الثلاثاء، 21 يونيو 2022

لحظة خروج الروح وصعودها إلى السماء

ومن الألوكة

 لحظة خروج الروح وصعودها إلى السماء
مما لا شك فيه أن ساعة الموت ولحظة خروج الرُّوح من أخطر اللحظات في عمر الإنسان؛ وذلك للأسباب الآتية:
1- لأنها بداية الانتقال من عالم الشهادة المحسوس، الذي عرفه الإنسان وألِفه، إلى عالم كان غيبًا في الحياة الأولى، ويصير محسوسًا في الحياة الجديدة، التي تبدأ بالموت الجسدي، ليحدث للإنسان في عالم البرزخ - لأول مرة - عوالم تختلف كل الاختلاف عن عوالم الدنيا التي عايشها وائتلف أو تنافَر معها.
2- في هذه الساعة - ساعة الموت - يرى ملائكة الله، ويسمع منهم الكلمة الفاصلة النازلة إليه من عند الله تعالى، وهي التي فيها نعيمه الأبدي أو شقاؤه الأبدي.
3- إن ساعة الموت فاصلة بين عمرٍ - مهما طال في عصرنا - فلن يَزيد عن مائة وخمسين سنة، وهو يعتبر صفرًا إذا قيس بآلاف السنين في القبر، وخمسين ألف سنة في الموقف، ثم إلى ما لا نهاية في نعيم لا يُوصَف، أو في شقاء لا يُتصوَّر، ففي هذا العمر القصير جدًّا يُحدَّد المصير بالنسبة للمستقبل اللانهائي، وليس في عمر الدنيا كله يُحدد مصير المستقبل، بل في سنين محدودة منه، وقد تكون أيامًا، وقد تكون ساعة واحدة أو أقل، يتوب الإنسان فيها ويندَم على ذنوبه، ويتضرَّع إلى ربه، ويتخلَّص من مظالمه، فينال رضاء الله عند موته، ويطمئن على مستقبله، يا لها من سعادة في متناول الجميع، ومن مستقبل لانهائي يُحدِّد الإنسان مصيره في دقائق، وصدق الله القائل: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ﴾ [الأعلى: 10 - 13]؛ (رحلة الخلود؛ لحسن أيوب ص 112 بتصرف).
أحبتي في الله، كل الناس متساوون في الدنيا ظاهريًّا، سواء المؤمن والكافر، والصالح والطالح، فهم يُرزقون ويسيرون ويذهبون ويَجيئون، والله - سبحانه وتعالى - يعطي فيها المؤمن والكافر، والعاصي والمطيع؛ لأنه - سبحانه - يعطيها لمَن يحب ولمن لا يحب، لكن عندما ينزل بهم الموت لا يستوي المؤمن والكافر، ولا المحسن والمسيء، ففي هذه اللحظة، لحظة خروج الرُّوح يظهر الفرقان، ويفترِق الطريقان، ويمتاز الفريقان، فعند خروج رُوح المؤمن يجتمع له الخير كله، ولا ينسى أبدًا هذه اللحظة حتى بعد دخوله الجنة، يقول بعض السلف: "إن العبد المؤمن وهو يتقلَّب في نعيم الجنة لا ينسى طعمَ وحلاوة بِشارة مَلَك الموت له عند خروج الرُّوح، ونقيض ذلك للعاصي والكافر.
وصدق الله - عز وجل - حيث قال: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].
=====
دين الكافر العمل
خلال رحلةِ عملي، اختلطتُ بجنسيات أوروبية متعدِّدة، وكنت أراقبُ سلوكهم بدقة؛ للتعرُّف على ثقافتهم، واستنتاجِ سبب قفزهم هذه القفزةَ الحضارية الواسعة في وقتٍ قياسيٍّ من عمر الأمم، كان لديَّ أحلامٌ عريضة في دعوتهم للإسلام، وكم داعبتني أحلامٌ بأن يهتدي أحدُهم على يدي، ولكن صخرة الواقع كانت صلبةً ومدبَّبة، تدمي أحلامي أو تقتلُها، ولن يسمع أحد صوتًا خافتًا بين أبواق كثيرة!
مع الاحتكاك بهم وجدت دينَهم العملَ، من لا يعمل عندهم فلا دينَ له، ومن يتقن عمله هو من يستحق أن يُطأطأ له الرأس، ومما أعجَبُ له أنهم يستمتعون بعملهم جدًّا؛ بل يستمتعون بكلِّ شيء في الدنيا، ولا أبالغ إن قلت: إنهم يستمتعون بالألم نفسِه، وكأنهم أُلهموا أن هذه هي جنتهم، فتراهم في عملهم ملائكةً، وفي فراغهم عُبادَ دنيا أو هوى.
تأتي دكتورة مونيكا - وهي مديرة لمؤسسة تربوية كبيرة - مرتديةً الزيَّ المدرسي للطالبات! وتقف على البوابة الرئيسة لاستقبالهنَّ بابتسامةٍ مشرقة في أول يوم دراسي، وفي الأيام التالية تقف على البوابة الخارجية لقسم رياض الأطفال في وقت الصقيع أو الحرارة والغبار، لا يهم، المهمُّ أن تبدأ يومَها بمثالية نابعة من قلبها، فتصافح كلَّ طفل أثناء دخوله مع ابتسامة عريضة ومسحة على رأسه، وإن تفقَّدتْ طابور الصباح ووجدتْ رباط الحذاء مفكوكًا لدى أحد الأطفال، نزلَت على ركبتيها وربطته له في حنوٍّ شديد، ثم تبدأ تدريبات الصباح فتقف وسط الساحة مع معلِّمات التربية البدنية تؤدِّي التدريبات كاملةً، ويقلِّدُها الطلاب صغارًا وكبارًا، ثم لا تنسى أن تُمسك بالميكرفون لتغرس قيمةً صباحية في النفوس، أو ترسم ابتسامة من خلال طُرفة نافعة، تؤمِنُ أن هذه الأجواء تُحفر في ذاكرة الطالب، وكأنها تتحدى الموت بسلوكها؛ حيث يقول لسانُ حالها: حتمًا سأرحل يومًا من بلادكم ومن دنياكم، لكني سأتحدَّى هذا الرحيلَ الإجباري، سيموت جسدي ويبقى عقلي في عقلِكم، وسلوكي ذِكرَى تنقُلونها لأولادكم حيث امتدَّ الزمان.
أستمرُّ في مراقبتهم لأفهمهم، فأجد المباشَرة والصراحة أصلَ سلوكهم، إنْ أخطأ أحدُهم أقرَّ بخطئه ببساطة، ثم يترك الأمر لا يعطيه بالًا، ما دام صادقًا، وكأنه امتلأ يقينًا بأن رزقه مكفولٌ، سواء قبِلوا عُذرَه أم لم يقبلوا، أما نحن العرب المسلمين، فالتحايلُ والتأليف، ومحاولة التلفيق: سُنَّةُ حياة لدينا، بل قد يمتدُّ الأمرُ للإطاحة بأحد الزملاء كمهرَبٍ مناسب من خطأٍ لن تُعاقَبَ لو اعترفت به!
أقلِّب بصري كَرَّةً أخرى، فأرى العربيَّ المسلم يقفز بُغضُه لعمله من بين عينَيْه، ويتأفَّف من كلِّ فعل، مشكِّكًا في قيمته وفي نتيجته ما دام سيُسبِّب له مسؤولية أو انشغالًا، ونفس الفعل يمجِّدُه لو كان سببًا في إعفائه من عمله؛ فطابورُ الصباح لا فائدةَ منه إن كان سيشرف على الأطفال، أما إن امتدَّ في بعض المناسبات ليريحه من الحصة الأولى مثلًا، فهو مهم كالقرآن المنزَّل! إن رأى حذاء طفل مفكوكًا، أحدَثَ ضجيجًا يملأ به الأركان؛ بحثًا عن عاملة تربطه للطفل، أو سبًّا في والدَيْه المهمِلَين، أو إعلاء لنفسه كيف (وهو حضرة الأستاذ، المحترم، المبجَّل، صاحب العلم، الفذ) أن يربط حذاءَ طفل، تربطه مديرتُه في العمل الحاصلة على الدكتوراه بكل سعادة؛ بل كأنها وجدتْ كنزًا ثمينًا أمامها؟ هي لها أهداف تحاذي السحاب؛ كأن تغرس ذكرى خالدةً يعلو بها ذكرُها، أو كسب ثقة الآخر، فيصعب التشكيكُ في نيَّاتها، أو حتى التبشير بدينها من خلال هذا السلوك، أما نحن، فما زلنا عفويِّين لا هدف لنا من وراء سلوكنا إلا المنفعةُ الشخصية القصيرة أو التافهة، التي تحاذي الحذاءَ الذي نرتديه، لا السحابَ!
ثم تأتي الكارثة لو أصبح ذلك الأستاذ العربيُّ الفذُّ مسؤولًا، فله صورتان متناقضتان:
الأولى: تجده يرفع أنفه، ويراقب من وُلِّي عليهم، واضعًا يديه خلف ظهره، أو مستندًا لكرسيِّه وكأنه المُلهَم الذي لا يأتيه الباطلُ من خلفه، ما إن تقع عيني عليه حتى تتبادر لذهني صورةُ الخُولي الشرِّير الذي يُعذِّب العمالَ بالسُّخرة، كما كان يقصُّ علينا جدِّي في "حواديت زمان"!
الثانية: أن يكون مهملًا حدَّ الفساد والإفساد، يتملَّق رؤساءه، ويتعالى على من دونه، يصر على مثالية جوفاء لا يستطيعها هو، مثالية يخدم بها المظهر ويهدم الجوهر، فلا تهمُّه أمةٌ ولا جيل ولا رسالة، المهم منصبُه!
أراقب هذا كلَّه فتتقاطر أحزاني وتتبخَّر أحلامي في دعوة هؤلاء الناس إلى ما نحن عليه من دين، مهما كانت الروحانيات قويةً والنية خالصة، فالعمل وانعكاس القيم والروحانيات على السلوك أصلٌ في رسم الصورة الصحيحة للمسلم.
لا أقصد بكلامي هذا أن أبثَّ الشعور بالدونية في الأنفس، أو أنني مفتونة بهم فأُعليهم على المسلمين، لا؛ بل أقصد أن نكون سفراء خيرٍ لديننا، أن نكون دعاة بعقلنا وسلوكنا قبل حناجرنا، أن نكون أصحابَ هدف نخدمه بإخلاص، سواء كان هذا الهدف للدنيا أو للآخرة.
أقصد أيضًا أن أصرُخَ في قلب كل كائن: احرص على أن تُطعم أبناءك حلالًا، إهمالُك المتعمَّد للعمل، عدم مراعاة الضمير، التلفيق والتحايل، الخوفُ من المسؤول وكأن رزقك بيده...، كلُّ هذا ينتقص من كون دخلك حلالًا، وبالتالي ينتقص من بركة أولادك، فيخرُج للأمة جيلٌ نرجو منه الكثير وهو لا يستطيع تقديم القليل! وليس هذا هو الكارثة الوحيدة، بل إنك سفير رياء وازدواجية لدينك، الذي أُمرتَ بتبليغه، ليس فقط اعتناقه صحيحًا كما بُلغ لك، بماذا ستُدافع عن نفسك عندما يعاتبك شفيعُك صلى الله عليه وسلم: هل بلَّغتَ عني ولو آيةً؟ هذا وقت لا تلفيق فيه، ولن ينفعك أن تكون خُوليًّا أو حتى قارون، هذا وقت لا ينفع فيه إلا صدقُ الصادقين، وهم كثر في الأمة والحمد لله، لكنك أيها الكسول المرْتبكُ تشوِّش عليهم فتطفو أنت ويُغمرون هم!
استقيموا؛ لعل الله يرفع البلاء عن هذه الأمَّةِ التي طالت بنا نكبتُها.
=======
النار دار الكافرين
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 10 - 15].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [البقرة: 161، 162].
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 128].
﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ ﴾؛ أي: مأواكم ومنزلُكم أنتم وأولياؤكم، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ أي: ماكثين مُكثًا مخلَّدًا.
﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ قال بعضهم: يرجع معنى هذا الاستثناء إلى البرزخ، وقال بعضهم: هذا ردٌّ إلى مدَّة الدنيا، وقيل غيرُ ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرُها إن شاء الله.
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 67، 68].
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾؛ أي: على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم، ﴿ هِيَ حَسْبُهُمْ ﴾؛ أي: كِفايتُهم في العذاب.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 106، 107].
قال ابن عباس: الزَّفير في الحَلْق، والشَّهيق في الصدر؛ أي: تنفُّسهم زفير، وأخذُهم النَّفَس شهيقٌ؛ لِما هم فيه من العذاب، عياذًا بالله من ذلك.
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا * إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 63 - 68].
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾؛ أي: ماكثين مستمرِّين، فلا خروجَ لهم منها، ولا زوالَ لهم عنها، ﴿ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾؛ أي: وليس لهم مُغِيثٌ ولا مُعِين ينقِذُهم مما هم فيه.
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 71، 72].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أبرِدوا بالصلاة؛ فإن شِدَّة الحرِّ من فيح جهنم))؛ البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النارُ إلى ربِّها - عز وجل - فقالت: ربِّي، أكَل بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بنَفَسينِ: نَفَس في الشتاء، ونَفَس في الصيف، فأشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير))؛ البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الحمَّى من فيحِ جهنَّم، فأبرِدوها بالماء))؛ البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَمَّا خلَق الله الجنةَ والنَّار، أرسل جبريلَ إلى الجنة فقال: اذهَبْ فانظُرْ إليها))؛ البخاري، الحديث، وقد عُرِضتا عليه صلى الله عليه وسلم في مقامِه يومَ كسفت الشمس، وعُرِضت عليه ليلةَ الإسراء، وفي ذلك من الأحاديثِ الصحيحة ما لا يُحصى.
قال ابنُ كثير في تفسيره:
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 106، 107].
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ قال الإمام أبو جعفر ابن جَرير: مِن عادة العرب إذا أرادت أن تصفَ الشيءَ بالدوام أبدًا قالت: (هذا دائمٌ دوَامَ السموات والأرض)، وكذلك يقولون: هو باقٍ ما اختلف الليلُ والنهار، وما سمَر ابنا سمير، وما لألأت العُفْر بأذنابها، يعنون بذلك كلمة: (أَبَدًا)، فخاطَبهم - جل ثناؤه - بما يتعارَفونه بينهم، فقال: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾.
قلت: ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض: الجنس؛ لأنه لا بدَّ في عالَم الآخرة من سمواتٍ وأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ﴾ [إبراهيم: 48]؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله: ﴿ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾، قال: تبدَّل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن حسين، عن الحكَم، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: ﴿ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾، قال: لكل جنَّة سماءٌ وأرضٌ.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: ما دامت الأرضُ أرضًا، والسماءُ سماءً.
وقوله: ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107] كقوله تعالى: ﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 128].
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء، على أقوال كثيرة، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه: "زاد المسير"، وغيره من علماء التفسير، ونقَل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - في كتابه، واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان، والضحاك، وقتادة، وأبي سنان، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا: أن الاستثناء عائدٌ على العصاة من أهل التوحيد، ممن يُخرِجهم اللهُ من النارِ بشفاعة الشافعين من الملائكةِ والنبيين والمؤمنين، حين يشفعون في أصحاب الكبائر، ثم تأتي رحمةُ أرحم الراحمين، فتُخرِج من النار مَن لم يعمل خيرًا قط، وقال يومًا من الدهر: لا إله إلا الله، كما وردت بذلك الأخبارُ الصحيحة المستفيضة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك، من حديث أنس، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا مَن وجب عليه الخلودُ فيها ولا مَحيدَ له عنها، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديمًا وحديثًا في تفسير هذه الآية الكريمة.
وقال قتادة: الله أعلم بثُنْيَاه.
وقال السُّدي: هي منسوخة بقوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [النساء: 169].
قال في أعلام السنَّة:
قال تعالى فيها: ﴿ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [النساء: 169]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [الزخرف: 75]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا ﴾ [فاطر: 36]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [طه: 74]، وغير ذلك من الآيات، فأخبَرنا تعالى في هذه الآيات وأمثالِها أن أهلَ النار الذين هم أهلُها خُلقت لهم وخُلقوا لها، أنهم خالدون فيها أبدًا، فنفى تعالى خروجهم منها بقوله: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167]، ونفى انقطاعَها عنهم بقوله: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 75]، ونفى فَناءَهم فيها بقوله: ﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ﴾ [الأعلى: 13]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أما أهلُ النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيَوْن))؛ رواه مسلم.. الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهلُ الجنة إلى الجنة وأهلُ النار إلى النار، جيءَ بالموت حتى يُجعَل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، لا موتَ، يا أهل النار، لا موتَ؛ فيزداد أهل الجنة فرَحًا إلى فرَحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم))، وفي لفظ: ((كلٌّ خالدٌ فيما هو فيه))، وفي رواية: ثم قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39]، وهي في الصحيح، وفي ذلك أحاديثُ غيرُ ما ذكرنا.
======
"اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة"
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار))، ثم أعرض وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار))، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))؛ متفق عليه[1].
يتعلق بهذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: يأمر النبي صلى الله عليه وسلم جميع المسلمين باتقاء النار، ولا يكون ذلك إلا بعمل الصالحات واجتناب المنهيَّات، كما ينبه صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا الاتقاء لا يحتقر فيه شيء يسير يعمل من الصالحات، ولا شيء يسير يجتنب من السيئات، فليحرص المسلم على التقوى في جليل الأمر ويسيره؛ قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا، (قال أبو شهاب): بيده فوق أنفه؛ رواه البخاري[2]، وقال أنس رضي الله عنه: إنكم لتعمَلون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشَّعر، إن كنا لنعُدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات؛ رواه البخاري[3]، وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه))؛ رواه أحمد[4]، وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة، إياك ومحقَّرات الذنوب؛ فإن لها من الله عز وجل طالبًا))[5]، وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبيَّ بن كعب رضي الله عنه عن التقوى؟ فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى،قال: فما عملتَ؟ قال: شمَّرْتُ واجتهدت، قال: فذلك التقوى[6]، قال ابن المعتز:
خلِّ الذنوبَ صغيرَها
وكبيرَها؛ ذاك التُّقَى
واصنَعْ كماشٍ فوقَ أَرْ
ضِ الشَّوكِ يحذَرُ ما يرَى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً
إن الجبالَ مِن الحصَى
الفائدة الثانية: لا ينبغي أن يحتقر المسلم شيئًا من المعروف يقدمه لنفسه، ولو كان صغيرًا، فلربما كان فيه نجاته من النار؛ قال أبو ذر رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق))؛ رواه مسلم[7]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: 

 ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك))؛ 

 رواه البخاري[8]، قال ابن بطال - رحمه الله تعالى -: فيه أن الطاعةَ موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرِّبة إلى النار، وأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء؛ اهـ، وقال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: فينبغي للمرء ألا يزهَدَ في قليل من الخير أن يأتيَه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبَه؛ فإنه لا يعلَم الحسنةَ التي يرحمه الله بها، ولا السيئةَ التي يسخَطُ عليه بها؛ اهـ[9].
الفائدة الثالثة: هذا الحديث موافقٌ لقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]، 

 وقد فقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة هذه النصوص، فعملوا بها؛ قال مالك - رحمه الله -: بلغني أن مسكينًا استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنبٌ، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطِه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟! وجاء سائل إلى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وبين يديه طبق عليه عنب، فأعطاه عنبة، فقيل له: أين تقع هذه منه؟! قال: فيها مثاقيل ذر كثيرة، وجاء سائلٌ إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وبين يديه طبق عليه تمر، فأعطاه تمرة، فقبض يده، فقال سعدٌ: إن الله يقبل منها مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذرة؟![10].
[1] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذِّب 5/ 2395 (6174)، ومسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار 2/ 703 - 704 (1016).
[2] رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب التوبة 5/ 2324 (5949).
[3] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يتقى من محقرات الذنوب 5/ 2381 ضمن الحديث رقم (5949).
[4] رواه أحمد 5/ 331، والروياني في مسنده 2/ 216 (1065)، والطبراني في المعجم الكبير 6/ 165، والأوسط 7/ 219 (7323)، والصغير 2/ 129 (904)، وقال الحافظ (فتح الباري 11/ 329): أخرجه أحمد بسند حسن.
[5] رواه أحمد 6/ 70، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب 2/ 1417 (4243)، والدارمي 2/ 392 (2726)، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/ 113: أخرجه أحمد وابن ماجه، وسنده حسن، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 4/ 245: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
[6] تفسير ابن كثير 1/ 41.
[7] رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء 4/ 2026 (2626).
[8] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك 5/ 2380 (6123).
[9] فتح الباري 11/ 321، وكلام ابن بطال منه أيضًا.
[10] ذكر هذه الآثار ابن عبدالبر في الاستذكار 8/ 602 - 603. =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق