الثلاثاء، 21 يونيو 2022

الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل: الكتاب والسنّة والآثار

 

تابع الجنائز ويكي

المقدمة
الحمد للّه المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع، من سكان أرضه وسماواته، فهو الذي عدل في الآخرة بين برياته [1]، قبض روح هذا بعد ما عمر الدنيا وزخرف البناء وتوطّنها، وليست لحي وطنا، وتبغي روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجة [2]، واتخذ صالح الأعمال فيها سفنا، فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين، هذه لها السعادة والهناء، وتلك لها الخيبة والشقاء والعناء [3]، هذه ترفع في رياض الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تعذب في نار الجحيم. و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، إله تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان.
و أشهد أن محمدا صلوات اللّه وسلامه، عبده ورسوله الطيب الروح و الجسد، سيد ولد آدم [4]، وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [4:122] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [17:85] وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلم تسليما كثيرا (و بعد)
فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفوائد القلائد [5] في كتاب سواه، ويشتمل على جملة من المسائل، تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل: الكتاب والسنّة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسأل مصنفه قدس اللّه روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردا عن خطبة وسؤال أصلا مبتدئا فيه بقوله:
(أما المسألة الأولى وهي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا) فأحببت بعد استخارة اللّه سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة.
لكونه كتابا في ضمن مسائلة التي تتأملها وتشاهدها كل درة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوي همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه. واللّه سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة، أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه إنه سميع عليم، إنه على كل شي ء قدير وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(قال) الشيخ الإمام العالم العامل ترجمان القرآن، ذو الفنون الحسان، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، أوحد الحفّاظ، فارس المعاني والألفاظ، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، عمدة المفسرين، بغية المجتهدين، شمس الدين أبو عبد اللّه محمد ابن الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبي بكر ابن الشيخ الكبير أيوب بن سعد الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي قدس اللّه تعالى روحه، ونور ضريحه، وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة ولسائر علماء الإسلام الجهابذة النقّاد الأعلام آمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وآله وصحبه أجمعين.
هامش
القلادة ما يجعل في الصف من حلي ونحوه، أو وسام تمنحه الدولة لمن تشاء تقديرا له، والجمع قائد.
يُقال: برأ اللّه الخليقة يبرؤها (بفتحتين) أي خلقها، فهو البارئ، والبرية فعيلة بمعنى مفعولة.
اللّجّ: بالضم: الجماعة الكثيرة ومعظم الماء، كاللجة فيهما، ومنه بحر لجي ويكسر.
عني: من باب تعب، إذا نشب في الإسار فهو عان، والجمع عناة، ويتعدى بالهمزة، وعنى الأسير من باب تعب لغة أيضا، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة عند الزوج، والجمع عوان، وعنا يعنو عنوة: إذا أخذ الشي ء قهرا، وكذلك إذا أخذه صلحا فهو من الأضداد قال (كثير عزة):
"فما أخذوها عنوة عن مودة ... ولقد ضرب المشرفي استقلالها"
أخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» انظر سنن أبي داود رقم 4673.
========
المسألة الأولى (و هي: هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا)
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
و في الصحيحين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان ابن فلان، «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال له عمر: يا رسول اللّه ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال:
«و الذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا» [1]. و ثبت عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه [2].
و قد شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين [3] وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل- ولو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
و السلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (حدثنا) محمد بن عون حدثنا يحيى بن يمان عن عبد اللّه بن سمعان عن زيد بن أسلم عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم» (حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه فسلم عليه، رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام (حدثنا محمد بن الحسين حدثني يحيى بن بسطام الأصغر حدثني مسمع حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قد مت. قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [4]، نتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟
قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت:
فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته (و حدثنا) محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد، حدثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبان فنقف على القبور فنسلّم عليهم وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صبرت هذا اليوم يوم الاثنين، قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها (حدثني) محمد حدثنا عبد العزيز بن إبان قال: حدثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته الأخيرة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
(حدثنا) خالد بن خداش، حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج [5] (قال وسمعت أبا التياح) يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة، حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة، قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما [يقولون؟ قالوا: يقولون]: [6] سلام سلام.
(حدثني) محمد بن الحسين حدثني يحي بن أبي بكير، حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء اللّه، ثم إني أتيته يوما، فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قام في قبره متوشحا أكفانه [7] عليه سحنة [8] الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال:
فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا.
(حدثني) محمد، حدثني يحي بن بسطام، حدثني عثمان بن سودة الطفاوي (و كانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة) قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخرتي وذخيرتي [9]، ومن عليه اعتمادي في حياتي و بعد موتي لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني [10] في قبري، فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها: يا أمي كيف أنت؟ قالت: أي بني أن للموت لكربة شديدة، وأني بحمد اللّه لفي برزخ [11] محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبرق [12] إلى يوم النشور [13] فقلت لها: أ لك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات:
(حدثني) محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس اللّه وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال: فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت: فإني أعود لذلك، قال: فما تركتها بعد [14]. (حدثني) محمد حدثني أحمد بن سهل حدثني رشد بن سعد عن رجل عن يزيد بن أبي حبيب أن سليم بن عمر مر على مقبرة وهو حاقن [15] قد غلبه البول، فقال له بعض أصحابه: لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها، فبكى ثم قال: سبحان اللّه، واللّه إني لأستحي من الأموات كما أستحي من الأحياء، ولو لا أن الميت يشعر بذلك لما استحيا منه.
(و أبلغ) من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه، قال عبد اللّه بن المبارك [16]: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: عظني؟
قال: بم أعظك أصلحك اللّه، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى فانظر ما يعرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل [17] لحيته.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأموي، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة [18] فمات أبي، فأنبت وندمت على ما فرطت، قال: ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام فقال: أي بني ما كان أشد فرحي بك، أعمالك تعرض علينا فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات، فقال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر (و كان جار لي بالكوفة): أسألك إنابة لا رجعة فيها ولا حور [19]، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.
و هذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد اللّه بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد اللّه بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد اللّه.
و يكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ولو لا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره هذا، هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية» [20].
و هذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، وإذا صلى الرجل قريبا منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
(قال) يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال:
فصليت ركعتين، ثم اتكأت عليه، فو اللّه إن قلبي ليقظان، إذ سمعت صوتا من القبر، إليك عني لا تؤذني فإنكم [اليوم] [21] تعلمون ولا تعملون، ونحن [اليوم] نعلم ولا نعمل ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إلي من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.
(و قال) ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العجلي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم، حدثنا أبو قلابة قال:
أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلا، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني، قد آذيتني منذ الليلة ثم قال: إنكم تعلمون ولا تعملون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى اللّه أهل الدنيا خيرا، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورا مثال الجبال. (و حدثني) الحسين العجلي، حدثنا عبد اللّه بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، عن منصور بن زيد بن وهب قال: خرجت إلى الجبّانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسواه، ثم تحول إلي فجلس قال: فقلت لمن هذا القبر؟
قال: أخ لي، فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في اللّه رأيته فيما يرى النائم فقلت:
فلان عشت، الحمد للّه رب العالمين، قال: قد قلتها، لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: أ لم تر حيث كانوا يدفنونني، فإن فلانا قام فصلى ركعتين، لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها (حدثني) أبو بكر التيمي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثني الليث بن سعد (حدثني) حميد الطويل، عن مطرف بن عبد اللّه الحرشي قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخل يوم الجمعة لشهودها وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمت شهود هذه الجنازة فشهدتها، قال:
فاعتزلت ناحية قريبا من قبر، فركعت ركعتين خففتهما لم أرض إتقانهما ونعمت، فرأيت صاحب القبر يكلمني وقال: ركعت ركعتين لم ترض إتقانهما؟ قلت: قد كان ذلك، قال: تعلمون ولا تعملون ولا نستطيع أن نعمل، لأن أكون ركعت مثل ركعتيك أحب إلي من الدنيا بحذافيرها، فقلت: من هاهنا؟ فقال: كلهم مسلم، وكلهم قد أصاب خيرا، فقلت: من هاهنا أفضل؟ فأشار إلى قبر، فقلت في نفسي اللهم ربنا أخرجه إلي فأكلمه، قال: فخرج من قبره فتى شاب، فقلت: أنت أفضل من هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك، قلت: فبأي شي ء نلت ذلك، فو اللّه ما أرى لك ذلك السن فأقول نلت ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل اللّه والعمل، قال قد ابتليت بالمصائب فرزقت الصبر عليها فبذلك فضلتهم.
تنبيه:
و هذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وأنها لا يحصيها إلا اللّه قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شي ء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها. و قد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه (فروى) مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال:
حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت [22]، فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه، أما بشرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وإني كنت على أطباق ثلاث [23]، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مني ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل اللّه الإسلام في قلبي لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: فقال: «ما لك يا عمرو»؟ قال قلت: أردت أن أشترط. قال: «تشترط ما ذا»؟ قلت: أن يغفر لي قال: «أ ما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنا [24]، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور [25]، ويقسم لحمها حتى استأنس بكم وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربي [26]. فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم.
و قد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق: يروى أن عبد اللّه بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك.
و قال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: (أخبرنا) العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل: بسم اللّه وعلى سنّة رسول اللّه، وسن عليّ التراب سنا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد اللّه بن عمر يقول ذلك (قال) عباس الدورمي: سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئا؟ فقال:
لا، وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
(قال الخلال) وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقا قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد اللّه ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئا؟
قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن [أن] [27] يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ [28]. (و قال) الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس بها [29].
(و ذكر) الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها (تبارك) لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى اللّه أبا علي خيرا، فقد انتفعت بما قرأ.
(أخبرني) الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نضر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثوابا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: أنت فلان ابن فلانة؟ قال: نعم، قالت: إن بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس وجعل ثوابها لأهل المقابر فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا أو نحو ذلك.
(و في النسائي) وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [30] وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه. ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه: (أحدها) أنه نظير قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه» [31].
(الثاني) انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ۝26بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ۝27﴾ [36:26—27] فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء اللّه فيحب اللّه لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
و قد ذكر أبو الفرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) وقضى.
(الثالث) أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤون «يس» عند المحتضر.
(الرابع) أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم» [32]، قراءتها عند القبر: لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم.
(الخامس) إن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت.
و قد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال: ذكر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام». ويروي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: «فإن لم يعرفه وسلّم عليه رد عليه السلام».
(قال) ويروى من حديث عائشة رضي اللّه تعالى عنها أنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم».
و احتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد اللّه عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» [33]. وقال سليمان بن نعيم رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول اللّه هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، وكان صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: «السلام عليكم أهل الديار [34] الحديث: قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له. (قال أبو محمد) ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوما جنازة في المقبرة التي أدفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟
قلت له: يا أبت وأنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: أي واللّه يا بني، لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن بشار الكوفي قال: حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة.
و صح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وأنهم ليغسلونه ويكفنونه وأنه لينظر إليهم.
و صح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.
هامش
أخرج أبو داود برقم 3237 عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون».
و أخرج الترمذي برقم 1053 عن ابن عباس قال: مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».
و أخرج ابن ماجه عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها قالت: فقدته (تعني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم) فإذا هو بالبقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم فرط لنا، وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم».
قال الخطابي في معالم السنن: وأما قوله «و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون» فقد قيل أن ذلك ليس على معنى الاستثناء الذي يدخل الكلام لشك وارتياب، ولكنه عادة المتكلم يحسن بذلك كلامه ويزينه، كما يقول الرجل لصاحبه: إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء اللّه، وإن ائتمنتني لم أخنك إن شاء اللّه، في نحو ذلك من الكلام، وهو لا يريد به الشك في كلامه، وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون متحققون بالإيمان والآخرون يظنون بهم النفاق، فكان استثناؤه منصرفا إليهم دون المؤمنين، فمعناه اللحوق بهم في الإيمان، وقيل أن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الموت.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 101): حدثنا علي بن عبد اللّه، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن صالح، حدثني نافع: أن ابن عمر رضي اللّه عنهما أخبر وقال: اطلع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على أهل القليب فقال: «وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» فقيل له: أ تدعو أمواتا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون».
و روى مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (8/ 163) قال: حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس كنت مع عمر (ح) وحدثنا شيبان بن فروخ (و اللفظ له): حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال: فجعلت أقول لعمر: أ ما تراه؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللّه»، قال: فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم اللّه ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني اللّه حقا» قال عمر: يا رسول اللّه كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها!، قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئا».
قال النووي رحمه اللّه: قوله عليه الصلاة والسلام: «هذا مصرع فلان» الخ ... هذا من معجزاته صلى اللّه عليه وآله وسلم الظاهرة.
روى أبو داود في سننه في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور برقم 3231 قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا عبد الوهاب- يعني ابن عطاء- عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».
و أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الميت يسمع خفق النعال (2/ 113) وفي باب ما جاء في عذاب القبر. كما أخرجه مسلم في كتاب الجنة باب عرض مقعد الميت (8/ 162) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا».
و أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب المسألة في القبر وباب مسألة الكافر (2051 و2053).
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة برقم 249 وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب ما يقول: إذا زار القبور أو مر بها، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ذكر الحوض برقم 4306 ولفظه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه أتى المقبرة فسلم على المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه تعالى بكم لاحقون» ثم قال: «لوددنا أنا قد رأينا إخواننا» قالوا: يا رسول اللّه، أو لسنا إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي، وأنا فرطكم على الحوض» قالوا: يا رسول اللّه، كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال:
«أ رأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل وهم بهم، أ لم يكن يعرفها؟» قالوا: بلى، قال: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء» قال: «أنا فرطكم على الحوض» ثم قال:
«ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير، فأناديهم: ألا هلموا، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم فأقول: ألا سحقا سحقا».
هو أبو عبد اللّه بكر بن عبد اللّه المزني الفقيه، روى عن المغيرة ابن شعبة وجماعة، توفي سنة ثمان ومائة، وقيل سنة ست.
أدلج: أي سار من أول الليل، والاسم: الدلج، بفتحتين، والدّلجة والدّلجة بوزن الجرعة والضربة، وأدلج بتشديد الدال: سار من آخره.
زيادة على المطبوع لعدم وضوح العبارة في الأصل.
الوشاح بالضم والكسر: كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وأديم عريض يرصع بالجوهر، تشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها، جمع وشح وأوشحة ووشائح، وقد توشحت المرأة واتشحت ووشحتها توشيحا.
السحنة: الهيئة.
يقال: ذخرته ذخرا: من باب نفع، والاسم: الذخر، بالضم، إذا أعددته لوقت الحاجة إليه، وأذخرته على افتعلت مثله، وهو مذخور وذخيرة أيضا، وجمع الذخر: أذخار، مثل قفل وأقفال، وجمع الذخيرة: ذخائر.
الوحشة: الخلوة والهم، وقد أوحشه اللّه فاستوحش، وأوحش المنزل: أقفر وذهب عنه الناس.
البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، ومن وقت الموت إلى القيامة، ومن مات دخله، وبرازخ الإيمان:
ما بين أوله وآخره، أو ما بين الشك واليقين.
الإستبرق: هو الديباج الغليظ، وهو فارسي معرب، وتصغيره أبيرق.
وهو يوم القيامة.
زيارة القبور للرجال مستحبة، لما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة» والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهاهم أول الأمر عن زيارة القبور لقرب عهدهم بالجاهلية، فلما اطمأنوا إلى الإسلام وعرفوا أحكامه وحدوده وطبقوها كان الأمر بزيارة القبور للاعتبار والاتعاظ فترقق القلب وتصفي النفس وتقلل من خطر الدنيا في نفس المؤمن. أما زيارة النساء للقبور فقد روى الحاكم والبيهقي والإمام أحمد عن عبد اللّه بن أبي مليكة أن السيدة عائشة رضي اللّه عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟
قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أ ليس كان نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها.
ذكره قوم زيارة النساء للقبور لما رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لعن اللّه زوارات القبور».
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك.
قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر.
الحاقن هو الذي به بول شديد، يقال: احتقن المريض: أي احتبس بوله فاستعمل الحقنة.
هو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد ذو المناقب سمع هشام بن عروة وحميد الطويل وهذه الطبقة وصنف التصانيف الكثيرة وحديثه نحو عشرين ألف حديث، قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله.
و عن شعيب بن حرب قال: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه، وكانت له تجارة واسعة، كان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم، قال ابن ناصر الدين: الإمام العلّامة الحافظ شيخ الإسلام وأحد أئمة الأنام ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة، حدث عنه ابن منيع وابن معين وأحمد بن حنبل وغيرهم، جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر وفصاحة العرب مع قيام الليل والعبادة.
قال ابن الأهدل: تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع في الخلوات شديد الورع. توفي سنة إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون سنة، قيل مات بهيت- بالكسر- بلد بالعراق منصرفا من غزوة، وقيل مات في برية سائحا مختارا للعزلة.
قال في العبر: كان أستاذه تاجرا فتعلم منه، وكان أبوه تركيا وأمه خوارزمية.
(انظر شذرات الذهب 1/ 295).
يقال: شيء خضل أي رطب، والخضل: النبات الناعم، وأخضل الشي ء اخضلالا واخضوضل:
أي ابتل.
أي تبيحه.
الحور: الرجوع.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون أنتم فرطنا ونحن تبع لكم، ونسأل اللّه لنا ولكم العافية» وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر».
وردت في المطبوع: يوم ولعله كما أثبتناه.
وردت في مسلم: في سياقة الموت، قال النووي: أي حال حضور الموت.
قال النووي: قوله على أطباق ثلاث أي على أحوال، فلهذا أنت ثلاثا إرادة لمعنى أطباق.
وردت في مسلم: فشنوا على التراب شنا، وضبط النص بالشين والسين، ومعناه على الأول: فرقوا عليّ التراب، ومعناه على الثاني: صبوا عليّ التراب، والمراد به المنع من الترصيص على القبر بنحو طين وآجر.
قال في المصباح: الجزور هي الناقة التي تنحر.
انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان باب كون الإسلام بهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1/ 78).
زيادة على المطبوع لسياق العبارة.
أخرج ابن ماجه برقم 242 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته».
و من المتفق عليه أن الميت ينتفع بما كان سببا فيه من أعمال البر في حياته ومنها قراءة القرآن وهذا رأي جمهور من أهل السنة، قال النووي: المشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل. و ذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان.
و قال ابن قدامة في المغني: قال أحمد بن حنبل: الميت يصل إليه كل شي ء من الخير للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل عصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا. والقائلون بوصول ثواب القراءة إلى الميت يشترطون أن لا يأخذ القارئ على قراءته أجرا، فإن أخذ القارئ أجرا على قراءته حرم على المعطي والآخذ ولا ثواب له على قراءته لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن بن شبل أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «اقرؤوا القرآن واعملوا ... ولا تجفوا عنه ولا تغفلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به».
اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن عند القبر، فذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى استحبابها، وقال بذلك أيضا القاضي عياض والقرافي من المالكية، وقال الإمام أحمد: لا بأس بها. وكرهها مالك وأبو حنيفة لعدم ورود السنّة بها.
أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما يقال عند المريض إذا حضر برقم 1448 بلفظ: «اقرءوها عند موتاكم» يعني يس. وهو حديث ضعيف.
أخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب تلقين الميت (4/ 5) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين الميت لا إله إلا اللّه برقم 1444 و1445، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده برقم 976، كما أخرجه مسلم في كتاب الجنائز برقم 1، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب في التلقين برقم 3117.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان عن معقل بن يسار رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «يس قلب القرآن، لا يقرأها رجل يريد اللّه والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم».
أخرجه أبو داود برقم 2041.
=======
فصل تلقين الميت
و يدل على هذا أيضا على ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولو لا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثا، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه اللّه فاستحسنه واحتج عليه بالعمل.
(و يروى) فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني [1] في معجمه من حديث أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة الثانية، فإنه يستوي قاعدا، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك اللّه ولكنكم لا تسمعون، فيقول: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وأنك رضيت باللّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما: فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته، ويكون اللّه و رسوله حجيجه دونهما، فقال رجل: يا رسول اللّه فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء».
فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصل العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به وما أجرى اللّه سبحانه العادة قط بأن أمه طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه [2].
و قد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال: «سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل» [3].
فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين.
و قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين [4]. و ذكر عبد الحق عن بعض الصالحين قال: مات أخ لي فرأيته في النوم فقلت: يا أخي ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لهلكت.
و قال شبيب بن شيبة: أوصتني أمي عند موتها فقال: يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري وقل: يا أم شبيب قولي: لا إله إلا اللّه، فلما دفنتها قمت عند قبرها فقلت: يا أم شبيب قولي: لا إله إلا اللّه ثم انصرفت، فلما كان من الليل رأيتها في النوم فقالت: يا بني كدت أن أهلك لو لا أن تداركتني ب لا إله إلا اللّه، فقد حفظت وصيتي يا بني.
و ذكر ابن أبي الدنيا عن تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عيينة قالت: رأيت سفيان بن عيينة [5] في النوم فقال: جزى اللّه أخي أيوب عني خيرا فإنه يزورني كثيرا وقد كان عندي اليوم، فقال أيوب: نعم حضرت الجبان اليوم فذهبت إلى قبره.
و صح عن حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب أن الصعب بن جثامة [6] وعوف بن مالك كانا متآخيين، قال صعب لعوف: أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراءى له، قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم، فمات صعب فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه قال: قلت: أي أخي، قال: نعم، قلت: ما فعل بكم؟
قال: غفر لنا بعد المصائب، قال: ورأيت لمعة [7] سوداء في عنقه، قلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها [8] من فلان اليهودي فهن في فرني فأعطوه إياها، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي بعد موتي إلا قد لحق بي خبره، حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، وأعلم أن ابنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصوا بها معروفا، فلما أصبحت قلت: إن في هذا لمعلما، فأتيت أهله فقالوا: مرحبا بعوف أ هكذا تصنعون بتركة إخوانكم لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فاعتلت بما يعتل به الناس، فنظرت إلى الفرن فأنزلته، فانتشلت ما فيه، فوجدت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت بها إلى اليهودي فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال:
رحم اللّه صعبا كان من خيار أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هي له، قلت: لتخبرني، قال: نعم أسلفته عشرة دنانير فنبذتها إليه، قال: هي واللّه بأعيانها، قال: قلت: هذه واحدة. قال: فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موتة صعب؟ قالوا: نعم، حدث فينا كذا، حدث فينا كذا، قال: قلت: اذكروا، قالوا نعم، هرة ماتت منذ أيام، فقلت هاتان اثنتان.
قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأتيت بها فمسستها فإذا هي مجموعة، فقلت: استوصوا بها معروفا فماتت في ستة أيام.
و هذا من فقه عوف رحمه اللّه [9]، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب ابن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أن الدنانير عشرة وهي في الفرن، ثم سأل اليهودي فطابق قوله لما في الرؤيا، فجزم عوف بصحة الأمر فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم، وهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول: كيف جاز لعون أن ينقل الدنانير من تركة صعب وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام.
و نظير هذا الفقه الذي خصهم اللّه به دون الناس قصة ثابت بن قيس بن شماس [10]، وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيره قال أبو عمر: أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، حدثنا سعيد بن عفير وعبد العزيز يحيى المدني، حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري عن ثابت بن قيس بن شماس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال له: «يا ثابت أ ما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة». قال مالك: فقتل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيدا.
(قال) أبو عمر: روى هشام بن عمار عن صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني عطاء الخراساني قال: حدثتني ابنة ثابت ابن قيس بن شماس قالت، لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [49:2] دخل أبو هابية وأغلق عليه بابه، ففقده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأرسل إليه يسأله ما خبره؟ قال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي، قال: لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير قال: ثم أنزل اللّه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾[31:18] فأغلق عليه بابه وطفق يبكي، ففقده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول اللّه إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: «لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة». قالت: فلما كان [يوم] [11] اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا وانكشفوا قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم حفر كل واحد له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين، فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه في منامه فقال له:
أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة [12] وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى دراعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله و سلم (يعني أبا بكر الصديق) فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق. وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إليّ الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه اللّه. انتهى ما ذكره أبو عمرو.
فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هي في يده بها وهذا محض الفقه.
و إذا كان أبو حنيفة وأحمد ومالك يقبلون قول المدعي من الزوجين ما يصلح دون الآخر بقرينة صدقه فهذا أولى.
و كذلك أبو حنيفة يقبل قول المدعي للحائط بوجود الآجر إلى جانبه وبمعاقد القمط [13].
و قد شرع اللّه حد المرأة بإيمان الزوج وقرينة تكون لها، فإن ذلك أظهر الأدلة على صد الزوج.
و أبلغ من ذلك قبل المقسم عليه في القسامة بإيمان المدعين مع القرينة الظاهرة من اللوث.
و قد شرع اللّه سبحانه قبول قول المدعين لتركة ميتهم إذا مات في السفر، وأوصى إلى رجلين من غير المسلمين فاطلع الورثة على خيانة الوصيين بأنهما يحلفان باللّه ويستحقانه وتكون إيمانهما أولى من إيمان الوصيين، وهذا أنزله اللّه سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة [14] وهي من آخر القرآن نزولا ولم ينسخها شيء وعمل الصحابة بعده. و هذا دليل أنه يقضى في الأموال باللوث [15] وإذا كان الدم يباح باللوث في القسامة فلأن يقضي باللوث وهو القرائن الظاهرة في الأموال أولى وأخرى.
و على هذا عمل ولاة العدل في استخراج السرقات من السراق حتى أن كثيرا ممن ينكر ذلك عليهم يستعين بهذا إذا سرق ماله.
و قد حكى اللّه سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسف الصديق وامرأة العزيز أنه حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة ولم ينكر اللّه سبحانه عليه ذلك بل حكاه عنه تقريرا له [16].
و أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن نبي اللّه سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين تداعتا الولد للصغرى بالقرينة التي ظهرت له لما قال:
ائتوني بالسكين أشق، الولد بينكما فقالت الكبرى نعم رضيت بذلك للتسلي بفقد ابن صاحبتها وقالت الأخرى: لا تفعل هو ابنها فقضى به لها للشفقة والرحمة التي قامت بقلبها حتى سمحت به للأخرى ويبقى حيا وتنظر إليه [17].
و هذا من أحسن الأحكام وأعدلها وشريعة الإسلام تقرر مثل هذا وتشهد بصحته وهل الحكم بالقافة [18] وإلحاق النسب لها للاعتماد على قرائن الشبه مع اشتباهها وخفائها غالبا.
و المقصود أن القرائن التي قامت في رؤيا عوف بن مالك وقصة ثابت بن قيس لا تقصر عن كثير من هذه القرائن بل هي أقوى من مجرد وجود الآجر ومعاقد القمط وصلاحية المتاع للمدعي دون الآخر في مسألة الزوجين والصانعين وهذا ظاهر لإخفاء به وفطر الناس وعقولهم تشهد بصحته وباللّه التوفيق.
و المقصود جواب السائل وإن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأخرى.
هامش
ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «هل مسحتما سيفيكما»؟ قالا: لا، قال: «فأرياني» فلما نظر فيهما قال لأحدهما: «هذا قتله» وقضى له بسلبه.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 45 قال: وفي إسناده جماعة لم أعرفهم، وقال ابن حجر في (أمالي الأذكار): حديث غريب.
ذكر ابن القيم في (زاد المعاد) 1/ 523: فهذا حديث لا يصح رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللّه: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلانة، اذكر ما فارقت عليه الدنيا: شهادة أن لا إله إلا اللّه، فقال: ما رأيت أحدا فعل ذلك إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة، وقد ذكر سعيد بن منصور في سننه عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالوا: إذا سوى على الميت قبره وانصرف الناس عنه، فكانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه (ثلاث مرات) يا فلان: قل ربي اللّه، وديني الإسلام، نبيي محمد، ثم ينصرف.
أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز (3/ 550) برقم 3220 عن عثمان بن عفان قال: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».
وأخرج البخاري بنحوه في كتاب الجنائز باب الميت يسمع خفق النعال وفي باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 113)، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز باب المسألة في القبر وباب مسألة الكافر برقم 2051 و2053 وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز باب المشي في النعل بين القبور برقم 3231 ولفظه: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب- يعني ابن عطاء- عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم».
هو أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي مولاهم الكوفي الحافظ نزيل مكة سمع زياد بن علاقة والزهري والكبار، قال الشافعي: لو لا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وقال ابن وهب: لا أحد أعلم بالتفسير من ابن عيينة، وقال أحمد العجلي: كان حديثه نحو أن سبعة آلاف حديث ولم يكن له كتب، وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا أعلم بالسنن من ابن عيينة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة وله أحد وتسعون سنة.
الصعب بن جثامة له صحبة ورواية.
اللمعة بوزن الرقعة: هي قطعة من النبت إذا أخذت في اليبس.
يُقال: استسلف منه دراهم وتسلف فأسلفه أي أخذ منه مالا على سبيل القرض.
هو عوف بن مالك الأشجعي ممن شهد فتح مكة، توفي سنة ثلاث وسبعين.
خطيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
زيادة على المطبوع ولعل الصواب ما أثبتناه.
البرمة: هي القدر.
هي الخشب التي تكون على ظاهر الخصب أو باطنه، يشد إليها حرادي القصب أو رؤوسه.
وهي قوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ۝106فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ۝107ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ۝108﴾ [5:106—108]
اللوث بالفتح: البنية الضعيفة غير الكاملة.
وهو قوله تعالى: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [12:26]
ذكر ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية أنه استدل برضا الكبرى بذلك، وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها وشفقة الرضى عليه، وامتناعه عن الرضا بذلك دل على أنها أمه، وأن الحامل لها على امتناع من الدعوى، ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها اللّه في قلب الأم، فاتضحت وقويت هذه القرينة عنده، حتى قدمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها: هو ابنها، وهذا هو الحق.
قال النووي: قال العلماء: يحتمل أن داود عليه السلام قضى به للكبرى لشبه رآه فيها، أو أنه كان في شريعته ترجيح الكبرى أو لكونه كان في يدها، فكان ذلك مرجحا في شرعه، وأما سليمان عليه السلام فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطنة القضية، فأوهمها أنه يريد قطعه ليعرف من يشق عليها قطعه فتكون هي أمه، فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتها ليتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكر عرفها، ولعله استقر الكبرى فأقرت بعد ذلك للصغرى فحكم بالإقرار بمجرد الشفقة المذكورة.
=========
المسألة الثانية (و هي: أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا)
و هي أيضا مسألة شريفة كبيرة القدر، وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69] وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة.
(و روى) جرير عن منصور عن أبي ضحى بن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإذا مت رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69].
(و قال الشعبي) جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «ما يبكيك يا فلان»؟ فقال: يا نبي اللّه واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، واللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأنا أذكرك وأنا وأهلي فيأخذني كذا حتى أراك، فذكرت موتك وموتي فعرفت أني لن أجامعك إلا في الدنيا وأنك ترفع في النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك، فلم يرد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا فأنزل اللّه تعالى ﴿ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ﴾[4:69] إلى قوله ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾[4:70] وقال تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:27—30] أي ادخلي في جملتهم كوني معهم وهذا يقال للروح عند الموت.
(و في قصة الإسراء) من حديث عبد اللّه بن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا الحديث إلى عيسى، فقال عيسى: عهد اللّه فيما إليّ فيما دون وجبتها فذكر خروج الدجال، قال: فأهبط فأقتله، ويرجع الناس إلى بلادهم فتستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه، ولا يمرون بشي ء إلا أفسدوه، فيجأرون إلي فأدعو اللّه فيميتهم، فتجأر الأرض إلى اللّه من ريحهم، ويجأرون إليّ فأدعو ويرسل اللّه السماء بالماء فيحمل أجسامهم فيقذفها في البحر، ثم ينسف الجبال ويمد الأرض مد الأديم، فعهد اللّه إليّ إذا كان كذلك، فإن الساعة من الناس كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا، ذكره الحاكم والبيهقي وغيرهما.
و هذا نص في تذاكر الأرواح العلم. و قد أخبر اللّه سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم يستبشرون بنعمة من اللّه، وفضل وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنهم عند ربهم يرزقون وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون.
(الثاني) أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
(الثالث) أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون.
و قد تواترت المرائي بذلك، (فمنها) ما ذكره صالح بن بشير قال: رأيت عطاء السلمي في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك اللّه لقد كنت طويل الحزن في الدنيا، فقال: أما واللّه لقد أعقبني ذلك فرحا طويلا وسرورا دائما، فقلت: في أي الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(و قال) عبد اللّه بن المبارك: رأيت سفيان الثوري [1] في النوم فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ قال: لقيت محمدا وحزبه.
(و قال) صخر بن راشد: رأيت عبد اللّه بن المبارك [2] في النوم بعد موته فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب، قلت: فسفيان الثوري؟ قال: بخ بخ ذاك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن يقظة بنت راشد قالت: كان مروان المحملي لي جارا وكان قاضيا مجتهدا، قالت:
فمات فوجدت عليه وجدا شديدا قالت: فرأيته فيما يرى النائم قلت: أبا عبد اللّه ما صنع بك ربك؟ قال: أدخلني الجنة، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى أصحاب اليمين، قلت: ثم ما ذا؟ قال: ثم رفعت إلى المقربين، قلت: فمن رأيت من إخوانكم؟ قال: رأيت الحسن وابن سيرين وميمون بن سياه، قال حماد: قال هشام بن حسان: فحدثتني أم عبد اللّه وكانت من خيار نساء أهل البصرة قالت:
رأيت فيما يرى النائم كأني دخلت دار حسنة ثم دخلت بستانا فذكرت من حسنه ما شاء اللّه، فإذا أنا فيه برجل متكئ على سرير من ذهب وحوله الوصفاء بأيديهم الأكاويب قالت: فإني لمتعجبة من حسن ما أرى إذ قيل هذا مروان المحملي أقبل، فوثب فاستوى جالسا على سريره قالت: واستيقظت من منامي فإذا جنازة مروان قد مر بها على بابي تلك الساعة.
و قد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها.
(قال) ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيغ، أخبرني فضل بن سليمان النميري، حدثني يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور [3] وجدت عليه أم بشر وجدا شديدا فقالت: يا رسول اللّه إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رءوس الشجر» وكان لا يهلك هالك من بني سلمة، جاءته أم بشر فقالت: يا فلان عليك السلام، فيقول: وعليك، فتقول: اقرأ على بشر السلام.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: أهل القبور يتوكفون الأخبار، فإذا أتاهم الميت قالوا: ما فعل فلان؟
فيقول: صالح، ما فعل فلان؟ يقول: صالح، ما فعل فلان؟ فيقول: أ لم يأتكم أو ما قدم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون سلك به غير سبيلنا.
(و قال) صالح المري: بلغني أن الأرواح تتلاقى عند الموت فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليها: كيف كان مأواك وفي أي الجسدين كنت في طيب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء.
(و قال) عبيد بن عمير: إذا مات الميت تلقته الأرواح يستخبرونه كما يستخبر الركب ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي ولم يأتهم، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية (و قال) سعيد بن المسيب: إذا مات الرجل استقبله ولده كما يستقبل الغائب؛ (و قال) عبيد بن عميرة أيضا: لو أني آيس من لقاء من مات من أهلي لألفاني قدمت كمدا.
(و ذكر) معاوية بن يحيى عن عبد اللّه بن سلمة أن إبراهيم المسمعي حدثه أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن نفس المؤمن إذا قبضت تلقاه أهل الرحمة من عند اللّه كما يتلقى البشير في الدنيا فيقولون: انظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب شديد [4] فيسألونه: ما ذا فعل فلان؟ وما ذا فعلت فلانة؟ وهل تزوجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل مات قبله قال: إنه قد مات قبلي، قالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية.
و قد تقدم حديث يحيى بن بسطام، حدثني مسمع بن عاصم قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أ ليس قدمت؟ قال: بلى، قلت: وأين أنت؟ قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني [5] فنتلقى أخباركم، قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات [6] بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح.
هامش
كلمة تبعيد، وهي مبنية على الفتح، وأناس يكسروها على كل حال.
هو الإمام أبو عبد اللّه سفيان بن سعيد الثوري الفقيه سيد أهل زمانه علما وعملا، روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير، قال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ، ما فيهم أفضل من سفيان. وقال أحمد بن حنبل: لا يتقدم على سفيان في قلبي أحد. ولكن سفيان كثير الحط على المنصور لظلمه، فهمّ به وأراد قتله فما أمهله اللّه. توفي رحمه اللّه تعالى في البصرة متواريا إحدى وستين ومائة قال ابن رجب: وجد في آخر القرن الرابع سفيانيون، ومناقبه تحمل مجلدات. ورآه بعضهم بعد موته فقال:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواما إذ أظلم الدجى ... بصبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصد أردته ... وزرني فإني منك غير بعيد
هو الإمام العلم أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ ذو المناقب، سمع هشام بن عروة وحميد الطويل وهذه الطبقة، وصنف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث. قال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وكانت له تجارة واسعة ينفق منها على الفقراء في السنة مائة ألف درهم. قال الفضيل بن عياض: ورب الكعبة ما رأت عيناي ابن المبارك. قال ابن الأهدل: تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه في الموطأ، وكان كثير الانقطاع في الخلوات شديد الورع. وكذلك أبوه مبارك. قال في العبر: كان أستاذه تاجرا فتعلّم منه، وكان أبوه تركيا وأمه خوارزمية. توفي بهيت (بلد في العراق وقبره يزار هناك) سنة إحدى وثمانين ومائة.
هو بشر بن البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، توفي رحمه اللّه تعالى بعد أكله من الشاة المسمومة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقصتها معروفة مشهورة.
الكربة: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذا الكرب، يقال: كربه الغم أي اشتد عليه.
هو أبو عبد اللّه بكر بن عبد اللّه المزني البصري الفقيه، روى عن المغيرة ابن شعبة وجماعة، توفي سنة ثمان ومائة.
========
المسألة الثالثة (و هي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا)
شواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من يحصيها إلا اللّه تعالى، والحس والواقع من أعدل الشهود بها، فتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [39:42][1].
(قال) أبو عبد اللّه بن منده: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد اللّه بن حسين الحراني وحدثنا جدي أحمد بن شعيب حدثنا موسى بن أعين عن مطرف عن جعفر أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
و قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، حدثنا الحسين، حدثنا عامر، حدثنا إسباط عن السدي وفي قوله تعالى: والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها قال: يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران و يتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها، وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس. وهذا أحد القولين في الآية: وهو أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى.
و القول الثاني في الآية: إن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفى وفاة النوم، فمن استكملت أجلها أمسكها عنده، فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله، واختار شيخ الإسلام [2] هذا القول وقال: عليه يدل القرآن والسنّة قال: فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاة النوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا بإرسال بل هي قسم ثالث.
و الذي يترجح هو القول الأول، لأنه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين قسما قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها وفاة الموت، وقسما لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا، فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين وفاة موت ووفاة نوم لم يقل والَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فإنها من حين قبضت ماتت وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42].
و لمن أبصر هذا القول أن يقول قوله تعالى ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[39:42] بعد أن توفاها وفاة النوم فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين، فإنه سبحانه ذكر وفاتين، وفاة نوم ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك نفس كل ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله:
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام.
و قد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته.
و أبلغ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيره، وقد ذكرنا قصة الصعب بن جثامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له، وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شماس وأخباره لمن رآه تدعه وما عليه من الدين.
و قصة صدقة بن سليمان الجعفري وأخبار ابنه له بما عمل من بعده، وقصة شبيب بن شيبة وقول أمه له بعد الموت: جزاك اللّه خيرا حيث لقنها لا إله إلا اللّه، وقصة الفضل بن الموفق مع ابنه وإخباره إياه بعلمه بزيارته.
و قال سعيد بن المسيب: التقى عبد اللّه بن سلام وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني فأخبرني ما لقيت من ربك، وإن أنا مت قبلك لقيتك فأخبرتك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات فلان فلقيه في المنام فقال: توكل وأبشر فلم أر مثل التوكل قط.
و قال العامر بن عبد المطلب: كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا عند قرب الحول فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لو لا أن لقيت رؤوفا رحيما.
و لما حضرت شريح بن عابد الثمالي الوفاة دخل عليه غضيف بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال: يا أبا الحجاج إن قدرت على أن تأتينا بعد الموت فتخبرنا بما ترى فافعل قال: وكانت كلمة مقبولة في أهل الفقه قال: فمكث زمانا لا يراه ثم رآه في منامه فقال له: أ ليس قد مت؟ قال: بلى، قال: فكيف حالك؟ قال: تجاوز ربنا عنا الذنوب فلم يهلك منا إلا الأحراض، قلت: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشي ء.
و قال عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فدفع إلي تفاحات فأولتهن الولد، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل؟
فقال: الاستغفار أي بني.
و رأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين ليت شعري إلى أي الحالات صرت بعد الموت؟ قال: يا مسلمة هذا أوان فراغي، واللّه ما استرحت إلا الآن، قال: قلت: فأين أنت يا أمير المؤمنين؟
قال: مع أئمة الهدى في جنة عدن.
(قال) صالح البراد: رأيت زرارة بن أوفى [3] بعد موته فقلت: رحمك اللّه ما ذا قيل لك وما ذا قلت؟ فأعرض عني، قلت: فما صنع اللّه بك؟ قال: تفضل علي بجوده وكرمه، قلت: فأبو العلاء بن يزيد أخو مطرف؟ قال: ذاك في الدرجات العلى، قلت: فأي الأعمال أبلغ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقصر الأمل.
(قال) مالك بن دينار: رأيت مسلم بن يسار [4] بعد موته فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فقلت: ما يمنعك أن ترد السلام؟ قال: أنا ميت فكيف أرد عليك السلام، فقلت له: ما ذا لقيت بعد الموت؟ قال: لقيت واللّه أهوالا وزلازل عظاما شدادا، قال: قلت له: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم، قبل منا الحسنات، وعفا لنا عن السيئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خر مغشيا عليه، قال: فلبث بعد ذلك أياما مريضا، ثم انصدع قلبه فمات.
(و قال) سهيل أخو حزم: رأيت مالك بن دينار [5] بعد موته فقلت: يا أبا يحيى ليت شعري ما ذا قدمت به على اللّه؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة محاها عني، حسن الظن باللّه عز وجل.
(و لما مات) رجاء بن حياة [6] رأته امرأة عابدة فقالت: يا أبا المقدام إلى ما صرتم؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعة ظننا أن القيامة قد قامت، قالت:
قلت ومم ذلك؟ قال: دخل الجراح وأصحابه الجنة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها.
(و قال) جميل بن مرة: كان مورق العجلي [7] لي أخا وصديقا فقلت له ذات يوم: أينا مات قبل صاحبه فليأت صاحبه فليخبره بالذي صار إليه. قال: فمات مورق فرأت أهلي في منامها كأنه أتانا كما كان يأتي، فقرع الباب كما كان يقرع، قالت: فقمت ففتحت له كما كنت أفتح، وقلت: أدخل يا أبا المعتمر إلى باب أخيك، فقال: كيف أدخل وقد ذقت الموت، إنما جئت لأعلم جميلا بما صنع اللّه بي، أعلميه أنه جعلني في المقربين.
(و لما مات) محمد بن سيرين حزن عليه بعض أصحابه حزنا شديدا فرآه في المنام في حال حسنة فقال: يا أخي قد أراك في حال يسرني فما صنع الحسن؟
قال: رفع فوقي بسبعين درجة، قلت: ولم ذاك وقد كنا نرى أنك أفضل منه؟ قال:
ذاك يطول حزنه.
(و قال) ابن عيينة: رأيت سفيان الثوري في النوم فقلت: أوصني، قال:
أقلل من معرفة الناس.
(و قال) عمار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح [8] في منامي فقلت: قد كنت متمنيا للقائك فما ذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر فإني لم أر مثل حسن الظن باللّه شيئا.
(و لما مات) ضيغم العابد [9] رآه بعض أصحابه في المنام فقال: أما صليت علي؟ قال: فذكرت علة كانت، فقال: أما لو كنت صليت علي ربحت رأسك.
(و لما ماتت) رابعة رأتها امرأة من أصحابها [10] وعليها حلة استبرق وخمار من سندس وكانت كفنت في جبة وخمار من صوف، فقالت لها: ما فعلت الجبة التي كفنتك فيها وخمار الصوف؟ قالت: واللّه أنه نزع عني وأبدلت به هذا الذي ترين علي، وطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لي ثوابها يوم القيامة، قالت: فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا! فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة اللّه لأوليائه، فقلت لها: فما فعلت عبدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات سبقتنا واللّه إلى الدرجات العلى، قالت: قلت: وبم وقد كنت عند الناس أعبد منها! فقالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا أو أمست، فقلت: فما فعل أبو مالك (تعني ضيغما) فقالت: يزور اللّه تبارك وتعالى متى شاء، قالت: قلت: فما فعل بشر بن منصور! قالت: بخ بخ أعطى واللّه فوق ما كان يأمل. قالت: قلت: مريني بأمر أتقرب به إلى اللّه تعالى، قالت: عليك بكثرة ذكر اللّه فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك.
(و لما مات) عبد العزيز بن سلمان العابد [11] رآه بعض أصحابه وعليه ثياب خضر، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ، فقال: كيف كنت بعدنا، وكيف وجدت طعم الموت، وكيف رأيت الأمر هناك! قال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمه إلا أن رحمة اللّه وارث عنا كل عيب وما تلقانا إلا بفضله.
(و قال) صالح بن بشر [12]: لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي فقلت: يا أبا محمد أ لست في زمرة الموتى! قال: بلى، قلت: فما ذا صرت إليه بعد الموت! قال: صرت واللّه إلى خير كثير ورب غفور شكور، قال: قلت: أما واللّه لقد كنت طويل الحزن في دار الدنيا، فتبسم وقال: واللّه لقد أعقبني ذلك راحة طويلة وفرحا دائما، قلت: ففي أي الدرجات أنت! قال: مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [13].
(و لما مات) عاصم الجحدري رآه بعض أهله في المنام فقال: أ ليس قد مت! قال: بلى، قال: فأين أنت! قال: أنا واللّه في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد اللّه المزني فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم! قال: هيهات بليت الأجساد وإنما تتلاقى الأرواح.
(و رئي) الفضيل بن عياض [14] بعد موته فقال: لم أر للعبد خيرا من ربه.
(و كان مرة الهمداني) قد سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه رجل من أهله في منامه وكأن موضع سجوده كهيئة الكوكب الدري، فقال: ما هذا الأثر الذي أرى بوجهك؟ قال: كسى موضع السجود بأكل التراب له نورا، قال: قلت:
فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خير منزل، دار لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون.
(و قال) أبو يعقوب القارئ: رأيت في منامي رجلا آدما طوالا والناس يتبعونه، قلت: من هذا! قالوا: أويس القرني [15]، فاتبعته فقلت أوصني يرحمك اللّه، فكلح [16] في وجهي، فقلت: مسترشد فأرشدني رحمك اللّه، فأقبل علي فقال: ابتغ رحمة اللّه عند محبته؛ واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه في خلال ذلك، ثم ولى وتركني.
(و قال) ابن السماك: رأيت مسعرا [17] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: مجالس الذكر (و قال الأجلح) رأيت سلمة بن كهيل [18] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: قيام الليل.
(و قال) أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته فقلت: ما فعلت يا وفاء! قال: نجوت بعد كل جهد، قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل، قال:
البكاء من خشية اللّه عز وجل.
(و قال) الليث بن سعد عن موسى بن وردان [19] أنه رأى عبد اللّه بن أبي حبيبة بعد موته فقال: عرضت علي حسناتي وسيئاتي، فرأيت في حسناتي حبات رمان التقطتهن فأكلتهن، ورأيت في سيئاتي خيطي حرير كانا في قلنسوتي.
(و قال) سعيد بن داود: حدثني ابن داود أخي جويرية بن أسماء [20] قال: كنا بعبادان، فقدم علينا شاب من أهل الكوفة متعبد، فمات بها في يوم شديد الحر، فقلت: نبرد ثم نأخذ في جهازه فنمت، فرأيت كأني في المقابر، فإذا بقية جوهر تتلألأ حسنا وأنا أنظر إليها، فأشرفت منها جارية ما رأيت مثل حسنها، فأقبلت علي فقالت: باللّه لا تحبسه عنا إلى الظهر، قال: فانتبهت فزعا وأخذت في جهازه وحفرت له قبرا في الموضع الذي رأيت فيه القبة فدفنته فيه.
و قال عبد الملك بن عتاب الليثي: رأيت عامر بن عبد قيس [21] في النوم فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل! قال: ما أريد به وجه اللّه عز وجل. و قال يزيد بن هارون: رأيت أبا العلاء أيوب بن أبي مسكين [22] في المنام فقلت: ما فعل بك ربك! قال: غفر لي، قلت: بما ذا! قال: بالصوم والصلاة، قلت: أ رأيت منصور بن زاذان؟ قال: هيهات ذاك ترى قصره من بعيد.
و قال يزيد بن نعامة: هلكت جارية في طاعون الجارف، فلقيها أبوها بعد موتها فقال لها: يا بنية أخبريني عن الآخرة، قالت: يا أبت قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل، وتعلمون ولا تعملون، واللّه لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة عملي أحب إلي من الدنيا وما فيها.
و قال كثير بن مرة: رأيت في منامي كأني دخلت درجة علياء في الجنة، فجعلت أطوف بها وأتعب منها، فإذا أنا بنساء من نساء المسجد في ناحية منها، فذهب حتى سلمت عليهم ثم قلت: بما بلغتن هذه الدرجة؟ قلن:
سجدات وتكبيرات.
و قال مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز عن فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: انتبه عمر بن عبد العزيز ليلة فقال: لقد رأيت رؤيا معجبة! قالت: فقلت: جعلت فداك فأخبرني بها؟ فقال: ما كنت لأخبرك بها حتى أصبح، فلما طلع الفجر خرج فصلى ثم عاد إلى مجلسه، قالت: فاغتنمت خلوته فقلت: أخبرني بالرؤيا التي رأيت؟ قال: رأيت كأني رفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر، وإذا فيها قصر أبيض كأنه الفضة، وإذا خارج قد خرج من ذلك القصر فهتف بأعلى صوته يقول: أين محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، إذا أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى دخل القصر، قال: ثم إن آخر خرج من ذلك القصر فنادى: أين أبو بكر الصديق أين ابن أبي قحافة؟ إذا أقبل أبو بكر حتى دخل تلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عمر بن الخطاب، فأقبل عمر حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين عثمان بن عفان؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين علي بن أبي طالب، فأقبل حتى دخل ذلك القصر، ثم إن آخر خرج فنادى: أين عمر بن عبد العزيز؟ قال: قال عمر: فقمت حتى دخلت ذلك القصر، قال: فدفعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والقوم حوله، فقلت بيني وبين نفسي: أين أجلس؟ فجلست إلى جنب أبي عمر بن الخطاب، فنظرت فإذا أبو بكر عن يمين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإذا عمر عن يساره، فتأملت فإذا بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر رجل، فقلت:
من هذا الرجل الذي بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وبين أبي بكر؟
فقال: هذا عيسى ابن مريم، فسمعت هاتفا يهتف وبيني وبينه ستر: نور يا عمر بن عبد العزيز، تمسك بما أنت عليه واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت من ذلك القصر، فالتفت خلفي فإذا أنا بعثمان بن عفان وهو خارج من ذلك القصر يقول: الحمد للّه الذي نصرني، وإذا علي بن أبي طالب في دائرة خارج من ذلك القصر وهو يقول: الحمد للّه الذي غفر لي.
(و قال) سعيد بن أبي عروة عن عمر بن عبد العزيز [قال] [23] رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتا وأحيف عليهما الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن يخرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.
(و قال) حماد بن أبي هاشم: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المنام وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله، وأقبل رجلان يختصمان وأنت بين يديه جالس، فقال لك: يا عمر، إذا عملت فاعمل بعمل هذين أبي بكر وعمر، فاستحلفه عمر باللّه أ رأيت هذه الرؤيا؟
فحلف، فبكى عمر.
(و قال) عبد الرحمن بن غنم: رأيت معاذ بن جبل بعد وفاته بثلاث [24] على فرس أبلق وخلفه رجال بيض عليهم ثياب خضر على خيل بلق وهو قدامهم وهو يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[36:27] ثم التفت عن يمينه وشماله يقول: يا ابن رواحة يا ابن مظعون ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[39:74] ثم صافحني وسلّم علي.
(و قال) قبيصة بن عقبة: رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته فقلت: ما فعل اللّه بك، فقال:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيئا رضانا عنك يا ابن سعيد
فقد كنت قواما إذا الليل قد دجا ... بعيرة محزون وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني منك غير بعيد
وقال سفيان بن عيينة: رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة ومن شجرة إلى نخلة وهو يقول: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ [37:61] فقيل له: بما أدخلت الجنة؟ قال: بالورع بالورع، قيل له: فما فعل علي بن عاصم [25]؟ قال: ما نراه إلا مثل الكوكب.
(و كان) شعبة بن الحجاج [26] ومسعر بن كدام [27] حافظين وكانا جليلين، قال أبو أحمد البريدي: فرأيتهما بعد موتها، فقلت: أبا بسطام ما فعل اللّه بك؟ فقال:
وفقك اللّه لحفظ ما أقول:
حباني إلهي في الجنان بقية ... لها ألف باب من لجين [28] وجوهرا
وقال لي الرحمن يا شعبة الذي ... تبحر في جمع العلوم فأكثرا
تنعم بقربي إنني عنك ذو رضا ... وعن عبدي القوام في الليل مسعرا
كفا مسعرا عزا بأن سيزورني ... واكشف عن وجهي الكريم لينظرا
وهذا فعالي بالذين تنسكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
قال أحمد بن محمد اللبدي: رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت: يا أبا عبد اللّه ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي، قال: يا أحمد ضربت فيّ ستين سوطا؟
قلت: نعم يا رب، قال: هذا وجهي قد أبحتك فانظر إليه.
و قال أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج: حدثني رجل من أهل طرطوس قال: دعوت اللّه عز وجل أن يريني أهل القبور حتى أسألهم عن أحمد بن حنبل ما فعل اللّه به؟ فرأيت بعد عشر سنين في المنام كأن أهل القبور قد قاموا على قبورهم فبادروني بالكلام فقالوا: يا هذا كم تدعو اللّه عز وجل أن يريك إيانا تسألنا عن رجل لم يزل منذ فارقكم تحليه الملائكة تحت شجرة طوبى. قال أبو محمد عبد الحق: وهذا الكلام من أهل القبور إنما هو إخبار عن علو درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعظم منزلته، فلم يقدروا أو يعبروا عن صفة حاله وعن ما هو فيه إلا بهذا وما هو في معناه.
و قال أبو جعفر السقاء صاحب بشر بن الحارث [29]: رأيت بشرا الحافي ومعروفا الكرخي [30] وهما جائيان فقلت: من أين؟ قالا: من جنة الفردوس زرنا كليم اللّه موسى.
و قال عاصم الجزري: رأيت في النوم كأني لقيت بشر بن الحارث، فقلت:
من أين أبا نصر؟ قال: من عليين، قلت: فما فعل أحمد بن حنبل. قال: تركته الساعة مع عبد الوهاب الوراق بين يدي اللّه عز وجل يأكلان ويشربان، قلت له:
فأنت؟ قال: علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه.
و قال أبو جعفر السقاء: رأيت بشر بن الحارث في النوم بعد موته فقلت:
أبا نصر ما فعل اللّه بك؟ قال: ألطفني ورحمني وقال لي: يا بشر لو سجدت لي في الدنيا على الجمر ما أديت شكر ما حشوت قلوب عبادي منك، وأباح لي نصف الجنة فأسرح فيها حيث شئت، ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي، فقلت: ما فعل أبو نصر التمار؟ فقال: ذاك فوق الناس بصبره على بلائه وفقره، قال عبد الحق:
لعله أراد بقوله: نصف الجنة، نصف نعيمها، لأن نعيمها نصفان، نصف روحاني ونصف جسماني، فيتنعمون أولا بالروحاني، فإذا ردت الأرواح إلى الأجساد أضيف لهم النعيم الجسماني إلى الروحاني، وقال غيره: نعيم الجنة مرتب على العلم والعمل، وحظ بشر من العمل كان أوفى من حظه في العلم، واللّه أعلم.
و قال بعض الصالحين: رأيت أبا بكر الشبلي في المنام وكأنه قاعد في مجلس الرصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه، وإذا به قد أقبل وعليه ثياب حسان، فقمت إليه وسلمت عليه وجلست بين يديه، فقلت له: من أقرب أصحابك إليك؟
قال: أكثرهم لذكر اللّه، وأقومهم بحق اللّه، وأسرعهم مبادرة في مرضاة اللّه.
و قال أبو عبد الرحمن الساحلي: رأيت ميسرة بن سليم في المنام بعد موته فقلت له: طالت غيبتك! فقال: السفر الطويل، فقلت له: فما الذي قدمت عليه؟
فقال: رخص لي لأنا كنا نفتي بالرخص، فقلت: فما تأمرني به؟ قال: إتباع الآثار، وصحبة الأخيار، ينجيان من النار، ويقربان من الجبار.
و قال أبو جعفر الضرير: رأيت عيسى بن زاذان بعد موته، فقلت: ما فعل اللّه بك؟ فأنشأ يقول:
لو رأيت الحسان في الخلد حولي ... وأكاويب معها للشراب
يترنمن بالكتاب جميعا ... يتمشين مسبلات الثياب
وقال بعض أصحاب ابن جريج: رأيت كأني جئت إلى المقبرة التي بمكة، فرأيت على عامتها سرادقا، ورأيت منها قبرا عليه سرادق [31] وفسطاط [32] وسدرة فجئت حتى دخلت، فسلمت عليه، فإذا بمسلم بن الرنجي، فسلمت عليه وقلت:
يا أبا خالد ما بال هذه القبور عليها سرادق وقبرك عليه سرادق وفسطاط وفيه سدرة؟
فقال: إني كنت كثير الصيام، فقلت: فأين قبر ابن جريج وأين محله؟ فقد كنت أجالسه وأنا أحب أن أسلم عليه، فقال: هكذا، بيده هيهات وأدار إصبعه السبابة، وأين قبر ابن جريج رفعت صحفته في عليين.
و رأي حماد بن سلمة [33] في النوم أصحابه، فقال له: ما فعل اللّه بك؟
فقال: قال لي: طال ما كدت نفسك في الدنيا فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعبين.
و هذا باب طويل جدا، فإن لم تسمح نفسك بتصديقه وقلت: هذه منامات، وهي غير معصومة، فتأمل من رأى صاحبا له أو قريبا أو غيره فأخبره بأمر لا يعلمه إلا صاحب الرؤيا، أو أخبره بمال دفنه أو حذره من أمر يقع أو بشره بأمر يوجد فوقع كما قال، أو أخبره بأنه يموت هو أو بعض أهله إلى كذا وكذا فيقع كما أخبره، أو أخبره بخصب أو جدب أو عدو أو نازلة أو مرض أو بغرض له فوقع كما أخبره، والواقع من ذلك لا يحصيه إلا اللّه، والناس مشتركون فيه، وقد رأينا نحن وغيرنا من ذلك عجائب.
و أبطل من قال أن هذه كلها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسه عن الشواغل البدنية بالنوم، وهذا من الباطل والمحال، فإن النفس لم يكن لها معرفة قط بهذه الأمور التي يخبر بها الميت، ولا خطرت ببالها ولا عندها علامة عليها، ولا إمارة بوجه ما، ونحن لا ننكر أن الأمر قد يقع كذلك.
و إن من الرؤيا ما يكون من حديث النفس وصورة الاعتقاد، بل كثير من مرائي الناس إنما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابق وغير المطابق. فإن الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من اللّه، ورؤيا الشيطان، ورؤيا من حديث النفس.
و الرؤيا الصحيحة أقسام: منها إلهام يلقيه اللّه سبحانه في قلب العبد وهو كلام يكلم به الرب عبده في المنام كما قال عبادة بن الصامت وغيره.
و منها مثل يضربه له ملك الرؤيا الموكل بها.
و منها التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم كما ذكرنا.
و منها عروج روحه إلى اللّه سبحانه وخطابها له.
و منها دخول روحه إلى الجنة ومشاهدتها وغير ذلك، فالتقاء الأرواح الأحياء والموتى نوع من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات.
و هذا موضع اضطرب فيه الناس (فمن قائل) إن العلوم كلها كامنة في النفس، وإنما اشتغالها بعالم الحس يحجب عنا مطالعتها، فإذا تجردت بالنوم رأت منها بحسب استعدادها، ولما كان تجردها بالموت أكمل، كانت علومها ومعارفها هناك أكمل، وهذا فيه حق وباطل، فلا يرد كله ولا يقبل كله، فإن تجرد النفس يطلعها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرد، لكن لو تجردت كل التجرد لم تطلع على علم اللّه الذي بعث به رسوله، وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد، وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي، والأسماء والصفات والأفعال، وغير ذلك مما لا يعلم إلا بالوحي، ولكن تجرد النفس عون لها على معرفة ذلك وتلقيه من معدنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة في الشواغل البدنية.
(و من قائل) إن هذه المرائي علوم علقها اللّه في النفس ابتداء بلا سبب، وهذا قول منكري الأسباب والحكم القوي، وهو قول مخالف للشرع والعقل والفطرة.
(و من قائل) إن الرؤيا أمثال مضروبة، يضربها اللّه للعبد بحسب استعداد ألفه على يد ملك الرؤيا، فمرة يكون مثلا مضروبا، ومرة يكون نفس ما رآه الرائي فيطابق الواقع العلم لمعلومه. و هذا أقرب من القولين قبله، ولكن الرؤيا ليست مقصورة عليه، بل لها أسباب أخرى، كما تقدم من ملاقاة الأرواح وأخبار بعضها بعضا، من إلقاء الملك الذي في القلب والروغ، ومن رؤية الروح للأشياء مكافحة بلا واسطة.
(و قد ذكر) أبو عبد اللّه بن منده الحافظ في كتاب (النفس والروح) من حديث محمد بن حميد: حدثنا عبد الرحمن بن الغراء الدووسي، حدثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب فقال له: يا أبا الحسن ربما شهدت وغبنا، وشهدنا وغبت؟ ثلاث أسألك عنهن عندك منهن علم؟ فقال علي بن أبي طالب: و ما هن؟ فقال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا، فقال علي: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول:
(إن الأرواح جنود مجندة، تلتقي في الهواء فتشأم [34]، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فقال: واحدة، قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينا هو وما نسيه إذ ذكره، فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما في القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضي ء إذا تجللته سحابة فأظلم، إذا تجلت فأضاء، وبينما القلب يتحدث إذا تجللته سحابة فنسي، إذ تجلت عنه فيذكر) قال عمر: اثنتان، قال: والرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (ما من عبد ينام يتملى نوما إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب، فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن، فالحمد للّه الذي أصبنهن قبل الموت).
و قال بقية بن الوليد: حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشي ء لم يخطر له على بال فيكون كأخذ بيد، ويرى الشي ء فلا يكون شيئا، فقال علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه عز وجل أنه: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] قال: والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل، قال: فجعل عمر يتعجب من قول علي، قال ابن منده: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره وروى عن أبي الدرداء.
(و ذكر) الطبراني من حديث علي بن أبي طلحة أن عبد اللّه بن عباس قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت، قال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل ومم ينسى، ومم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟
فقال له عمر: إن على القلب طخاوة [35] كطخاوة القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا انجلت ذكر ما كان نسي، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب، فإن اللّه عز وجل يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[39:42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب.
(و روى) ابن لهيعة عن عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي عن أبي الدرداء [36] قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العرش، فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود، وإن كان جنبا لم يؤذن لها بالسجود.
(و روى) جعفر بن عون عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال: إن الأرواح جنود مجندة تتلاقى فتشأم كما تشأم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
و لم يزل الناس قديما وحديثا تعرف هذا وتشاهده، قال جميل بن معمر الغنوي:
أظل نهاري مستهاما وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
فإن قيل: فالنائم يرى غيره من الأحياء يحدثه ويخاطبه وربما كان بينهما مسافة بعيدة ويكون الرائي يقظان، روحه لم تفارق جسده، فكيف التقت روحاهما، قيل: هذا إما أن يكون مثلا مضروبا ضربه ملك الرؤيا للنائم، أو يكون حديث نفس من الرائي تجرد له منامه كما قال حبيب بن أوس:
سقيا لطيفك من زور أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول
وقد تتناسب الروحان وتشتد علاقة إحداهما بالأخرى، فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإن لم يشعر بما يحدث لغيره لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.
و المقصود أن أرواح الأحياء تتلاقى في النوم، كما تتلاقى أرواح الأحياء والأموات، قال بعض السلف: إن الأرواح تتلاقى في الهواء فتتعارف أو تتناكر، فيأتيها ملك الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر، قال: وقد وكل اللّه بالرؤيا الصادقة ملكا علمه وألهمه معرفة كل نفس بعينها واسمها ومتقلبها في دينها ودنياها وطبعها ومعارفها، لا يشتبه عليه منها شي ء ولا يغلط فيها، فتأتيه نسخة من علم غيب أئمة من أم الكتاب بما هو مغيب لهذا الإنسان من خير وشر في دينه ودنياه، ويضرب له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته، فتارة يبشره بخير قدمه أو يقدمه، وينذره من معصية ارتكبها أو هم بها، ويحذره من مكروه انعقدت أسبابه ليعارض تلك الأسباب بأسباب تدفعها، ولغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها اللّه في الرؤيا نعمة منه ورحمة وإحسانا وتذكيرا وتعريفها، وجعل أحد طرق ذلك تلاقي الأرواح وتذاكرها وتعارفها، وكم من كانت توبته وصلاحه وزهده وإقباله على الآخرة عن منام رآه أو رئي له، وكم ممن استغنى وأصاب كنزا دفينا عن منام.
و في (كتاب المجالسة) لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة عن أبي حاتم عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عمن حدثه قال: خرجنا مرة في سفر وكنا ثلاثة نفر، فنام أحدنا، فرأينا مثل المصباح خرج من أنفه فدخل غارا قريبا منه ثم رجع فدخل أنفه، فاستيقظ يمسح وجهه، وقال: رأيت عجبا، رأيت في هذا الغار كذا وكذا، فدخلناه فوجدنا فيه بقية من كنز كان.
و هذا عبد المطلب دل في النوم على زمزم وأصاب الكنز الذي كان هناك [37].
و هذا عمير بن وهب أتي في منامه فقيل له: قم إلى موضع كذا وكذا من البيت فاحفره تجد مال أبيك، وكان أبوه قد دفن مالا ومات ولم يوص به، فقام عمير من نومه فاحتفر حيث أمره، فأصاب عشرة آلاف درهم وتبرا كثيرا، فقضى دينه وحسن حاله وحال أهل بيته، وكان ذلك عقب إسلامه، فقالت له الصغرى من بناته: يا أبت ربنا هذا الذي حبانا بدينه خير من هبل والعزى، ولو أنه كذلك وما ورثك هذا المال، وإنما عبدته أياما قلائل.
قال علي بن أبي طالب القيرواني العابر: وما حديث عمر هذا واستخراجه المال بالمنام بأعجب مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا من أبي محمد عبد اللّه البغانشي، وكان رجلا صالحا مشهورا برؤية الأموات وسؤالهم عن الغائبات، ونقله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم، حتى اشتهر بذلك وكثر منه، فكان المرء ليشكو إليه حميمه قد مات من غير وصية له مال لا يهتدي إلى مكانه، فيعده خيرا ويدعو اللّه تعالى في ليلته، فيتراءى له الميت الموصوف فيسأله عن الأمر فيخبره به.
(فمن نوادره) أن امرأة عجوزا من الصالحات توفيت، ولامرأة عندها سبعة دنانير وديعة، فجاءت إليه صاحبة الوديعة وشكت إليه ما نزل بها وأخبرته باسمها واسم الميتة صاحبتها، ثم عادت إليه من الغد، فقال لها: تقول لك فلانة عدي من سقف بيتي سبع خشبات تجدي الدنانير في السابعة في خرقة صوف، ففعلت ذلك فوجدتها كما وصف لها.
قال: وأخبرني رجل لا أظن به كذبا: استأجرتني امرأة من أهل الدنيا على هدم دار لها وبنائها بمال معلوم، فلما أخذت في الهدم لزمت الفعلة هي ومن معها، فقلت: ما لك؟ قالت: وللّه ما لي إلى هذه الدار من حاجة، لكن أبي مات و كان ذا يسار كثير، فلم تجد له كثير شي ء، فخلت أن ماله مدفون، فعمدت إلى هدم الدار لعلي أجد شيئا! فقال لها بعض من حضر: لقد فاتك ما هو أهون عليك من هذا، قالت: وما هو؟ قال: فلان تمضين إليه وتسألينه أن يبيت قصتك الليلة فلعله ير أباك فيدلك عن مكان ماله بلا تعب ولا كلفة، فذهبت إليه ثم عادت إلينا، فزعمت أنه كتب اسمها واسم أبيها عنده، فلما كان من الغد بكرت إلى العمل، وجاءت المرأة من عند الرجل فقالت: إن الرجل قال لي: رأيت أباك وهو يقول:
المال في الحنية، قال: فجعلنا نحفر تحت الحنية وفي جوانبها حتى لاح لي شق، وإذا المال فيه، قال: فأخذنا في التعجب والمرأة تستخف بما وجدت وتقول: مال أبي كان أكثر من هذا ولكني أعود إليه، فمضت فأعلمته ثم سألته المعاود، فلما كان من الغد أتت وقالت: إنه قال لها: إن أباك يقول لك: احفري تحت الخابية التي في مخزن الزيت قال: ففتحت المخزن فإذا بخابية مربعة في الركن فأزلناها وحفرنا تحتها فوجدنا كوزا كبيرا فأخذته، ثم دام بها الطمع في المعاودة، ففعلت فرجعت من عنده وعليها الكآبة فقالت: زعم أنه رآه وهو يقول له: قد أخذت ما قدر لها، وأما ما بقي فقد جلس عليه عفريت من الجن يحرسه إلى من قدر له، والحكايات في هذا الباب كثيرة جدا.
و أما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدا (و قد حدثني) غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه رآه بعد موته وسأله عن شي ء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب.
و بالجملة فهذا أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها وباللّه التوفيق.
هامش
انظر قصة حفر زمزم في سيرة ابن هشام (1/ 150).
ذكر في التسهيل (3/ 196): هذه الآية للاعتبار، ومعناها أن اللّه يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما وفاة كاملة حقيقة وهي الموت، والآخر وفاة النوم لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع، ومنه قوله تعالى: وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وفي الآية عطف، والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها.
أي ابن تيمية.
هو السيد الجليل زرارة بن أوفى العامري أبو حاجب قاضي البصرة، قرأ في صلاة الصبح: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ فخر ميتا، وكانت وفاته سنة ثلاث وتسعين.
كان من عباد البصرة وفقهائها، روى عن أبي عمرو وغيره، قال ابن عوف: كان لا يفضل عليه أحد في زمانه، وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا عابدا ورعا. توفي سنة مائة للهجرة.
هو السيد الكبير والولي الشهير أبو يحيى مالك بن دينار البصري الزاهد المشهور، كان مولى لبني أسامة بن لؤي بن غالب بن قهر بن مالك، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، أقام أربعين سنة لا يأكل من ثمار البصرة، ولا يأكل إلا من عمل يده، ووقع حريق بها، فخرج قذرا ببرية وفي يده مصحف، وقال: فاز المخفون، وقيل له: ألا تستسقي لنا؟ فقال: أنتم تنتظرون الغيث وأنا أنتظر الحجارة. توفي سنة سبع وعشرين ومائة.
هو أبو المقدام رجاء بن حياة الكندي الشامي الفقيه، روى عن معاوية وطبقته، وكان شريفا نبيلا كامل السؤدد، قال مطر الورّاق: ما رأيت شاميا أفقه منه، وقال مكحول: هو سيد أهل الشام في أنفسهم، وقال مسلمة الأمير: في كندة رجاء بن حياة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي، إن اللّه لينزل بهم الغيث وينصر بهم الأعداء. بلغ يوما عبد الملك قول من بعض الناس، فهم أن يعاقب صاحبه، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين قد فعل اللّه بك ما تحب حيث أمكنك منه، فافعل ما يحبه اللّه من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه، توفي رحمه اللّه سنة اثنتي عشرة ومائة.
توفي سنة إحدى ومائة.
هو الحسن بن صالح بن حي الهمداني فقيه الكوفة وعابدها، روى عن سماك بن حرب وطبقته. قال أبو نعيم: ما رأيت أفضل منه، وقال أبو حاتم: ثقة حافظ متقن. وقال ابن معين: يكتب رأي الحسن بن صالح ويكتب رأي الأوزاعي، هؤلاء ثقات. قال وكيع: الحسن بن صالح يشبه بسعيد بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزءا الليل ثلاثة أجزاء، فماتت أمهما، فقسما الليل سهمين، فمات علي فقام الحسن الليل كله، قاله في العبر. ومات علي سنة أربع وخمسين، وهما توأم، أخرج لهما مسلم. توفي سنة سبع وستين ومائة.
هو أبو مالك العابد، قال أبو أيوب مولى ضيغم ليلة: لو أعلم أن رضاه أن أقرض لحمي لدعوت بالمقراض فقرضه. قال: قال سيار: رأيت ضيغما صلّى نهاره أجمع وليلة حتى بقي راكعا لا يقدر أن يسجد، فرأيته رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قرة عيني، ثم خر ساجدا، فسمعته يقول وهو ساجد:
إلهي كيف عزفت قلوب الخليفة عنك؟ قال: وربما أصابته الفترة فإذا وجد ذلك اغتسل ثم دخل بيتا فأغلق بابه وقال: إلهي إليك جئت، قال: فيعود إلى ما كان من الركوع. (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
وهي عبدة بنت أبي شوال، وكانت من خيار إماء اللّه، وكانت تخدم رابعة. وكانت وفاة رابعة بنت إسماعيل البصرية العدوية سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل سنة خمس وثمانين ومائة.
ويكنى أبا محمد قال أبو طارق التبان: كان عبد العزيز بن سلمان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد، قال: وربما رفع الميت والميتان من جوانب مجلسه (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
كان مملوكا لامرأة من بني مرة بن الحارث بن بني عبد القيس فأعتقته، قال الأصمعي: شهدت صالحا المري عزى رجلا على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك فمصيبتك بابنك جلل في مصيبتك في نفسك، فإياها فابك. أسند صالح عن الحسن وابن سيرين وثابت وقتادة وبكر بن عبد اللّه في خلق كثير من التابعين. توفي سنة ست وسبعين ومائة. (انظر صفة الصفوة لابن الجوزي).
من قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [4:69]
قال ابن ناصر الدين: [هو] الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر أبو علي التميمي اليربوعي المروزي إمام الحرمين، شيخ الإسلام، قدوة الأعلام، حدّث عنه الشافعي ويحيى القطان وغيرهما، وكان إماما ربانيا كبير الشأن ثقة نبيلا عابدا زاهدا جليلا. توفي سنة سبع وثمانين ومائة للهجرة.
هو أويس بن عامر بن جرير بن مالك القرني، وقال علقمة بن مرثد: أويس بن أنيس، وقيل:
أويس بن الحليس. عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد أهل اليمن سألهم: هل فيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم قرن؟ قال: نعم، قال: كان بفيك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر على أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، وله والدة هو بها بار، لو أقسم على اللّه عز وجل لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فالع» فاستغفر لي؟ فاستغفر له. فقال عمر رضي اللّه عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة، فقال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك؟ قال: لأن أكون في غبر الناس أحب إلي. قال: فلما كان العام المقبل حج رجل من أشراف الكوفة فوافق عمر فسأله عن أويس: كيف تركته؟ قال: تركته رث الهيئة قليل المتاع، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول (فذكر الحديث) فلما قدم الرجل الكوفة أتى أويسا فقال: استغفر لي؟ فقال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، ما ستغفر لي، لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس له فانطلق على وجهه. (راجع صفة الصفوة لابن الجوزي).
الكلوح: التكشر في عبوس.
هو مسعر بن كدام الحافظ أبو سلمة الهلالي الكوفي الأحول أحد الأعيان، يسمى المصحف من إتقانه، ويدعى الميزان لنقده وتحرير لسانه، قال في العبر: أخذ عن الحكم وقتادة وخلق، وكان عنده نحو ألف حديث. قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت منه، وقال شعبة: كنا نسمي مسعرا المصحف، توفي سنة خمس وخمسين ومائة.
هو سلمة بن كهيل الكوفي، روى عن جندب البجلي وطائفة وكان من إثبات الشيعة وعلمائهم، حمل عنه شعبة والثوري. توفي سنة إحدى وعشرين ومائة.
هو موسى بن وردان المصري القاضي، روى عن أبي هريرة وسعد وطائفة، وعاش نيفا وثمانين سنة، توفي سنة سبع عشرة للهجرة.
هو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، روى عن نافع والزهري وكان ثقة كثير الحديث.
توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة.
هو عامر بن عبد قيس بن ناشب بن أسامة بن جذيمة بن معاوية الناسك الفاضل، وهو الذي سيره عثمان رضي اللّه عنه من البصرة إلى الشام.
هو أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين القصاب أخذ عن قتادة وجماعة، توفي سنة أربعين ومائة.
زيادة على المطبوع لوضوح العبارة.
توفي بالطاعون سنة سبع عشرة للهجرة، وكان من نجباء الصحابة.
هو علي بن عاصم أبو الحسن الواسطي، محدث واسط، روى عن حصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب والكبار، وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفا، توفي سنة إحدى ومائتين وله بضع وتسعون سنة.
هو شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام أبو بسطام العتكي الأزدي مولاهم الواسطي شيخ البصرة، وأمير المؤمنين في الحديث، روى عن معاوية بن قرة وعمرو بن مرة وخلق من التابعين، قال الشافعي: لو لا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وقال ابن المديني: له نحو ألقي حديث، وقال سفيان لما بلغه موت شعبة: مات الحديث وقال أبو زيد الهروي: رأيت شعبة يصلي حتى تورمت قدماه، وقد أثنى جماعة من كبار الأئمة على شعبة ووصفوه بالعلم والزهد والقناعة والرحمة والخير، وكان رأسا في العربية والشعر سوى الحديث، توفي سنة ستين ومائة لثلاث بقين من جمادى الآخرة
هو مسعر بن كدام الحافظ أبو سلمة الهلالي الكوفي أخذ عن الحكم وقتادة وخلق، وكان عنده نحو ألف حديث، قال يحيى القطان: ما رأيت أثبت منه، وقال شعبة: كنا نسمي مسعرا: المصنف، وقال أبو نعيم: مسعر أثبت من سفيان وشعبة، توفي سنة خمس وخمسين ومائة.
اللجين بالضم: الفضة.
هو أبو نصر بشر بن الحارث المروزي الزاهد المعروف ببشر الحافي، سمع من حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد وطبقتهما، وعني بالعلم ثم أقبل على شأنه ودفن كتبه وحدث بشي ء يسير، وكان في الفقه على مذهب الثوري، وقد صنف العلماء في مناقب بشر وكراماته رحمه، توفي ببغداد في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائة وعاش خمسا وسبعين سنة.
هو القدوة الزاهد صاحب الأحوال والكرامات، توفي سنة مائتين للهجرة.
السرادق: واحد السرادقات وهي التي تمد فوق صحن الدار، وكل بيت من قطن فهو سرادق.
الفسطاط: بيت من شعر.
هو حماد بن سلمة بن دينار البصري الحافظ، سمع قتادة وأبا جمرة الضبعي وطبقتهما، وكان سيد أهل وقته، قال رهيب بن خالد: حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا، قال ابن المديني: كان عند يحيى بن ضريس عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة أنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا، وقال شهاب البلخي: كان حماد بن سلمة يعد من الأبدال، وقال غيره: كان فصيحا مفوها إماما في العربية، صاحبة سنّة، له تصانيف في الحديث توفي في آخر سنة سبع وستين ومائة.
المشأمة: الميسرة، والشؤم ضد اليمن، يقال: رجل مشوم ومشئوم، ويقال: ما أشأم فلانا، والعامة تقول ما أيشمه.
أي غشاوة.
هو أبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم، أسلم بعد بدر، وولي قضاء دمشق لمعاوية في خلافة عثمان، توفي سنة اثنتين وثلاثين.
=====
المسألة الرابعة (وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده)
اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق، لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت، قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا اللّه وحده، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ۝26وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ۝27﴾ [55:26—27]، وقال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[28:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت، قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار أنهم قالوا:
﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فالموتة الأولى هذه المشهودة وهي للبدن والأخرى للروح [1].
و قال الآخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دلت هذه الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها اللّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لا نقلع عنها النعيم والعذاب، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾[3:170] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت.
و الصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو عذاب كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد هذا، وكما صرح به النص أنها كذلك حتى يردها اللّه في جسدها، وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي هذا الاختلاف في قوله:
تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فإن قيل: فعند النفخ في الصور هل تبقى الأرواح حية كما هي أو تموت ثم تحيا؟ قيل: قد قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68] فقد استثنى اللّه سبحانه بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق [2].
فقيل: هم الشهداء، هذا قول أبي هريرة وابن عباس وابن جبير.
و قيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهذا قول مقاتل وغيره.
و قيل: هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم، ومن في الناس من أهل العذاب وخزنتها، قاله أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.
و قد نص الإمام أحمد على أن: الحور العين والدان لا يمتن عند النفخ في الصور، وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ﴾[44:56]. وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان، وأما قول أهل النار: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فتفسيره هذه الآية التي في البقرة وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾[2:28] فكانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح أن «الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور».
فهذا صعق في موقف القيامة إذ جاء اللّه تعالى لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [52:45]، ولو كان هذا الصعق موتا لكانت موتة أخرى، وقد تنبه لهذا جماعة من الفضلاء، فقال أبو عبد اللّه القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور، قال: قد قال شيخنا أحمد بن عمرو: ظاهر حديث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا [قول] [3] فيحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآثار، ورد عليه أبو العباس القرطبي فقال: يرد هذا قوله في الحديث الصحيح أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذا بقائمة العرش، قال: وهذا إنما هو عند نفخة الفزع.
قال أبو عبد اللّه: وقال شيخنا أحمد بن عمرو: الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء اللّه تعالى أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء، وخصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من حملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو رجع إلى أن غيبوا عنا، بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا تراهم، وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أول من يفيق، فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى»، فإنه حصل فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بصعقة يوم الطور، وهذه فضيلة عظيمة لموسى، ولا يلزم من فضيلة واحدة أفضليته على نبينا مطلقا، لأن الشي ء الجزئي لا يوجب أمرا كليا، انتهى.
قال أبو عبد اللّه القرطبي: إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال، وإن حمل على صعقة الموت عند النفخ في الصور فيكون ذكر يوم القيامة يراد به أوائله، فالمعنى: إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبل أم جوزي بصعقة الطور.
قلت: وحمل الحديث على هذا يصح، لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم تردد: هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور؟ فالمعنى:
لا أدري أصعق أم لم يصعق، وقد قال في الحديث: «فأكون أول من يفيق» وهذا يدل على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى: هل يصعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق. ولو كان المراد به الصفة الأولى وهي صعقة الموت لكان صلى اللّه عليه وآله وسلم قد جزم بموته، وتردد هل مات موسى أم لم يمت، وهذا باطل لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت، وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى، نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ، وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية واللّه أعلم.
(فإن قيل): فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش» قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذا والحديثان هكذا: (أحدهما) أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق.
(و الثاني) هكذا: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح [4].
فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللّه عز وجل» والذين استثناهم اللّه إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال اللّه تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾[39:68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.
قيل: هذا واللّه أعلم غير محفوظ، وهو وهم من بعض الرواة، والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل فيمن استثنى منها، وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: «لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فتأمله، وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء اللّه سبحانه لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعا، وأما موسى عليه السلام فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا [5]، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا من صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث و شأنه لكان حقيقا أن يعض عليه بالنواجذ وللّه الحمد والمنّة وبه التوفيق.
=======
المسألة الخامسة (و هي: أن الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شي ء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى، وهل تشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلمس صورته أم كيف يكون حالها؟)
هذه مسألة لا تكاد تجد من تكلم فيها ولا يظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولا سيما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها شكل ولا قدر ولا شخص، فهذا السؤال على أصولهم مما لا جواب لهم عنه، وكذلك من يقول: هي عرض من أعراض البدن فتميزها عن غيرها مشروط بقيامها ببدنها، فلا تميز لها بعد الموت، بل لا وجود لها على أصولهم، بل تعدم وتبطل باضمحلال البدن، كما تبطل سائر صفات الحي، ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل العينة التي تظاهرت عليها أدلة القرآن والسنّة والآثار والاعتبار والعقل، والقول أنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرنا في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال غيره لم يعرف نفسه.
و قد وصفها اللّه سبحانه وتعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي، والرجوع وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾[6:93] وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ۝27ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً۝28فَادْخُلِي فِي عِبَادِي۝29وَادْخُلِي جَنَّتِي۝30﴾ [89:27—30]. وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا۝7فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا۝8﴾ [91:7—8]. فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [82:7] فهو سبحانه سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقلب لنفسه، فتسوية البدن تابع لتسوية النفس، والبدن موضوع لها كالقلب لما هو موضوع له.
و من هاهنا يعلم أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر وتنتقل عن البدن، كما يتأثر البدن وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبيث من طيب النفس، وخبيثها وتكتسب النفس الطيب والخبيث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا وتناسبا وتفاعلا وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن، ولهذا يقال عند المفارقة: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي أيتها النفس الخبيثة [التي] [1] كانت في الجسد الخبيث.
و قال اللّه تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فوصفها بالتوفي والإمساك والإرسال، كما وصفها بالدخول والخروج والرجوع والتسوية، وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بصر الميت يتبع نفسه إذا قبضت، وأخبر أن الملك يقبضها فتأخذها الملائكة من يده، فيوجد لها كأطيب نفخة مسك وجدت على الأرض، أو كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض [2].
و الأعراض لا ريح لها ولا تمسك ولا تؤخذ من يد إلى يد.
و أخيرا أنها تصعد إلى السماء ويصلي عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض، وأنها تفتح لها أبواب السماء، فتصعد من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، فتوقف بين يديه ويأمر بكتابة اسمه في ديوان أهل عليين، أو ديوان أهل سجين، ثم ترد إلى الأرض، وأن روح الكافر تطرح طرحا وأنها تدخل مع البدن وفي قبرها للسؤال.
و قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأن نسمة المؤمن وهي روحه طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يردها اللّه إلى جسده [3]، وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وأخبر أن الروح تنعم وتعذب في البرزخ [4] إلى يوم القيامة.
و قد أخبر سبحانه عن أرواح قوم فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة [5]، وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وهذه حياة أرواحهم ورزقها دار، وإلا فالأبدان قد تمزقت، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هذه الحياة بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا فعلى بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى.
(و صح) عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة وتعلق بصنم اللام أي تأكل العلقة.
و قال ابن عباس: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجوف طير خضر ترد أنها الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلموا عن الحرب، فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغكم عنكم فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [3:169] الآيات، رواه الإمام أحمد، وهذا صريح في أكلها وشربها وحركتها وانتقالها وكلامها، وسيأتي مزيد تقرير لذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى.
و إذا كان هذا شأن الأرواح فتميزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، والاشتباه بينها أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا وأما الأرواح فقل ما تشتبه.
يوضح هذا أنا لم نشاهد أبدان الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميزون في علمنا أظهر تميز، وليس ذلك التمييز راجعا إلى مجرد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختص به أحدهم من الآخر، بل التمييز الذي عندنا بما علمناه وعرفناه من صفات أرواحهم وما قام بها، وتميز الروح عن الروح بصفاتها أعظم من تميز البدن عن البدن بصفاته، ألا ترى أن بدن المؤمن والكافر قد يشتبهان كثيرا، وبين روحيهما أعظم التباين والتمييز، وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في غاية الاشتباه وبين روحيهما غاية التباين، فإذا تجردت هاتان الروحان كان تميزهما غاية الظهور.
و أخبرك بأمر: إذا تأملت أحوال الأنفس والأبدان شاهدته عيانا، قل أن ترى بدنا قبيحا وشكلا شنيعا إلا وجدته مركبا على نفس تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى آفة في بدن إلا وفي روح صاحبه آفة تناسبها، ولهذا تأخذ أصحاب الفراسة أحوال النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها فقلّ أن تخطى ء ذلك.
(و يحكى) عن الشافعي [6] رحمه اللّه في ذلك عجائب.
و قلّ أن ترى شكلا حسنا وصورة جميلة وتركيبا لطيفا إلا وجدت الروح المتعلقة به مناسبة له، هذا ما لم يعارض ذلك ما يوجب خلافه من تعلم وتدرب واعتياد.
و إذا كانت الأرواح العلوية وهم الملائكة متميزا بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى.
=======
المسألة السادسة (و هي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أم لا)
فقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، بحيث صرّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: «أعوذ باللّه من عذاب القبر» ثلاث مرات، ثم قال: «إن العبد إذا كان في إقبال الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان، قال:
فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقا فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجد على وجه الأرض قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسماءه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه تعالى، فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللّه، فيقولان له:
و ما علمك بهذا؟ فيقول: قرأت كتاب اللّه فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أو صدق عبدي، فأفرشوه من الجنّة وافتحوا له بابا من الجنة، قال: فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللّه وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [1] من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح [2]، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث، فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾[7:40] فيقول اللّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ:
﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[22:31] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك؟ فيقول:
هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه حرها وسمومها ويضيق عليه فترة حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسودك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة» رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه أبو عوانة الأسفرائيني في صحيحه.
و ذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنّة والحديث من سائر الطوائف.
و قال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ، إن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، يعني قوله تعالى ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] وقوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾[2:28] قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ثم أحيانا ثلاثا، وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه اللّه تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا، ثم أحياهم، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة، وكذلك أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة، وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا، واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك، وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فنفي السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك، ولا يشك مسلم أن الذي نفى اللّه عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السمع.
قال: ولم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد منهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام، على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. قال: وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة.
ثم ذكر من طريق ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد، فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر، فقيل له:
هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فمال ابن عمر إليها فعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند اللّه، فقالت أمه: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
(قلت) ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، وأما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ، فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.
و إن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ، وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فتعاد في جسده»، وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء اللّه تعالى.
و أما استدلاله بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾[40:11] فلا ينفي هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد، كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه اللّه بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمسألة معتدا بها، فإنه حي لحظة بحيث قال: فلان قتلني ثم خرّ ميتا [3]، على أن قوله: ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدر وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق.
و سر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق مغايرة الأحكام:
(أحدها) تعلقها به في بطن الأم جنينا.
(الثاني) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
(الثالث) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
(الرابع) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
(الخامس) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
و أما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[39:42] فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا.
و إذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت حاله متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.
و أما إخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال: فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس [4]، ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.
و نازعهم في ذلك آخرون وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد، ولم تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم اللّه إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله».
و معلوم بالضرورة أن جسده صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأرض طري مطرا، وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن اللّه قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» [5].
و لو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب.
و قد صح عنه أن اللّه وكّل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام.
و صح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث».
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء.
و قد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من سلّم عليه، وهي في الرفيق الأعلى.
و لا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المناسبتين في غاية التجاور والقرب، ولو كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.
و ليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط على الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة، وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها، فإنها في السماء وشعاعها في الأرض، وقال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا، فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل، وأما قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا؟ مع إخباره بسماعهم كلامه، فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت، فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
و أما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾[35:22] فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعا ينتفع به [6]، كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين [7]، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [27:80] وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق. ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللّه أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ اللّه أن يسمعه إن أنت إلا نذير أي إنما جعل اللّه لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ اللّه إسماعه. و أما قوله: إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوي، فهذا من مجازفته رحمه اللّه، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
(قال) الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في كتاب (الروح والنفس) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق الصفار، أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلسنا وجلس كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رؤوسنا الطير فأرم قليلا، والإرمام السكوت، فلما رفع رأسه قال:
«إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا مد البصر، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال: أخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة اللّه ورضوانه، فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء، فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين و يقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول: جزاك اللّه خيرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة اللّه بطيئا عن معصية اللّه، فيقول: وأنت فجزاك اللّه خيرا فمن أنت؟ فيقول:
أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة، وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن النار وحنوط من نار قال:
فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك فيجلس عند رأسه ثم يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب اللّه وسخطه، فتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شي ء بين السماء والأرض إلا الثقلين [8]، ثم يصعد به إلى السماء فتعلق دونه، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه ثم يقولان: يا هذا من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادي من جانب القبر لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين [9] لم تقل، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول:
جزاك اللّه شرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة اللّه سريعا في معصية اللّه، فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار فينظر في مقعده فيها حتى تقوم الساعة» رواه الإمام أحمد ومحمود بن أبي غيلان وغيرهما عن أبي النضر. ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر، وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه (ثم ساقه) ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: «إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، وكانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا، فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان، فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة، وكفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء؟ ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال: هذه روح فلان، فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بين يدي اللّه عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول اللّه عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين، فيقول اللّه عز وجل: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [20:55]، فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: أنظر إلى ما أعد اللّه لك من الثواب، ويفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ما صرف اللّه عنك من العذاب، ثم يقال له: نم قرير العين فليس شي ء أحب إليه من قيام الساعة»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنت لحبيبا إلي وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره»، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا وضع الكافر في قبر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له:
لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له: ما قوله في هذا الرجل؟ فيقول: أي رجل، فيقولان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فيقول: قال الناس إنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادا».
هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفّاظ، ولا نعلم أحد من ائمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي اللّه، ثم رجوعها إلى القبر، وقول أبي محمد لم يروه غير زاذان [10] فوهم منه، بل رواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن عقبة وغيرهم. وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات، روي عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في صحيحه، قال يحيى بن معين: ثقة حميد بن هلال. وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة.
و قوله أن المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه. فالمنهال أحد الثقات العدول، قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة. وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شي ء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله: فتعاد روحه في جسده، وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره.
و قد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله: فترد إليه روحه، وقوله: فتصير إلى قبر فيستوي جالسا، وقوله فيجلسانه، وقوله: فيجلس في قبره، وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها، وقد أعله غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء، وهذه العلة باطلة، فإن أبا عوانة الأسفرائيني رواه في صحيحه بإسناد، وقال عن أبي عمرو زاذان الكندي قال: سمعت البراء بن عازب، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده هذا إسناد مشهور رواه جماعة عن البراء.
و لو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، قال:
فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟
فيقولون: فلان، فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد، ادخلي حميدة وابشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق، ثم يقال: فما كنت تقول في الإسلام؟ ما هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات من قبل اللّه فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث.
قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه، اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على أن أبي ذئب ومحمد بن عمرو ابن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطها، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك وعبد الرحيم بن إبراهيم، انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غير واحد.
(و قد احتج) أبو عبد اللّه بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعد تلا هذه الآية: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾[6:93] الآية، قال: «و الذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار»، ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صف له صفان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما نرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلون[11] روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليهم، وكم كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال: فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حتى يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم: أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [32:11] فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه، قال: فيصعدون بها، وللّه عز وجل خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى ينتهي بها بين يدي الملك الجبار جل جلاله، مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشي ء مرحبا رحب له كل شي ء، ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال: فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر، وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهي في مقرها، بل هو عود خاص للمسألة.
و قال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
[عذاب القبر وعلامة البدن والروح به] وهذا يتضح بجواب المسألة وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس. وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟.
و قد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنّة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على أرواح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكي يقولون لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا.
و هذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، و هو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:
إحداها: أنه على الروح فقط.
و الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.
و الثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول أن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل قد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني [12] وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنّة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك.
و لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
و القول الثالث الشاذ قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.
======
فصل مذهب السلف في عذاب الميت
فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة، فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد قاموا من قبورهم لرب العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى. ونحن نثبت ما ذكرناه.///////
==============
فصل عذاب القبر
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير فكثيرة متواترة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، كما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» [1].
(و في صحيح مسلم) عن زيد بن ثابت قال: بينا النبي صلى اللّه عليه وآله و سلم في حائط لبني النجار على بغلته ونحن معه، إذ حادت [2] به فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر»؟ فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء»؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلي [3] في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا [4] لدعوت اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» [5] ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «تعوذوا باللّه من عذاب النار»، قالوا: نعوذ باللّه من عذاب النار، فقال: «تعوذوا باللّه من عذاب القبر»، قالوا: نعوذ باللّه من عذاب القبر. قال: «تعوذوا باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، قالوا: نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا باللّه من فتنة الدجال»، قالوا نعوذ باللّه من فتنة الدجال [6].
(و في صحيح مسلم) وجميع السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ باللّه من أربع: من عذاب جهم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا [7] والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» [8].
(و في صحيح مسلم) أيضا وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» [9].
(و في الصحيحين) عن أبي أيوب قال: خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد غربت الشمس، فسمع صوتا فقال: «يهود تعذب في قبورها» [10].
(و في الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت عليّ عجوز من عجائز يهود المدينة فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتها ولم أصدقها، قالت: فخرجت ودخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول اللّه إن عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم! قال: «صدقت إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها» قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر [11].
(و في صحيح ابن حبان) عن أم مبشر قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم [و أنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم] [12] وهو يقول:
«تعوذوا باللّه من عذاب القبر» [13]، فقلت: يا رسول اللّه وللقبر عذاب؟ قال: «إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم».
(قال) بعض أهل العلم، ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت [14] إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية [15] والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، قال: فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعا وحرارة تذهب بالمغل.
(و قد قال) عبد الحق الإشبيلي [16]، حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان وكان من أهل العلم والعمل أنهم دفنوا ميتا بقريتهم في شرف أشبيلية [17]، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون، ودابة ترعى قريبا منهم، فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر، فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة، ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنها عليها كأنها تسمع ثم ولت فارة، فعلت ذلك مرة بعد أخرى. قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر وقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم «أنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم».
ذكر لنا هذه الحكاية ونحن نسمع عليه كتاب مسلم لما انتهى القارئ إلى قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم «إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم».
و هذا السماع واقع على أصوات المعذبين، قال هناد بن السري [18] في كتاب (الزهد) حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:
دخلت عليّ يهودية، فذكرت عذاب القبر، فكذبتها، فدخل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علي، فذكرت ذلك له، فقال: «و الذي نفسي بيده أنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم».
(قلت) وأحاديث المسألة في القبر كثيرة كما في الصحيحين والسنن، عن البراء بن عازب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «المسلم إذا سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فذلك قول اللّه: ﴿يُثَبِّتُ[19] اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[14:27] وفي لفظ: نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: اللّه ربي ومحمد نبي، فذلك قول اللّه ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[14:27] [20].
و الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولا كما تقدم.
و قد صرح في هذا الحديث بإعادة الروح إلى البدن وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
و قد روى مثل حديث البراء قبض الروح والمسألة والنعيم والعذاب أبو هريرة (و حديثه) في المسند، وصحيح أبي حاتم، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي ما دخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول: فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان ما قبلي مدخل، فيقال: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت الغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وما ذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني أصلي، فيقولون إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، أ رأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وما تشهد عليه؟ فيقول محمد؟ أشهد أنه رسول اللّه، جاء بالحق من عند اللّه، فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء اللّه، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وما أعد اللّه لك فيها، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدي ء منه، وتجعل نسمته من النسم الطيب وهي طير معلق في شجرة الجنة، قال: فذلك قول اللّه تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[14:27] وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن قال: ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنك التي قال اللّه تعالى ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾[20:124].
(و في الصحيحين) من حديث قتادة: عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، قال: فيقول أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة»، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«فيراهما جميعا». قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون [21]. ثم رجع إلى حديث أنس قال: فأما الكافر والمنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين.
(و في صحيح أبي حاتم) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما:
المنكر، وللآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنا قال: هو عبد اللّه ورسوله، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان له: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراع، وينور له فيه، ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي ومالي فأخبرهم، فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك، وإن كان منافقا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا فكنت أقوله، فيقولان له:
كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبا حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك». وهذا صريح في أن البدن يعذب.
(و عن أبي هريرة) أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء فيقولون: أخرجي أيتها الروح الطيبة راضية مرضيا عنك إلى روح [22] وريحان [23] ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب من ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون:
ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبة يقدم عليه، فيسألونه ما ذا فعل فلان؟ قال: فيقول دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال أتاكم فيقولون إنه ذهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: أخرجي مسخوطا عليك إلى عذاب اللّه فتخرج كأنتن روح جيفة حتى يأتوا به باب الأرض، فيقولون: فما أنتن هذه الروح حتى يأتوا به أرواح الكفار» رواه النسائي والبزار ومسلم مختصرا.
(و أخرجه أبو حاتم في صحيحه) وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة، فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء، فينطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحا أطيب من هذه، فيقال: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقال: دعوه يستريح، فإنه كان في غم الدنيا، وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب بها إلى الأرض فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى».
(و روى) النسائي في سننه من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه»، قال النسائي [24] يعني سعد بن معاذ [25].
(و روى) من حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ»، رواه من حديث شعبة.
و قال هناد بن السري: حدثنا محمد بن الفضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة قال: «ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها» [26].
و قال: وحدثنا عبدة من عبيد اللّه بن عمر عن نافع قال: لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قط، لقد بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «ضم صاحبكم في القبر ضمة».
و قال: علي بن معبد، حدثنا عبيد اللّه عن زيد بن أبي أنيسة، عن جابر، عن نافع قال: أتينا صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد اللّه بن عمر وهي فزعة، فقلنا:
ما شأنك؟ فقالت: جئت من عند بعض نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قالت: فحدثني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن كنت لأرى لو أن أحدا أعفي من عذاب القبر لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة».
(و حدثنا) مروان بن معاوية عن علاء بن المسيب عن معاوية العبسي عن زاذان بن عمرو قال: لما دفن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ابنته فجلس عند القبر فتربد [27] وجهه، ثم سرى عنه [28]، فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفا ثم سرى، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر، فدعوت اللّه ففرج عنها، وأيم اللّه لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين».
و حدثنا شعيب عن ابن دينار عن إبراهيم الغنوي عن رجل قال: كنت عند عائشة رضي اللّه عنها فمرت جنازة صبي صغير فبكت، فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين، فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
و معلوم أن هذا كله بواسطة الروح.
هامش
سري عنه: أي أذهب عنه هذا الهم أو الغم الذي تغير وجهه بسببه.
أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في التشديد في البول برقم (70) عن طاوس عن ابن عباس: أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستتر من بوله، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة».
و أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب التشديد في البول برقم 347 عن طاوس عن ابن عباس قال: «مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بقبرين جديدين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة». وفي لفظ البخاري زيادة عما ورد: «ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، قالوا يا رسول اللّه لم فعلت؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا». وفي ذلك بيان منه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن بقاء النداوة في هذين النصفين يكونان سببا في تخفيف العذاب عنهما، وهذا من بركته صلى اللّه عليه وآله وسلم وليس لمعنى أن كل رطب أو جريد أو شجر يكونوا سببا في تخفيف العذاب عمن يعذب في القبر لهذين السببين أو غيرهما، ولقد أوضح صلى اللّه عليه وآله وسلم في أحاديث أخرى من أن عدم الاستنزاه من البول يكون سببا في عذاب القبر، فأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أكثر عذاب القبر من البول» وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه عن بحر بن مرار عن جده أبي بكرة قال: مر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول، وأما الآخر فيعذب في الغيبة».
أي مالت وتنحت عن الطريق.
أي تمتحن، والمراد به امتحان الملكين للميت بقولهما له: من ربك ومن نبيك.
أصله أن تتدافنوا، فحذف إحدى التاءين، وفي الكلام حذف، والمعنى: لو لا مخافة أن لا تدافنوا.
ليس المعنى أنهم لو سمعوا ذلك تركوا التدافن لئلا يصاب موتاهم بالعذاب كما زعم البعض، لأن المخاطبين هم الصحابة، وكانوا على علم أن عذاب اللّه لا يرد بحيلة أو غيرها، بل المعنى أنهم لو سمعوا ذلك لتركوا دفنه استهانة به أو لعدم قدرتهم عليه أو لدهشتهم وتحيرهم منه.
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (8/ 160).
المحيا مفعل من الحياة، كالممات من الموت، المراد الحياة أو الموت أو زمن ذلك.
وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبو داود.
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب التشهد، وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات باب 77 وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب التشهد، وأخرجه النسائي في كتاب التطبيق باب نوع آخر من التشهد وفي كتاب السهو باب تعليم التشهد كتعليم السورة من القرآن، وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها باب ما جاء في التشهد.
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه.
أخرجه البخاري بلفظ مقارب في كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 102).
نقص في المطبوع، والزيادة من صحيح ابن حبان.
أخرجه ابن حبان (فصل في أحوال الميت في قبره: ذكر الأخبار بأن البهائم تسمع أصوات من عذب في قبره من الناس) (5/ 51) رقم الحديث 3115.
المغل: هو مغص يصيب الدواء بسبب أكلهم التراب.
هم من قالوا بأن الإمامة هي لإسماعيل بن جعفر، وأشهد ألقابهم الباطنية، ولزمهم هذا اللقب لقولهم بأن لكل ظاهر باطن، ولكل تنزيل تأويل، ولهم ألقاب كثيرة فيقال لهم في العراق: الباطنية والقرامطة والمزدكية ويقال لهم في خراسان: التعليمية والملحدة، وهم يطلقون على أنفسهم الإسماعيلية، لقولهم أن هذا اللقب يميزهم عن الشيعة. (راجع الملل والنحل 2/ 5 و27).
هو عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد اللّه أبو محمد الأزدي الإشبيلي الحافظ ويعرف بابن الخراط أحد الأعلام ومؤلف الأحكام الكبرى والصغرى والجمع بين الصحيحين وكتاب الغريبين في اللغة، وكتاب الجمع بين السنّة وغير ذلك، روى عن أبي الحسن شريح وجماعة، نزل بجارية وولي خطابتها وبها توفي بعد محنة لحقته من الدولة، وكان مع جلالته في العلم قانعا متطلعا موصوفا بالصلاح والورع ولزوم السنّة، وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة عن إحدى وسبعين سنة.
أي في أعالي إشبيلية.
هو هناد بن السري الحافظ الزاهد القدوة أبو السري الدارمي الكوفي صاحب كتاب الزهد، روى عن شريك وإسماعيل بن عياش وطبقتهما فأكثر، وجمع وصنف وروى عنه أصحاب الكتاب الستة إلا البخاري، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
قال الطبري: يثبتهم في الدنيا على الإيمان حتى يموتوا عليه، وفي الآخرة عند المسألة.
أخرجه مسلم في كتاب الجنة باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (8/ 162).
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (8/ 162).
أي إلى رحمة.
أي إلى طيب.
هذا القول كما ذكر السيوطي هو زيادة من البيهقي في دلائل النبوة باب دعاء سعد بن معاذ رضي اللّه عنه في جراحته وإجابة اللّه تعالى إياه في دعوته وما ظهر في ذلك من كرامته (4/ 28) قال البيهقي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن علي بن معاوية العطار النيسابوري قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد بن بالويه الحفصي، قال: حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا عمرو بن محمد القرشي قال: حدثنا إدريس عن عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إن هذا الذي تحرك له العرش، يعني سعد بن معاذ، وشيع جنازته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه.
و قد نقل هذا الحديث ابن كثير أيضا في تاريخه (4/ 128) بإسناده عن ابن عمر وعزّاه للبزار.
و ذكر البيهقي أيضا في دلائل النبوة (4/ 28 و29) عن الحسن قال: اهتز له عرش الرحمن فرحا بروحه. وأخرج أيضا عن جابر بن عبد اللّه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش قال: فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإذا سعد بن معاذ قال: فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال: سبحان اللّه- مرتين، فسبّح القوم ثم قال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، فكبّر القوم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له» (انظر مسند الإمام أحمد- 3/ 327).
و سعد بن معاذ هو سيد الأوس أصيب في غزوة الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة فجرحه ومات من نزف جرحه، وكانت وفاته في السنة الخامسة للهجرة.
هذا القول كما ذكر السيوطي هو زيادة من البيهقي في دلائل النبوة باب دعاء سعد بن معاذ رضي اللّه عنه في جراحته وإجابة اللّه تعالى إياه في دعوته وما ظهر في ذلك من كرامته (4/ 28) قال البيهقي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن علي بن معاوية العطار النيسابوري قال: حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد بن بالويه الحفصي، قال: حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا عمرو بن محمد القرشي قال: حدثنا إدريس عن عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إن هذا الذي تحرك له العرش، يعني سعد بن معاذ، وشيع جنازته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه.
و قد نقل هذا الحديث ابن كثير أيضا في تاريخه (4/ 128) بإسناده عن ابن عمر وعزّاه للبزار.
و ذكر البيهقي أيضا في دلائل النبوة (4/ 28 و29) عن الحسن قال: اهتز له عرش الرحمن فرحا بروحه. وأخرج أيضا عن جابر بن عبد اللّه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات ففتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش قال: فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فإذا سعد بن معاذ قال: فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس إذ قال: سبحان اللّه- مرتين، فسبّح القوم ثم قال: اللّه أكبر، اللّه أكبر، فكبّر القوم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له» (انظر مسند الإمام أحمد- 3/ 327).
و سعد بن معاذ هو سيد الأوس أصيب في غزوة الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة فجرحه ومات من نزف جرحه، وكانت وفاته في السنة الخامسة للهجرة.
أخرج البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الأنصار (مناقب سعد بن معاذ رضي اللّه عنه) - 4/ 227 عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي اللّه عنه يقول: أهديت للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها فقال: «أ تعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ خير منها» أو ألين.
و أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم (7/ 220).
الربدة: وزان غرفة، وهو لون يختلط سواده بكدره، والمقصود أنه تغير وجهه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
=========
فصل الإيمان بعذاب القبر
وهذا كما أنه مقتضى السنّة الصحيحة فهو متفق عليه بين أهل السنّة. قال المروزي: قال أبو عبد اللّه: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل، قال حنبل:
قلت لأبي عبد اللّه في عذاب القبر فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إسناد جيد أقررنا به. إذا لم نقر بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على اللّه أمره، قال اللّه تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾[59:7] قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال:
حق يعذبون في القبر. قال: وسمعت أبا عبد اللّه يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وأن العبد يسأل في قبره فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر.
(و قال) أحمد بن القاسم: قلت: يا أبا عبد اللّه، تقر بمنكر ونكير، وما يروى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان اللّه نعم، نقر بذلك ونقوله، قلت: هذه اللفظة تقول: منكر ونكير هكذا أو تقول ملكين؟ قال: منكر ونكير؟ قلت: يقولون ليس في حديث منكر ونكير، قال: هو هكذا، يعني أنهما منكر ونكير.
و أما أقوال أهل البدع والضلال، فقال أبو الهذيل والمريسي: من خرج عن صفة الإيمان فإنه يعذب بين النفحتين، والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت.
و أثبت الجبائي وابنه البلجي عذاب القبر ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفسّاق على أصولهم.
(و قال) كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة اللّه بمنكر ونكير، وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملكين له.
و قال الصالحي: وصالح فيه عذاب القبر يجري على المؤمن من غير رد الأرواح إلى الأجساد، والميت يجوز أن يتألم ويحس ويعلم بلا روح، وهذا قول جماعة من الكراهية.
(و قال) بعض المعتزلة: إن اللّه سبحانه يعذب الموتى في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا أوجدوا تلك الآلام وأحسوا بها، قالوا:
و سبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران والمغشى عليه لو ضربوا لم يجدوا الآلام، فإذا عاد عليهم العقل أحسوا بألم الضرب.
و أنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسا مثل ضرار بن عمرو [1] ويحيى بن كامل وهو قول المريبي، فهذه أقوال أهل الخزية والضلالة.
هامش
هو ضرار بن عمرو المتكلم أحد شيوخ المعتزلة، وكانت فيه ثلاثة أعاجيب: كان معتزليا كوفيا، وكان عربيا شعوبيا، وزوج ابنته من علج أسلم، وكان يختلف إليه، ومات بالدماميل وله تسعون سنة.
=========
فصل عذاب البرزخ
و مما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق العذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع وأحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور.
(و في صحيح البخاري) عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال: فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول ما شاء اللّه، فسألنا يوما فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب [1] حتى يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت له: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بصخرة أو فهر [2] فيشدخ بها رأسه فإذا ضربة تدهده [3] الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا إلى نقب مثل التنور [4] أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فيأتيهم اللهب من تحتهم، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى وسط النهر، رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى فيه بحجر، فرجع كما كان، فقلت: ما هذا، قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها، فيها شيوخ وشبان، ثم صعدا بي فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، قلت: طوفتماني الليلة، فأخبراني عما رأيت؟ قالا: نعم، الذي رأيته يشق شدقه كذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة، وأما الذي رأيت في النقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر فآكل الربا، وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار فمالك خازن النار، والدار الأولى دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء وأنا جبرائيل وهذا ميكائيل، فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا قصر مثل السحابة قالا ذلك منزلك، قلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك.
و هذا نص في عذاب البرزخ فإن رؤيا الأنبياء وحي مطابق لما في نفس الأمر.
(و قد ذكر) الطحاوي عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «أمر بعبد من عباد اللّه أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل اللّه ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه نارا، فلما ارتفع عنه أفاق فقال:
علّام جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت بغير طهور ومررت على مظلوم فلم تنصره.
(و ذكر البيهقي) حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم [أنه قال] [5] في هذه الآية: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾[17:1] قال: أتى بفرس فحمل عليه قال: كل خطوة منتهى أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل [عليه السلام] [6] فأتي على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء [المهاجرون] [7] في سبيل اللّه يضاعف لهم الحسنة بسبعمائة: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾[34:39] ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيئا، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذي تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، قال: ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام على الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم اللّه، وما اللّه بظلّام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم من قدر نضيج ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلوا من الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هذا الرجل يقوم وعنده امرأة حلالا طيبا فيأتي المرأة الخبيثة فتبيت معه حتى يصبح، ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شي ء إلا قصعته، يقول اللّه تعالى ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾[7:86].
ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها، ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شي ء، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، ثم أتى على حجر صغير يخرج منه نور عظيم، فجعل النور يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟
قال: «هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع» وذكر الحديث [8].
و ذكر البيهقي أيضا في حديث الإسراء من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «فصعدت أنا وجبريل [فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال: وقال اللّه عز وجل: وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] [9] فاستفتح جبريل [باب السماء، قيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟
قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم] [10] فإذا [أنا] [11] بآدم كهيئته يوم خلقه اللّه على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين، ثم مضت هنيهة، فإذا أنا بأخونة [12] عليها لحم مشرح ليس بقربها أحد، وإذا [أنا] [13] بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونتن وعندها أناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء [من أمتك] [14] يتركون الحلال ويأتون الحرام، قال: ثم مضت هنيهة، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر، يقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، قال: فتجي ء السابلة فتطؤهم، [قال: فسمعتهم يضجون إلى اللّه سبحانه] [15] قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ [قال: هؤلاء من أمتك ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾[2:275] قال ثم مضت هنيهة فإذا أنا [بأقوام] [16] مشافرهم كمشافر الإبل، [قال]: [17] فتفتح أفواههم فيلقمون الجمر ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون [إلى اللّه عز وجل] [18] قلت [يا جبريل] [19] من هؤلاء؟ قال: [هؤلاء من أمتك] [20] يأكلون أموال اليتامى ظلما [إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا] [21]، ثم مضت هنيهة، فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يصحن [إلى اللّه عز وجل] [22] [قلت يا جبريل من هؤلاء النساء] [23]؟ قال: هؤلاء [الزناة من أمتك] [24]، ثم مضت هنيهة فإذا أنا [بأقوام] [25] تقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون فيقال [له] [26]: كل [كما] [27] كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: [يا جبريل] [28] من هؤلاء؟ قال: [هؤلاء] [29] الهمازون من أمتك [اللمازون] [30] وذكر الحديث بطوله.
و في سنن أبي داود من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون [31] وجوههم وصدورهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: [هؤلاء] [32] الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» [33].
(و قال) أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أتى على قبرين فقال:
«إنهما ليعذبان في غير كبير، أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس، وأما الآخر فكان صاحب نميمة»، ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفها على هذا القبر ونصفها على القبر [الآخر] وقال: «عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين».
و قد اختلف الناس في هذين: هل كانا كافرين أو مؤمنين؟ وقوله: وما يعذبان في كبير يعني بالإضافة إلى الكفر والشرك قالوا: ويدل عليه أن العذاب لم يرتفع عنهما وإنما خفف، وأيضا فإنه خفف مدة رطوبة الجريدة فقط، وأيضا فإنهما لو كانا مؤمنين لشفع فيهما، ودعا لهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فرفع عنهما [العذاب] [34] بشفاعته، وأيضا: ففي بعض طرق الحديث أنهما كانا كافرين وهذا التعذيب زيادة على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليل على أن الكافر يعذب بكفره وذنوبه جميعا. وهذا اختيار أبي الحكم بن برخان.
و قيل: كانا مسلمين لنفيه صلى اللّه عليه وآله وسلم التعذيب بسبب غير السببين المذكورين، ولقوله: وما يعذبان في كبير، والكفر والشرك أكبر الكبائر على الإطلاق، ولا يلزم أن يشفع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لكل مسلم يعذب في قبره على جريمة من الجرائم، فقد أخبر عن صاحب الشملة الذي قتل في الجهاد أن الشملة تشتعل عليه نارا في قبره، وكان مسلما مجاهدا [35]، ولا يعلم ثبوت هذه اللفظة وهي قوله: كانا كافرين، ولعلها لو صحت فهي من قول بعض الرواة، واللّه أعلم. وهذا اختيار أبي عبد اللّه القرطبي.
هامش
أخرج البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر (5/ 81) عن سالم مولى ابن مطيع أنه سمع أبا هريرة رضي اللّه عنه يقول: افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة، إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم، أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «بلى، والذي نفسي بيده أن الشملة التي أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بشراك أو شراكين فقال:
هذا شي ء كنت أصبته، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «شراك أو شراكان من نار».
و السهم العائر: هو السهم الذي لا يدرى من أين أتى، وقيل: هو الحائد. والشملة كساء صغير يؤزر به والجمع: شملات. والشراك: النعل، سيرها الذي على ظهر القدم).
الكلّوب مثل تنوّر، والكلّاب مثل تفّاح، وهي خشبة في رأسها عقافة منها أو من حديد.
الفهر: الحجر- يذكر ويؤنث- وهو حجر ناعم صلب، يسحق به الصيدلي الأدوية، والجمع أفهار وفهور، والفهرة القطعة من الحجر.
أي تدحرج.
التنور: هو الذي يخبز فيه، وافقت فيه لغة العرب لغة الأعاجم. قال أبو حاتم: ليس بعربي صحيح، والجمع تنانير.
نقص في المطبوع، والزيادة من دلائل النبوة.
نقص في المطبوع.
وردت في المطبوع: المجاهدون، والتصويب من الدلائل.
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 397).
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
الخوان: المائدة التي يؤكل عليها.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
وردت في المطبوع: بقوم.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
وردت في المطبوع: قلت من هؤلاء.
وردت في المطبوع: الزواني.
وردت في المطبوع: بقوم.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
نقص في المطبوع، والزيادة من الدلائل.
أي يخدشون أو يجرحون وجوههم وصدورهم.
نقص في المطبوع والزيادة من سنن أبي داود.
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب في الغيبة برقم (4878).
زيدت لوضوح العبارة.
========
المسألة السابعة (الرد على منكري عذاب القبر)
و هي قول السائل: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه.
قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانا تأجج، ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها، لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ قال إخوانهم من أهل البدع والضلال، وكل حديث يخالف مقتضى القول والحس يقطع بتخطئة قائلة، قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها، وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه، وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه، ونحن نذكر أمورا يعلم بها الجواب.
========
فصل أخبار الرسل
الأمر الأول: أن يعلم أن الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان:
(أحدهما) ما تشهد به العقول والفطر.
(و الثاني) ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا، وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون الخبر كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقولة صريحة قال تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [34:6] وقال تعالى: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ﴾[13:19]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾[13:36] والنفوس لا تفرح بالمحال، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ۝57قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ۝58﴾ [10:57—58] والمحال لا يشفى ولا يحصل به هدى ولا رحمة ولا يفرح به. فهذا أمر من لم يستقر في قلبه خير ولم يثبت له على الإسلام قدم وكان أحسن أحواله الحيرة والشك.
============================================
فصل مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
الأمر الثاني: أن يفهم عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مراده غير علو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان.
و قد حصل بإهمال ذلك، والعدل عنه من الضلال، والعدول عن الصواب ما لا يعلمه، إلا اللّه، بل سوء الفهم عن اللّه ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما أن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع في محنة الدين وأهله واللّه المستعان.
و هل أوقع القدرية [1] والمرجئة [2] والخوارج [3] والمعتزلة [4] والجهمية [5] وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن اللّه ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن تتبعهم عن اللّه ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسا، ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإننا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوف، حتى أنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن اللّه ورسوله ومراده كما ينبغي في موضع واحد.
و هذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول، وأما من عكس الأمر بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئا فدعه، وما اختاره لنفسه وعليه ما تولى وأحمد الذي عافاك مما ابتلاه به.
هامش
ينتسبون إلى الجهم بن صفوان مولى بني راسب: وآراء الجهم ترتد إلى ثلاث آيات قرآنية أخذ منها كل أفكاره وفسر بها القرآن، وهي:
أ- قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ.
ب- قوله تعالى: وهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وفِي الْأَرْضِ.
ج- قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ.
فرفض الجهم كل وصف للّه لم يصف به نفسه، فهؤلاء يعتقدون أن كل إثبات للصفات في حق اللّه يخرج ذات اللّه عن قدمها الأزلي.
هم الذين أنكروا القدر وقالوا أن الإنسان هو من يخلق أفعاله.
منهم من زعم أن الإيمان هو معرفة اللّه عز وجل ومحبته والخضوع إليه بالقلب، والإقرار أنه واحد لا مثيل له، ومعرفة الرسل وجميع ما جاء من عند اللّه، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة للّه ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح ليس بإيمان، ويزعمون أن الكفر هو الجهل باللّه. ومنهم من يزعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه والخضوع له وترك الاستكبار عليه، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، ومنهم من زعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه ورسله وفرائضه والخضوع له بجميع ذلك، والإقرار باللسان، ومنهم الغيلانية أتباع غيلان الدمشقي الذي رمي بالإرجاء كما رمي فأفكار أخرى.
هم الذين خرجوا على الإمام علي كرّم اللّه وجهه قبل التحكيم مع معاوية.
ذكر الشهرستاني في المشهور في سبب إطلاق لقب المعتزلة قال: دخل أحدهم على الحسن البصري وهو يدرس في مسجد البصرة، فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبائر عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل في فكرهم ليس ركنا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ ففكر الحسن البصري، وقبل أن يجيب تكلم واصل فقال: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر، ثم قام واصل واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به جماعة ممن ترك مجلس الحسن البصري، ولما رأى الحسن ذلك نادى بأعلى صوته:
اعتزل عنا واصل، اعتزل عنا واصل، فسارت هذه التسمية في المجتمعات.
===
فصل أقسام الدور
الأمر الثالث: أن اللّه سبحانه جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا، فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج.
و قد أرانا اللّه سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
و أعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب [في] [1] الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا.
و متى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائم في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
هامش
زيدت على المطبوع لوضوح العبارة.
========
فصل أمر الآخرة من الغيب
الأمر الرابع: أن اللّه سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة، وإما من النار، ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر، وقد يسلمون على المحتضر، ويرد عليهم تارة بلفظة، وتارة بإشارته، وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة. وقد سمع بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه.
(و أخبرني) شيخنا [1] عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهده وأخبره عنه أنه سمع وهو يقول: عليك السلام هاهنا فأجلس، وعليك السلام هاهنا فاجلس [2].
(و قصة) خبر النساج رحمه اللّه مشهورة حيث قال عند الموت: اصبر عافاك اللّه، فإن ما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم استدعى بماء فتوضأ وصلى ثم قال: امض لما أمرت به، ومات.
(و ذكر) ابن أبي الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، فأجلسوه فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاث مرات، ولكن لا إله إلا اللّه، ثم رفع رأسه فأحط النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بأنس ولا جن، ثم قبض.
(و قال) مسلمة بن عبد الملك، لما احتضر عمر بن عبد العزيز كنا عنده في قبة [3]، فأومى إلينا أن أخرجوا، فخرجنا، فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف [4]، فسمعناه يقرأ هذه الآية: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [28:83] ما أنتم بإنس ولا جان، ثم خرج الوصيف فأومى إلينا أن أدخلوا، فدخلنا فإذا هو قد قبض.
(و قال) فضالة بن ديار: حضرت محمد بن واسع [5] وقد سجى [6] للموت، فجعل يقول: مرحبا بملائكة ربي ولا حول ولا قوة إلا باللّه، وشممت رائحة طيب لم أشم قط أطيب منها، ثم شخص ببصره، فمات. والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر.
و أبلغ وأكفى من ذلك كله قول اللّه عز وجل: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ۝83وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ۝84وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ۝85[56:83—85] أي أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا ولكنكم لا ترون، فهذا أول الأمر وهو غير مرئي لنا ولا مشاهد وهو في هذه الدار.
ثم يمد الملك يده إلى الروح فيقبضها ويخاطبها، والحاضرون لا يرونه ولا يسمعونه، ثم تخرج فيخرج لها نور مثل شعاع الشمس، ورائحة أطيب من رائحة المسك، والحاضرون لا يرون ذلك ولا يشمونه. ثم تصعد بين سماطين من الملائكة والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهد غسل البدن وتكفينه وحمله وتقول: قدموني قدموني، أو إلى أين تذهبون بي، ولا يسمع الناس ذلك، فإذا وضع في لحده وسوي عليه التراب لم يحجب التراب الملائكة عن الوصول إليه، بل لو نقر له حجر فأودع فيه وختم عليه بالرصاص لم يمنع وصول الملائكة إليه، فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تمنع خرق الأرواح لها، بل الجن لا يمنعها ذلك، بل قد جعل اللّه سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير، واتساع القبر وانفساحه للروح بالذات والبدن تبعا، فيكون البدن في لحد أضيق من ذراع، وقد فسح له مد بصره تبعا لروحه، وأما عصرة القبر حتى تختلف بعض أجزاء الموتى فلا يرده حس ولا عقل ولا فطرة، ولو قدر أن أحدا نبش عن ميت فوجد أضلاعه كما هي لم تختلف لم يمنع أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة، فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرد تكذيب الرسول.
و لقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر، فلما فرغ منها، اضطجع ليستريح، فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا، فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخا في فرسخ، ثم وقف على الثاني فقال: اكتب ميلا في ميل، ثم وقف على الثالث، فقال اكتب فترا في فتر، ثم انتبه فجي ء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جيء برجل آخر فدفن في الثاني، ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول: فترا في فتر، والفتر ما بين الإبهام والسبابة.
هامش
أي غطي بثوب أو نحوه.
أي ابن تيمية.
وليس هذا ببعيد، فالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قد سمع منه ما يدل على ذلك، فقد أخرج البخاري في مرض الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم (5/ 138) عن السيدة عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخير» فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: «اللهم في الرفيق الأعلى» فقلت: إذا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا، وهو صحيح.
القبة: بناء مستدير مقوس مجوف يعقد بالآجر ونحوه، أو خيمة صغيرة أعلاها مستدير.
الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية.
هو محمد بن واسع الأزدي عابد البصرة، أخذ عن أنس ومطرف بن الشخير وطائفة، وهو مقل، روى خمسة عشر حديثا ومناقبه مشهورة، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق