الثلاثاء، 21 يونيو 2022

فقرات من كتاب الروح فصل الرد على الاستدلال بإضافتها إلى اللّه سبحانه وتعالى

فقرات من كتاب الروح 

فصل الرد على الاستدلال بإضافتها إلى اللّه سبحانه وتعالى

--------

وأما استدلالهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[38:72] فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى اللّه سبحانه نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وإرادته وقدرته وحياته صفات له غير مخلوقة، وكذلك وجهه يده سبحانه.

و الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه، لكن إضافتها تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره، كبيت اللّه، وإن كانت البيوت كلها ملكا له، وكذلك ناقة اللّه، والنوق كلها ملكه وخلقه، لكن هذه إضافة العامة إلى [ألوهيته] [1] تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته، حيث تقضي خلقه وإيجاده، فالإضافة العامة تقتضي الإيجاد، والخاصة تقتضي الاختبار، واللّه يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه كما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[28:68]، وإضافة الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات، فتأمل هذا الموضع فإنه يخلصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء اللّه من الناس.

فإن قيل: فما تقولون في قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[38:72] فأضاف النفخ إلى نفسه وهذا يقتضي المباشرة منه تعالى كما في قوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[38:75] ولهذا فرق بينهما في الذكر في الحديث الصحيح في قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك اللّه بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شي ء، فذكروا لآدم أربع خصائص اختص بها عن غيره، ولو كانت الروح التي فيه إنما هي من نفخة الملك لم يكن له خصيصة بذلك، وكان بمنزلة المسيح، بل وسائر أولاده، فإن الروح حصلت فيهم من نفخة الملك وقد قال اللّه تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[15:29] فهو الذي سواه بيده وهو الذي نفخ فيه من روحه؟

قيل: هذا الموضع الذي أوجب لهذه الطائفة أن قالت بقدم الروح. وتوقف فيها آخرون ولم يفهموا مراد القرآن.

فأما الروح المضافة إلى الرب فهي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه إضافة تخصيص وتشريف كما بيناه، وأما النفخ فقد قال تعالى في سورة مريم: ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾[21:91] وقد أخبر في موضع آخر أنه أرسل إليها الملك فنفخ في فرجها وكان النفخ مضافا إلى اللّه أمرا وإذنا وإلى الرسول مباشرة.

تسمية المسيح روح اللّه

يبقى هاهنا أمران:

أحدهما: أن يقال: فإذا كان النفخ حصل في مريم من جهة الملك وهو الذي ينفخ الأرواح في سائر البشر، فما وجه تسمية المسيح روح اللّه؟ وإذا كان سائر الناس تحدث أرواحهم من هذه الروح فما خاصية المسيح؟

الثاني: أن يقال فهل تعلق الروح بآدم كانت بواسطة نفخ هذه الروح هو الذي نفخها فيه بإذن اللّه كما نفخها في مريم، أم الرب تعالى هو الذي نفخها بنفسه كما خلقه بيده؟

قيل لعمر اللّه أنهما سؤالان مهمان، فأما الأول فالجواب عنه أن الروح الذي نفخ في مريم هو الروح المضاف إلى اللّه الذي اختصه لنفسه وأضافه إليه وهو روح خاص من بين سائر الأرواح، وليس الملك الموكل بالنفخ في بطون الحوامل من المؤمنين والكفار، فإن اللّه سبحانه وكل بالرحم ملكا ينفخ الروح في الجنين فيكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.

و أما هذا الروح المرسل إلى مريم فهو روح اللّه الذي اصطفاه من الأرواح لنفسه، فكان بمنزلة الأب لسائر النوع، فإن نفخته لما دخلت في فرجها كان ذلك بمنزلة لقاح الذكر للأنثى من غير أن يكون هناك وطء، وأما ما اختص به آدم فإنه لم يخلق كخلقة المسيح من أم ولا كخلقه سائر النوع من أب وأم، ولا كان الروح الذي نفخ فيه منه هو الملك الذي ينفخ الروح في سائر أولاده، ولو كان كذلك لم يكن لآدم به اختصاص، وإنما ذكر في الحديث ما اختص به على غيره وهو أربعة أشياء: خلق اللّه له بيده ونفخ فيه من روحه يستلزم نافخا ونفخا ومنفوخا منه، فالمنفوخ منه: هو الروح المضافة إلى اللّه، فمنها سرت النفخة في طينة آدم، واللّه تعالى هو الذي نفخ في طينه من تلك الروح، هذا هو الذي دل عليه النص، وأما كون النفخة بمباشرة منه سبحانه كما خلقه بيده أو أنها حصلت بأمره، كما حصلت في مريم عليها السلام، فهذا يحتاج إلى دليل، والفرق بين خلق اللّه له بيده ونفخه فيه من روحه أن اليد غير مخلوقة، والروح مخلوقة، والخلق فعل من أفعال الرب، وأما النفخ فهل هو من أفعاله القائمة به أو هو مفعول من مفعولاته القائمة بغيره المنفصلة عنه؟ وهذا مما لا يحتاج إلى دليل؛ وهذا بخلاف النفخ في فرج مريم، فإنه مفعول من مفعولاته، وأضافه إليه لأنه بإذنه، وأمره فنفخه في آدم هل هو فعل له أو مفعول، وعلى كل تقدير فالروح الذي نفخ منها في آدم روح مخلوقة غير قديمة، وهي مادة روح آدم، فروحه أولى أن تكون حادثة مخلوقة وهو المراد.

=====

المسألة الثامنة عشرة (وهي تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها)

فهذه المسألة للناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلام وغيره، وممن ذهب إلى تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا. ونحن نذكر حجج الفريقين وما هو الأولى منها بالصواب.

قال من ذهب إلى تقدم خلقها على خلق البدن: قال اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾[7:11] قالوا ثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية أن خلقها مقدم على أمر اللّه للملائكة بالسجود لآدم.

و من المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.

قالوا: ويدل عليه قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾[7:172] قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، ففي الموطأ:

حدثنا: مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عن عمر بن الخطاب سأل عن هذه الآية: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: «خلق اللّه آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه ففيم العلم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» [1].

قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم، وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: «لما خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا [2] من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه؛ فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال اللّه تعالى: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ فقال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحد ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته- قال هذا على شرط مسلم. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح [3]. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أول من جحد آدم». وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل اللّه لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.

و في صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾[33:7] وهو قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[30:30] وهو قوله تعالى: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [53:56] وقوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [7:102] وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. وهذا إسناد صحيح.

فقال إسحاق بن راهويه: حدثنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول اللّه أ نبدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال: «إن اللّه لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار».

قال إسحاق: وأنبأنا النضر، حدثنا أبو معشر عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال: لما أراد اللّه أن يخلق آدم- فذكر خلق آدم- فقال له آدم: أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلها ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلي على هيئته، والأنبياء على هيئتهم، فقال ألا أعفيتهم كلهم؟ فقال:

إني أحب أن أشكر». وذكر الحديث.

و قال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللّه بن سلام قال: «خلق اللّه آدم ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اختر يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال:

من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة.

قال: وأخبرنا إسحاق حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا هشام بن سعد زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة.

و حدثنا إسحاق وعمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾[7:172].

و رواه أبو جمرة الضبعي ومجاهد وخبيب بن أبي ثابت وأبو صالح وغيرهم عن ابن عباس.

و قال إسحاق أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو في هذه الآية قال: أخذهم كما يؤخذ المشط بالرأس.

و حدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إن اللّه ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به والمعرفة له ولأمره والتصديق وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا.

و ذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن ابن مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله تعالى: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية لما أخرج اللّه آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي [4]، فذلك حيث يقول: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾[56:27] ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾[56:41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن اللّه ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ﴾[43:22] فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[3:83] وقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[6:149] قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق.

قال إسحاق: وأخبرنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال:

سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها.

قال: وحدثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال:

أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه.

قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأجلع عن الضحاك قال: إن اللّه أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] قالت الملائكة: ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172] ثم قبض بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى فقال: هؤلاء في النار.

قال إسحاق: وأخبرنا أبو عامر العقدي وأبو نعيم الملائي قال: حدثنا هشام ابن سعد عن يحيى وليس بابن سعيد قال: قلت لابن المسيب: ما تقول في العزل؟ قال: إن شئت حدثتك حديثا هو حق، إن اللّه سبحانه لما خلق آدم أراه كرامة لم يرها أحد من خلق اللّه، أراه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، فمن حدثك أن يزيد فيهم شيئا أو ينقص منهم فقد كذب ولو كان لي سبعون ما باليت.

و في تفسير ابن عيينة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[3:83] قال: يوم أخذه الميثاق.

قال إسحاق: فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين وذلك أن اللّه عز وجل أخبر أنه قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾[7:172] واللّه تعالى لا يخاطب إلا من يفهم عنه المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن اللّه وعقلوا عنه استشهاده إياهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾[7:172] فأجابوه من بعد عقل منهم للمخاطبة وفهم لها بأن ﴿قَالُوا بَلَى﴾[7:172] فأقروا له بالربوبية.

هامش

وفي معنى هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الذي روته السيدة عائشة قالت: أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه، قالت: قلت: يا رسول اللّه، طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدر به، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة، إن اللّه خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم».

أخرجه أبو داود في كتاب السنّة باب في ذراري المشركين (5/ 86) برقم 4713.

أخرجه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن القول بالقدر (صفحة رقم 502) برقم 1618، والحديث بتمامه هو:

عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [7:172] فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه، ففيم العمل؟ قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربه الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله ربه النار».

وبيص: البريق أو اللمعان.

أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب 8 من سورة الأعراف (5/ 249) برقم 3076.

======

فصل الدليل على أن الأرواح خلقت بعد الأبدان

واحتجوا أيضا بما رواه أبو عبد اللّه بن منده أخبرنا محمد بن صابر البخاري، حدثنا محمد بن المنذر بن سعيد الهروي، حدثنا جعفر بن محمد بن هارون المصيصي، حدثنا عتبة بن السكن، حدثنا أرطاة بن المنذر، حدثنا عطاء بن عجلان، عن يونس بن حلبس، عن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «إن اللّه خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». فهذا بعض ما احتج به هؤلاء.

قال الآخرون: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: ذكر الدليل على أن الأرواح خلقت بعد خلق الأبدان، الثاني: الجواب عما استدللتم به.

فأما المقام الأول: فقد قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ﴾[49:13] وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين وأصرح منه قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾[4:1] الآية، وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله.

فإن قيل: فهذا لا ينفي تقدم خلق الأرواح على أجسادها وإن خلقت بعد خلق أبي البشر كما دلت عليه الآثار المتقدمة.

قيل: سنبين إن شاء اللّه تعالى أن الآثار المذكورة لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا. وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله أبو محمد بن حزم، فهل تحمل الآثار ما لا طاقة لها به؟ نعم، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا، فيجي ء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق، كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفات وهيئات ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره لها لا تزيد عليه ولا تنقص منه.

فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما مخاطبتهم واستنطاقهم وإقرارهم له بالربوبية وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية، فمن قاله من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية، والآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه.

و أما حديث مالك فقال أبو عمر: هو حديث منقطع، مسلم بن يسار لم يلق عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضا مع الإسناد لا يقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، قيل: إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري. قال ابن أبي خيثمة: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار «لا يعرف».

ثم ساقه أبو عمر من طريق النسائي (أخبرنا) محمد بن وهب حدثنا محمد ابن سلمة قال: حدثني أبو عبد الرحيم قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة. ثم ساقه من طريق سخبرة (حدثنا) أحمد بن عبد الملك بن واقد، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم، قال أبو عمر: وزيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة أن الذي لم يذكره حفظ، وإنما الزيادة من الحافظ المتقن.

و جملة القول في هذا الحديث: أنه حديث ليس إسناده بالقائم لأن مسلم ابن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة يطول ذكرهم.

و مراد أبو عمر الأحاديث الدالة على القدر السابق، فإنها هي التي ساقها بعد ذلك، فذكر حديث عبد اللّه بن عمر في القدر وقال في آخره: وسأله رجل من مزينة أو جهينة، فقال: يا رسول اللّه ففيم العمل؟ فقال: «إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار».

قال: وروى هذا المعنى في القدر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعبد اللّه بن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو سريحة الغفاري وعبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمرو وعمران بن حصين وعائشة وأنس بن مالك وسراقة بن جعشم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت، وأكثر أحاديث هؤلاء لها طرق شتى ثم ساق كثيرا منها بإسناده.

و أما حديث أبي صالح عن أبي هريرة فإنما يدل على استخراج الذرية وتمثلهم في صور الذر، وكان منهم حينئذ المشرق والمظلم، وليس فيه أنه سبحانه خلق أرواحهم قبل الأجساد وأقرها بموضع واحد، ثم سل كل روح من تلك الأرواح عند حدوث بدنها إليه، نعم هو سبحانه يخص كل بدن بالروح التي قدر أن يكون له في ذلك الوقت، وأما أنه خلق نفس ذلك البدن في ذلك الوقت وفرغ من خلقها وأودعها مكان في معطلة عن بدنها حتى إذا أحدث بدنها أرسلها إليه من ذلك المكان فلا بدل شي ء من الأحاديث ذلك البتة لمن تأملها.

و أما حديث أبي بن كعب فليس هو عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وغايته: لو صح، ولم يصح أن يكون من كلام أبي وهذا الإسناد يروي به أشياء منكرة جدا مرفوعة وموقوفة، وأبو جعفر الرازي وثق وضعف، وقال علي بن المديني: كان ثقة، وقال أيضا: كان يخلط، وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أيضا:

يكتب حديثه إلا أنه يخطئ، وقال الإمام أحمد: ليس بقوي في الحديث، وقال أيضا: صالح الحديث، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيرا، وقال ابن حيان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

قلت: ومما ينكر هذا الحديث قوله: فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فدخل في فيها. ومعلوم أن الروح الذي أرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح [الذي] [1] نفخ فيها فحملت بالمسيح قال تعالى:

﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾[19:17]﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا۝18قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا۝19﴾ [19:18—19] فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعا، وفي بعض طرق حديث أبي جعفر هذا أن روح المسيح هو الذي خاطبها وهو الذي أرسل إليها.

و هاهنا أربع مقامات:

أحدها: أن اللّه سبحانه وتعالى استخرج صورهم وأمثالهم فميز شقيهم وسعيدهم ومعافاهم ومبتلاهم.

والثاني: أن اللّه سبحانه أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته.

الثالث: أن هذا هو تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172].

الرابع: أنه أقر تلك الأرواح كلها بعد إخراجها بمكان وفرغ من خلقها، وإنما يتجدد كل وقت إرسال جملة منها بعد جملة إلى أبدانها.

فأما المقام الأول فالآثار متظاهرة به مرفوعة وموقوفة.

و أما المقام الثاني فإنما أخذ من أخذه من المفسرين من الآية، وظنوا أنه تفسيرها، وهذا قول جمهور المفسرين من أهل الأثر، وقال أبو إسحاق: جائز أن يكون اللّه سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾[27:18]. وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير.

و قال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن اللّه أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد، والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت.

و قال الجرجاني: ليس بين قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته» وبين الآية اختلاف بحمد اللّه؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته، بعضهم من بعض وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق. قال: وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت به الرواية من أن اللّه تعالى قال للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، لأن الأرواح هي التي تعقل وتفهم، ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم، قال الجرجاني:

و احتجوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾[3:169] والأجساد قد بليت [و اضمحلت] [2] في الأرض والأرواح ترزق وتفرح، وهي التي تلد وتألم وتفرح وتحزن وتعرف وتنكر، وبيان ذلك في الأحلام موجود، وأن الإنسان يصبح وأثر لذة الفرح وألم الحزن باق في نفسه مما تلاقي الروح دون الجسد، قال: وحاصل الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم، وبالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحدا منهم من الطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة وركب فيهم من القدرة وآتاهم من الأدلة. وبين سبحانه ما هو عامل في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنا علم ما قدره في غير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجوز في حكمه، وحكيم لا تفاوت في صنعه، وقادر لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك اللّه رب العالمين.

هامش

زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.

وردت في المطبوع: وصلت.

=======

فصل معنى الآية: وإذا أخذ ربك ...

ونازع هؤلاء غيرهم في معنى الآية، وقالوا: معنى قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] أي أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم بما أظهر لهم آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم، فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما يشهد على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه. فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع ﴿شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ﴾[9:17] يزيدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا نحن كفرة، وكما تقول: قد شهدت جوارحي بقولك تريد قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا أعلامه وتبينه أيضا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾[3:18] يريد أعلم وبين، فأشبه ذلك شهادة من شهد عن الحكام وغيرهم. هذا كلام ابن الأنباري.

و زاد الجرجاني بيانا لهذا القول فقال حاكيا عن أصحابه: إن اللّه لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن وما لم يكن بعد مما هو كائن، كالكائن إذ علمه بكونه مانع من غير كونه شائع في مجاز العربية أن يوضع ما هو منتظر بعد مما يقع بعد موقع الواقع لسبق علمه بوقوعه، كما قال عز وجل في موضع من القرآن كقوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾[7:50] ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ﴾[7:48] وقال: فيكون تأويل قوله ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾[7:172] وإذ يأخذ ربك، وكذلك قوله ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ﴾[7:172] أي ويشهدهم بما ركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب، وكل من ولد بلغ الحنث وعقل الضر والنفع، وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب، صار كأن اللّه تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل وأراه من الآيات والدلائل على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد له من خالق هو غيره ليس كمثله، وليس من مخلوق يبلغ هذا المبلغ ولم يقدح فيه مانع من فهم إلا إذا مرّ به أمر يفزع إلى اللّه عز وجل حين يرفع رأسه إلى السماء ويشير إليها بإصبعه علما منه بأن خالقه تعالى فوقه. وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤديا إلى معرفة ما ذكرنا ودالا عليه، فكل من بلغ هذا المبلغ فقد أخذ عليه العهد والميثاق، وجائز أن يقال: أقر وأذعن وأسلم، كما قال اللّه عز وجل ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[13:15].

قال: واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه»، وقوله عز وجل ﴿﴿1﴾﴾[33:72] ثم قال تعالى ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾[33:72]. فالأمانة هاهنا عهد وميثاق، فامتناع السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحمل الإنسان إياها لمكان العقل فيه، قال: وللعرب فيها ضروب نظم، فمنها قوله:

ضمن القنان لفقعس بثباتها ... إن القنان لفقعس لا يأتلى

والقنان جبل [1]، فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانه له أنهم كانوا إذا [حل] [2] بهم أمر من هزيمة أو خوف لجئوا إليه، فجعل ذلك كالضمان لهم، منه قول النابغة:

كأجارف الجولان [3] هلل ربه ... وحوارن [4] منها خاشع متضائل

وأجارف الجولان جبالها وحوران الأرض التي إلى جانبها، وقال هذا القائل: إن في قوله تعالى: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾[7:172]﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] دليلا على هذا التأويل، لأنه عز وجل أعلم أن هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. والغفلة هاهنا لا تخلوا من أحد وجهين: إما أن تكون عن يوم القيامة أو عن أخذ الميثاق، فأما يوم القيامة فلم يذكر سبحانه في كتابه أنه أخذ عليهم عهدا وميثاقا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكر معرفته فقط، وأما أخذ الميثاق الأطفال والإسقاط، إن كان هذا العهد مأخوذا عليهم كما قال المخالف فهم لم يبلغوا بعد أخذ هذا الميثاق عليهم مبلغا يكون منهم غفلة عنه فيجحدونه وينكرونه، فمتى تكون هذه الغفلة منهم وهو عز وجل لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكر ما لا يجوز ولا يكون محال. وقوله تعالى ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخذون به أن يكون منهم أنفسهم أو من آبائهم، فإن كان منهم فلا يجوز أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثبوت الجحد عليهم، إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره، وإن كان من غيرهم فالأمة مجمعة على أن ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾[35:18] كما قال عز وجل في الكتاب وليس هذا بمخالف لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أن اللّه مسح ظهر آدم وأخرج منه ذريته فأخذ عليهم العهد، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اقتص قول اللّه عز وجل فجاء مثل نظمه فوضع الماضي من اللفظ موضع المستقبل. قال: وهذا شبيه القصة بقصة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾[3:81]، فجعل سبحانه ما أنزل على الأنبياء من الكتاب والحكمة من ميثاقا أخذه من أممهم بعدهم يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾[3:81]، ثم قال للأمم ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾[3:81] فجعل سبحانه بلوغ الأمم كتابه المنزل على أنبيائهم حجة عليهم كأخذ الميثاق عليهم وجعل معرفتهم به إقرارا منهم.

قلت: وشبيه به أيضا قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾[5:7] فهذا ميثاقه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله إليهم بالإيمان به وتصديقه، ونظيره قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [13:20] وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ۝60وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ۝61﴾ [36:60—61] فهذا عهده إليهم على ألسنة رسله، ومثله قوله تعالى لبني إسرائيل ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾[2:40] ومثله ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾[3:187] وقوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [33:7]، فهذا ميثاق أخذه منهم بعد بعثهم كما أخذ من أممهم بعد إنذارهم، وهذا الميثاق الذي لعن سبحانه من نقضه، وعقبه بقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾[5:13] فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاق الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله، وقد صرح به في قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [2:63] ولما كانت هذه الآية ونظيرها في سورة مدنية، خاطب بالتذكير بهذا الميثاق فيها أهل الكتاب، فإنه ميثاق أخذه عليهم بالإيمان به وبرسله، ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة، وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلا بد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأن فاطرهم ربهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم، وأمره ونهيه ووعده ووعيده.

و نظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة:

أحدها: أنه قال ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾[7:172] ولم يقل آدم، وبنو آدم غير آدم.

الثاني: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|مِنْ ظُهُورِهِمْ}} ولم يقل ظهر، وهذا بدل بعض من كل أو بدل اشتمال، وهو أحسن.

الثالث: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|ذُرِّيَّتَهُمْ}} ولم يقل ذريته.

الرابع: أنه قال {قرآن|س=7|آ=172|وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}} أي جعلهم شاهدين على أنفسهم، فلا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار لا يذكر شهادة قبلها.

الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ «4» والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُ﴾[4:165].

السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة {قرآن|س=7|آ=172|إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}} ومعلوم أنهم بالإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت فهذا لا يذكره أحد منهم.

السابع: قوله تعالى أَوْ تَقُولُوا ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد إحداهما أن لا يدعو الغفلة، والثانية أن لا يدعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد [يتبع] [5] في تقليده [غيره] [6].

الثامن: قوله تعالى: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[7:173] أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه. وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الأعذار والإنذار.

التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [43:87] أي: فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أن اللّه ربهم وخالقهم؛ وهذا كثير في القرآن فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقوله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[14:10] فاللّه تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم ولا أقام به عليهم حجة.

العاشر: أنه جعل هذا آية: وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾[6:55] أي مثل هذا التفصيل والتبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان.

و هذه الآيات التي فصّلها هي التي بينها في كتابه من أنواع مخلوقاته، وهي آيات أفقية ونفسية [و هي] [7] آيات في نفوسهم وذواتهم، وآيات في الأقطار والنواحي مما يحدثه الرب تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدق رسله، وعلى المعاد والقيامة. ومن أبينها ما أشهد به كل واحد على نفسه من أنه ربه وخالقه ومبدعه، وأنه مربوب مخلوق مصنوع حادث بعد أن لم يكن، ومحال أن يكون حدث بلا محدث، أو يكون هو المحدث لنفسه، فلا بد له من موجد أوجده، ليس كمثله شيء.

و هذا الإقرار والمشاهدة فطرة فطروا عليها، ليست بمكتسبة، وهذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] مطابقة لقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» [8] ولقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [30:30]﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾[30:31].

و من المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري، ومنهم من لم يذكر إلا القول الأول فقط، ومنهم من حكى القولين كابن الجوزي والواحدي والماوردي وغيرهم.

و قال الحسن بن يحيى الجرجاني: فاعترض معترض في هذا الفصل بحديث يروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن اللّه مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ثم ردهم في ظهره»، وقال: إن هذا مانع من جواز التأويل ذهبت إليه لامتناع ردهم في الظهر إن كان أخذ الميثاق عليهم بعد البلوغ وتمام العقل، قيل له: إن معنى ثم ردهم في ظهره ثم يردهم في ظهره كما قلنا إن معنى أخذ ربك: يأخذ ربك، فيكون معناه: ثم يردهم في ظهره بوفاتهم، لأنهم إذا ماتوا ردوا إلى الأرض للدفن، آدم خلق منها ردوا فيها، فإذا ردوا فيها فقد ردوا في آدم وفي ظهره، إذ كان آدم خلق منها وفيها رد، وبعض الشيء من الشيء، وفيما ذهبتم إليه من تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوت بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى إلا أن يرد تأويله إلى ما ذكرناه لأنه عز وجل قال:

﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] ولم يذكر آدم في الفصل إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم أولاده، وفي الحديث: أنه «مسح ظهر آدم»، فلا يمكن رد ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتفاق إلا بالتأويل الذي ذكرناه.

قال الجرجاني: وأنا أقول: ونحن [نذهب] [9] إلى ما روي في الآية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما ذهب إليه أهل العلم من السلف الصالح أمثل، وله أقبل وبه آنس، واللّه ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى.

على أن بعض أصحابنا من أهل السنّة قد ذكر في الرد على هذا القائل معنى يحتمل ويسوغ في النظم الجاري ومجاز العربية بسهولة، وإمكان من غير تعسف ولا استكراه، وهو أن يكون قوله تعالى: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مبتدأ خبر من اللّه عز وجل عما كان منه في أخذ العهد عليهم، وإذ تقتضي جوابا يجعل جوابه قوله تعالى: قالُوا بَلى وانقطع هذا الخبر بتمام قصته، ثم ابتدأ عز وجل خبرا آخر يذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة، فقالوا: شهدنا، يعني نشهد، كما قال الحطيئة:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر

بمعنى يشهد الحطيئة، يقول تعالى: نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أي عما هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر، ثم أضاف خبرا آخر فقال: أَوْ تَقُولُوا بمعنى وأن تقولوا، لأن أو بمعنى واو النسق، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾[76:24] فتأويله: ونشهد أن تقولوا يوم القيامة: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾[7:173] أي أنهم أشركوا وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا فجرينا على مذاهبهم واقتدينا بهم، فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم، قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[43:22] يدل على ذلك قولهم: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[7:173] أي حملهم إيانا على الشرك، فتكون القصة الأولى خبرا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبر عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار.

و قال: فيما ادعاه المخالف أنه تفاوت فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولا يجب قبوله بالنظائر والعبر التي تأيد بها لمخالفته، فقال: إن الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن اللّه مسح ظهر آدم، أفاد زيادة خبر كان في القصة التي ذكر اللّه تعالى في الكتاب بعضها ولم يذكر كلها ولو أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم به سوى هذه الزيادة التي أخبر بها مما عسى أن يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أخذ فيه العهد مما يضمنه اللّه كتابه لما كان في ذلك خلاف ولا تفاوت بل كان زيادة في الفائدة.

و كذلك الألفاظ إذا اختلف في ذاتها وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب تناقضا كما قال عز وجل في كتابه في خلق آدم فذكر مرة أنه خلق من تراب ومرة أنه خلق من حمأ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها أيضا في الأحوال مختلفة إذ الصلصال غير الحمأ، والحمأة غير التراب إلا أن مرجعها كلها في الأصل إلى جوهر واحد وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[7:172] وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته معنى واحد في الأصل إلا أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح ظهر آدم زيادة في الخبر عن اللّه عز وجل ومسحه عز وجل ظهر آدم واستخراج ذريته منه مسح لظهور ذريته واستخراج ذريتهم من ظهورهم كما ذكر تعالى لأنا قد علمنا أن جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه لكن لما كان الطبق الأول من صلبه ثم الثاني من صلب الأول ثم الثالث من صلب الثاني جاز أن ينسب ذلك كله إلى ظهر آدم لأنهم فرعه وهو أصلهم.

و كما جاز أن يكون ما ذكر اللّه عز وجل أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم جاز أن يكون ما ذكر صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه استخرجه من ظهر آدم من ذريته إذ الأصل والفرع شيء واحد، وفيه أيضا أنه عز وجل لما أضاف الذرية إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية وعن آدم كما قال عز وجل:

﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِي﴾[26:4] والخبر في الظاهر عن الأعناق والنعت للأسماء المكنية فيها وهو مضاف إليها، كما كان آدم مضافا إليه هناك، وليسا جميعا بالمقصودين في الظاهر بالخير، ولا يحتمل أن يكون قوله خاضعين للأعناق، لأن وجه جمعها خاضعات ومنه قول الشاعر:

وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم

فالصدر مذكر، وقوله شرقت أنت لإضافة الصدر إلى القناة.

هامش

ساقطة في المطبوع.

قيل هو جبل لبني أسد، وقيل أنه جبل بأعلى نجد.

وردت في المطبوع: حاز.

جبل بالشام.

موضع بالشام.

زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.

وردت في المطبوع: لغيره.

زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.

أخرجه أبو داود في كتاب السنّة باب في ذراري المشركين (5/ 86) برقم 4714 وتمام الحديث:

«فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء»؟ قالوا: يا رسول اللّه، أ فرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: «اللهم أعلم بما كانوا عاملين»، وأخرج هذا الحديث بمعناه من حديث أبي سلمة بن عبد اللّه عن أبي هريرة البخاري في كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي الخ، وفي القدر باب اللّه أعلم بما كانوا يعملون (8/ 153) وفي كتاب التفسير باب تفسير سورة الروم (6/ 143)، وأخرجه مسلم في كتاب القدر باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة برقم 2658، وأخرجه الترمذي مختصرا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة في كتاب القدر باب كل مولود يولد على الفطرة برقم 2139.

============

فصل الخلق ثم التصوير

فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية، وعلى تقدير فلا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم إن صح الخبر بذلك، والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.

و أما استدلال أبي محمد بن حزم بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾[7:11] فما أليق هذا الاستدلال بظاهريته لترتيب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا والخطاب للجملة المركبة من البدن والروح وذلك متأخر عن خلق آدم ولهذا قال ابن عباس ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾[7:11] يعني آدم ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾[7:11] لذريته. ومثال هذا ما قاله مجاهد ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾[7:11] يعني آدم و{قرآن|س=7|آ=11|صَوَّرْنَاكُمْ}} في ظهور آدم وإنما قال﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾[7:11] بلفظ الجمع وهو يريد آدم كما تقول: ضربناكم، وإنما ضربت سيدهم.

و اختار أبو عبيد في هذه الآية قول مجاهد لقوله تعالى بعد: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾[7:11] وكان قوله تعالى للملائكة اسجدوا قبل خلق ذرية آدم وتصويرهم في الأرحام، وثم توجب التراخي والترتيب فمن جعل الخلق والتصوير في هذه الآية لأولاد آدم في الأرحام يكون قد راعى حكم ثم في الترتيب إلا أن يأخذ بقول الأخفش فإنه يقول: ثم هاهنا في معنى الواو.

قال الزجاج: وهذا خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه، قال أبو عبيد: وقد بينه مجاهد حين قال: إن اللّه تعالى خلق ولد آدم وصورهم في ظهره ثم أمر بعد ذلك بالسجود. قال: وهذا بين في الحديث، وهو أخرجهم من ظهره في صور النذر.

قلت: والقرآن يفسر بعضه بعضا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾[22:5] فأوقع الخلق من تراب عليهم وهو لأبيهم آدم إذ هو أصلهم واللّه سبحانه يخاطب الموجودين، والمراد آباؤهم كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [2:55] وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾[2:61] الآية وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾[2:72] وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾[2:63] وهو كثير في القرآن يخاطبهم والمراد به آباؤهم فهكذا قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾[7:11].

و قد يستطرد سبحانه من ذكر الشخص إلى ذكر النوع كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ۝12ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ۝13﴾ [23:12—13] فالمخلوق من سلالة من طين آدم والمجعول نطفة في قرار مكين ذريته.

و أما حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فلا يصح إسناده، ففيه عتبة بن السكن. قال الدارقطني: متروك. وأرطاة بن المنذر، قال ابن عدي:

بعض أحاديث غلط.

=============

فصل الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان

وأما الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق أبدانها فمن وجوه:

أحدها: أن خلق أبي البشر وأصلهم كان هكذا، فإن اللّه سبحانه أرسل جبريل فقبض قبضة من الأرض ثم خمرها حتى صارت طينا، ثم صوره، ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوره، فلما دخلت الروح فيه صار لحما ودما حيا ناطقا.

ففي تفسير أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما فرغ اللّه عز وجل من خلق ما أحب، استوى على العرش، فجعل إبليس ملكا على سماء الدنيا، وكان من الخزان قبله من ملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان أهل الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلا لمزية لي.

و في لفظ لمزية لي على الملائكة، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[2:30] قالوا ربنا وما يكون حال الخليفة، وما يصنعون في الأرض؟ قال اللّه: تكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعهم بعضا، قالوا: ربنا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[2:30] يعني من شأن إبليس، فجعل جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقال الأرض:

إني أعوذ باللّه منك أن تقبض مني، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فبعث ملك الموت. فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، فأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء. ولذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به قبل الرب عز وجل حتى عاد طينا لازبا، واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾[38:71]﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [38:72]، لخلقه اللّه بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه، فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: ﴿مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾[55:14] ويقول: لأمر ما خلقت! ودخل من فيه فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته، فلما بلغ الحين الذي يريد اللّه جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد للّه، فقال:

الحمد للّه، فقال له اللّه: يرحمك ربك.

فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، وقبل أن يبلغ الروح رجليه نهض عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾[21:37] وذكر باقي الحديث.

قال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب، حدثنا ابن زيد قال: لما خلق اللّه النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا وقالوا: ربما لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي.

ولم يكن للّه يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك، وقرأ قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [76:1] قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه ليت ذلك الحين، ثم قال:

و قالت الملائكة: ويأتي علينا دهر نعصيك فيه؟ لا يرون له خلقا غيرهم، قال: لا! إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة. وذكر الحديث.

قال ابن إسحاق: فيقال واللّه أعلم: خلق اللّه آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار ولم تمسه نار، فيقال واللّه أعلم: لما انتهى الروح إلى رأسه عطس فقال: الحمد للّه ...

و ذكر الحديث.

و القرآن والحديث والآثار تدل على أنه سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خلق جسده، فمن تلك النفخة حدثت فيه الروح، ولو كانت روحه مخلوقة قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لما عجبت الملائكة من خلقه، ولما تعجبت من خلق النار، وقالت: لأي شيء خلقتها؟ وهي ترى أرواح بني آدم فيهم المؤمن والكافر والطيب والخبيث.

و لما كانت أرواح الكفار كلها تبعا لإبليس، بل كانت الأرواح الكافرة مخلوقة قبل كفره، فإن اللّه سبحانه إنما حكم عليه بالكفر بعد خلق بدن آدم وروحه، ولم يكن قبل ذلك كافرا، فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة وهو لم يكن كافرا إذ ذاك؟ وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه، فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره، إلا أن يقال: كانت كلها مؤمنة ثم ارتدت بسببه، والذي احتجوا به على تقديم خلق الأرواح يخالف ذلك.

و في حديث أبي هريرة في تخليق العالم الأخبار عن خلق أجناس العالم تأخر خلق آدم إلى يوم الجمعة، ولو كانت الأرواح مخلوقة قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام، فلما لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام علم أن خلقها تابع لخلق الذرية، وأن خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة، وأما خلق ذريته فعلى الوجه المشاهد المعاين.

و لو كان للروح وجود قبل البدن وهي حية عالمة ناطقة لكانت ذاكرة لذلك في هذا العالم شاعرة به ولو بوجه ما.

و من الممتنع أن تكون حية عالمة ناطقة عارفة بربها، وهي بين ملأ من الأرواح، ثم تنتقل إلى هذا البدن ولا تشعر بحالها قبل ذلك بوجه ما.

و إذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل وتعلم ما كانت عليه هاهنا مع أنها اكتسبت بالبدن أمورا عاقتها عن كثير من كمالها، فلأن تشعر بحالها الأول وهي غير معوقة هناك بطريق الأولى، إلا أن يقال: تعلقها بالبدن واشتغالها بتدبيره منعها من شعورها بحالها الأول.

فيقال: هب أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال فهل يمنعها عن أدنى شعور بوجه ما مما كانت عليه قبل تعلقها بالبدن، ومعلوم أن تعلقها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن، فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك.

و أيضا فإنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت عالمية حية ناطقة عاقلة، فلما تعلقت بالبدن سلبت ذلك كله، ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئا فشيئا، وهذا لو كان لكان أعجب الأمور أن تكون الروح كاملة عاقلة ثم تعود ناقصة ضعيفة جاهلة، ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها، فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدل على هذا؟ وقد قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [16:78] فهذه الحال التي أخرجنا عليها هي حالنا الأصلية، والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارئ علينا، حادث فينا بعد أن لم يكن، ولم نكن نعلم قبل ذلك شيئا البتة، إذ لم يكن لنا وجود نعلم ونعقل به.

و أيضا فلو كانت مخلوقة قبل الأجساد وهي على ما هي الآن من طيب وخبث وكفر وإيمان وخير وشر لكان ذلك ثابتا لها قبل الأعمال، وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سعت في طلبها واستعانت عليها بالبدن فلم تكن لتتصف بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عملت تلك الأعمال. وإن كان قدر لها قبل إيجادها ذلك ثم خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها فنحن لا ننكر الكتاب والقدر السابق لها من اللّه، ولو دل دليل على أنها خلقت جملة ثم أودعت في مكان حية عالمة ناطقة ثم كل وقت تبرز إلى أبدانها شيئا فشيئا لكنا أول قائل به.

فاللّه سبحانه على كل شيء قدير ولكن لا نخبر عنه خلقا وأمرا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ومعلوم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يخبر عنه بذلك، وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح: «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» [1] فالملك وحده يرسل إليه، فينفخ فيه، فإذا نفخ فيه كان ذلك سبب حدوث الروح فيه، ولم يقل:

يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه، وإنما أرسل إليه الملك فأحدث فيه الروح بنفخته فيه، لا أن اللّه سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمان الطويل مع الملك، ففرق بين أن يرسل إليه الملك لينفخ فيه الروح، وبين أن يرسل إليه روح مخلوقة قائمة بنفسها مع الملك، وتأمل ما دل عليه النص من هذين المعنيين وباللّه التوفيق.

هامش

أخرجه البخاري في الأنبياء، وفي كتاب التوحيد باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (8/ 188) عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات: فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».

و أخرجه مسلم في كتاب القدر باب كيفية كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (8/ 44) عن زيد بن وهب عن عبد اللّه قال: حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالدي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فنعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل أهل الجنة فيدخلها.

و أخرجه الترمذي في كتاب القدر باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم (4/ 388) برقم 2137 - وبلفظ مقارب للفظ مسلم.

==============

المسألة التاسعة عشرة (حقيقة النفس)

و هي: ما حقيقة النفس: هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟

و هل الأمّارة واللوّامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات، أم هي ثلاث أنفس.

فالجواب: إن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف، واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم، وهدى اللّه أتباع الرسول وأهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال، ونذكر الصواب بحمد اللّه وعونه:

قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: «اختلف الناس في الروح والحياة هل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل الروح جسم أم لا؟ فقال النظام: الروح هي جسم وهي النفس، وزعم أن الروح حي بنفسه، وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي. وقال آخرون: الروح عرض.

و قال قائلون منهم جعفر بن حرب: لا ندري الروح جوهر أو عرض، واعتلوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[17:85] ولم يخبر عنها ما هي؟ لا أنها جوهر ولا عرض- قال:- وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح وأثبت أن الحياة عرضا.

و كان الجبائي [1] يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة، والحياة عرض، ويعتل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان، وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.

و قال قائلون: ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع، ولم يرجعوا عن قولهم إلا إلى المعتدل، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

و قال قائلون: إن للروح مغنى خامس غير الطبائع الأربع، وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع واختلفوا في الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا.

و قال قائلون: الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وكذلك قالوا في القوة.

و قال قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية، وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح.

و كان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد، ويقول: ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده، وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشي ء لا على أنها معنى غير البدن.

و ذكر عن أرسطاطاليس [2]: أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون وأنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير [3].

و قال آخرون: بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض و العمق، وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية (و هذا قول طائفة من الثنوية [4] يقال لهم المثانية).

و قالت طائفة: إن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى الحدود والنهايات، إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان (و هؤلاء الديصانية) [5] وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى [بين] [6] الجوهر والجسم.

و قال آخرون: النفس معنى غير الروح، والروح غير الحياة، والحياة عنده عرض (و هو أبو الهذيل)، وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[39:42].

و قال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما، وأنها غير موصوفة بشي ء من صفات الجواهر والأجسام، هذا ما حكاه الأشعري.

و قالت طائفة: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، قالوا: والروح عرض وهو الحياة فقط، وهو غير النفس، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الباقلاني ومن أتبعه من الأشعرية.

و قالت طائفة: ليست النفس جسما ولا عرضا، وليست النفس في مكان، ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض، ولا هي في العالم ولا خارجه، ولا بجانبه ولا مباينة [له] [7]. وهذا قول المشائين، وهو الذي حكاه الأشعري عن أرسطاطاليس، وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاوزة ولا بالمساكنة ولا بالتصاق ولا بالمقابلة، وإنما هو التدبير له فقط، واختار هذا المذهب البوسنجي، ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه، وهو أردأ المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب.

قال أبو محمد بن حزم: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان، جثة متحيزة مصرفة للجسد، قال: وبهذا نقول، قال: والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد.

و قد ضبط أبو عبد اللّه بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال: ما يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا، إما أن يكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عارضا ساريا فيه، أما القسم الأول: وهو أنه جسم، فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن، وإما أن يكون خارجا عنه [أما القسم الثاني: وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن] [8]، أما القسم الثالث: وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد، وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين.

قلت: هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين، وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة، ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة، والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنّة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره، وهو الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان: هو هذا البدن المخصوص فقط، وليس وراءه شي ء هو أبطل من الأقوال في المسألة، بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه، بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.

فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان. هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه.

قال الرازي: وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن، فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه:

الأول: أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن.

و الثاني: أنه الدم.

و الثالث: أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء.

الرابع: أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر.

الخامس: أنه جزء لا يتجزأ في القلب.

السادس: أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم ثوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.

و إذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح والبدن وانفصل إلى عالم الأرواح.

و هذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد.

الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] ففي الآية ثلاثة أدلة الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها.

الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾[6:93] إلى قوله تعالى:

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[6:94].

و فيها أربعة أدلة:

أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها.

الثاني: وصفها بالإخراج والخروج.

الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم.

الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، فهذه سبعة أدلة.

الثامن: قوله تعالى: و﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾[6:60] إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾[6:61] وفيها ثلاثة أدلة:

أحدها: الإخبار بتوفي الأنفس بالليل.

الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.

الثالث: توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة:

الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:27—30] وفيها ثلاثة أدلة:

أحدها: وصفها بالرجوع.

الثاني: وصفها بالدخول.

الثالث: وصفها بالرضا.

و اختلف السلف: هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين؟ على ثلاثة أقوال، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأبي بكر الصديق: «إما أن الملك سيقولها لك عند الموت». قال زيد بن أسلم: بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث. وقال أبو صالح: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [89:28] هذا عند الموت ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:29—30] قال: هذا يوم القيامة. فهذه أربعة عشر دليلا.

الخامس عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر». ففيه دليلان:

أحدهما: وصفه بأنه يقبض.

و الثاني: أن البصر يراه.

السابع عشر: ما رواه النسائي: حدثنا أبو داود عن عفان بن حماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال: «إن الروح ليلقى الروح» فأقنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هكذا. قال عفان برأسه إلى حلقه. فوضع جبهته على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام، وقد تقدم قول ابن عباس: تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى.

الثامن عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث بلال: «إن اللّه قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء». ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد.

العشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» وفيه دليلان:

أحدهما: كونها طائرا.

الثاني: تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين.

الثاني والعشرون: قوله: «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شي ء تريدون»؟ الحديث وقد تقدم فيه ستة أدلة:

أحدها: كونها مودعة في جوف طير.

الثاني: أنها تسرح في الجنة.

الثالث: أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها.

الرابع: أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها.

الخامس: أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته.

السادس: أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع.

فإن قيل: هذا كله صفة الطير لا صفة الروح. قيل: بل الروح مودعة في الطير قصدا، وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر، وهي قوله: «أرواح الشهداء كطير» ينفي السؤال بالكلية.

التاسع والعشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث طلحة بن عبيد اللّه: أردت مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمرو بن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذاك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت». وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم:

أحدها: جعلها في القناديل.

الثاني: انتقالها من حيز إلى حيز.

الثالث: تكلمها وقراءتها في القبر.

الرابع: وصفها بأنها في مكان.

الثالث والثلاثون: حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا:

أحدها: قول ملك الموت لنفسه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28﴾ [89:27—28] وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل.

الثاني: قوله: اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان.

الثالث: قوله: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء.

الرابع: قوله: فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه.

الخامس: قوله: حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط، فأخبر أنها تكفن وتحنط.

السادس: ثم يصعد بروحه إلى السماء.

السابع: قوله: ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت.

الثامن: قوله: فتفتح له أبواب السماء.

التاسع: قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى.

العاشر: قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض.

الحادي عشر: قوله فترد روحه إلى جسده.

الثاني عشر: قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب.

الثالث عشر: قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض.

الرابع عشر: قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوي إلى الأرض.

الخامس عشر: قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ وما هذا الروح الخبيث؟

السادس عشر: قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فإن كان هذا للروح فظاهر، وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء.

السابع عشر: فإذا صعد بروحه قيل: أي رب عبدك فلان.

الثامن عشر: قوله: ارجعوه فأروه ما ذا أعددت له من الكرامة. فيرى مقعده من الجنة والنار.

التاسع عشر: قوله في الحديث: «إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض» فالملائكة تصلي على روحه وبني آدم يصلون على جسده.

العشرون: قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح.

هامش

ساقطة من المطبوع، واستكملت من قول الرازي الذي سيرد في الصفحة التالية.

وهو من المعتزلة.

هو أرسطاطاليس بن نيقوماخوس الفيلسوف اليوناني من أهل أسطاغيرا، وهو المقدم المشهور والمعلم الأول والحكيم المطلق عند اليونان. ولد في السنة الأولى من ملك أزدشير بن دارا، فلما بلغ سبعة عشر سنة من عمره أسلمه أبوه إلى أفلاطون ليعلمه، فمكث عنده نيفا وعشرين سنة.

واعتبر أرسطاطاليس أن النفس الإنسانية ليست بجسم ولا قوة في جسم واستدل على ذلك باستدلالات عدة (انظر الملل والمحل 3/ 56).

يقولون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين يقولون بحدوث الظلام وتساويهما في القدم واختلافها في الجوهر والطبع والفعل والخير والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.

نسبة إلى ديصان، وهؤلاء قالوا أن هناك أصلين: النور ويفعل الخير قصدا واختيارا، والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شر ونتن وقيح فمن الظلام. وهؤلاء أعطوا للنور صفة الحي القادر العالم الحساس المدرك، وقالوا أن الحركة والحياة والظلام تكون منه، وقالوا أن النور جنس واحد كما الظلام جنس واحد. ولهم أقوال كثيرة في هذا (انظر الملل والنحل 2/ 88).

وردت في المطبوع: باين.

زيدت على المطبوع لسياق العبارة.

=================

فصل نفس المؤمن ونفس الكافر

الرابع والخمسون: حديث أبي موسى تخرج نفس المؤمن من أطيب من ريح المسك فتنطلق بها الملائكة الذين يتوفونه فتلقاهم ملائكة من دون السماء فيقولون: هذا فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت. بمحاسن عمله، فيقولون:

مرحبا بكم وبه، فيقبضونها فيصعد به من الباب الذي كان يصعد منه عمله، فيشرق في السموات وهو كبرهان الشمس حتى ينتهي بها إلى العرش، وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان كان يعمل كيت وكيت، لمساوئ أعماله. فيقولون: لا مرحبا، ردوه، فيرد إلى أسفل الأرضين إلى الثرى. ففيه عشرة أدلة:

أحدها: خروج نفسه.

الثاني: طيب ريحها.

الثالث: انطلاق الملائكة بها.

الرابع: تحية الملائكة لها.

الخامس: قبضهم لها.

السادس: صعودهم بها.

السابع: إشراق السموات لضوئها.

الثامن: انتهاؤها إلى العرش.

التاسع: قول الملائكة: من هذا؟ وهذا سؤال عن عين وذات قائمة بنفسها.

العاشر: قوله ردوه إلى أسفل الأرضين.

===================

فصل خروج نفس المؤمن

الرابع والستون: حديث أبي هريرة: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاه ملكان فيصعدانه إلى السماء، فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللّه عليك وعلى جسد كنت تعمرينه- وذكر المسك- ثم يصعد به إلى ربه عز وجل، فيقول: ردوه إلى آخر الأجلين» ففيه ستة أدلة:

أحدها: تلقاه ملكان.

الثاني: قوله فيصعدانه إلى السماء.

الثالث: قول الملائكة روح طيبة جاءت من قبل الأرض.

الرابع: صلاتهم عليها.

الخامس: طيب ريحها.

السادس: الصعود بها إلى اللّه عز وجل.

=====

فصل حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن

الحادي والسبعون: حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه: «أن المؤمن تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، فيعرج بها حتى ينتهي بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قال أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها حتى تخرج، فينتهي بها إلى السماء فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان بن فلان فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل إلى الأرض فتصير إلى القبر». وهو حديث صحيح وفيه عشرة أدلة:

أحدها: قوله كانت في الجسد الطيب وكانت في الجسد الخبث. فها هنا حال ومحل.

الثاني: قوله أخرجي حميدة.

الثالث: قوله وأبشري بروح وريحان، فهذا بشارة بما تصير إليه بعد خروجها.

الرابع: قوله فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء.

الخامس: قوله فيستفتح لها.

السادس: قوله ادخلي حميدة.

السابع: قوله حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى.

الثامن: قوله لنفس الفاجر ارجعي ذميمة.

التاسع: فإنه لا تفتح لك أبواب السماء.

العاشر: قوله: فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر.

=====

فصل الأرواح جنود مجندة

الحادي والثمانون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». فوصفها بأنها جنود مجندة، والجنود ذوات قائمة بنفسها ووصفها بالتعارف والتناكر، ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضا أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا بعض لها ولا كل.

الثاني والثمانون: قوله في حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه [أن] [1] الأرواح تتلاقى وتتشام كما تشام الخيل. وقد تقدم.

الثالث والثمانون: قوله في حديث عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يومين وما رأى أحدهما صاحبه.

الرابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في خلق آدم، وأن الروح لما دخل في رأسه عطس فقال: الحمد للّه، فلما وصل الروح إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما وصل إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه، وأنها دخلت كارهة وتخرج كارهة.

الخامس والثمانون: الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النسيم وتمييز شقيهم من سعيدهم، وتفاوتهم حينئذ في الإشراق والظلمة، وأرواح الأنبياء فيهم مثل السرج. وقد تقدم.

السادس والثمانون: حديث تميم الداري أن روح المؤمن إذا صعد بها إلى اللّه خر ساجدا بين يديه، وأن الملائكة تتلقى الروح بالبشرى، وأن اللّه تعالى يقول لملك الموت انطلق بروح عبدي فضعه في مكان كذا وكذا. وقد تقدم.

السابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في مستقر الأرواح بعد الموت واختلاف الناس في ذلك، وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماع السلف على الروح مستقرا بعد الموت.

الثامن والثمانون: ما قد علم بالضرورة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جاء به وأخبر به الأمة أنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور رجعت كل روح إلى جسدها فدخلت فيه فانشقت الأرض عنه فقام من قبره.

و في حديث الصور أن إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة، فيجمعها جميعا فيعلقها في الصور، ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله: وعزتي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيأتي كل روح إلى جسده فيدخل، ويأمر اللّه الأرض فتنشق عنهم فيخرجون سراعا إلى ربهم ينسلون، مهطعين إلى الداعي، يسمعون المنادي من مكان قريب، فإذا هم قيام ينظرون.

و هذا معلوم بالضرورة أن الرسول أخبر به، وأن اللّه سبحانه لا ينشئ لهم أرواحا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا، بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر، أنشأ أبدانها نشأة أخرى ثم ردها إليها.

التاسع والثمانون: أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز وجل يوم القيامة. قال علي بن عبد العزيز: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.

قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب إنما كنت روحا منك جعلتني في هذا الجسد فلا ذنب لي، ويقول الجسد: يا رب كنت جسدا خلقتني ودخل فيه الروح مثل النار، فيه كنت أقوم، وبه كنت أقعد، وبه أذهب، وبه أجي ء لا ذنب لي. قال: فيقال: أنا أقضي بينكما، أخبراني عن أعمى ومقعد دخلا حائطا «1» فقال المقعد للأعمى: إني أرى ثمرا، فلو كانت لي رجلان لتناولت، فقال الأعمى: أنا أحملك على رقبتي، فحمله فتناول من الثمر فأكلا جميعا فعلى من الذنب؟ قالا: عليهما جميعا، فقال:

قضيتما على أنفسكما.

التسعون: الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر ونعيمه إلى يوم البعث، فمعلوم أن الجسد تلاشى واضمحل، وأن العذاب والنعيم المستمرين إلى يوم القيامة إنما هو على الروح.

الحادي والتسعون: أخبار الصادق والمصدوق صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح عن الشهداء أنهم لما سئلوا ما تريدون؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى. فهذا سؤال وجواب من ذات حية عالمة ناطقة تطلب الرد إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها، وهذه الأرواح سئلت، وهي تسرح في الجنة والأجساد قد مزقها البلى.

الثاني والتسعون: ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة رضوان اللّه عليهم أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين. وقد تقدم.

الثالث والتسعون: رؤية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأرواح الناس عن يمين آدم ويساره ليلة الإسراء. فرآها متحيزة بمكان معين.

الرابع والتسعون: رؤيته أرواح الأنبياء في السموات وسلامهم عليه وترحيبهم به كما أخبر به، وأما أبدانهم ففي الأرض.

الخامس والتسعون: رؤيته صلى اللّه عليه وآله وسلم أرواح الأطفال حول إبراهيم الخليل عليه السلام.

السادس والتسعون: رؤيته صلى اللّه عليه وآله وسلم أرواح المعذبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تلاشت أجسادهم واضمحلت، وإنما كان الذي رآه أرواحهم ونسمهم يفعل بها ذلك.

السابع والتسعون: إخباره سبحانه عن الذين قتلوا في سبيله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون مستبشرون بإخوانهم، وهذا للأرواح قطعا لأن الأبدان في التراب [تنتظر] [2] عود أرواحها إليها يوم البعث.

الثامن والتسعون: ما تقدم من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما، ونحن نسوقه ليتبين كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح، وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم، قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعدا تلا هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾[6:93] الآية ثم قال: والذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار، فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس، فينظر إليهم ما يرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا:

أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها. فلا يزالون يبشرونه فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل يموت الأول ويبرد كل عضو، الأول فالأول، ويهون عليهم، وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم، فيبتدرونها، كل ملك منهم أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [32:11] فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما من المرأة لولدها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحا طيبا ويتباشرون بها ويقولون: مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وصل على جسد خرجت منه.

قال: فيصعدون بها فتفوح لهم ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها، وتفتح لهم أبواب السماء، ويصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى تنتهي بين يدي الجبار جل جلاله، فيقول الجبار عز وجل: مرحبا بالنفس الطيبة، أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة، واعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي؟

إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه. فتأمل كم في الحديث من موضع يشهد ببطلان قول المبطلين في الروح.

التاسع والتسعون: ما ذكره عبد الرازق عن معمر بن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: إذا توفي المؤمن بعث إليه ملكان بريحان من الجنة وخرقة تقبض فيها، فتخرج كأطيب رائحة وجدها أحد قط بأنفه، حتى يؤتى به الرحمن جل جلاله، فتسجد الملائكة قبله، ويسجد بعدهم، ثم يدعى ميكائيل عليه السلام فيقال: اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة.

و قد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روح المؤمن تسجد بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت، وأما حين قدومها على اللّه فأحسن تحيتها أن تقول: اللهم أنت الحلام ومنك الحلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.

و حدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال: كانت لي خالة، وكانت من الصالحات العابدات، قال: عدتها في مرض موتها فقال لي: الروح إذا قدمت على اللّه ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له؟ قال فعظمت علي مسألتها، وفكرت فيها، ثم قلت: تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. قال: فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي: جزاك اللّه خيرا لقد دهشت، فما أدري ما أقوله، ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها.

هامش

وردت في المطبوع: على.

وردت في المطبوع: تنظر.

========

فصل روح النائم

المائة: ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء أرواح الموتى لهم و سؤالهم وإخبارهم إياهم بأمور خفيت عليهم فرأوها عيانا وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده.

و أعجب من هذا الوجه الحادي والمائة: أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عيانا وهي من تأثير الروح في الروح كما ذكر القيرواني في (كتاب البستان) عن بعض السلف.

قال: كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما، فتناولته وتناولني، فانصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين، فنمت وتركت العشاء، فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام، فقلت: يا رسول اللّه فلان يسب أصحابك! قال: من أصحابي؟ قلت: أبو بكر وعمر، فقال:

خذ هذه المدية فاذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته، ورأيت كأن يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها فانتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره، فقلت: ما هذا الصراخ؟ قالوا: فلان مات فجأة، فلما أصبحنا جئت فنظرت إليه، فإذا خط موضع الذبح.

و في كتاب المنامات لابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش قال: رأيت رجلا بالشام قد اسود نصف وجهه وهو يغطيه، فسألته عن ذلك؟ فقال: قد جعلت للّه علي أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرته به، كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي فقال لي:

أنت صاحب الوقيعة في؟ فضرب شق وجهي فأصبحت وشق وجهي أسود كما ترى.

و ذكر مسعدة عن هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة قالت: كنت عند عائشة رضي اللّه عنها فأتتها امرأة مشتملة على يدها، فجعل النساء يولعن بها، فقالت: ما أتيتك إلا من أجل يدي أبي كان رجلا سمحا، وإني رأيت في المنام حياضا عليها رجال معهم آنية يسقون من أتاهم، فرأيت أبي، قلت: أين أمي؟ فقال: انظري، فنظرت فإذا أمي ليس عليها إلا قطعة خرقة، فقال: إنها لم تتصدق قط إلا بتلك الخرقة وشحمة من بقرة ذبحوها، فتلك الشحمة تذاب وتطرف بها وهي تقول: وا عطشاه! قالت: فأخذت إناء من الآنية فسقيتها، فنوديت من فوقي: من سقاها أيبس اللّه يده فأصبحت يدي كما ترين.

و ذكر الحارث بن أسد المحاسبي وأصبغ وخلف بن القاسم وجماعة من سعيد بن مسلمة قال: بينما امرأة عند عائشة إذا قالت: بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على أن لا أشرك باللّه شيئا، ولا أسرق ولا أزني، ولا أقتل ولدي ولا آتي ببهتان أفتريه من بين يدي ورجلي، ولا أعصي في معروف، فوفيت لربي ووفى لي ربي، فو اللّه لا يعذبني اللّه فأتاها في المنام ملك فقال لها: كلا إنك تتبرجين، وزينتك تبدين، وخيرك تكندين [1]، وجارك تؤذين، وزوجك تعصين، ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها وقال: خمس بخمس ولو زدت زدناك، فأصبحت أثر الأصابع في وجهها.

و قال عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك: سمعت مالكا يقول: إن يعقوب بن عبد اللّه بن الأشج كان من خيار هذه الأمة، نام في اليوم الذي استشهد فيه فقال لأصحابه: إني قد رأيت أمرا ولأخبرته، إني رأيت كأني أدخلت الجنة، فسقيت لبنا فاستقاء فقاء اللبن، واستشهد بعد ذلك، قال أبو القاسم: وكان في غزوة البحر بموضع لا لبن فيه، وقد سمعت غير مالك يذكره ويذكر أنه معروف، فقال: إني رأيت كأني أدخل الجنة فسقيت فيها لبنا، فقال له بعض القوم: أقسمت عليك لما تقيأت، فقاء لبنا يصلد أي يبرق، وما في السفينة لبنا ولا شاة. قال ابن قتيبة: قوله يصلد أي يبرق، يقال: صلد اللبن يصلد، ومنه حديث عمر أن الطبيب سقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض يصلد.

و كان نافع القارئ إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك، فقيل له: كلما قعدت تتطيب فقال: ما أمس طيبا ولا أقربه، ولكن رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام وهو يقرأ في فمي، فمن ذلك الوقت يشم من في هذه الرائحة.

و ذكر مسعدة في كتابه في الرؤيا عن ربيع بن زيد الرقاشي قال: أتاني رجلان فقعدا إلي فاغتابا رجلا فنهيتهما، فأتاني أحدهما بعد فقال: إني رأيت في المنام كأن زنجيا أتاني بطبق عليه جنب خنزير لم أر قط أسمن منه، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟ فتهددني فأكلت، فأصبحت وقد تغير فمي، فلم يزل يجد الريح في فمه شهرين.

و كان العلاء بن زياد له وقت يقوم فيه، فقال لأهله تلك الليلة: إني أجد فترة، فإذا كان وقت كذا أيقظوني، فلم يفعلوا، قال: فأتاني آت في منامي فقال:

قم يا علاء بن زياد أذكر اللّه يذكرك، وأخذ شعرات في مقدم رأسي، فقامت تلك الشعرات في مقدم رأسي، فلم تزل قائمة حتى مات، قال يحيى بن بسطام: فلقد غسلناه يوم مات وإنهن لقيام في رأسه.

و ذكر ابن أبي الدنيا عن أبي حاتم الرازي عن محمد بن علي قال: كنا بمكة في المسجد الحرام قعودا، فقام رجل نصف وجهه أسود ونصفه أبيض فقال:

يا أيها الناس اعتبروا بي، فإني كنت أتناول الشيخين وأشتمها، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت فرفع يده فلطم وجهي وقال لي: يا عدو اللّه يا فاسق أ لست تسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما؟ فأصبحت وأنا على هذه الحالة.

و قال محمد بن عبد اللّه المهلبي: رأيت في المنام كأني في رحبة بني فلان، وإذا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جالس على أكمة ومعه أبو بكر، وعمر واقف قدامه، فقال له عمر: يا رسول اللّه إن هذا يشتمني ويشتم أبا بكر، فقال: جي ء به يا أبا حفص، فأتى برجل فإذا هو العماني وكان مشهورا بسبهما، فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أضجعه، فأضجعه، ثم قال: اذبحه، فذبحه، قال:

فما نبهني إلا صياحه، فقلت: ما لي أخبره؟ عسى أن يتوب، فلما تقربت من منزله سمعت بكاء شديدا، فقلت: ما هذا البكاء؟ فقالوا: العماني ذبح البارحة على سريره، قال: فدنوت من عنقه فإذا من أذنه إلى أذنه طريقة حمراء كالدم المحصور.

و قال القيرواني: أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل قال: أخبرني أبو الحسن المطلبي إمام مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: رأيت بالمدينة عجبا! كان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، فبينما نحن يوما من الأيام بعد صلاة الصبح، إذ أقبل رجل وقد خرجت عيناه وسالتا على خديه، فسألناه ما قصتك؟

فقال: رأيت البارحة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي بين يديه، ومعه أبو بكر وعمر، فقالا: يا رسول اللّه، هذا الذي يؤذينا ويسبنا! فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: من أمرك بهذا يا أبا قيس؟ فقلت له وأشرت عليه، فأقبل عليّ علي بوجهه ويده وقد ضم أصابعه وبسط السبابة والوسطى وقصد بها إلى عيني فقال: إن كنت كذبت، ففقأ اللّه عينيك وأدخل إصبعيه في عيني، فانتبهت من نومي وأنا على هذه الحال، فكان يبكي ويخبر الناس وأعلن التوبة.

قال القيرواني: وأخبرني شيخ من أهل الفضل، قال: أخبرني فقيه قال: كان عندنا رجل يكثر الصوم ويسرده، ولكنه كان يؤخر الفطر، فرأى في المنام كأن أسودين آخذين بضبعيه [2] وثيابه إلى تنور محمى ليلقيه فيه، قال: فقلت لهما:

على ما ذا؟ فقالا: على خلافك لسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإنه أمر بتعجيل الفطر وأنت تؤخره، قال: فأصبح وجهه قد اسود من وهج النار، فكان يمشي متبرقعا في الناس.

و أعجب من هذا الرجل يرى في المنام وهو شديد العطش والجوع والألم أن غيره قد سقاه وأطعمه أو داواه بدواء، فيستيقظ وقد زال عنه ذلك كله، وقد رأى الناس من هذا عجائب.

و قد ذكر مالك عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة أن جارية لها سحرتها، وأن سيدها دخل عليها وهي مريضة، فقال: إنك سحرت، قالت: ومن سحرني؟

قال: جارية في حجرها صبي قد بال عليها؟ قالت: نعم، قالت: وما دعاك إلى ذلك؟ قالت: أردت تعجيل العتق، فأمرت أخاها أن يبيعها من الأعراب ممن يسي ء ملكها، فباعها، ثم إن عائشة رأت في منامها أن اغتسلي من ثلاثة آبار يمد بعضها بعضا فاستسقى لها فاغتسلت فبرأت.

و كان سماك بن حرب قد ذهب بصره، فرأى إبراهيم الخليل في المنام فمسح على عينيه وقال: اذهب إلى الفرات فانغمس فيه ثلاثا. ففعل فأبصر.

و كان إسماعيل بن بلال الحضرمي قد عمي، فأتي في المنام، وقيل له: قل يا قريب يا مجيب يا سميع الدعاء يا لطيف بمن يشاء رد عليّ بصري، فقال الليث بن سعد: أنا رأيته قد عمي ثم أبصر.

و قال عبيد اللّه بن أبي جعفر: اشتكيت شكوى فجهدت منها، فكنت أقرأ آية الكرسي، فنمت، فإذا رجلان قائمان بين يدي، فقال أحدهما لصاحبه أن يقرأ آية فيها ثلاثمائة وستون رحمة أ فلا يصيب هذا المسكين فيها رحمة واحدة؟ فاستيقظت فوجدت خفة.

قال ابن أبي الدنيا: اعتلت امرأة من أهل الخير والصلاح بوجع المعدة فرأت في المنام قائلا يقول لها: لا إله إلا اللّه المغلي وشراب الورد. فشربته فأذهب اللّه عنها ما كانت تجد.

قال: وقالت أيضا: رأيت في المنام كأني أقول السناء [3] والعسل وماء الحمص الأسود شفاء لوجع الأوراك، فلما استيقظت أتتني امرأة تشكو وجعا بوركها فوصفت لها ذلك فاستنفعت به.

و قال جالينوس: السبب الذي دعاني إلى فصد العروق [4] والضوارب أني أمرت به في منامي مرتين، قال: كنت إذ ذاك غرما، قال: وأعرف إنسانا شفاه اللّه من وجع كان به في جنبه يفصد العرق الضارب لرؤيا رآها في منامه.

و قال ابن الخراز: كنت أعالج رجلا ممعودا [5] فغاب عني، ثم لقيته فسألته عن حاله؟ فقال: رأيت في المنام إنسانا في زي ناسك متوكئا على عصا وقف علي، وقال: أنت رجل ممعود؟ فقلت: نعم، فقال: عليك بالكباء والجلنجبين، فأصبحت فسألت عنهما فقيل لي: الكباء والمصطكى والجلجنبين والورد والمربى بالعسل، فاستعملتها أياما فبرأت، فقلت له: ذلك جالينوس.

و الوقائع في هذا الباب أكثر من أن تذكر. قال بعض الناس: إن أصل الطب من المنامات، ولا ريب أن كثيرا من أصوله مستند إلى الرؤيا، كما أن بعضها عن التجارب، وبعضها عن القياس، وبعضها عن إلهام، ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر في (تاريخ الأطباء) وفي كتاب (البستان) للقيرواني وغير ذلك.

هامش

أي تكفرين بالنعمة.

الضّبع: العضد، والجمد أضباع، والاضطباع الذي يؤمر به الطائف بالبيت الحرام هو أن يدخل الرداء تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن ويغطي الأيسر.

السنا: نبت يتداوى به.

أي قطعها.

أي به ألم في معدته.

========

فصل فتح أبواب السماء لروح المؤمن

الوجه الثاني بعد المائة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾[7:40] وهذا دليل على أن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء، وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم عند الموت كما تقدم في الأحاديث المستفيضة: إن السماء تفتح لروح المؤمن حتى ينتهي بها إلى بين يدي الرب تعالى.

و أما الكافر فلا تفتح لروحه أبواب السماء ولا تفتح لجسده أبواب الجنة.

===========

فصل

الوجه الثالث بعد المائة: قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «يا بلال ما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك بين يدي فبم ذاك؟ قال: ما أحدثت في ليل أو نهار إلا توضأت وصليت ركعتين. قال: بهما»، ومعلوم أن الذي سمع خشخشته بين يديه وهو روح بلال، وإلا فجسده لم ينقل إلى الجنة.

الوجه الرابع بعد المائة: الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلام على أهلها ومخاطبتهم والأخبار عن معرفتهم بزوارهم وردهم عليهم السلام. وقد تقدمت الإشارة إليها.

الوجه الخامس بعد المائة: شكاية كثير من أرواح الموتى إلى أقاربهم وغيرهم أمورا مؤذية فيجدونها كما شكوه فيزيلونها.

الوجه السادس بعد المائة: لو كانت الروح عبارة عن عرض من أعراض البدن أو جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال فيه لكان قول القائل خرجت وذهبت وقمت وجئت وقعدت وتحركت ودخلت ورجعت ونحو ذلك كله أقوالا باطلة، لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجردات، وكل عاقل يعلم صدق قوله وقول غيره ذلك، فالقدح في ذلك قدح في أظهر المعلومات، فهو من باب السفسطة. (لا يقال) حاصل هذا الدليل التمسك بألفاظ الناس وإطلاقاتهم وهي تحتمل الحقيقة والمجاز، فلعل مرادهم دخل جسمي وخرج. لأنه إنما استدللنا بشهادة العقل والفطرة بمعاني هذه الألفاظ، فكل أحد يشهد عقله وحسه بأنه هو الذي دخل وخرج وانتقل، لا مجرد بدنه، فشهادة الحس والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتها إلى الروح أصلا وإلى البدن تبعا من أصدق الشهادات والاعتماد على ذلك لا على مجرد الإطلاق اللفظي.

الوجه السابع بعد المائة: أن البدن مركب ومحل لتصرف النفس، فكان دخول البدن وخروجه وانتقاله جاريا مجرى دخول مركبه من فرسه ودابته، فلو كانت النفس غير قابلة للدخول والخروج والانتقال والحركة والسكون لكان ذلك بمنزلة دخول مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، وكل أحد يعلم أن نفسه وروحه هي التي دخلت وخرجت وانتقلت وصرفت البدن وجعلته تبعا لها في الدخول والخروج، فهو لها بالأصل، وللبدن بالتبع، لكنه للبدن بالمشاهدة، والروح بالعلم والعقل.

الوجه الثامن بعد المائة: أن النفس لو كانت كما يقوله من يقول أنها عرض لكان الإنسان كل وقت قد يبدل مائة ألف نفس أو أكثر، والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه لا ببدنه، وكان الإنسان الذي هو الإنسان غير الذي هو قبله وبلحظة وبعده بلحظة، وهذا من نوع الهوس، ولو كانت الروح مجردة، وتعلقها بالبدن بالتدبير فقط لا بالمساكنة والمداخلة لم يمتنع أن ينقطع تعلقها بهذا البدن وتتعلق بغيره، كما يجوز انقطاع تدبير المدبر لبيت أو مدينة عنها، ويعلق بتدبير غيرها، وعلى هذا التدبير فنصير شاكين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها؟ وهل زيد هو ذلك الرجل أم غيره، وعاقل لا يجوز ذلك فلو كانت أو لروح عرضا أو أمرا مجردا لحصل الشك المذكور.

الوجه التاسع بعد المائة: أن كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية، ويعلم أن الموصوف ليس بذلك عرضا من أعراض بدنه ولا جوهرا مجردا منفصلا عن بدنه غير مجاور له، ويقطع ضرورة بأن هذه إدراكات لأمر داخل في بدنه، كما يقطع بأنه إذا سمع وأبصر وشم وذاق ولمس وتحرك وسكن فتلك أمور قائمة به مضافة إلى نفسه، وإن جوهر النفس الذي هو قام به ذلك كله لم يقم بمجرد ولا بعرض، بل قام متحيز داخل العالم، منتقل من مكان إلى مكان، يتحرك ويسكن ويخرج ويدخل، وليس هذا إلا هذا البدن والجسم الساري فيه المشابك لو لاه لكان بمنزلة الجماد.

الوجه العاشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة وتعلقها بالبدن تعلق التدبير فقط كتعلق الملاح بالسفينة، والجمال بجمله لأمكنها ترك تدبير هذا البدن واشتغالها بتدبير بدن آخر، كما يمكن الملاح والجمال ذلك، وفي ذلك تجويز نقل النفوس من أبدان إلى أبدان، ولا يقال أن النفس اتحدت ببدنها فامتنع عليها الانتقال، أو أنها لها عشق طبيعي وشوق ذاتي إلى تدبير هذا البدن، فلهذا السبب امتنع انتقالها، لأنا نقول: اتحاد ما لا يتحيز بالمتحيز محال. ولأنها لو اتحدت به لبطلت ببطلانه، ولأنها بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان لا واحد، وإن عدما معا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شي ء، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فليس باتحاد أيضا. وأما عشق النفس الطبيعي للبدن فالنفس إنما تعشقه لأنها تتناول اللذات بواسطته، وإذا كانت الأبدان متساوية في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء، فقولكم إن النفس المعينة عاشقة للبدن المعين باطل، ومثال ذلك العطشان إذا صادف آنية متساوية كل منها يحصل غرضه امتنع عليه أن يعشق واحدا بعينه دون سائرها.

الوجه الحادي عشر بعد المائة: أن نفس الإنسان لو كانت جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه ولا مباينة ولا مجانبة لكان يعلم بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة، لأن علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهر من كل معلوم، وأن علمه بما عداه تابع لعلمه بنفسه، ومعلوم قطعا أن ذلك باطل، فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا المجود محال في العقول شاهدا وغائبا، فمن قال ذلك في نفسه وربه فلا نفسه عرف ولا ربه عرف.

الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه. أما أن يكون محلها جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة.

الوجه الثالث عشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردة عن الجسمية والتحيز لامتنع أن يتوقف فعلها عن مماسة محل الفعل، لأن ما لا يكون متحيزا يمتنع أن يصير مماسا للمتحيز، ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل، فكان الواحد منا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يماسها أو يماس شيئا يماسها، فإن النفس عندكم كما كانت قادرة على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسة كذلك لا تمتنع قدرتها على تحريك جسم غيره من غير ممارسة له ولا لما يماسه، وذلك باطل بالضرورة، فعلم أن النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرط أن تماس محل الحركة أو تماس ما يماسه، وكل ما كان مماسا للجسم أو لما يماسه فهو جسم.

فإن قيل: يجوز أن يكون تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص غير مشروط بالممارسة وتأثيرها في تحريك غيره موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين ذلك الجسم.

فالجواب: أنه لما كان قول البدن لتصرفات النفس لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين؟؟؟ وجب أن تكون الحال كذلك في غيره من الأجسام، لأن الأجسام متساوية في قبول الحركة، ونسبة النفس إلى جميعها سواء، لأنها إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية كانت نسبة ذاتها إلى الكل بالسوية، ومتى كانت ذات الفاعل نسبتها إلى الكل بالسوية والقوابل نسبتها إلى ذلك الفاعل بالسوية كان التأثير بالنسبة إلى الكل على السواء، فإذا استغنى الفاعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض وجب أن يستغني في حق الجميع، وإن افتقر إلى الممارسة في البعض وجب افتقاره في الجميع.

فإن قيل: النفس عاشقة لهذا البدن دون غيره فكان تأثيرها فيه أقوى من تأثيرها في غيره قبل هذا العشق الشديد، يقتضي أن يكون تعلقها بالبدن أكثر، وتصرفها فيه أقوى، فأما أن يتغير بمقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك محال. وهذا دليل في غاية القوة.

الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن العقلاء كلهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحي الناطق المتغذي النامي الحساس المتحرك بالإرادة، وهذه الصفات نوعان، صفات لبدنه وصفات لروح ونفسه الناطقة، فلو كانت الروح جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه، لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة به ولا منفصلا عنه، أو كان بعضه في العالم وبعضه لا داخل العالم ولا خارجه، وكل عاقل يعلم بالضرورة بطلان ذلك، وأن الإنسان بجملته داخل العالم بدنه وروحه، وهذا في البطلان يضاهي قول من قال إن نفسه قديمة غير مخلوقة، فجعلوا نصف الإنسان مخلوقا ونصفه غير مخلوق.

فإن قيل نحن نسلم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنا نثبت جوهرا مجردا يدبر الإنسان الموصوف بهذه الصفات. قلنا: فذلك الجوهر الذي أثبتموه مغاير للإنسان أو هو حقيقة الإنسان؟ ولا بدّ لكم من أحد الأمرين: فإن قلتم هو غير الإنسان رجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا غيره وسميتموه نفسا، وكلامنا الآن إنما هو في حقيقة الإنسان لا في مدبره، فإن مدبر الإنسان وجميع العالم العلوي والسفلي هو اللّه الواحد القهار.

الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان؟ فإنه يشير إلى هذه البنية وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يقبل شكا ولا تشكيكا.

الوجه السادس عشر بعد المائة: أن عقول العالمين قاضية بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية وما قام بها وساكنها، وكذلك المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، ولو أن رجلا قال: المأمور والمنهي والممدوح والمذموم والمخاطب والعاقل جوهر مجرد ليس في العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأضحك العقلاء على عقله ولأطبقوا على تكذبه، وكل ما شهدت بداهته العقول وصرائحها ببطلانه كان الاستدلال على ثبوته استدلال على صحة وجود المحال، وباللّه التوفيق.

===========

فصل الروح والجسم، والنفس والجسم

فإن قيل: قد ذكرتم الأدلة الدالة على جسميتها وتحيزها فما جوابكم من أدلة المنازعين لكم في ذلك؟ فإنهم استدلوا بوجوه:

أحدها: اتفاق العقلاء على قولهم الروح والجسم، والنفس والجسم، فيجعلونها شيئا غير الجسم، فلو كانت جسما لم يكن لهذا القول معنى.

الثاني: وهو أقوى ما يحتجون به أنه من المعلوم أن في الموجودات ما هو غير قابل للقسمة، كالنقطة والجوهر الفرد، بل ذات واجب الوجود، فوجب أن يكون العلم بذلك غير قابل للقسمة، فوجب أن يكون الموصول بذلك العلم وهو محله غير قابل للقسمة وهو النفس، فلو كانت جسما لكانت قابلة للقسمة، ويقرر هذا الدليل على وجه آخر، وهو أن محل العلوم الكلية لو كانت جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم، لأن الحال في المنقسم، منقسم، وانقسام تلك العلوم مستحيل.

الثالث: أن الصور العقلية الكلية مجردة بلا شك، وتجردها إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه أو بسبب الأخذ، والأول باطل، لأن هذه الصور إنما أخذت على الأشخاص الموصوفة بالمقادير المختلفة والأوضاع المعينة، فثبت أن تجردها إنما هو بسبب الأخذ لها والقوة العقلية المسماة بالنفس.

الرابع: أن القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية، فإنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والقوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية، لأن القوة الجسمانية تنقسم بانقسام محلها، فالذي يقوى عليه بعضها يجب أن يكون أقل من الذي يقوى عليه الكل، فالذي يقوى عليه الكل يزيد على الذي يقوى عليه البعض أضعافا متناهية، والزائد على المتناهي بمتناه متناه.

الخامس: أن القوة العاقلة لو كانت حالة في آلة جسمانية لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة، أو ممتنعة الإدراك لها بالكلية، وكلاهما باطل، لأن إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إن كان عين وجودها فهو محال، وإن كانت صورة مساوية لوجودها وهي حالة في القوة العقلية الحالة في تلك الآلة لزم اجتماع صورتين متماثلتين وهو محال. وإذا بطل هذا ثبت أن القوة العاقلة لو أدركت آلتها لكان إدراكها عبارة عن نفس حصول تلك الآلة عند القوة العاقلة، فيجب حصول الإدراك دائما إن كفى هذا القدر في حصول الإدراك، وإن لم يكف امتنع حصول الإدراك في وقت من الأوقات، إذ لو حصل في وقت دون وقت لكان بسبب أمر زائد على مجرد حضور صورة الآلة.

السادس: إن كل واحد يدرك نفسه، وإدراك الشي ء عبارة عن حضور ماهية العلوم عند العالم، فإذا علمنا أنفسنا فهو إما أن يكون لأجل حضور ذواتنا لذواتنا أو لأجل حضور صورة مساوية لذواتنا في ذواتنا، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم اجتماع المثلين، فثبت أنه لا معنى لعلمنا بذاتنا إلا حضور ذاتنا عند ذاتنا، وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتا قائمة بالنفس غنية عن المحل، لأنها لو كانت حالة في محل كانت حاضرة عند ذلك المحل، فثبت أن هذا المعنى إنما يحصل إذا كانت النفس قائمة بنفسها غنية عن محل تحل فيه.

السابع: ما احتج به أبو البركات البغدادي وأبطل ما سواه فقال: لا نشك أن الواحد منا يمكنه أن يتخيل بحرا من زئبق، وجبلا من ياقوت، وشمسا وأقمارا فهذه الصور الخيالية لا تكون معدومة، لأن قوة المتخيل تشير إلى تلك الصور وتميز بين كل صورة وغيرها، وقد يقوى ذلك المتخيل إلى أن يصير كالمشاهد المحسوس، ومعلوم أن العدم المحض والنفي الصرف لا يثبت ذلك، ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الصور ليست موجودة في الأعيان، فثبت أنها موجودة في الأذهان، فنقول محل هذه الصورة إما أن يكون جسما أو حالا في الجسم، أو لا جسما ولا حالا في الجسم، والقسمان الأولان باطلان، لأن صورة البحر والجبل صورة عظيمة، والدماغ والقلب جسم صغير، وانطباع العظيم في الصغير محال، فثبت أن محل هذه الصورة الخيالية ليس بجسم ولا جسماني.

الثامن: لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما وليس كذلك.

التاسع: أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم، وما كان غنيا في فعله عن الجسم وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الجسم. بيان الأول: أن القوة العقلية تدرك نفسها، ومن المحال أن يحصل بينها وبين نفسها آلة متوسطة أيضا، وتدرك إدراكها لنفسها، وليس هذا الإدراك بآلة. وأيضا فإنها تدرك الجسم الذي هو آلتها وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى.

و بيان الثاني من وجهين:

أحدهما: أن القوى الجسمانية كالنظرة والسامعة الخيال والوهم لما كانت جسما يقدر عليها إدراك ذوتها وإدراكها لكونها مدركة لذواتها وإدراكها لتلك الأجسام الحاملة لها، فلو كانت القوة العاقلة جسمانية لتعذر عليها هذه الأمور الثلاثة.

الثاني: أن مصدر الفعل هو النفس، فلو كانت النفس متعلقة في قوامها ووجودها بالجسم لم تحصل تلك الأفعال إلا بشركة من الجسم، ولما ثبت أنه ليس كذلك ثبت أن القوة العقلية غنية عن الجسم.

العاشر: أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال، ولا تقوى على القوى بعد الضعف، وسببه ظاهر، فإن القوة الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرض موادها للتحلل والذبول وهو يوجب الضعف، وأما القوة العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال وتقوى على القوى بعض الضعف فوجب أن لا تكون جسمانية.

الحادي عشر: أنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض، والبداهة حاكمة بأن اجتماع السواد والبياض والحرارة والبرودة في الأجسام محال، فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية وجب أن لا تكون قوة جسمانية.

الثاني عشر: أنه لو كان محل الإدراكات جسم، وكل جسم منقسم لا محالة، لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشي ء، وبالبعض الآخر منه جهل، وحينئذ فيكون الإنسان في الحال الواحد عالما بالشي ء وجاهلا به.

الثالث عشر: أن المادة الجسمانية، إذا حصلت فيها نقوش [غير] [1] مخصوصة فإن وجود تلك النقوش فيها يمنع من حصول نقوش غيرها، وأما النقوش العقلية فبالضد من ذلك، لأن الأنفس إذا كانت خالية من جميع العلوم والإدراكات فإنه يصعب عليها التعلم، فإذا تعلمت شيئا صار حصول تلك العلوم معينا على مهولة غيرها، فالنقوش الجسمانية متغايرة متنافسة، والنقوش العقلية متعاونة متعاضدة.

الرابع عشر: إن النفس لو كانت جسما لكان بين إرادة العبد تحريك رجله و بين تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله، فإن النفس هي المحركة للجسد والممهد لحركته، فلو كان المحرك للرجل جسما فإما أن يكون حاصلا في هذه الأعضاء أو جائيا إليها، فإن كان جائيا احتاج إلى مدة ولا بدّ، وإن كان حاصلا فيها فنحن إذا قطعنا تلك العضلة التي تكون بها الحركة لم يبق منها في العضو المتحرك شي ء، فلو كان ذلك المتحرك حاصلا فيه لبقي منه شي ء في ذلك العضو.

الخامس عشر: لو كانت النفس جسما لكانت منقسمة، ولصح عليها أن يعلم بعضها كما يعلم كلها، فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر وذلك محال.

السادس عشر: لو كانت النفس جسما لوجب أن يثقل البدن بدخولها فيه، لأن شأن الجسم الفارغ إذا ملأ غيره أن يثقل به كالزق الفارغ والأمر بالعكس، فأخف ما يكون البدن إذا كانت فيه النفس وأثقل ما يكون إذا فارقته.

السابع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا يخلو شي ء منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والسواد والبياض وغير ذلك من صفات الأجسام وكيفياتها، ومعلوم أن الكيفيات النفسانية إنما هي الفضائل والرذائل لا تلك الكيفيات الجسمانية، فالنفس ليست جسما.

الثامن عشر: أنها لو كانت جسما لوجب أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت حاسة منها أو حاستين أو أكثر، فإنا نرى الأجسام كذلك، منها ما يدرك بجميع الحواس، ومنها ما يدرك بأكثرها، ومنها ما يدرك بحاستين منها أو واحدة، والنفس بريئة من ذلك كله، وهذه الحجة التي احتج بها جهم [2] على طائفة من الملاحدة حين أنكروا الخالق سبحانه وقالوا: لو كان موجودا لوجب أن يدرك بحاسة من الحواس، فعارضهم بالنفس وأنى تتم المعارضة إذا كانت جسما وإلا لو كانت جسما لجاز إدراكها ببعض الحواس.

التاسع عشر: لو كانت جسما لكانت ذات طول وعرض وعمق وسطح وشكل، وهذه المقادير والأبعاد لا تقوم إلا بمادة ومحل، فإن كانت مادتها ومحلها نفسا لزم اجتماع نفسين، وإن كان غير نفس كانت النفس مركبة من بدن وصورة، وهي في جسد مركب من بدن وصورة، فيكون الإنسان إنسانين.

العشرون: أن من [خواص] [3] الجسم أن يقبل التجزي، والجزء الصغير منه ليس كالكبير، ولو قبلت التجزي فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة لا نفس واحدة، وإن كان نفسا لم يكن المجموع نفسا، كما أن جزء الماء إن لم يكن ماء لم يكن مجموعه ماء.

الحادي والعشرون: أن الجسم محتاج في قوامه وحفظه وبقائه إلى النفس، ولهذا يضمحل ويتلاشى لما تفارقه، فلو كانت جسما لكانت محتاجة إلى نفس أخرى وهلم جرا ويتسلسل الأمر، وهذا المحال إنما لزم من كون النفس جسما.

الثاني والعشرون: لو كانت جسما لكان اتصالها بالجسم إن كان على سبيل المداخلة تداخل الأجسام، وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمين متلاصقين أحدهما يرى والآخر لا يرى.

فهذا كل ما موهت به هذه الطائفة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية ونحن نجيبهم عن ذلك كله فصلا بفصل بحول اللّه وقوته ومعونته.

هامش

وردت في الأصل: غيرها.

أي جهم بن صفوان.

وردت في المطبوع: خاصة.

=======

فصل النفس والجسم

فأما قولهم: إن العقلاء متفقون على قولهم: الروح والجسم والنفس والجسم، وهذا يدل على تغايرهما. فالجواب أن يقال: إن مسمى الجسم في اصطلاح المتفلسفة والمتكلمين أعم من مسماه في لغة العرب وعرف أهل العرش، فإن الفلاسفة يطلقون الجسم على قابل الأبعاد الثلاثة خفيفا كان أو ثقيلا، مرئيا كان أو غير مرئي، فيسمون الهواء جسما، والنار جسما، والماء جسما، وكذلك الدخان والبخار والكواكب، ولا يعرف في لغة العرب تسمية شي ء من ذلك البتة، فهذه لغتهم وأشعارهم، وهذه النقول عنهم في كتب اللغة. قال الجوهري:

قال أبو زيد: الجسم، الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان، قال الأصمعي:

الجسم والجسمان والجسد والجثمان الشخص، وثد جسم الشيء أي عظم فهو عظيم جسيم، وجسام بالضم.

و نحن إذا سمينا النفس جسما فإنما هو باصطلاحهم وعرف خطابهم، وإلا فليست جسما باعتبار وضع اللغة، ومقصودنا بكونها جسما إثبات الصفات والأفعال والأحكام التي دل عليها الشرع والعقل والحس من الحركة والانتقال والصعود والنزول ومباشرة النعيم والعذاب واللذة والألم، وكونها تحبس وترسل وتقبض وتدخل وتخرج، فلذلك أطلقنا عليها اسم الجسم تحقيقا لهذه المعاني، وإن لم يطلق عليها اسم الجسم فالكلام مع هذه الفرقة المبطنة في المعنى لا في اللفظ، فقول أهل التخاطب والروح والجسم هو بهذا المعنى.

===============

فصل الوجود

وأما الشبهة الثانية: فهي أقوى شبههم التي بها يصولون، وعليها يعولون، وهي مبنية على أربع مقدمات:

إحداها: أن في الوجود ما لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه.

الثانية: أنه يمكن العلم به.

الثالثة: أن العلم به غير منقسم.

الرابعة: أنه يجب أن يكون محل العلم به كذلك، إذ لو كان جسما لكان منقسما.

و قد نازعهم في ذلك جمهور العقلاء وقالوا: لم تقيموا دليلا على أن في الوجود ما لا يقبل القسمة الحسية ولا الوهمية، وإنما بأيديكم دعاو ولا حقيقة لها، وإنما أثبتموه من واجب الوجود، وهو بناء على أصلكم الباطل عند جميع العقلاء من أهل الملل وغيرهم من إنكار ماهية الرب تعالى وصفاته، وأنه مجرد لا صفة له ولا ماهية، وهذا قول باينتم به العقول، وجميع الكتب المنزلة من السماء، وإجماع الرسل، ونفيتم به علم اللّه وقدرته ومشيئته وسمعه وبصره وعلوه على خلقه، ونفيتم به خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسميتموه توحيدا، وهو أصل كل تعطيل.

قالوا: والنقطة التي استدللتم بها هي من أظهر ما يبطل دليلكم، فإنها غير منقسمة وهي حالة في الجسم المنقسم، فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم.

ثم إن مثبتي الجوهر الفرد وهم جمهور المتكلمين ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون: الجوهر حال في الجسم، بل هو مركب منه، فقد حل في المنقسم ما ليس بمنقسم ولا يمكن تتميم دليلكم إلا بنفي الجوهر الفرد، فإن قلتم: النقطة عبارة عن نهاية الخط وفتاته وعدمه فهي أمر عدمي. بطل استدلالكم بها، وإن كانت أمرا وجوديا فقد حلت في المنقسم فبطل الدليل على التقديرين.

قالوا: أيضا فلم لا يكون للعلم حالا في محله لا على وجه النوع والسريان، فإن حلول كل شي ء في محله بحسبه، فحلول الحيوان في الدار نوع حلول العرض في الجسم نوع، وحلول الخط في الكتاب نوع، وحلول الدهن في السمسم نوع، وحلول الجسم في الجسم في العرض نوع، وحلول الروح في البدن نوع، وحلول العلوم والمعارف في النفس نوع.

قالوا: وأيضا فالوحدة حاصلة، فإن كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد وبطل دليلكم، فإنه لا يتم إلا بنفيه، وإن كان عرضا وجب أن يكون لها محل، فمحلها إن كان منقسما، فقد جاز قيام غير المنقسم بالمنقسم فهو الجوهر، وبطل الدليل، فإن قلتم الوحدة أمر عدمي لا وجود لها في الخارج فكذلك ما أثبتم به وجود ما لا ينقسم كلها أمور عدمية لا وجود لها في الخارج، فإن واجب الوجود الذي أثبتموه أمر عدمي بل مستحيل الوجود.

قالوا: وأيضا فالإضافات عارضة لا أقسام مثل الفوقية والتحتية والمالكة والمملوكية، فلو انقسم الحال بانقسام محله لزم انقسام هذه، فكان يكون لحقيقة الفوقية والتحتية ربع وثمن، وهذا لا يقبله العقل.

قالوا: وأن القوة الوهمية والفكرية والجسمانية عند زعيمكم ابن سيناء فيلزم أن يحصل لها أجزاء وأبعاض، وذلك محال، لأنها لو انقسمت لكان كل واحد من أبعاضها إن كان مثلها كان الجزء مساويا للكل، وإن لم يكن مثلها لم تكن تلك الأجزاء كذلك.

و أيضا فإن الوهم لا معنى له، إلا كون هذا صديقا وهذا عدوا، وذلك لا يقبل القسمة.

قالوا: وأن الوجود أمر زائد على الماهيات عندكم فلو لزم انقسام الحال لانقسام محله انقسام ذلك الوجود بانقسام محله. وهذا الوجه لا يلزم من جعل وجود الشي ء غير ماهيته.

قالوا: وأيضا فطبائع الأعداد ماهيات مختلفة، فالمفهوم من كون العشرة عشرة مفهوم لواحد وماهية واحدة، فتلك الماهية إما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد وهو محال، وإما أن تنقسم بانقسام تلك الآحاد وهو محال، لأن المفهوم من كون العشرة عشرة لا يقبل القسمة. نعم العشرة تقبل القسمة لا عشريتها. قالوا: فقد قام ما لا ينقسم بالمنقسم.

قالوا: وأيضا فالكيفيات المختصة بالكميات كالاستدارة والنقوش ونحوهما عند الفلاسفة أعراض موجودة في شبه الاستدارة، إن كان عرضا فإما أن يكون بتمامه قائما، وإما أن يكون بكل واحد من الأجزاء وهو محال، وإما أن ينقسم ذلك العرض بانقسام الأجزاء ويقوم بكل جزء من أجزاء الخط جزء من أجزاء ذلك العرض وهو محال، لأن جزأه إن كان استدارة لزم أن يكون جزء الدائرة دائرة، وإن لم يكن استدارة فعند اجتماع الأجزاء إن لم يحدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة وإن حدث أمر زائد فإن كان منقسما عاد التقسيم وإن لم ينقسم كان الحال غير منقسم ومحله منقسما.

قلت: وهذا لا يلزمهم فإن لهم أن يقولوا: ينقسم بانقسام محله تبعا له كسائر الأعراض القائمة بمجالها من البياض والسواد، وأما لا ينقسم كالطول فشرط حصوله اجتماع الأجزاء والمعلق على الشرط منتف بانتفائه.

قالوا: وأن هذه الأجسام ممكنة بذواتها وذلك صفة عرضية لها خارجة عن ماهيتها، فإن لم تنقسم بانقسام محلها بطل الدليل، وإن انقسمت عاد المحذور المذكور من مساواة الجزء للكل والتسلسل.

قلت: وهذا أيضا لا يلزمهم، لأن الإمكان ليس أمر يدل على قبول الممكن للوجود والعدم، وذلك القبول من لوازم ذاته ليس صفة عارضة له، ولكن الذهن يجرد هذا القبول عن القابل فيكون عروضه للماهية بتجريد الذهن، وأما قضية مشاركة الجزء للكل فلا امتناع في ذلك كسائر الماهيات البسيطة، فإن جزأها مساو لكلها الحد والحقيقة، كالماء والتراب والهواء، وإنما الممتنع أن يساوي الجزء للكل في الكم لا في نفس الحقيقة.

و المعول في إبطال هذه الشبهة على أن العلم ليس بصورة حالة في النفس و إنما هو نسبة وإضافة بين العلم والمعلوم، كما نقول في الأبصار أنه ليس بانطباع صورة مساوية للمبصر في القوة الباصرة، وإنما هو نسبة وإضافة بين القوة الباصرة والمبصر، وعامة شبههم التي أوردوها في هذا الفصل مبنية على انطباع صورة العلوم في القوة العالمة ثم بنوا على ذلك أن انقسام ما لا ينقسم في المنقسم محال.

و قولهم: محل العلوم الكلية لو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم، لأن الحال في المنقسم منقسم لم يذكروا على صحة هذه المقدمة دليلا ولا شبهة، وإنما بأيديهم مجرد الدعوى وليست بديهية حتى تستغني عن الدليل، وهي مبينة على أن العلم بالشي ء عبارة عن حصول صور مساوية لماهية المعلوم في نفس العالم، وهذا من أبطل الباطل للوجوه التي نذكرها هناك.

و أيضا فلو سلمنا لكم ذلك كان من أظهر الأدلة على بطلان قولكم، فإن هذه الصورة إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة فهي صورة جزئية حالة في نفس جزئية تقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية، فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق لم تكن صورة مجردة بل مقرونة بلواحق وعوارض وذلك يمنع كليتها.

فإن قلتم: المراد بكونها كلية أنا إذا حذفنا عنها تلك اللواحق واعتبرناها من حيث هي كانت كلية. قلنا لكم: فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال هذه الصورة:

حالة في مادة جسمانية مخصوصة بمقدار معين وبكل معين، إلا أنا إذا حذفنا عنها ذلك واعتبرناها من حيث هي هي كانت بمنزلة تلك الصورة التي فعلنا بها ذلك، فالمعين في مقابلة المعين، والمطلق المأخوذ من حيث هو هو في مقابلة محلة المطلق؟ وهذا هو المعقول الذي شهدت به العقول الصحيحة والميزان الصحيح، فظهر أن هذه الشبهة من أفسد الشبه وأبطلها. وإنما أتى القوم من الكليات فإنها هي التي خرجت دورهم وأفسدت نظرهم ومناظرهم، فإنهم جردوا أمورا كلية لا وجود لها في الخارج ثم حكموا عليها بأحكام الموجودات وجعلوها ميزانا وأصلا للموجودات.

فإذا جردوا صور المعلومات وجعلوها كلية جردنا نحن محلها وجعلناه كليا.

و إن أخذوا جزئية معينة فمحلها كذلك، فالكلي في مقابلة الكلي والجزئي في مقابلة الجزئي.

على أنا نقول ليس في الذهن كلي وإنما في الذهن صورة معينة مشخصة منطبعة على سائر أفرادها، فإن سميت كلية بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الألفاظ وهي كلية وجزئية باعتبارين.

=====

هل الصورة العقلية مجردة؟

قولكم في الوجه الثالث: أن الصور العقلية الكلية مجردة وتجريدها إنما هو سبب الأخذ لها وهو القوة العقلية.

جوابه أن يقال: ما الذي تريدون بهذه الصورة العقلية الكلية؟ أ تريدون به أن المعلوم حصل في ذات العلم، أو أن العلم به حصل في ذات العالم؟ فالأول ظاهر للإحالة، والثاني حق، إلا أنه لا يفيدكم شيئا، لأن الأمر الكلي المشترك بين الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية لا العلم بها، والإنسانية لا وجود لها في الخارج كلية، والوجود في الخارج للمعينات فقط، والعلم تابع للمعلوم، فكما أن المعلوم معين فالعلم به معين لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة، فليس في الذهن ولا في الخارج صورة غير منقسمة البتة. وقد غلط في هذا الموضع طوائف من العقلاء لا يحصيهم إلا اللّه تعالى، فالصورة الكلية التي يثبتونها ويزعمون أنها حالة في النفس فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية، فهب أن هذه الصورة العقلية حالة في جوهر وليس بجسم ولا جسماني فإنها غير مجردة من العوارض.

فإن قلتم، مرادنا بكونها مجردة النظر إليها من حيث هي هي مع قطع النظر عن تلك العوارض.

قيل لكم: فلم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني منقسمة، وإنما تكون مجردة إذا نظرنا إليها من حيث هي هي بقطع النظر عن عوارضها.

==================

القوى العقلية والإدراكات

قولكم في الرابع: أن العقلية تقوى على أفعال غير متناهية ولا شي ء هنا من القوى الجسمانية كذلك، فجوابه أنا لا نسلم أنها تقوى على أفعال غير متناهية.

و قولهم: أنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والإدراكات أفعال. مقدمتان كاذبتان، فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية، فلو كان لها بكل نفس ألف إدراك لتناهت إدراكاتها في الإدراكات والمعارف إلى حد لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا كما قال تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[12:76] إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شي ء عليم، فهو اللّه الذي لا إله إلا هو وحده، وذلك من خصائصه التي لا يشاركه فيها سواه.

فإن قلتم: لو انتهى إدراكها إلى حد لا يمكنها المزيد عليه لزم انقلاب الشي ء من الإمكان الذاتي، قلنا: فهذا بعينه لو صح دل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية، وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها.

و أيضا فإن قوة التخيل والتفكر والتذكر تقوى على استحضار المخيلات والمذكرات إلى غير نهاية مع أنها عندكم قوة جسمانية.

فإن قلتم: لا نسلم أنها تقوى على ما لا يتناهى قيل لكم: هكذا يقول خصومكم في القوة العاقلة سواء.

و أما كذب المقدمة الثانية فإن الإدراك ليس بفعل، فلا يلزم من تناهي فعلها تناهي إدراكها، وقد صرحتم بأن الجوهر العقلي قابل لصورة المعلوم، لا أنها فاعل لها، والشي ء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا عندكم. وقد صرحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعال لا نهاية لها، ولا يمتنع عليها مجهولات وانفعالات لا تتناهى، وقد أورد ابن سيناء على هذه الشبهة سؤالا فقال: أ ليس النفس الفلكية المباشرة لتحريك الفلك قوة جسمانية مع أن الحركات الفلكية غير متناهية؟ وأجاب عنها:

بأنها وإن كانت قوة جسمانية إلا أنها تستمد الكمال من العقل المفارق، فلهذا السبب قدرت على أفعال غير متناهية.

فنقول: فإذا كان الأمر عندك كذلك فلم لا يجوز أن يقال: النفس الناطقة تستمد الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعا، فلا جرم تقوى مع كونها جسمانية على ما لا يتناهى فإذا قلت بذلك وافقت الرسل والعقل ودخلت مع زمرة المسلمين وفارقت العصبة المبطلين [1].

هامش

أي أهل الجدل والفلاسفة.

==================

=

=

=============

الإدراك

قولكم في الخامس: لو كانت القوة للعاقلة حالة في آلة جسمانية لوجب أن تكون دائمة الإدراك لتلك الآلة أو ممتنعة الإدراك لها. فهو مبني على أصلكم الفاسد أن الإدراك عبارة عن صورة مساوية للمدرك في القوة المدركة. ثم لو سلمنا لكم ذلك الأصل لم يفدكم شيئا فإن حصول تلك الصورة يكون شرطا لحصول الإدراك، فأما أن يقول أو يقال أن الإدراك عين حصول تلك الصورة فهذا لا يقوله عاقل، فلم لا يجوز أن يقال القوة العقلية حالة في جسم مخصوص، ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسعى بالشعور والإدراك فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة، وقد لا توجد تلك الحالة الإضافية فتصير غافلة عنها، وإذا كان هذا ممكنا سقطت تلك الشبهة رأسا. ثم نقول أ تدعون أنا إذا عقلنا شيئا فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات أو لا يجب حصول هذه المساواة من جميع الوجوه. فالأول لا يقوله عاقل وهو أظهر من أن يحتج لفساده، وإذا علم أنه لا تجب المساواة من جميع الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب أو الدماغ اجتماع الممثلين.

و أيضا فالقوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ، والصورة الحادثة حالة في القوة العاقلة، فإحدى الصورتين محل القوة العاقلة، وأيضا فنحن إذا رأينا المسافة الطويلة والبعد الممتد فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرثي في عين الرائي أو لا يتوقف؟ فإن توقف لزم اجتماع المثلين، لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية فهي في محل له حجم ومقدار فإذا حصل فيه حجم المرئي ومقداره لزم اجتماع المثلين، وإذا جاز هناك فلم يجوز مثله في مسألتنا؟ وإذا كان إدراك الشي ء لا يتوقف على حصول صورة المرئي في الرائي بطل قولكم أن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة العاقلة.

و أيضا فقولكم لو كانت القوة العقلية حالة في جسم لوجب أن تكون دائمة للإدراك لذلك الجسم لكن إدراكنا لقلبنا ودماغنا غير دائم فهذا إنما يلزم من يقول إنها حالة في القلب أو الدماغ، وأما من يقول أنها حالة في جسم مخصوص وهو النفس وهي مشابكة للبدن فهذا الإلزام غير وارد عليه فإنه يقول النفس جسم مخصوص والإنسان أبدا عالم بأنه جسم مخصوص ولا يزول ذلك عن عقله إلا إذا عرضت له الغفلة فسقطت الشبهة التي عولتم عليها كل تقدير.

===============

فصل

قولكم في السادس: إن كل أحد يدرك نفسه، الإدراك عبارة عن حصول ماهية المعلوم عند العالم وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنية عن المحل إلى آخره.

جوابه. أن ذلك مبني على الأصل المتقدم وهو أن العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في نفس العالم، وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة العلم، حتى لو سلم ذلك فالصورة المذكورة شرط في حصول العلم لا أنها نفس العلم.

و أيضا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفساد مقدماتها منقوضة فإننا إذا أخذنا حجرا أو خشبة قلنا هذا جوهر قائم بنفسه، هذا حاضره عند ذاته فيجب في هذه الجمادات أن تكون عالمة بذواتها.

و أيضا فجميع الحيوانات مدركة لذواتها فلو كان كون الشي ء مدركا لذاته يقتضي كون ذاته جوهرا مجردا لزم كون نفوس الحيوانات بأسرها جواهر مجردة وأنتم لا تقولون بذلك.

=================

الخيالات

قولكم في السابع: الواحد منا يتخيل بحرا من زئبق وجبلا من ياقوت إلى آخره وهو شبهة أبي البركات البغدادي، فشبهة داحضة جدا فإنها مبنية على أن تلك المتخيلات أمور موجودة وأنها منطبعة في النفس الناطقة انطباع النفس في محله ومعلوم قطعا أن هذه المتخيلات لا حقيقة لها في ذاتها وإنما الذهن يفرضها تقديرا وليست منطبعة في النفس فإن العلوم الخارجية لا تتطبع صورها في النفس فكيف بالخيالات المعدومة؟ فهذه منه مخصة ولا يمنع من وقوع التمييز بين الأعدام المضافة، فإن العقل يميز بين عدم السمع وعدم البصر وعدم الشم وغير ذلك ولا يلزم من هذا التمييز كون هذه الأعدام موجودة، بل يميز بين أنواع المستحيلات التي لا يمكن وجودها البتة، ثم نقول إذا عقل حلول الأشكال والمقادير فيما كان مجردا على الحجمية والمقدار من كل الوجوه أ فلا يعتل حلول العلم بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسم الصغير؟ وأيضا فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة والشكل في الجوهر المجرد فعدم انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يمنع من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير.

و أيضا فإن سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الحالة في الجوهر المجرد محال وذكروا له وجوها.

==================

حال البدن والقوة العقلية

قولكم في الثامن: لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمن الشيخوخة وليس كذلك. جوابه في وجوه:

الوجه الأول: لم لا يجوز أن يقال القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية مقدار معين، وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير معتبر في كمال حال القوة العقلية، وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال ذلك القدر المحتاج إليه باق إلى آخر الشيخوخة فبقي العقل إلى آخرها.

الوجه الثاني: أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على الصحة أن عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفساد والاستحالة إليها فإذا انتهى إليها الفساد والاستحالة فسد عقله وإدراكه.

الوجه الثالث: أنه لا يمتنع أن يكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى، فلعل مزاج الشيخ أوفق للقوة العقلية فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة.

الوجه الرابع: أن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى قوية فتكون القوة الشهوانية والغضبية قوية جدا وقوة هذه القوى تمنع العقل من الاستكمال، فإذا حصلت الشيخوخة وحصل الضعف حصل بسبب الضعف ضعف في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال وحصل في العقل أيضا ضعف ولكن بعد ما حصل في العقل من الضعف حصل ذلك في أضداده فينجبر النقصان من أحد الجانبين بالنقصان من الجانب الآخر فيقع الاعتدال.

الوجه الخامس: أن الشيخ حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر فقام [مقام] [1] النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى.

الوجه السادس: أن كثرة الأفعال بسبب حصول الملكات الراسخة فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق جابرا للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن.

الوجه السابع: أنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «يهرم ابن آدم وتشب فيه خصلتان، الحرص وطول الأمل» [2]. والواقع شاهد لهذا الحديث مع أن الحرص والأمل من القوى الجسمانية والصفات الخيالية، ثم إن ضعف البدن لم يوجب ضعف هاتين الصفتين فعلم أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ضعف الصفات البدنية.

الوجه الثامن: إنا نرى كثيرا من الشيوخ يصيرون إلى الخرف وضعف العقل بل هذا هو الأغلب، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾[16:70] فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل أو أسوأ حالا منه، وأما من لم يحصل له ذلك فإنه لا يرد إلى أرذل العمر.

الوجه التاسع: أنه لا تلازم بين قوة البدن وقوة النفس ولا بين ضعفه وضعفها، فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف النفس جبانا خوارا، وقد يكون ضعيف البدن قوي النفس فيكون شجاعا مقداما على ضعف بدنه.

الوجه العاشر: أنه لو سلم لكم ما ذكرتم لم يدل على كون النفس جوهرا مجردا لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هي في البدن ولا خارجة عنه، لأنها إذا كانت جسما صافيا مشرقا سماويا مخالفا للأجسام الأرضية لم تقبل الانحلال والذبول والتبدل، كما تقبله الأجسام المتحللة الأرضية، فلا يلزم من حصول الانحلال والذبول في هذا البدن حصولهما في جوهر النفس.

هامش

أخرجه الترمذي بلفظ: «يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان، الحرص على المال والحرص على العمر».

و بلفظ آخر عن الترمذي: «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين، طول الحياة وكثرة المال».

انظر سنن الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في قلب الشيخ الشاب (4/ 493) الأرقام: 2338 و2339 و2455.

و انظر صحيح مسلم كتاب الزكاة باب كراهة الحرص على الدنيا، وانظر سنن ابن ماجه كتاب الزهد باب الأمد والأجل.

زيدت على المطبوع لسياق العبارة.

========

فصل

قولكم في التاسع: إن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم وما كان غنيا من الجسم في أفعاله كان غنيا عنه في ذاته إلى آخره. جوابه أن يقال: لا يلزم من ثبوت حكم في قوة جسمانية ثبوت مثل ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية وليس معكم غير الدعوى المجردة والقياس الفاسد.

و أيضا فالصور والأعراض محتاجة إلى محلها وليس احتياجها إلى تلك المحال إلا لمجرد ذواتها ولا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذواتها عن تلك المحال فلا يلزم من كون الشي ء مستقلا بانقضاء حكم من الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. واللّه أعلم.

=========

الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب

قولكم في العاشر: إن القوة الجسمانية تكل [1] بكثرة الأفعال ولا تقوى على القوي بعد الضعف إلى آخره.

جوابه: أن القوة الخيالية جسمانية ثم إنها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها الأشياء الحقيرة فإنها يمكنها أن تتخيل الشعلة الصغيرة مثال ما تخيل الشمس والقمر.

أيضا فإن الأبصار القوية القاهرة تمنع أبصار الأشياء الضعيفة؟ فكذلك تقول العقول العظيمة العالية تمنع تعقل المعقولات الضعيفة فإن المستغرق في معرفة جلال رب الأرض والسموات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال الفكر في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته.

هامش

التعب الشديد حتى يصل إلى درجة الإعياء

======

فصل

قولكم في الحادي عشر: إنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد البياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض معا والبداهة حاكمة بأن اجتماعهما في الجسم محال.

جوابه: أن هذا مبني على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات المدرك صورة مساوية للمدرك، وهذا باطل، واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة في المرآة باطل، فإن المرآة لم ينطبع فيها شي ء البتة كما يقوله جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم، والقول بالانطباع باطل من وجوه كثيرة ثم تقول إذا كنتم قد قلتم إن المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض رسومهما ومثالهما لا حقيقتهما فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء في المادة الجسمانية؟

============

الرد على أن محل الإدراكات جسم

قولكم في الثاني عشر: أنه لو كان محل الإدراكات جسما وكل جسم منقسم لم يمنع أن يقوم بعض أجزاء الجسم علم بالشي ء، وبالجزء الآخر منه جهل به فيكون الإنسان عالما بالشي ء جاهلا به في وقت واحد.

جواب: أن هذه الشبهة منتقضة على أصولكم فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية عندكم ومحلها منتقض فلزمكم أن تجوزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدهما بالجزء الآخر فيكون مشتهيا للشي ء نافرا عنه غضبان عليه غير غضبان في وقت واحد.

=========

فصل

قولكم في الثالث عشر: إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نقوش مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها والنفوس البشرية بضد ذلك. إلى آخره.

جوابه: إن غاية هذا أن يكون قياسا ممتازا بغير جامع وذلك لا يفيد الظن فضلا عن اليقين فإن النقوش العقلية هي العلوم والإدراكات والنقوش الجسمانية هي الأشكال والصور، ولا ريب أن العلوم مخالفة بحقائقها للصور والأشكال ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما يخالف ذلك النوع.

===========

فصل

قولكم في الرابع عشر: لو كانت النفس جسما لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إراداته للحركة زمان. إلى آخره.

جوابه: أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال، إما أن تكون لابسة لجميعه من خارج كالثوب، أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ أو تكون سارية في جميع أجزاء الجسد، وعلى كل تقدير من هذه التقادير فتحريكها لما نريد تحريكه يكون مع إراداتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما لا يلاقيه وإدراك السمع والشم والذوق، وإذا قطع العضو لم ينقطع ما كان من جسم النفس متخللا لذلك العضو سواء كانت لابسة له من داخل أو من خارج بل تفارق العضو الذي بطل حسه في الوقت وتتقلص عنه بلا زمان ويكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا ملئ ماء، وأما إن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من البدن لم يلزم أن تبين مع العضو المقطوع، وأما إن كانت لابسة للبدن من خارج لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفس التحريك زمان بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه.

ثم نقول هذا الهذيان الذي شغلتم به الزمان وارد عليكم بعينه فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه فيلزمكم مثل ذلك.

========

فصل

قولكم في الخامس عشر: لو كانت جسما لكانت منقسمة، ولصح عليها أن تعلم بعضها وتجهل بعضها فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر.

جوابه: أن هذه الشبهة مركبة من مقدمتين تلازمية واستثنائية والمنع واقع في كلا المتقدمتين أو إحداهما فلا نسلم أنها لو كانت جسما لصح أن تعلم بعضها وتجبل بعضها، فإن النفس بسيطة غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة فمتى شعرت بذاتها شعرت بجهلها، فهذا منع المقدمة التلازمية.

و أما الاستثنائية فلا نسلم أنها لا يصح أن تعلم بعضها حال غفلتها عن البعض الآخر ولم تذكروا على بطلان ذلك شبهة فضلا عن دليل، ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلها ويتفاوت الناس في ذلك فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتم من غيره بدرجات كثيرة وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾[59:19] فهؤلاء نسوا نفوسهم لا من جميع الوجوه بل من الوجه الذي به مصالحها وكمالها وسعاداتها وإن لم ينسوها من الوجه الذي منه شهوتها وحظها وإراداتها فأنساهم مصالح نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها، وعيوبها ونقائصها أن يزيلوها ويجتنبوها وكمالها الذي خلقت له أن يعرفوه ويطلبوه، فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجهة وإن كانوا عالمين بها من وجوه.

============

فصل

قولكم في السادس عشر: لو كانت النفس جسما لوجب ثقل البدن بدخولها فيه لأن من شأنه الجسم إذا زدت عليه جسما آخر أن يثقل به.

فهذه شبهة في غاية الثقافة والمحتج بها أثقل وليس كل جسم زيد عليه جسم آخر ثقله فهذه الخشبة تكون ثقيلة فإذا زيد عليها جسم النار خفت جدا وهذا الظرف يكون ثقيلا فإذا دخله جسم الهواء خف. وهذا إنما يكون في الأجسام الثقال التي تطلب المركز والوسط بطبعها وهي تتحرك بالطبع إليه، وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلو فلا يعرض لها ذلك بل الأمر فيها بالضد من تلك الأجسام الثقال بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفة وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فقال:

ثقلت زجاجات أتينا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح

خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفف الأرواح

=======

فصل

قولكم في السابع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا تخلو منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والنعومة والخشونة. إلى آخره. شبهة فاسدة وحجة داحضة فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات وقد فاوت اللّه سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها فمنها ما يرى بالبصر ويلمس باليد، ومنها ما لا يرى ولا يلمس، ومنها ما له لون ومنها ما لا لون له، ومنها ما لا يقبل الحرارة والبرودة، ومنها ما لا يقبله، على أن النفس من الكيفيات المختصة بها ما لا يشاركها فيها البدن ولها خفة وثقل وحرارة وبرودة ويبس ولين يحبسها وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة وبدنه نحيل جدا وتجده في غاية الخفة وبدنه ثقيل وتجد نفسا لينة وادعة ونفسا يابسة قاسية، ومن له حس سليم يشم رائحة بعض النفوس كالجيفة المنتنة ورائحة بعضها أطيب من ريح المسك وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا مر في طريق بقي أثر رائحته في الطريق ويعرف أنه مر بها وتلك رائحة نفسه وقلبه، وكانت رائحة عرقه من أطيب شيء وذلك تابع لطيب نفسه وبدنه وأخبر وهو أصدق البشر أن الروح عند المفارقة يوجد لها رائحة كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، ولو لا الزكام الغالب لشم الحاضرون ذلك على أن كثيرا من الناس يجسد ذلك وقد أخبر به غير واحد ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق، وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقة وأرواح الكفار سود.

و بالجملة فكيفيات النفوس أظهر من أن ينكرها إلا من هو من أجل الناس بها.

========

فصل

قولكم في الثامن عشر: لو كانت النفس جسما لوجب أن تقع تحت جميع الحواس أو تحت حاسة منها. إلى آخره.

فجوابه: منع اللزوم فإنكم لم تذكروا عليه شبهة فضلا عن دليل، ومنع انتقاء اللازم فإن الروح تدرك بالحواس فتلمس وترى وتشم لها الرائحة الطيبة والخبيثة كما تقدم هم النفوس المستفيضة ولكن لا نشاهد نحن ذلك وهذا الدليل لا يمكن ممن يصدق الرسل أن يحتج به فإن الملك جسم ولا يقع تحت حاسة من حواسنا، وكذلك الجن والشياطين أجسام لطاف لا تقع تحت حاسة من حواسنا، والأجسام مفاوتة في ذلك تفاوتا كثيرا، فمنها ما يدرك بأكثر الحواس، ومنها ما لا يدرك بأكثرها، ومنها ما يدرك بحاسة واحدة، ومنها ما لا ندركه نحن في الغالب وإن أدرك في بعض الأحوال لكونه لم يخلق لنا إدراكه أو لمانع يمنع من إدراكه أو للطفه عن إدراك حواسنا، فما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها، وما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالنار والحصا والزجاج.

و أيضا فالروح هي المدركة لمدارك هذه الحواس بواسطة آلائها فالنفس هي الحاسة المدركة وإن لم تكن محسوسة والأعراض محسوسة والنفس محسة بها، وهي القابلة لأعراضها المتعاقبة عليها من الفضائل والرذائل كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها، وهي المتحركة باختيارها المحركة للبدن قسرا وقهرا.

و هي مؤثرة في البدن متأثرة به تألم وتلد وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتنعم وتيأس وتحب وتكره وتذكر وتنسى وتصعد وتنزل وتعرف وتنكر، وآثارها من أدل الدلائل على وجودها كما أن آثار الخالق سبحانه دالة على وجوده وعلى كماله فإن دلالة الأثر على مؤثرة ضرورية.

و تأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم ولا سيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك ولا سيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها فإن تأثيرها في العالم يقوى جدا تأثيرا بعجز عنه البدن وأعراضه أن تنظر إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها وهذا أمر قد شاهدته الأمم عن اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي سمى إصابة العين فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة وإنما هو للنفس المتكيفة ردية سمية، وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا تكون بل يوصف له الشيء من بعيد فتتكيف عليه لنفسه بتلك الكيفية فتفسده وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا بمجرد مقابلتها لها وقوتها وهذه وأضعافها آثار خارجة عن تأثير البدن وأعراضه فإن البدن لا يؤثر إلا فيما لاقاه وماسه تأثيرا مخصوصا ولم تزل الأمم تشهد تأثير الهمم الفعّالة في العالم وتستعين بها وتحذر أثرها، وقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يغسل عائن مغابنه ومواضع القذر منه، ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه، وذلك بسبب أمر طبيعي اقتضته حكمة اللّه سبحانه، فإن النفس الأمّارة لها بهذه المواضع تعلق وألف والأرواح [1][2] الخبيثة الخارجية تساعدها وتألف هذه المواضع غالبا للمناسبة بينها وبينها فإذا غسلت بالماء طفئت تلك النارية منها كما يطفأ الحديد المحمى بالماء فإذا صب ذلك الماء على المصاب طفا عنه تلك النارية التي وصلت إليه من العائن وقد وصف الأطباء الماء الذي يطفأ فيه الحديد لآلام وأوجاع معروفة، وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجردها في المنام عجائب تفوت الحصر وقد نبهنا على بعضها فيما مضى فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره أعجب من آثار الأبدان بل كل ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن فالنفوس والأبدان يتعاونان على التأثير تعاون المشتركين في الفعل وتنفرد النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن ولا يكون للبدن تأثير لا تشاركه فيه النفس.

========

فصل

قولكم في التاسع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت ذات طول وعرض وعمق وشكل وسطح وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة إلى آخره.

جوابه: أنا نقول قولكم هذه المقادير لا تقوم إلا بمادة قلنا وكان ما ذا والنفس لها مادة خلقت منها وجعلت على شكل معين وصورة معينة.

قولكم: مادتها إن كانت نفسا لزم اجتماع نفسين وإن كانت غير نفس كانت مرتبة من بدن وصورة.

قلنا: مادتها ليست نفسا كما أن مادة الإنسان ليست إنسانا ومادة الجن ليست جنا ومادة الحيوان ليست حيوانا.

قولكم: يلزم كون النفس مركبة من بدون وصورة. مقدمة كاذبة وإنما يلزم كون النفس مخلوقة من مادة ولها صورة معينة وهكذا نقول سواء ولم تذكروا على بطلان هذا شبهة فضلا عن حجة ظنية أو قطعية.

=======

فصل

قولكم في الوجه العشرين: أن خاصة الجسم أن يقبل التجزي وأن الجزء الصغير منه ليس كالكبير فلو قبلت التجزي فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة وإن لم يكن المجموع نفسا.

جوابه: إن أردتم أن كل جسم يقبل التجزي في الخارج فكذب ظاهر فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك ولا يلزم أن كل جسم يصح عليه التجزي والتبعيض في الخارج، أما على قول نفاة الجوهر الفرد فظاهر وأما على قول مثبتيه فإنه عدهم جوهر متحيز لا يصح عليه قبول الانقسام، سلمنا أنها تقبل الانقسام فأي شيء يلزم من ذلك؟

قولكم: إن كل جزء من تلك الأجزاء نفسا لزم اجتماع نفوس كثيرة في الإنسان.

قلنا: إنما يلزم ذلك لو انقسمت النفس بالفعل إلى نفوس كثيرة وهذا محال.

قولكم: وإن لم يكن كل جزء نفسا لم يكن المجموع نفسا. مقدمة كاذبة منتقضة فكم ماهية ثبت لها حكم عند اجتماع أجزائها فإن ذلك الحكم كماهية البيت والإنسان والعشرة وغيرها.

==========================

فصل

قولكم في الوجه الحادي والعشرون: أن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه وحفظه إلى نفس أخرى ويلزم التسلل.

جوابه: أنه لا يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظه افتقار النفس إلى نفس تحفظها وهل ذلك إلا بمجرد دعوة كاذبة مستند إلى قياس قد تبين بطلانه فإن كل جسم لا يصير إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات.

فإن قلتم: إن هذه ليست أحياء ناطقة بخلاف النفس فإنها حية ناطقة.

قلنا: فحينئذ يبقى الدليل هكذا أن كل جسم حي ناطق يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفس تقوم به. وهذه دعوى مجردة وهي كاذبة فإن الجن والملائكة أحياء ناطقون وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أخرى تقوم بهم.

فإن قلتم: وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسام متحيزة.

قلنا: للكلام مع من يؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله. وأما من كفر بذلك فالكلام معه في النفس ضائع، وقد كفر بفاطر النفس ومبدعها وملائكته وما جاءت به رسله وكان تاركا ما دل عليه العيان مع دليل الإيمان فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارها، ولا هي موجودة بنفسها، ولا تقدر عليها القوى البشرية.

=========

فصل

قولكم في الثاني والعشرين: لو كانت جسما لكان اتصالها بالبدن إن كان على سبيل المداخلة لزم تداخل الأجسام وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة للإنسان الواحد جسمان متلاصقان أحدهما يرى والآخر لا يرى.

جوابه من وجوه:

أحدها: أن تداخل الأجسام المحال أن يتداخل جسمان كثيفان إحداهما في الآخر بحيث يكون حيزهما واحدا وأما أن يدخل جسم لطيف في كثيف يسري فيه فهذا ليس بمحال.

الثاني: أن هذا باطل بصور كثيرة منها دخول الماء في العود والسحاب ودخول النار في الحديد ودخول الغذاء في جميع أجزاء البدن ودخول الجن في المصروع فالروح للطافتها لا يمتنع عليها مشابكة البدن والدخول في جميع أجزائه.

الثالث: أن حيز النفس البدن وحيزه مكانه المفصل عنه وهذا ليس بتداخل ممتنع فإذا فارقته صار لها حيز آخر غير حيزه وحينئذ فلا يتداخلان بل يصير لكل منهما حيز يخصه، وبالجملة فدخول الروح في البدن ألطف من دخول الماء في الثرى والدهن في البدن، فهذه الشبهة الفاسدة لا يعارض بها ما دل عليها نصوص الوحي والأدلة العقلية. وباللّه التوفيق.

=========

المسألة العشرون (وهي هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟)

فاختلف الناس في ذلك.

فمن قائل: أن مسماهما واحد وهم الجمهور.

ومن قائل: أنهما متغايران، ونحن نكشف سر المسألة بحول اللّه وقوته فنقول النفس تطلق على أمور:

أحدها: الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش:

نجا سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر

أي يحفن سيف ومئزر (و النفس والدم) يقال سالت نفسه وفي الحديث ما لا نفسه له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه (و النفس الجسد).

قال الشاعر:

نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور النفس المنذر

والتامور الدم (و النفس العين) يقال أصابت فلانا أي عين.

قلت: ليس كما قال بل النفس هاهنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين وسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم.

قلت: والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى:

﴿فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ﴾[24:61] وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾[16:111] وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [74:38] وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [89:27] وقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾[79:40] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾[12:53].

وأما الروح فلا تطلق على البدن بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾[42:52].

وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾[40:15] وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ [16:2] وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة.

وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح. قال الشاعر:

إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا

ومنها الروح والريحان والاستراحة، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا، ومنه النفس بالتحريك، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه.

فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم به كما تتم إلا بالنفس فلهذا قال:

تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل

ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا رفع باختياره وإراداته وفاض إذا اندفع قسرا وقهرا فاللّه سبحانه هو الذي يقضيها عند الموت فتفيض هي.

===========

فصل

وقالت: فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف: الروح غير النفس، قال مقاتل بن سليمان: للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد اللّه عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت، وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت.

قال أبو عبد اللّه بن منده: ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية.

و قال: بعضهم الروح لاهوتية [1] والنفس ناسوتية [2] وأن الخلق بها ابتلى.

و قالت طائفة: وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس، والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح، والنفس صورة العبد، والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وجعل الهوى تبعا للنفس، والشيطان تبع النفس والهوى، والملك مع العقل والروح، واللّه تعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه.

و قال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه أخفي حقيقتها وعلمها على الخلق.

و قال بعضهم: الأرواح نور من اللّه وحياة من حياة اللّه.

ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟

فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تبلى.

و قالت جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.

و قالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة.

و قال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح.

و قال بعضهم: الأرواح روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت.

قلت: أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللّه به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى:

﴿أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾[58:22] وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾[5:110] وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن.

و أما القوى التي في البدن فإنها تسعى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة باللّه والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح وهو قصبة فارغة ونحو ذلك.

فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت منهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا، واللّه المستعان.

هامش

أي إلهية.

أي إنسانية.

====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق