الأربعاء، 22 يونيو 2022

تابع=8 ـ التَّعْزيَةُ بين المَشْرُوعِ وَالمَمْنُوعِ و 9ـ ما ينتفع به الميت بعد الموت وما لا ينفعه(سـؤال وجــواب)

 تابع=8 ـ التَّعْزيَةُ بين المَشْرُوعِ وَالمَمْنُوعِ و 9ـ ما ينتفع به الميت بعد الموت وما لا ينفعه(سـؤال وجــواب)

8 ـ التَّعْزيَةُ بين المَشْرُوعِ وَالمَمْنُوعِ

(سـؤال وجــواب)

M

إن الحمد لله تعالى نحمده   ونستعينه  ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،  مَن يهد الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له،  وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }         (سورة آل عمران: 102)

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}     (سورة النساء: 1)

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }          (سورة الأحزاب:70،71)

 

أما بعد...،

فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل

محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

 

س: ما المقصود بالتعزية؟ وما هو الغرض منها؟

جـ: التعزية: التصبر، وعزَّيْتُهُ: أي أمرته بالصبر، فكل ما يجلب للمصاب صبراً يقال له تعزية.

والتعزية لغة: التسلية، وشرعاً: الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الصبر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة.

قال النووي- رحمه الله- كما في الأذكار صـ147:

والتعزية مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة أيضاً في قول الله تعالى:

{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2).  وهذا من أحسن ما يُسْتَدل به في التعزية.

والمقصود بالتعزية: أن يسلَّى أهل الميت بما يكف عنهم الحزن، ويحملهم على الرضا والصبر، وذلك بما تيسر من الكلام الطيب.

قال ابن القاسم: والمقصود من التعزية ثلاثة أشياء:

أحدها: تهوين المصيبة على المُعزَّى، وتسليته عنها، وحضّه على التزام الصبر، واحتسابه الأجر، والرضا بالقدر، والتسليم لأمر الله تعالى.

الثاني: الدعاء بأن يعوِّضه الله تعالى عن مصابه جزيل الثواب.

الثالث: الدعاء للميت، والترحم عليه، والاستغفار له. أهـ

 

س: هل التعزية لها أصل في الشرع؟

جـ: نعم. فقد أخرج النسائي وأحمد والحاكم وصححه وأقره الذهبي والألباني عن قُرَّة المُزَني t قال:

"كان نبي الله  rإذا جلس يجلس إليه نفرٌ من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فقال له النبي r: تحبه؟ فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي r فقال: مالي لا أرى فلانا؟ فقالوا: يا رسول الله بُنَيُّهُ الذي رأيته هلك، فلقيه النبي r فسأله عن بُنَيِّه ؟ فأخبره بأنه هلك، فعزَّاه عليه، ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك. أن تمتع به عُمُرَك أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ، قال: فذاك لك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله جعلني الله فداءك... أله خاصة أو لكلنا؟ قال: بل لكلكم".

 

س: ما فضل التعزية؟

جـ: ندب الشرع إلى التعزية وحرَّض عليها، وجعل عليها الفضل الكبير.

فقد أخرج الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن أنس بن مالك t عن النبي r قال:

"من عَزَّى أخاه المؤمن في مصيبة، كساه الله حلة خضراء يُحْبَرُ بها يوم القيامة

قيل: يا رسول الله ما يحبر؟ قال: يغبط"

(حسنه الألباني في الإرواء (3/764) وأخرجه ابن عساكر وابن أبي شيبة في مصنفه)

أخرج ابن ماجة والبيهقي عن عمرو بن حزم t عن النبيr قال:

"ما من مؤمن يُعَزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله U من حلل الكرامة يوم القيامة".

س: ما حكم التعزية؟

جـ: التعزية مستحبة. فقد جـاء في كنز الدقـائق، وفي أسنى المطالب، وفي نهاية المحتـاج

وروضة الطالبين: أن التعزية سُنَّة.

 

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (5112) رداً على هذا السؤال:

س: ما حكم عزاء الميت، وما الدليل على العزاء يوم يموت الميت، وهل التعزية تكون بذبح الذبائح ونحر المواشي، من قريب أو بعيد التي يحضرها الناس، ونرجو تفصيل العزاء؟

جـ: التعزية سنة، وقد روي عن النبي r الترغيب فيها، بما روي عنه r أنه قال:

"ما من مؤمن يُعَزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله U من حلل الكرامة يوم القيامة".

(رواه ابن ماجة)

ولا تكون التعزية بذبح بقر أو غنم، أو بنحر إبل... أو نحوها، وإنما تكون بكلمات طيبة تعين على الصبر والرضا بالقدر، وطمأنينة النفس إلى قضاء الله رجاء المثوبة، وخشية العقوبة.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 


وفي سؤال آخر من الفتوى رقم (2618) وفيه:

س: ما حكم الاجتماع عند أهل الميت صبيحة الغد من يوم الوفاة للدعاء وإيناسهم والحديث معهم، حتى ثلاثة أيام أو أكثر، فإن بعض العلماء عندنا أحله وبعضهم حرمه، إلا للإمام وحده للتعزية ولكن لم يأت أحد بدليل؟

جـ: يسن تعزية أهل الميت كبارهم وصغارهم، تسلية لهم عن مصائبهم، وإعانة لهم على الصبر وتحمل ما نزل بهم، لعموم ما رواه الترمذي من قوله عليه الصلاة والسلام:

"من عَزَّى مصاباً فله مثل أجره"    "إسناده ضعيف".

وأيضاً في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة عن النبي r:

"ما من مؤمن يُعَزِّي أخاه في مصيبة إلا كساه الله U من حلل الكرامة يوم القيامة".

وفي سنده قيس أبو عمارة الفارسي مولى الأنصار، وفيه لين،

لكن مجموع ما ورد من الأحاديث في التعزية يقوي بعضه بعضاً، فتنهض للاحتجاج بها، ويثبت بها مشروعية التعزية دون الجلوس والاجتماع لها، ويكره الجلوس للتعزية والاجتماع من أجلها يوماً أو أياماً؛ لأن ذلك لم يعرف عن النبي r ولا عن خلفائه الراشدين، لأن في جلوس أهل الميت واجتماع المعزين بهم يوماً أو أياماً إثارة للحزن وتجديداً له، وتعطيلاً لمصالحهم.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

تنبيه:

هناك حديث أخرجه الترمذي وابن ماجة والبيهقي وفيه: "من عَزَّى مصاباً فله مثل أجره"

"وهو حديث ضعيف"

(ضعفه النووي – رحمه الله – في كتابه المجموع، وضعفه الألباني – رحمه الله –  في ضعيف سنن الترمذي،

... وفي الإرواء (162، 757)، وضعيف الجامع (5708).

 


س: هل التعزية لأهل الميت عند القبر جائزة ؟

وَرَدَ هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (8005) وفيه:

س: تُوفِّى شخص وقمنا بدفنه وبعضنا عَزَّى ذويه عند القبر، فهل هذا جائز؟

جـ: يجوز ذلك، وليس للتعزية وقت محدود، ولا مكان محدود.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 

س: هل يجوز نشر التعازي في الصحف ؟

جـ: نعم جائز،  فقد جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب:

أن التعزية تحصل بالمكاتبات والمراسلات.

 

جاء في السؤال الموجه لفضيلة الشيخ الفوزان ـ حفظه الله ـ ما نصه:

س:تنشر على مساحات كبيرة في بعض الصحف تعازي لبعض الناس في وفاة أقربائهم وأحياناً تكون الكتابة بلون أبيض على صفحات سوداء وأحيانا بعض العبارات فقط، فما حكم هذا العمل؟

فأجاب فضيلته: التعزية لأهل الميت بالدعاء لهم ولميتهم مشروعة إذا كانت في حدود الوارد عن الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقول لأخيه المصاب إذا لقيه: "أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر لميتك" وإذا كان بعيداً عنه وكتب له خطاباً ضمنه هذه التعزية فلا بأس بذلك.

وأما الإعلان في الصحف عن وفاة الميت فلا داع له، إلا إذا كان المقصد منه الإعلام بوفاته من أجل أن يقوم من له عليه حقوق لاستيفائها، أو من أجل بيان مكان الصلاة على جنازته من أجل الحضور لذلك.

أما إذا كان من أجل الإشادة به والمدح فهذا لا ينبغي؛ لأنه قد يفضي إلى المبالغة والإطراء، وأيضاً هذا العمل يستدعي تكاليف مالية تدفع للجريدة في مقابل الإعلان وهو عمل لا يترتب عليه فائدة، وكذا لا يشرع الإعلان عن مكان العزاء، ولا إقامة حفلات وولائم.

قال جرير بن عبد الله t:

"كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعَة الطعام من النياحة".

(المنتقى من فتاوى الفوزان 2/284)


وجه سؤال إلى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (11120) وفيه:

س: هل يجوز شرعاً عزاء أهل قاتل نفسه؟ وهل يجوز التَّرَحُم عليه؟

وما الدليل من الكتاب والسنة؟

جـ: يحرم على المسلم قتل نفسه، قال تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة: 195)،

وقال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً{29} وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } (النساء: 29، 30)

وثبت أن النبي r قال: "من قتل نفسه بشيء، عُذِّب به يوم القيامة"

(رواه البخاري ومسلم وغيرهما)

ومن أقدم على قتل نفسه فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر، ومتعرض لعذاب الله، ولكن يجوز أن يُتَرَحم عليه، وأن يُدْعى له، كما يجوز تعزية أهله وأقاربه؛ لأنه لم يكفر بقتل نفسه.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 

س: هل يجوز تعزية أهل الكتاب؟

جـ: لا يجوز تعزية أحد من أهل الكتاب، وغيرهم من الكفار.

وذلك للحديث الذي أخرجه أبو داود عن علي بن أبي طالب t قال: قلت للنبي r:

"قلت للنبي r: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوارِ أباك، ثم لا تُحْدِثنَّ شيئاً حتى تأتيني، فذهبت فواريته، وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي".    (صحيح أبو داود:3214)

وفى الحديث أن النبي r لم يعزي علياً بوفاة أبيه المشرك.

قال ابن عثيمين – رحمه الله –:

لا تجوز تعزيته، ولا يجوز أيضاً شهود جنائزهم وتشييعهم.

(بدع وأخطاء الجنائز صـ 283)

 


س: ما حكم تشييع جنازة الكافر؟

وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (2612) وفيه:

س: ما حكم الله في حضور جنائز الكفار، الذي أصبح تقليداً سياسياً وعرفاً متفقاً عليه؟

جـ: إذا وجد من الكفار من يقوم بدفن موتاهم فليس للمسلمين أن يتولوا دفنهم، ولا أن يشاركوا الكفار ويعاونوهم في دفنهم، أو يجاملوهم في تشييع جنائزهم عملاً بالتقاليد السياسية، فإن ذلك لم يعرف عن رسول الله r، ولا عن الخلفاء الراشدين، بل نهى الله رسوله r أن يقوم على قبر عبد الله بن أُبي بن سلول، وعلل ذلك بكفره، قال تعالى:

{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } (التوبة:84)،

وأما إذا لم يوجد منهم من يدفنه، دفنه المسلمون، كما فعل النبي r بقتلى بدر، وبعمه أبي طالب لما توفي قال لعلي: "اذهب فوارِه"

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 

س: هل يجوز تعزية الكافر القريب؟

وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة من الفتوى رقم (1988) وفيه:

س: هل يجوز للمسلم أن يعزي الكافر إذا كان أباه أو أمه، أو من أقاربه، إذا كان يخاف إذا مات ولم يذهب إليهم أن يؤذوه، أو يكون سببا لإبعادهم عن الإسلام أم لا؟

جـ: إذا كان قصده من التعزية أن يرغبهم في الإسلام فإنه يجوز ذلك، وهذا من مقاصد الشريعة، وهكذا إذا كان في ذلك دفع أذاهم عنه، أو عن المسلمين؛ لأن المصالح العامة الإسلامية تغتفر فيها المضار الجزئية.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 


س: ما هي صيغ التعزية؟

جـ: إذا ذهب الرجل ليُعَزِّي أخاه فيستحب له أن يعزيه بما ثبت عن النبي r من صيغ التعزية إن كان يعلمها، وإن لم يعلمها أو لا يستحضرها فليُعَزِّهِ بما تيسر له من الكلام الحسن الذي يخفف عنه الآلام ولا يخالف الشرع.

صـيـغ الـتـعزيــة:

1 – "إن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكُلّ شيء عنده إلى أجلٍ مسمى، فلتصبر ولتحتسب"

أخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال:

"أرسلتْ إلى رسول الله r بعض بناته أن صبياً لها قد احتضر فأشهدنا

– وفي رواية: أميمة بنت زينب ـ فأرسل إليها يقرأ السلام، ويقول: "إنّ لله ما أخذ ولله ما أعطى وكُلّ شيء عنده إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب" فأرسلت تقسم عليه ليَأتِيَّنَهَا، فقام وقمنا، فَرُفِعَ الصبي إلى حجر رسول الله r ونَفْسُه تُقَعْقِعْ – كأنها في شنةٍ – وفي القوم سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال، ففاضت عينا رسول الله r، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله وقد نهيت عن البكاء؟ قال: إنما هذه رحمةٌ يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".

قال النووي – رحمه الله – كما في الأذكار صـ 149:

هذا الحديث أحسن ما يعزى به، ومعنى التعزية

ـ "إن لله ما أخذ: أي أن العالم كله ملك لله تعالى، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم من معنى العارية.

ـ "وله ما أعطى: أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء.

ـ "وكل شيء عنده إلى أجل مسمى:  فلا تجزعوا، فإن من قبضه الله تعالى فقد انقضى أجله المسمى، فمحال تأخيره أو تقديمه، فإذا علمتم ذلك فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم.

كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }(الأعراف:34 )،(النحل:61)

 


2 – ومن صيغ التعزية كذلك:

قوله r حينما دخل على أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ عقب موت أبي سلمة:

"اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلُفْه في عَقبِهِ في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونَوِّر له فيه".

(رواه مسلم)

3 - ومن صيغ التعزية كذلك:

قوله r في تعزيته عبد الله بن جعفر في أبيه:

"اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه – قالها ثلاث مرات –"

(رواه أحمد في مسنده)

 

4- و قوله r للمرأة التي رآها تبكي على القبر فقال لها:

"اتقي الله واصبري".

 

5 ـ وإن لم يعلم هذه الصيغ المأثورة عن النبي r أو لم يستحضرها، فليقل مثلاً:

"البقاء لله"، أو "اصبر واحتسب"، أو "نسأل الله أن يأجرك"، أو "أحْسَنَ الله عزاءك"،

أو "عظَّم الله أجرك".

أو "شد حيلك": والحيلة: الحول أي:القوة، ومعنى: "شد حيلك" أي: قَوِّي عزمك أو تَصَبَّر

أو تجَلَّد.


وهذه كلمات تخفِّف عن المصاب ألم الفراق عند فقد الأحباب

روى البيهقي والحاكم في مناقب الإمام الشافعي – رحمه الله –:

أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له:

( يا أخي عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أعظم المصائب فَقْد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً.

ثم أنشد قائلاً:

إني معزيك لا إني على ثقة

من الحيـاة ولكن سنة الديـن

فلا المعزي ببـاقٍ بعد ميته

ولا المُعزى ولو عاشا إلى حين

ويشاء الله U فيموت بعدها ابن للشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ

الذي كان يُعزِّي أصبح يُعزَّى، جاءوا يعزونه،  فأنشد قائلاً:

وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له

رزية مال أو فراق حبيب

 

ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يسمع بمثله

فجلس وجاء الناس يعزونه فأمر ألا يحجب منه أحد، فأكثر الناس في التعازي واجتهدوا في البلاغة والفصـاحة لكونه الخليفة، ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يروا تعزية أبلغ ولا أوجز من تعزية ابن شبة

- رحمه الله – يوم قال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً، وأعقبك خيراً، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية.

 

ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة فجزع فجاء أخ له فقال:

عظم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك

ثم أنشد:

أخي ما بال قلبك ليس ينقي

كأنَّك لا تظن الموت حقا؟

ألا يا بن الذين مضوا وبادوا

أما والله ما ذهبوا لتبقى

فكشف ما به


ومن ألطف وأقوى ما سمعت  تعزية من غير كلام رسول البرية r وسلف الأمة

– رضوان الله عليهم- ما قاله ابن سناء الملك وقد مات لأحد أقاربه ميت، فجزع عليه جزعاً شديداً فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله، إلى متى هذا الجزع الصبياني والهلع النسواني؟ إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك بل يميت دينك ويسلب هدوءك ويشمت فيك عدوك، أما على هذا مضى الزمان؟ وعلى هذا درج الثقلان، وللخراب بني العمران، وللانتقال سكن السكان، وللموت ولد المولود، وللعدم خلق الوجود، أتحب أن تبقي ويبقى من تحب؟ فذا خلود.

 

وكتب محمد بن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولد له فقال:

أما بعد...، فإن استطعت أن يكون شكرك لله U حيث قبضه كشكرك له حيث وهبه لك، فافعل، فإنه حيث قبضه أحرز لك هيبته، ولو بقي لم نسلم من فتنته أرأيت جزعك على ذهابه، وتلهفك على فراقه، أرضيت الدار لنفسك فترضاها لابنك؟ أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت متعلقاً بالحظر والسلام.                                                                  ( شعب الإيمان للبيهقي 7/247)

 

وكتب ابن السماك أيضاً إلى رجل يعزيه فقال له:

إن من تمام الشكر على العافية، والصبر على الرزية، ومن قدَّم وجد، ومن أخّر فقد.

 

وأنشد بعضهم يقول:

وما يغني التأوه إذ تولى

وهـل مـا فـات مرتجع

فإقراراً وتسليماً وصبراً

على ما كان من قدر الإله

 

قال يحيي بن معاذ- رحمه الله -:

ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت ؟ ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟

 

وعَزَّى إسماعيل بن هارون رجلاً في ابنه فقال:

والله لمصيبة في غيرك لك أجرها، خير من مصيبةٍ فيك لغيرك ثوابها.

 


ومات لأبي الأحوص ( سلام بن سليم الحنفي) ابن صغير

فأتاه سفيان الثوري، وزائدة ( ابن قدامة) يعزيانه، فقال له سفيان بعدما عزَّاه:

إن الله سبحانه أنعم عليك به – يعني الولد- إن وهبه ما شاء أن يهب، ثم أنعم عليك أن قبضه إليه، فكان مدخوراً لك عنده فلا تعد نعمته عليك مصيبة، فكأنك قد لحقت به فسرك تقدمه إياك.

 

وقال محمد بن كُنَاسة:

كتب رجل إلى أخيه يعزيه بابنه فقال: أمَّا بعد...، فإن الله U وهب لك موهبة، جعل عليك رزقه ومئونته، وأنت تخشى فتنته، فاشتد لذلك، فلما قبض الله سبحانه موهبته، وكفاك مئونته، وأمَّنك فتنته اشتد لذلك حزنك، أقسم بالله، لو كنت تقياً تعزيت على ما هُنيت عليه، ولهُنيت على ما عُزيت عليه، فإذا أتاك كتابي هذا، فأصبر نفسك عن الأمر الذي لا غنى بك عن ثوابه، واعلم أن مصيبته وإن عظمت إن لم يُذهب فرح ثوابها حزنها فذلك الحزن الدائم .

 

وأنشد بعضهم قائلاً:

وإذا يُصبكَ مصيبةٌ فاصبر لها

عظمَتْ بليةُ مُبْتَلَي لا يصبر

 

وأنشد آخر فقال:

وعوضت أجراً من فقيد فلا يكن

فقيدك لا يأتي وأجرك ذاهب

 

 

وعزى موسي بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابن له مات فقال:

أيسرك وهو بلية وفتنة ؟ ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى؟ يشير إلى قول الله U:

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}  (الأنفال: ٢٨)

ويشير بالثانية إلى قوله تعالى: { أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:157)

( العقد الفريد ( 2/456)، والأذكار للنووي( 9/148)

فلله ما أعطى ولله ما حــوى

ولـيس لأيام الرزية كالصـبر

فحسبك منهم موحشاً فقد برهم

وحسبك منهم مسلياً طلب الأجر

فهذه تسلية وتسرية لكل مكلوم أصيب بفقد الأحباب عسى أن تكون برداً لكبده وراحة لفؤاده ...

والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

س: اذكر بعض صيغ التعزية المخالفة للشرع، والتي تجري على ألسنة الناس؟

جـ: من هذه الصيغ الممنوعة الغير مشروعة:

قول البعض: "البقية في حياتك"

وهذه الصيغة غير صحيحة، حيث يفهم منها أن الميت مات قبل انتهاء أجلُه، وبقي من عمره بقية لم يعشها (أي مات ناقص العمر بزعمهم)، فيدعون أن تنتقل هذه البقية إلى عمر من يُعزِّيه. وهذا كلام خطير واعتقاد باطل يصطدم تماماً مع قوله تعالى:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }(الأعراف:34 ) وأيضاً يصطدم هذا القول

مع قول النبي r الثابت في شعب الإيمان للبيهقي، أو الحلية لأبي القيم عن أمامة t  عن النبي r: "إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى:

التعزية مستحبة، ففي الترمذي عن النبي r أنه قال: "مَن عزَّى مصاباً فله مثل أجره" "ضعيف" وأما قول القائل: "ما نقص من عمره زاد في عمرك (وهو ما تقوله العامة: البقية في حياتك) فغير مستحب، بل المستحب أن يُدْعى له بما ينفع، مثل أن يقول: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفَر لميتك"  أهـ

 

ـ من صيغ التعزية الممنوعة كذلك:

"اللهم اجعلها آخر الأحزان"، "محدش يعزِّيك"، "عظم الله أجلك"،"ينساك الموت".

فالناس يجامل بعضهم بعضاً، ويعزي بعضهم ببعض بهذه الصيغة "ينساك الموت"، مع أن الموت من قضاء الله، فكأنهم يصفون الله تعالى بالنسيان والغفلة.

 

س: هل التعزية تحدُّ بثلاثة أيام كما يزعم البعض استناداً لحديث:"لا عزاء فوق ثلاث"

جـ: بداية هذا الحديث لا أصل له، وهو حديث يتداوله العوام، وقد ورد في السنة أنه يجوز التعزية بعد الثلاث، ولم يرد حديث صحيح ينص على تحديد زمن التعزية، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتي بها.

فقد ثبت عنه r أنه عزَّى بعد الثلاثة في حديث عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنهما ـ قال: "إن النبي r أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم...."                                                 (أبو داود والنسائي).

وأخرجه الإمام أحمد أيضاً من حديث عبد الله بن جعفر – رضي الله عنهما – قال:

"بعث رسول الله  r جيشاً استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فلقوا العدو، فأخذ الراية زيد فقاتَلَ حتى قُتِلَ، ثم أخذ الراية جعفر فقاتَلَ حتى قُتِلَ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتَلَ حتى قُتِلَ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه، وأتى خبرهم النبي r فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتَلَ حتى قُتِلَ واستشهد ثم............ ثم.............. ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه، فأمهل ثم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابنيْ أخي، قال: فجيء بنا كأنا أَفْرُخ، فقال:ادعوا لي الحلاق فجيء بالحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قال: أما محمد فشبيهُ عمِّنا أبي طالب، وأما عبدُ الله فشبيهُ خلْقي وخُلُقي، ثم أخذ بيدي فأشالها، فقال: اللهم اخلُف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه، قالها ثلاث مرات، قال: فجاءت أُمُّنا فذكرت له يُتْمَنَا وجعلت تُفْرِحُ له، فقال: العَيْلَة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة"

ـ تُفْرِحُ: أي تَغُمُّه وتحزنه. من أَفْرَحَهُ: إذ غَمَّه وأزال عنه الفرح، وأفرحه الدين: أثقله.

فتبين من خلال هذا الحديث أن النبي r جاء آل جعفر بعد ثلاث.

 

قال النووي ـ رحمه الله ـ كما في المجموع:

وأما وقت التعزية فهو من حين الموت إلى حين الدفن، وبعد الدفن إلى ثلاثة أيام، وتكره التعزية بعد الثلاثة؛ لأن المقصود منها تسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد الثلاثة، فلا يجدد له الحزن، وهذا هو الصحيح المعروف وبه قطع الجمهور.

ولا حرج من التعزية بعد ثلاثة أيام لمن كان مريضاً أو غائباً فلم يحضُر.

وحكى إمام الحرمين: أن هذه المدة للتقريب لا للتحديد، فإنه لا أمد للتعزية، بل يبقى بعد ثلاثة أيام وإن طال الزمان؛ لأن الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عنة الجزع، وذلك يحصُل مع طول الزمان. أهـ


س: هل يجوز تكرار التعزية؟

جـ: إذا عُلِم أن هناك مصلحة في ذلك، كأن يتجدد على أهل الميت الحزن لسبب ما، فالأصل التعزية طالما أن أهل الميت محتاجون إلى ما يزيل الحزن عنهم. أما إذا نسوا لطول زمان مثلاً، فلا نجدد عليهم الأحزان بالتعزية.

 

س: هل يقوم أهل الميت بإعداد الطعام لضيافة الواردين للعزاء؟

وما هي السُّنَّة المتبعة في مثل هذا الموطن؟

جـ: إعداد الطعام من أهل المتوفى للمُعزِّين هذه من البدع المنكرة، وهو خلاف السنة

فقد أخرج ابن ماجة وأحمد عن جرير بن عبد الله البجلي t قال:

"كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت، وصَنْعَةَ الطعام من النياحة"

(والحديث ضعفه بعض أهل العلم، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح ابن ماجة :1612).

قال السندي ـ رحمه الله ـ:

و"كنا نرى" هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – أو تقرير النبي r، وعلى الثاني فحكمه الرفع، وعلى التقريرين فهو حجة.

وقد نص ابن الهُمام في"فتح القدير شرح الهداية":

على كراهة اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت، وقال: يستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يُشبعهم ليلتهم ويومهم، ويكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت؛ لأنه شُرِع في السرور لا في الشرور، وهي بدعة قبيحة، وهو مذهب الحنابلة كما في الإنصاف.

قال ابن المفلح كما في الفروع:

يكره صنع أهل الميت الطعام، وزاد الشيخ وغيره: إلا لحاجة. وقيل: يحْرم

وكرهه أحمد وقال: ما يعجبني، ونقل جعفر: لم يرخص لهم، ونقل المروزي: هو من أفعال الجاهلية، وأنكره شديداً. أهـ

وقال ابن عثيمين – رحمه الله – كما في الشرح الممتع (5/471):

فنجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس، وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة. أهـ

 


وفي سؤال وجه إلى اللجنة الدائمة فيه:

س: هل إذا دُعي إلى الطعام الذي يقدم عند الموت، هل يجيب الدعوة؟

الجواب: لا يجيبها لأنها من البدع، ولا يعد هذا من القطيعة. أهـ

وإنما السُّنَّة في هذا: أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يشبعهم، وهذا الفعل من محاسن الشريعة التي جاء بها النبي r

حيث إن أهل الميت لا يتكلفون طبخ الطعام لأحد من الناس، بل أمر r أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت ويرسلونه إليهم؛ لأن هذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم، وتخفيف الحمل عن أهل الميت إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم لأنهم في شغل بمصابهم عن إصلاح طعام لأنفسهم.

فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد عن عبد الله بن جعفر قال:

"لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي r: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم ـ أو أتاهم ما يشغلهم ـ"

(ضعفه البعض، وحسنه الألباني – رحمه الله – في صحيح ابن ماجة:1610)

قال صاحب عون المعبود في هذا الحديث: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً"

فيه مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه من الطعام؛ لاشتغالهم عن أنفسهم بما دهمهم من المصيبة. أهـ

وقال السندي ـ رحمه الله ـ:

وفي الحديث السابق: إنه ينبغي للأقرباء أن يرسلوا لأهل الميت طعاماً. أهـ ، فقد أتاهم ما يشغلهم.

وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها –:

"أنها  كانت إذا مات الميت من أهلها، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صُنع ثريد، فضبَّتْ التلبينة عليها، ثم قالت: كُلْن منها، فإني سمعت رسول الله r يقول: التلبينة مجمةٌ لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن".

ـ تلبينة: طعام يتخذ من دقيق، وربما جُعِل فيها عسل.

ـ مجمةٌ: أي مريحة.


قال الشافعي – رحمه الله – في الأم:

وأحب لجيران الميت أو ذي القرابة أن يعملوا لأهل الميت من يوم يموت وليلته طعاماً يشبعهم، فإن ذلك سُنَّة وذكرٌ كريم، وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا.

تنبيهان:

قال ابن قدامة – رحمه الله – كما في المغني (3/497):

لكن إذا كان المُعزُّون من أماكن بعيدة جاز إعداد طعام لهم؛ لأن هذا لا يكون شبيهاً باجتماع النياحة.

 

هناك بدعة منكرة وهو ما يسميه الناس أو بعضهم (عشاء الميت) أو(عشاء الوالدين) فيجمع الناس سنوياً مثلاً في شهر رمضان على أن هذه صدقة عن ميِّتِهم.

 

ووجه هذا السؤال لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ وفيه:

س: هل من المستحب أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه طعاماً لأهله؟

جـ: أما الطعام للميت بعد ثلاثة أيام من موته أو سبعة أو عشرة أو أقل أو أكثر فذلك بدعة محدثة، وكل محدثة ضـلالة. والمستحب في ذلك أن يصلح أقربـاء الميت وجيرانه طعـاماً لأهله

فلقد روى أبو داود أن رسول الله r لما جاءه نعي جعفر قال:

"اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم" (أحمد والترمذي وهو في صحيح الجامع:1015)

أما صنع أهل الميت الطعام للناس فذلك خلاف المشروع، فيه زيادة على مصيبتهم، وشغل لهم مع انشغالهم وحزنهم.

وبالله التوفيق والسلام عليكم.

(فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رقم 941)

 


ضيافة الواردين للعزاء

اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت، لضيافة الواردين للعزاء بدعة.

وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي t قال:

"كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة"(ابن ماجة بسند صحيح)

(الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أحكام الجنائزصـ209)

وإنما السُّنَّة أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يشبعهم

لحديث عبد الله بن جعفر t قال: "لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي r: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم،ـ أو أتاهم ما يشغلهم ـ"

(أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة)

وكذا نص ابن الهمام على كراهة اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت وقال:

"وهي بدعة قبيحة"، وهو مذهب الحنابلة.

 

س: هل يجوز صنع الطعام من أهل الميت؟

الفتوى رقم (2707):

س: في قريتي عادة لا أعلم حكمها، وهي لا تزال مستمرة، وإن الذي يتخلى عنها يعيبونه بذلك، وهي بعد وفاة الميت بأربعة أيام أو خمسة أو خلافها يقوم الورثة بعمل وليمة كبيرة وتسمى صدقة عن الميت، وهي غالبا ًما تؤخذ من مال المتوفَّى ويفد بعض الأقارب بشيء منه وحيث إنها يكون فيها تبذير من ناحية كثرة الذبائح والمفاخرة بها. هل يجوز هذا أم لا؟ وإذا كانت تجوز فكيف صفتها؟

جـ: لا يجوز لأهل الميت صنع الطعام سواء كان من مال الورثة أو من ثلث المتوفَّى، أو من شخص يفد عليهم؛ لأن هذا خلاف سنة رسول الله r، فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح عن عبد الله بن جعفر t قال: "لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي r: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر شغلهم"

وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: "فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها"،

وروى أحمد بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي t قال:

"كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة". وهكذا تحديد ذلك بمدة أربعة أيام أو خمسة ... ونحو ذلك لا أصل له في الشرع، بل هو بدعة.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة

س: في بعض البلدان إذا مات الميت يجتمعون في بيت الميت ثلاثة أيام يصلون ويدعون له، فما حكم هذا؟

جـ: الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة، وهكذا الصلاة في البيت لا تجوز، بل على الرجال الصلاة في المسجد مع الجماعة، وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء لهم والترحم على ميتهم. أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم بقراءة خاصة أو أدعية خاصة ...أو غير ذلك فذلك بدعة، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه سلفنا الصالح، فالرسول r ما فعله، فقد قتل جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة – رضي الله عنهم – في معركة مؤتة فجاءه الخبر من الوحي بذلك، فنعاهم للصحابة وأخبرهم بموتهم وترضَّى عنهم ودعا لهم، ولم يتخذ لهم مأتماً، وكذلك الصحابة من بعده لم يفعلوا شيئاً من ذلك، فقد مات الصديق t ولم يتخذوا له مأتماً، وقُتِل عمر t وما جعلوا له مأتماً، ولا جمعوا الناس ليقرءوا القرآن، وقتل عثمان بعد ذلك، وعلي بن أبي طالب فما فعل الصحابة – رضي الله عنهم - لهما شيئاَ من ذلك، وإنما السُّنَّة أن يصنع الطعام لأهل الميت من أقاربهم أو جيرانهم فيبعث إليهم، مثلما فعل النبي r حينما جاءه نعي جعفر فقال لأهله: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" ([1]) هذا هو المشروع، أما أن يحملوا بلاءً مع بلائهم، ويكلفوا ليضعوا طعاماً للناس فهو خلاف السنة، وهو بدعة، لما ذكرنا آنفاً، ولقول جرير بن عبد الله البجلي t: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة".

ـ والنياحة : هي رفع الصوت بالبكاء وهي محرَّمة، والميت يعذب في قبره بما يناح عليه، كما صحت به السنة عن النبي r فيجب الحذر من ذلك. أما البكاء فلا بأس به إذا كان بدمع العين فقط بدون نياحة، لقول النبي r لما مات ابنه إبراهيم:

"إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" ([2])

(فتاوي الشيخ عبد العزيز بن باز)

 


طرق التعزية

الفتوى رقم (4504):

س: سؤالنا هو: عن ما يجري في عزاء الميت اليوم، وذلك أنه في الآونة الأخيرة أخذت كل قرية من قرى الجنوب تجمع نقوداً، وتأخذ بها صيوان خيام، وينصب إذا مات منهم واحد لمدة ثلاثة أيام، ثم يأخذ وفود المعزين يأتون إليهم جماعة بعد جماعة في ذلك الصيوان، ويجلسون مدة من الوقت، ثم يذهبون، ويأتي آخرون وهكذا حتى تنتهي هذه الثلاثة أيام، وهؤلاء الوفود لا يأكلون عند أهل المصاب، لكن عند الجماعة وخاصة الذي يأتي من بلد بعيد، فالذي أشكل علينا هو: نصب هذه الخيام والتجمع الذي بصفة دائمة في هذه الثلاثة أيام، وقراء جماعة أهل المصاب للذين يأتون من بعيد هل فيه شيء أم لا؟ نرجو توضيح الجائز من غيره في كل ما ذكر.

جـ: أولاً: من هديه r تعزية أهل الميت، بهذا جاءت السُّنَّة من فعله r وقوله.

ثانياً: من السُّنَّة صنع الطعام لأهل الميت فعن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر t حين قتل، قال النبي r: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم"                                                                                   (رواه الخمسة إلا النسائي)

ثالثاً: الاجتماع عند أهل الميت وصنعة الطعام منهم بعد دفنه لا يجوز، والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة".

رابعاً: يحرم ما يفعله أهل القرية من جمع نقود يأخذون بها صيواناً، ينصب إذا مات منهم واحد لمدة ثلاثة أيام، يأتي إليهم جماعة بعد جماعة في ذلك الصيوان، ويجلسون مدة من الوقت ثم يذهبون، ويأتي آخرون وهكذا حتى تنتهي هذه الثلاثة أيام؛ لأن ذلك بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 


س: هل يُشْتَرط لتعزية أهل الميت الاجتماع في مكان معين ليقصدهم الناس؟

جـ: وهذا أيضاً من البدع المنكرة.

وذلك للحديث السابق الذي أخرجه ابن ماجة وأحمد من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة".

وعليه فلا يجوز الاجتماع للتعزية في مكان خاص كالدار، أو المقبرة، أو المسجد، أو السرادقات (الصِوان) للحديث السابق.

 

قال الشافعي – رحمه الله – في كتابه الأم (1/248):

وأكره المآتم وهي الجماعة، وإن لم يكن بها بكاء، فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة. أهـ

ثم أشار الشافعي – رحمه الله – إلى الأثر السابق.

 

وقال النووي – رحمه الله – في المجموع (5/306):

وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والشيرازي وسائر الأصحاب على كراهيته، قالوا: يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت، فيقصدهم من أراد التعزية، ثم قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عزَّاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها.

وقال النووي أيضاً كما في الروضة:

التعزية سُنَّة، ويكره الجلوس لها.

 

وقال أبو الخطاب كما في المغني (3/487):

يكره الجلوس للتعزية.

 

وقال ابن القيم – رحمه الله – كما في زاد المعاد (1/527):

وكان من هديه r تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ القرآن لا عند قبره ولا عند غيره، وكل هذه بدعة حادثة مكروهة.


جاء في الموسوعة الفقهية (12/288):

ـ وكره الشافعية والحنابلة الجلوس للتعزية بأن يجتمع أهل الميت في مكان ليأتي الناس إليهم للتعزية؛ لأنه محدث وهو بدعة ومجدد للحزن.

ـ ووافقهم الحنفية على كراهة الجلوس للتعزية على باب الدار، إذا اشتمل ذلك على ارتكاب محظور كفرش البسط والأطعمة من أهل الميت.

ـ وذهب المالكية إلى أن الأفضل في كون التعزية في بيت المصاب.

ـ وقال بعض الحنابلة: إنما المكروه البيتوتة عند أهل الميت، وأن يجلس إليهم من عزّى مرة، أو يستديم المعزِّي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التعزية. أهـ

والقول الصحيح: هو قول الحنابلة والشافعية في عدم الاجتماع في مكان مخصوص أو في البيت ليقصدهم الناس، وهذا هو الموافق لحديث جرير t.

ولعل من أجاز الجلوس عند أهل الميت يقصد مَن جاءهم من سفر أو مكان بعيد، فإنه لا حرج أن يجلس معهم لا للعزاء، وإنما لحضورهم من سفر.

قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ

كما في "المغني"، وفي "الشرح الكبير"، وفي كتاب "مطالب أولي النُّهى":

وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم، ولا يمكنهم إلا أن يُضيِّفوه. أهـ

 

س: هل يجوز التعزية في المسجد، بمعنى أن يجلسوا في المسجد ليقصدهم الناس؟

جـ: لا يجوز التعزية في المسجد بهذه الصورة

ولعل من جوَّز ذلك استدل بما في الصحيحين عن عائشةـ رضي الله عنها ـ أنها قالت:

"لما جاء رسول الله r قَتْل ابن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله r يُعرف فيه الحزن..." "الحديث"

وجاء عند أبي داود: "أنه كان في المسجد"

فكان هذا قَدَرَاً من غير اتفاق ولا قصد الجلوس في المسجد لاستقبال المُعزِّين.

قال الإمام أحمد في رواية أبي داود:

وما يعجبني أن يقعد أولياء الميت في المسجد يُعَزَّوْنَ، أخشى أن يكون تعظيماً للميت. أهـ


وأصدرت دار الإفتاء المصرية بتاريخ 13 من شوال 1366هـ

الموافق29 من أغسطس 1947م عن فضيلة الشيخ حسنين مخلوف - رحمه الله-

عندما سئل عن الاجتماع عند الميت فقال:

هذه بدعة سيئة، لم تكن في عهد النبوة، ولا في عهد الصحابة والتابعين، وهي خير العهود، وهم أفضل القرون، فهي بدعة دخيلة مستحدثة، لا يشهد لها أصل من الدين، فهي مذمومة منكرة، وفيها إضاعة الأموال في غير وجهها المشروع. أهـ

 

وقال الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة (1/305):

وما يفعله بعض الناس اليوم من الاجتماع للتعزية وإقامة السرادقات، وفرش البسط، وصرف الأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة من الأمور المحدثة والبدع المنكرة، التي يجب على المسلمين اجتنابها ويحرم عليهم فعلها، لاسيما وأنه يقع فيها كثير مما يخالف هدي الكتاب، ويناقض تعاليم السنة ويسير وفق عادات الجاهلية: كالتغني بالقرآن، وعدم التزام آداب التلاوة، وترك الإنصات، والانشغال عنه بشرب الدخان... وغيره

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه عند كثير من ذوي الأهواء فلم يكتفوا بالأيام الأُول، بل جعلوا يوم الأربعين يوم تجدد لهذه المنكرات وإعادة لهذه البدع، وجعلوا ذكرى أولى بمناسبة مرور عام على الوفاة، وذكرى ثانية... وهكذا مما لا يتفق مع عقل ولا نقْل. أهـ

أضف إلى ما سبق: المشقة الكبيرة التي تلحق أهل المتوفَّى حيث يقفون الساعات الطوال لتقبُّل العزاء فهذا تعب وإجهاد لهم فوق مصابهم.

والأصل في هذا عدم التكلف، ومن لقي أحداً من أهل الميت في أي مكان عزَّاه، وانتهى الأمر بلا مشقة أو مؤنة.

 


وجه هذا السؤال لفضيلة الشيخ الفوزان ـ حفظه الله ـ وفيه:

س: ما هي الطريقة الشرعية لعمل المآتم أو المعازي؟ وما هي الطريقة الشرعية للقيام بالعزاء والمواساة؟

جـ: ليس من الشرع إقامة المآتم، بل هذا مما نهى الله عنه؛ لأنه من الجَزع والنياحة والابتداع الذي ليس له أصل في الشريعة.

وأما المشروع في العزاء: فهو إذا لقيت المصاب أن تدعو له وتدعو للميت، فتقول: "أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر الله لميِّتك، إذا كان الميت مسلماً.

هذا هو العزاء المشروع وفيه دعاء للحي المصاب، ودعاء للميت المسلم، ولا بأس بل يستحب أيضاً أن يصنع طعام ويهدى لأهل الميت إذا كانوا قد اشتغلوا عن الطعام وعن إصلاح الطعام بالمصيبة، فينبغي لجيرانهم ومن يعلم حالهم أن يصنع لهم طعاماً ويهديه إليهم.

أما إقامة المآتم، وإقامة السرادقات، وجمع الناس والقراء، وطبخ الطعام، فهذا لا أصل له في دين الإسلام.                                                          (فتاوى الشيخ الفوزان الجزء الثاني رقم 134)

 

حكم إقامة مراسم العزاء

السؤال: تقام مراسم العزاء، يتجمع الناس عند بيت المتوفَّى خارج المنزل، توضع بعض المصابيح الكهربائية (تشبه تلك التي في الأفراح) ويصطف أهل المتوفَّى، ويمر الذين يريدون تعزيتهم يمرون عليهم واحداً بعد الآخر، ويضع كل منهم يده على صدر كل فرد من أهل المتوفى ويقول له: (عظَّم الله أجرك)، فهل هذا الاجتماع وهذا الفعل مطابق للسنة؟ وإذ لم يوافق السُّنَّة، فما هي السُّنَّة في ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.

الإجابة: هذا العمل ليس مطابقاً للسُّنَّة، ولا نعلم له أصلاً في الشرع المطهر، وإنما السُّنَّة: التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة، ولا اجتماع معين كهذا الاجتماع، وإنما يشرع لكل مسلم أن يعزِّي أخاه بعد خروج الروح في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها، وإذا قابله شرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب مثل:

"أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وجبر مصيبتك" و إذا كان الميت مسلماً دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن تعزي بعضهن بعضاً، ويعزِّي الرجل المرأة، والمرأة الرجل، لكن من دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرماً له.. وفق الله المسلمين جميعاً للفقه في دينه والثبات عليه إنه خير مسئول.

(مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ج5 صـ345ـ الشيخ ابن باز)

س: مـا هي بدع العزاء التي يقع فيها الناس؟

1ـ الاجتماع في مكان للتعزية.

 

2ـ قيام أهل البيت بإعداد الطعام للمُعزِّين.

 

3ـ تحديد التعزية بثلاثة أيام استناداً لحديث: "لا عزاء فوق ثلاث" وهو حديث لا أصل له.

 

4ـ اعتقاد البعض عند الذهاب للتعزية بأن له مثل أجر المصاب، استناداً لحديث:

"من عزَّى مصاباً فله مثل أجره".

 

5ـ توزيع "الختمة " وقراءتها ليقرأ كل منهم جزءاً من القرآن وقت العزاء، وهو ما يعرف بالعتاقة.

 

6ـ قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ألف مرة، أو قراءة سورة "يس" أو "الفاتحة" على روح فلان.

 

7ـ تعزية أحد من أهل الكتاب.

 

8 ـ تقبيل المُعزِّين، فلا دليل على هذا ويكفي في ذلك المصافحة.

 

9ـ ما تفعله بعض النساء عند مجيئهن للتعزية، فتبدأ بالعويل والصراخ والنياحة.

 

10ـ الاجتماع ثلاثة أيام أو عمل ما يسمى بالخميس الصغير والكبير والاجتماع فيهما، أو الاجتماع في الأربعين أو السنوية من أجل التعزية، وتجديداً لذكرى الميت، وكل هذا مخالف للسنة ومجدد للأحزان، وفيه إضاعة للمال، وسخط الرب – تبارك وتعالى – ولا ينتفع الميت بذلك في شيء.

11ـ قول البعض في التعزية: "البقية في حياتك" أو "ينساك الموت".

 

12ـ إطلاق لفظ "المرحوم" أو "المغفور له"، والصحيح أن يُدْعى له فيقال: "رحمه الله أو غفر الله له"؛ لأننا لا نجزم لأحد بجنة ولا بنار، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ومن هذا قراءة بعضهم: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}(الفجر:27ـ 28) قاصداً بذلك الميت.

 

13ـ من الطقوس المنكرة التي نقلت إلينا من اليهود والنصارى وغيرهم: الوقوف دقيقة أو نحوها حداداً على الميت وتنكيس الأعلام والرايات.           (فتاوى اللجنة الدائمة: (1674).

 

وللحديث بقية ـ إن شاء الله تعالى ـ مع "ما ينتفع به الميت بعد موته، وما لا ينفعه"


وبعد...،

فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة

نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي

وإن وجدت العيب فسد الخللا

جلّ من لا عيب فيه وعلا

فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك =


9ـ ما ينتفع به الميت بعد الموت وما لا ينفعه

(سـؤال وجــواب)

 

M

إن الحمد لله تعالى نحمده   ونستعينه  ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،  مَن يهد الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له،  وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }         (سورة آل عمران: 102)

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}     (سورة النساء: 1)

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }          (سورة الأحزاب:70،71)

 

أما بعد...،

فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل

محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

مـقـدمــة:

انقسم الناس بالنسبة لما ينفع الميت بعد الموت إلى ثلاثة أقسام، طرفان ووسط:

الطرف الأول: طائفة غلت وقالت: ينفع الميت كل شيء من عمل غيره

فيستأجرون المقرئين يقرءون للميت... وغير ذلك من الأفعال والتي لم يأذن بها الشرع.

(سيأتي ذكرها إن شاء الله)

الطرف الثاني: وهم بعض أهل البدع من أهل الكلام

قالوا: بعدم وصول شيء البتة إلى الميت لا الدعاء ولا غيره، واستدلوا ببعض الآيات.

كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

وقوله تعالى: { وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (يس:54)

وقوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة:286)

أما الوسط بين الطرفين والحسنة بين السيِّئتين: فهم أهل السنة والجماعة

وهم أسعد الناس بالدليل، حيث قالوا:

"إن هناك أموراً جاء بها الشرع وبيَّن أنها تنفع الميت بعد موته".

 

والرد على الطرف الأول: أن ما ينفع الميت بعد موته هذه من الأمور الغيبية والتي لا إعمال للعقل فيها بل مرجعها إلى الشرع، فهو الذي يبين لنا ما الذي يصل وينفع الميت، والذي لا يصل ولا ينفع الميت، حتى لا يصل الشطط بالبعض ـ كما هو حادث الآن ـ أنه يصلَّى عن المتوفَّى ويفعل أفعال ما أنزل الله بها من سلطان.

 

أما الرد على الطرف الثاني: ففي قوله تعالى: { وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (يس:54)

فإن هذه الآية تدل على أن المنفي هو عقوبة العبد بعمل غيره، فقد قال تعالى:

{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } (يس:54)

وأما قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39).

فلا يتعارض مع كون أن هناك أموراً تنفع الميت بعد موته، وذلك لسببين:-

الأول: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه كدعاء الملائكة واستغفارهم له كما في قوله تعالى:

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر:7)

وكذلك دعاء الأنبياء والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى:

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } (التوبة:103) ، وقوله سبحانه:

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ }  (التوبة:99)

وقوله U: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (محمد:19)

وكدعاء المصلين للميت ولمن زاروا قبره من المؤمنين.

الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه وهذا حق، فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعى نفسه وأما سعى غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به.

كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم.

وهو سبحانه بحكمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثبت أولئك مع تلك الأسباب فيرحم الجميع.

كما في الحديث الذي أخرجه مُسلم أن النبي r قال:

"ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة، إلا وكَّل الله به ملكاً، كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"

وكما ثبت أيضاً في صحيح مسلم أنه r قال:

"من صلَّى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تُدفن فله قيراطان، أصغرها مثل أُحُد".

فهو U قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له.

(مجموع الفتاوى: 7/498-500)

الحاصل أن هذا المذهب مردود:

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ كما في مقدمة صحيح مسلم " باب وصول الصدقة للميت":

وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن المارودي البصري الفقيه الشافعي في كتابه الحادي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب فهو مذهب باطل قطعاً، وخطؤه بين مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا التفات إليه ولا تعريج عليه. أهـ

وقال الشوكاني ـ رحمه الله ـ عند تفسير قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }:

المعنى: ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عملُ أحدٍ، وهذا العموم مخصص بمثل قوله سبحانه: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }(الطور:21)، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، ودعاء الأحياء للأموات... ونحو ذلك، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم. أهـ باختصار

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى:

رداً على من أخذ بظاهر قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة:-

أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.

 

ثانيها: أن النبي r يشفع لأهل الموقف يوم الحساب ثم لأهل الجنَّة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بعمل الغير.

 

ثالثها: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.

 

رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك انتفاع بعمل الغير.

 

خامسها: أن الله يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم.

 

سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنَّة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.

 

سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: " { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } (الكهف:82)

فانتفعا بصلاح أبيهما، وليس هو من سعيهما.

 

ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو عمل الغير.

 

تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير.

 

عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير.

 

حادي عشرها: أن المدين الذي أمتنع r من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب انتفع بصلاة النبي r وبردت جلدته بقضاء دينه وهو عمل الغير.

 

ثاني عشرها: أن النبي r قال لمن صلَّى وحده: "ألا رجل يتصدَّق على هذا؟"

فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.

 

ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير.

رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا تحلل منها سقطت عنه وهو من عمل الغير.

 

خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير.

 

سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يُرحم بهم، وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك، بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات وقد انتفع بعمل غيره.

سابع عشرها: في الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع الميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.

 

ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع عدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع البعض بالبعض.

 

تاسع عشرها: أن الله تعالى قال للنبي r: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال: 33)

وقال تعالى: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } (الفتح: 25)

وقال تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } (البقرة:251)

وقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير.

 

عشرونها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير، وغيره ممن يُمَوِّنه الرجل، فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له.

 

حادي وعشرونها: الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا سعي له.

ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ أهـ


س: اذكر الأمور التي يفعلها البعض ظناًً منهم أنها تنفع الميت،

وهي لا تنفعه؟

وضع المصحف عند رأس المحتضر.

وهذا لم يأتِ فيه نص من كتاب أو سنَّة، ولم يفعله سلف الأمة فعُلِم أنه من المحدثات، وهي بدعة لا ينتفع بها الميت.

قراءة سورة "يس" على المحتضر:

استنادا لحديث:" اقرءوا على موتاكم يس"  والمقصود بموتاكم: أي مَن حضرته الوفاة

وهذا حديث معلول مضطرب الإسناد مجهول السند.

القراءة عند رأس الميت بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمتها:

ورد بذلك حديث هو عند الطبراني في الكبير عن ابن عمر- رضي الله عنهما- مرفوعاً وفيه: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمتها "                                              "وهو حديث ضعيف جداً"

قال شيخ الإسـلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الاقتضـاء ومجموع الفتاوى (24/298، 303، 317) وفي الاختيارات العلمية صـ 53:

"القراءة على الميت بعد موته بدعة"

ذبح الخرفان عند خروج الجنازة تحت عتبة الباب أو ذبحها قبل النزول إلى القبر:

وهذا كله لا أصل له في دين الله بل هو بدعة مذمومة نهي عنها النبي r وقال:

" لا عقر في الإسلام" (أبو داود وأحمد بسند صحيح) و(صححه الألباني في صحيح الجامع:7535) و(الصحيحة:2436)

قال عبد الرزاق ـ رحمه الله ـ: كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقرة أو شاة.

وهذا مخالف للسنة من وجوه:

إن ذلك من فعل الجاهلية.

ما فيه من الرياء والسمعة والمباهاة والفخر.

ولو تصدق أهل الميت بذلك سراً؛ لكان ذلك أنفع للميت وأفضل.

قال شيخ الإسلام: وأما الذبح عند القبور فمنهيٌ عنه مطلقاً، قال أحمد في رواية المروزي:

قال النبي r: "لا عقر في الإسلام" كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزوراً ـ أي جملاً ـ على

قبره فنهي النبي r عن ذلك، وكره الإمام أحمد أكل لحمه، قال أصحابنا: في معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز... أو نحوه.

قول البعض عقب الصلاة على الميت بصوت مرتفع:

ما تشهدون فيه فيقول الحاضرون بصوت مرتفع كذلك: كان من الصالحين.

الوقوف على رأس الميت والدعاء له بعد الانتهاء من الصلاة عليه مباشرة.

وهذا ليس من هدي النبي r، بل كان هديه في مثل هذا الموطن أن يدعو للمتوفَّى في صلاة الجنازة، وبعد الانتهاء من دفنه.

7. وضع الميت قليلاً على شفير القبر قبل الدفن، وقراءة بعض سور القرآن:

وفي هذا أثر عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- ذكره ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الروح، ولكن هذا الأثر لا يصح كما بين ذلك الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في كتابه أحكام الجنائز صـ 222

8. تلقين الميت التلقين البدعي:

كقول بعضهم: " يا فلان إذا جاءك الملكان فسألاك من ربك؟ فقل: ربي الله... إلخ.

فالحديث الوارد فيها غير صحيح، وضعَّف هذا الحديث النووي، وكذلك الصنعاني في سبل السلام.

ـ والحديث الضعيف الوارد في تلقين الميت بعد دفنه حديث رواه الطبراني في المعجم الكبير كما يقول الهيثمي في مجمع الزوائد (5/117) رقم (4248): عن سعيد بن عبد الله الأودي قال:

"شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال: " إذا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله r أن نصنع بموتانا، ثم ليقل: "يا فلان بن فلانة!" فإنه يسمعه ولا يجيب. ثم يقول: "يا فلان بن فلانة"، فإنه سيستوي قاعداً، ثم يقول: "يا فلان بن فلانة"، فإنه يقول: أرشدنا ـ رحمك الله ـ ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ بنياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه، ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند مَن لقن حجته؟ فيكون الله حجيجه دونهما، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يُعرف أمه؟ قال: فينسبه إلى حواء "يا فلان بن حواء"

قال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم، وضعَّفه ابن الصلاح، والنووي، والعراقي، وابن حجر وقال في الدر المنثور (1/22): ضعيف، وفي كشف الخفاء (1/315): ضعيف.

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في زاد المعاد (1/523):

ولم يكن من هديه r أن يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمـامة مرفوعاً ـ وذكر ابن القيم الحديث، ثم قال: ـ فهذا لا يصح رفعه  (بل هو ضعيف). أهـ

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (3159):

الصحيح من قولي العلمـاء في التلقين بعد الموت: إنه غير مشروع، بل بدعة، وكل بدعة ضلالة

وما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن سعيد بن عبد الله الأودي، عن أبي أمامة t في تلقين الميت بعد دفنه، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: في إسناده جماعة لم أعرفهم.

وعلى هذا فلا يحتج به على جواز تلقين الميت، فهو بدعة مردودة بقول النبي r:

" مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". أهـ

 

وجاء في الفتوى رقم (7408):

أن التلقيـن بعد الدفن بدعة؛ لأن الرسول r لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا بقية الصحـابة

ـ رضي الله عنهم ـ، والأحاديث الواردة في ذلك غير صحيحة.

وإنما التلقين المشروع: هو تلقين المحتضر قبل موته كلمة التوحيد: " لا إله إلا الله"

لقول النبي r: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". أهـ                              (رواه مسلم)

 

وسئل الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ عن حكم التلقين بعد الدفن؟

فأجاب فضيلته: بدعة، وليس لها أصل، فلا يلقن بعد الموت، وقد ورد في ذلك أحاديث موضوعة ليس لها أصل، وإنما التلقين يكون قبل الموت. أهـ

 

ـ وقال الشيخ محمد صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في فتاوى "نور على الدرب":

تلقين الميت بعد دفنه لحديث أبي أمامة ـ وقد تنازع الناس في صحته ـ والصواب: أنه حديث ضعيف، لا تقوم به حجة، وأن تلقين الميت بعد دفنه بدعة؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي r ولا عن أصحابه في حديث يُركن إليه، وإنما ورد عن النبي r: "أنه إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأل". أهـ

 

ـ وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ـ رحمه الله ـ في كتابه "التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث" صـ 89:

القراءة عند القبر والتلقين: لا يصح فيها شيء عن النبي r، وهذا محرر عند شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وتلميذه ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في مواضع. أهـ

ـ وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي في شرح زاد المستقنع (فقه حنبلي) (15/85) وقد سُئل عن حكم التلقين على القبر فقال:

تلقين الميت بعد قبره فيه حديث أبي أمامة، وهذا الحديث ضعيف، وهو معارض لما هو أصح منه، فإن حديث البراء بن عازب ذكر المؤمن، ولا شك أن الله لا يظلم عبده، فإن المحسن سيجيب والمسيء لا يجيب، ولو لقَّنه مَن في الأرض جميعاً، فمَن مات على التوحيد والإيمان فإن الله هو الذي

يثبته، وهو الذي يلقنه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } (إبراهيم:27)، وثبت في تفسيرها كما جاء في حديث البراء قول المؤمن:

" ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد r" عند جوابه هذه الأجوبة الثلاثة فهذا من تثبيت الله؛

لأنه إذا رأى الملكين فَزِعَ، وهاله المطلع، في مكان لم يعهده، ولم يألفه، وهي أول ساعةٍ، وأول منظر يراه؛ فيكون من أشد الهول على العبد، وهي أول منازل الآخرة التي يفزع فيها العبد، فإن كان مؤمناً ثبت الله قلبه، وذلك على قدر ما فيه من الإيمان والخير، وإن كان على كمال من الإيمان وكمال من الصلاح، فإن الله U يثبته تثبيتاً كاملاً ولا يخذله، والله U يوفق عبده ولا يظلمه.

فلا داعي أن يُلقن الإنسان، فإن الله U سيلقنه حجته، ويبين له سبيل محجته، فإن الله تعالى لطيف

بأوليائه المؤمنين {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ{63}

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62 ـ 64)

ولذلك ما ثبت عن النبي r أنه لقَّن ميتاً، فيقتصر على الوارد (أي الذي ينفع الميت بعد موته) وهو السنة المحفوظة.

 

9. الأذان عند دفن الميت:

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن كما في الدرر السنية(5/142):

الأذان عند القبر بدعة منكرة وما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعله أحد ممن يقتدى به.

 


10. قــراءة الـفــاتــحــة:

كقول البعض: "الفاتحة على روح فلان"، أو الذهاب لقبره وقراءة الفاتحة.

وهذا على خلاف هدي النبي r، وإنما المأثور عنه عندما سألته عائشة ـ رضي الله عنها ـ ماذا تقول إذا زارت القبور، فعلَّمها r السلام عليهم والدعاء لهم، وكذلك أمر النبي r بالاستغفار والدعاء بالتثبيت للميت بعد دفنه مباشرة، ولم يأمر بقراءة الفاتحة لا عند زيارة القبور ولا بعد الدفن،

ولو كانت قراءة الفاتحة أو غيرها تنفع الميت لعلمنا إياها النبي r

وعلى هذا فقراءة الفاتحة على الميت عند موته أو بعد موته أو عند زيارته في القبر بدعة.

ـ قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار (8/268):

واعلم أن ما اشتهر وعمَّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى، لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف، فهو من البدع المخالفة. أهـ

 

11. قراءة القرآن عند القبور، وخصوصاً قراءة سورة يس، سواء عند الدفن أو بعده:

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في زاد المعاد (1/527):

ولم يكن من هديه r أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن، لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة.أهـ

بل كان من هديهr: "أنه إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأل"                                                        (أبو داود والحاكم)

فلم يثبت عنه أنه قرأ سورة على الميت بعد دفنه أو عند زيارته، بل الثابت عنه الاستغفار لهم والدعاء، ويدل على هذا ما أخرجه النسائي أن الحبيب النبي r كان إذا زار القبور قال:

" السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا ـ إن شاء الله ـ بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية"

وفي رواية الإمام مسلم أنه كان r إذا زار القبور يقول:

"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً.مؤجلون، وإنا ـ إن شاء الله ـ بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد ([1])"

ـ ويدل على ذلك أيضاً (أي عدم قراءة القرآن عند القبور)

ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة t قال:

"زار النبي r قبر أمِّه، فبكى الرسول r وأبكى مَن حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"

فالناظر في هذه النصوص يعلم أن قراءة القرآن عند القبور منهي عنه شرعاً؛ لأن النبي r لم يفعله، فضلاً عن سورة "يس" والتي لم يصح فيها حديث، فالسنة هي الترك، وهذا ما قرره أئمة المذاهب الأعلام.

 

مذهب الحنفية

قال الإمام ملا علي القارئ الحنفي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الفقه الكبير صـ 110: ثم القراءة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك, وأحمد ـ رحمهم الله ـ؛ لأنه مُحْدَث لم ترد به السنة.

 

مذهب المالكية:

قال الشيخ ابنُ أَبِي جَمرَةَ ـ رحمه الله ـ وهو من أئمة المالكية:

القراءة عند المقابر بدعة وليست بسنة

وقال الشيخ الدَّرْدِيرُ ـ رحمه الله ـ في كتابه الشرح الصغير:

يكره قراءة شيء من القرآن عند الموت، وبعده، وعلى القبور؛ لأنه ليس من عمل السلف، وإنما كان من شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ. أهـ

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم صـ 343"  قول الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أنه قال:

ما علمت أحداً يفعل ذلك. أهـ

وقال السبكي ـ رحمه الله ـ في كتابه الدين الخالص (8/99ـ102):

يكره تحريماً عند النعمان ومالك قراءة القرآن عند القبر؛ لأنه لم يصح فيها شيء عن النبي ، وليس من عمل السلف، بل كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة. أهـ

 


مذهب الحنابلة:

ذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: إلى أن القراءة على الميت بعد موته بدعة.

قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله عن القراءة على القبر؟ فقال: القراءة على القبر بدعة.

وقال أبو داود ـ رحمه الله ـ في مسائله صـ 158:

سمعت أحمد يُسأل عن القراءة عند القبور، فقال: لا.

وفي تاريخ الدوري (5414) قال: سألت أحمد بن حنبل ما يقرأ عند القبر؟

فقال: ما أحفظ فيه شيئاً، يعني: لا يحفظ شيئاً ثابتاً في هذا الباب.

تنبيه:

لا يصح ما يذكره بعض الحنـابلة عن الإمـام أحمد أنه رجع عن القول بالمنع إلى الجواز، واعتمدوا في قولهم هذا على ما رواه أبو بكر الخلال في "القراءة عند القبور" حيث قال:

أخبرني الحسن بن أحمد الورَّاق قـال: حدثنا علي بن موسى الحداد وكان صدوقاً، قال:

كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دُفِن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا... إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في مبشِّر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، قال: فأخبرني مبشِّر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دُفِن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة الكتاب وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال له أحمد: فارجع فقل للرجل يقرأ. أهـ

وذكر هذا الأثر ابن القيم في كتابه "الروح" وعزاه لأبي بكر الخلال.

قال الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز صـ 192:

في ثبوت هذه القصة عن أحمد نظر؛ لأن شيخ الخلال الحسن بن أحمد الورَّاق لم أجد له ترجمة فيما عندي الآن من كتب الرجال، وكذلك شيخه علي بن موسى الحداد لم أعرفه، ثم إن محمد بن قدامة ضعيف، وعبد الرحمن بن العلاء وأبيه مجهولان.

فكيف يحتج الإمام أحمد بن حنبل وهو الناقد البصير بالعلل والرواة بمثل هذا السند في إثبات حكم شرعي كهذا ؟! ثم إن الأثر عن ابن عمر لا يصح.

 

 


مذهب الشافعية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في اقتضاء الصراط المستقيم صـ 182:

ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة ـ قراءة القرآن عند الدفن ـ كلام، وذلك لأن كل ذلك عنده بدعة.

قال النووي ـ رحمه الله ـ وهو شافعي المذهب ـ كما في الأذكار صـ 203:

وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة والتمطيط وإخراج الكلام عن مواضعه فحرام بإجماع العلماء.أهـ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى (29/247):

من قال إن الميت ينتفع بسماع القرآن، ويؤجر على ذلك، فقد غلط؛ لأن النبي r قال:

" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع ولا غيره، وإن كان الميت يسمع قرع نعالهم، ويسمع سلام الذي يسلم عليه، ويسمع غير ذلك مما بينه الشرع. أهـ بتصرف

قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في شرح المنتقى:

ومما يدل دلالة واضحة على أن القرآن لا ينفع الموتى ولا يتلى على قبورهم، قول رسول الله r فيما رواه مسلم والبيهقي: " اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً"

ـ يعني: إذا لم تقرءوا سورة البقرة في بيوتكم صارت مثل القبور التي لا يُتلى فيها القرآن، فدل على أن القبور لا يُتلى فيها قرآن.

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي أن الحبيب النبي r قال:

"صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً"

فلو كان القرآن يُتلى لنفع الأموات ويقرأ على قبورهم ما قال النبي r الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم ـ: "اقرؤوا" و"صلوا في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً".

وإنما قال هذا لأن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن ولا للصلاة، ولهذا لم يرد حديث واحد بسند صحيح ولا ضعيف مقبول أنه r قرأ القرآن ولا شيئاً منه مرة واحدة في حياته كلها، مع كثرة زيارته للقبور وتعليمه للناس كيفية زيارتها.

فمن قال بمشروعية قراءة القرآن على القبور فقد اتَّهم النبي r بالخيانة، أي أن النبي r كان يعلم أن هذا الأمر مشروع ولم يبلغه لأمته، أو كان يجهل أنه مشروع فاهتدوا هم إليه، أو كان يعلم أن قراءة القرآن على القبر فيها رحمة للميت ثم قصَّر في بيان ذلك... وهذا كله محال في حق النبي r، وإذا كان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حق النبي r فكيف بالكتمان ؟!

فعُلِم بهذا أن قراءة القرآن على القبور سنة تركية، والسنة التركية هي الأمر الذي قام الدافع لفعله، ولم يُوجد مانعٌ يمنع من فعلهِ، ثم ترَكَه الرسول r ولم يفعله، فتَرْكه سنة، وفِعْله بدعة.

ومثال ذلك أيضاً: ترك الأذان والإقامة أو قول: "الصلاة جامعة" في صلاة العيدين، فعُلِم بذلك أن الترك هو السُّنَّة، والفعل بدعة.

 

كلام  علماء الأصول:

قال صاحب كتاب "طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول":

قراءة القرآن على القبور بزعم أن هذا يرحم الميت فهذا باطل.

لأن النبي r ترك فعل هذا الأمر وتركه الصحابة، مع قيام المقتضى لذلك الفعل، وهي رحمة الميت وعدم وجود المانع من ذلك.

فمقتضى ذلك يكون الترك هو السنة، والفعل هو البدعة.

وكيف يعقل أن يترك الرسول r شيئاً نافعاً لأمته يعود عليها بالرحمة، ويتركه الرسول r  طوال حياته ولا يقرؤه على ميت مرة واحدة. مع العلم أن هذا القرآن ما نزل للأموات إنما نزل للأحياء، نزل ليكون تبشيراً للمطيع وإنذاراً للعاصي، نزل ليهذب به نفوسنا، ونصلح به شئوننا.

قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في المجموع الثمين (1/105):

وقراءة القرآن على القبور بدعة، ولم ترد عن النبي r ولا عن الصحابة، فإنه لا ينبغي أن نبتدعها من عند أنفسنا.

وسئل عن استئجار قارئ ليقرأ القرآن على روح الميت؟

فأجاب ـ رحمه الله ـ: هذا من البدع، وليس فيه أجر للقارئ ولا للميت.


ومما يدل على أن قراءة القرآن لا تجوز شرعاً عند القبور:

ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة t أن النبي r قال:

" لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر[ ينفر] من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"

قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ كما في أحكام الجنائز صـ 242:

فقد أشار النبي r إلى أن القبور ليست موضعاً للقراءة شرعاً؛ فلذلك حضَّ على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عمن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها.

ثم قال الشيخ: "ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وغيرهم: كراهة قراءة القرآن في المقابر، وقال الشيخ: "إن البخاري في حديث: " صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً"

ترجم له بقوله: ـ باب كراهية الصلاة في المقابرـ، ثم قال الشيخ الألباني:

فكذلك حديث أبي هريرة t: ـ " لا تجعلوا بيوتكم مقابر...." المتقدم ـ يفيد كراهة قراءة القرآن في المقابر ولا فرق". أهـ

وقال أيضاً الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ كما في أحكام الجنائز صـ 242:

"وأما قراءة القرآن عند زيارة القبور فمما لا أصل له في السنة، بل الأحاديث المذكورة في المسألة تشعر بعدم مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة، لفعلها رسول الله r وعلمها أصحابه، لاسيما وقد سألته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي أحب الناس إليه r عما تقول إذا زارت القبور؟ فعلَّمها السلام والدعاء، ولم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن، فلو أن القراءة مشروعة لما كتم ذلك عنها"

وأما حديث: "من مرَّ بالمقابر فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات".

قال الذهبي في الميزان"، وابن حجر في " اللسان ":

هذا حديث باطل موضوع لا ينفك عن وضع عبد الله بن أحمد بن عامر (راوي الحديث) أو أبيه.


سئل الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ هذا السؤال وفيه:

روي عن علي t عن النبي r أنه قال: "من مرَّ على المقابر فقرأ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات" هل هذا الحديث صحيح؟

فأجاب فضيلة الشيخ: هذا الحديث لا أصل له عند أهل العلم، وهو من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي ليس لها سند صحيـح، وليس من السنة أن يقرأ عند القبـور ولا بين القبـور،

إنما السُّنَّة إذا زار القبور أن يقول:  "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أو " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا ـ إن شاء الله ـ بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منَّا والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية" ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة، هذا هو السُّنَّة، أما أن يقرأ عليهم القرآن فهذا لا أصل له. أهـ               (فتاوى نور على الدرب "1/277")

 

أما قراءة "يس" على المقابر:

فقد قال الألباني ـ رحمه الله ـ:

قراءة "يس" على المقابر بدعة، وحجة المتمسكين بهذه البدعة هو حديث:

"من دخل المقابر فقرأ سورة " يس" خفَّف الله عنهم، وكان لهم بعدد من فيها حسنات"

وهذا لا أصل له في شيء من كُتب السنة، والسيوطي لمَّا أورده في " شرح الصدور" صـ 130 لم يزد في تخريجه على قوله: (أخرجه عبد العزيز) صاحب الخلال بسنده عن أنس".

ثم وقفت على سنده، فإذا هو إسناد هالك كما حققته في الأحاديث الضعيفة (1291).أهـ

(أحكام الجنائز صـ 325)

ومن لطيف القول أن الله U يقول في سورة "يس":{لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} (يس:70) ولم يذكر في سورة "يس" ولا غيرها من السور أن من مهمات القرآن أن يُقْرأ على الأموات أو على قبورهم بعد موتهم.

وقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ كما في فتاوى إسلامية (1/52):

لا تشرع قراءة " يس " ولا غيرها على القبور بعد الدفن ولا غير الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي r لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون كل ذلك بدعة. أهـ


ورد هذا السؤال في مجموع فتـاوى ومقـالات متنوعة (9/319) لابن بـاز ـ رحمه الله ـ وفيه:

بعض الناس في قريتنا يقومون بإحضار مجموعة من المشايخ ممّن لهم دراية بقراءة القرآن فيقرءون القرآن بحجة أن هذا القرآن ينفع الميت ويرحمه، والبعض الآخر يستدعي شيخاً أو اثنين لقراءة القرآن على قبر هذا الميت، والبعض الآخر يقيمون محفلاً كبيراً يدعون فيه واحداً من القرَّاء المشاهير عبر مكبرات الصوت ليحيي الذكرى السنوية لوفاة عزيزه، فما حكم الدين في ذلك؟ وهل قراءة القرآن تنفع الميت على القبر أو غيره، وما هي الطريقة المثلى لمنفعة الميت؟ أفتونا جزاكم الله عنا خيراً، ولكم منَّا جزيل الشكر والامتنان.

فأجاب فضيلته: الحمد لله وبعد: هذا العمل بدعة لا يجوز، لقول النبي r:

" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (متفق على صحته)، وقوله  :r"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (أخرجه مسلم في صحيحه)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

ولم يكن من سنته r ولا من سنة خلفائه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ القراءة على القبور، أو الاحتفـال بالموتى وذكرى وفاتهم؛ والخير كله في اتِّباع الرسول r، وخلفـائه الراشدين، ومن سلك

سبيلهم، كما قال الله U: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }        (التوبة:100)

وقال النبي r:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"  (أحمد وأبو داود)، وصح عنه r أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة:

"أمَّا بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (مسلم)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وقد أوضح النبي r في الأحاديث الصحيحة ما ينفع المسلم بعد موته، فقال r:

" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (أخرجه مسلم في صحيحه)، وسأله r رجل فقال:

"يا رسول الله. هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟، قال: نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما"                                                   (أحمد وأبو داود)

والمراد بالعهد الوصية التي يوصي بها الميت، فمن بره إنفاذهما إذا كانت موافقة للشرع المُطهَّر. ومن بر الوالدين الصدقة عنهما، والدعاء لهما، والحج والعمرة عنهما، والله ولي التوفيق. أهـ


وقد وجه سؤال للجنة الدائمة، فتوى رقم(1540) وفيه:

س: ما حكم استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت أو على روحه؟

جـ: لا يجوز استئجار من يقرأ القرآن على قبر الميت أو على روحه، ويهب ثوابه للميت؛ لأنه لم يفعله النبي r ولا أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه أحد منهم فيما نعلم، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

أقـوال وردود:

أولاً: هنـاك مَن يُجيز قراءة القرآن عند القبور استناداً لبعض الآثار والأحاديث لكنها

لا تصح عن النبي r منها:-

أ ـ ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن علي بن أبي طالب t مرفوعاً:

"ما من مؤمن ولا مؤمنة يقرأ آية الكرسي ويجعل ثوابها لأهل القبور إلا لم يبق على وجه الأرض قبر إلا أدخل الله فيه نوراً، ووسّع قبره من المشرق إلى المغرب، وأعطاه الله بعدد كل ملك في السماوات عشر حسنات، وكتب الله للقارئ ثواب سبعين شهيداً"          "موضوع"

ب ـ وأخرج ابن عدي في الكامل وأبو نعيم الأصبهاني في "أخبار أصبهان" عن أبي بكر الصديقt  مرفوعاً:

"من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة فقرأ "يس" غُفر له"         "باطل لا يصح"

(ذكره ابن الجوزي في الموضوعات)

جـ ـ وأخرج الديلمي في مسند الفردوس والخلال في "القراءة على القبور" عن علي بن أبي طالب t مرفوعاً:

"من مرَّ بالمقابر فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات".                              "باطل موضوع" (كما مر بنا من كلام الألباني)

د ـ وأخرج الخلال أيضاً في "القراءة عند القبور" وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة في مصنفه عن شعبي ـ رحمه الله ـ قال:

" كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن" "باطل لا يصح"

هـ ـ وأخرج الخلال أيضاً في "القراءة عند القبور" عن النخعي أنه قال:

" لا بأس بقراءة القرآن في المقابر"         (ففي إسناده شريك بن عبد الله وهو ضعيف سيء الحفظ)


ثانياً: وهناك مَن يقول: إن صلاة الجنازة على القبور مشروعة مع أن فيها فاتحة الكتاب وهي من القرآن، فهذا دليل على مشروعية قراءة القرآن عند القبور.

والجواب عن هذا:

أن هناك فرقاً بين الصلاة وقراءة القرآن عند المقابر، فقراءة القرآن في صلاة الجنازة عند المقابر جاءت عرضاً ولم تكن مقصودة لذاتها، أما قراءة القرآن عند المقبرة فتكون بقصد القراءة عند القبر لـذاتها لا أنها جـاءت تـابعاً أو عرضاً، وقد جـاء في كتـاب " اقتضـاء الصـراط المستقـيم

مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ صـ 344 وفيه:

" ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر، ومع هذا فالفرق بين ما يُفْعل ضمناً وتبعاً، وما يُفْعَل لأجل القبر بَيِّن واضح". أهـ

 

ـ ثم إن الاستدلال بجواز صلاة الجنازة على القبر ـ على جواز القراءة عند القبور ـ استدلال بالقياس، وهو قياس مع الفارق، ولا حجة في قياس عَارَضَتْهُ أدلة واضحات.

 

ـ ونقول أيضاً: على فرض أن هذا دليل يشير إلى الجواز، فهناك أدلة تمنع، وفي هذه الحالة يقول علماء الأصول: تقدم أدلة الخطر على الإباحة.

 

ـ ونقول أيضا:ً أن ما ذهبتم إليه مفهوم وهو يتعارض مع المنطوق وهو قول النبي r:

"لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر[ ينفر] من البيت الذي تُقْرأ فيه سورة البقرة"

فترى في الحديث أن النبي r نهى أن تُجْعَل البيوت كالمقابر التي لا يُقرأ فيها القرآن.

فهنا ينبغي أن نُقدِّم المنطوق على المفهوم. والله أعلم.


12. الصلاة عن الميت أو الصوم عنه صوم الفريضة:

أما بالنسبة للصلاة فإنه ما عُلم في دين الله أن أحداً صلَّى عن أحدٍ.

قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

" وأجمعوا أنه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ". أهـ

لكن هناك مَن قال بجواز ذلك

استدلالاً بالحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث أبي أسيد الساعديt قال:

" بينا نحن عند رسول الله r إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله. هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟، قال: نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرام صديقهما".

فنقول بداية:  "الحديث ضعيف"                       (ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب:1482)

وعلى فرض صحته فمعنى الصلاة عليهما: أي الدعاء لهما، فالمقصد بالصلاة في هذا الحديث هو المعنى اللغوي وهو بمعنى الدعاء.

وقال الخطابي ـ رحمه الله ـ كما في معالم السنن شارحاً قول النبي r:

" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له "

فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة. أهـ

وهذا بخلاف الحج والعمرة وغيرهما مما جرت فيه النيابة، ودلّ عليه الشرع.

 

 

 

 


أما مسألة الصوم ففيها خلاف:-

فمن أهل العلم من قال: يُصام عن الميت النذر فقط.

ومنهم من قال: لا يُصام عنه الفريضة ولا النذر.

ومنهم من قال: يُصام عنه الفريضة والنذر.

ولا دليل على صيام الفريضة عن الميت، والحديث فيها لا يصح.

قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه " باب بيان أن الإسناد من الدين ":

قال محمد بن عبد الله بن قُهْزَاذَ من أهل مَرْوَ: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطَّالَقَانِيَّ قال: قلت لعبد الله بن المبارك:

يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: " أن من البر بعد البر، أن تصلِّي لأبويْكَ مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك"، فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قلت: هذا من حديث شهاب بن خِرَاشٍ، فقال: ثقة، عَمَّنْ؟ قلت عن الحجاج بن دينارٍ، قال: ثقة؟ عَمَّنْ؟، قلت: قال رسول الله r، قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي r مفاز تنقطع فيها أعناق المطِيِّ، ولكن ليس في الصدقةِ اختلاف".

ـ مفاز: انقطاع كثير.

فبيَّن عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ أن الحديث في ذلك ضعيف، أما الصدقة فلا خلاف في جوازها بين أهل العلم، وذلك للأخبار الصحيحة الواردة فيها.

 

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم (7482) وفيه:

س: هل يصح أن أصلي عدداً من الركعــات في أي وقت، ثم أهدي ثوابهـا إلى الميت،

وهل يصل ثوابها إليه أو لا؟

جـ: لا يجوز أن تهب ثواب ما صليت للميت، بل هو بدعة لأنه لم يثبت عن النبي r ولا عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وقد قال النبي r:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "                                                         (رواه البخاري ومسلم)

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 


وفي السؤال الثالث من الفتوى رقم (7777) من فتاوى اللجنة الدائمة، وفيه:

س: هل تجوز الصلاة المفروضة أو السُّنَّة عن أحد الوالدين إذا كان متوفى؟

جـ: لا تجوز صلاة أحد عن أحد مطلقاً، لا عن متوفى ولا غيره، ولا مفروضة ولا سنة، بل هي بدعة؛ لعدم ورود ذلك في الشرع المطهر، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"                                           (متفق علي صحته)

وفي لفظ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"                                   (أخرجه مسلم)

إلا ركعتي الطواف في حق من حج أو أعتمر عن غيره؛ لأنها تابعة لأعمال الحج والعمرة عن الغير وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 

13- إقامة سرادق بعد الوفاة، وفي أول خميس والأربعين والسنوية وفي المواسم:

وهذا كله لا ينفع الميت في شيء، وهو مخالف لهدي النبي r من وجوه:-

أ ـ مخالفة السنة من ترك الاستغفار المشروع والدعاء المسنون إلى ابتداع أعمال وأقوال لم ينزل الله U بها من سلطان.

ب ـ أن في ذلك إسرافاً وتبذيراً، وقد نهي الله U عن ذلك

فقال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }     (الأنعام:141)، (الأعراف:31)

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ }  (الإسراء:27)

وما كان بدعة أو حراماً فكيف يظن به أن ينفع الله به الميت.

فضلاً عن أن في هذا تجديداً للأحزان وتهيجاً للمواجع وربما ارتفعت الأصوات، وذرفت العيون عند كل خميس، وكل جلسة من هذه المجالس.

وقد مر بنا قول ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال كما في زاد المعاد:

ولم يكن من هديه r أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن، لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة.

ملحوظة:

الذكرى الأربعينية أو التأبين هي عادة فرعونية ثم انتشرت عنهم وسرت إلى غيرهم.

 


تحذير إلى من يُجَهِّزُون سرادقاً من الخيام بعد الدفن:

س: نسأل عن ظاهرة منتشرة في كثير من بلاد المسلمين، وهي: ما يقوم به أهل الميت من أعمال بعد الانتهاء من الدفن لميِّتهم، حيث يجهزون سرادقاً من الخيام أو أي شيء آخر، ويجتمع أهل الميت فيه بعد إضاءته في إحدى الساحات أو الشوارع، لاستقبال المعزين وتناول القهوة والشاي وغيرهما، بالإضافة إلى إحضار قارئ لقراءة القرآن بأجر، وإن لم يتيسر استخدموا جهاز تسجيل لسماع القرآن، وفي الليلة الثالثة يتم إقامة وليمة طعام للجميع، فما توجيه سماحتكم؟ وهل تجوز المشاركة فيها؟

جـ: إقامة العزاء بهذه الصورة بدعة لا يجوز فعلها، ولا المشاركة فيها.

لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلى t أنه قال:

" كنا نعد الاجتماع لأهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة."

وإنما السنة أن يصنع لأهل الميت طعام من أقاربهم وجيرانهم لما ثبت عن النبي r أنه قال لأهله لما جاء نعى جعفر بن أبي طالب t: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم".

نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه نجاتهم وسلامة دينهم ودنياهم إنه سميع قريب.

(فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز)

 

وقد وجه هذا السؤال لفضيلة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ وفيه:

س: ما حكم العادات في العزاء، من الولائم وقراءة القرآن والأربعينات والسنوات... وما شاكل ذلك؟

جـ: هذه العادات لا أصل لها في الشرع المطهر ولا أساس لها، بل هي من البدع ومن أمر الجاهلية، فإقامة وليمة إذا مات الميت يدعى إليها الجيران والأقارب وغيرهم لأجل العزاء بدعة لا تجوز، وهكذا إقامة هذه الأمور كل أسبوع أو على رأس السنة كلها من البدع الجاهلية، وإنما المشروع لأهل الميت الصبر والاحتساب، والقول كما قال الصابرون: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}

وقد وعدهم الله خيراً كثيراً، فقال سبحانه: { أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

(البقرة:156ـ157)

ولا حرج عليهم أن يصنعوا لأنفسهم الطعام العادي لأكلهم وحاجاتهم، وهكذا إذا نزل بهم ضيف لا حرج عليهم أن يصنعوا له طعاماً يناسبه؛ لعموم الأدلة في ذلك.

ويشرع لأقاربهم وجيرانهم أن يصنعوا لهم طعاماً يرسلونه إليهم؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله r أنه لما أتي نعى جعفر بن أبي طالب t حين قتل في مؤتة في الشام أنه قال لأهلهr:

" اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"            (أحمد والترمذي صحيح الجامع: 1015)

فدل ذلك على مشروعية إرسال الطعام إلى أهل الميت من أقاربهم أو غيرهم أيام المصيبة.

(فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز)

وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (2612) وفيه:

س: ما أصل الذكرى الأربعينية، وهل هناك دليل على مشروعية التأبين (الغلو في الثناء على الميت؟)

جـ : أولاً: الأصل فيها أنها عادة فرعونية، كانت لدى الفراعنة قبل الإسلام، ثم انتشرت عنهم وسرت في غيرهم، وهي بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام، يردها ما ثبت من قول النبي r: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".                                    "البخاري"

ثانياً: تأبين الميت ورثاؤه على الطريقة الموجودة اليوم من الاجتماع لذلك، والغلو في الثناء عليه لا يجوز

لما رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفي قال:

"نهي رسول الله r عن المراثي" ولما في ذكر أوصاف الميت من الفخر غالباً وتجديد للوعة وتهييج الحزن، وأما مجرد الثناء عليه عند ذكره، أو مرور جنازته، أو للتعرف به، يذكر أعماله الجليلة ونحو ذلك مما يشبه رثاء بعض الصحابة لقتلى أحد وغيرهم، فجائز

لما ثبت عن أنس بن مالك t قال:

"مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال r: " وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال:" وجبت "، فقال عمر t: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"

(أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي)

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 


14. وضع الجريد والصبَّار وباقة الورد على القبر:

ويستدلون بفعل النبي r والذي رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "أن النبي r مر على قبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أمَّا هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييْبسا".

جاء في رسالة منكرات المآتم والموالد لوزارة الأوقاف المصرية " قول الخطابي":

وأما غرسه شق العسيب على القبر وقوله: " لعلّه يخفف عنهما ما لم ييْبسا" فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي r ودعائه بالتخفيف عنهما. أهـ

قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ في تعليقه على الترمذي (1/103):

صدق الخطابي وقد ازداد العامة إصراراً على هذا العمل الذي لا أصل له وغلو فيه خصوصاً في بلاد مصر تقليداً لبعض النصارى، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور ويتهادونها بينهم، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحية لهم ومجاملة للأحياء، حتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية.

وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين، ولا سند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكروها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا. أهـ بتصرف.

وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح (1/425):

وقد استنكر الخطابي ومن تبعه وضع الناس الجريدة على القبر عملاً بهذا الحديث (الحديث السابق) وقال الطرطوشى ـ رحمه الله ـ: لأن ذلك خاص ببركة يده.

قال الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز:

إن وضع الجريد على القبر خاص بالنبي r وأن التخفيف ـ أي العذاب ـ كان بشفاعة النبي r وليس النداوة، ويدل على هذا أمور منها:-

أ) ما أخرجه مسلم عن جابر t أن النبي r قال:

" إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما مادام الغصنان رطبين" .

وهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته r ودعائه لا بسبب النداوة. ولأن كون النداوة سبباً لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يُعرف شرعاً ولا عقلاً، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذاباً إنما هم الكفار الذين يُدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجنان؛ لكثرة ما يُزرع فيها من النباتات والأشجار التي تُظل مخضرة صيفاً وشتاءً.

ب) وكذلك شق الجريد نصفين طولاً ما يجعل مدة التخفيف قليلة لسرعة التيبس، وهذا يؤكد على أن النداوة ليست السبب في رفع العذاب؛ لأنها لم كانت كذلك لأبقى النبي r الجريدة بدون شق؛ ولوضع على كل قبر عسيباً أو نصفه على الأقل.

 

جـ) إذا كانت النداوة مقصودة بالذات لَفَهِمَ السلف الصالح ذلك ولعملوا بمقتضاه، ولوضعوا الجريد والآس... ونحو ذلك على القبور عند زيارتها، ولو فعلوا لاشتهر ذلكم عنهم ونُقِل إلينا، ولكنه لم ينقل، إذاً لم يُفْعَل. أهـ بتصرف واختصار.

 

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة(3/327):

وضع الجريد والرياحين والزهور على القبر غير مشروع، وأما من يحتجون بحديث النبي r أنه مرَّ على قبرين يعذبان فوضع عليهما الجريد، فهذا خاص لم يفعله النبي r مع كل قبر، وكذلك لم يفعله أحد من الصحابة أو التابعين.  أهـ

 

وفي سؤال وجه لفضيلة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ وفيه:

س: بعد دفن الميت يقرأ بعض الناس من المصحف سورة "يس" عند القبر، ويضعون غرساً على القبر مثل الصبَّار، ويزرع سطح القبر بالشعير أو القمح بحجة أن الرسول r وضع ذلك على قبرين من أصحابه، ما حكم ذلك؟

جـ: لا تشرع قراءة سورة "يس" ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي r  لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون ن كما لا يشرع الأذان ولا الإقامة في القبر، بل كل ذلك بدعة، وقد صح عن رسول الله r أنه قال:

" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".                                            (البخاري ومسلم).

وهكذا لا يشرع غرس الشجر على القبور، لا الصبار ولا غيره، ولا زرعها بشعير أو حنطة أو غير ذلك؛ لأن النبي r لم يفعل ذلك في القبور ولا خلفاؤه الراشدون.

أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة فهذا خاص به r وبالقبرين؛ لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئاً من القربات لم يشرعه الله؛ للحديث المذكور، ولقول الله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }   (الشورى:21)                                               (فتاوى إسلامية:2/52)

 

وضع باقة من الزهور على قبر الجندي المجهول، الفتوى رقم (6166):

س: وضع باقة من الزهور على قبر الجندي المجهول هل ينطبق على ذلك ما ينطبق على عمل الذين عظموا أولياءهم وصالحيهم حتى عبدوا؟

جـ: هذا العمل بدعة وغلو في الأموات، وهو شبيه بعمل أولئك في صالحيهم، من جهة التعظيم واتخاذ شعار لهم، ويخشى منه أن يكون ذريعة على مر الأيام إلى بناء القباب عليهم، والتبرك بهم، واتخاذهم أولياء من دون الله، فيجب منع ذلك؛ سداً لذريعة الشرك.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

أقــوال وردود:

نقل السيوطى في شرح الصدور قول البعض:

فهذا خفف عنهما بتسبيح الجريدة فكيف بقراءة المؤمن القرآن ـ ثم قال: وهذا الحديث أصل في غرس الأشجار عند القبور.أهـ ، فذكر السيوطي أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، فإذا ذهبت النداوة من العود ويبس انقطع تسبيحه، وردَّ عليه الألباني ـ رحمه الله ـ كمـا في

أحكام الجنائز فقال: " وهذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى:

{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }  (الإسراء:44)، ويكفى كذلك في الرد عليه ما سبق بيانه، بجانب أن هذا الأمر لم يجر العمل به عند الصحابة والسلف الصالح ولو كان خيراً ما تركوه.

2) جاء في طبقات ابن سعد بسند صحيح وعلّقه البخاري (3/173) مجزوماً:

أن بريدة الأسلمي أوصى أن توضع في قبره جريدتان

قال الحافظ: وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصاً بهذين الرجلين، لكن قال ابن رشيد ـ رحمه الله ـ: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر

ـ رضي الله عنهما ـ: "إنما يظله عمله".

قال الألباني ـ رحمه الله ـ كما في أحكام الجنائز:

ولا شك أن ما ذهب إليه البخاري (أي أنّ وضع الجريد خاص بالرجلين) هو الصواب لما سبق بيانه، ورأي بريدة لا حجة فيه؛ لأنه رأي والحديث لا يدل عليه، حتى لو كان عاماً، فإن النبي r لم يضع الجريدة في القبر، بل وضعها عليه.

فتبيَّن مما سبق أن فعل بريدة لا تعويل عليه، ولا حجة فيه. أهـ

وقال الحافظ أيضاً في الفتح (1/425):

وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك فأوصى أن يوضع في قبره جريدتان.

أما ما وصى به بريدة فهذا اجتهاد منه والاجتهاد يخطئ.

فقال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ تعليقاً على الفتح (1/392):

الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي ـ رحمه الله ـ من استنكار الجريدة ونحوها على القبر؛ لأن رسول الله r لم يفعله إلا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعاً لفعله في كل القبور، وكبار الصحابة  ـ كالخلفاء ـ لم يفعلوه وهم أعلم بالسنة من بريدة ـ رضي الله عن الجميع ـ فتنبه. أهـ

وبهذا تعلم أن رأي بريدة لا حجة فيه، لأنه رأي والحديث لا يدل عليه، حتى لو كان عاماً فإن النبي r لم يضع الجريدة في القبر بل عليه وخير الهدى هدى النبي r.

ثم نحن نهمس في أذن كل من يضع الجريد على القبر ونقول له:

لماذا تضع الجريد على القبر؟ هل سبق إلى علمك أن صاحب هذا القبر يعذب فتضع الجريد والصبار حتى يخفف عنه العذاب.. أليس هذا تألي على الله، وسوء ظن بالميت والحكم عليه بأنه من المعذبين.

فما أحلى الرجوع إلى السنة حيث الدعاء وطلب الاستغفار للميت.

 

15. قراءة القرآن ووهب ثوابه للميت:

من المسلم به أن النبي r ما ترك خيراً إلا وقد عرفنا به، فلما لم يرشدنا إلى قراءة القرآن ووهب ثوابه للميت علمنا أن القراءة لا يستفيد بها الميت في شيء فالسنة هي الترك. وفي قوله تعالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

وهذه الآية عامة قد خصصت بأمور ذكرها الشرع والقراءة ليست منها، أما باقي العموم فإنه على عمومه (ومن المعروف أصولياً أن العام إذا خصصت بعض أفراده بقيت الأفراد الأخرى على عمومها ولو كانت فرداً واحداً)

قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره (4/258) في قوله تعالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39) أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل له من

الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ـ قال ـ ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي ـ رحمه الله ـ ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله r أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليـه بنص ولا إيمـاء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحـابة

ـ رضي الله عنهم ـ ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، وقال: فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما. أهـ

وليس مع الذين يجيزون وصول ثواب القراءة للموتى دليل إلا القياس على وصول ثواب الصدقات، وهذا القياس لا يصح، لأن هذه من الأمور الغيبية التي تحتاج إلى نص صريح يدل عليها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات العلمية صـ 54:

ولم يكن من عادة السف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجواً تطوعاً أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى موتى المسلمين فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل. أهـ

وسئل العز بن عبد السلام عن ثواب القراءة المهدي للميت هل يصل أم لا؟:

فأجاب بقوله: ثواب القراءة مقصور على القارئ ولا يصل إلى غيره، ثم قال: والعجب من الناس مَن يثبت ذلك بالمنامات، وليست المنامات من الحُجًج، وقال أيضاً كما في بغية المحتاج (3/64):

"لا يجوز أن يجعل ثواب القراءة للميت؛ لأنه تصرف في الثواب من غير إذن الشارع. أهـ

قال النووي ـ رحمه الله ـ في مقدمة شرح مسلم "باب وصول الصدقة عن الميت:

بعدما تكلم عن وصول ثواب الصدقة إلى الميت،  ثم قال: والمشهور من مذهبنا (وهو شافعي) أن قراءة القرآن لا يصل ثوابها إلى الميت. أهـ

ثم ردَّ النووي ـ رحمه الله ـ على من يقولون بوصول الثواب فقال:

وكل هذه المذاهب ضعيفة ودليلهم القياس.

وفي شرح المنهاج لابن النحوي:

لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور.

وقال الصنعاني في كتاب "سبل السلام" عند شرحه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-قال: " مرّ رسول الله r بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر "    (الترمذي بسند ضعيف)(ضعيف الجامع:3372).

قال: في الحديث دليل على أن الإنسان إذا دعا لأحد أو أستغفر يبدأ بالدعاء لنفسه والاستغفار لها،

وعليه وردت الأدعية القرآنية: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }  (الحشر:10)

{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (محمد:19)، وفيه أن هذه الأدعية ونحوها نافعة للميت بلا خلاف

وأما غيرها من قراءة القرآن له، فالشافعي يقول: لا يصل ذلك إليه". أهـ

وقال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في شرح المنتقي:

والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن.

وقال رشيد رضا ـ في تفسيره المنار (8/249) عن قوله تعالى:

{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الأنعام: 164)

ـ إن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة، ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ولو علموها لما أهملوا العمل بها." أهـ

وقال أيضاً في تفسيره (8/268): وإن حديث قراءة سورة "يس" على الموتى غير صحيح، وإن أريد به من حضرهم الموت وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال بذلك المحدث الدارقطني.

وأعلم أن ما أشتهر وعم البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية، ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة.

ثم قال: وخلاصة القول: إن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح.

ثم نقل رشيد رضا عن الحافظ ابن حجر أنه سئل عمن قرأ شيئاً من القرآن وقال في دعائه: "اللهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة في شرف سيدنا رسول الله r".

قال: فأجاب الحافظ بقوله: هذا مخترع من متأخري القُرَّاء، ولا أعرف لها سلفاً. أهـ

فهنا نقول: أن كثيراً من المُتَشَيِّخِين لم يفهموا معنى هذه الآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}(الحشر:7)

ولا معنى الحديث الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

وحديث: "وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".

(انظر رسالة حكم القراءة للأموات لمحمد أحمد عبد السلام صـ 23).

وقال ابن باز ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الدعوة (1/215):

عندما سئل عن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت، فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ:

هذا العمل وأمثاله لا أصل، ولم يحفظ عن النبي r ولا عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم كانوا يقرءون القرآن للموتى، بل قال النبي r:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(أخرجه مسلم)

أما الصدقة للموتى والدعاء لهم، فهو ينفعهم ويصل إليهم بإجماع المسلمين.

وبالله التوفيق والله المستعان.

 

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم: 22320 إجابة على هذا السؤال:

س:هل يصل ثواب قراءة القرآن وأنواع القربات إلى الميت ؟ سواء من أولاده أو من غيرهم؟

الإجابة: لم يثبت عن النبي r ـ فيما نعلم أنه قرأ القرآن ووهب ثوابه للأموات من أقربائه أو من غيرهم، ولو كان ثوابه يصل إليهم لحرص عليه وبينه لأمته لينفعوا به موتاهم، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالمؤمنين رءوف رحيم، وقد سار الخلفاء الراشدون من بعده وسائر أصحابه على هديه في ذلك ـ رضي الله عنهم ـ ولا نعلم أحداً منهم أهدى ثواب القرآن لغيره، والخير كل الخير في اتِّباع هديه r، وهدى خلفائه الراشدين وسائر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والشر في اتِّباع البدع

ومحدثات الأمور، لتحذير النبي r من ذلك بقوله: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، وقوله r: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

وعلى هذا لا تجوز قراءة القرآن للميت، ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة بل ذلك بدعة، أما أنواع القربات الأخرى فما دل دليل صحيح على وصول ثوابه إلى الميت وجب قبوله، كالصدقة عنه والدعاء له والحج عنه، وما لم يثبت فيه دليل غير مشروع حتى يقوم عليه الدليل.

وعلى هذا لا تجوز قراءة القرآن للميت ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة في أصح قولي العلماء، بل ذلك بدعة.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

أقــوال وردود

أولاً: قال ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في شرح العقيدة الطحاوية:

وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة، فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.

فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف، ولا أرشدهم إليه النبي r ؟

فالجواب: إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء

قيل له: وما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي؟ فإن قيل: فرسول الله r أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة ؟ قيل: هو r لم يبتدئهم بذلك، بل مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته؟ فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه؟ فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، بين وصول ثواب الصوم-الذي هو مجرد نية وإمساك- وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟.أهـ من كلام ابن أبي العز

والرد على هذا باختصار:

أن باب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء (كما قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ)، والأصوليون قالوا: الأصل في العبادات المنع حتى يرد دليل بالإذن، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل بالتحريم.

أما قول ابن أبي العز: ومن أين لنا هذا النفي العام؟

فمن عموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }   (النجم:39)، وهذه الآية عامة خصصت بما أذن

فيه الشرع أن نفعله لموتانا، وبيّن أنه يصل إليهم، وأما قوله: إن النبي r لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك من مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته؟ فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه؟ فأذن له فيه، فنقول: أولم تسأله عائشة ـ رضي الله عنها ـ ماذا تقول إذا زارت القبور؟ فلم يقل لها أن تقرأ سورة كذا، بل دلّها على السلام والاستغفار والدعاء للميت.

 

ثانياً: قال صاحب التحرير والتنوير (1/4205):

أنه ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: " كان رسول الله r يعوِّذ نفسه بالمعوذات، فلما ثقل به المرض كنت أنا أعوذ بهما وأضع يده على جسده رجاء بركتها"، فهل قراءة

المعوذتين إلا نيابة عن رسول الله r فيما كان يفعله بنفسه، فإذا صحّت النيابة في التعوذ والتبرك بالقرآن، فلماذا لا تصح في ثواب القراءة؟

والجواب عن هذا:

أن قراءة المعوذتين من باب الرقية المأذون بها شرعاً، وليست من باب النيابة عن المريض، والنيابة لا تصح إلا بما جاء به الشرع، وباب القربات لا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، بل يقتصر فيه على المنصوص، (كما مرّ بنا من كلام ابن كثير ـ رحمه الله ـ).

 


ثالثاً: نقل النووي ـ رحمه الله ـ كما في كتابه رياض الصالحين "باب الدعاء للميت بعد دفنه" عن الشافعي أنه قال:

" ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسناً. أهـ

والجواب على هذا:

أنه لم ينقل هذا عن الشافعي، وقد رد الألبـاني ـ رحمه الله ـ على الإمام النووي حيث قـال:

ولا أدري أن قال ذلك الشافعي ـ رحمه الله ـ وفي ثبوته عنه شك كبير، كيف لا؟ ومذهبه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، كما نقله عنه الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعـالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)، وقد أشـار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم ثبوت ذلك عن الإمام الشافعي بقوله في "الاقتضاء": لا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام؛ وهذا لأن ذلك كان عنده بدعة، وقال مالك: ما علمنا أحداً فعل ذلك، بل نفى النووي نفسه هذا عن الشافعي

فقال النووي ـ رحمه الله ـ كما في كتابه الأذكار (1/372): واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يصل. أهـ

 

رابعاً: نقل ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في كتابه المغني (2/569): الإجماع على وصول ثواب القراءة إلى الموتى:

الجواب: لا شك في بطلان هذا الإجماع، وكيف لا يكون باطلاً ؟ ومالك والشافعي وأكثر العلماء على خلافه.

وقد نبّه الألباني ـ رحمه الله ـ في حاشية الجنائز صـ 174 على بطلان هذا الإجماع.

وهناك بدعة منكرة خاصة بهذا الأمر:

وهو استئجـار من يقرأ القرآن للأموات، أو يجتمعون ثم يختمون القرآن وهو ما يعرف بالختمة، أو العتاقة (وهي قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}  ألف مرة وإيصال ثواب ذلك للميت) وسميت بذلك لأنهم يظنون أنها تعتق رقبة الميت من النار.

ومن البدع كذلك: عمل السُّبحَة (وهي عبارة عن التهليل "أي قول: لا إله إلا الله" ألف مرة من المعزين) ثم يهبون ثواب ذلك للميت، وهذا كله ليس له أصل.

 

أما بالنسبة لقراءة القرآن ووهب ثوابه للميت

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى(24/300-316):

استئجار الناس ليقرءوا ـ أي القرآن ـ ويهدوه إلى الميت ليس بمشروع ولا استحبه أحد من العلماء

وكذلك الاستئجار لنفس القراءة والإهداء فلا يصح ذلك أيضاً ولكن إذا تصدق عن الميت على من يقرأ القرآن وغيرهم ينفعه ذلك باتفاق المسلمين. أهـ باختصار

 

وقال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية:

وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخَّص فيه، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف.

وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير. أهـ

 

وقال تاج الشريعة (محمود بن عبيد الله بن محمود) "في شرح الهداية":

إن القراءة بالأجر لا يصل ثوابها، لا للميت، ولا للقارئ. أهـ

 

وقال الإمام العيني (وهو حنفي) شارح للبخاري:

ويمنع القارئ للدنيا، والآخذ والمعطي آثمان.

 

ويقول ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في الفتاوى الإسلامية (2/54):

اجتماع الناس في البيوت للقراءة على روح الميت لا أصل له، وما كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يفعلونه، وكذلك الاجتماع عند أهل الميت وقراءة القرآن ووضع الطعام ... وما شابه ذلك، فكلها من البدع.

 

وجاء في رسالة "منكرات المآتم والموالد" التي أصدرتها وزارة الأوقاف المصرية:

ومن هنا يتبين اتفاق الأئمة على أن ما عليه الناس اليوم ـ من استئجار القرَّاء للتلاوة ـ لا ينفع الموتى، فإن القرآن حياة للأحياء إن هم تذوقوه وفهموه، وعملوا بما علموه وأدركوه. أهـ


وقال العلامة أحمد بن حجر آل بوطامي ـ قاضي المحكمة الشرعية الأولى بدولة قطرـ في كتابه "تحذير المسلمين من الابتداع والبدع في الدين":

من بدع الجنائز: قراءة القرآن على القبر، أو في المجلس، أو في المسجد ثلاثة أيام أو سبعة أيام، وبعضهم يفعل ذلك كل أربعين يوماً، واستئجار القُرَّاء لهذه القراءة بدعة.

ومع أن إهداء ثواب القراءة فيه خلاف بين العلماء، ولم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف

أن النبي r أمَرَ أو فعل ذلك، أو فعل بعض أصحابه وأقرَّهم النبي r على ذلك، أو فعلته الصحابة أو التابعون أو الأئمة المهتدون.

كل ما في الأمر أن المتأخرين من أتباع المذاهب جعلوه من البدع المستحسنة، وقاسوه على الدعاء، إذ أن الدعاء يصل إلى الميت، وتعلقوا بشُبةٍ واهية، وأصَّلُوا لهم قاعدة جرى عليها خلف بعد سلف، أن للإنسان أن يهدي ثواب عبادته لغيره، وأخذوا يُفَرِّعُون عليها، ومن هذه القاعدة قالوا: لا بأس بإهداء ثواب القراءة للأموات، مع أن هذه قاعدة غير مضطردة، لا يؤيدها دليل من الكتاب والسُّنَّة، بل الواجب على الإنسان أن يكون متبعاً لا مبتدعاً.

وصارت قضية القراءة للأموات مأكلة للكسالى وللمنتسبين للقراءة والعلم، فتجد في بعض الأمصار يحيون الليالي بالاحتفالات، وبنصب السرادقات، وإحضار القُرَّاء والتغني بالقرآن، بكل ساعة لها أجرة يأخذها القارئ من أهل العزاء، فأصبح القرآن سلعة تباع، فلم يحترموا القرآن كما لم يحترموا السُّنَّة المطهرة، ولعبوا بعقول الناس وبعقائدهم، فأفسدوا عقائدهم، وأكلوا أموالهم، وأفقروا أولاد الميت، وربما ارتكبت الورثة الديون من جَرَّاء هذه الأعمال الشيطانية، وكل هذه الأعمال تُسْبَك في قالب محبة القرآن وإيصال النفع للميت، وأداء بعض الحقوق التي له، والله يعلم أن ذلك لا أصل له من الوحيين (القرآن والسُّنَّة). أهـ

وخلاصة الأمر ما قرره الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)، حيث قال: وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.


ووجه سؤال إلى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (4835) وفيه:

س: أرسل إلى فضيلتكم بعض الأسئلة المتعلقة بإيصال الثواب للميت، راجياً من سماحتكم إفادتنا بالجواب في ضوء القرآن والحديث عن طريق مجلة الدعوة السعودية؛ لتعم الفائدة لكل من يقرأ، ولكم جزيل الشكر عنا:

أ ـ هل يجوز إيصال الثواب للميت بالأعمال الحسنة عامة؟

ب ـ هل يجوز عقد مجلس لختم القرآن ثم إيصال ثواب القراءة للموتى حتى الأنبياء؟

جـ ـ هل يجوز الحضور في مثل هذا المجلس لهذا الغرض، وأكل الطعام معهم بعد الحفلة؟

وأنا في انتظار الجواب.

جـ: أولاً: الصحيح من أقوال العلماء: أن فعل القربات من حي لميت مسلم لا يجوز، إلا في حدود ما ورد الشرع بفعله، مثل: الدعاء له، والاستغفار، والحج، والعمرة، والصدقة عنه، والضحية([2])، وصوم الواجب عمَّن مات وعليه صوم واجب([3]).

ثانياً: قراءة القرآن بنية أن يكون ثوابها للميت لا تجوز؛ لأنها لم ترد عن المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والأمر كما قدمنا بالفقرة الأولى:

أنه لا يجوز فعل قربه من حي لميت مسلم، إلا في حدود ما ورد الشرع به، وثبت عن النبي r أنه كان يزور القبور، ويدعو للأموات بأدعية علمها أصحابه وتعلموها عنه، من ذلك:

"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"

ولم يثبت عنه r أنه قرأ سورة من القرآن أو آيات منه للأموات مع كثرة زيارته لقبورهم، ولو كان ذلك مشروعاً لفعله، وبينه لأصحابه؛ رغبة في الثواب، ورحمة بالأمة، وأداءً لواجب البلاغ،

فإنه كما وصفه تعالى بقوله:

{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة: 128)

فلما لم يفعل ذلك  مع وجود أسبابه دل على أنه غير مشروع، وقد عرف ذلك أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فاقتفوا أثره، واكتفوا بالعبرة والدعاء للأموات عند زيارتهم، ولم يثبت عنهم أنهم قرءوا قرآناً للأموات، فكانت القراءة لهم بدعة محدثة

وقد ثبت عنه r أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

ومما تقدم يعلم أنه لا يجوز عقد مجلس لختم القرآن للغرض المذكور.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)


كلمة للذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويتاجرون بالقرآن، ويقرءونه على الأموات

أقول لهم: اتقوا الله... ولا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وما تفعلونه بدعة منكرة

واحذروا... يا مَن أكرمكم الله بحفظ كتابه أن تكونوا من الذين يسألون ما عند الناس بالقرآن

فقد حذَّر النبي r من هذا الصنف، فقال كما عند الإمام أحمد والطبراني من حديث عمران بن حصين t:

"اقرءوا القرآن، وسلوا الله به، قبل أن يأتيَ قومٌ يقرءون القرآن فيسألون به الناس"

(صحيح الجامع:1169) (الصحيحة:259)

وفي مسند الإمـام أحمد أيضاً، وعند الطبراني في الكبير، والبيهقي بإسنـاد صحيح

عن عبد الرحمن بن شبل عن رسول الله r قال:

"اقـرءوا القرآن، واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به"                                              (صحيح الجامع:1168) (الصحيحة:260)

ـ لا تغلوا: من الغلو، وهو التشدُّد والمجاوزة في الحد.

ـ ولا تجفوا: أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته، وهو من الجفاء أي البعد عن الشيء.

 

فهؤلاء القُرَّاء يطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ومما يدل على ذلك:-

التغالي في الأجرة والاشتراط عليها، وكذلك يخرق قواعد التلاوة لإرضاء الحضور، وعدم إنكاره لشرب الدخان على الحضور من المعزين، وكيف يُتْلَى كلام رب العزة لقوم لا يحترمون ولا يوقِّرون كلام الله من القرآن الكريم.


وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة هذا السؤال:

س: ما حكم الإجارة على قراءة القرآن للموتى، سواءً على القبر أو ليلتي التعزية وغيرها، هل يصل ثواب القراءة بالأجرة إلى الميت، أم هي باطلة، وإذا كانت باطلة فهل يأثم القارئ الذي يأخذ الأجرة والمعطي له أيضاً؟

جـ: قراءة القرآن عبادة من العبادات البدنية المحضة، لا يجوز أخذ الأجرة على قراءته للميت، ولا يجوز دفعها لمن يقرأ، وليس فيها ثواب، والحالة هذه، ويأثم آخذ الأجرة ودافعها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:

" لا يصح الاستئجـار على القـراءة وإهداؤهـا إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحـد من الأئمة،

وقد قال العلماء:" إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت؟ ". أهـ

والأصل في ذلك: أن العبادات مبنية على الحظر، فلا تفعل عبادة إلا إذا دلَّ الدليل الشرعي على مشروعيتها، قال تعالى:

{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } (المائدة: 92)

وقال r:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "

وفي رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أي: مردود على صاحبه

وهذا العمل الذي سأل عنه السائل لا نعلم أنه فعله النبي أو أحد من أصحابه، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، والخير كله في اتِّباع ما جاء به الرسول، مع حسن القصد، قال تعالى:

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (لقمان: 22)

وقال  تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

(البقرة:112)

والشر كله بمخالفة ما جاء به رسول الله r وصرف القصد بالعمل لغير وجه الله.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)


_ حـِـوار هــادِئ _

فلو بعد سرد هذه الأدلة لم يقتنع من يقول بوصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت

ـ نقول لهم: هل قراءة القرآن على القبر طاعة أم معصية؟

فإذا كان الجواب: لا. طاعة طبعاً

ـ فنقول: هل عَلِمَها النبي r أم جهلها؟

فالجواب: عَلِمَها طبعاً.

ـ فنقول: أبلَّغها أم كتمها أم نسيها ؟ (طبعاً إنه لا يستطيع القائل أن يقول كتمها أو نسيها؛ لأن ذلك قول فيه كفر، وهنا لا يجد أي رد يقوله غير: بلَّغها طبعاً)

ـ فنقول: ائتني بهذا الدليل من القرآن أو السنة الصحيحة وأنا أول المتَّبعين لك.

ـ وهل سمعت أن النبي r قرأ القرآن على خديجة أو على حمزة أو على أولاده الذكور أو غير

ذلك؟

الجواب: لا.

ـ هل سمعت أن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذا ذُكر عندها النبي r تقول:

"اقرءوا له الفاتحة؟"

فالجواب: لا.

ـ فنقول: إذاً لماذا تفعل أنت ذلك؟ فلا يجد إجابة.

ـ نقول له: اعلم أن الكل يأخذ من قوله ويرد النبيr، ولم يُؤثر عن النبي r أنه فعل ذلك.

وهنا يُسلم المُخالف ويقول: نعم لكل ما جاء عن النبي r، ولا  لمَن خالفه.


س: ما هي الأمور التي تنفع الميت بعد موته؟

هناك بعض الأمور يصل ثوابها إلى الميت بعد موته منها أعمال تكون من كسبه ومنها أعمال تكون من كسب غيره، إلا أن الشرع يدل على أنها تصل إليه.

أولاً: ما ينفع الميت من كسب غيره:

الدعاء له بعد خروج الروح منه:

ودليل ذلك ما أخرجه الإمام  مسلم من حديث أم سلمة – رضي الله عنها – قالت:

"دخل رسول الله r على أبي سلمة وقد شَقَّ بصَرُهُ فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قُبض تَبِعَه البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يُؤَمِّنُون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين المقربين، واخلفه في عَقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونَوِّر له فيه"

قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

قول النبي r: " اللهم اغفر لأبي سلمة..." إلى آخره، فيه استحباب الدعاء للميت عند موته ولأهله وذريته، بأمور الآخرة والدنيا. أهـ

فعلى كل مسلم عاقل ألا يفوت هذه الفرصة بعد ما علم أن الملائكة يُؤمِّنُون على ما يقول، فلا ينسى أن يدعو للميت بالمغفرة والرحمة ودخول الجنة والبعد عن النيران، ويدعو لأهله بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقد حث النبي r على ذلك.

فقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r: "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يُؤَمِّنون على ما تقولون، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي r فقلت: يا رسول الله ، إن أبا سلمة قد مات، قال: قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة، قالت: فقلت فأعقبني الله خير لي منه محمداً r"


قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

فيه الندب إلى قول الخير حينئذٍ: من الدعاء والاستغفار له، وطلب اللطف به، والتخفيف عنه.. ونحوه وفيه حضور الملائكة حينئذٍ وتأمينهم. أهـ

وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ في المفهم:

ومن هذا استحب علماؤنا أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته؛ ليذكروه ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً، فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة، فينتفع بذلك الميت ومَن يُصاب به، ومَن يخلفه. أهـ

 

الصلاة عليه (صلاة الجنازة):

فقد أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ  أن النبي r قال:

"ما من ميت تصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائةً كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"

وفي رواية: " إلا غفر له "

قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ كما في المحلى (5/161):

"ونستحب أن يصلي على الميت مائة من المسلمين فصاعدا". أهـ

وأخرج النسائي عن ميمونة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي r  قال:

"ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه"

(صحيح الجامع: 5787)،(الصحيحة: 1263)

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس أن النبي r قال:

"ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه"                                              (صحيح الجامع: 5708)،(الصحيحة: 2267)

جاء في تحفة الأحوذي "باب ما جاء في الصلاة على الجنازة":

وفي هذه الأحاديث استحباب تكثير جماعة الجنازة ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز، وقد قيد ذلك بأمرين: الأول: أن يكونوا شافعين فيه أي: مخلصين له الدعاء، سائلين له المغفرة. الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم مَن يُشرك بالله شيئاً كما في حديث ابن عباس. أهـ

قال ابن القيم كما في زاد المعاد (1/505):

ومقصود الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت.

أ ـ ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك t قال:

صلَّى رسول الله على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُله، وأوسِّع مُدْخَلَهُ، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار".

ب – وفي السنن عن واثلة بن الأسقع t قال:

"صلى رسول الله r على رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلاناً بن فلانٍ في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم".

ـ وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة والتي جاءت تبيِّن أن النبي r كان يكثر من الدعاء للميت؛ لعلمه أن هذا ينفع الميت؛ لأنه لو لم يكن ينفعه الدعاء لكان هذا من باب اللغو، والنبي r منزه عن هذا.

ملاحظة:

يُسْتحب حضور القلب والإخلاص عند الدعاء للميت، حتى ينتفع الميت بالدعاء.

أ ـ وذلك للحديث الذي أخرجه أهل السنن عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:

" إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء"

ب ـ وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي هريرة t عن النبي r قال:

"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءُ من قلبٍ غافلٍ لاهٍ"

(الصحيحة: 564) (صحيح الجامع: 245)

الوقوف عند القبر بعد دفن الميت والدعاء والاستغفار له:

فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن عثمان بن عفان t قال:

" كان النبي r إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل."                                               (صحيح الجامع:8891)

قال ابن هبيرة ـ رحمه الله ـ كما جاء في الفقه على المذاهب الأربعة (1/233):

واتفقوا على أن الاستغفار للميت يصل إليه ثوابه.


الدعاء للميت عند زيارته في المقابر:

فقد أخرج الإمام مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت:

"كان رسول الله r كلما كان ليلتها من رسول الله r يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقـول: " السلام عليكم دار قـوم مؤمنين، وأتـاكم مـا توعدون غداً. مؤجلون، وإنا ـ إن شاء الله ـ بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد"

قال النووي ـ رحمه الله ـ:

وفي هذا الحديث دليل لاستحباب زيارة القبور والسلام على أهلها، والدعاء لهم، والترحم عليهم. أهـ

وفي صحيح  مسلم أيضاً أن النبي r  علَّم عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذا زارت القبور أن تقول: "السلام علي أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون"

قال النووي ـ رحمه الله ـ:

أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصل ثوابه إليهم.

قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ كما في نيل الأوطار(4/113):

والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحي القريب والبعيد بوصية وغيرها وعلى ذلك أحاديث كثيرة.

وقال الشيخ القاسمي ـ رحمه الله ـ:

إن من حقوق الأخوة والصحبة أن تدعو له في حياته ومماته بكل ما يحبه لنفسه ولأهله وكل متعلق به كما تدعو لنفسك.

ومما يصل إليه كذلك دعاء الصالحين من المسلمين له:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }  (الحشر: 10)

قال ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ شارح الطحاوية:

فأثنى الله عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء.

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في هذه الآية "كما في كتابه الروح صـ156":

فأثنى الله عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، وقد يمكن أن يقال: إنما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سنُّوا لهم الإيمان بسبقهم إليه، فلما اتبعوهم فيه كانوا كالمستنِّين في حصوله لهم، لكن قد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة. أهـ

بشرى لمن يدعو لغيره من المسلمين الأحياء منهم والأموات

فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي الدرداء أن النبي r قال:

" دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل"

وكذلك صلاة الجنازة فإن أغلبها دعاء واستغفار من المسلمين للميت.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى (24/312):

في قول النبي r الذي رواه مسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

ـ والولد: يشمل الذكر والأنثى.

ولم يقل أنه لم ينتفع بعمل غيره، فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله لكنه ينتفع به.

قال النووي ـ رحمه الله ـ في الحديث السابق:

وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت. أهـ

وقال النووي أيضاً كما في روضة الطالبين، وعمدة المفتين (5/185):

وأما الدعاء للميت والصدقة عنه فينفعانه بلا خلاف، ويستوي في الدعاء والصدقة، الوارث والأجنبي

وقال المناوي في فيض القدير (1/438):

وفائدة تقييده بالولد مع أن دعاء غيره ينفعه هو تحريض الولد على الدعاء للوالد.

فائدة: ومعنى كلام النبي r: "إذا مات الإنسان انقطع عمله" أي فائدة عمله وتجديد ثوابه.

قال الخطابي ـ رحمه الله ـ في المعالم:

فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجرى فيها النيابة، وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطى إن كان حج عنه بماله([4]). أهـ

فعلى الولد ألا ينسى الوالدين بالدعاء فيقول: ربى اغفر لوالدي وعافهما واعف عنهما وارحمهما كما ربياني صغيراً، اللهم ارفع درجتهما في المهديين وأفسح لهما في قبرهما ونور لهما فيه، اللهم بدل سيئاتهم حسنات، اللهم اجمعني بهما مع حبيبنا وحبيبك النبي r في جنتك ومستقر رحمتك واغفر لي تقصيري نحوهما وغير ذلك من الدعاء فربما يكون والديك في قبرهما في أمس الحاجة إلى دعوة منك، وأعلم أن حاجتهما إلى برك بهما بعد موتهما أشد من حاجتهما إلى برك بهما قبل موتهما.

وهنا سؤال: هل ينقطع بر الوالدين بعد موتهما؟

جـ: إن بر الوالدين لا ينقطع أبداً بموتهما

فقد أخرج أبو داود عن أبي أسيد مالك بن ربيعة أنه قال:

" كنا عند النبي r فقال رجل: يا رسول الله؟ هل بقي عليَّ من بر أبَوَيَّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: نعم. خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلها "

ـ وفي رواية: "وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما"

وأخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن دينار:

" أن رجلاً من الأعراب لقي عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ بطريق مكة فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله r يقول: إن أبر صلة الرجل أهل وُد أبيه " وفي رواية: " إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى"

وأخرج ابن حبان عن ابن بردة ـ رضي الله عنهما ـ قال:

قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر، فقال: أتدرى لم أتيتك؟

قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله r يقول: "من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده" وإنه كان بين أبي وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك.

(صحيح الجامع: 5960)

وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه وتلتحق به أصدقاء الأم والجد والمشايخ والزوج والزوجة.

وقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-:

" أن النبي r كان يذبح الشاة فيهدى إلى خلائل خديجة ـ رضي الله عنها ـ ما يسعهن"

ـ خلائل: أي صديقاتها.

وفي رواية: " وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة.

وهذا من حُسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب، والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب.


قضــاء الـدَّيْـن عـنه:

ومما ينفع الميت بعد موته قضاء الدَّيْن عنه، وقضاء الدين يكون قبل تقسيم التركة، وقبل تنفيذ الوصية (إذا أوصى بجزء من ماله لغير الورثة في حدود لا تزيد عن الثلث) وعلى أولياء الميت المسارعة لقضاء الدَّيْن لخطورة الأمر.

فقد أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال:

"نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يقضى عنه "                         (صحيح الجامع:6779)

ـ معلَّقة: أي محبوسة عن مقامها الكريم

وقال العراقي ـ رحمه الله ـ:

أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى ينظر هل يقضي ما عليه من الدَّيْن أم لا. أهـ

أخرج الإمام مسلم عن أبي قتادة t عن رسول الله r:

" أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله r. أرأيت إن قُتِلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله r: نعم. إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله r: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله r: نعم. وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبرٍ إلا الدَّيْن، فإن جبريل u قال لي ذلك".

وفي رواية مسلم: "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّيْن".

وأخرج ابن ماجة والبيهقي وأحمد بسند صحيح عن سعد بن الأطول t:

أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله. قال: فقال رسول الله r: إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فاقضي عنه. قال: فذهبت فقضينا عنه ثم جئت وقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليست لها بَيِّنةٌ، فقال: r أعطها فإنها محقة" ـ وفي رواية:"أعطها فإنها صادقة".

ـ محبوس بدينه: أي محبوس عن الجنَّة.

(الحديث ضعفه البعض وصححه الألباني في صحيح الجامع:1550)


وقضاء الدين بداية يكون من مال الميت.

فإن لم يكن عنده ما يقضي به الدين فيقضى عنه أحد أقاربه وهم أولى بذلك.

وأخرج أبو داود والنسائي من حديث سمره بن جندبt:

" أن النبي r صلى على جنازة، فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد فسكت القوم ـ وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا، فقال ذلك مراراً ثلاثاً فلم يجبه أحد، فقال رجل هو ذا فقام رجل ـ يجر إزاره من مؤخر الناس  فقال له النبي r: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني أما إني لم أنوه باسمك إلا لخير، إن فلاناً ـ لرجل منهم ـ مأسور بدينه عن الجنَّة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء".

 

فإن لم يوجد أحد من أقاربه يقضى عنه الدين جاز لأي أحد أن يقضي عنه.

وذلك للحديث الذي أخرجه الحاكم من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال:

"مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله r حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله r بالصلاة عليه، فجاء معنا فتخطى خطى، ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً، قالوا: نعم. ديناران، فتخلف ثم قال: صلوا على صاحبكم، فقال له رجل منا: يقال له أبو قتادة يا رسول الله r هما عليَّ،  فجعل رسول الله r يقول: هما عليك وفي مالك، والميت منهما برئ، فقال: نعم. فصلّى عليه، فجعل رسول الله r إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت الديناران ـ وفي رواية: ثم لقيه من الغد فقال: ـ ما صنعت الديناران، قال: يا رسول الله إنما مات أمس – حتى كان آخر ذلك

ـ وفي رواية: ثم لقيه من الغد ـ قال: قد قضيتُهما يا رسول الله، قال: الآن حين بَرَدَتْ عليه جلده"  أي بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاء دينه.            (صحيح الترغيب والترهيب:1812)

ولهذا ذهب البعض:إلى أن العذاب لا يرتفع عن المدين حتى يؤدى عنه دينه ليس بمجرد الحمالة عنه

بينما ذهب البعض: إلى أن المقصود بقول النبي r:" الآن حين بردت عليه جلده"   أي: استراح

وهذا يدل على أنه مازال قلقاً حتى يقضى الدين عنه، وأن الميت لا يؤاخذ بالدين لتحمل غيره عنه ودليل ذلك قول النبي r: " والميت منهما برئ" فلا يلزم من قول النبي r: "الآن بردت عليه جلده" وقوع العذاب.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتابه الروح صـ161:

وأجمع المسلمون على أن قضاء الدَّيْن يسقطه من ذمته ولو كان من أجنبي، أو من غير تركته، وقد دلَّ على ذلك حديث أبي قتادة  t.

فـائــدة:

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما يفيد أن مَن مات وعليه أقساط لم يحل وقت سدادها وتحملها عنه غيره، فإنه تبرأ بذلك ذمة الميت، ولا يلزم التعجيل في سدادها، بل تسدد في أوقاتها لأن المسلمين عند شروطهم.

 

وفي فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (13230) وفيها:

س: أفيدكم فيه أن والدي ـ رحمه الله ـ توفي منذ ثلاث سنوات، وقد قمنا بتسديد جميع ما عليه من مبالغ، ولم يبق إلا البنك العقاري، وقد تعهد أحد أولاده بتسديد جميع الأقساط المتبقية في وقت حلولها، والآن هو مستعد في تسديد الأقساط المستقبلة. والمطلوب:

هل تتعلق ذمة والدي بدين البنك العقاري، ونحن الآن نسدد كل قسط في وقته، أو يلزمنا تسديد جميع مبلغ البنك العقاري؟

يوجد لدينا مزرعة لوالدي لها مردود سنوي، مبلغ يزيد عن قيمة القسط السنوي، وفي حالة بيع المزرعة أو جزء منها سوف نقوم بتسديد جميع ما للبنك العقاري.

جـ: لا يلزمكم تعجيل التسديد ولا مانع من تأجيل ذلك إلى وقته، ولا يضر والدكم ذلك إن شاء الله؛ لأن المسلمين على شروطهم.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

 

فإن لم يكن له مال، ولم يوجد أحد من أقاربه يقضي عنه، ولم يتطوع من المسلمين أحدٌ لقضاء الدين، فعلى الدولة أن تسد عنه.

يقول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في كتابه أحكام الجنائز صـ 14:

فإن لم يكن له مال فعلى الدولة أن تؤدى عنه إن كان جهد في قضاءه.

ويستدل لذلك بالحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله r:

" من حمل من أمتي ديناً، ثم جهد في قضائه فمات ولم يقضه فأنا وليه".

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال:

كان يؤتى بالرجل عليه الدين فيسأل ـ رسول الله r ـ هل ترك لدينه فضلاً، فإن حدث أنه ترك وفاء صلَّى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته".

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم (11/60):

إنما يترك الصلاة عليه ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي r فلما فتح عليه عاد يصلى عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء. أهـ

فإن لم يكن له مال، ولم يوجد أحد من أقاربه يقضي عنه، ولم يتطوع أحد ولم تسد عنه الدولة، ففضل الله واسع فنرجو أن يشمله الله برحمته التي وسعت كل شيء.

وقد جاء في الحديث: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّ الله عنه".           "البخاري"

 

وفي فتاوى اللجنة الدائمة السؤال الأول من الفتوى رقم (2235) وفيه:

س: من مات وعليه دين لم يستطع أداءه لفترة هل تبقي روحه مرهونة معلقة؟

جـ: أخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجة عن أبي هريرة t عن رسول الله r أنه قال:

" نفس المؤمن مُعَلَّقة بدينه حتى يقضى عنه" وهذا محمول على من ترك مالاً يقضى منه ديْنه، أما مَنْ لا مال له يقضي منه فيرجى ألا يتناوله هذا الحديث؛ لقوله I:

{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}     (البقرة: 286)

وقوله سبحانه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة:280)

كما لا يتناول مَن بيَّت النية الحسنة بالأداء عند الاستدانة ومات ولم يتمكن من الأداء

لما روى البخاري ـ رحمه الله ـ عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال:

" من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله "

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)


قضاء ما عليه من نذر(نذر مالي أو صيام):

أولاً: بالنسبة للنذر المالي:

فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح حديث (6699):

وقد ذهب الجمهور إلى أن من مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص.

فقد أخرج البخاري من حديث عبد الله  بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:

"أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي r في نذر كان على أمه، فتوفيت أمه قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنةً بعد".

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث كما في فتح الباري (10/585):

ومعنى: " فكانت سنة بعد" أي صار قضاء الوارث ما على المورث طريقة شرعية أعم من أن يكون وجوباً أو ندباً، ولم أر هذه الزيادة في غير رواية شعيب عن الزهري وأظنها من كلام الزهري ويحتمل من شيخه. أهـ باختصار.

 

ثانياً: بالنسبة لنذر الصيام : ([5])

فقد اتفق أهل العلم على أن مَن مات وعليه صيام صام عنه وليه

وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله r قال:" من مات وعليه صيام صام عنه وليه"

لكن اختلف أهل العلم: هل يصوم عنه وليُّه مطلق الصيـام فرضاً كان أو نذراً،

أو يصوم عنه صيام النذر فقط.

فذهب فريق من أهل العلم: إلى أنه يُصام عنه النذر فقط.

وهو قول عائشة وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ وهو مذهب الإمام أحمد، وقول أبي عبيد والليث بن سعد والألباني ـ رحمة الله على الجميع ـ واستدلوا بما يلي:-

1. ما أخرجه(البخاري ومسلم) أبو داود والنسائي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-:

" أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنجاها أن تصوم شهراً، فأنجـاها الله U فلم تصم حتى مـاتت، فجـاءت قرابةٌ لها ـ إما أختها أو ابنتها ـ

إلى النبي r فذكرت ذلك له، فقال: أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟

قالت: نعم، قال: فديْن الله أحق أن يقضى، فاقضِ عن أمك"

وصرح أبو داود في سننه: بأن المقصود هو قضاء صيام النذر، فقال:"باب في قضاء النذر عن الميت

2. وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:

" إن سعد بن عبادة t استفتى رسول الله r: إن أمي ماتت وعليها نذر؟

فقال النبي r: اقضِهِ عنها".

3. وأخرج الإمام مسلم في كتاب الصيام ـ باب قضاء الصيام عن الميت ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:

جاءت امرأة إلى رسول الله r فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدى ذلك عنها، قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك.

فهذه الأحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الولي عن الميت صوم النذر،

قال أبو داود في "المسائل 96": سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يصام عن الميت إلا في النذر.

بينما ذهب فريق من أهل العلم: إلى أنه يُصام عن الميت أي صيام (فرض أو نذر)

وهذا أحد قولي الشافعية وأهل الظاهر وابن عثيمين ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ

واستدلوا بما يلي:-

1. ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله r قال:

" من مات وعليه صيام صام عنه وليه

وهذا الحديث على العموم لم يخص نذراً عن غيره.

2. وأخرج الإمام مسلم عن بريدة t قال:

"بينما أنا جالس عند رسول الله r ـ إذا أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. فقال النبي r وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت:

يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟، قال: صومي عنها،

قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها".

فالنبي r لم يستفصل منها عن الصيام الذي عليها هل هو صيام نذر أم فرض، فدل على العموم، وكما أذن لها في الحج وهو فرض، فكذلك الأمر في الصيام.

3. واستدلوا أيضاً بالحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما في الحديث " أن النبي r قال: "فدين الله أحق أن يُقْضى".

وهذا الحديث يشعر بعموم الحكم سواء كان الصوم نذر أو غير نذر.

لكن الفريق الأول رد على أدلة الفريق الثاني وقالوا:

أن الصيام في هذه الأحاديث عام يشمل الفرض وغيره كالنذر، ولكن المقصود منها صيام النذر

وذلك للأدلة التالية:-

1. ما أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار وابن حزم في المحلي:

"عن عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت(عائشة): لا. بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين".

2. وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال:

"إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاءٌ، وإن كان عليه نذر قضي عنه وليه"

وفي رواية النسائي في الكبري، والطحاوي في مشكل الآثار عنه:

" لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة "                                                      (قال الألباني: موقوف صحيح عن ابن عباس).

قال الألباني  ـ رحمه الله ـ كما في أحكام الجنائز صـ 170- 171:

فهاهما عائشة وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ راويا الحديث المتقدم، فهم أعلم بمراد الحديث، وأنه خاص بصوم النذر؛ لأن راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، وهذا التفصيل الذي ذهبت إليه أم المؤمنين وحبر الأمة ابن عباس وتابعهما إمام السنة أحمد بن حنبل هو الذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر، وهو أعدل الأقوال وأوسطها، وفيه إعمال لجميع الأحاديث دون رد لأي واحد منها مع الفهم الصحيح لها. أهـ باختصار وتصرف

لكن الفريق الثاني قالوا:

أن ما أفتى به ابن عباس وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ فالقاعدة في ذلك إذا أفتى الراوي بخلاف مروية فالعبرة بما روى لا بما رأي.

والراجح في هذه المسألة:

هو ما ذهب إليه الفريق الأول: أن من مات وعليه صيام نذر صام عنه وليه؛ لأن هذا فرض فرضه الإنسان على نفسه فيجب القضاء عنه وإبراء ذمته كالدين المالي، أما من مات وعليه صيام فرض ولم يقضيه لعذر فيطعم عنه كل يوم مسكين.


يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في إعلام الموقعين (3/554) في الحديث:

" من مات وعليه صيام صام عنه وليه"

فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه وقالت:

يصام عنه النذر والفرض، وهو قول أبي ثور، وأحد قولي الشافعي.

وأبت طائفة ذلك وقالت:

لا يُصام عنه نذر ولا فرض، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وأصحابه.

قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ:

ولم أسمع عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين ـ رضي الله عنهم ـ بالمدينة أن أحداً منهم أمر أحداً يصوم عن أحدٍ، وإنما يفعله كل أحد لنفسه.

(نقلاً من نصب الراية:2/334)

وفصَّلت طائفة فقالت:

يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي.

وهذا قول ابن عباس، وهو مذهب الإمام أحمد، وأبي عبيد، والليث بن سعد، وهو الصحيح.

لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يُصلي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُسْلِم أحدٌ عن أحدٍ فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيُقبل قضاء الولي له، كما يقضى دينه وهذا محض الفقه.

وَطَرْد هذا ـ أي شبيه هذا الحكم ـ أنه لا يحج عنه ولا يزكي عنه، إلا إذا كان معذوراً بالتأخير، كما يُطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر.

فأما المُفَرِّط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرَّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحاناً دون الولي فلا تنفع توبة أحدٍ عن أحدٍ، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات.أهـ

(انظر تهذيب السنن:3/279ـ282)


فـائـدة:

يجوز لغير أولياء الميت أن يصوموا عنه صيام النذر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى (24/309-310):

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي r قال:

" من مات وعليه صيام صام عنه وليه.

وفي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:

" أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صيام نذر، قال: أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدى ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك.

وفي الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:

أن امرأة جاءت إلى رسول الله r فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين قال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه ؟ قالت: نعم، قال: فحق الله أحق".

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه:

" أن امرأة أتت رسول الله r فقالت: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها؟ قال: نعم".

فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نذر وأنه شبه ذلك بقضاء الدين.

والدَّيْن يصح قضاؤه من كل أحد، فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد، ولا يختص ذلك بالولي. أهـ باختصار.


الــصَّــدقــة:

الصدقة عن الميت يصل ثوابها إليه وينتفع بها ومما يدل على ذلك:

1. ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:

"أن رجلاً قال للنبي r ـ إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها [ولم توصِ] وأظُنُّها [وأراها] لو تكلمت تصدَّقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها [أفأتصدق عنها؟] قال: نعم [تصدق عنها] [فَتَصَدَّقَ عنها] "

ـ افْتُلِتَتْ نفسها: أي ماتت فجأة.

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم (4/167):

وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها، وهو كذلك بإجماع العلماء. أهـ

2. وعند البخاري: "أن رجلاً قال لرسول الله r إن أمي ماتت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم".

3. وأخرج البخاري من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال:

إن سعد بن عبادة ـ أخا بني ساعدة ـ تُوفِّيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي  المخراف صدقة عليها".

ـ المِِخراف: أي بستاناً من نخل، والمِخراف: أي المثمر، سمي بذلك لما يخرف منه أي: يجنى من الثمر.

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

وفيه جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصـول ثواب الصدقة إليه، ولاسيما إن كان من الولد. أهـ

4. وفي صحيح مسلم ـ في كتاب الوصية باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت من حديث أبي هريرة t أنه قال:

"إن رجلاً قال للنبي r إن أبي مات وترك مالاً ولم يُوص، فهل يكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم".

وهذه الأحاديث مخصصة، لعموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

وأجمع المسلمون على أنه لا يجب على الوارث التصدق عن ميته صدقة التطوع، بل هي مستحبة وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب قضاؤها منها، سواء أوصى بها الميت أم لا؟ ويكون ذلك من رأس المال، سواء ديون الله تعالى: كالزكاة والحج والنذر والكفارة، وبدل الصوم... ونحو ذلك، أودين الآدمي، فإن لم يكن للميت تركه لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحب له ولغيره قضاؤه، وقوله: "فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟"

أي: هل تكفر صدقتي عنه سيئاته؟.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى(24/309):

والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية كالعتق، وإنما تنازعوا في العبادات البدنية: كالصلاة والصيام والقراءة.

وقال عبد الله بن المبارك كما جاء في مقدمة صحيح مسلم:

" ليس في الصدقة اختلاف".

قال النووي ـ رحمه الله ـ معلقاً:

أي: من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فإن الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين وهذا هو الصواب.

 

ومن فتاوى اللجنة الدائمة السؤال الثاني من الفتوى رقم (2634) وفيه:

س: هل صدقة الحي عن الميت ينتفع بها الميت؟

جـ: نعم ينتفع الميت بصدقة الحي عنه بإجماع أهل السنة والجماعة، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها: "أن رجلاً أتى النبي r، فقال: يا رسول الله إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها ولم توصِ، وأظُنُّها لو تكلَّمت تصدَّقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها قال: نعم." ولما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:

"أن سعد بن عبادة t تُوفِّيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي r فقال: يا رسول الله، إن أمي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال:" نعم " قال: إني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها".

إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة في الصدقة عن الميت وانتفاعه بها.

وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)

ومن أفضل الصدقات: سُقْيا المــاء

فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي عن سعد بن عبادة t:

"إن أمه ماتت، فقال لرسول الله r: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم.

قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال r: سقي الماء".                        (صحيح الترغيب والترهيب:962)

وفي رواية أخرى عن أحمد والنسائي:

"أن سعداً قال للنبي r: يا رسول الله إني كنت أبر أمي وأنها ماتت، فإن تصدقت عنها وأعتقت عنها ينفعها ذلك؟ قال r: نعم. قال سعد: فمرني بصدقة، قال r: اسْقِ الماء، فنصب سعد سِقايتين بالمدينة".

وفي رواية عند أبي داود، قال سعد بن عبادة t:

" قلت يا رسول الله، إن أمي ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد"

جاء في فيض القدير، عن الطيبي ـ رحمه الله ـ  أنه قال في شرح هذا الحديث:

"إنما كان أفضل الصدقة الماء؛ لأنه أعم نفعهاً في الأجور الدينية والدنيوية؛ ولذلك امتنَّ الله علينا بقوله:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}   (الفرقان 48 ـ49)

 

وانظر إلى عِظَم ثواب سقي الماء

فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة t عن النبي r قال:

" إن امرأة بغِيَّاً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقيها فغفر لها"

ـ البَغِيّ: الزانية

ـ يطيف: أي يدور

ـ أدلع لسانه: أي أخرجه لشدة العطش

ـ الموق: ما يُلبس فوق الخف.


وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t أن رسول الله r قال:

"بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خُفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً. فقال: في كل كبدِ رطبة أجر"

ـ يلهث: يخرج لسانه من شدة العطش والحر..

ـ الثرى: التراب الذي أصابه الندى.

ـ رقى: صعد.

ـ فشكر الله له: لأنه سبحانه هو الشكور، أي الذي يشكر اليسير من الطاعة؛ فيثيب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعمة.

المعنى كما قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لصحيح مسلم:

في الإحسان إلى كل حيوان حي يسقيه، ونحوه أجر، وسمي الحي ذا كبدِ رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده.

وقال ابن بطال ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

سقي الماء من أعظم القربـات إلى الله تعالى، وقد قال بعض التابعين: مَن كَثُرت ذنوبه، فعليه بسقي المـاء، وإذا غُفِرت ذنـوب الذي سقى الكلب، فما ظنكم بمَن سقى رجلاً مؤمناً موحِّداً، أو أحيـاه بذلك. أهـ

 

ولذا جعل الله I منع الماء من الكبائر:

فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:

" ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ـ فذكر منهم ـ رجل كان له فضل ماءِ بالطريق فمنعه من ابن السبيل" .

 

 

 

العتق والصدقة والحج:

فهي من جملة الأمور التي تصل إلى الميت بل هي من أفضل الأمور

كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الروح صـ 190:

وبالجملة: فأفضل ما يُهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه

فقد أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال:

"إن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبةٍ، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبةً، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسأل رسول الله r، فأتى النبي r فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً اعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون، أفَأَعْتِقُ عنه؟، فقال رسول الله r: إنه لو كان مُسلماً فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك".

ـ وفي رواية: فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك".

وقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في مقدمة صحيح مسلم:

الإجماع  على وصول الدعاء والصدقة والحج.

 

وأخرج الإمام مسلم عن بريدة t:

"أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم تحج أفيجزئ ـ أو يقضي أن أحج عنها؟ قال: نعم"

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:

"أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي r فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال النبي r: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دَيْنٌ أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"

ـ وفي رواية البخاري:" إن أختي نذرت أن تحج"


قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ كما في فتح الباري (4/65):

في قوله r " أرأيت لو كان على أمك دَيْنٌ " الحديث فيه مشروعية القياس وضرب المثل لكي يكون أوضح وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوماً عندهم مقرراً ولهذا حسن الإلحاق به، وفيه إجزاء الحج عن الميت.

وفي قوله: "أكنت قاضيته؟" فيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال، فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة... أو غير ذلك ". أهـ

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الأحاديث السابقة:

ففي هذه الأحاديث الصحيحة أنه أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً كما في مجموع الفتاوى (24/310):

وأما الحج فيجزئ عن عامة أهل العلم، ليس فيه إلا اختلاف بسيط ". أهـ

 

ويقول شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي ـ رحمه الله ـ:

إن محمد بن الحسن قال: إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة، والحج للحاج، لكن عند عامة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح.

(انظر كتاب الروح لابن القيم صـ183: فصل في جواب من فرق بين ثواب النفقة وبين ثواب الحج)

 

وقال العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ:

" ومن فعل طاعة لله ـ تعالى ـ ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39) فإن شرع في طاعة ناوياً أن يقع عن الميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج.


ونقل الحافظ ـ رحمه الله ـ عن ابن العربي أنه قال:

حديث الخثعمية (الآتي ذكره) أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعى، رفقاً من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص بأمور اتفاقاً.

أهـ بتصرف

تنبيه:

يجوز الحج عن الحي، فإنه يصل إليه ثوابه وينتفع به، ومما يدل على ذلك:-

ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:

" كان الفضل بن عباس رديف رسول الله r فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله r يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع".

وفي رواية مسلم: " إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره فقال: فحجى عنه.

قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

قال جمهور أهل العلم (أبو حنيفة وأحمد والشافعي وإسحاق وابن المبارك وغيرهم): يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أم لا، ويجزي عنه، ومذهب الشافعي وغيره أن ذلك واجب في تركته. أهـ


فوائد وتنبيهات:

من أراد أن يحج عن الغير وجب عليه أن يحج عن نفسه أولاً:

وذلك للحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان بسند صحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:"أنه r سمع رجلاً يقول: لبيك اللهم عن شبرمة، فقال له r: مَن شبرمة ؟ فقال: أخ لي أو قريب لي، فقال: هل حججت عن نفسك ؟ قال: لا. فقال r حج عن نفسك، ثم حِج عن شبرمة" ـ وفي لفظ للدارقطني: "هذه عنك وحج عن شبرمة".

(صححه الألباني في الإرواء)

يجوز الحج عن الغير في الحالات الآتية:

إذا مات وكان عليه حجة الإسلام، أو حج نذرٍ، فإنه يؤخذ من تركته قبل الإرث سواء أوصى الميت أم لم يوص، لقوله r: " اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"

ونستنيب من يحج عنه من هذا المال.

تنبيــه:

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ:

ويلتحق بالحج كل حق ثابت في ذمته: من كفارة، أو نذر، أو زكاة... أو غير ذلك، وفي قوله:

" فالله أحق بالوفاء" دليل على أنه مقدم على دين الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس، وقيل هما سواء". أهـ

والقول الأول هو الراجح لظاهر الحديث والله أعلم.

ويحج المرء عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين، وذلك لعموم قولهr:

" أقضوا الله فالله أحق بالوفاء"

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في تهذيب السنن(3/376):

ومرد هذا (الحج عن الغير) أنه لا يحج عنه ولا يزكى عنه إلا إذا كان معذور بالتأخير فلا ينفعه أداء غيره لفرائض الله التي فرط فيها حتى مات.


الــعُـمْــرة:

والعمرة يصل ثوابها لمن اعتمر عنه سواء كان ميت أو عاجز

فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة واحمد وغيرهم بسند صحيح عن أبي رزين العقيلي أنه قـال: " يا رسول الله أن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: أحجج عن أبيك واعتمر".

قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ في المغني:

يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين؛ لأن النبي r أمر أبا رزين فقال:

"حج عن أبيك واعتمر". أهـ

هذا وقد نقل المنذري عن الإمام أحمد أنه قال:

لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا أصح منه.

فوائد وتنبيهات:

مما سبق يتبين أن الميت ينتفع بعد موته من عمل غيره بالآتي:

أولاً: الدعاء له والاستغفار له.

ثـانياً: قضاء ولى الميت صوم النذر عنه وكذا الحج.

ثـالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص سواء كان ولياً أو غيره.

رابعـاً: الصدقة والنحر والعتق عنه.

خامساً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة.

فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله U يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }  (النجم:39)، والنبي r قال:

"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"

(أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدرامي وابن ماجة)

سادساً: ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية

لقوله تعالى: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }(يس: 12)

سابعاً: رد المظالم إلى أهلها نيابة عمن مات وطلب عفو الناس عنه وطلب الدعاء منهم للميت، فكل هذا يصل إليه وينفعه بمشيئة الله تعالى.


لابد من نية الفعل عن الميت:

قال ابن عقيل ـ رحمه الله ـ:

إذا فعل طاعة من صيام وصدقة ـ وأهداها بأن جعل ثوابها للميت المسلم فإنه يصل إليه ذلك وينفعه بشرط أن تتقدم نية الهدية على الطاعة وتقارنها وبهذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ

 

ثناء الناس على الميت ينفعه:

إن الله U إذا أحب عبداً فإنه يلقى على ألسنة المسلمين الثناء الحسن عليه وفي قلوبهم المحبة له،

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }( مريم:96)

وأخرج البخاري ومسلم أن النبي r قال:

" إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إن الله يحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".

فمن أطلق الله ألسنة الخلق فيه بالخير والثناء والحسن والذكر الجميل، غلب على الظن أنه من أهل الخير.

وذلك للحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك t قال:

" مُرَّ بجنازة فأثنى عليها خيراً، فقال نبي الله r وجبت وجبت وجبت، ومرّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال نبي الله r: وجبت وجبت وجبت، قال: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة، فأُثْنِيَ عليها خيراُ فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومُرَّ بجنازة فأُثْنِيَ عليها شراً، فقلت: وجبت وجبت وجبت، فقال رسول الله r: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في. الأرض أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض".

قال النووي ـ رحمه الله ـ كما في شرح مسلم (7/19):

إن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنَّة سواء كانت  أفعاله تقتضى ذلك أو لا، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تحتم عليه العقوبة، بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله U الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه I قد شاء له المغفرة، وبهذا تظهر فائدة الثناء.

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ كما في فتح الباري (3/265) تعليقاً على كلام النووي: وهذا في جانب الخير واضح.

ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس t عن النبي r قال:

"ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدْنَيَيْنِ أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم، وغفرت له ما لا تعلمون"

 

لكن هل كل من يثني على الميت يكون سبباً لوجوب الجنة؟ ومن هم شهداء الله في الأرض؟

يجيب عن هذا ابن حجر ـ رحمه الله ـ فيقول كما في فتح الباري (3/263):

المخاطبون بذلك: "أنتم شهداء الله في الأرض" هم الصحابة ومن كان على صفاتهم من الإيمان، وحكي ابن التين ـ رحمه الله ـ:

أن ذلك مخصوص بالصحـابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، قـال والصواب:

أن ذلك يختص بالثقات والمتقين، ثم نقل الحافظ عن الداودى قوله: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفقه، لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم.


ثانياً: مـا يـنـفـع المـيـت مـن كـسـبـه:

وهو كل عمل خلَّفه الميت من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية، مصداقاً لقوله تعالى:

{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }(يس:12)، ومن هذه الأعمال:-

1ـ الـغـرس والــزرع:

فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r:

" ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة" .

 

2ـ إذا سنَّ الميت سُنَّة حسنة أو دعا إلى هدى:

فقد أخرج الإمام مسلم من حديث جرير بن عبد الله t قال: قال رسول الله r:

"مَن سنَّ في الإسلام  سُنَّة حسنة فله أجرها، ومثل أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ  سُنَّة في الإسلام سيئةً، كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقُص من أوزارهم شيءٌ، ثم تلا هذه الآية:

{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ }(يس:12)"

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ كما في شرح مسلم (16/226):

هذا الحديث صريح في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو آداب... أو غير ذلك، وقوله: "من عمل بها بعده" معناه أنه سنها سواء كان العمل بها في حياته أو بعد موته والله أعلم.


3ـ الموت في سبيل الله مرابطاً:

فقد أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة t عن النبي r قال:

أربعة تجرى عليهم أجورهم بعد الموت: رجل مات مرابطاً في سبيل الله،

ورجل علَّم علماً فأجره يجرى عليه ما عُمل به، ورجل تصَدَّقَ بصدقة فأجرها يجرى له ما وجدت، ورجل ترك ولداً صالحاً يدعو له".                     (صحيح الجامع: 877 ، 890)

وأخرج الإمام مسلم من حديث سلمان الفارسي t أن النبي r قال:

" رباطُ يوم وليلة خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمِن الفَتَّان"

قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث:

هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحاً في غير مسلم أن النبي r قال:

" كل ميتٍ يُخْتم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه يُنَمَّى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر"       (حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي، وهو في صحيح الجامع: 4562)

قال المناوي في فيض القدير (1/471) في قول النبي r:

" ومن مات مرابطاً" أي إنسان مات حال كونه ملازماً ثغر العدو بقصد الذب عن المسلمين.

 

4ـ العلم النافع الذي نشره وأذاعه وعلى رأسه العلم الشرعي:

فقد مرّ بنا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة t عن النبي r قال:

" أربعة تجرى عليهم أجورهم بعد الموت... وذكر منهم ... ورجل علَّم علماً فأجره يجرى عليه ما عُمل به"

وعند ابن ماجة بلفظ:

"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره"

قال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ:

وبثَّه العلم عند مَن حمله عنه، أو إيداعه تأليفاً بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت. أهـ

أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال:

" إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"

قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم (11/87) قال العلماء:

معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. أهـ

وهذا الحديث أصل لصحة الوقف، وهو حبس المال وصرف منافعه في سبيل الله.

وقال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث السابق:

وفي الحديث بيان فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وأن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذا الصدقة وهو إجماع، وكذا قضاء الدَّيْن. أهـ

وقال المنذري ـ رحمه الله ـ كما في فيض القدير (1/547):

وناسخ العلم النافع له أجره وأجر مَن قرأه أو كتبه أو عمل به ما بقي خَطَّه، والعلم الشرعي الذي خلفه العالم من الصدقة الجارية، وصدق ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ حيث قال:

" كتاب العالم ولده المخلد"

وهنا تعلم عظم وقدر ما قدمه أبو هريرة t وغيره من الصحابة الكرام وكذلك الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم المعتبرين.

وهنا أيضاً تستشعر قول النبي r:

"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً".


5 ـ الـصـدقـة الـجــاريـة:

وذلك لقوله تعالى: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } (يس: 12)

قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره:

نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي تركوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

فقد أخرج ابن ماجة عن أبي قتادة t قال: قال رسول الله r:

" خير ما يُخلِّف الرجل من بعده ثلاثٌ: ولدٌ صالحٌ يدعو له, وصدقةٌ تجري يبلغه أجرها، وعلمٌ يُعمل به من بعده"

قال التاج السبكى ـ رحمه الله ـ في قول النبي r: " أو علم ينتفع به":

والتصنيف أقوى لطول بقائه على ممر الزمان.                                          (عون المعبود)

وعن ابن ماجة أيضاً وابن خزيمة والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:" إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علَّمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراهُ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"

(صحيح الجامع: 2227 ، 2231)

ـ مصحفاً ورَّثه: أي خلفه لوارثه ويظهر أن مثله كتب الحديث كالصحيح.   (فيض القدير 2/540)

 

وعندما سأل النبي r السيدة عائشة عن الشاة فقال لها: "ما بقى منها"

قالت: "ما بقي منها إلا كتفها " فيصحح لها النبي r هذا المفهوم ويقول لها:

"بقي كلها غير كتفها" أي: ما تصدقنا به هو الذي يبقى لنا، ونجني ثماره يوم القيامة.

وأخرج البزار بسند حسن عن أنس t قال: قال رسول الله r:

" سبع يُجرى للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بني مسجداً، أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته"

(صحيح الجامع: 3602)


ومن أفضل الصدقات الجارية: سُقْيا الماء كما مرّ بنا.

تنبيه:

يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:

قيل الأفضل (في الصدقة الجارية) ما كان أنفع في نفسه، والصدقة أفضل من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة المتصدق عليه وكانت دائمة ومستمرة، ومنه قول النبي r:

"أفضل الصدقة سُقيا الماء" هذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش، وإلا فسقى الماء على الأنهار والقني ـ جمع قناه ـ لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة والوقوف للدعاء على قبره " أهـ                                      (فقه السنة:1/397)

 

ومن الصدقات الجارية أيضاً: بناء المساجد:

وذلك للحديث الذي أخرجه ابن خزيمة وغيره وأصله في الصحيحين أن النبي r قال:

" من بنى بيتاً لله بنى الله له بيتاً في الجنَّة وإن كان كمفحص قطاة "

ـ مفحص القطاة: عُشّ الطائر.

وفي رواية لمسلم من حديث عثمان بن عوف t أن النبي r قال:

" مَن بنى مسجداً  لله بنى الله له في الجَنَّة مثله"

ويستحب أن تكون الصدقة في أصل المسجد أي في الأرض التي يبني عليها المسجد أو الأساسات، وإن كانت الصدقة في إعمار المسجد: من حيث الأبواب والأنوار والدهانات فأجرها عظيم لكنها دون الصدقة في أساس المسجد، لكون هذه تبقى ما بقي المسجد أو الأعمال الأخرى تبلى مع الزمان ويقف الأجر.

 

ومن الصدقات الجارية أيضاً: كفالة اليتيم

لقول الرسول r: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنَّة... ".

 

ومن الصدقات الجارية أيضاً:

بناء بيت لابن السبيل، ومساعدة الفقراء والمساكين، وإعانة طلاب العلم ونشر الكتب بين الناس، وبناء المستشفيات لعلاج المسلمين.


6ـ الـولــد الـصــالـح:

أ ـ أخرج الإمام مسلم من حديث أبى هريرة t أن النبي r قال:

" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"

وفي قول النبي r: " وولد صالح يدعو له" فقيد النبي r الحكم بصفة، أي: أن وصول الأجر من ولد صفته أنه صالح، وإذا انتفت الصفة انتفى الحكم.

يقول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز صـ 176 نقلاً من كتـاب "مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار":

قيد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره، وأما الوزرُ فلا يلحق بالوالد من سيئة ولده إذا كان نيته في تحصيل الخير، وإنما ذكر الدعاء له تحريضاً على الدعاء لأبيه؛ لا لأنه قيد؛ لأن الأجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملاً صالحاً، سواء أدعا لأبيه أم لا، كمن غرس شجرة يحصل له من  أكل ثمرتها ثواب، سواء أدعا له من أكلها أم لم يَدْعُ، وكذلك الأم. أهـ

 

ب ـ وأخرج ابن ماجة وابن حبان بسند صحيح عن أبي قتادة أن النبي r قال:

" خير ما يخلف الإنسان من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له وصدقة تجرى يبلغه أجرها وعلم يٌنتفع به من بعده"                                                                      (صحيح الجامع:3321)

 

جـ ـ فقد أخرج الطبراني بسند حسن عن سلمان أن النبي r قال:

" أربع من عمل الأحياء تجرى للأموات... وذكر منهم: "رجل ترك عقباً صالحاً يدعو له ينفعه دعاؤهم، ورجل علم علماً فيعمل به من بعده، له مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر من يعمل به شيء"                                                        (صحيح الجامع 901)

قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في أحكام الجنائز صـ 171:

ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله U يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39).


وقد جـاء في الحديـث الذي أخرجه أبـو داود والنسـائي والترمذي عن عـائشة

ـ رضي الله عنها ـ أن النبي r قال:

" إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"

(أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين)

وفي رواية:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم". أهـ بتصرف

وقال تعالى حاكياً عن أبي لهب: { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد: 2)

ـ وما كسب: قال أهل التفسير: يعني ولده.

 

فالولد من كسب وسعي أبيه، وقد وردت أحاديث تفيد أن الوالد ينتفع بعمل ولده الصالح: من دعـاء واستغفار وصدقة وصيام وعتق... وغير ذلك من أعمـال البر

ومن هذه الأحاديث:-

أ ـ  ما أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة t أن النبي r قال:

"إن الرجل لترفع درجته يوم القيامة" ـ وفي رواية: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنَّة" فيقول: يا رب أنَّى لي هذا ؟! فيقول ـ وفي رواية: فيقال: باستغفار ولدك لك"

قال الخطابي ـ رحمه الله ـ كما في فيض القدير (2/339):

دل هذا الحديث على أن الاستغفار يحط الذنوب ويرفع الدرجات، وعلى أنه يرفع درجة أصل المستغفر له إلى درجة لم يبلغها بعمله، فما بالك بالعامل المستغفر؟ ولو لم يكن في النكاح فضل إلا هذا (إنجاب الولد الصالح) لكفى.

 

ب ـ  وأخرج أبو داود وابن ماجة من حديث أبي أسيد مالك ابن ربيعة الساعدي قال:

" بينما نحن عند رسول الله r  إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله. هل بقي عليَّ من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما، قال: نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرام صديقهما".

ـ الصلاة عليهما: يعنى الدعاء لهما.


جـ ـ أخرج البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ:

"أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها ولم توصِ، وأظُنُّها لو تكلَّمت تصدَّقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم. فتصدق عنها"

ـ افْتُلِتَتْ: أي سُلبت، يعني: ماتت فجأة.

 

د ـ وأخرج البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال:

إن سعد بن عبادة ـ أخا بني ساعدة ـ تُوفِّيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي  المخراف صدقة عليها".

ـ المِخراف: المثمر، وسمي بذلك لما يخرف منه، أي: يجنى من الثمر.

 

هـ ـ وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة t أنه قال:

"إن رجلاً قال للنبي r إن أبي مات وترك مالاً ولم يُوص، فهل يكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم".

 

و ـ ومرّ بنا الحديث الـذي أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد عن عبد الله بن عمرو

ـ رضي الله عنهما ـ قال:

"إن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبةٍ، فأعتق ابنه هشام خمسين رقبةً، وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسأل رسول الله r، فأتى النبي r فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يُعْتق عنه مائة رقبة، وإن هشاماً اعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون، أفَأَعْتِقُ عنه؟، فقال رسول الله r: إنه لو كان مُسلماً فأعتقتم أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه بلغه ذلك".

ـ وفي رواية: فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك".

وهناك أحاديث كثيرة في طيَّات هذه الرسالة تفيد وتؤكد انتفاع الوالدين بعمل الولد الصالح.

 

إشكال والرد عليه:

هل الأعمال الصالحة والتي يقوم بها الولد وعلى رأسها الدعاء والتي ينتفع بها الوالدين بعد الموت تتنافي مع قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)

قال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }:

المعنى: ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ولا ينفع أحدٌ عمل أحدٍ، وهذا العموم مخصص بمثل قوله تعالى: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }(الطور:21) أهـ

أي: ألحقنا بهم عمل ذريتهم الصالحة فالولد الصالح في ميزان حسنات أبويه خاصة دعاءه لأبيه وصلاح الولد في ميزان أبيه سواء دعا أم لا.

فأي عمل يقوم به الولد يكون في ميزان أبيه.

ولا أدل على ذلك من الأحاديث السابقة

وكذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال:

" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"

وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى(24/312) في قوله تعالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى }    (النجم:39)، قال: هذا حق فإنه إنما يستحق سعيه فهو الذي يملكه ويستحقه كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو وأما سعى غيره فهو حق وملك لذلك الغير لا له لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره كما ينتفع الرجل بكسب غيره فمن صلى على جنازة فله قيراط، فيثاب المصلى على سعيه الذي هو صلاته، والميت أيضاً يرحم بصلاة الحي عليه

كما قال r:" ما من مسلم يموت فيصلِّي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة"

ـ ويروى: "أربعون" ـ ويروي: "ثلاثة صفوف"، ويشفعون فيه إلا شفعوا فيه"

أو قال:" إلا غُفِر له"


فالله تعالى يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحي لدعائه له وصدقته عنه، وصيامه عنه، وحجه عنه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال:

"ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكَّل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله"

فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه يثيب الله هذا ويرحم هذا.

ملاحظة:

في قول النبي r: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ..." ـ ومن المعلوم أن الكافر من جملة بني آدم، فهل ينتفع بعمل ابنه المسلم ؟

الجواب: لا. وعلى هذا ينسحب أيضاً الأب الفاسق العاص الذي يكره الخير ولا يحب سُنَّة النبي r بل هو في هجوم شرس عليها، ودائماً هو مغلاق للخير مفتاح للشر فهو أيضاً لا ينتفع بأعمال ابنه الصالح وبهذا القول قال ابن أبي جمرة وابن حجر والنووي واحمد بن حنبل، ومع هذا نجزم بأن فضل الله كبير ورحمته وسعت كل شيء ونرجو أن يشملهم الله برحمته طالما أنه مات على التوحيد ويكفي أنه أقام ابنه على الإسلام حتى صار من الصالحين.

ومما سبق يتبين لنا أن الميت ينتفع بعد موته بأمور من كسبه بيَّنها الحافظ السيوطي- رحمه الله- وساقها في أبيات شعر، فقال:

إذا مات ابن آدم ليس يجري

عـلـيه فِـعـال غير عَـشْرِ

عـلومٌ بـثَّها ودعـاءُ نجلٍ

وغرسُ النخل والصدقاتُ تجري

وراثةُ مُصْحفٍ وربـاطُ ثغرٍ

وحفـرُ البئر أو إِجْـراء نَهْـر

وبيتٌ للغريب بنـاه يـأْوِي

إليـه، أو بنـاءُ مـحـل ذِكْـر

وتـعليـمٌ لقـرآن كـريـم

فـخذهـا من أحـاديث بحصْر

(عون المعبود في شرح سنن أبي داود:8/87)

 

تنبيه:

مَن أراد أن يجمع هذه السلسلة (الجامع لأحكام الجنائز في سؤال وجواب) في كتاب ثم يطبعه وينشره فله ذلك، وهذا من الصدقة الجارية، والدال على الخير كفاعله.

تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وفي السر والعلن، وجمعنا الله وإياكم في الدنيا على فعل الخيرات وطاعة الرحمن، وفي الآخرة مع سيد الأنام وإمام المتقينr في جنَّة العالمين... آمين

وبعد...،

فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة

نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منَّا بقبولٍ حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي

وإن وجدت العيب فسد الخللا

جلّ من لا عيب فيه وعلا

فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك 



[1])) البقيع (بقيع الفرقد): مقبرة بالمدينة النبوية، بجوار المسجد النبوي من جهة الشرق، دُفِن بها نحو عشرة آلاف من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأزواج النبي r وبناته، وعدد من التابعين وأتباعهم، وقد تمت توسعة البقيع في عهد خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز آل سعود، فأصبح إجمالي مساحته (174962 م) وأحيطت بسور ارتفاعها (4م) وطولها (1726م) .

ومعنى البقيع: الموضع الذي تكون فيه أروم الشجر من أنواع شتى.

الفرقد: كبار العوسج، وهو نبات شائك من الفصيلة الباذنجانية، وأزهاره طويلة العنق، عبقة الريح، له ثمر مدوَّر كأنه العقيق ( وهو حجر كريم أحمر يعمل منه الفصوص)

[2])) لم يثبت عن النبي r أنه كان يُضحي عن الأموات استقلالاً، إنما كان يُضحي عنه وعن آل بيته، ويدخل ضمناً في أهل بيته مَن مات منهم.

[3]))وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، والراجح: أنه لا يُصام عنه من الصوم الواجب إلا صيام النذر.

[4])) لكن جمهور أهل العلم على أن ثواب الحج للمحجوج عنه، وهذا هو الراجح .

[5])) انظر أحكام الجنائز للألباني .


[1])) حسن رواه أحمد (26564)، والترمذي (998)، وأبو داود (3132)، وابن ماجة (1611)، صحيح الجامع (1015).

[2]))"صحيح" رواه ابن ماجة (1612)، صحيح ابن ماجة (1308) .

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق