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسَ ذِكْرٍ جَلَسُوا مَعَهُمْ فَإِذَا تَفَرَّقُوا صَعَدُوا إِلَى رَبِّهِمْ» " وَأَصْلُ الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: «فَإِذَا تَفَرَّقُوا صَعَدُوا إِلَى السَّمَاءِ. فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ
(2/106)
أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ " أَيْنَ " جِئْتُمْ؟ الْحَدِيثَ» . . . وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ نُزُولِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، " «يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: أَلَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ أَلَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ يَدْعُونِي فَأَفُكَّهُ؟ فَيَكُونُ كَذَلِكَ إِلَى مَطْلَعِ الصُّبْحِ وَيَعْلُو عَلَى كُرْسِيِّهِ» . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلُكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ لَهُ فَتَبَخْتَرَ فِيهِمَا فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكَّارٍ أَحَدِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ بَشَّرَتْنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا: قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ وَكَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ» ) حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَصْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ
(2/107)
الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ» " وَفِي قِصَّةِ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِذَا أَنَا مِتُّ فَغَسِّلْنِي أَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَصُبُّ الْمَاءَ وَجِبْرَائِيلُ ثَالِثُكُمَا وَكَفِّنِّي فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ (بِيضٍ) جُدُدٍ وَضَعُونِي فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ» " وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ خِطْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَأْذَنَهَا قَالَتْ: يَا أَبَتِ كَأَنَّكَ إِنَّمَا ادَّخَرْتَنِي لِفَقِيرِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ (نَبِيًّا) مَا تَكَلَّمْتُ بِهَذَا حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ: رَضِيتُ بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِي» ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قِصَّةُ الشَّفَاعَةِ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: «فَآتِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَأَجِدُهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَوْ سَرِيرِهِ جَالِسًا» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: " يَأْتُونِي فَأَمْشِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى آتِيَ بَابَ الْجَنَّةِ وَلِلْجَنَّةِ مِصْرَاعَانِ مِنْ ذَهَبٍ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ قَالَ مَعْبَدٌ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ أَنَسٍ حِينَ فَتَحَهَا، يَقُولُ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فَاسْتَفْتَحَ فَيُؤْذَنُ لِي فَأَدْخُلُ عَلَى
(2/108)
رَبِّي فَأَجِدُهُ قَاعِدًا عَلَى كُرْسِيِّ الْعِزَّةِ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا» ، رَوَاهُ خُشَيْشُ بْنُ أَصْرَمَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلَهُ فِي كُلِّ سَمَاءٍ كُرْسِيٌّ فَإِذَا نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَتُوبُ فَأَتُوبُ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ ارْتَفَعَ فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ» ، رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُرْسَلُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(2/109)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ حَاسَبَهُمْ فَيَمِيزُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ فِي جَنَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ» ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَافِظُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ» " حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَوَانَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا ذَاتَ يَوْمٍ بِفَنَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ بِنَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هَذِهِ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا مَثَلُ مُحَمَّدٍ فِي بَنِي هَاشِمٍ إِلَّا كَمَثَلِ رَيْحَانَةٍ فِي وَسَطِ الذَّبْلِ فَسَمِعَتْهُ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَأَبْلَغَتْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَبُهُ قَالَ مُغْضَبًا فَصَعِدَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَقَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَالٍ تَبْلُغُنِي عَنْ أَقْوَامٍ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَمَاوَاتِهِ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا فَسَكَنَهَا وَأَسْكَنَ سَمَاوَاتِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلَقَ أَرَضِينَ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا فَأَسْكَنَ فِيهَا مِنْ خَلْقِهِ وَاخْتَارَ خَلْقَهُ فَاخْتَارَ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدَمَ فَاخْتَارَ الْعَرَبَ ثُمَّ اخْتَارَ مُضَرَ فَاخْتَارَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا فَاخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ فَاخْتَارَنِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا، أَلَا مَنْ أَحَبَّ قُرَيْشًا فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَ قُرَيْشًا فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ»
(2/110)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي (هُرَيْرَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ فُلَانٌ فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ. . .» وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ: فَتَخْرُجُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدْعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ
(2/111)
مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينَيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولَانِ " لَهُ ": وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسِحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مُدَّ بَصَرِهِ، قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ فَهَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوْعَدُ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجَهُكَ وَجْهُ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي» . .) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ.
(2/112)
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرَائِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا كَانَتْ تُمَشِّطُهَا فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتِ ابْنَتُهُ أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، فَقَالَتْ: أُخْبِرُ ذَلِكَ أَبِي " قَالَتْ: نَعَمْ "، فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَا بِهَا فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ هَلْ لَكِ رَبٌّ غَيْرِي قَالَتْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَأَمَرَ بِنَقْرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ دَعَا بِهَا وَبِوَلَدِهَا فَأَلْقَاهُمَا فِيهَا» وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " «كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ " عِيَانًا " فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَذَهَبَ بِعَيْنِهِ فَعَرَجَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: بَعَثْتَنِي إِلَى مُوسَى فَلَطَمَنِي فَذَهَبَ بِعَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ. . فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَوَارَتْ بِيَدِهِ سَنَةٌ يَعِيشُهَا فَأَتَى فَبَلَّغَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ: مَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: الْآنَ، فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ رَوْحَهُ فِيهَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ بَصَرَهُ» . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَصْلُهُ وَشَاهِدُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
(2/113)
سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ أَحَدٌ وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ «عَجِبْتُ مِنْ مَلَكَيْنِ نَزَلَا يَلْتَمِسَانِ عَبْدًا فِي مُصَلَّاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ فَلَمْ يَجِدَاهُ فَعَرَجَا إِلَى اللَّهِ فَقَالَا: يَا رَبَّنَا عَبْدُكَ فُلَانٌ كُنَّا نَكْتُبُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ حَبَسْتَهُ فِي حِبَالِكَ فَقَالَ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الْبُخَارِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنِيسٍ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي رَحَلَ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِصْرَ حَتَّى سَمِعَهُ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ فِي الْقَصَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحْفَظُ لَهُ مِنْكَ، فَقَالَ: نَعَمْ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(2/114)
حُفَاةً
عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ثُمَّ يُنَادِي - وَهُوَ قَائِمٌ
عَلَى عَرْشِهِ» - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ احْتَجَّ بِهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ، وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي
مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَكْرَهَ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْأَرْضِ» . وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ
هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا» .
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكْرَهُ
تَخْطِئَةَ غَيْرِهِ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ لَهُ لَا تَخْطِئَةَ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي أَمْرٍ مَا، فَإِنَّ الْحَقَّ
وَالصَّوَابَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَا
بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَهُ بَلْ مَا تَنَازَعَ
الصِّدِّيقُ وَغَيْرُهُ فِي أَمْرٍ مَا إِلَّا وَكَانَ الصَّوَابُ مَعَ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْطِئَةَ هُنَا نِسْبَةٌ إِلَى الْخَطَأِ (الْعَمْدِ) الَّذِي
هُوَ الْإِثْمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(2/115)
{إِنَّ
قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] ، لَا مِنَ الْخَطَأِ الَّذِي
هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيُشْرِفُ عَلَى حَاجَةٍ
مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا فَيَذْكُرُهُ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ
فَيَقُولُ: مَلَائِكَتِي إِنَّ عَبْدِي هَذَا قَدْ أَشْرَفَ عَلَى حَاجَةٍ مِنْ
حَاجَاتِ الدُّنْيَا فَإِنْ فَتَحْتُهَا لَهُ فَتَحْتُ لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ
النَّارِ وَلَكِنِ ازْوُوهَا عَنْهُ، فَيُصْبِحُ الْعَبْدُ عَاضًّا عَلَى
أَنَامِلِهِ يَقُولُ: مَنْ سَبَقَنِي مَنْ دَهَانِي؟ وَمَا هِيَ إِلَّا رَحْمَةٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا» ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، «قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ
شَعْبَانَ؟ قَالَ: ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ
وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
عَزَّ وَجَلَّ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . وَفِي
الثَّقَفِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ
قَبْلُكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ فِيهِمَا فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ
مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ فَأَمَرَ الْأَرْضَ
(2/116)
فَأَخَذَتْهُ
فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ» (فِي الْأَرْضِ) فَاحْذَرُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ وَأَصْلُهُ
فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ
عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْشَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ:
شَهِدْتُ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ مِنْ عَلِ
وَإِنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلَاهُمَا ... لَهُ عَمَلٌ فِي دِينِهِ
مُتَقَبَّلُ
وَإِنَّ أَخَا الْأَحْقَافِ إِذْ يَعُذْ لَوْنُهُ ... يُجَاهِدُ فِي ذَاتِ
الْإِلَهِ وَيَعْدِلُ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ بِشْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ
مَنْدَهْ أَخْبَرَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا السَّرِيُّ "
بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا هَنَّادُ بُنْ السَّرِيِّ " حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
(2/117)
الْبَقَّالِ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ الْيَهُودَ
أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنْ خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا. . قَالُوا: ثُمَّ مَاذَا
يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قَالُوا: أَصَبْتَ يَا
مُحَمَّدُ لَوْ أَتْمَمْتَ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا
فَنَزَلَتْ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] .
[فَصْلٌ فِيمَا حُفِظَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
ذَلِكَ]
[مَا حُفِظَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
[قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
فَصْلٌ: فِيمَا حُفِظَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
ذَلِكَ:
أَوَّلًا: مَا حُفِظَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ إِلَهَكُمُ الَّذِي تَعْبُدُونَ فَإِنَّ إِلَهَكُمْ
قَدْ مَاتَ وَإِنْ كَانَ إِلَهَكُمُ اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ
إِلَهَكُمْ لَمْ يَمُتْ ثُمَّ تَلَا:
(2/118)
{وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]
حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ
فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ (فَأَكَبَّ عَلَيْهِ)
وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا،
وَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ
كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ (حَيٌّ) لَا يَمُوتُ،
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتِ
الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ
أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ. . . فَذَكَرَهُ.
»
[ذِكْرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
ُ) عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ الشَّامَ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ فَقَالُوا: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَكِبْتَ بِرْذَوْنًا
(2/119)
لِيَلْقَاكَ
عُظَمَاءُ النَّاسِ وَوُجُوهُهُمْ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا
أَرَاكُمْ هَاهُنَا إِنَّمَا الْأَمْرُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى
السَّمَاءِ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ: وَيْلٌ لِدَيَّانِ الْأَرْضِ مِنْ
دَيَّانِ السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَقَضَى
بِالْحَقِّ وَلِمَ يَقْضِي عَلَى هَوًى وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا عَلَى رَغَبٍ وَلَا
عَلَى رَهَبٍ وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
يَزِيدَ الْمُزَنِيَّ قَالَ: لَقِيَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - وَهُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّاسِ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا وَدَنَا
مِنْهَا وَأَصْغَى إِلَيْهَا رَأْسَهُ حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا وَانْصَرَفَتْ،
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ
عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ قَالَ: وَيْلُكَ تَدْرِي مِنْ هَذِهِ؟ (قَالَ: لَا) ،
(قَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ
هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَنْصَرِفْ عَنِّي إِلَى
اللَّيْلِ مَا انْصَرَفْتُ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا إِلَّا أَنْ تَحْضُرَنِي
صَلَاةٌ فَأُصَلِّيَهَا ثُمَّ أَرْجِعَ إِلَيْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا) .
وَقَالَ خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ
(2/120)
جَارُودٌ
الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ بَارِزَةٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ فَسَلَّمَ
عَلَيْهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّتْ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَتْ:
هِيهَا يَا عُمَرُ عَهِدْتُكَ يَا عُمَرُ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ
عُكَاظَ تَزَعُ الصِّبْيَانَ بِعَصَاكَ فَلَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتَّى
سُمِّيتَ عُمَرَ وَلَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ
الْوَعِيدَ قُرِّبَ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ،
فَقَالَ الْجَارُودُ: فَقَدْ أَكْثَرْتِ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ عَلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْهَا أَمَا تَعْرِفُهَا
هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ
سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَعُمَرُ وَاللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهَا. قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِّينَا مِنْ وُجُوهٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
خَرَجَ وَمَعَهُ النَّاسُ فَمَرَّ بِعَجُوزٍ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ (لَهَا)
وَجَعَلَ يُحَدِّثُهَا وَتُحَدِّثُهُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
حَبَسْتَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ قَالَ: وَيْلَكَ أَتَدْرِي مَنْ
هَذِهِ؟ هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَاوَاتٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
(قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ
(2/121)
الِاسْتِيعَابِ
رُوِّينَا مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَشَى إِلَى أَمَةٍ لَهُ فَنَالَهَا فَرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ
فَلَامَتْهُ، فَجَحَدَهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَاقْرَأِ
الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْجُنُبَ لَا يَقْرَأُ (الْقُرْآنَ) فَقَالَ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى
الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافَ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ شِدَادٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا
فَقَالَتْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنِي وَكَانَتْ لَا تَحْفَظُ
الْقُرْآنَ وَلَا تَقْرَؤُهُ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
(قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ
الدَّارِمَيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ
وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ
الْكُرْسِيِّ إِلَى الْمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ عَلَى
الْمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ، وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْهُ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ
بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ حَتَّى إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ
نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَيَقُولُ لِلْمَلَكِ:
اصْرِفْهُ عَنْهُ، قَالَ: فَيَصْرِفُهُ.
(2/122)
[قَوْلُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]
: ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ
حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي
كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ إِلَى الْكُرْسِيِّ سَبْعَةَ آلَافِ نُورٍ وَهُوَ فَوْقُ ذَلِكَ» ،
وَفِي مُسْنَدِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَكِتَابِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ
الدَّارِمِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ
حَدَّثَهُ ذَكْوَانُ قَالَا: اسْتَأْذَنَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَمُوتُ فَقَالَ لَهَا: كُنْتِ
أَحَبَّ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ جَاءَ بِهَا
الرُّوحُ الْأَمِينُ فَأَصْبَحَ لَيْسَ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ
فِيهِ اللَّهُ
(2/123)
إِلَّا
وَهِيَ تُتْلَى فِيهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. وَذَكَرَ
الطَّبَرَانِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يُكَذِّبُونَ
بِالْقَدَرِ، قَالَ: يُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ لَئِنْ أَخَذْتُ شَعْرَ أَحَدِهِمْ
لَأَنْضُوَنَّهُ إِنِ اللَّهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا
فَخَلَقَ الْخَلْقَ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
فَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ
بْنِ أَبَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] الْآيَةَ. قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ مِنْ فَوْقِهِمْ عَلِمَ
أَنَّ اللَّهَ مِنْ فَوْقِهِمْ.
[قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
(قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَّةُ بْنُ أَسْمَاءَ قَالَ:
سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَايْمُ اللَّهِ
إِنِّي لَأَخْشَى لَوْ كُنْتُ
(2/124)
أُحِبُّ
قَتْلَهُ لَقَتَلْتُهُ، (تَعْنِي: عُثْمَانَ) وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ " مِنْ
" فَوْقِ عَرْشِهِ إِنِّي لَمْ أُحِبَّ قَتْلَهُ.
[قَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
(قَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِيَ اللَّهُ مِنْ
فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَفِي لَفْظٍ لِغَيْرِهِمَا كَانَتْ تَقُولُ:
زَوَّجْنِيكَ الرَّحْمَنُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ كَانَ جِبْرِيلُ السَّفِيرُ
بِذَلِكَ وَأَنَا ابْنَةُ عَمَّتِكَ. رَوَاهُ الْعَسَّالُ.
[قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
(قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: لَمَّا
لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ سَمَاوَاتِهِ
(2/125)
وَأَخْزَاهُ قَالَ: رَبِّ أَخْزَيْتَنِي وَلَعَنْتَنِي وَطَرَدْتَنِي مِنْ سَمَاوَاتِكَ وَجِوَارِكَ، وَعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّ خَلْقَكَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهَا، فَأَجَابَهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " فَقَالَ ": وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي لَوْ أَنَّ عَبْدِي أَذْنَبَ حَتَّى مَلَأَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خَطَايَاهُ ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا نَفَسٌ وَاحِدٌ فَنَدِمَ عَلَى ذُنُوبِهِ لَغَفَرْتُهَا وَبَدَّلْتُ سَيِّآتِهِ كُلَّهَا حَسَنَاتٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَتْنَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِي لَوْ أَنَّ عَبْدِي» . . . فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعَزَّتِكَ يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي»
(2/126)
[قَوْلُ
الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]
" قَوْلُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ " قَالَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا الْبَكَّائِيُّ
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْأُجَيْرِدِ الْكِنْدِيُّ عَنِ الْعُرْسِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيِّ عَنْ عَدِيِّ
بْنِ عَمِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «خَرَجْتُ مُهَاجِرًا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً،
وَقَالَ فِيهَا: فَإِذَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَسْجُدُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَهُمْ فِي السَّمَاءِ فَأَسْلَمْتُ وَتَبِعْتُهُ» .
[ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى]
[قَوْلُ مَسْرُوقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ]
" ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ":
قَوْلُ مَسْرُوقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ: كَانَ
مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ:
حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ
فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
(2/127)
[قَوْلُ
عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " قَالَ سَلَمَةُ بْنُ
شَبِيبٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلَى
مَتْنِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يُحَرِّكْ شَفَتَيْهِ: لَوْ
أَنَّ اللَّهَ يَأْذَنُ لِي لَزَرَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَلَمْ يَعْلَمْ إِلَّا
وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ جَنَّتِهِ قَابِضِينَ عَلَى أَكُفِّهِمْ
فَيَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ فَاسْتَوَى قَاعِدًا، فَقَالُوا لَهُ: يَقُولُ
لَكَ رَبُّكَ تَمَنَّيْتَ شَيْئًا فِي نَفْسِكَ قَدْ عَلِمْتُهُ وَقَدْ بَعَثَ
مَعَنَا هَذَا الْبَذْرَ، يَقُولُ لَكَ: ابْذُرْ فَأَلْقَى يَمِينًا وَشِمَالًا
وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ فَخَرَجَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ عَلَى مَا كَانَ
تَمَنَّى وَزَادَ، فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ: كُلْ يَا ابْنَ
آدَمَ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَشْبَعُ.
[قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " قَالَ الدَّارِمِيُّ:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ حَدَّثَنَا
قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: يَا رَبِّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ
وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَكَ قَالَ:
إِذَا أُرْضِيتُ عَنْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ وَإِذَا غَضِبْتُ
عَلَيْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ.
(2/128)
[قَوْلُ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": قَالَ
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ "
قَالَ " حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ عَنْ صَدَقَةَ التَّيْمِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ قَالَ: لَوْ سُئِلْتُ أَيْنَ اللَّهُ؟ لَقُلْتَ فِي السَّمَاءِ.
[قَوْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": قَالَ
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
هِلَالٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:
أَتَى رَجُلٌ كَعْبًا وَهُوَ فِي نَفَرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ حَدِّثْنِي
عَنِ الْجَبَّارِ فَأَعْظَمَ الْقَوْمُ قَوْلَهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: دَعُوا
الرَّجُلَ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا تَعَلَّمْ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا ازْدَادَ
عِلْمًا، ثُمَّ قَالَ كَعْبٌ: أُخْبِرُكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا
بَيْنَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ وَكَثَّفَهُنَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ رَفَعَ
الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَفْوَانَ الْأُمَوِيُّ عَنْ
يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ
كَعْبٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَا اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِي
وَعَرْشِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي وَأَنَا
(2/129)
عَلَى
عَرْشِي أُدَبِّرُ " أُمُورَ " عِبَادِي لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ
مِنْ أَمْرِ عِبَادِي فِي سَمَائِي وَلَا فِي أَرْضِي، وَإِلَيَّ مَرْجِعُ
خَلْقِي، فَأُنْبِئُهُمْ بِمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِي، أَغْفِرُ لِمَنْ
شِئْتُ مِنْهُمْ بِمَغْفِرَتِي، وَأُعَاقِبُ مَنْ شِئْتُ بِعِقَابِي.
[قَوْلُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ
فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ بَكْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلٍ
بَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] الْآيَةَ، الْأَوَّلُ قَبْلَ
كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَالظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ
وَالْبَاطِنُ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِنَّمَا يَعْنِي الْقُرْبَ
بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ،
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}
[المجادلة: 7] يَقُولُ بِعِلْمِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فَيَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ
ثُمَّ يُنْبِئُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ
وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ.
(2/130)
[قَوْلُ
الضَّحَّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ الضَّحَّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " رَوَى بُكَيْرُ بْنُ
مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنْهُ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ. . .}
[المجادلة: 7] الْآيَةَ.
قَالَ هُوَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ.
[قَوْلُ التَّابِعِينَ جُمْلَةٌ]
" قَوْلُ التَّابِعِينَ جُمْلَةٌ ": رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ إِلَى الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ
نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا
وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ
مَذْهَبَ السَّلَفِ كَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ".
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ " لِأَنَّ
عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ
قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ
إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]
(2/131)
هُوَ
عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ أَحَدٌ فِي
ذَلِكَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ.
[قَوْلُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": رَوَى أَبُو بَكْرٍ
الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ
عِنْدَ رَبِّكَ مِنَ الْخَلْقِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِسْرَافِيلَ، وَبَيْنَهُ
وَبَيْنَ رَبِّهِ مَسِيرَةُ سَبْعَةِ حُجُبٍ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَإِسْرَافِيلُ دُونَ هَؤُلَاءِ وَرَأْسُهُ مِنْ تَحْتِ
الْعَرْشِ وَرِجْلَاهُ فِي تُخُومِ الثَّرَى.
[قَوْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": ذَكَرَ
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ
وَهَارُونُ قَالَا: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ " قَالَ " حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ
قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: إِنَّ الصِّدِّيقِينَ إِذَا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ طَرِبَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ ثُمَّ
يَقُولُ: خُذُوا فَيُقْرَأُ وَيَقُولُ اسْمَعُوا
(2/132)
إِلَى
قَوْلِهِ الصَّادِقِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ
وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْأَثَرَ: ابْنَ آدَمَ خَيْرِي
إِلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرُّكَ يَصْعَدُ إِلَيَّ وَأَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ
وَتَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي وَلَا يَزَالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ عَرَجَ
إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ.
[قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْخِ مَالِكِ
بْنِ أَنَسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ]
" قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْخِ
مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ " قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ
عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سُئِلَ رَبِيعَةُ عَنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ .
قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمِنَ
اللَّهِ تَعَالَى الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ.
[قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْكَوَّا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْكَوَّا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ":
ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
(2/133)
تَعَالَى
فِي تَارِيخِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْكَوَّاءِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: " يُقَاتِلُونَ مَعًا وَيُدْبِرُونَ شَتَّى. قَالَ:
فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ؟ قَالَ: أَنْظَرُ النَّاسِ فِي صَغِيرَةٍ
وَأَوْقَعُهُمْ فِي كَبِيرَةٍ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟
قَالَ: أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى الْفِتْنَةِ وَأَعْجَزُهُمْ عَنْهَا. قَالَ:
فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ مِصْرَ، قَالَ: لُقْمَةُ أَكْلٍ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي
عَنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ؟ قَالَ كُنَاسَةٌ بَيْنَ مَدِينَتَيْنِ. قَالَ
فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ؟ قَالَ: قِلَادَةُ وَلِيدَةٍ فِيهَا مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَرَزَةٌ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الشَّامِ؟ قَالَ: جُنْدُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَقُولُ فِيهِمْ شَيْئًا، قَالَ: لَتَقُولَنَّ. قَالَ:
أَطْوَعُ النَّاسِ لِمَخْلُوقٍ وَأَعْصَاهُمْ لِخَالِقٍ وَلَا يَحْسَبُونَ
لِلسَّمَاءِ سَاكِنًا.
[قَوْلُ تَابِعِ التَّابِعِينَ جُمْلَةً رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى]
[ذِكْرُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ]
" قَوْلُ تَابِعِ التَّابِعِينَ جُمْلَةً رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
":
ذِكْرُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَوَى
الدَّارِمِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ
إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمُبَارَكِ يَقُولُ: نَعْرِفُ رَبَّنَا بِأَنَّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتِ
الْجَهْمِيَّةُ، وَفِي
(2/134)
لَفْظٍ
آخَرِ قُلْتُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ.
قَالَ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ:
قِيلَ لَهُ كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: بِأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. قَالَ الْإِمَامُ عُثْمَانُ
بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: وَمِمَّا يُحَقِّقُ قَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ أَيْنَ اللَّهُ؟
يَمْتَحِنُ بِذَلِكَ إِيمَانَهَا؟ فَلَمَّا قَالَتْ: «فِي السَّمَاءِ قَالَ
أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ وَالْحُجَجُ مُتَظَاهِرَةٌ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ سَاقَهَا الدَّارِمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَذَكَرَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو
عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، فَقَالَ: لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ
إِلَهَكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَصَحَّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ
أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ.
[قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": قَالَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ
بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
كَثِيرٍ الْمِصِّيصِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ كُنَّا
وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ، نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَوْقَ
عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَهَذَا الْأَثَرُ يَدْخُلُ
فِي حِكَايَةِ مَذْهَبِهِ وَمَذَاهِبِ التَّابِعِينَ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ.
(2/135)
[قَوْلُ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": قَالَ
إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ:
سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: " الْجَهْمِيَّةُ إِنَّمَا
يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ قَالَ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ وَهَذَا الَّذِي كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ يُحَاوِلُونَهُ قَدْ صَرَّحَ
بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ وَكَانَ ظُهُورُ السُّنَّةِ وَكَثْرَةُ
الْأَئِمَّةِ فِي عَصْرِ أُولَئِكَ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ بِهِ
فَلَمَّا بَعُدَ الْعَهْدُ وَخَفِيَتِ السُّنَّةُ وَانْقَرَضَتِ الْأَئِمَّةُ
صَرَّحَتِ الْجَهْمِيَّةُ النُّفَاةُ بِمَا كَانَ سَلَفُهُمْ يُحَاوِلُونَهُ وَلَا
يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِهِ.
[قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ]
" قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ": قَالَ مَعْدَانُ: سَأَلْتُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ} [الحديد: 4] قَالَ: عَلْمُهُ. ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ.
(2/136)
[قَوْلُ
وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" قَوْلُ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ": قَالَ
الْأَثْرَمُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْسِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ
بْنَ جَرِيرٍ يَقُولُ: إِنَّمَا يُرِيدُ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
السَّمَاءِ شَيْءٌ. قَالَ: وَقُلْتُ لِسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي الْجَهْمِيَّةِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ
إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ.
[ذِكْرُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى]
[قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ]
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
" قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ " قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَصْرٍ
(قَالَ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى (قَالَ: سَمِعْتُ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ
يَقُولُ: سَمِعْتُ نُوحًا بْنَ أَبِي مَرْيَمَ أَبَا عِصْمَةَ يَقُولُ كُنَّا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ إِذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ
تِرْمِذَ كَانَتْ تُجَالِسُ جَهْمًا فَدَخَلَتِ الْكُوفَةَ، فَقِيلَ
(2/137)
لَهَا إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا قَدْ نَظَرَ فِي الْمَعْقُولِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، فَأْتِيهِ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي تُعَلِّمَ النَّاسَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ تَرَكْتَ دِينَكَ؟ أَيْنَ إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ؟ فَسَكَتَ عَنْهَا ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يُجِيبُهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] قَالَ هُوَ كَمَا تَكْتُبُ لِلرَّجُلِ إِنِّي مَعَكَ وَأَنْتَ عَنْهُ غَائِبٌ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَقَدْ أَصَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نَفَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مِنَ الْكَوْنِ فِي الْأَرْضِ وَفِيمَا ذَكَرَ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَتَبِعَ مُطْلَقَ السَّمْعِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَفِي كِتَابِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَوَوْهُ بِالْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيِّ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ قَالَ: لَا تُكَفِّرْ أَحَدًا بِذَنْبٍ وَلَا تَنْفِ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَا تَتَبَرَّأْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُوَالِي أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ وَأَنْ تَرُدَّ أَمْرَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ فِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنَ الْفِقْهِ فِي الْعِلْمِ، وَلَأَنْ يَتَفَقَّهَ الرَّجُلُ كَيْفَ يَعْبُدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ قَالَ أَبُو مُطِيعٍ قُلْتُ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَفْضَلِ الْفِقْهِ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ الرَّجُلُ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ، وَالسُّنَنَ، وَالْحُدُودَ، وَاخْتِلَافَ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ مَسَائِلَ فِي الْإِيمَانِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسَائِلَ فِي الْقَدَرِ. . . ثُمَّ
(2/138)
قَالَ:
فَقُلْتُ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ
فَيَتْبَعُهُ عَلَى ذَلِكَ أُنَاسٌ فَيَخْرُجُ مِنَ الْجَمَاعَةِ، هَلْ تَرَى
ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلِمَ؟ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسِلْمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ. فَقَالَ: هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ مَا
يُفْسِدُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُونَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ
الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْكَلَامَ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ إِلَى أَنْ
قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ
أَمْ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ (قُلْتُ)
: فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لَا أَدْرِي
الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ
أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى
عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ، وَفِي لَفْظٍ
سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ: لَا أَدْرِي رَبِّي فِي السَّمَاءِ
أَمْ فِي الْأَرْضِ قَالَ: قَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ قَالَ:
فَإِنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنَّهُ لَا يَدْرِي الْعَرْشَ
فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ
فَقَدْ كَفَرَ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ فِي
كِتَابِهِ (الْفَارُوقِ) بِإِسْنَادِهِ. قَالَ
(2/139)
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَفِي هَذَا الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ كَفَّرَ الْوَاقِفَ الَّذِي يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَاحِدُ النَّافِي الَّذِي يَقُولُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؟ وَاحْتَجَّ عَلَى كُفْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ: وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] دَلَّ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ تَوَقَّفَ فِي كَوْنِ الْعَرْشِ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: لِأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ. وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعُلُوِّ وَعَلَى أَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلَ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، كَأَبِي يُوسُفَ وَهِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَسَانِيدِهِمَا أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ صَاحِبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قَاضِي الرَّيِّ حَبَسَ رَجُلًا فِي التَّجَهُّمِ فَتَابَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى هِشَامٍ لِيَمْتَحِنَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى التَّوْبَةِ، فَامْتَحَنَهُ هِشَامٌ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَلَا أَدْرِي مَا
(2/140)
بَائِنٌ
مِنْ خَلْقِهِ. فَقَالَ: رُدُّوهُ إِلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ،
وَسَيَأْتِي قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عِنْدَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
[قَوْلُ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى]
" قَوْلُ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى ": ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ
التَّمْهِيدِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (قَالَ) حَدَّثَنِي أَبِي
(قَالَ) حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ (قَالَ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ
وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ (لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ) قَالَ: وَقِيلَ
لِمَالِكٍ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (اسْتِوَاؤُهُ مَعْقُولٌ وَكَيْفِيَّتُهُ
مَجْهُولَةٌ وَسُؤَالُكَ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ وَأَرَاكَ رَجُلَ سُوءٍ) .
وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ مِنْ بَعْدِهِ.
[قَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ مِنْ بَعْدِهِ]
قَالَ يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطُّلَيْطِيُّ فِي كِتَابِ سِيَرِ الْفُقَهَاءِ
وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ غَزِيرُ الْعِلْمِ
(2/141)
حَدَّثَنِي
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ
الثَّوْرِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ
قَوْلَ الرَّجُلِ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: اللَّهُ هُوَ
الدَّهْرُ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: رُغْمَ (أَنْفِي لِلَّهِ) ،
وَإِنَّمَا يُرْغَمُ أَنْفُ الْكَافِرِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ:
لَا وَالَّذِي خَاتَمُهُ عَلَى فَمِي، وَإِنَّمَا يُخْتَمُ عَلَى فَمِ الْكَافِرِ،
وَكَانُوا يَكْرَهُونَ قَوْلَ الرَّجُلِ: وَاللَّهِ حَيْثُ كَانَ أَوْ أَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ مَكَانٍ. قَالَ أَصْبَغُ: وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ
وَبِكُلِّ مَكَانِ عِلْمُهُ وَإِحَاطَتُهُ وَأَصْبَغُ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَأَفْقَهِهِمْ
[ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيِّ]
" ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيِّ ": قَالَ فِي كِتَابِهِ
فِي الْأُصُولِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ
اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ. وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ
أَيْضًا: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا عَلَى الْمَجَازِ ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ
مَالِكٍ قَوْلَهُ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ثُمَّ
قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ
عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا} [الحديد: 4]
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ: أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَهَذَا لَفْظُهُ
فِي كِتَابِهِ.
(2/142)
[ذِكْرُ
قَوْلِ بُخَارِيِّ الْغَرْبِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْبَرِّ إِمَامِ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
" ذِكْرُ قَوْلِ بُخَارِيِّ الْغَرْبِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إِمَامِ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
": قَالَ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الثَّامِنِ لِابْنِ
شِهَابٍ عَنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ
الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ
مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي
صِحَّتِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي السَّمَاءِ
عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَتِ الْجَمَاعَةُ،
وَهُوَ حُجَّتُهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ
اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ
مَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا
لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:
4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:
11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}
[الإسراء: 42] وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ
الْأَرْضَ} [الملك: 16]
(2/143)
وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَهَذَا مِنَ الْعُلُوِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] وَ {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] وَ {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] وَ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وَالْجَهْمِيُّ يَقُولُ إِنَّهُ أَسْفَلُ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وَقَالَ لِعِيسَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وَقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وَقَالَ {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} [فصلت: 38] وَقَالَ: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 2] وَالْعُرُوجُ هُوَ الصُّعُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] فَمَعْنَاهُ مَنْ عَلَى السَّمَاءِ يَعْنِي عَلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي بِمَعْنَى عَلَى أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَهَذَا كُلُّهُ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] . وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا تَلَوْنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا وَاضِحَاتٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا ادِّعَاؤُهُمُ الْمَجَازَ فِي الِاسْتِوَاءِ وَقَوْلُهُمْ فِي تَأْوِيلِ اسْتَوَى: اسْتَوْلَى فَلَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي اللُّغَةِ وَمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ فِي اللُّغَةِ الْمُغَالَبَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُغَالِبُهُ وَلَا يَعْلُوهُ أَحَدٌ،
(2/144)
وَهُوَ
الْوَاحِدُ الصَّمَدُ.
وَمِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، حَتَّى تَتَّفِقَ
الْأُمَّةُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّبَاعِ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا تَعَالَى إِلَّا عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا
يُوَجَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْأَشْهَرِ وَالْأَظْهَرِ مِنْ
وُجُوهِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهُ التَّسْلِيمُ، وَلَوْ سَاغَ
ادِّعَاءُ الْمَجَازِ لِكُلِّ مُدَّعٍ مَا ثَبَتَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ،
وَجَلَّ اللَّهُ أَنْ يُخَاطِبَ إِلَّا بِمَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ مَعْهُودِ
مُخَاطِبَاتِهَا مِمَّا يَصِحُّ مَعْنَاهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ، وَالِاسْتِوَاءُ
مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ مَفْهُومٌ، وَهُوَ: الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ عَلَى
الشَّيْءِ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَكُّنُ فِيهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي
قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ: عَلَا، قَالَ:
وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ وَاسْتَوَيْتُ فَوْقَ
الْبَيْتِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْتَوَى أَيِ اسْتَقَرَّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أَيِ انْتَهَى
شَبَابُهُ وَاسْتَقَرَّ فَلَمْ يَكُنْ فِي شَبَابِهِ مَزِيدٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: وَالِاسْتِوَاءُ الِاسْتِقْرَارُ فِي الْعُلُوِّ وَبِهَذَا خَاطَبَنَا
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وَقَالَ تَعَالَى:
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْرَدْتَهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ
الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
(2/145)
وَهَذَا
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِيهِ أَحَدٌ اسْتَوْلَى. لِأَنَّ النَّجْمَ لَا
يَسْتَوْلِي وَقَدْ ذَكَرَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا
جَلِيلًا فِي عِلْمِ الدِّيَانَةِ وَاللُّغَةِ قَالَ: حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ
وَحَسْبُكَ بِالْخَلِيلِ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا رَبِيعَةَ الْأَعْرَابِيَّ وَكَانَ
مِنْ أَعْلَمِ مَا رَأَيْتُ فَإِذَا هُوَ عَلَى سَطْحٍ فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ
عَلَيْنَا السَّلَامَ وَقَالَ لَنَا. . اسْتَوُوا. فَبَقِينَا مُتَحَيِّرِينَ
وَلَمْ نَدْرِ مَا قَالَ. فَقَالَ لَنَا أَعْرَابِيٌّ إِلَى جَنْبِهِ إِنَّهُ
أَمَرَكُمْ أَنْ تَرْفَعُوا، فَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] فَصَعِدْنَا
إِلَيْهِ. قَالَ: وَأَمَّا نَزْعُ مَنْ نَزَعَ مِنْهُمْ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ: اسْتَوْلَى عَلَى جَمِيعِ بَرِّيَّتِهِ فَلَا
يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ.
فَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَنَقَلَتُهُ مَجْهُولُونَ وَضُعَفَاءُ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ: فَضَعِيفَانِ،
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ، وَهُمْ لَا
يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْعُدُولِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ
الِاحْتِجَاجُ
(2/146)
بِمِثْلِ
هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ لَوْ عَقَلُوا وَأَنْصَفُوا، أَمَا سَمِعُوا اللَّهَ
سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ إِلَهِيَ فِي السَّمَاءِ
وَفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كَاذِبًا.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُقِّدُرُ الْخَلْقُ قَدْرَهُ ... وَمَنْ هُوَ فَوْقَ
الْعَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ
وَتَسْجُدُ
وَهَذَا الشِّعْرُ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَفِيهِ يَقُولُ فِي وَصْفِ
الْمَلَائِكَةِ:
وَسَاجِدُهُمْ لَا يَرْفَعُ الدَّهْرَ رَأْسَهُ ... يُعَظِّمُ رَبًّا فَوْقَهُ
وَيُمَجِّدُ
قَالَ: فَإِنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ
إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وَبُقُولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ
اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ
إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الْآيَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
جَدُّهُ. قِيلَ لَهُمْ: لَا خِلَافَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ
الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ دُونَ السَّمَاءِ بِذَاتِهِ، فَوَجَبَ
حَمْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ مَعْبُودٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَفِي
الْأَرْضِ إِلَهٌ مَعْبُودٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكَذَا قَالَ أَهْلُ
الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ
(2/147)
وَظَاهِرُ
التَّنْزِيلِ يَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ فَالِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ
سَاقِطٌ وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ مَنْ سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فَالْإِجْمَاعُ
وَالِاتِّفَاقُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَعْبُودٌ مِنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ قَاطِعٌ.
وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا فِي أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَجْمَعِينَ مِنَ الْعَرَبِ
وَالْعَجَمِ إِذَا كَرَبَهُمْ أَمْرٌ، أَوْ نَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ رَفَعُوا
وُجُوهَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَنَصَبُوا أَيْدِيَهُمْ رَافِعِينَ مُشِيرِينَ
بِهَا إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَغِيثُونَ اللَّهَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَهَذَا أَشْهَرُ وَأَعْرَفُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ أَنْ
يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى " أَكْثَرَ مِنْ " حِكَايَتِهِ لِأَنَّهُ
اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِعْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ
مُسْلِمٌ، وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَمَةِ
الَّتِي أَرَادَ مَوْلَاهَا عِتْقَهَا إِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَاخْتَبَرَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ قَالَ لَهَا
أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ لَهَا مَنْ أَنَا؟
قَالَتْ: " أَنْتَ " رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا
مُؤْمِنَةٌ» فَاكْتَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ مِنْهَا بِرَفْعِهَا رَأَسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ
عَمَّا سِوَاهُ قَالَ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا {يَكُونُ
مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] فَلَا حُجَّةَ
لَهُمْ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا
فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ
مَكَانٍ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَذَكَرَ
سُنَيْدٌ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}
[المجادلة: 7] قَالَ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا.
قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِثْلُهُ
(2/148)
قَالَ
سُنَيْدٌ وَحَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ
زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اللَّهُ
فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. ثُمَّ سَاقَ
مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ
ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ
عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى الْأُخْرَى مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ
عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ إِلَى الْمَاءِ مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ وَاللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ،
وَيَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي
كِتَابِ الِاسْتِذْكَارِ.
[ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ الصَّغِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ]
قَالَ فِي خُطْبَةِ رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ
الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ
إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ
(2/149)
وَلَا
شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ وَلَا
صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا
لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ وَلَا
يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ
وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ ذَاتِهِ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ
عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا
يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وَأَنَّهُ
فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ.
لِذَلِكَ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي نَوَادِرِهِ وَغَيْرِهَا مَنْ كُتُبِهِ
(وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي السُّنَّةِ تَقْرِيرَ الْعُلُوِّ)
وَاسْتِوَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ أَتَمَّ تَقْرِيرٍ
فَقَالَ: (فَصْلٌ) فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ مِنْ أُمُورِ
الدِّيَانَةِ " وَ " مِنَ السُّنَنِ الَّتِي خِلَافُهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ:
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْمُهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
وَالصِّفَاتُ الْعُلَى لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ قَائِمٌ وَهُوَ
سُبْحَانُهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَإِرَادَةً وَمَشِيئَةً
أَحَاطَ عِلْمًا بِجَمِيعِ مَا بَدَأَ قَبْلَ كَوْنِهِ فَطَرَ الْأَشْيَاءَ
بِإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَأَنَّ كَلَامَهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ لَيْسَ
بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ، وَلَا صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدُ، وَأَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَاتِهِ
وَأَسْمَعُهُ كَلَامَهُ لَا كَلَامًا قَامَ فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ يَسْمَعُ
وَيَرَى وَيَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَأَنَّ يَدَيْهِ مَبْسُوطَتَانِ
(2/150)
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وَأَنَّ يَدَيْهِ غَيْرُ نِعْمَتِهِ فِي ذَلِكَ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ جَائِيًا: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا لِعَرْضِ الْأُمَمِ وَحِسَابِهَا وَعِقَابِهَا وَثَوَابِهَا فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّهُ يَرْضَى عَنِ الطَّائِعِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيَسْخَطُ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ وَيَغْضَبُ فَلَا يَقُومُ شَيْءٌ لِغَضَبِهِ وَأَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ أَرْضِهِ وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كُرْسِيًّا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَضَعُ كُرْسِيَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَقُولُونَ مَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَرَاهُ أَوْلِيَاؤُهُ فِي الْمَعَادِ بِأَبْصَارِهِمْ لَا يُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَأَنَّهُ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَاسِطَةٌ وَلَا تُرْجُمَانٍ وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ دَارَانِ قَدْ خُلِقَتَا وَأُعِدَّتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّارُ لِلْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ. لَا تَفْنَيَانِ وَلَا تَبِيدَانِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَحْصَاهُ عِلْمُهُ، وَأَنَّ مَقَادِيرَ الْأُمُورِ بِيَدِهِ وَمَصْدَرَهَا عَنْ قَضَائِهِ تَفَضَّلَ عَلَى مَنْ أَطَاعَهُ فَوَفَّقَهُ وَحَبَّبَ الْإِيمَانَ إِلَيْهِ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ فَيَسَّرَهُ لَهُ وَشَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بِهِ قَلْبَهُ فَهَدَاهُ وَ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] . وَخَذَلَ مَنْ عَصَاهُ وَكَفَرَ بِهِ فَأَسْلَمَهُ وَيَسَّرَهُ
(2/151)
لِذَلِكَ فَحَجَبَهُ وَأَضَلَّهُ: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] وَكَلٌّ يَنْتَهِي إِلَى سَابِقِ عِلْمِهِ لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْهُ وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ " ذَلِكَ " بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ نَقْصًا عَنْ حَقَائِقِ الْكَمَالِ لَا مُحْبِطَ لِلْإِيمَانِ وَلَا قَوْلَ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلَ وَلَا عَمَلَ وَلَا نِيَّةَ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَلَا يُحْبِطُ الْإِيمَانَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَأَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ كُلَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مَتَى شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وَأَنَّ الْخَلْقَ مَيِّتُونَ بِآجَالِهِمْ فَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إِلَى يَوْمٍ يَبْعَثُونَ وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاءِ فِي سِجِّينٍ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيُضْغَطُونَ وَيُسْأَلُونَ وَيُثَبِّتُ اللَّهُ مَنْطِقَ مِنْ أَحَبَّ تَثْبِيتَهُ وَأَنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وَأَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي أَطَاعَتْ أَوْ عَصَتْ هِيَ الَّتِي تُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتُجَازَى، وَالْجُلُودَ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا وَالْأَلْسِنَةَ وَالْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ تَشْهَدُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ
(2/152)
وَتُنْصَبُ الْمُوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَأَفْلَحَ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، وَخَابَ " وَخَسِرَ " مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ. وَيُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ حُوسِبَ حِسَابًا يَسِيرًا وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا، وَأَنَّ الصِّرَاطَ جِسْرٌ مَوْرُودٌ يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ فِيهَا يَتَسَاقَطُونَ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ أُمَتِّهِ بَعْدَ أَنْ صَارُوا " فِيهَا " حُمَمًا فَيُطْرَحُونَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. وَالْإِيمَانُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرِدْهُ أُمَّتُهُ لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، وَيُذَادُ عَنْهُ مَنْ غَيَّرَ وَبَدَّلَ. وَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ مِنْ خَبَرِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاوَاتِ عَلَى مَا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَمًا عَدَلًا، وَقَتْلِهِ لِلدَّجَّالَ، وَبِالْآيَاتِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، وَنُصَدِّقُ بِمَا جَاءَنَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَ " مَا " ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَخْبَارِهِ
(2/153)
يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُحْكَمِهِ " وَنُؤْمِنُ " وَنُقِرُّ بِنَصِّ مُشْكَلِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَنَكِلُ مَا غَابَ عَنَّا مِنْ حَقِيقَةِ تَفْسِيرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِهِ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ مُشْكَلَهُ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْقُرُونِ قَرْنُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِّيٌّ وَقِيلَ ثُمَّ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَنَكُفُّ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يُفَضِّلُ أَحَدَهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَرَأَى الْكَفَّ عَنْهُمَا وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَعَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَمِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَدْرِ الْهِجْرَةِ وَالسَّابِقَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَكُلُّ مَنْ صَحِبَهُ وَلَوْ سَاعَةً أَوْ " رَآهُ " وَلَوْ مَرَّةً فَهُوَ بِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْكَفُّ عَنْ ذِكْرِ
(2/154)
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِخَيْرِ مَا يُذْكَرُونَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ أَنْ نَنْشُرَ مَحَاسِنَهُمْ وَيُلْتَمَسُ لَهُمْ أَفْضَلُ الْمَخَارِجِ وَنَظُنُّ بِهِمْ أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» . قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلِّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رِضَى أَوْ عَنْ غَلَبَةٍ وَاشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجَرٍ فَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ جَارَ أَوْ عَدَلَ، وَنَغْزُو مَعَهُ الْعَدُوَّ وَنَحُجُّ مَعَهُ الْبَيْتَ، وَدَفْعُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ مُجْزِيَةٌ إِذَا طَلَبُوهَا وَنُصَلِّي خَلْفَهُمُ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا نُصَلِّي خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ نَخَافَهُ فَنُصَلِّي. وَاخْتُلِفَ فِي الْإِعَادَةِ، وَلَا بَأْسَ بِقِتَالِ مَنْ دَافَعَكَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَاللُّصُوصِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ نَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَالتَّسْلِيمُ لِلسُّنَنِ لَا تُعَارِضْ بِرَأْيٍ وَلَا تُدَافِعْ بِقِيَاسٍ، وَمَا تَأَوَّلَهُ مِنْهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ تَأَوَّلْنَاهُ، وَمَا عَمِلُوا بِهِ عَمِلْنَاهُ، وَمَا تَرَكُوهُ تَرْكْنَاهُ، وَيَسَعَنَا أَنْ نُمْسِكَ عَمَّا أَمْسَكُوا وَنَتَّبِعَهُمْ فِيمَا بَيَّنُوا وَنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيمَا اسْتَنْبَطُوهُ وَرَأَوْهُ فِي الْحَوَادِثِ وَلَا نَخْرُجُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَوْ فِي تَأْوِيلِهِ، وَكُلُّ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ النَّاسِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَكُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ فَمِنْهُ مَنْصُوصٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِهِ، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَتِهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِأَحَدٍ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِيمَا خَالَفَهَا، مَنِ اهْتَدَى بِهَا هُدِيَ وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا نُصِرَ، وَمَنْ تَرَكَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، قَالَ مَالِكٌ: أَعْجَبَنِي
(2/155)
عَزْمَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُدَوَّنَةِ:
وَأَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ بِذَاتِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ دُونَ
أَرْضِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ أَصْلَبَهُ فِي السَّنَةِ وَأَقْوَمَهُ
بِهَا.
[قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مَوْهِبٍ الْمَالِكِيِّ شَارِحِ
رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَشْهُورِينَ فِي الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى]
(قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مَوْهِبٍ الْمَالِكِيِّ شَارِحِ
رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَشْهُورِينَ فِي الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : قَالَ فِي شَرْحِهِ لِلرِّسَالَةِ وَمَعْنَى "
فَوْقَ " " وَعَلَا " وَاحِدٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْعَرَبِ وَفِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَصْدِيقُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ خَوْفِ الْمَلَائِكَةِ:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:
50] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، «وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْجَمِيَّةِ: أَيْنَ
اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ» ، «وَوَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عُرِجَ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ
(ثُمَّ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ) إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ إِلَى مَا
فَوْقَهَا حَتَّى قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ وَلَمَّا فُرِضَتِ
الصَّلَاةُ جَعَلَ كُلَّمَا هَبَطَ مِنْ مَكَانِهِ تَلَقَّاهُ مُوسَى
(2/156)
عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي بَعْضِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَرَهُ بِسُؤَالِ التَّخْفِيفِ عَنْ
أُمَّتِهِ فَرَجَعَ صَاعِدًا مُرْتَفِعًا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَسَأَلَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ» وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ
كَلَامِهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قُرْبٍ.
[قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِيِّ
الْأَنْدَلُسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ]
قَالَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الِاهْتِدَاءِ لِأَهْلِ الْحَقِّ
وَالِاقْتِدَاءِ مِنْ تَصْنِيفِهِ مِنْ شَرْحِ الْمُلَخَّصِ لِلشَّيْخِ أَبِي
الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَالِكٍ " عَنْ
" ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا
كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْقَى ثُلْثُ اللَّيْلِ
الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ
مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا تَكْيِيفَ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَدَلِيلُ
قَوْلِهِمْ أَيْضًا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}
[الإسراء: 42] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ} [السجدة: 5] وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
(2/157)
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ - مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 2 - 4] وَالْعُرُوجُ هُوَ الصُّعُودُ، (وَ) قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكَانٌ يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِقَوْلِهِ فِي السَّمَاءِ: عَلَى السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أَيْ: مَنْ عَلَى السَّمَاءِ يَعْنِي عَلَى الْعَرْشِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] أَيْ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ لِمَالِكٍ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . كَيْفَ اسْتَوَى، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَائِلِهِ: اسْتِوَاؤُهُ مَعْقُولٌ، وَكَيْفِيَّتُهُ مَجْهُولَةٌ، وَسُؤَالُكَ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ وَأَرَاكَ رَجُلَ سُوءٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أَيْ: عَلَا، قَالَ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا قَدَّمْتُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْمَجَازِ فِي الِاسْتِوَاءِ، وَأَنَّ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ فِي اللُّغَةِ الْمُغَالَبَةُ وَأَنَّهُ لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ وَمِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى تَتَّفِقَ الْأُمَّةُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَّا عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْأَشْهَرِ وَالْأَظْهَرِ مِنْ وُجُوهِهِ مَا
(2/158)
لَمْ
يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهُ التَّسْلِيمُ وَلَوْ سَاغَ ادِّعَاءُ
الْمَجَازِ لِكُلِّ مُدَّعٍ مَا ثَبَتَ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَجَلَّ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ إِلَّا بِمَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ مَعْهُودِ
مُخَاطِبَاتِهَا مِمَّا يَصِحُّ مَعْنَاهُ عِنْدَ السَّامِعِينَ. وَالِاسْتِوَاءُ
مَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ وَالتَّمَكُّنُ فِي
الشَّيْءِ.
وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَنَّ الْمُوَحِّدِينَ أَجْمَعِينَ
إِذَا كَرَبَهُمْ أَمْرٌ رَفَعُوا وُجُوهَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَغِيثُونَ
اللَّهَ رَبَّهُمْ «وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
لِلْأَمَةِ الَّتِي أَرَادَ مَوْلَاهَا عِتْقَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَشَارَتْ
إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: " أَنْتَ "
رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» . فَاكْتَفَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِرَفْعِ رَأْسِهَا
إِلَى السَّمَاءِ. فَدَلَّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ،
وَالْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَدَلِيلُ قَوْلِنَا أَيْضًا قَوْلُ
أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ:
وَسَاجِدُهُمْ لَا يَرْفَعُ الدَّهْرَ رَأْسَهُ ... يُعَظِّمُ رَبًّا فَوْقَهُ
وَيُمَجِّدُ فَسُبْحَانَ
مَنْ لَا يُقَدِّرُ الْخَلْقُ قَدْرَهُ ... وَمَنْ هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَرْدٌ
مُوَحَّدُ مَلِيكٌ
عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ
وَتَسْجُدُ
(2/159)
وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:
36] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ:
إِلَهِي فِي السَّمَاءِ وَفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كَاذِبًا، فَإِنِ احْتَجَّ "
أَحَدٌ " عَلَيْنَا فِيمَا قَدَّمْنَاهُ وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَأَشْبَهَ الْمَخْلُوقَاتِ لَأَنَّ مَا أَحَاطَتْ بِهِ الْأَمْكِنَةُ
وَاحْتَوَتْهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَشَيْءٌ لَا يَلْزَمُ وَلَا مَعْنَى لَهُ
لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يُقَاسُ
بِشَيْءٍ مِنْ بَرِّيَّتِهِ " وَ " لَا يُدْرَكُ بِقِيَاسٍ وَلَا
يُقَاسُ بِالنَّاسِ كَانَ قَبْلَ الْأَمْكِنَةِ وَيَكُونُ بَعْدَهَا لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ
الْمُسْلِمُونَ وَكُلُّ ذِي لُبٍّ أَنَّهُ لَا يَعْقِلُ كَائِنٌ إِلَّا فِي
مَكَانٍ مَا وَمَا لَيْسَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ عَدَمٌ وَقَدْ صَحَّ فِي الْعُقُولِ
وَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ لَا فِي مَكَانٍ وَلَيْسَ
بِمَعْدُومٍ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ؟ أَوْ يَجْرِي بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ تَمْثِيلٌ أَوْ تَشْبِيهٌ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ
الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. (فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ) : إِذَا وَصَفْنَا
رَبَّنَا تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ لَا فِي مَكَانٍ ثُمَّ خَلَقَ
الْأَمَاكِنَ فَصَارَ فِي مَكَانٍ وَفِي ذَلِكَ إِقْرَارٌ مِنَّا بِالتَّغْيِيرِ
وَالِانْتِقَالِ إِذْ زَالَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْأَزَلِ وَصَارَ فِي مَكَانٍ
دُونَ مَكَانٍ.
قِيلَ لَهُ: وَكَذَلِكَ " زَعَمْتَ " أَنْتَ أَنَّهُ كَانَ لَا فِي
مَكَانٍ ثُمَّ صَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَنَقَلَ صِفَتَهُ مِنَ الْكَوْنِ لَا فِي
مَكَانٍ إِلَى صِفَةٍ هِيَ الْكَوْنُ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَقَدْ تَغَيَّرَ عِنْدَكَ
مَعْبُودٌ وَانْتَقَلَ مِنْ لَا مَكَانَ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ فَإِنْ قَالَ:
إِنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ فِي كُلِّ مَكَانٍ كَمَا هُوَ الْآنَ فَقَدْ أَوْجَبَ
(2/160)
الْأَمَاكِنَ وَالْأَشْيَاءَ مَوْجُودَةً مَعَهُ فِي أَزَلِيَّتِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ. (فَإِنْ قَالَ) : فَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَكَ أَنْ يَنْتَقِلَ مَنْ لَا مَكَانَ فِي الْأَزَلِ إِلَى مَكَانٍ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الِانْتِقَالُ وَتَغَيُّرُ الْحَالِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي الْأَزَلِ لَا يُوجِبُ مَكَانًا وَكَذَلِكَ نَقْلَتُهُ لَا تُوجِبُ مَكَانًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَالْخَلْقِ لِأَنَّ كَوْنَ مَا كَوْنُهُ يُوجِبُ " مَكَانًا " مِنَ الْخَلْقِ وَنَقْلَتُهُ تُوجِبُ مَكَانًا وَيَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ. . . وَلَكِنَّا نَقُولُ: اسْتَوَى مِنْ لَا مَكَانَ إِلَى مَكَانٍ وَلَا نَقُولُ: انْتَقَلَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاحِدًا. كَمَا نَقُولُ: لَهُ عَرْشٌ وَلَا نَقُولُ: لَهُ سَرِيرٌ، وَنَقُولُ: هُوَ الْحَكِيمُ وَلَا نَقُولُ: هُوَ الْعَاقِلُ، وَنَقُولُ: خَلِيلُ إِبْرَاهِيمَ وَلَا نَقُولُ: صَدِيقُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاحِدًا لِأَنَّا لَا نُسَمِّيهِ وَلَا نَصِفُهُ وَلَا نُطْلِقُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَا نَدْفَعُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وَلَيْسَ مَجِيئُهُ حَرَكَةً وَلَا زَوَالًا وَلَا انْتِقَالًا لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْجَائِيُ جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ حَرَكَةً وَلَا نَقْلَةً، وَلَوِ اعْتَبَرْتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ جَاءَتْ فُلَانًا قِيَامَتُهُ، وَجَاءَهُ الْمَوْتُ، وَجَاءَهُ الْمَرَضُ، وَشِبْهُ ذَلِكَ (مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ نَازِلٌ بِهِ وَلَا مَجِيءَ، لَبَانَ لَكَ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ. فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَوِيًا عَلَى مَكَانٍ إِلَّا مَقْرُونًا بِالْكَيْفِ قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ الِاسْتِوَاءُ وَاجِبًا وَالتَّكْيِيفُ مُرْتَفِعٌ وَلَيْسَ رَفْعُ التَّكْيِيفِ يُوجِبُ رَفْعَ الِاسْتِوَاءِ وَلَوْ لَزِمَ هَذَا لَزِمَ التَّكْيِيفُ فِي الْأَزَلِ " لِأَنَّهُ " لَا يَكُونُ كَائِنًا فِي مَكَانٍ وَلَا مَقْرُونًا بِالتَّكْيِيفِ. فَإِنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ وَلَا مَكَانَ وَهُوَ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِالتَّكْيِيفِ وَقَدْ
(2/161)
عَقَلْنَا وَأَدْرَكْنَا بِحَوَاسِّنَا أَنَّ لَنَا أَرْوَاحًا فِي أَبْدَانِنَا وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِكَيْفِيَّةِ الْأَرْوَاحِ يُوجِبُ أَنْ لَيْسَ لَنَا أَرْوَاحٌ وَكَذَلِكَ لَيْسَ جَهْلُنَا بِكَيْفِيَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ يُوجِبُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عَرْشِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ» . قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْعَمَاءُ: مَمْدُودٌ وَهُوَ السَّحَابُ، وَالْعَمَى مَقْصُورٌ: الظُّلْمَةُ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ فَمَنْ رَوَاهُ بِالْمَدِّ فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ كَانَ فِي عَمَاءِ سَحَابٍ مَا تَحْتَهُ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى الْعَمَاءِ وَمَنْ رَوَاهُ بِالْقَصْرِ فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ كَانَ فِي عَمَى عَنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمِيَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أَظْلَمَ عَنْهُ. قَالَ سُنَيْدٌ بِسَنَدِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّ بَيْنَ الْعَرْشِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ لَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ وَحِجَابًا مِنْ ظُلْمَةٍ، وَرَوَى أَيْضًا سُنَيْدٌ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى الْأُخْرَى مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، " وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ إِلَى الْمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ "، وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ وَيَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا: إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: يُرِيدُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لِأَنَّ الْعَرْشَ آخِرُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ فَوْقَهُ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ تَكْيِيفٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَّا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى سَحَابَةٍ فَقَالَ مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ: وَالْمُزْنُ. قَالُوا: وَالْمُزْنُ. قَالَ: وَالْعَنَانُ. قَالُوا: وَالْعَنَانُ قَالَ: كَمْ تَرَوْنَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ؟ قَالُوا لَا نَدْرِي، قَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ إِمَّا وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَالسَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ بَيْنَهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ
(2/162)
السَّابِعَةِ
بَحْرٌ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ فَوْقَ
ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلَافِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا
بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ عَلَى ظُهُورِهِمُ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ
وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى
فَوْقَ ذَلِكَ» ، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
[قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عِيسَى الْمَالِكِيِّ الْمَشْهُورِ بِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى]
(قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عِيسَى الْمَالِكِيِّ الْمَشْهُورِ بِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى) : قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ: بَابُ
الْإِيمَانِ بِالْعَرْشِ قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعَرْشَ وَاخْتَصَّهُ بِالْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ فَوْقَ
جَمِيعِ مَا خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ
نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
[طه: 5] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد: 4] وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ
الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ
أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ
هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ» : ثُمَّ
ذَكَرَ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْحُجُبِ
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَائِنٌ مِنْ
خَلْقِهِ مُحْتَجِبٌ عَنْهُمْ بِالْحُجُبِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ
الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] إِلَى أَنْ قَالَ: بَابُ الْإِيمَانِ
(2/163)
بِالنُّزُولِ،
قَالَ: وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا وَذَكَرَ حَدِيثَ النُّزُولِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ
يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ
وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَفِي غَيْرِ
مَا حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ} [السجدة: 5] {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وَسَاقَ الْآيَاتِ فِي
الْعُلُوِّ وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ أَيْنَ اللَّهُ؟ ثُمَّ قَالَ:
وَالْأَحَادِيثُ مِثْلُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
[قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْعِرَاقِ]
(قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْعِرَاقِ) :
مِنْ كِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ، نَقَلَهُ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ
الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
[ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ]
(ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ) : رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّسَ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ
(2/164)
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَ