الثلاثاء، 21 يونيو 2022

من كتاب الروح المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة. لابن القيم

 

 

من كتاب الروح مقدمة –اخر مسالة 3.

  المقدمة 

الحمد للّه المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع، من سكان أرضه وسماواته، فهو الذي عدل في الآخرة بين برياته [1]، قبض روح هذا بعد ما عمر الدنيا وزخرف البناء وتوطّنها، وليست لحي وطنا، وتبغي روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجة [2]، واتخذ صالح الأعمال فيها سفنا، فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين، هذه لها السعادة والهناء، وتلك لها الخيبة والشقاء والعناء [3]، هذه ترفع في رياض الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تعذب في نار الجحيم. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان.

و أشهد أن محمدا صلوات اللّه وسلامه، عبده ورسوله الطيب الروح و الجسد، سيد ولد آدم [4]، وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [4:122] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [17:85] وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلم تسليما كثيرا (و بعد)

فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفوائد القلائد [5] في كتاب سواه، ويشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل: الكتاب والسنّة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسأل مصنفه قدس اللّه روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردا عن خطبة وسؤال أصلا مبتدئا فيه بقوله:

(أما المسألة الأولى وهي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا) فأحببت بعد استخارة اللّه سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة.

لكونه كتابا في ضمن مسائلة التي تتأملها وتشاهدها كل درة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوي همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه. واللّه سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة، أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه إنه سميع عليم، إنه على كل شي ء قدير وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(قال) الشيخ الإمام العالم العامل ترجمان القرآن، ذو الفنون الحسان، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، أوحد الحفّاظ، فارس المعاني والألفاظ، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، عمدة المفسرين، بغية المجتهدين، شمس الدين أبو عبد اللّه محمد ابن الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبي بكر ابن الشيخ الكبير أيوب بن سعد الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي قدس اللّه تعالى روحه، ونور ضريحه، وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة ولسائر علماء الإسلام الجهابذة النقّاد الأعلام آمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وآله وصحبه أجمعين.

=========

المسألة الأولى (و هي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا)

قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.

و في الصحيحين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان ابن فلان، «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال له عمر: يا رسول اللّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال:

«و الذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا» [1]. و ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه [2].

و قد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين [3] وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل- ولو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

و السلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.

قال أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (حدثنا) محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد اللّه بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم» (حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه فسلم عليه، رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام (حدثنا محمد بن الحسين حدثني يحيى بن بسطام الأصغر حدثني مسمع حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قد مت. قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [4]، نتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟

قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت:

فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته (و حدثنا) محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد، حدثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبان فنقف على القبور فنسلّم عليهم وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صبرت هذا اليوم يوم الاثنين، قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها (حدثني) محمد حدثنا عبد العزيز بن إبان قال: حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته الأخيرة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.

(حدثنا) خالد بن خداش، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج [5] (قال وسمعت أبا التياح) يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة، حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة، قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما [يقولون؟ قالوا: يقولون]: [6] سلام سلام.

(حدثني) محمد بن الحسين حدثني يحي بن أبي بكير، حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء اللّه، ثم إني أتيته يوما، فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قام في قبره متوشحا أكفانه [7] عليه سحنة [8] الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال:

فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا.

(حدثني) محمد، حدثني يحي بن بسطام، حدثني عثمان بن سودة الطفاوي (و كانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة) قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخرتي وذخيرتي [9]، ومن عليه اعتمادي في حياتي و بعد موتي لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني [10] في قبري، فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها: يا أمي كيف أنت؟ قالت: أي بني أن للموت لكربة شديدة، وأني بحمد اللّه لفي برزخ [11] محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق [12] إلى يوم النشور [13] فقلت لها: أ لك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات:

(حدثني) محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس اللّه وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال: فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت: فإني أعود لذلك، قال: فما تركتها بعد [14]. (حدثني) محمد حدثني أحمد بن سهل حدثني رشد بن سعد عن رجل عن يزيد بن أبي حبيب أن سليم بن عمر مر على مقبرة وهو حاقن [15] قد غلبه البول، فقال له بعض أصحابه: لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها، فبكى ثم قال: سبحان اللّه، واللّه إني لأستحي من الأموات كما أستحي من الأحياء، ولو لا أن الميت يشعر بذلك لما استحيا منه.

(و أبلغ) من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه، قال عبد اللّه بن المبارك [16]: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: عظني؟

قال: بم أعظك أصلحك اللّه، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل [17] لحيته.

قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأموي، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة [18] فمات أبي، فأنبت وندمت على ما فرطت، قال: ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام فقال: أي بني ما كان أشد فرحي بك، أعمالك تعرض علينا فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات، فقال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر (و كان جار لي بالكوفة): أسألك إنابة لا رجعة فيها ولا حور [19]، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.

و هذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد اللّه بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد اللّه بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد اللّه.

و يكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولو لا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا، هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية» [20].

و هذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.

(قال) يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال:

فصليت ركعتين، ثم اتكأت عليه، فو اللّه إن قلبي ليقظان، إذ سمعت صوتا من القبر، إليك عني لا تؤذني فإنكم [اليوم] [21] تعلمون ولا تعملون، ونحن [اليوم] نعلم ولا نعمل ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.

(و قال) ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العجلي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم، حدثنا أبو قلابة قال:

أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلا، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني، قد آذيتني منذ الليلة ثم قال: إنكم تعلمون ولا تعملون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى اللّه أهل الدنيا خيرا، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورا مثال الجبال. (و حدثني) الحسين العجلي، حدثنا عبد اللّه بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، عن منصور بن زيد بن وهب قال: خرجت إلى الجبّانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسواه، ثم تحول إلي فجلس قال: فقلت لمن هذا القبر؟

قال: أخ لي، فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في اللّه رأيته فيما يرى النائم فقلت:

فلان عشت، الحمد للّه رب العالمين، قال: قد قلتها، لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: أ لم تر حيث كانوا يدفنونني، فإن فلانا قام فصلى ركعتين، لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها (حدثني) أبو بكر التيمي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثني الليث بن سعد (حدثني) حميد الطويل، عن مطرف بن عبد اللّه الحرشي قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخل يوم الجمعة لشهودها وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمت شهود هذه الجنازة فشهدتها، قال:

فاعتزلت ناحية قريبا من قبر، فركعت ركعتين خففتهما لم أرض إتقانهما ونعمت، فرأيت صاحب القبر يكلمني وقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما؟ قلت: قد كان ذلك، قال: تعلمون ولا تعملون ولا نستطيع أن نعمل، لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، فقلت: من هاهنا؟ فقال: كلهم مسلم، وكلهم قد أصاب خيرا، فقلت: من هاهنا أفضل؟ فأشار إلى قبر، فقلت في نفسي اللهم ربنا أخرجه إلي فأكلمه، قال: فخرج من قبره فتى شاب، فقلت: أنت أفضل من هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك، قلت: فبأي شي ء نلت ذلك، فو اللّه ما أرى لك ذلك السن فأقول نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل اللّه والعمل، قال قد ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها فبذلك فضلتهم.

تنبيه:

و هذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا اللّه قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شي ء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها. و قد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه (فروى) مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال:

حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت [22]، فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه، أما بشرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وإني كنت على أطباق ثلاث [23]، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مني ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل اللّه الإسلام في قلبي لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: فقال: «ما لك يا عمرو»؟ قال قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط ما ذا»؟ قلت: أن يغفر لي قال: «أ ما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنا [24]، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور [25]، ويقسم لحمها حتى استأنس بكم وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربي [26]. فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.

و قد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق: يروى أن عبد اللّه بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.

و قال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: (أخبرنا) العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل: بسم اللّه وعلى سنّة رسول اللّه، وسن عليّ التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ذلك (قال) عباس الدورمي: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئا؟ فقال:

لا، وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.

(قال الخلال) وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقا قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللّه ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟

قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن [أن] [27] يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ [28]. (و قال) الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس بها [29].

(و ذكر) الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها (تبارك) لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى اللّه أبا علي خيرا، فقد انتفعت بما قرأ.

(أخبرني) الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نضر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: أنت فلان ابن فلانة؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا أو نحو ذلك.

(و في النسائي) وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [30] وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه. ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه: (أحدها) أنه نظير قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» [31].

(الثاني) انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ۝26بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ۝27﴾ [36:26—27] فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء اللّه فيحب اللّه لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.

و قد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) وقضى.

(الثالث) أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤون «يس» عند المحتضر.

(الرابع) أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [32]، قراءتها عند القبر: لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.

(الخامس) إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت.

و قد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال: ذكر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام». ويروي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: «فإن لم يعرفه وسلّم عليه رد عليه السلام».

(قال) ويروى من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم».

و احتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللّه عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» [33]. وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول اللّه هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: «السلام عليكم أهل الديار [34] الحديث: قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له. (قال أبو محمد) ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي أدفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟

قلت له: يا أبت وأنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: أي واللّه يا بني، لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.

قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن بشار الكوفي قال: حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة.

و صح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وأنه لينظر إليهم.

و صح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.

=======

المسألة الثانية (و هي: أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا)

و هي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر، وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69] وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة.

(و روى) جرير عن منصور عن أبي ضحى بن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69].

(و قال الشعبي) جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «ما يبكيك يا فلان»؟ فقال: يا نبي اللّه واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأنا أذكرك وأنا وأهلي فيأخذني كذا حتى أراك، فذكرت موتك وموتي فعرفت أني لن أجامعك إلا في الدنيا وأنك ترفع في النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، فلم يرد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا فأنزل اللّه تعالى ﴿ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ﴾[4:69] إلى قوله ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾[4:70] وقال تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:27—30] أي ادخلي في جملتهم كوني معهم وهذا يقال للروح عند الموت.

(و في قصة الإسراء) من حديث عبد اللّه بن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا الحديث إلى عيسى، فقال عيسى: عهد اللّه فيما إليّ فيما دون وجبتها فذكر خروج الدجال، قال: فأهبط فأقتله، ويرجع الناس إلى بلادهم فتستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه، ولا يمرون بشي ء إلا أفسدوه، فيجأرون إلي فأدعو اللّه فيميتهم، فتجأر الأرض إلى اللّه من ريحهم، ويجأرون إليّ فأدعو ويرسل اللّه السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها في البحر، ثم ينسف الجبال ويمد الأرض مد الأديم، فعهد اللّه إليّ إذا كان كذلك، فإن الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا، ذكره الحاكم والبيهقي وغيرهما.

و هذا نص في تذاكر الأرواح العلم. و قد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم يستبشرون بنعمة من اللّه، وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه:

(أحدها) أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون.

(الثاني) أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.

(الثالث) أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون.

و قد تواترت المرائي بذلك، (فمنها) ما ذكره صالح بن بشير قال: رأيت عطاء السلمي في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك اللّه لقد كنت طويل الحزن في الدنيا، فقال: أما واللّه لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما، فقلت: في أي الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

(و قال) عبد اللّه بن المبارك: رأيت سفيان الثوري [1] في النوم فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ قال: لقيت محمدا وحزبه.

(و قال) صخر بن راشد: رأيت عبد اللّه بن المبارك [2] في النوم بعد موته فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قلت: فسفيان الثوري؟ قال: بخ بخ ذاك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن يقظة بنت راشد قالت: كان مروان المحملي لي جارا وكان قاضيا مجتهدا، قالت:

فمات فوجدت عليه وجدا شديدا قالت: فرأيته فيما يرى النائم قلت: أبا عبد اللّه ما صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى أصحاب اليمين، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى المقربين، قلت: فمن رأيت من إخوانكم؟ قال: رأيت الحسن وابن سيرين وميمون بن سياه، قال حماد: قال هشام بن حسان: فحدثتني أم عبد اللّه وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت:

رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دار حسنة ثم دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء اللّه، فإذا أنا فيه برجل متكئ على سرير من ذهب وحوله الوصفاء بأيديهم الأكاويب قالت: فإني لمتعجبة من حسن ما أرى إذ قيل هذا مروان المحملي أقبل، فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت: واستيقظت من منامي فإذا جنازة مروان قد مر بها على بابي تلك الساعة.

و قد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها.

(قال) ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيغ، أخبرني فضل بن سليمان النميري، حدثني يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور [3] وجدت عليه أم بشر وجدا شديدا فقالت: يا رسول اللّه إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رءوس الشجر» وكان لا يهلك هالك من بني سلمة، جاءته أم بشر فقالت: يا فلان عليك السلام، فيقول: وعليك، فتقول: اقرأ على بشر السلام.

(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: أهل القبور يتوكفون الأخبار، فإذا أتاهم الميت قالوا: ما فعل فلان؟

فيقول: صالح، ما فعل فلان؟ يقول: صالح، ما فعل فلان؟ فيقول: أ لم يأتكم أو ما قدم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا.

(و قال) صالح المري: بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليها: كيف كان مأواك وفي أي الجسدين كنت في طيب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء.

(و قال) عبيد بن عمير: إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما يستخبر الركب ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي ولم يأتهم، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية (و قال) سعيد بن المسيب: إذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب؛ (و قال) عبيد بن عميرة أيضا: لو أني آيس من لقاء من مات من أهلي لألفاني قدمت كمدا.

(و ذكر) معاوية بن يحيى عن عبد اللّه بن سلمة أن إبراهيم المسمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاه أهل الرحمة من عند اللّه كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد [4] فيسألونه: ما ذا فعل فلان؟ وما ذا فعلت فلانة؟ وهل تزوجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال: إنه قد مات قبلي، قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية.

و قد تقدم حديث يحيى بن بسطام، حدثني مسمع بن عاصم قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: وأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [5] فنتلقى أخباركم، قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات [6] بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.

=============

المسألة الثالثة (و هي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا)

شواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من يحصيها إلا اللّه تعالى، والحس والواقع من أعدل الشهود بها، فتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [39:42][1].

(قال) أبو عبد اللّه بن منده: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن حسين الحراني وحدثنا جدي أحمد بن شعيب حدثنا موسى بن أعين عن مطرف عن جعفر أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

و قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، حدثنا الحسين، حدثنا عامر، حدثنا إسباط عن السدي وفي قوله تعالى: والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها قال: يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران و يتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها، وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس. وهذا أحد القولين في الآية: وهو أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى.

و القول الثاني في الآية: إن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفى وفاة النوم، فمن استكملت أجلها أمسكها عنده، فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله، واختار شيخ الإسلام [2] هذا القول وقال: عليه يدل القرآن والسنّة قال: فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاة النوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا بإرسال بل هي قسم ثالث.

و الذي يترجح هو القول الأول، لأنه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين قسما قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها وفاة الموت، وقسما لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا، فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين وفاة موت ووفاة نوم لم يقل والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فإنها من حين قبضت ماتت وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42].

و لمن أبصر هذا القول أن يقول قوله تعالى ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42] بعد أن توفاها وفاة النوم فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين، فإنه سبحانه ذكر وفاتين، وفاة نوم ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك نفس كل ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله:

يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام.

و قد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته.

و أبلغ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيره، وقد ذكرنا قصة الصعب بن جثامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له، وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شماس وأخباره لمن رآه تدعه وما عليه من الدين.

و قصة صدقة بن سليمان الجعفري وأخبار ابنه له بما عمل من بعده، وقصة شبيب بن شيبة وقول أمه له بعد الموت: جزاك اللّه خيرا حيث لقنها لا إله إلا اللّه، وقصة الفضل بن الموفق مع ابنه وإخباره إياه بعلمه بزيارته.

و قال سعيد بن المسيب: التقى عبد اللّه بن سلام وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني فأخبرني ما لقيت من ربك، وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات فلان فلقيه في المنام فقال: توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط.

و قال العامر بن عبد المطلب: كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا عند قرب الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لو لا أن لقيت رؤوفا رحيما.

و لما حضرت شريح بن عابد الثمالي الوفاة دخل عليه غضيف بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال: يا أبا الحجاج إن قدرت على أن تأتينا بعد الموت فتخبرنا بما ترى فافعل قال: وكانت كلمة مقبولة في أهل الفقه قال: فمكث زمانا لا يراه ثم رآه في منامه فقال له: أ ليس قد مت؟ قال: بلى، قال: فكيف حالك؟ قال: تجاوز ربنا عنا الذنوب فلم يهلك منا إلا الأحراض، قلت: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشي ء.

و قال عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فدفع إلي تفاحات فأولتهن الولد، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟

فقال: الاستغفار أي بني.

و رأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين ليت شعري إلى أي الحالات صرت بعد الموت؟ قال: يا مسلمة هذا أوان فراغي، واللّه ما استرحت إلا الآن، قال: قلت: فأين أنت يا أمير المؤمنين؟

قال: مع أئمة الهدى في جنة عدن.

(قال) صالح البراد: رأيت زرارة بن أوفى [3] بعد موته فقلت: رحمك اللّه ما ذا قيل لك وما ذا قلت؟ فأعرض عني، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: تفضل علي بجوده وكرمه، قلت: فأبو العلاء بن يزيد أخو مطرف؟ قال: ذاك في الدرجات العلى، قلت: فأي الأعمال أبلغ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل.

(قال) مالك بن دينار: رأيت مسلم بن يسار [4] بعد موته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فقلت: ما يمنعك أن ترد السلام؟ قال: أنا ميت فكيف أرد عليك السلام، فقلت له: ما ذا لقيت بعد الموت؟ قال: لقيت واللّه أهوالا وزلازل عظاما شدادا، قال: قلت له: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم، قبل منا الحسنات، وعفا لنا عن السيئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خر مغشيا عليه، قال: فلبث بعد ذلك أياما مريضا، ثم انصدع قلبه فمات.

(و قال) سهيل أخو حزم: رأيت مالك بن دينار [5] بعد موته فقلت: يا أبا يحيى ليت شعري ما ذا قدمت به على اللّه؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة محاها عني، حسن الظن باللّه عز وجل.

(و لما مات) رجاء بن حياة [6] رأته امرأة عابدة فقالت: يا أبا المقدام إلى ما صرتم؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعة ظننا أن القيامة قد قامت، قالت:

قلت ومم ذلك؟ قال: دخل الجراح وأصحابه الجنة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها.

(و قال) جميل بن مرة: كان مورق العجلي [7] لي أخا وصديقا فقلت له ذات يوم: أينا مات قبل صاحبه فليأت صاحبه فليخبره بالذي صار إليه. قال: فمات مورق فرأت أهلي في منامها كأنه أتانا كما كان يأتي، فقرع الباب كما كان يقرع، قالت: فقمت ففتحت له كما كنت أفتح، وقلت: أدخل يا أبا المعتمر إلى باب أخيك، فقال: كيف أدخل وقد ذقت الموت، إنما جئت لأعلم جميلا بما صنع اللّه بي، أعلميه أنه جعلني في المقربين.

(و لما مات) محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزنا شديدا فرآه في المنام في حال حسنة فقال: يا أخي قد أراك في حال يسرني فما صنع الحسن؟

قال: رفع فوقي بسبعين درجة، قلت: ولم ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه؟ قال:

ذاك يطول حزنه.

(و قال) ابن عيينة: رأيت سفيان الثوري في النوم فقلت: أوصني، قال:

أقلل من معرفة الناس.

(و قال) عمار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح [8] في منامي فقلت: قد كنت متمنيا للقائك فما ذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر فإني لم أر مثل حسن الظن باللّه شيئا.

(و لما مات) ضيغم العابد [9] رآه بعض أصحابه في المنام فقال: أما صليت علي؟ قال: فذكرت علة كانت، فقال: أما لو كنت صليت علي ربحت رأسك.

(و لما ماتت) رابعة رأتها امرأة من أصحابها [10] وعليها حلة استبرق وخمار من سندس وكانت كفنت في جبة وخمار من صوف، فقالت لها: ما فعلت الجبة التي كفنتك فيها وخمار الصوف؟ قالت: واللّه أنه نزع عني وأبدلت به هذا الذي ترين علي، وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لي ثوابها يوم القيامة، قالت: فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا! فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة اللّه لأوليائه، فقلت لها: فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات سبقتنا واللّه إلى الدرجات العلى، قالت: قلت: وبم وقد كنت عند الناس أعبد منها! فقالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا أو أمست، فقلت: فما فعل أبو مالك (تعني ضيغما) فقالت: يزور اللّه تبارك وتعالى متى شاء، قالت: قلت: فما فعل بشر بن منصور! قالت: بخ بخ أعطى واللّه فوق ما كان يأمل. قالت: قلت: مريني بأمر أتقرب به إلى اللّه تعالى، قالت: عليك بكثرة ذكر اللّه فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.

(و لما مات) عبد العزيز بن سلمان العابد [11] رآه بعض أصحابه وعليه ثياب خضر، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ، فقال: كيف كنت بعدنا، وكيف وجدت طعم الموت، وكيف رأيت الأمر هناك! قال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه إلا أن رحمة اللّه وارث عنا كل عيب وما تلقانا إلا بفضله.

(و قال) صالح بن بشر [12]: لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي فقلت: يا أبا محمد أ لست في زمرة الموتى! قال: بلى، قلت: فما ذا صرت إليه بعد الموت! قال: صرت واللّه إلى خير كثير ورب غفور شكور، قال: قلت: أما واللّه لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا، فتبسم وقال: واللّه لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما، قلت: ففي أي الدرجات أنت! قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [13].

(و لما مات) عاصم الجحدري رآه بعض أهله في المنام فقال: أ ليس قد مت! قال: بلى، قال: فأين أنت! قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح.

(و رئي) الفضيل بن عياض [14] بعد موته فقال: لم أر للعبد خيرا من ربه.

(و كان مرة الهمداني) قد سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه وكأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري، فقال: ما هذا الأثر الذي أرى بوجهك؟ قال: كسى موضع السجود بأكل التراب له نورا، قال: قلت:

فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خير منزل، دار لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون.

(و قال) أبو يعقوب القارئ: رأيت في منامي رجلا آدما طوالا والناس يتبعونه، قلت: من هذا! قالوا: أويس القرني [15]، فاتبعته فقلت أوصني يرحمك اللّه، فكلح [16] في وجهي، فقلت: مسترشد فأرشدني رحمك اللّه، فأقبل علي فقال: ابتغ رحمة اللّه عند محبته؛ واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك، ثم ولى وتركني.

(و قال) ابن السماك: رأيت مسعرا [17] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: مجالس الذكر (و قال الأجلح) رأيت سلمة بن كهيل [18] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: قيام الليل.

(و قال) أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته فقلت: ما فعلت يا وفاء! قال: نجوت بعد كل جهد، قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل، قال:

البكاء من خشية اللّه عز وجل.

(و قال) الليث بن سعد عن موسى بن وردان [19] أنه رأى عبد اللّه بن أبي حبيبة بعد موته فقال: عرضت علي حسناتي وسيئاتي، فرأيت في حسناتي حبات رمان التقطتهن فأكلتهن، ورأيت في سيئاتي خيطي حرير كانا في قلنسوتي.

(و قال) سعيد بن داود: حدثني ابن داود أخي جويرية بن أسماء [20] قال: كنا بعبادان، فقدم علينا شاب من أهل الكوفة متعبد، فمات بها في يوم شديد الحر، فقلت: نبرد ثم نأخذ في جهازه فنمت، فرأيت كأني في المقابر، فإذا بقية جوهر تتلألأ حسنا وأنا أنظر إليها، فأشرفت منها جارية ما رأيت مثل حسنها، فأقبلت علي فقالت: باللّه لا تحبسه عنا إلى الظهر، قال: فانتبهت فزعا وأخذت في جهازه وحفرت له قبرا في الموضع الذي رأيت فيه القبة فدفنته فيه.

و قال عبد الملك بن عتاب الليثي: رأيت عامر بن عبد قيس [21] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: ما أريد به وجه اللّه عز وجل. و قال يزيد بن هارون: رأيت أبا العلاء أيوب بن أبي مسكين [22] في المنام فقلت: ما فعل بك ربك! قال: غفر لي، قلت: بما ذا! قال: بالصوم والصلاة، قلت: أ رأيت منصور بن زاذان؟ قال: هيهات ذاك ترى قصره من بعيد.

و قال يزيد بن نعامة: هلكت جارية في طاعون الجارف، فلقيها أبوها بعد موتها فقال لها: يا بنية أخبريني عن الآخرة، قالت: يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل، وتعلمون ولا تعملون، واللّه لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة عملي أحب إلي من الدنيا وما فيها.

و قال كثير بن مرة: رأيت في منامي كأني دخلت درجة علياء في الجنة، فجعلت أطوف بها وأتعب منها، فإذا أنا بنساء من نساء المسجد في ناحية منها، فذهب حتى سلمت عليهم ثم قلت: بما بلغتن هذه الدرجة؟ قلن:

سجدات وتكبيرات.

و قال مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز عن فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: انتبه عمر بن عبد العزيز ليلة فقال: لقد رأيت رؤيا معجبة! قالت: فقلت: جعلت فداك فأخبرني بها؟ فقال: ما كنت لأخبرك بها حتى أصبح، فلما طلع الفجر خرج فصلى ثم عاد إلى مجلسه، قالت: فاغتنمت خلوته فقلت: أخبرني بالرؤيا التي رأيت؟ قال: رأيت كأني رفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر، وإذا فيها قصر أبيض كأنه الفضة، وإذا خارج قد خرج من ذلك القصر فهتف بأعلى صوته يقول: أين محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، إذا أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى دخل القصر، قال: ثم إن آخر خرج من ذلك القصر فنادى: أين أبو بكر الصديق أين ابن أبي قحافة؟ إذا أقبل أبو بكر حتى دخل تلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عمر بن الخطاب، فأقبل عمر حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عثمان بن عفان؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين علي بن أبي طالب، فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم إن آخر خرج فنادى: أين عمر بن عبد العزيز؟ قال: قال عمر: فقمت حتى دخلت ذلك القصر، قال: فدفعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والقوم حوله، فقلت بيني وبين نفسي: أين أجلس؟ فجلست إلى جنب أبي عمر بن الخطاب، فنظرت فإذا أبو بكر عن يمين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإذا عمر عن يساره، فتأملت فإذا بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر رجل، فقلت:

من هذا الرجل الذي بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر؟

فقال: هذا عيسى ابن مريم، فسمعت هاتفا يهتف وبيني وبينه ستر: نور يا عمر بن عبد العزيز، تمسك بما أنت عليه واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت من ذلك القصر، فالتفت خلفي فإذا أنا بعثمان بن عفان وهو خارج من ذلك القصر يقول: الحمد للّه الذي نصرني، وإذا علي بن أبي طالب في دائرة خارج من ذلك القصر وهو يقول: الحمد للّه الذي غفر لي.

(و قال) سعيد بن أبي عروة عن عمر بن عبد العزيز [قال] [23] رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتا وأحيف عليهما الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن يخرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.

(و قال) حماد بن أبي هاشم: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله، وأقبل رجلان يختصمان وأنت بين يديه جالس، فقال لك: يا عمر، إذا عملت فاعمل بعمل هذين أبي بكر وعمر، فاستحلفه عمر باللّه أ رأيت هذه الرؤيا؟

فحلف، فبكى عمر.

(و قال) عبد الرحمن بن غنم: رأيت معاذ بن جبل بعد وفاته بثلاث [24] على فرس أبلق وخلفه رجال بيض عليهم ثياب خضر على خيل بلق وهو قدامهم وهو يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[36:27] ثم التفت عن يمينه وشماله يقول: يا ابن رواحة يا ابن مظعون ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[39:74] ثم صافحني وسلّم علي.

(و قال) قبيصة بن عقبة: رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته فقلت: ما فعل اللّه بك، فقال:

نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضانا عنك يا ابن سعيد

فقد كنت قواما إذا الليل قد دجا ... بعيرة محزون وقلب عميد

فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني منك غير بعيد

وقال سفيان بن عيينة: رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة ومن شجرة إلى نخلة وهو يقول: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [37:61] فقيل له: بما أدخلت الجنة؟ قال: بالورع بالورع، قيل له: فما فعل علي بن عاصم [25]؟ قال: ما نراه إلا مثل الكوكب.

(و كان) شعبة بن الحجاج [26] ومسعر بن كدام [27] حافظين وكانا جليلين، قال أبو أحمد البريدي: فرأيتهما بعد موتها، فقلت: أبا بسطام ما فعل اللّه بك؟ فقال:

وفقك اللّه لحفظ ما أقول:

حباني إلهي في الجنان بقية ... لها ألف باب من لجين [28] وجوهرا

وقال لي الرحمن يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم فأكثرا

تنعم بقربي إنني عنك ذو رضا ... وعن عبدي القوام في الليل مسعرا

كفا مسعرا عزا بأن سيزورني ... واكشف عن وجهي الكريم لينظرا

وهذا فعالي بالذين تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا

قال أحمد بن محمد اللبدي: رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت: يا أبا عبد اللّه ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي، قال: يا أحمد ضربت فيّ ستين سوطا؟

قلت: نعم يا رب، قال: هذا وجهي قد أبحتك فانظر إليه.

و قال أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج: حدثني رجل من أهل طرطوس قال: دعوت اللّه عز وجل أن يريني أهل القبور حتى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل اللّه به؟ فرأيت بعد عشر سنين في المنام كأن أهل القبور قد قاموا على قبورهم فبادروني بالكلام فقالوا: يا هذا كم تدعو اللّه عز وجل أن يريك إيانا تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحليه الملائكة تحت شجرة طوبى. قال أبو محمد عبد الحق: وهذا الكلام من أهل القبور إنما هو إخبار عن علو درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعظم منزلته، فلم يقدروا أو يعبروا عن صفة حاله وعن ما هو فيه إلا بهذا وما هو في معناه.

و قال أبو جعفر السقاء صاحب بشر بن الحارث [29]: رأيت بشرا الحافي ومعروفا الكرخي [30] وهما جائيان فقلت: من أين؟ قالا: من جنة الفردوس زرنا كليم اللّه موسى.

و قال عاصم الجزري: رأيت في النوم كأني لقيت بشر بن الحارث، فقلت:

من أين أبا نصر؟ قال: من عليين، قلت: فما فعل أحمد بن حنبل. قال: تركته الساعة مع عبد الوهاب الوراق بين يدي اللّه عز وجل يأكلان ويشربان، قلت له:

فأنت؟ قال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه.

و قال أبو جعفر السقاء: رأيت بشر بن الحارث في النوم بعد موته فقلت:

أبا نصر ما فعل اللّه بك؟ قال: ألطفني ورحمني وقال لي: يا بشر لو سجدت لي في الدنيا على الجمر ما أديت شكر ما حشوت قلوب عبادي منك، وأباح لي نصف الجنة فأسرح فيها حيث شئت، ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي، فقلت: ما فعل أبو نصر التمار؟ فقال: ذاك فوق الناس بصبره على بلائه وفقره، قال عبد الحق:

لعله أراد بقوله: نصف الجنة، نصف نعيمها، لأن نعيمها نصفان، نصف روحاني ونصف جسماني، فيتنعمون أولا بالروحاني، فإذا ردت الأرواح إلى الأجساد أضيف لهم النعيم الجسماني إلى الروحاني، وقال غيره: نعيم الجنة مرتب على العلم والعمل، وحظ بشر من العمل كان أوفى من حظه في العلم، واللّه أعلم.

و قال بعض الصالحين: رأيت أبا بكر الشبلي في المنام وكأنه قاعد في مجلس الرصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه، وإذا به قد أقبل وعليه ثياب حسان، فقمت إليه وسلمت عليه وجلست بين يديه، فقلت له: من أقرب أصحابك إليك؟

قال: أكثرهم لذكر اللّه، وأقومهم بحق اللّه، وأسرعهم مبادرة في مرضاة اللّه.

و قال أبو عبد الرحمن الساحلي: رأيت ميسرة بن سليم في المنام بعد موته فقلت له: طالت غيبتك! فقال: السفر الطويل، فقلت له: فما الذي قدمت عليه؟

فقال: رخص لي لأنا كنا نفتي بالرخص، فقلت: فما تأمرني به؟ قال: إتباع الآثار، وصحبة الأخيار، ينجيان من النار، ويقربان من الجبار.

و قال أبو جعفر الضرير: رأيت عيسى بن زاذان بعد موته، فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فأنشأ يقول:

لو رأيت الحسان في الخلد حولي ... وأكاويب معها للشراب

يترنمن بالكتاب جميعا ... يتمشين مسبلات الثياب

وقال بعض أصحاب ابن جريج: رأيت كأني جئت إلى المقبرة التي بمكة، فرأيت على عامتها سرادقا، ورأيت منها قبرا عليه سرادق [31] وفسطاط [32] وسدرة فجئت حتى دخلت، فسلمت عليه، فإذا بمسلم بن الرنجي، فسلمت عليه وقلت:

يا أبا خالد ما بال هذه القبور عليها سرادق وقبرك عليه سرادق وفسطاط وفيه سدرة؟

فقال: إني كنت كثير الصيام، فقلت: فأين قبر ابن جريج وأين محله؟ فقد كنت أجالسه وأنا أحب أن أسلم عليه، فقال: هكذا، بيده هيهات وأدار إصبعه السبابة، وأين قبر ابن جريج رفعت صحفته في عليين.

و رأي حماد بن سلمة [33] في النوم أصحابه، فقال له: ما فعل اللّه بك؟

فقال: قال لي: طال ما كدت نفسك في الدنيا فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعبين.

و هذا باب طويل جدا، فإن لم تسمح نفسك بتصديقه وقلت: هذه منامات، وهي غير معصومة، فتأمل من رأى صاحبا له أو قريبا أو غيره فأخبره بأمر لا يعلمه إلا صاحب الرؤيا، أو أخبره بمال دفنه أو حذره من أمر يقع أو بشره بأمر يوجد فوقع كما قال، أو أخبره بأنه يموت هو أو بعض أهله إلى كذا وكذا فيقع كما أخبره، أو أخبره بخصب أو جدب أو عدو أو نازلة أو مرض أو بغرض له فوقع كما أخبره، والواقع من ذلك لا يحصيه إلا اللّه، والناس مشتركون فيه، وقد رأينا نحن وغيرنا من ذلك عجائب.

و أبطل من قال أن هذه كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم، وهذا من الباطل والمحال، فإن النفس لم يكن لها معرفة قط بهذه الأمور التي يخبر بها الميت، ولا خطرت ببالها ولا عندها علامة عليها، ولا إمارة بوجه ما، ونحن لا ننكر أن الأمر قد يقع كذلك.

و إن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد، بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق. فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من اللّه، ورؤيا الشيطان، ورؤيا من حديث النفس.

و الرؤيا الصحيحة أقسام: منها إلهام يلقيه اللّه سبحانه في قلب العبد وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عبادة بن الصامت وغيره.

و منها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.

و منها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم كما ذكرنا.

و منها عروج روحه إلى اللّه سبحانه وخطابها له.

و منها دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك، فالتقاء الأرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات.

و هذا موضع اضطرب فيه الناس (فمن قائل) إن العلوم كلها كامنة في النفس، وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنا مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها، ولما كان تجردها بالموت أكمل، كانت علومها ومعارفها هناك أكمل، وهذا فيه حق وباطل، فلا يرد كله ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم اللّه الذي بعث به رسوله، وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد، وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي، والأسماء والصفات والأفعال، وغير ذلك مما لا يعلم إلا بالوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية.

(و من قائل) إن هذه المرائي علوم علقها اللّه في النفس ابتداء بلا سبب، وهذا قول منكري الأسباب والحكم القوي، وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة.

(و من قائل) إن الرؤيا أمثال مضروبة، يضربها اللّه للعبد بحسب استعداد ألفه على يد ملك الرؤيا، فمرة يكون مثلا مضروبا، ومرة يكون نفس ما رآه الرائي فيطابق الواقع العلم لمعلومه. و هذا أقرب من القولين قبله، ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه، بل لها أسباب أخرى، كما تقدم من ملاقاة الأرواح وأخبار بعضها بعضا، من إلقاء الملك الذي في القلب والروغ، ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة.

(و قد ذكر) أبو عبد اللّه بن منده الحافظ في كتاب (النفس والروح) من حديث محمد بن حميد: حدثنا عبد الرحمن بن الغراء الدووسي، حدثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب فقال له: يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا، وشهدنا وغبت؟ ثلاث أسألك عنهن عندك منهن علم؟ فقال علي بن أبي طالب: و ما هن؟ فقال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا، فقال علي: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:

(إن الأرواح جنود مجندة، تلتقي في الهواء فتشأم [34]، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فقال: واحدة، قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينا هو وما نسيه إذ ذكره، فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما في القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضي ء إذا تجللته سحابة فأظلم، إذا تجلت فأضاء، وبينما القلب يتحدث إذا تجللته سحابة فنسي، إذ تجلت عنه فيذكر) قال عمر: اثنتان، قال: والرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما من عبد ينام يتملى نوما إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب، فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن، فالحمد للّه الذي أصبنهن قبل الموت).

و قال بقية بن الوليد: حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشي ء لم يخطر له على بال فيكون كأخذ بيد، ويرى الشي ء فلا يكون شيئا، فقال علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه عز وجل أنه: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] قال: والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل، قال: فجعل عمر يتعجب من قول علي، قال ابن منده: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره وروى عن أبي الدرداء.

(و ذكر) الطبراني من حديث علي بن أبي طلحة أن عبد اللّه بن عباس قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت، قال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل ومم ينسى، ومم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟

فقال له عمر: إن على القلب طخاوة [35] كطخاوة القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا انجلت ذكر ما كان نسي، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب، فإن اللّه عز وجل يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[39:42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب.

(و روى) ابن لهيعة عن عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي عن أبي الدرداء [36] قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العرش، فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود، وإن كان جنبا لم يؤذن لها بالسجود.

(و روى) جعفر بن عون عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: إن الأرواح جنود مجندة تتلاقى فتشأم كما تشأم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.

و لم يزل الناس قديما وحديثا تعرف هذا وتشاهده، قال جميل بن معمر الغنوي:

أظل نهاري مستهاما وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها

فإن قيل: فالنائم يرى غيره من الأحياء يحدثه ويخاطبه وربما كان بينهما مسافة بعيدة ويكون الرائي يقظان، روحه لم تفارق جسده، فكيف التقت روحاهما، قيل: هذا إما أن يكون مثلا مضروبا ضربه ملك الرؤيا للنائم، أو يكون حديث نفس من الرائي تجرد له منامه كما قال حبيب بن أوس:

سقيا لطيفك من زور أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول

وقد تتناسب الروحان وتشتد علاقة إحداهما بالأخرى، فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإن لم يشعر بما يحدث لغيره لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.

و المقصود أن أرواح الأحياء تتلاقى في النوم، كما تتلاقى أرواح الأحياء والأموات، قال بعض السلف: إن الأرواح تتلاقى في الهواء فتتعارف أو تتناكر، فيأتيها ملك الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر، قال: وقد وكل اللّه بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفة كل نفس بعينها واسمها ومتقلبها في دينها ودنياها وطبعها ومعارفها، لا يشتبه عليه منها شي ء ولا يغلط فيها، فتأتيه نسخة من علم غيب أئمة من أم الكتاب بما هو مغيب لهذا الإنسان من خير وشر في دينه ودنياه، ويضرب له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته، فتارة يبشره بخير قدمه أو يقدمه، وينذره من معصية ارتكبها أو هم بها، ويحذره من مكروه انعقدت أسبابه ليعارض تلك الأسباب بأسباب تدفعها، ولغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها اللّه في الرؤيا نعمة منه ورحمة وإحسانا وتذكيرا وتعريفها، وجعل أحد طرق ذلك تلاقي الأرواح وتذاكرها وتعارفها، وكم من كانت توبته وصلاحه وزهده وإقباله على الآخرة عن منام رآه أو رئي له، وكم ممن استغنى وأصاب كنزا دفينا عن منام.

و في (كتاب المجالسة) لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة عن أبي حاتم عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عمن حدثه قال: خرجنا مرة في سفر وكنا ثلاثة نفر، فنام أحدنا، فرأينا مثل المصباح خرج من أنفه فدخل غارا قريبا منه ثم رجع فدخل أنفه، فاستيقظ يمسح وجهه، وقال: رأيت عجبا، رأيت في هذا الغار كذا وكذا، فدخلناه فوجدنا فيه بقية من كنز كان.

و هذا عبد المطلب دل في النوم على زمزم وأصاب الكنز الذي كان هناك [37].

و هذا عمير بن وهب أتي في منامه فقيل له: قم إلى موضع كذا وكذا من البيت فاحفره تجد مال أبيك، وكان أبوه قد دفن مالا ومات ولم يوص به، فقام عمير من نومه فاحتفر حيث أمره، فأصاب عشرة آلاف درهم وتبرا كثيرا، فقضى دينه وحسن حاله وحال أهل بيته، وكان ذلك عقب إسلامه، فقالت له الصغرى من بناته: يا أبت ربنا هذا الذي حبانا بدينه خير من هبل والعزى، ولو أنه كذلك وما ورثك هذا المال، وإنما عبدته أياما قلائل.

قال علي بن أبي طالب القيرواني العابر: وما حديث عمر هذا واستخراجه المال بالمنام بأعجب مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا من أبي محمد عبد اللّه البغانشي، وكان رجلا صالحا مشهورا برؤية الأموات وسؤالهم عن الغائبات، ونقله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم، حتى اشتهر بذلك وكثر منه، فكان المرء ليشكو إليه حميمه قد مات من غير وصية له مال لا يهتدي إلى مكانه، فيعده خيرا ويدعو اللّه تعالى في ليلته، فيتراءى له الميت الموصوف فيسأله عن الأمر فيخبره به.

(فمن نوادره) أن امرأة عجوزا من الصالحات توفيت، ولامرأة عندها سبعة دنانير وديعة، فجاءت إليه صاحبة الوديعة وشكت إليه ما نزل بها وأخبرته باسمها واسم الميتة صاحبتها، ثم عادت إليه من الغد، فقال لها: تقول لك فلانة عدي من سقف بيتي سبع خشبات تجدي الدنانير في السابعة في خرقة صوف، ففعلت ذلك فوجدتها كما وصف لها.

قال: وأخبرني رجل لا أظن به كذبا: استأجرتني امرأة من أهل الدنيا على هدم دار لها وبنائها بمال معلوم، فلما أخذت في الهدم لزمت الفعلة هي ومن معها، فقلت: ما لك؟ قالت: وللّه ما لي إلى هذه الدار من حاجة، لكن أبي مات و كان ذا يسار كثير، فلم تجد له كثير شي ء، فخلت أن ماله مدفون، فعمدت إلى هدم الدار لعلي أجد شيئا! فقال لها بعض من حضر: لقد فاتك ما هو أهون عليك من هذا، قالت: وما هو؟ قال: فلان تمضين إليه وتسألينه أن يبيت قصتك الليلة فلعله ير أباك فيدلك عن مكان ماله بلا تعب ولا كلفة، فذهبت إليه ثم عادت إلينا، فزعمت أنه كتب اسمها واسم أبيها عنده، فلما كان من الغد بكرت إلى العمل، وجاءت المرأة من عند الرجل فقالت: إن الرجل قال لي: رأيت أباك وهو يقول:

المال في الحنية، قال: فجعلنا نحفر تحت الحنية وفي جوانبها حتى لاح لي شق، وإذا المال فيه، قال: فأخذنا في التعجب والمرأة تستخف بما وجدت وتقول: مال أبي كان أكثر من هذا ولكني أعود إليه، فمضت فأعلمته ثم سألته المعاود، فلما كان من الغد أتت وقالت: إنه قال لها: إن أباك يقول لك: احفري تحت الخابية التي في مخزن الزيت قال: ففتحت المخزن فإذا بخابية مربعة في الركن فأزلناها وحفرنا تحتها فوجدنا كوزا كبيرا فأخذته، ثم دام بها الطمع في المعاودة، ففعلت فرجعت من عنده وعليها الكآبة فقالت: زعم أنه رآه وهو يقول له: قد أخذت ما قدر لها، وأما ما بقي فقد جلس عليه عفريت من الجن يحرسه إلى من قدر له، والحكايات في هذا الباب كثيرة جدا.

و أما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدا (و قد حدثني) غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه رآه بعد موته وسأله عن شي ء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب.

و بالجملة فهذا أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها وباللّه التوفيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق