الاثنين، 5 سبتمبر 2022

غياث الأمم في التياث الظلم الغياثي الإمام أبو المعالي الجويني

 

 غياث الأمم في التياث الظلم الغياثي  الإمام أبو المعالي الجويني 

بسم الله الرحمن الرحيم

غياث الأمم في التياث الظلم

 

قال الشيخ الأجل الإمام فخر الإسلام إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني رحمة الله عليه:

الحمد لله القيوم الحي الذي بإرادته كل رشد وغي وبمشيئته كل نشر وطي كل بيان في وصف جلاله حصر وعي وبين عيني كل قيصر وكمي من قهر فتسخيره وسم وكي فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء فالعقول عن عز جلاله معقولة ومعاقد العقود في نعت كماله محلولة ومطايا الواجدين مشكولة وقلوب العارفين على الدأب في الطلب مجبولة وأيدي المريدين إلى الأعناق مغلولة وأفئدة القانعين بملك الدارين معلولة وغاية الزاهدين العابدين مواعيد مأمولة     وفي عرصات الكبرياء ألسنة مسلولة ودماء الهلكي في الله مهدرة مطلولة وحدود المشمرين في غير ما قدر لهم مغلولة ونهاية المكاشفين حيرة محصولة ولا ينفع مع القدر المحتوم وسيلة ولا يدرأ القضاء الأزلي حيلة والأفهام دون حمي العزة مبهورة والأوهام مقهورة والفطن من جوره والبصائر مدحورة والفكر عن مدرك الحق مقصورة وذكر اللسان أصوات وأجراس ومتضمن الخواطر وسواس والسكون عن الطلب تعطيل والركون إلى مطلوب مخيل تمثيل وبذل المهج في أدنى مسالك المريدين قليل وليس إلي درك حقيقة الحق سبيل     ونار الله على أرواح المشتاقين موقدة ومدارك الوصول بإغلاق العز مؤصدة ومن قنع بالدعوى ضاع زمانه ومن تحقق في الإرادة طالت أحزانه ومن ضرى بالكلام صدى جنانه ومن عرف كل لسانه جل جلاله وتقدست أسماؤه استواؤه استيلاؤه ونزوله بره وحباؤه ومجيئه حكمه وقضاؤه ووجهه بقاؤه وتقريبه اصطفاؤه ومحبته آلاؤه وسخطه بلاؤه وبعده علاؤه العظمة إزاره والكبرياء رداؤه غرقت في بحور سرمديته عقول العقلاء وبرقت في وصف صمديته علوم العلماء ولم يحصل منه أهل الأرض والسماء إلا على الصفات والأسماء      فالخلق رسوم خالية وجوم بالية والقدرة الأزلية لها والية جلت ساحة الربوبية وحمي العزة الديمومية عن وهم كل جني وإنسي ومناسبة عرش وكرسي فالشواهد دونها منطمسة والعلوم مندرسة والعقول مختلطة ملتبسة والألسنة معتقلة محتبسة فلا تحييث ولا تحييز ولا تحقيق ولا تمييز ولا تقدير ولا تجوير وليس إلا وجهه العزيز      قد أفلح الحامدون وخاب الجاحدون وفاز المؤمنون وكفى المتوكلون وصدق المرسلون واعترف لله بالوحدانية المؤيدون وأيقن بنبوة المرسلين وصدق خاتم النبيين وقائد الغر المحجلين الموفقون  وعلى الأنبياء أجمعين     قد تقدم الكتاب النظامي محتويا على العجب العجاب ومنطويا على لباب الألباب أحدوثة على مكر العصر وغرة في جبهة الدهر يعشوا إلى منادها المرتبك في الشبهات ويلوذ بآثارها المنسك في مثار المتاهات ويقتدي بنجومها المترقي عن مهاوي الورطات ويتخنس برجومها المتعثر في أذيال الضلالات ووافى الجناب الأسمى عروسا احتضنها طب بالحضانة قد استوظف في القيام عليها زمانه فلم يزل يقوم قدمها ويورد خدها ويكحل بالبصائر أحداقها ويشق إلى صوب البدائع والذخائر آماقها ويرصف دررها وعقيانها ويشنف بقرطة الحقائق آذانها وينطق بغرر الكلام لسانها ويطوق بجواهر الحكم جيدها ويزين مخنقها ووريدها ويديم فركها ويلين عركها ويقرب متناولها ودركها ويلقنها مقة خاطبها ويلقي إليها الأقران لصاحب الدنيا وصاحبها فنشأت غيداء مياسة مروضة والمقل الطلعة إلي خفايا العيوب عنها مغضوضة فظلت تتشوف إلى مخيم العزة شوقا وتطير إليه بأجنحة الهزة توقا فيرزت عن حجالها مختالة في أذيالها متوشحة بأبهة البهاء مشتقا اسمها من اسم أكرم الأكفاء والألقاب تنزل السماء وجزعت إلى مثواها سباسب ورمالا وواصلت في صمد مولاها غدوات وآصالا وقطعت من مطاياها أوصالا فصادفت مرتعا خصيبا ومربعا رحيبا وشأوا في العلا بعيدا وكرما قريبا ودلت بمعانيها على عناء معانيها وبمناظم مبانيها على غناء بانيها ثم أخذت  تستعطف أعنة العطف وتثني أزمة اللطف على صاحب التأليف والرصف وذكرت أنه يبغي تنويها ومنصبا عليا نبيها ويفوق مناط العيوق زهوا وتيها فما كان إلا كأيماضة سيف أو انقشاع سحابة في صيف أو نفضة ردن أو طنة أذن حتى طغت من بحار المعالي أمواجها وتشامخت من أطواد الكرم وشعابها وفجاجها فوافقت الخلعة تجر على قمة المجرة فضول الذيل وتبر على نهايات المنى بأوفى الكيل وتجرف مجاثم العسر وكدفاع السيل وأكسب الخادم شرفا يتخلد تواريخ الأخبار ويكتب بسواد الليل على بياض النهار وأعذب النعم مشارع وأخصبها مراتع نعمة أجابت قبل النداء ولبت قبل الدعاء وليس من ينتجع الغيث في أقطاره كمن يسقيه ريق الوبل في دياره ولو لم أجد  أمر الله عباده بالشكر على نعمه التي لا تعد ولا تحد أسوة ومقتدى لقلت من شكر أدنى منح مولانا فقد ظلم واعتدى ولكن لا معاب على من اتخذ كتاب الله قدوة ومحتذى

شعر

فلا زال ركب المعتفين منيخة     بذروتك العليا ولا زالت مقصدا

يدين لك الشم الأنوف تخضعا     ولو أن زهر الأفق أبدت تمردا              لجاءتك أقطار السماء تجرها     إليك لتعفو أو لتوردها الردا

وأنى لغرس قدما غرسته     وربيته حتى علا وتمددا

فلما ذوت منه الغصون وصوحت    وخاف ذيولا جاء يسألك النداء

لأنك أعلى الناس نفسا وهمة     وأقربهم عرفا وأبعدهم مدا

وأوراهم زندا وأوراهم ظبا     وأسجاهم بحرا وأسخاهم يدا

وما أنا إلا دوحة قد غرستها وسقيتها     حتى تمادى بها المدى

فلما اقشعر له العود منها وصوحت    أتتك بأغصان لها تطلب الندى

نعم وقد كان ضمن الخادم خدمة الساحة النظامية بكتاب آخر هو لعمرو الله النبأ العظيم والخطب الجسيم والأمر الذي لم يجر بمثله ذكر ولم يحوم عليه نظم ولا نثر والبحر الخضم الذي ليس لبدائعه شاطئ وعبر ولست والله أتصلف بالاسهاب في ذكره وإنما أنبه على علو قدره وكم أكننته في احناء الصدر حتى نقدته يد السير وأنضجته نار الفكر ثم استقته مصححا منقحا إلى سيد الورى وموئل الدين والدنيا وملاذ الأمم مستخدم السيف والقلم ومن ظل ظل  الملك بيمن مساعيه ممدودا ولواء النصر معقودا فكم باشر أوار الحرب وأدار رحى الطعن والضرب فلا يده ارتدت ولا طلعته البهية اربدت ولا غربه انثنى ولا حده ثنى     قد سدت مسالك المهالك صوارمه وحصنت الممالك صرائمه وحلت شكايم العدى عزائمه وتحصنت المملكة بنصله وتحسنت الدنيا بأفضاله وفضله وعم ببره آفاق البلاد ونفى الغي عنها بالرشاد وجلى ظلام الظلم عدله وكسر فقار الفقر بذله وكانت خطة الإسلام شاغرة وأفواه الخطوب إليها فاغرة فجمع الله برأيه الثاقب شملها ووصل بيمن نقيبته حبلها وأضحت الرعايا برعايته وادعة وأعين الحوادث عنها هاجعة فالدين يزهو بتهلل أساريره وإشراق جبينه والسيف يفخر في يمينه ويرجوه الآيس البائس في أدراج أنينه ويركع له تاج كل شامخ بعرنينه ويهابه الليث المزمجر في عربته فما أجدر هذه  السدة المنيفة بمجموع تجمع أحكام الله تعالى في الزعامة بيد الخاصة والعامة ليكون شوف الرأي السامي قدامه وأمامه فيما يأتي وبذر أمامه ثم تنابد فائدته وعائدته إلى قيام القيامة     ولكل كتاب معمود ومقصود ومنتحى مصمود يجري مجرى الأساس من البنيان والروح من الحيوان والعذبة من اللسان وها أنا أبوح بمضمون الكتاب وسره ثم أثقب لهيب الفكر صاليا بحره وأتبرأ عن حولي وقوتي لائذا بتأييد الله ونصره فأقول أقسام الأحكام وتفاصيل الحلال والحرام في مباغي الشرع ومقاصده ومصادره وموارده يحصرها قسمان ويحويها في متضمن هذا المجموع نوعان   أحدهما ما يكون ارتباطه وانتياطه بالولاة والأئمة وذوى الأمر من قادة الأمة فيكون منهم المبدأ والمنشأ ومن الرعايا الارتسام والتتمة      والثاني ما يستقل به المكلفون ويستبد به المأمورون المصرفون     وأنا بعون الله وتوفيقه أذكر في القسم الأول في صفة الأئمة والولاة والراعاة والقضاة أبوابا منظمة تجري من مقصود القسم مجرى المقدمة على أني آتي فيها وإن لم يكن مقصود الكتاب بالعجايب والآيات وأشير بالمرامز إلى منتهى الغايات وأوثر الإيجاز والتقليل مع تحصيل شفاء الغليل واختيار الإيجاز على التطويل بعد وضوح ما عليه التعويل ثم أقدر شغور الحين عن حماة الدين وولاة المسلمين وأوضح إذ ذاك مرتبط قضايا الولاية وأنهي الكلام إلى منتهى الغاية فإنه المقصود بالدرك والدراية وما نقدمه في حكم التوطئة والبداية ثم أنعطف على القسم الثاني وهو الذي يستوي إليه في الاحتجاج القاضي والداني وأبين أن المستند المعتضد في الشريعة نقلتها والمستقلون بأعبائها حملتها وهم أهل الاجتهاد الضامون إلى غايات علوم الشرع شرف التقوى والسداد فهم العماد والأطوار فلو شغر الزمان عن الأطواد والأوتاد فعند ذلك التزم     شيمة الأناة والاتياد فليت شعري ما معتصم العباد إذا طما بحر الفساد واستبدل الخلق الإفراط والتفريط عن منهج الاقتصاد وبلى المسلمون بعالم لا يوثق لفسقه وزاهد لا يقتدى به لخرقه أيبقى بعد ذلك مسلك في الهدى أم يموج الناس بعضهم في بعض مهملين سدى متهافتين على مهاوي الردى      فإلى متى أردد من التقديرات فنونا وأجعل الكائن المستيقن مظنونا كأن الذي خفت أن يكونا إنا إلى الله راجعونا      عم من الولاة جورها واشتطاطها وزال تصون العلماء احتياطها وظهر ارتباكها في جراثيم الحطام واختباطها وانسل عن لجام التقوى رؤس الملة وأوساطها وكثر انتماء القراء إلى الظلمة واختلاطها فهل ينظرون إلا الساعة انتأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها     فإن وجدت للدين معتضدا وألفيت للإسلام منتصرا بعدما  درست أعلامه وآذنت بالانصرام أيامه كنت كمن يمهد لرجاء الحق مقر القطب ويضع الهناء مواضع النقب      والآن كما يفضي مساق هذا الترتيب إلى تسمية الكتاب والتلقيب وقد تحقق للعالمين أن صدر الأنام وموئل الأيام ومن هو حقا معول الإسلام يدعى بأسماء تبر عليها معانيه ويفوق فحواها معاليه فهو غياث الدولة وهذا إذا تم غياث الأمم غب التياث الظلم فليشتهر بالغياثي كما شهر الأول بالنظامي والله ولي التأييد والتوفيق وهو بإسعاف راجية حقيق      فأر كان الكتاب ثلاثة      أحدها القول في الإمامة وما يليق بها من الأبواب      والركن الثاني في تقدير خلو الزمان عن الأئمة وولاة الأمة      والركن الثالث في تقدير انقراض حملة الشريعة     فلتقع البداية بالإمامة

كتاب الإمامة

وهي ثمانية أبواب

الباب الأول في وجوب نصب الأئمة وقادة الأمة

الباب الثاني في الجهات التي تعين الإمامة وتوجب الزعامة

الباب الثالث في صفات أهل الحل والعقد واعتبار العدد فيمن إليه العهد      الباب الرابع في صفات الإمام القوام على أهل الإسلام

الباب الخامس في الطوارئ التي توجب الخلع والانخلاع

الباب السادس في إمامة المفضول

الباب السابع في نصب إمامين

الباب الثامن في تفصيل ما إلى الأئمة والولاة

الباب الأول

في معنى الإمامة ووجوب نصب الأئمة وقادة الأمة         الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا متضمنها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الجنف والحيف والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين      وهذه جمل يفصلها الباب الثامن المشتمل على ما يناط بالأئمة وهي مراسم تحل محل التراجم وفيها الآن مقنع وسيأتي متسع في البيان مشبع إن شاء الله عز وجل      فنصب الإمام عند الإمكان واجب وذهب عبد الرحمن بن كيسان إلى أنه لا يجب ويجوز ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا لا يجمعهم ضابط ولا يربط شتات رأيهم رابط     وهذا الرجل هجوم على شق العصا ومقابلة الحقوق بالعقوق لا يهاب الباب الأول       في معنى الإمامة ووجوب نصب الأئمة وقادة الأمة         الإمامة رياسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا متضمنها حفظ الحوزة ورعاية الرعية وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الجنف والحيف والانتصاف للمظلومين من الظالمين واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين      وهذه جمل يفصلها الباب الثامن المشتمل على ما يناط بالأئمة وهي مراسم تحل محل التراجم وفيها الآن مقنع وسيأتي متسع في البيان مشبع إن شاء الله عز وجل      فنصب الإمام عند الإمكان واجب وذهب عبد الرحمن بن كيسان إلى أنه لا يجب ويجوز ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا لا يجمعهم ضابط ولا يربط شتات رأيهم رابط     وهذا الرجل هجوم على شق العصا ومقابلة الحقوق بالعقوق لا يهاب   وفضت المجامع واتسع الخرق على الراقع ونشبت الخصومات واستحوذ على أهل الدين ذوو العرامات وتبددت الجماعات ولا حاجة إلى الاطناب بعد حصول البيان وما يزغ الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن      فإذا تقرر وجوب نصب الإمام فالذي صار إليه جماهير الأئمة أم وجوب النصب مستفاد من الشرع المنقول غير متلقى من قضايا العقول وذهبت شرذمة من الروافض إلى أن العقل يفيد الناظر العلم بوجوب نصب الإمام واستقصاء القول في اسستحالة تلقي الأحكام من أساليب العقول بحر فياض لا يغرف وتيار أمواج لا ينزف والفئة المخالفة في هذا الباب أخذت مذهبها وتلقت مطلبها من مصيرها إلى أن الله تعالى جده يجب عليه استصلاح عباده وزعموا أن الصلاح في نصب الإمام واستمدوا في تقرير ما يحاولونه وتمهيد ما يزاولونه من الوجوه التي ذكرناها وهذا منهم جهل بحقيقة الإلهية وذهول عن سر الربوبية     ومن وفق للرشاد واستن في منهج السداد واستد في نظره على   اتئاد علم أن من ضرورة تحقق الوجوب تعرض من عليه الوجوب للتأثر بالمثاب والعقاب ومن تصدى لطرق الغير وقبول الأثر فهو عرضة للآفات ودرية لأسنة العاهات      والقديم تعالى لا يلحقه نفع ولا يناله ضرر يعارضه دفع فاعتقاد الوجوب عليه زلل فهو الموجب بأمره ولا يجب عليه شيء من جهة غيره      ثم الأديان والملل والشرائع والنحل أحوج إلى الأنبياء المؤيدين بالمعجزات والآيات الباهرات منها إلى الأئمة فإذا جاز خلو الزمان عن النبي وهو معتصم دين الأمة فلا بعد في خلوه عن الأئمة فقد ثبت أنا عرفنا وجوب نصب الإمام من مقتضى الشرع الذي تعبدنا به ولو رددنا إلى العقول لم يبعد أن يهلك الله تعالى الخلائق ويقطعهم في الغوايات على أنحاء وطرائق ويغمسهم في غمرات الجهالات ويصرفهم عن مسالك الحقائق فبحكمه تردى المعتدون وبفضله اهتدى المهتدون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون     فهذا منتهى الغرض في ذلك

الباب الثاني

في الجهات التي تعين الإمامة وتوجب الزعامة

فصل

في القول في النص وفي حكم ثبوته وانتفائه         لو ثبت النص من الشارع على إمام لم يشك مسلم في وجوب الاتباع على الإجماع فإن بذل السمع والطاعة للنبي واجب باتفاق الجماعة وإن لم يصح النص فاختيار من هو من أهل الحل والعقد كاف في النصب والإقامة وعقد الإمامة      وقد تفننت في ذلك الآراء والمطالب واختلفت الأهواء والمذاهب      ولو ذهبت أحصيها وأستقصيها لأدى مضمون الباب إلى حدود الإسهاب      ولو آثرت الانكفاف والإضراب لكان ذلك إخلالا بوضع الكتاب      فالوجه ارتياد الاقتصاد واجتناب السرف وتعدى المدى والطرف     فالإفراط في البسط ممل والتفريط والاختصار مخل والاقتصار على ما يحصل به الإقناع شرف الطباع فذهبت الإمامية من الروافض إلى أن النبي  نص على علي رضي الله عنه في الإمامة وتولي الزعامة   ثم تحزبوا أحزابا فذهبت طوائف منهم إلى أن الرسول  نص على خلافته على رؤوس الأشهاد نصا قاطعا لا يتطرق إليه مسالك الاجتهاد ولا يتعرض له سبيل الاحتمالات وتقابل الجائزات وشفى في محاولة البيان كل غليل واستأصل مسلك كل تأويل وليس ذلك النص مما نقله الإثبات والرواة الثقات من الأخبار التي يلهج بها الآحاد وينقلها الأفراد كقوله من كنت مولاه فعلى مولاه وقوله لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلى غيرهما مما سنرويه ونورده ونجرد الكلام فيه      ونفرده والله المستعان وعيه التكلان     ثم قال هؤلاء كفرت الأمة بكتم النص ورده وحسم مسلك دركه وسده     واجتزأ بعض الإمامية في ادعاء نص شائع ولفظ مستفيض ذائع بالتمسك بما رواه الرواة في الباب ودونه أرباب الألباب في الكتاب      وذهب فرق من الزيدية إلى أن الرسول  ما نص على معين في الخلافة ولكنه ذكر  بالمرامز والملامح والمعاريض والصرايح الصفات التي تقتضي الإمامة استجماعها فكانت متوافية في علي دون من عداه وسواه فضلت الأمة إذ وضعت الإمامة فيمن لم يتصف بتلك الصفات ولم يتسم بتلك السمات ثم تشوفت طائفة من المنتمين إلى السنة إلى ادعاء النص على أبي بكر وصار صائرون يعرفون بالعباسية إلى أنه  نص على عمه العباس وخصصه بالإمامة من بين سائر الناس نصا يزيل الريب ويزيح الالتباس      وإذا استندت المذاهب إلى الدعاوى ابتدر إلى ما يهواه كل غلوى فتهافت الورى على المهاوي وإذا طولب كل مدع بمنهاج الصدق والحجاج بالمسلك الحق لاحت الحقائق وانزاحت الغوائل وحصحص الحق وزهق الباطل      فالذي يقتضيه الترتيب إيضاح الرد على أصحاب النص ثم اتباع ما عداه من الآراء بالتغيير والفحص فنقول     النص الذي ادعيتموه ونطتم به عقودكم وربطتم به مقصودكم بلغكم استفاضة وتواترا من جمع لا يجوز منهم في مستقر العادات ومستمر الأوقات التواطئ على الكذب أم تناقله معينون من النقلة واستبد به  مخصوصون من الحملة فإن زعموا أنه منقول تواترا على الشرائط المذكورة في الاتفاضة أولا ووسطا وآخرا فقد ادعوا عظيمة في مجاحدة البداية والضرورات وانتهوا من البهت والعناد إلى منتهى الغايات وقيل لهم كيف اختصصتم وأنتم الأذلون والأقلون بهذا الخبر دون مخالفيكم وكيف انحصر هذا النبأ فيكم مع استواء الكافة في بذل كنه المجهود في الطلب والتشمير والتناهي في ابتغاء المقصود واجتناب التقصي      ولو ساغ اختصاص قيام أقوام بدرك خبر شائع مستفيض ذائع لجاز أن يختص بالعلم بأن في الأقاليم بلدة تسمى بغداد طوائف مخصوصون مع تماثل الكافة في البحث عن المسالك والأقاليم والممالك وبم ينكرون على من يزعم أنه  نص على أبي بكر نصا منتشرا في الأقطار مطبقا للخطط والديار      ولسنا نذكر ذلك للاختيار والإيثار ولكن المذاهب الفاسدة والمطالب الحائدة إذا تعارضت تناقضت وترافضت وبقي الحق المبين والمنهج المتين أبلج لائحا لأهل الاسترشاد وطاحت مسالك العناد     وإن زعموا أن النص نقله آحاد استبان على الارتجال والبديهة خزيهم واستوى إثباتهم ونفيهم فإن الآحاد لا يعصمون عن الزلل بل يتعرضون لإمكان الخطأ والخطل فنقلهم لا يقتضي العلم بالمخبر عنه قطعا فليت شعري   كيف علموا النص على القطع مع تجويز خطأ ناقله وترجيم الظنون في حامله      ثم لا يسلمون عن معارضتهم بنقيض ما اتخذوه معتصمهم من ادعاء النص على أبي بكر أو العباس وغيرهما رضي الله عنهم فقد انحلت شكائمهم ووضحت أكاذيبهم وعظائمهم      ومساق هذه الطريقة يشير إلى الرد على من يجنح عن مسلك الحقيقة      فإن قيل غايتكم فيما قررتموه وكررتموه الرد على يدعى العلم فإن سلم لكم ما رمتموه واستتب لكم ما نظمتموه من إبطال مذهب الخصم فعليكم وراء ذلك طلبة حاقة ليس لكم بها قبل ولا طاقة وهي أن يقال لكم أنتم قاطعون بانتفاء النص فيم أدركتم حقيقة الانتفاء وكيف ترقيتم عن مخالجة الشك والمراء إلى هذا الادعاء فأنتم في دعوى النفي ومن ادعى الإثبات على سواه وإذا استوى المسلكان وتشاكلت جهات الإمكان فسبيل الإنصاف والانتصاف اجتناب القطع في النفي والإثبات على جزاف     قلنا الآن نحملكم بالبرهان الأوضح على سلوك اللقم الأفيح   ونستاقكم إلى المحجة الغراء بالحجة البيضاء فليعلم المسترشد أن الذي دفعنا إليه متلقي من اطراد العادات واستمرارها وجريانها على القضايا المألوفة المعروفة واستقرارها فما اطرد به العرف على مكر الأيام وممر الأعوام أن النبأ العظيم والخطب الجسيم وما يجل خطره ويتفاقم وقعه في النفوس وغرره تتوفر الدواعي على اللهج بصدقة وذكره والاعتناء بنشره وشهره والاهتمام بأمره لعلو منصبه وقدره ووضوح هذا يغني عن بسط المقال وضرب الأمثال فلو حل سلطان الوقت بقعة من البقاع وقدم بعض الأصقاع محفوفا بالأتباع مكنوفا بالأشياع في جنده العرمرم وموكبه المعظم لاستحال أن ينقل ذلك آحادا أو يستبد بدركه فئة استبدادا فيالله العجب لم يخف ابتعاث رسول الله  ولاته وسعاته ونديه لجمع مال الله جباته فشاعت  توليته معاذا أو عتاب ابن أسيد ومن سواهما ووقعت توليته عليا عهد الإمامة في المتاهات وظلمات العمايات هيهات هيهات     ولما اجتمع صحب رسول الله  يوم السقيفة لتقديم زعيم وتعيين خليفة وتفرقت الآراء وتشتت الأهواء وكشرت عن أنيابها الداهية الدهياء وغشي المسلمين المعضلة الزباء وامتدت إلى الشقاق الأعناق وتخازرت الآماق واشرأب النفاق وجحظت نحو ارتقاب تقطع الأسباب الأحداق وتقلقلت لمثار الفتن في أغمادها البيض الرقاق وتناوش الأوس والخزرج وأعضل المدخل واعتاص المسلك والمدرك  والمنهج حتى ذكر لأمر إلا مرة سعد بن عبادة وباح بنصبه من أراده وما كانت تفقأت عنه بيضة مضر ولا درت عليه من محض قريش درر فنفرت النفوس الأبية ولم يكن نصبه قضية مرضية فأقنع وكفى في انسلاله عن المنصب الذي تشوف إليه قول المصطفى وهو قوله قدموا قريشا ولا تقدموها وقوله الأئمة من قريش فلم يبد ناصبوه لما ظهر المنهاج وبهر الحجاج خلافا وآثروا إذعانا للحق وائتلافا على ما سنذكر في باب إثبات إمامة أبي بكر من تلك القصة أوساطا وأطرافا إذ لم نر أن نستوعبها استيضافا     والغرض من ذكرها الآن قبل أن نعيدها استئنافا أن الناس في    ملتطم هذه الأعواص والارتباك طلبوا وزرا يلاذ بظله ويرجع إليه في عقد الأمر وحله ويفوض إليه معاقد الشأن كله فاتفقت للصديق البيعة والصفقة وتولى مستحق الحق حقه فاستراحت النفوس وانزاحت الحدوس فلو كان استفاض فيهم نصبه عليا وكان لعمر الله مستصلحا لمنصب الإمامة مرضيا لقال في القوم قائل ما لكم ترتبكون في الظلمات وتشتبكون في الورطات وتترددون في الخفض والرفع والتفريق والجمع وتتركون نص صاحب الشرع      فاستبان بارتجال الأذهان أن النص لو كان لاستحال فيه الخفاء والكتمان ولتناجى به على قرب العهد به أو بعده اثنان على مكر الزمان      فوضح بمجموع ما ذكرناه أن الأمر أمران      أحدهما بطلان مذهب من يدعى العلم بالنص هذا مستدرك بضرورات العقول من غير حاجة إلى بحث ونظر وفحص      والثاني القطع على الغيب بأنه لم يجر من رسول الله  تولية ونصب     ونحن الآن نعضد الكلام بواضحة لا يأباها منصف ولا يقتحم ردها إلا متعسف فنقول  لو ساغ تقدير الكتمان في الأمور الخطيرة لجر ذلك أمورا عدة ولاتجه للملحدين وعصب الجاحدين أن يقولوا قد عورض القرآن في منقرض الزمان ثم تغشاه الكتمان وأطبق على إخفائه أهل الإيمان فإذا سوغتم معاشر الروافض خفاء التنصيص ودروس التعيين من الشارع والتخصيص مع العلم بان مما يتقاضى النفوس أربابها أن تذيع تولية العهود وتشيع نصب الأمراء أو عقد الأولوية والبنود والجبلات على ذلك مفطورة مختارة كانت أو مقهورة وإذا لم تبعدوا مع ذلك في الخفاء فما يؤمن من القرآن من تقدم المناقضة وسبق المعارضة      وهذا محاولة إثبات الفرع بما يكر بالهدم على الأصل وهو وحق الحق نقيض موجب العقل فقد وضح الحق وحصحص واضحمل تخيل أصحاب النص وانحص وهذا كله مسلك الكلام على من ادعى نصا على رؤس الأشهاد غير الألفاظ التي نقلها الأفراد فأما من تعتمد منهم الألفاظ المعروفة المألوفة التي رواها الآحاد مقل قوله  من كنت مولاه فعلي مولاه فالكلام على هؤلاء من وجوه     أحدها إنا نقول هذا اللفظ وما عداه وسواه نقله معدودون من الرواة وهم عرضة الزلل والخطل والهفوات وإن ظهر في غالب الأمر أنهم من الأثبات والثقات فيما نعانيه من هذا الفن القطع لا غالب الظن فهذا مسلك كاف ووجه في  الرد على هؤلاء شاف ثم لو تتبعنا الألفاظ التي لو نقلوها لم نلف واحدا منها على ما عقلوها     فأما قوله  من كنت مولاه فعلي مولاه فالمولى من الألفاظ المشتركة المرددة بين مسميات وجهات في الاحتمالات فيطلق والمراد به ابن العم والمعتق والمعتق ويراد به الناصر ولو خضنا في مأخذ هذا اللفظ من أصل الوضع وأقمنا عليه مراسم الاستشهاد بالنظم السائر والنثر لطال الكلام وتمادى المرام ولم نضع كتابنا هذا لمثل ذلك فإن تصنيف الماضين وتأليف المنقرضين مشحون بهذه الفنون ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب وترتيب كتاب متضمنه كلام من مضى وعلوم من تصرم وانقضى ومقدار غرضنا الآن أن اللفظ الذي اعتقدوه معتصمهم ومعاذهم ومعتضدهم وملاذهم من المجملات التي يتطرق إليها تقابل الجائزات والتعلق بالمحتملات فيما يبغي فيه القطع والثبات من شيم ذوي الجهالات  وقد قيل جرت مفاوضة ومخاوضة بين علي وزيد مولى رسول الله  فقال علي لزيد أنا مولاك فقال زيد بل مولاي رسول الله فلما بلغ رسول الله  ما جرى قال من كنت مولاه فعلي مولاه      ومما تمسك به هؤلاء ما روي عن النبي  أنه قال لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة هارون من موسى وهذه اللفظة حقا من المجملات المعدودة عند ذوي التحصيل من أغمض المعوصات     ونحن إذا قدرنا فيه تعارض الاحتمال ووجه الإجمال فقد أسقطنا وجه الاستدلال فإن الاستدلال بالظاهر الذي يتطرق إليه مسلك التأويل ليس عليه في القطعيات تعويل فما الظن بالمجمل الذي لا يظهر لمعناه من حيث اللفظ تفصيل فمن وجوه الإشكال أم هارون عليه السلام كان من المرسلين ومات هارون قبل موسى  بسنين فلم يخلفه بعد وفاته فلم يكن علي من رسول الله  بمثابة هارون من   موسى في شيء من حاليه نعم كان علي في حياة المصطفى وزره ونصيره كما كان هارون ردء موسى وظهيره فإذا جرى الكلام في معرض الاستعجام والاستبهام لم يسع الاعتصام به في مجتهدات الأحكام فكيف الظن بنصب الإمام وهو شوف الأنام وأحق ما يعلق بتحقيقه الاهتمام     وقد صح ورود هذا اللفظ على سبب لا يستتم معناه دون فهمه وهو أنه  لما هم بغزوة تبوك استخلف على المدينة عليا فعظم علي على تخلفه من رسول الله  في غزاته وما كان عهد مفارقته في شيء من حالاته وربط رسول الله  على قلبه وخفف من كربه وقال لم تزل مساهمي في الحسنى والسوءى والنعمى والبؤسي وقد استخلفتك على أهلي كما استخلف هارون موسى ثم نعارضهم ببعض ما صح عن سيد البشر في أبي بكر وعمر رضي الله   عنهما قال  لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدمهم غيره وقال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر وقال اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر وعمر     واستخلف أبا بكر في إقامة الصلاة في مرضه التي توفي منها فقال صحب رسول الله  ورضي عنهم في تقدم أبي بكر رضي الله عنه رضية رسول الله أمامنا لدينا أفلا نرضاه لدنيانا   والذي عليه التأويل في الجملة والتفصيل أن أصحاب رسول الله  شهدوا وغبنا واستيقنوا عن عيان واستربنا وكانوا قدوة الأنام وأسوة الإسلام لا يأخذهم في الله عذل وملام وما كانوا بعد استئثار الله برسوله تحت اقتهار واقتسار بل كانوا مالكين لأعنة الاختيار لا يؤثرون على الحق أحدا ولا يجدون من دونه ملتحدا ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء كالنبعة التي لا تتشطى وإن سيموا مخالفة للحق تزيدوا كالجحمة تتلظى فليت شعري كيف لم يفهموا على ذكاء القرائح النصوص الصرائح وتفطن لها الرعاع الهمج المتضمخون بالمخازي والفضائح     فقد بطل ادعاء النص وطاح واستبان الحق لباغيه ولاح فإذ نجز مقدار غرضنا من الرد على أصحاب النصوص ووضح بطلان مذهبهم على الخصوص وسبق في صدر الكلام وجوب نصب الإمام فقد حان الآن أن نوضح أن الاختيار من أهل الحل والعقد هو المستند المعتقد والمعول المعتضد فنقول مستمسكين بحبل الله المتين وفضله المبين وهو المعتصم في كل مطلب وليس وراء الله للمرء مذهب ثبوت الاختيار يستدعي تقديم إثبات الإجماع على منكريه وتحقيق الغرض فيه صعب المدرك متوعر المسلك على من لا يدريه ومن يحاوره قبل الاستيثاق بما ينجيه من ظلمات التيه عسر عليه تلافيه ولا بد من رمزه إلى وجه الإشكال والإعضال في صيغة السؤال ثم نعطف عليه الانفصال متضمنا ثلج الصدر على الكمال فإن قيل لا يدل على وجب اتباع الإجماع مسالك العقول فإن الرب تعالى موصوف بالاقتدار على جمع العالمين على الباطل على اضطرار وعلى خيرة منهم وإيثار وإذا كان ذلك مسوغا في العقل غير مستحيل وليس في العقل على القضاء بصدق المجمعين دليل وليس إلى درك ذلك من طرق المعقولات سبيل وليس في كتاب الله نص في إثبات الإجماع لا يقبل التأويل وليس على الظواهر القابلة للتأويلات في القطعيات تعويل ولا مطمع في إثبات الإجماع بخبر الرسول فإنه لم يتواتر عنه  نص في الإجماع يدرأ المعاذير ويقطع التجويز والتقدير وقوله  لا تجتمع أمتي على ضلالة نقله معدودون محدودون   معرضون لإمكان الهفوات والزلات على أنه يتطرق إليه سبيل التأويلات فلا يبعد أن يقال المعنى بقوله  لا تجتمع أمتي على الضلالة إنها لا تنسلخ عن الإيمان ملابسة عماية الجهالة فيكون مضمون هذه المقالة الإشعار بأمان الأمة عن المنقلب إلى الكفر والردة وإن تطاولت المدة فإذا لم نجد مسلكا في إثبات الإجماع معقولا وأصلا مقطوعا به في السمع منقولا فما مستند اليقين والقطع بثبوت الإجماع في وضع الشرع وعليه مدار معظم الأحكام في الفرق والجمع وإليه استناد المقاييس والعبر وبه اعتضاد الاستنباط في طرق الفكر فقد عظم الخطر وتفاقم الغرر وهذا مضلة الأنام ومزلة الأقدام ومتاهة الخواص والعوام ومعرفة الغواص والعوام وما انتهى المهرة إلى مساق هذا لإشكال ومذاق هذا الإعضال فضلا عن المطمع في الانفصال   وأنا أستعين بالله تعالى وعليه الاتكال فأقول إذا صادفنا علماء الأمة مجمعين على حكم من الأحكام متفقين على قضية في تفاصيل الحلال والحرام وألفيناهم قاطعين على جزم وتصميم في تحليل أو تحريم وهم الجم الغفير والجميع الكثير وعلمنا بارتجال الأذهان أنهم ما تواطؤا على الكذب على عهد وما تواضعوا على الافتراء عن قصد وهم متبددون في الأقطار متشتتون في الأمصار مع تناء الديار وتقاصي المزار لا يجمعهم رابط على وطر من الأوطار ثم كرت الدهور ومرت العصور وهم مجمعون على قطع مسدد من غير رأي مردد والأحكام في تفاصيل المسائل لا ترشد إليها العقول فنتبين أنه حملهم على اتفاقهم قاطع شرعي ومقتضى جازم سمعي ولولاه لاستحال أن يقطعوا في مظنات الظنون ثم يتفقوا من غير سبب جامع يحملهم على التواضع على الكذب ثم يستمروا على ذلك مع امتداد الآماد على استتباب واطراد هذا محال وقوعه في مستقر الاعتياد وإنما يتضح حقيقة هذه الطريقة بأسئلة وأجوبة عنها     فإن قيل نرى أهل مذهب في الشرع يبلغ عددهم المبلغ الذي وصفتموه ولا يجوز من مثلهم التواضع والتواطؤ كما عرفتموه ثم هم مصممون على معتقدهم ولو قطعوا مثلا لا يبغون عنه حولا ثم لا يدل إجماعهم على القطع بأن مذهبهم الحق ومعتقدهم الصدق قلنا هؤلاء وإن أطبقوا طبق الأرض  ذات الطول والعرض فهم معترفون بأنهم ظانون معتصمون بأساليب الظنون ولا يقطعون بأن خصومهم مبطلون ولا يبعد في مطرد العادات إجماع أقوام على فنون من طرائق الظنون ومتابعتهم مسلكا مخصوصا فأما الاجتماع من مثل هذا العدد على دعوى القطع مع الاتفاق على أنه متلقى من السمع من غير إسناد إلى قاطع في الشرع فهذا مستحيل على الضرورة لا يجوزه ذو تحصيل وكيف يجوز ذهول علماء الأمة عن اعتراض الظنون الهاجسة في النفوس الخاطرة في أدراج الفكر والحدوس حتى يحسبوا المظنون في الشرع معلوما والمشكوك فيه مقطوعا به مفهوما ويتفقوا على القطع من غير معنى يوجب القطع هذا يكون تجويزه هجوما على جحد الضروريات واقتحاما لورطات الجهالات وخرقا لموجب العادات      فأما أن يغلب على ظنون جمع أمر عن قول رجل ظاهر العدالة مستقيم الحالة مع علمهم بأنهم ظانون فليس ذلك بدعا غرفا وشرعا وإنما المستحيل الاتفاق على العلم في السمعيات والإطباق على ادعاء اليقين في الشرعيات من غير اطلاع على قاطع يقتضي الإجماع من عدد لا يجوز منهم التواطؤ والتواضع فإن قيل قصارى هذا الانفصال عما توجه من السؤال إن الذين ينتحلون مذهب إمام لا يدعون علما وإنما غايتهم غلبة ظن صدرها عن ترجيح وتلويح     ونحن الآن نلزمكم ما لا تجدون درءه سبيلا فنقول النصارى وغيرهم من الكفار مصممون على فاسد عقدهم دينا ولو صب عليهم صنوف العذاب صباء    ما ازدادوا في معتقدهم إلا نضالا وذبا ولو اعتمد أضعفهم ينشر بالمنشار لما آثر نكولا ورجوعا وهم مطبقون أن عقدهم اليقين المبين والدين المتين وعددهم يبر على عدد المسلمين بأضعاف مضعفة وخطة الإسلام بالإضافة إلى ديار الكفار كالشماة البيضاء في مسك ثور أسود وهذا السؤال عظيم الوقع في الإجماع الواجب الاتباع في الشرع ولا يحل معوصه إلا موفق بل لا ينتهي إلى غائلة السؤال إلا محقق وليس يليق الانتهاء إلى هذه المغاصاة في التحقيق بمقدار غرضنا في ذكر أحكام الإمام ولكن صادفت نشطة وهزة إلى المجلس الأسمى ووافقت بسطة فأرخيت فضل عناني وأطلقت عذبة لساني وانتهيت إلى مأزرق ومتضائق في مدارج الحقائق يتوعر فيها العطن ويتحير فيها الفطن ويضيق فيها نطاق النطق ويعسر فيها لحاق الحق وتضاءل فيها القرح عن شأو السبق ولكن المستعين بالله موفق والمتبري عن حوله وقوته بالصواب مستنطق وحق على كل من له في مشرع الشرع مكرع وفي ربع الدين   مرتع إذا انتهى إلى هذا المقام وأفضى به النظر إلى سر هذا الكلام أن يعلم أنه دفع إلى خطب عظيم من الخطوب الجسام فإن الإجماع مناط الأحكام ونظام الإسلام وقطب رحا الدين ومعتصم المسلمين ومعظم مسائل الشريعة ينقسم إلى مجتهدات في ملتطم الخلاف ومستندها في النفي والإثبات مسائل الإجماع وليس وراءها نصوص صريحة وألفاظ صحيحة في الكتاب والسنة فالأصل فيها الإجماع      إذا فمن لم يثق بالأصل الذي منه الاستنارة والاستنباط كيف يعدل في مسالك التحري والتآخي معياره وأنا لم أطنب في التشريب وأنا أقيم لهذا السؤال وزنا ولكني رمت تنبيه القرائح لدرك الحقيقة والمعنى وأنا الآن أستعين بالله فهو المستعان عليه التكلان     فأقول مدار الكلام في إثبات الإجماع على العرف واطراده وبيان استحالة جريانه حائلا عن مألوفه ومعتاده فكل ما يتعلق بالدول والأديان والملل فالعرف مستمر على اتباع شوف ومطمح يجمع شتات الآراء ويؤلف افتراق الهواء وبهذا السبب انتظم أمر الدين والدنيا ولو استرسل  الناس على مذاهبهم المتباينة في الإرادات والمنى وتقطعوا أيادي سبا لاستحال الكون والبقاء ولهلك في النزاع والدفاع الجماهير والدهماء وإذا أراد الله بقوم سوءا تركهم سدى يختبطون بلا وزر فإذ ذاك يتهافتون على ورطات الغرر ويتهاوون في مهاوي الخطر وملاك الأمور كلها ملة تدعو إلى القربات والخيرات وتزجر عن الفواحش والموبقات ومرتبطها الأنبياء المؤيدون بالآيات وإيالة قهرية تضم النشر من الآراء المتناقضة ومتعلقها الملوك والأمراء الممددون بالعدد والعدد وأسباب المواتاه فما كان من اتساق واتفاق مستنده دين أو ملك فليس وقوعه بديعا وما ذكروه جميعا في هذا الصنف في مستقر العرف وأما ما جعلناه متمسكا في الإجماع فالاتفاق على حكم معين في مسألة مخصوصة وهذا التعين لا يقتضيه إيالة ملكية قهرية ولا قضية دينية نبوية ويستحيل إجماع عدد عظيم على أمر من غير ثبوت سبب جامع كما يستحيل اجتماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل أو نوم مع اختلاف الدواعي والصوارف وتباين الجبلات والخلق والأخلاق فحصول الاتفاق مع ذلك من وفاق يفضي إلى الانخرام في مطرد العرف والانحراف فقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن إجماع أهل البصائر على القطع في مسألة مظنونة لا مجال للعقول فيها يستحيل   وقوعه من غير سبب مقطوع به سمعي فإن قيل لو كان سبب الإجماع خبرا مثلا مقطوعا به للهج المجمعون بنقله قلنا لا يبعد أن ينعقد الإجماع عن سبب مقطوع به ثم يقع الاكتفاء بالوفاق ويضرب المجمعون عن نقل السبب لقلة الحاجة إليه وكم من شيء يستفيض عند وقوعه ثم ينمحق ويندرس حتى ينقل آحادا ثم ينطمس حتى لا ينقل ويقع الاكتفاء بما ينعقد الوفاق عليه ووضوح ذلك يغني أصحاب المعارف بالعرف عن الإطناب في تقريره      فإن قيل فالحجة إذا مستند الإجماع مقدما وليس الإجماع في نفسه دليلا      قلنا الآن لما انكشف الغطاء وبرح الخفاء فالحق المتبع أن الإجماع في نفسه ليس حجة إذ لا يتصور من المجمعين الاستقلال بإنشاء حكم من تلقاء أنفسهم وإنما يعتقد فيهم العثور على أمر جمعهم على الإجماع فهو المعتمد والإجماع مشعر به     وليس قول المجمعين بأعلى منصبا من قول المصطفى ولا يستريب محصل أن رسول لا يستقل دليلا ولا ينتهض بنفسه إلى الحق سبيلا ولكن المعجزة شهدت بعصمته وصدق لهجته فيما ينقله عن إله الخلق فالعقول والنهى قاضية بأن إلى الله المنتهى فأمره المطاع حقا والرسل مبلغون عنه صدقا والإجماع مشعر بحجة تقدم الرفاق سبقا فلينظر الموفق   اللبيب إلى هذا الترتيب العجيب قدمنا وجه الإشكال وضيق المجال في صيغه سؤال ثم افتتحنا في إثبات الإجماع قاعدة لم نسبق إليها ولم ترحم عليها ثم لم نبد المقصود دفعة واحدة هجوما في إثبات الإجماع بل رأينا أن نجعل المسالك إلى مدارك الحق وظائف مترتبة ونجوما واشتملت الأسئلة المدرجة في أثناء الكلام على الانتهاء إلى مغاصات الإشكال وانطوت طرق الانفصال على إيضاح الحق في صيغة هي السحر الحلال ثم لما فضضنا ختام كل منهم مجمل نصصا على الغرض وطبقا المفصل وقد تجاوزنا حد الاقتصاد قليلا فإنا لم نجد للمسائل القطيعة في الإمامة سوى الإجماع تعويلا فآثرنا أن نورد في إثباته كلاما بالغا ينجح به المنتهى ويستقل به الشادي المبتدي     ونحن بعد تقدم ذلك نخوض من إثبات الإختيار فنقول اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة ثم أطبقوا على أن سبيل غثباتها النص والاختيار وقد تحقق بالطرق القاطعة والبراهين اللامعة بطلان مذاهب أصحاب النصوص فلا يبقى بعد هذا التقسيم والاعتبار إلا الحكم بصحة الاختيار وإن أردنا أن نعتمد إثبات الاختيار من غير التفات إلى إبطال مذاهب مدعي النصوص أسندناه إلى الإجماع قائلين إن الخلفاء الراشدين انقضت أيامهم وتصرمت نوبهم وانسحبت على قمم المسلمين طاعتهم وكان مستند أمورهم صفقة البيعة فأما أبو بكر فقد تواترت البيعة له يوم السقيفة وكان عمر ولي عهده وتعين عثمان من الستة المذكورة في الشورة بالبيعة ولما انتهت النوبة إلى علي رضي الله عنه طلب البيعة فأول من بايعه طلحة والزبير ومن حاول بسط مقال في إيضاح استناد الأئمة الماضين إلى البيعة كان متكلفا مشتغلا بما يغني الظهور والتواتر عنه وقد قدمنا أن الإجماع هو المعتصم الأقوى والمتعلق الأوفى   في قواعد الشريعة وهو الوسيلة والذريعة إلى اعتقاد قاطع سمعي كما سبق في إثبات الإجماع تقريره      فإن قيل هذا تدليس وتلبيس فإنكم قدمتم في خلل الكلام الذي سقتموه في الإجماع أن ما يتفق من إجتماع في الإيالات الملكية والسياسات القهرية وما يفرض فيها من إذعان جماعة وبذل طاعة لا يشعر بحق ولا باطل وميزتم الإجماع من هذه المسالك برده إلى اجتماع في حكم الواقعة وزعمتم أن ذلك يقتضي قضية جامعة ثم عدتم فاستدللتم في الإمامة بالإجماع وهي أعلى مراتب الدول وأرفع المناصب وهذا تناقض واضح وتهافت في الكلام لائح قلنا هذا كلام من يبغي الأسماء والألقاب ويؤثر الإضراب عن لباب الألباب وكأن السائل يرانا ندير ذكر الولاية فاستمسك بهذه الصيغة من غير إحاطة ودراية وذهل عن المقصد والنهاية وهذا الفن يعود المتعلق به إلى ملتطم العماية وظلمات الغواية فنقول     محل تعلقنا بالإجماع أن الهم بالبيعة والإقدام عليها في الزمان المتطاول كان أمرا جازمتا يستند إليه مقاليد الولايات قبل استمرارها ويربط به عقد الولاية والرايات قبل استقرارها ثم تناقله الخلائق على تفنن الطرائق ولم يبد أحد من صحب رسول الله  نكيرا ويستحيل ذلك من غير قاطع أحاط به المجمعون نعم إنما يجري باتباع ذوي الأمر على الحق   أو الباطل العرف وإذا استقر الملك في النصاب وأذعنت الرقاب واستتبت الأسباب فإذ ذاك قد يحمل الرعية على قضية قهرية فيتواطئون طوعا وكرها ولا يرون الانسلال عن طاعته وجها فلما توفي المصطفى  لم يخلفه ذو نجدة واقتهار وصاحب أيد ومنة واقتسار يتولى بعدد وعدد وأشياع وأنصار وترك الناس على نفوس أبيه وهمم عن القمأة والذلة عليه وطرائق في اتباع الحق مرضية وهم على خيرتهم فيما يذرون ويأتون فاستمسكوا بالبيعة في الأمر الأعظم الأهم والخطب الأطم ولم يختلفوا فيها وإنما ترددوا في تعيين المختار ثم استقاموا لياذا وما كان لياذ الماضين بالبيعة في ماضي الدهر صادرا عن جامع قهري بل كانت متقدمة على الإمامة ثم بعدها الاتباع واتساق الطاعة فلم يبق إشكال في انعقاد الإجماع على الاختيار وبطلان المصير على ادعاء النص     فإن قيل قد حصرتم عقد الإمامة في الاختيار وأجريتم في أثناء الكلام تولية العهد الصادر من الإمام قلنا سيأتي ذكر ذلك موضحا منقحا مصححا في بابه ولكنا لما أردنا أن نتكلم في أصل الإمامة حصرناها بعد بطلان النص في الاختيار والتولية في العهود لا يكون إلا بعد ثبوت الإمامة فهذا ما أردنا أن نبين والله الموفق للصواب

الباب الثالث       في صفات الذي هم من أهل عقد الإمامة       وتفصيل القول في عددهم         مضمون هذا الباب فصلان      أحدهما في صفات الذين هم من أهل عقد الإمامة      والثاني في تفصيل القول في عددهم      ونحن نقدم إلى الفصلين تنبيها على الأمر الذي لا بد الإحاطة به فنقول     قد كثر في أبواب الإمامة الخبط والتخليط والإفراط والتفريط ولم يخل فريق إلا من شاء الله عن السرف والاعتساف ولم يسلم طائفة إلا الأقلون عن مجانبة الإنصاف وهلك أمم في تنكب سنن السداد وتخطى منهم منهج الاقتصاد والسبب الظاهر في ذلك أن معظم الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن ويمزجون عقدهم باتباع الهوى ويتهاوون بالغلو على موارد الردى ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى   وهذا الكتاب على الجملة قليل الجدوى عظيم الخطر لا ينجو من يقتحم جراثيمه من تعدى حد النصفة إلا من عصمه الله ونحن بتوفيق الله نذكر فيه معتبرا يتميز به موضع القطع عن محل الظن فنقول العلم يتلقى من العقل أو الشرع وأساليب العقول بمجموعها لا يجول في أصول الإمامة وفروعها      والقواطع الشرعية ثلاثة نص من كتاب الله لا يتطرق إليه التأويل      وخبر متواتر عن الرسول لا يعارض إمكان الزلل روايته ونقله ولا يقابل الإحتمالات متنه وأصله      وإجماع منعقد      فإذا لا ينبغي أن يطلب مسائل الإمامة من أدلة العقل بل يعرض على القواطع السمعية ولا مطمح في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة والخبر المتواتر معوز أيضا فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع فكل مقتضى ألفيناه معتضد بإجماع السابقين فهو مقطوع به وكل ما لم يصادف فيه إجماعا اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع وعرضناه على مسالك الظنون     عرضنا سائر الوقائع وليست الإمامة من قواعد العقائد بل هي ولاية    تامة عامة ومعظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة في التآخي والتحري      ومن وفقه الله تعالى وتقدس للوقوف على هذه الأسطر واتخذها في المعوصات مآبه ومثابه لم يعتص عليه معضل ولم يخف عليه مشكل وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه ووضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه      والآن نبدأ بتفصيل صفات أهل العقد والاختيار    فصل         فليقع البداية بمحل الإجماع في صفة أهل الاختيار ثم ينعطف على مواقع الاجتهاد والظنون     فما نعلمه إن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة فإنهن ما روجعن قط ولو استشير في هذا الأمر امرأة لكان أحرى النساء وأجدرهن بهذا الأمر فاطمة رضي الله عنها ثم نسوة رسول الله أمهات المؤمنين ونحن بابتداء الأذهان نعلم انه ما كان لهن في هذا المجال مخاض في   منقرض العصور ومكر الدهور وكذلك لا يناط هذا الأمر بالعبيد وإن حازوا قصب السبق في العلوم ولا تعلق له بالعوام الذين لا يعدون من العلماء وذوي الأحلام ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء فهذا مبلغ العلم في هذا الفصل      فأما المظنون به فقد ذهب طوائف من أئمة أهل السنة إلى أنه لا يصلح لعقد الإمامة إلا المجتهد المستجمع لشرائط الفتوى      وذهب القاضي الباقلاني في عصب من المحققين إلى أنا لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين بل يكفي أن يكون ذا عقل وكيس وفصل وتهد إلى عظائم الأمور وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة فيما يشترط استجماع الإمام له من الصفات     ونحن نوجه المذهبين بما يقع به الإقناع ثم نذكر ما يلوح لنا إن شاء الله عز وجل   فأما من لم يستجمع خصال المفتين فنقول الغرض تعيين قدوة وتخيير أسوة وعقد الزعامة لمستقل بها فلو لم يكن المعين المتخير عالما بصفات من يصلح لها الشأن لأوشك أن يضعه في غير محله ويجر إليه ضررا بسوء اختياره ولهذا لم يدخل في ذلك العوام ومن لايعد من أهل البصائر والنسوان لازمات خدورهن مفوضات أمورهن إلى الرجال القوامين عليهن لا يعتدن ممارسة الأحوال ولا يبرزن في مصادمة الخطوب بروز الرجال وهن قليلات الغناء فيما يتعلق بإبرام العزائم والآراء ولذلك ذهب معظم العلماء إلى أنهن لا يستقللن بأنفسهن في التزويج      والعبيد وإن كانت لهو آراء مستوعبون تحت استسخار السادة لا يتفرغون في غالب الأمر للبحث والتنفير وكأنهم مع إرادتهم الثاقبة لا رأي لهم      فأما الأفاضل المستقلون الذين حنكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية فهذا المبلغ كاف في بصائرهم والزائد عليه في حكم ما لا تمس الحاجة إليه في هذا المنصب وقد تمهد في قواعد الشرع أنا نكتفي في كل مقام بما يليق به من العلم فيكفي في المقوم العلم بالأسعار والدربة التامة مع الكيس في صفات المقومات     ويقع الاجتزاء في القسام بمعرفة الحساب والمساحة وكيفية تعديل السهام   ويراعى في الخارص ما يقتضيه حاله وإذا بعثنا إلى الزوجين وقد شجرت بينهما المنازعة ونشبت الخصومة والمدافعة واعتاص الظالم منها حكمين كما أشعر به نص القرآن لم يشترط أن يكونا مجتهدين بل يكفي علمهما بحقوق النكاح وتعاطيهما لعادات التعاشر وإحاطتهما بما يدق ويجل في هذا الفن      فالفاضل الفطن المطلع على مراتب الأئمة البصير بالإيالات والسياسات ومن يصلح لها متصف بما يليق بمنصبه في تخير الإمام     وأما من شرط كون العاقد مفتيا فمعتصمه أنا نشترط أن يكون الإمام مجتهدا كما سيأتي في ذلك مشروحا إن شاء الله عز وجل في صفات الأئمة ولا يحيط بالمجتهد إلا مجتهد فلو لم يكن المتخير العاقد مفتيا لم يطلع على تحقيق ذلك من الذي ينصبه إماما وللأولين أن يقولوا قد يظهر بالتسامع والإطباق من طبقات الخلق كون الشخص مجتهدا فليقع الاكتفاء بذلك والذي يوضح المقصد منه أن على المستفتي لا يعول فيما يبغيه من الأحكام إلا على ما يراه مجتهدا وليس له أن يحل مسائله بكل من يتقلب باسم عالم فإذا أمكن أن يدرك ذلك عامي مستفت فما الظن بمرموق من أفاضل الناس فقد ظهر أن الأقرب إلى التحقيق مسلك القاضي ومتبعيه وأما ما نختاره فلست أرى ذكره إلا في خاتمة الفصل الثاني المشتمل على ذكر عدد المختارين   فإنه يتعلق بالفصلين ولم نغفل ذكر الورع صدرا في الفصل عن ذهول بل رأيناه أوضح من أن يحتاج إلى الاهتمام بالتنصيص عليه فمن لا يوثق به في باقة بقل كيف يرى أهلا للحل والعقد      وكيف ينفذ نصبه على أهل الشرق والغرب      ومن لم يتق الله لم تؤمن غوائله ومن لم يصن نفسه لم تنفعه فضائله      فقد تجز الفصل مختوما على التقدير بالمقطوع به في مقصوده مثنى بما هو من فن المجتهدات وقبيل المظنونات    الفصل الثاني       في ذكر عدد من إليه الاختيار والعقد         فنجري على الترتيب المقدم والملتزم فنبدأ بالمقطوع به فنقول مما نقطع به أن الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة بالإجماع والذي يوضح ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه صحت له البيعة فقضى وحكم وأبرم وأمضى وجهز الجيوش وعقد الألوية وجر العساكر إلى مانعي الزكاة وجبي الأموال وفرق منها ولم ينتظر في تنفيذ الأمور لنتشار الأخبار في أقطار خطة الإسلام وتقرير البيعة من الذين لم يكونوا في بلد الهجرة     وكذلك جرى الأمر في إمامة الخلفاء الأربعة    فهذا مما لا يستريب فيه لبيب والذي يعضد ذلك علمنا على اضطرار أن الغرض من نصب الإمام حفظ الحوزة والاهتمام بمهمات الإسلام ومعظم الأمور الخطيرة لا يقبل الريث والمكث ولو أخر النظر فيه لجر ذلك خللا لا يتلافى وخبلا متفاقما لا يستدرك فاستبان من وضع الإمامة استحالة اشتراط الإجماع في عقدها فهذا هو المقطوع به من الفصل      ونفتح الآن ما نراه مجتهدا فيه ذهب بعض العلماء إلى أن الإمامة تنعقد ببيعة اثنين من أهل الحل والعقد      واشترط طوائف عدد أكمل البينات في الشرع وهو أربعة      وذهب بعض من لا يعد من أحزاب الأصوليين إلى اشتراط أربعين وهو عدد الجمعة عند الشافعي رضي الله عنه      وهذه المذاهب لا أصل لها من مأخذ الإمامة     فأما من ذكر الاثنين فالذي تخيله أن هذا العدد أقل الجمع ولا بد من اجتماع جمع على البيعة  ومن شرط الأربعة قال الإمامة من أعلى الأمور وأرفع الخطوب فيعتبر فيها عدد أعلى البينات      ومن ادعى الأربعين استمسك بقريب ما قدمناه واعتبر من يتخير إمام المسلمين بمن يقتدي بإمام الجمعة     وهذه المسالك من أضعف طرق الأشياء وهي أدون فنون المقاييس في الشرع ولست أرى أن أحكم بها في مواقع الظنون ومظان الترجيح والتلويح فما الظن بمنصب الإمامة ولو تتبع المتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع لم يعدم وجودها بعيدة عن التحصيل في التشبيه وأقرب المذاهب ما ارتضاه القاضي أبو بكر وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن رضي الله عنهما وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل العقد  ووجه هذا المذهب أنه تقرر أن الإجماع ليس شرطا في عقد الإمامة ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص والعقود في الشرع يتولاها عاقد واحد وإذا تعدى المتعدي عن الواحد فليس عدد أولى من عدد ولا وجه للتحكيم في إثبات عدد مخصوص فإذا لم يقم دليل على عدد لم يثبت العدد      وقد تحققنا أن الإجماع ليس شرطا فانتفى الإجماع بالإجماع وبطل العدد بانعدام الدليل عليه فلزم المصير إلى الاكتفاء بعقد الواحد      وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوع به وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك فلسنا نراه بالغا مبلغ القطع      وها أنا الآن أذكر ما يلوح عندي في هذا الفصل وفيه ذكر كلام ينعطف على الفصل الأول فأقول     الذي أراه أن أبا بكر لما بايعه عمر لو ثار ثائرون وأبدوا صفحة الخلاف ولم يرضوا تلك البيعة لما كنت أجد متعلقا في أن الإمامة كانت تستقل ببيعة واحد وكذلك لو فرضت بيعة اثنين أو أربعة فصاعدا وقدرت ثوران مخالفين لما وجدت متمسكا به اكتراث واحتفال في قاعدة الإمامة ولكن لما بايع عمر تتابعت الأيدي واصطفقت الأكف واتسقت الطاعة وانقادت الجماعة فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الاتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة بحيث لو فرض  ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم اتباع الإمام فإذا تأكدت البيعة وتأطدت بالشوكة والعدد والعدد واعتضدت وتأيدت بالمنة واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر وتتأكد الولاية وتستمر ولما بايع عمر مالت النفوس إلى المطابقة والموافقة ولم يبد أحد شراسا وشماسا وتظافروا على بذل الطاعة على حسب الاستطاعة      وبتعين اعتبار ما ذكرته بأني سأوضح في بعض الأبواب الآتية إن الشوكة لا بد من رعايتها ومما يؤكد ذلك اتفاق العلماء قاطبة على أن رجلا من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن يصلح للإمامة وعقد له البيعة لم تثبت الإمامة وسنذكر ذلك في مختتم هذا الفصل      وسبب تعلقي بذلك أن مثل هذا لو قدر لم تستتب منه شوكة ولم تثبت به سلطنة فلئن كنا نتبع ما جرى فقد كانت البيعة على هذه القضية التي وصفتها وظهر اعتبار حصول الشوكة فلنتبع ذلك ثم أقول     إن بايع رجل واحد مرموق كثير الأتباع والأشياع مطاع في قوم وكانت بيعته تفيد ما أشرنا إليه انعقدت الإمامة وقد تبايع رجال لا يفيد مبايعتهم شوكة ومنة قهرية فلست أرى للإمامة استقرارا والذي   أجزته ليس شرط إجماع ولا احتكاما بعدد ولا قطعا بأن بيعة الواحد كافية وإنما اضطربت المذاهب في ذلك لوقوع البيعة لأبي بكر مبهمة من غير اختصاص بعدد ولم تتجه إحالة إبرام العقد على بيعة واحد فتفرقت الطرق واعوص مسلك الحق على معظم الناظرين في الباب      والذي ذكرته ينطبق على مقصد الإمامة وسرها فإن الغرض حصول الطاعة وهو موافق للإبهام الذي جرى في البيعة فرحم الله ناظرا انتهى إلى هذا المنتهى فجعل جزاءنا منه دعوة بخير      والذي ينصرف من مساق هذا الكلام إلى الفصل الأول المنطوي على ذكر صفة من يعقد إلى اشتراط ما ذكره القاضي فلا أرى لاشتراط كون العاقد مجتهدا وجها لائحا ولكني اشترط أن يكون المبايع ممن يفيد مبايعته منة واقتهارا فهذا ما أردنا بيانه في ذلك      ومما يتعلق بهذا الفصل إن الأئمة رضي الله عنهم كما اختلفوا في عدد العاقد اضطربوا في اشتراط حضور الشهود      فرأى بعضهم أن حضور الشاهد ليس شرطا     وشرط آخرون حضور الشهود وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله   واحتج هؤلاء بأن قالوا لو كانت البيعة تنعقد بعقد من هو من أهل الحل والعقد وإن لم يشهد العاقد والمعقود له شهود وزيف القاضي هذا المذهب وتناهى مبالغا في الرد على معتقده وسلك مسلك القطع فيما زعم فقال لو استخلى عمر بالبيعة لأبي بكر لما استقرت الإمامة إذ لو كانت تستقر وتثبت على هذا الوجه لما حضرا رضي الله عنهما السقيفة ولبادر عمر عقد البيعة لأبي بكر قبل حضور الأشهاد      ثم الذين صاروا إلى منع عقد الإمامة على الاستخلاء اختلفوا     فذهب بعضهم إلى أنه يكفي حضور شاهدين كعقد النكاح ولم يكتف القاضي رضي الله عنه بالشاهدين بل اشترط أن يشهد الأمر أقوام يقع بحضورهم الإشاعة والنشر والإذاعة ولا ينتهي الأمر عندي إلى حد القطع في الرد على من يصير إلى انعقاد الإمامة في الاتخلاء وما تعلق به القاضي رحمه الله من أن عمر رضي الله عنه لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه في الخلوة قلنا يمكن حمل ذلك على وجه في الاستصواب فإنه لو عقد سرا فربما يتفق عقد في العلانية جهرا وعقد السر سابق فكان    الشرع يقتضي تقديم عقد السر ثم ربما كان الأمر ينجز إلى إنكار وجحود ونزاع في مقصود ومس الحاجة إلى شهود وقد ندبنا الأشهاد على البيوع فكان تأخير عقد البيعة إلى الإعلان لهذا الشأن فأما لو فرض رجل عظيم القدر رفيع المنصب ثم صدرت منه بيعة لصالح لها سرا وتأكدت الإمامة بهذا السبب بالشوكة العظمى فلست أرى إبطال الإمامة والحالة هذه قطعا      ولكن المسألة مظنونة مجتهد فيها ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين     انتهى مبلغ غرضنا من صفات العاقدين وعددهم   الباب الرابع       في صفات الإمام القوام على أهل الإسلام         الصفات المرعية في الأئمة تنقسم أقساما      فمنها ما يتعلق بالحواس ومنها ما يتعلق بالأعضاء وما يرتبط بالصفات اللازمة ومنها ما يتعلق بالفضائل المكتسبة      فأما القول في الحواس وذكر ما فيها من الخلاف والوفاق بين الناس فنحن نوضح ما يزيل دواعي الالتباس     فأما البصر فلا خلاف في اشتراطه لأن فقده يمانع الانتهاض في الملمات والحقوق ويجر ذلك إلى المعضلات عند مسيس الحاجات والأعمى ليس له استقلال بما يخصه من الأشغال فكيف يتأتى منه تطوق عظائم الأعمال ولا يميز بين الأشخاص في مقام التخاطب وانعقاد الإجماع يغني عن الإطناب ولكن مقصدنا في هذا الكتاب التعرض لمعاني الإيالة في إدراج الأبواب   ومما يشترط من الحواس السمع فالأصم الأصلح الذي يعسر جدا إسماعه لا يصلح لهذا المنصب العظيم لما سبق تقريره في البصر ولا يضر الوقر والطرش كما لا يضر كلال البصر والعمش      وما يلتحق بما ذكرناه نطق اللسان فالأخرس لا يصلح لهذا الشأن      وأما حاسة الشم والذوق فلا أثر لهما في الإمامة وجدتا أو فقدتا فهذا ما يتعلق بالحواس وما في معناها      فأما ما يرتبط بنقصان الأعضاء فكل ما لا يؤثر عدمه في رأي ولا عمل من أعمال الإمامة ولا يؤدي إلى شين ظاهر في المنظر فلا يضر فقده      ويجوز على هذا الاعتبار نصب المحبوب والخصى لما سبق ذكره      وأما ما يؤثر عدمه في الانتهاض إلى المآرب والأغراض كفقد الرجلين واليدين فالذي ذهب إليه معظم العلماء تنزيل هذه الآفات والعاهات منزلة العمى والصمم والخرس وهذا وإن لم ينعقد فيه إجماع انعقاده فيما تقدم فلست أراه مقطوعا به فإن تعويل الإمامة على الكفاية والنجدة والدراية والأمانة والزمانة لا ينافي الرأي وتأدية حقوق الصيانة وإن مست الحاجة إلى نقله فاحتماله على المراكب يسهل فليلحق هذا بالفنون التي يجول فيها أساليب الطنون     واختلف الفقهاء في قطع إحدى اليدين والرجلين والظاهر عندي أن الأمر إذا لم ينته إلى الزمانة والصمامة وكان المأووف بحيث  يستمسك على المراكب فلا أثر للنقص الذي به مع صحة العقل والرأي      فأما ما يشين المنظر كالأعور وجدع الأنف فالذي أوثره القطع بأن هذا لا أثر له      وذهب بعض المتطرفين الشاذين إلى أن ذلك يؤثر في منع عقد الإمامة من جهة أنه ينفر الأشياع والأتباع ويستحث الرعاع على المطاعن والاستصغار وأسباب الانحلال والانتشار وهذا باطل قطعا ولو أثر الجدع والعور لأثرت الزمانة وتشوه الخلق لاشتراط الجمال والاعتدال في الخلق وهذا غير مشروط باتفاق الفرق      فهذا ما يتعلق بنقصان الأعضاء     فأما الصفات اللازمة فمنها النسب فالشرط أن يكون الإمام قرشيا ولم يخالف في اشتراط النسب غير ضرار بن عمرو وليس ممن يعتبر خلافه ووفاقه وقد نقل الرواة عن النبي  أنه قال الأئمة   من قريش وذكر بعض الأئمة أن هذا الحديث في حكم المستفيض المقطوع بثبوته من حيث أن الأمة تلقته بالقبول      وهذا مسلك لا أوثره فإن نقله هذا الحديث معدودون لا يبلغون مبلغ عدد التواتر والذي يوضح الحق في ذلك أنا لا نجد في أنفسنا ثلج الصدور واليقين المثبوت بصدد هذا من فلق في رسول الله  كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد فإذا لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة      فالوجه في إثبات ما نحاوله في ذلك إن الماضين ما زالوا بائحين باختصاص هذا المنصب بقريش ولم يتشوف قط أحد من غير قريش إلى الإمامة على تمادي الأحيان وتطاول الأزمان مع العلم بأن ذلك لو كان ممكنا لطلبه ذوو النجدة والبأس وتشمر في ابتغائه عن ساق الجد أصحاب العدد والعدد     وقد بلغ طلاب الملك في انتحاء الاستعلاء على البلاد والعباد أقصى غايات الاعتداء واقتحموا في روم ما يحاولونه المهاوي والمعاطب المناوئ وركبوا الأغرار والأخطار وجانبوا الرفاهية والدعة والأوطان فلو كان إلى إدعاء الإمامة مسلك أو له مدرك لزاوله محقون أو مبطلون من غير قريش  ولما اشرأب لهذا المنصب المارقون في فسطاط مصر اعتزوا أولا إلى شجرة النبوة على الافتراء وانتموا انتماء الأدعياء وبذلوا حرائب الأموال للكاذبين النسابين حتى ألحقوهم بصميم النسب فهذا إذا ما تطابقت عليه مذهب طبقات الخلق وقد تصدى للإمامة ملوك من قريش وإن لم يكونوا على مرتبة مرموقة في العلم والسبب فيه أن العلم يدعيه كل شاء مستطرف فإذا انضمت أبهة الملك إلى قليل من العلم لم يستطع أحد نسبة الملك إلى العرو عن العلم والنسب مما لا يمكن ادعاؤه فلم يدع لذلك الإمامة من ليس نسيبا فهذا وجه إثبات شرط النسب ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وصفها إلى النسب ولكن خصص الله هذا المنصب العلي والمرقب السني بأهل بيت النبي فكان من فضل الله يؤتيه من يشاء  ومن الصفات اللازمة المعتبرة الذكورة والحرية ونحيزة العقل والبلوغ ولا حاجة إلى الإطناب في نصب الدلالات على إثبات هذه الصفات ومما يلتحق بهذا القسم الشجاعة والشهامة وهي خطة علية ولا يصلح لإيالة طبقات الخلائق وجر العساكر والمناقب وعليات المناصب جبان خوار      وهذه الصفة يبعد اكتسابها بالإيثار والاختيار وإن كان قد تفيد كثرة مصادمة الخطوب وممارسة الحروب مزيد ألف وميزة إقدام إذا صادفت جسورا مقداما ومن فطر على الجبن واستشعار الحذر لا يزداد إلا فرط الخور ثم الشهامة مرعية مع كمال العقل ولا يصلح مقتحم هجام لهذا الشأن وهذا المنصب إلى الرأي أحوج منه إلى ثبات الجنان      والرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني      نجز منتهى الغرض في الصفات اللازمة      فأما الصفات المكتسبة المرعية في الإمامة فالعلم والورع وسنلحق بهما بعد تحقيق القول فيهما صفة ثالثة     فأما العلم فالشرط أن يكون الإمام مجتهدا بالغا مبلغ المجتهدين  مستجمعا صفات المفتين ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف والدليل عليه أن أمور معظم الدين تتعلق بالأئمة فأما ما يختص بالولاة وذوي الأمر فلا شك في ارتباطه بالإمام وأما ما عداه من أحكام الشرع فقد يتعلق به من جهة انتدابه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو لم يكن الإمام مستقلا بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع وذلك يشتت رأيه ويخرجه عن رتبة الاستقلال ولو قيل إنه يراجع المفتي مراجعة آحاد الناس المفتين لكان ذلك محالا فإن الوقائع التي ترفع إلى الإمام في الخطوب الجسام والأمور العظام لا تتناهى كثرة إذ هو شرف العالمين ومطمح أعين المسلمين وقد لا يجد عند رفع واقعة إليه أعلم علماء القطر والناحية فيتردد ويتبلد ويبطل أثره في منصب الاستقلال ولو جاز ذلك لساغ أن لا يكون الإمام ذا كفاية واستقلال ثم يراجع الكفاءة ويستشير ذوي الأحلام والدهاة وهذا لا قائل به فإذا كانت الإمامة زعامة الدين والدنيا ووجب استقلاله بنفسه في تدبير الأمور الدنيوية فكذلك يجب استقلاله بنفسه في الأمور الدينية فإن أمور الدنيا على مراسم الشريعة تجري فهي المتتبع والإمام في جميع مجال الأحكام فالكفاية   المرعية معناها الاستقلال ببداية الأصوب شرعا في الأمور المنوطة بالإمام فإن قيل كان أصحاب رسول الله  إذا وقعت واقعة وألمت به ملمة اشتوروا ولم يأنفوا من المراجعة والمرادة فأشعر ذلك من عادتهم بان استقلال الإمام ليس شرطا في الإمامة      قلنا الخبر المشار إليه والإمام المتفق عليه ومن هو البحر الذي لا ينزف لا يبعد منه أن يستشير في آحاد الوقائع ويستمد من نتائج القرائح ويبحث في محادثة أطراف الكلام عن مآخذ الأحكام كيف وقد ندب الله رسوله  إلى الاستشارة فقال     وشاورهم في الأمر    ولا منافاة بين بلوغ المرتبة العليا في العلوم وبين التناظر والتشاور في المعضلات     ونحن نرى الإمام المستجمع خلال الكمال البالغ مبلغ الاستقلال أن لا يغفل الاستضاءة في الإيالة وأحكام الشرع بعقول الرجال فإن صاحب الاستبداد لا يأمن الحيدة من سنن السداد ومن وفق الاستمداد من علوم العلماء كان حريا بالاستداد ولزوم طريق الاقتصاد وسر الإمامة استتباع الآراء وجمعها على رأي صائب ومن ضرورة ذلك استقلال الإمام ثم هو محثوث على استقاء مزايا القرائح وتلقى الفوائد والزوائد منها فإن في كل عقل ميزة ولكن اختلاف الآراء مفسدة لإمضاء الأمور فإذا بحث عن الآراء إمام مجتهد وعرضها على علمه الغزير ونقد بالسبر والفكر الأصوب من وجوه الرأي كان جالبا إلى المسلمين ثمرات العقول ودافعا عنهم غائلة التباين   والاختلاف فكأن المسلمين يتحدون بنظر الإمام وحسن تقديره وفحصه ونقره ولا بد على كل حال من كون الإمام متبوعا غير تابع ولو لم يكن مجتهدا في دين الله للزمه تقليد العلماء واتباعهم وارتقاب أمرهم ونهيهم وإثباتهم ونفيهم وهذا يناقض منصب الإمامة ومرتبة الزعامة      فهذا قولنا في العلم      فأما التقوى الورع فلا بد منهما إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس فكيف يولي أمور المسلمين كافة      والأب الفاسق مع فرط حدبه وإشفاقه على ولده لا يعتمد في مال ولده فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق لا يتقي الله ومن لم يقاوم عقله هواه ونفسه الأمارة بالسوء ولم ينهض رأيه بسياسة نفسه فأبي يصلح خطة الإسلام     فأما الصفة الثالثة التي ضمنت ضمها إلى الفضائل المكتسبة هي ضم توقد الرأي في عظائم الأمور والنظر في مغبات العواقب وهذه الصفة ينتجها نحيزة العقل ويهذبها التدريب في طرق التجارب والغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي واتتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إرادتهم واختلاف أخلاقهم ومآربهم وحالاتهم فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء فإذا لم يكن الناس مجموعين على رأي واحد لم ينتظم تدبير ولم يستتب من إيالة الملك قليل ولا كثير ولاصطلت الحوزة واستؤصلت البيضة   وليعتبر العاقل ذلك بملك مطاع بين أتباع محفون بجنود وأشياع إذا اختطف الملك بغتة وفاجأته المنية فلتة فلينظر كيف ينفض الجموع ويصيرون عبرة أسماع وأبصار فلو لم يكن في خطة الإسلام متبوع يأوي إليه المختلفون ويتنزل على حكمه المتنازعون ويذعن لأمره المتدافعون إذا أعضلت الحكومات ونشبت الخصومات وتبددت الإرادات لارتبك الناس في أقطع الأمر ولظهر الفساد في البر والبحر وإذا تبين الغرض من نصب الإمام لاح أن المقصود لا يحصل إلا بذي كفاية ودراية وهداية إلى الأمور واستقلال بالمهمات وجر الجيوش لا يرعه خور الطبيعةعن ضرب الرقاب أو أن الاستحقاق ولا تحمله الفظاظة على ترك الرقة والإشفاق ثم لا يكفي أن يسمى كافيا فرب مستقل بأمر قريب لا يستقل بأمر فوقه فليعتبر مقاصد الإمامة وليشترط استقلال الإمام بها فهذا معنى النجدة والكفاية      فنحل من مجموع هذه الأوصاف أن الصالح للإمامة هو الرجل الحر القرشي المجتهد الورع ذو النجدة والكفاية ويمكن رد هذه الصفات إلى شيئين فيقال المرعى الاستقلال والنسب ويدخل تحت الاستقلال الكفاية والعلم والورع والحرية والذكورة تدخل أيضا فإن المرأة مأمورة بأن تلزم خدرها ومعظم أحكام الإمامة تستدعي الظهور والبروز فلا تستقل المرأة إذن     فهذا منتهى ما أردنا في ذلك

فصل         ذهبت طوائف من الإمامة إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومنصب الإمامية يقتضي العصمة كالنبوة     والقول في العصمة وتقسيمها وتفصيلها وتحصيلها يطول ولو ذهبنا نصف معناها لملأنا في مغزاها أوراقا والإمامة كثيرة التفنن عظيمة الشعب فتارة يرتبط الكلام فيها بقواعد العقائد وطورا يتعلق بأحكام الأخبار في انقسامها وتارة يناط بالشريعة وأحكامها فلو التزم الخائض في الإمامة تقرير كل ما يجري في إدراج الكلام لطال المدى ولغمض مدرك مقصود الكتاب فالمقدار المتعلق بمقصدنا الآن إن الإمام لا يجب عصمته عن الزلل والخطل ثم سيأتي باب معقود في الإمام إذا قارف ذنبا واحتقب وزرا والقول المقنع في ذلك إن الإمامية لم يروا للإمامة مستندا فير نص الرسول  وزعموا أن الإثني عشر إماما نص عليهم رسول الله  ونص بعضهم على بعض وعمر الدنيا منقرض بانقراضهم وآخرهم المهدي ويفتدي به عيسى بن مريم   في ترهات وخرافات ينبوا عن قبولها قلب كل عاقل ثم زعموا أن الرسول لا ينص إلا على معصوم في علم الله تعالى      ونحن قد أبطلنا بالقواطع بطلان المصير إلى ادعاء النصوص وحصرنا مأخذ الإمامة في الاختيار وإذا تقرر ذلك ففيه بطلان اشتراط العصمة فإن الذين يختارون إماما يستحل أن يطلعوا على سريرته في الحال فكيف يضمنون عصمته في الاستقبال عن الذنوب ولا مطلع على الغيوب وهذا فيه مقنع بالغ على إنا باضطرار من عقولنا نعلم أن عليا وابنيه الحسن والحسين وأولادهم رضي الله عنهم ما كانوا يدعون لأنفسهم العصمة والتنقي من الذنوب بل كانوا يعترفون بها سرا وعلنا ويتضرعون إلى الله تعال مستغفرين خاضعين خائفين فإن صدقوا فهو المبتغى وإن تكن الأخرى فالكذب خطيئة من الخطايا يجب الاستغفار والتوبة منها     فمن أبدى مراء في اعترافهم بالذنب فقد جاحد ضرورات العقول ومن اعترف بذلك واعتقد عصمتهم فقد نسبهم إلى الخلف عمدا والكذب قصدا وهذا إثبات ذنب في مساق ادعاء التبري من الذنوب  فإن قالوا كان الأنبياء يستغفرون أيضا مع وجوب العصمة لهم      قلنا مذهبنا الذي ندين به لا يجب عصمة الأنبياء عن صغائر الذنوب وآي القرآن في أقاصيص النبيين مشحونة بالتنصيص على هنات كانت منهم استوعبوا أعمارهم في الاستغفار منها والإمامية أوجبوا عصمة الأئمة عن الصغائر والكبائر فإن قالوا الإمام شوف الخلق ومنه تلقي الجزئي والكلى في دين الله وبه ارتباط عرى الإسلام فلو كان عرضه للزلل لبطل غرض الإمامة ولما حصلت الثقة به في أقواله وأفعاله ولم يؤمن من عثراته في الدماء والفروج وسد الثغور والقيام بعظائم الأمور ولو جاز ذلك فيهم لما وجبت العظمة للمرسلين والنبيين  أجمعين     قلنا ما ذكرتموه باطل من وجوه أحدها إن الإمام لا يتأتى منه تعاطي مهمات المسلمين في المشارق والمغارب ولا يجد بدا من استخلاف ولاة ونصب قضاة وجبات الأخرجة والصدقات وغيرها من أموال الله والذي يتولاه بنفسه الأول ثم لا يجب عصمة ولاة الأمر حيث كانوا في أطراف خطة الإسلام وفيه بطلان ما ذكروه فما يغني عصمته ولا يشترط    عصمة مستخلفة     وقد ذهب طوائف من غلاة الإمامية إلى وجوب العصمة لكل من يتعلق طرف من مصالح الإمامة به حتى طردوا ذلك في ساسة الدواب والمستخدمين في المستحقرات والعبيد ومن انتهى بخزيه إلى هذا فقد كشف جلباب الحياء عن وجهه وتعلق بما هو حري بأن يعد من السخرية والهزوء والتلاعب بالدين ثم يلزم منه عصمة رواة الأخبار حتى لا يفرض منهم زلل وعصمة الشهود المقيمين للشهادات في الحكومات وعصمة المفتين الذين إليهم رجوع العالمين في المشكلات وحل المعوصات ثم من عجيب الأمر أن هؤلاء يقولون التقية ديننا ودين آبائنا ويوجبون على الأئمة أن يبوحوا بالكذب الصراح ويبدوا خلاف ما يعتقدون وإذا كانوا كذلك فليت شعري فكيف يعتمدون في أقوالهم مع تجويز إنهم يظهرون خلاف ما يضمرون ولئن جاز الكذب في القول تقية فليجز الزلل في العمل لمثل ذلك وأقدار هؤلاء تقل عن الازدياد على هذا المبلغ في قبائحهم وبث فضائحهم واما الأنبياء فإنما يجب عصمتهم لدلالات المعجزات على صدق لهجتهم ولو لم يتميز مدعي النبوة بآية باهرة وحجة   قاهرة عن الممحزقين الكذابين لما استقر عقد في نبوة فمستند النبوات المعجزات إذا      وأما الأئمة فقد صح من دين النبي إمامتهم مع ما يتعرضون له من إمكان الهفوات فإنا أثبتنا صحة الاختيار ويستحيل معه علم المختارين في مطرد العادات بأحوال المنصوبين للزعامة فاستناد الإمامة إلى النبوة ومستند النبوة المعجزة فلما تعلق مستند التبليغ بالنبي لم يمكن لتميزه ممن عداه بد من آية والأئمة يتبعون فروعا في شرائع الرسل فإذا دل دليل على انتصابهم مع التعرض للزلل ولم يكن في العقول ما يأبى ذلك ويحيله تلقيناه بالقبول ونزلناه منزلة للشهود والمفتين وسائر ولاة المسلمين وحماة الدين     وهذا المبلغ كاف في مكانة هؤلاء فهم أذل قدرا من أن ينهى الكلام معهم إلى حدود الإطناب وهذا إنجاز الباب

الباب الخامس       الطوارئ التي توجب الخلع والانخلاع         فنقول ما يجب بناء أساس الباب عليه إن الكلام المتقدم اشتمل على ذكر الصفات المرعية في الأئمة فالذي يقتضيه امتداد النظر ابتدارا قبل الافتقار وإنعام الاعتبار إن كل ما يناقض صفة مرعية في الإمامة ويتضمن انتفاءها فهو مؤثر في الخلع والانخلاع وهذا لا محالة معتبرا الباب ولكن وضوح الغرض يستدعي تفصيلا فنقول      الإسلام هو الأصل والعصام فلو فرض انسلال الإمام عن الدين لم يخف انخلاعه وارتفاع منصبه وانقطاعه فلو جدد إسلاما لم يعد إماما إلا أن يجدد اختياره      ولو جن جنونا مطبقا انخلع     وكذلك لو ظهر خبل في عقله وعته في رأيه بين واضطرب نظره اضطرابا لا يخفى دركه ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى فضل نظر وعسر   بهذا السبب استقلاله بالأمور وسقطت نجدته وكفايته فإنه ينعزل كما ينعزل المجنون فإن مقصود الإمامة القيام بالمهمات والنهوض بحفظ الحوزة وضم النشر وحفظ البلاد الدانية والنائية بالعين الكالية فإذا تحقق عسر ذلك لم يكن الاتسام بنبز الإمام معنى والذي غمض على العلماء مدركه واعتاص على المحققين مسلكه طرئان ما يوجب التفسيق على الإمام أن فلينعم طالب التحصيل في ذلك نظره وليعظم في نفسه خطره وليجمع له فكره فإنه من مغاصات الكلام في الكتاب والمستعان رب الأرباب      قد ذهب طوائف من الأصوليين والفقهاء إلى أن الفسق إذا تحقق طرآنه وجب انخلاع الإمام كالجنون وهؤلاء يعتبرون الدوام بالابتداء ويقولون اقتران الفسق إذا تحقق يمنع عقد الإمامة وطرآنه يوجب انقطاعها إذا السبب المانع من العقد عدم الثقة وامتناع ائتمانه على المسلمين وإفضاء تقليده إلى نقيض يطلب من نصب الأئمة وهذا المعنى يتحقق في الدوام تحققه الابتداء والذي يوضح ذلك أنه لا يجوز تقريره بل يجب عند من لم يحكم بانخلاعه خلعه وإذا كان يتعين ذلك فربط الأمر بإنشاء خلعه لا معنى له مع أنه لا بد منه     وذهب طوائف من العلماء إلى أن الفسق بنفسه لا يتضمن الانخلاع ولكن يجب على أهل الحل والعقد إذا تحقق خلعه   ونحن بتوفيق الله وتأييده نوضح الحق في ذلك فنقول     المصير إلى أن الفسق يتضمن الانعزال والانخلاع بعيد عن التحصيل فإن التعرض لما يتضمن الفسق في حق من لا يجب عصمته ظاهر الكون سرا وعلنا عام الوقوع وإنما التقوى ومجانبة الهوى ومخالفة مسالك المنى والاستمرار على امتثال الأوامر والانزجار عن المناهي والمزاجر والأرعواء عن الوطرا المنقود وانحاء الثواب الموعود هو البديع والتحقيق إنه لا يستد على التقوى إلا مؤيد بالتوفيق والجبلات داعية إلى اتباع اللذات والطباع مستحثة على الشهوات والتكاليف متضمنها كلف وعناء وسواس الشيطان وهواجس نفس الإنسان متظافرة على حب العاجل واستنجاز الحاصل والجبلة بالسوء إمارة والمرء على أرجوحة الهوى تارة وتارة والدنيا مستأثرة وباب الثواب محتجب مغيب فطوبى لمن سلم ولا مناص ولا خلاص إلا لمن عصم والزلات تجري مع الأنفاس والقلب مطرق الوسواس فمن الذي ينجو في بياض نهار من زلته ولا يتخلص من حق المخافة إلا يتغمده الله برحمته ومن شغل الإمام عقد الألوية والبنود وجر الجنود ولا يترتب في ديوان المقاتلة إلا أولو النجدة    والبأس وأصحاب النفوس الأبية ذوات الشمس والشراس فليت شعري كيف السلامة من معرة الجند وكيف الاستقامة على شرط التقوى في الحل والعقد     ومن شأنه أيضا تفريق الأموال بعد الاستداد في الجباية والجلب على أهل الشرق والغرب فكيف يخفى على منصف إن اشتراط دوام التقوى يجر قصاراه عسر القيام بالإيالة العظمى ثم لو كان الفسق المتفق منه عليه يوجب انخلاع الإمام أو خلعه لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله على تفنن أطواره وأحواله ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه المقتضى خلعه وانحرب الناس أبدا في مطرد الأقات على اقتراف وشتات في النفي والإثبات ولما استتبت صفوة الطاعة للإمام في ساعة وإذا لم تكن الإيالة الضابطة لأهل الإسلام على الإلزام والإبرام كان ضيرها مبزا على خيرها فخرج من محصول ما ذكرناه أن القائم بأمور المسلمين إذ لم يكن معصوما وكان لا يأمن اقتحام الآثام فيما يتعلق بخاصته فيبعد أن يسلم من احتقاب الأوزار في حقوق كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها واستيفاء ومنعا واستداء وردعا ودعاء وقبولا وردا وفتحا وسدا فلا يبقى   لذي بصيرة إشكال في استحالة استمرار مقاصد الإمامة مع المصير إلى أن الفسق يوجب انخلاع الإمام أو يسلط خلعه على الإطلاق      والذي يجب القطع به إن الفسق الصادر من الإمام لا يقطع نظره ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويؤوب وقد قررنا بكل عبرن أن في الذهاب إلى خلعه وانخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها واستئصال فائدتها ورفع عائدتها وإسقاط الثقة بها واستحثاث الناس على الأيدي عن ربقة الطاعة      ولا خلاف أن الإمام لو طرأ عليه عرض أو عراء مرض وامتنع عليه الرأي به ولكنه كان مرقوب الزوال لم نقض بانخلاعه ومن تشبث في ذلك بخلاف كان منسلا عن وفاق المسلمين انسلال الشعرة عن العجين     فإذا كان كذلك مع أن المرض قاطع نظره في الحال فما يطرأ من زله وهي لا تقطع نظره على إنها مرقوبة الزوال أولى بأن لا يتضمن انخلاعه والأخبار المستحثة على اتباع الأمراء في السراء والضراء تكاد أن تكون معناها في حكم الاستفاضة وإن كانت آحاد ألفاظها منقولة أفرادا منها قوله  هل أنتم تاركون في أمرائي لكم صفو أمرهم وعليكم كدره فليطلب الحديث طالبه من أهله وإنما غرضي من وضع هذا  الكتاب وتبويب هذه الأبواب تحقيق الإيالات الكلية وذكر ما لها من موجب وقضية وهذه مسالك لا أباري في حقائقها ولا أجاري في مضايقها      فإن قيل فلم منعتم الإمامة لفاسق     قلنا إن أهل العقد على تخيرهم في افتتاح العهد ومن سوء الاختيار أن يعين لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم فاسق وهم مأمورون بالنظر للمسلمين من أقصى الإمكان وأما الذهاب إلى الانخلاع بعد الاستمرار والاستتباب مع التعرض للزلات فمفسد لقاعدة الولاية ولا خفاء بذلك عند ذوي الدراية وهذا كله حرس الله مولانا في بوادر الفسق فأما إذا تواصل منه العصيان وفشا منه العدوان وظهر الفساد وزال السداد وتعطلت الحقوق والحدود وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور وتعطل الثغور فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم على ما سنقرر القول فيه على الفاهم إن شاء الله عز وجل وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة فيجب استدراكه لا محالة وترك الناس سدى ملتطمين مقتحمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين    وإذا وقع الخلق إلى ذلك فقد اعتاصت المسالك وأعضلت المدارك فليتئد الناظر هنالك وليعلم أن الأمر إذا استمر على الخبط والخبال والاختلال كان ذلك لصفة في التصدي للأمرة ويبك هي التي جرت منه الفترة ولا يرتضي هذه الحالة من نفسه ذو حصافة في العقل ودوام التهافت والتفاوت في القول والفعل مشعر بركاكة الدين في الأصل أو باضطراب الجبلة وهو خبل فإن أمكن استدراك ذلك فالبدار قبل ن تزول الأمور عن مراتبها وتميل من ماصبها وتميد خطة الإسلام بمناكبها وها أنا بعون الله عزت قدرته وجلت عظمته لا آلو في وجه ذلك جهدا ولا أغادر مضطربا وقصدا وعلى المنتهى إلى هذا الموضع أن يقبل في هذه الإطالة عذري ويحسن أمري فقد انجر الكلام إلى غائلة ومعاصة هائلة لا يدركها أولوا الآراء القائلة     والوجه عندي قبض الكلام فيما لا يتعلق بالمقصود والمرام وبسطه على أبلغ وجه في التمام فيما يتعلق بأحكام الإمام وفيها الاتساق والانتظام فأقول إن عسر القبض على يده الممتدة لاستظهاره بالشوكة العتيدة   والعدد المعدة فقد شغر الزمان عن القائم بالحق ودفع إلى مصابرة المحن طبقات الخلق ووقع الكلام في أحد مقصود الكتاب إذ هذا المجموع مطلوبه أمران      أحدهما بيان أحكام الله عند خلو الزمن عن الأئمة      والثاني إيضاح متعلق العباد عن عرو البلاد عن المفتين المستجمعين لشرائط الاجتهاد والله أبتهل في التوفيق لمناهج السداد      وما عدا هذين المقصودين في حكم المقدمات وإنما اضطررت إلى كشف أحكام الولاه إذا وجدوا لأتوصل إلى بيان غرضي إذا فقدوا فنوجز هذا الفصل من هذا الباب إلى وصولنا إلى مقصد الكتاب      فأما إذا تمكنا من كفاية هذا المهم ودفع هذا الملم فليشمر فيه عن ساق الجد وليسع فيه بأقصى الجهد وليس الخوض في ذلك بالهين اللين فلا يثورن على الأمراء من غير بصيرة دين فأقول      إن تيسر نصب إمام متجمع للخصال المرضية والخلال المعتبرة في رعاية الرعية تعين البدار إلى اختياره فإذا انعقدت له الإمامة واتسقت له الطاعة على الاستقامة فهو إذ ذاك يدرأ من كان     وقد بان الآن أن يعد درؤه في مهمات أموره فإن أذعن فذاك وإن   تأبى عامله معاملة الطغاة وقاتله مقتالة البغاة ولا مطمع في الخوض في هذا فإن أحكام البغاة يحويها كتاب من كتب الفقه فليطلب من موضعها      وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية دهياء وإراقة دماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال وإهلاك أنفس ونزف أموال فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه فلا يسوغ التشاغل بالدفع بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع     وقد يقدم الإمام مهما ويؤخر آخر والابتهال إلى الله وهو ولي الكفاية وهذا يعضده أمر لا يستريب فيه لبيب وهوأن طوائف من قطاع الطرق إذ كانوا يرصدون الرفاق ويسعون في الأرض بالفساد فحق على الإمام أن يلحق الطلب الحثيث بهم فلو بلغه اختلال في بعض الثغور ووطئ الكفار قطرا من أقطار الإسلام وعلم الإمام أن ذلك الفتق لا يلتئم إلا بصرف جميع جنود الإسلام إلى تلك الجهة فإنه يبدأ بذلك ويتربص بالقطاع الدوائر والركن العظم في الإيالة البداية بالأهم فالأهم وعلى هذا الوجه يترتب منابذة الكفار ومقاتلتهم كما قال الله تعالى     قاتلوا الذين يلونكم من الكفار   وليجدوا فيكم غلظة         وعلى هذه القاعدة تبتني مهادنة الكفار عشر سنين إذا استشعر الإمام من المسلمين ضعفا      فإن قيل مبني هذا الكلام على طلب مصلحة المسلمين وارتياد الأنفع لهم واعتماد خير الشرين إذا لم يتمكن من دفعهما جميعا      وسيرة علي رضي الله في معاوية ومتبعيه يخالف ذلك فإن المزية التي كانت تفوت أهل مصر والشام من انقطاع نظر أمير المؤمنين رضوان الله عليه لا يقابلها قتل مائة ألف من المسلمين فلو كان المرعى في ذلك الموازنة بين رتب المصالح لكان ذلك يقتضي أن ينحجز علي عن جده ويكف من غربه وحده فإذا كان رضي الله عنه جادا مستهنيا بكثرة القتلى والصرعى غير محتفل بأن يقتل أضعاف الذين قتلوا أنفسا وقطعا فكأنه رضي الله عنه كان يرى بناء الأمر على الشهامة والصرامة وتنكب الاستكانة واجتناب المداراة والمداجاة     وكان لا يلين ولا يستكين ولا يغض الدواهي إذا سيم مخالفة الحق من شماسه ولا ينحط عن الدعاء إلى الحق والسيف مسلول على رأسه وكان   شوفه دعاء الخلق إلى اللقم الواضح والسبيل اللائح كما قال رسول الله  أن وليتموها عليا فيحملكم على المحجة الغراء ولو وضع على رقبته السيف ولا يبعد مسلكه عن مدرك الحق فإن هذا مؤيد الملة بنصر الله تعالى     قلنا قد صار أولا طوائف من جلة أصحاب رسول الله  إلى التخلف عن القتال في زمن علي رضي الله عنه وإيثار السكون والركون إلى السلامة والتباعد عن ملتطم الغوائل منهم سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانا من العشرة المبشرين بالجنة   وممن تخلف أولا أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأبو أيوب الأنصاري وتبع هؤلاء أمم من الصحابة ولم يشتد نكير على عليهم     أما سعد لما ندبه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى القتال قال لا أخرج   أو يكون لي سيف له لسانان يشهد للمؤمن بإيمانه وعلى المنافق بنفاقه      وقال أسامة لو دخلت يا أمير المؤمنين في جوف أسد لدخلت معك ولكن لا مسامحة مع النار     وقام أبو موسى في قومه وكان مرموقا في اليمن فقال إني لكم ناصح أمين ولا تستغشوني اغمدوا سيوفكم واكسروا رماحكم واقطعوا أوتاركم فإني سمعت رسول الله  يقول ستكون فتن كقطع الليل المضطجع فيها خير من القاعد والقاعد خير من القائم والقائم خير من الماشي    وكان علي رضي الله عنه يدر عليهم أرزاقهم وأعطيتهم من بيت المال ولو نقم منهم ما رآه لبدأهم بنصب القتال عليهم      فلم أجد بدا من التنبيه على هذا ثم ما أظن على أن الأمر يفضي إلى ما أفضى إليه ومعظم تلك المعارك وجرت عن اتفاقات ردية ثم اشتهر منه أنه ندم على ما قدم ولما تفاقم الأمر وكادت السيوف تفني المجاهدين وجند الله المرتبين في ثغور المسلمين أجاب إلى التحكيم في خلعه على ما سيأتي في شرح بعض مجاري تلك الأحوال إن شاء الله عز وجل في أبوابها فقد استبان الأصل الذي مهدناه من وجوب النظر للمسلمين في جلب النفع والدفع في النصب والخلع والله الموفق للصواب     ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته وكثرت عاديته وفشي احتكامه واهتضامه وبدت فضاحته وتتابعت عثراته وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام ولم يجد من تنصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيدوا وكان ذلك سببا في ازدياد المحن وإثارة الفتن ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو   أتباع وأشياع ويقوم محتسبا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدما والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع وسيأتي هذا الفن على أبلغ وجه في البيان والله المستعان    فصل         إذا أسر الإمام وحبس في المطامير وبعد توقع خلاصه وخلت ديار الإسلام عن الإمام فلا سبيل إلى ترك الخطط شاغرة ووجود الإمام المأسور في المطامير لا يغني ولا يسد مسدا فلا نجد والحالة هذه من نصب إمام بدا     قلت لو سقطت طاعة الإمام فينا ورثت شوكته ووهنت عدته ووهت منته ونفرت منه القلوب من غير سبب فيه يقتضيه وكان في ذلك على فكر ثاقب ورأي صائب لا يؤتى في ذلك عن خلل في عقل أو عته أو   خبل أو زلل في قول أو فعل أو تقاعد عن نيل وفضل ولكن خذله الأنصار ولم تواته الأقدار بعد تقدم العهد إليه وصحيح الاختيار ولم نجد لهذه الحالة مستدركا ولا في تثبيت منصب الإمامة له متمسكا وقد يقع مثل ذلك عن ملل أنتجه طول مهل وتراخي أجل فإذا اتفق ذلك فقد حيل بين المسلمين وبين وزر يستقل بالأمر فالوجه نصب إمام يطاع ولو بذل الإمام المحقق أقصى ما يستطاع وينزل هذا منزله ما لو أسر الإمام وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإسلام ولا يصل إلى مظان الحاجات أثر رأي الإمام إذا لم يكن يده الطولى ولم يبسط طاعته على خطة الإسلام عرضا وطولا ولم يصل إلى المارقين صوله ولم ينته إلى المستحقين طوله والإمام لا يغنى لعينه ولا يقتصر لانقطاع نظره على موافاة حين حينه ولست أستريب أن مولانا كهف الأمم مستخدم السيف والقلم تبادر النظر في مبادئ هذا الفصل للعوص على مغاص القاعدة والأصل وقد يغني التلويح عن التصريح والمرامز والكنايات عن البوح بقصارى الغايات     فهذه تفاصيل ما يتضمن الخلع والانخلاع وتتمة الغرض موقوفة على فصلين سيوفق الله جلت عظمته في عقدهما  فصل         قد ذكرنا في شرائط الإمامة وصفات الأئمة السلامة في بعض الحواس وفصلنا القول في سلامة البدن والقول الضابط فيما يطرأ من ذلك أن زوال نظر البصر يقطع الإمامة ويتضمن انخلاع الإمام كالجنون واختلال نظر البصر إذا أمكن معه التوصل إلى الإدراك غير مانع من العقد ولا قاطع له في الدوام وكذلك الوقر      فأما الصمم البالغ فقد ذكرنا إنه مانع من العقد أولا واضطرب بعض الخائضين في هذه المسالك في الصمم الطارئ      والوجه عندي القطع بأن المانع منه قاطع كالعمى وما يؤثر من نقصان الأعضاء في الابتداء فأثره في الدوام يضاهي أثره في العقد فليعتبر القطع بالمنع    فصل         قد تعدينا حد الاختصار في تقاسيم ما يطرأ على المتصدي للإمامة من الفسوق والعصيان وغيره     ومعقود هذا لفصل ومقصوده يتحرى مراسم ومناظم تجري في التفصيل الطويل مجرى التراجم ليستفاد التفصيل والتعليل وذكر مسالك الدليل مما سبق وضم النشر بالمعاقد المشيرة إلى المقاصد مما نأتي به الآن فنقول  الهنات والصغائر محطوطة وما يجري من الكبائر مجرى العثرة والفثرة من غير استمرار عليها لا يوجب عندنا خلعا ولا انخلاعا      وقد قدمت فيه عن بعض أئمتنا خلافا واما التمادي في الفسوق إذا جر خبطا وخبلا في النظر كما تقدم تصويره وتقديره فذلك يقتضي خلعا أو انخلاعا على ما سأفصله في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى      وانقطاع نظر الإمام بأسر بعد انفكاكه أو بسقوط طاعته أو مرضة مزمنة تتضمن اختلالا بينا واضحا وخرما في الرأي لائحا يوجب الخلع وخلل الحواس ونقصان الأعضاء يندرجان تحت ضبط واحد وهو اعتبار الدوام بالابتداء      فهذه مجامع القول فيما تقدم      ولو كان القائم بأمور المسلمين يتعاطى على الدوام ما هو من قبيل الكبائر كالشرب ولكنه كان مثابرا على رعاية المصالح فالقول في ذلك لا يبلغ مبلغ القطع عندي فقد يخطر للناظر أنه إذا لم يتضمن خرما وفتقا ولم يمنع الإمام ذا حق حقا ففرض الدوام فيه نازل منزلة كبيرة تنذر وتصعر على وجه لا يقتضي انقطاع أثر وارتفاع نظر     والظهر عندي أن ذلك مؤثر فإن الكبيرة إذ كانت عثرة فإنها لم تجر   خبالا ولم تتضمن سوء الظن وإذا تتابع فن من العصيان أشعر باجتراء الإمام واستهانته بأحكام الإسلام وذلك يسقط الثقة بالدين ويمرض قلوب المسلمين      وهذا مظنون غير مقطوع به وقد أسلفت فيما تقدم أن مسائل الإمامة بعضها مقطوع به وبعضها يتلقى من طرائق الظنون    فصل         قد أجرينا الخلع والانخلاع في إدراج الباب والإحاطة بالفصل بينهما من أعظم مقاصد الكتاب فنقول والله المستعان وهو رب الأرباب      الجنون المطبق الذي لا يرجي زواله يتضمن الانخلاع بالإجماع ولا حاجة إلى إنشاء خلع ورفع      وكيف يتوقع ذلك والمجنون مولى عليه في نفسه وعين جنونه يوجب اطراد الحجر عليه في خاصته فكيف يقدر إماما إلى اتفاق جريان خلعه بالجنون كالموت إذا وإذا بقي مكلفا ولكن عراه خبل وعته ما يوئس الزوال بحيث لا يحتاج في دركه إلى اجتهاد وافتكار ونظر واعتبار     فهذا عندي نازلة منزلة الجنون الذي يتضمن الانخلاع بنفسه فأما الفسق المؤثر فالقول فيه ينقسم فإن كان يحتاج في إظهار خلله إلى اجتهاد فلا يقضى بأنه يتضمن الانخلاع بنفسه بل الأمر فيه مفوض إلى نظر الناظرين واعتبار المعتبرين     وإذا أسر الإمام وسقطت طاعته كما سبقت صفته فلا بد من إنشاء الخلع فالقول الضابط في ذلك أن ما ظهر بعد زواله فهو موجب للانخلاع وما احتيج فيه إلى نظر وعبر لم يتضمن بنفسه انخلاعا ووقوع الإمام في الأسر وإن كان مقطوعا به لا أراه مقتضيا انخلاعا فإن فرض فكه مما يتعلق بالاختيار والإيثار من آسريه ولو قدر ذلك قبل خلعه كان إماما فمن هذه الجهة لا ينخلع ما لم يخلع فالذي يقتضي الانخلاع سبب ظاهر لا خفاء به ويبعد ارتقاب زواله ولا يقدر تعلق زواله باختيار مختار وإيثار مؤثر فما كان كذلك فإنه يتضمن الانخلاع كالجنون المزيل للتكليف إذا استحكم والعته والخبل الذي يظهر خلله من غير احتياج إلى نظر فيكون ميئوس الزوال وكل سبب يحتاج في إظهار خلله إلى نظر فإن اقتضى خلعا فهو إلى الناظرين كما سنذكره في خاتم الفصل إن شاء الله عز وجل وإن ظهر السبب كالأسر وارتقب ارتفاعه باختيار فهو ما يقتضي إنشاء الخلع ولا يوجب الانخلاع وكذلك سقوط الطاعة      فإن قيل      كان عثمان رضي الله عنه إذا حوصر في الدار ساقط الطاعة فما قولكم في إمامته مدة بقائه إلى أن استشهد     قلنا كان إماما إلى أن أدركته سعادة الشهادة وما كان سقوط الطاعة     ميئوس الزوال وإنما حاصره شرذمة من الهمج الأرذال ونزاع القبائل      وكان يرى رضي الله عنه المتاركة والاستسلام والإذعان لحكم الله تعالى      ولم يؤثر أن يراق بسببه محجمة حتى قال لغلمانه من ألقى سلاحه فهو حر فلم تجر محاصرته مجرى الأسر المقدم تصويره      فإن قيل رددتم في أثناء الكلام ذكر ما يتعلق بنظر الناظرين فما يوجب الخلع فبينوه واذكروا المعنى بالنظر      قلنا لم نرد بالنظر ما يجر غلبات الظنون كنظر المجتهدين في فنون المظنونات ولو كان الأمر الطارئ مجتهدا فيه لم يسغ خلع الإمام به قطعا فليثبت هذا أصلا في الباب فإن الاجتهادات بجملتها لا وقع لها بالإضافة إلى الإمام وهو يستتبع المجتهدين أجمعين ولا يتبع أحدا وإنما عنينا بالنظر مزيد فكر وتدبر من أهله يفيد العلم والقطع باختلال أمور المسلمين بسبب ما طرأ من فسق أو خبل     فإن قيل قد قدمتم أن وجه خلع الإمام نصب إمام ذي عدة فما ترتيب القول في ذلك     قلنا الوجه خلع المتقدم ثم نصب الثاني يدفعه دفعه للبغاة كما سبق تقريره      فإن قيل فمن يخلعه      قلنا الخلع إلى من إليه العقد وقد سبق وصف العاقدين بما فيه مقنع وبلاغ تام      وقد ذهب بعض من لم يخبر هذه الحقائق إلى أنا نشترط الإجماع في الخلع وإن لم نشترطه في العقد وهذا زلل عظيم فإن الحاجة قد ترهق إلى الخلع ولو انتظر وفاق علماء الآفاق لاتسع الخرق وعظم الفتق      نعم لا بد في الخلع والعقد من اعتبار شوكة وقد أوضحنا كيفية اعتبارها في البابين      والآن كما انتهى مقصدنا في هذه الفنون وقد جرت بيمن أيام صدر الإسلام كهف الأنام على زمره لم يعهد مثلها ولم يجر في تصانيف المتقدمين شكلها ونبهت على دقائق لم يخظر للغواصين فرعها وأصلها     على أني لم أذكر والله إلا أطرافا فإن كتاب الإمامة ليس مصقودي في هذا المجموع وحق التابع أن يؤخر فيوجز جمام الكلام إلى المتبوع

فصل         الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة فرام العاقدون له عهدا أن يخلعوه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا باتفاق الأمة فإن عقد الإمامة لازم لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمامة معنى فأما الإمام إذا أراد أن يخلع نفسه فقد اضطربت مذاهب العلماء في ذلك فمنع بعضهم ذلك وقضى بأن الإمامة تلزم من جهة الإمام لزومها من جهة العاقدين وكافة المسلمين      وذهب ذاهبون إلى أن الإمام له أن يخلع نفسه واستمسك بها صح تواترا واستفاضة من خلع الحسن بن علي نفسه وكان ولي عهد أبيه ولم يبد من أحد نكير عليه     والحق المتبع في ذلك عندي أن الإمام لو علم أنه خلع نفسه لاضطربت   الأمور وتزلزت الثغور وانجر إلى المسلمين ضرار لا قبل لهم به فلا يجوز أن يخلع نفسه وهو فيما ذكرناه كالواقف من المسلمين في صف القتال مع المشركين إذا أراد أن ينهزم وعلم أن الأمر بهذا السبب يكاد أن ينثلم وينخرم فيجب عليه المصابرة وإن لم يكن متعينا عليه الابتدار للجهاد مع قيام الكفاة به وإن علم أن خلعه نفسه لا يضر المسلمين بل يطفئ نائرة ثائرة ويدرأ فتنا متظافرة ويحقن دماء في أهبها ويريح طوائف المسلمين عن نصبها فلا يمتنع أن يخلع نفسه وهكذا كان خلع الحسن نفسه وهو الذي أخبر عنه رسول الله  إذ كان الحسن صبيا رضيعا فكان يمر يده على رأسه ويقول      إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين      وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال أقيلوني فإني لست بخيركم      دليل على أن الإمام ليس له أن يستقل بنفسه انفرادا واستبدادا في الخلع ولذلك سأل رضي الله عنه الإقالة فقالوا والله لا نقيلك ولا نستقيلك     وهذا محمول على ما كان الأمر عليه من ارتباط مصلحة المسلمين باستمرار الصديق على الإمامة وإدامة الإقامة والاستقامة عليها وكان لا يسد أحد   في ذلك مسده كما سيأتي ذكره في إمامة الصديق رضي الله عنه ولو كان لا يؤثر خلعه نفسه في إلحاق ضرار ولا في تسكين نايرة ولو خلع نفسه لقام آخر مقامه فلست قاطعا في ذلك جوابا بل أرى القولين فيه متكافئين قريبي المأخذ والأظهر عندي أنه لو حاول استخلاء بنفسه واعتزالا لطاعة الله سبحانه لم يمتنع وذلك مظنون لا يتطرق إليه في النفي والإثبات قطع فليقع ذلك في قسم المظنونات    فصل        قد انقضى بنجاز هذه الفصول مبلغ غرضنا في ذكر ما تنعقد به الإمامة أولا وذكر صفات الأئمة ونعوت الذين يتولون عقد الإمامة وهم المسمون أهل الحل والعقد ثم ذكرنا ما يطرأ على الأئمة في الصفات التي تؤثر ف الانخلاع أو تسلط على الخلع ونحن نرى الآن أن نذكر من يستنيبه الإمام في مكر الدهور ويوليه مقاليد الأمور ونوضح مراتبهم ومناصبهم وما يقتضيه كل منصب من الخلال والخصال فإن غرضنا لا يفضي إلى قصاراه ولا يبلغ منتهاه ما لم نمهد في الولاة أجمعين قواعد تنبه على صفات الحماة على تباين الرتب والدرجات حتى إذا انتهى الناظر إليها وانجرت المقدمات إلى فرض خلو الأرض ومن عليها من المستجمعين لأوصاف الولاة واستبان مواقع الكلام وتفطن لمواضع المغزى والمرام   كان خوضه في مقصود الكتاب على بصيرة إذا جرى على هذه الوتيرة فليقع الخوض في تقاسيم المستنابين ممن يرتبه الإمام بمقام على أنحاء وأقسام ونحن نبغي ضبطها وجمعها وربطها على إتقان وإحكام إن شاء الله عز وجل      فالذي ينصبه الإمام ينقسم إلى من يحل محل الإمام في جميع الأمور استيعابا وإلى من لا ينزل منزلته في جميع الأحكام بل يختص بتولي بعضها فأما من يستقل بجملة الأحكام المرتبطة بالأئمة فينقسم إلى من يوليه الإمام عهد الإمامة بعد وفاته وإلى من يقيمهمقام نفسه في حياته     فأما من يوليه العهد بعد وفاته فهذا إمام المسلمين ووزر الإسلام والدين وكهف العالمين وأصل تولية العهد ثابت قطعا مستند إلى إجماع حملة الشريعة فإن أبا بكر خليفة رسول الله  لما عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وولاه الإمامة بعده لم يبد أحد من صحب رسول الله  نكيرا ثم اعتقد كافة علماء الدين تولية العهد مسلكا في إثبات الإمامة في حق المعهود إليه المولى ولم ينف أحد أصلها أصلا وإن كان من تردد

وتبلد ففي صفة المولى أو المولى فأما أصل العهد فثابت باتفاق أهل الحل والعقد ثم تكلم العلماء في تفاصيل تولية العهود وانتهوا إلى كل مقصود ونحن نوضح مما أوردوه عيونه ونصف ضروب الكلام وفنونه ونوضح القطعيات والمسائل المظنونة فالمقطوع به أصل التولية فإنه معتضد متأيد بالإطباق والوفاق والإجماع الواجب الاتباع وفي الإجماع بلاغ في روم القطع وإقناع ولكن معنى تصحيح التولية واضح في مسالك الإيالة فلا بد من التنبيه له فإذا كانت الإمامة تنعقد باختيار واحد أو جمع من المختارين كما سبق تفصيله وتقدم تحصيله فالإمام الذي هو قدوة المسلمين ومؤيل المؤمنين وقد مارس الأمور وقارع الدهور وخبر الميسور والمعسور وسبر على مكر العصور النقائص والمزايا ودان طبقات الخلق والرعايا وهو في استمرار سلطانه واستقرار ولايته في زمانه أولى بأن ينفذ توليته ويعمل خيرته فإذا هذا معلوم قطعا ومما يقطع به اشتراط صفات الأئمة في المعهود إليه فإنه إمام حقا متصد للمنصب الأبهى راق إلى المرقى الأعلى ومما نعلمه من غير مراء تولية العهد لا تثبت ما لم يقبل المعهود إليه العهد فإن المولى وإن كان مستناب الإمام فالتولية من الإمام العاهد المولى عقد الإمامة    للمولى ولا تنعقد الإمامة بمجرد العقد ما لم يقبل المعين ومما يدرك مدارك القطع أن ولي العهد لا يلي شيئا في حياة الإمام وإنما ابتداء زمانه وسلطانه إذا قضى الإمام الذي تولى نصبه نحبه فهذه جملة معلومة وسنسرد أمورا واقعة في مسالك الظنون مع أحكام تستند إلى القواطع ولم يبد الفصل بين المقطوع به وبين المظنون تمييزا وتحييزا وأنا أسوقها على وجوهها وأفصل في أدراج الكلام وتقاسيم الأحكام بين المعلوم منها وبين المظنون إن شاء الله عز وجل      فمن الأحكام المظنونة أن الإمام لو عهد إلى ولده أو والده ففيه اختلاف العلماء      فمنهم من لم يصحح العقد بتوليته فإن ذلك يتضمن تزكية المولى وشهادته باستجماع خصال الكمال والاتصاف بالخصال التي ترعى في المنصب الأعلى فإذا كان لا يقبل شهادة أحدهما للثاني في أمر نزر يسير وخطب حقير فلأن لا يقبل في أعلى المراتب وأرفع المناصب أولى     ومنهم من صحح العقد والعهد وزكى الإمام عن ارتقاب التهم والصفات المعتبرة في الإمامة مشهورة غير منكورة ولا يفرض عقد الإمامة إلا في حق من لهج بمعاليه وطنت خطة الإسلام بمناقبه ومساعيه ومن انتهى في صفاته وسماته إلى التفرد والتوحد عن طبقات الخلائق بالرقي إلى الذروة العليا في الفضائل وحميد الطرائق لم يكن ظهور تخصصه     بالمزايا التي فضل بها البرايا مفتقرا إلى تزكية مزك وإطراء مطر ولو اشتهر رجل بصفة العدالة واستقامة الحالة فشهد أبوه على عدالته قبلت الشهادة فإن عدالة الأصل المشهود على شهادته لا تتوقف بثبوتها على بناء الفرع في الشهادة ولو آمن مسلم ابنه الكافر صح أمانه فإن عقد الأمان لا يترتب على مباحثة في الصفات وفحص عن تفاصيل الحالات فالظاهر عندي تصحيح تولية العهد من الوالد لولده ولكن المسألة المظنونة ليس لها مستند قطعي ولم أر التمسك بما جرى من العهود من الخلفاء إلى بنيهم لأن الخلافة بعد منقرض الأربعة الراشدين شابتها شوائب الاستيلاء والاستعلاء وأضحى الحق المحض في الإمامة مرفوضا وصارت الإمامة ملكا عضوضا فإن قيل إذا ولي الإمام ذا عهد فهل يتوقف تنفيذ عهده على رضا أهل الاختيار في حياته أو من بعده      قلنا ذكر بعض المصنفين في اشتراط ذلك خلافا والذي يجب القطع به إن ذلك لا يشترط فإنا على اضطرار نعلم أن أبا بكر رضي الله عنه لما ولى عمر لم يعدم على توليته مراجعة واستشارة ومطالعة وإذا مضى فيه ما حاوله لم يسترض أحدا من أهل الاختيار على توافر المهاجرين والأنصار     نعم روى أن طلحة رضي الله عنه قال لأبي بكر لقد استخلفت علينا فظا غليظا فقال أبو بكر وهو يجود بنفسه أجلسوني فأجلس رضوان الله عليه وقال لئن سألني ربي عن تقويضي أمور المسلمين إلى عمر لأقولن

استخلفت على أهلك خير أهلك     وقد ذكر بعض المصنفين في اشتراط مراجعة أهل الاختيار في تولية العهد خلافا فأجرى الخلاف في ذلك مجرى الخلاف في المظنونات ووضوح غرضنا في ذلك يغني عن بسط القول فيه والشكوى إلى الله ثم إلى كل محصل مميز من تصانيف ألفها مرموق متضمنها ترتيب وتبويب ونقل أعيان كلام المهرة الماضين والتنصيص على ما تعب فيه السابقون مع خبط كثير في النقل وتخليط وإفراط وتفريط لا يرضى بالتلقيب والتصنيف مع الاكتفاء بالنقل المجرد حصيف لم يكن في تأليفه وتصنيفه على بصيرة لم يتميز له المظنون عن المعلوم والتبست عليه مسالك الظنون بمدارك العلوم وإنما جر هذه الشكاية نظرى في كتاب لبعض المتأخرين مترجم بالأحكام السلطانية مشتمل على حكاية المذاهب ورواية الآراء والمطالب     من غير دراية وهداية وتشوف إلى مدرك غاية وتطلع إلى مسلك مفض إلى نهاية وإنما مضمون الكتاب نقل مقالات على جهل وعماية وشر ما فيه وهو الأمر المعضل الذي يعسر تلافيه سياقه المظنون والمعلوم على منهاج واحد وهذا يؤدي إلى ارتباك الممالك واشتباك المدارك والتباس اليقين بالحدوس واعتياض طرائق القطع في هواجس النفوس      ومن الأحكام المشكلة في سبل الظن في هذا الفن أن المعهود إليه متى يدخل وقت قبوله العهد اختلف العلماء في ذلك فذهب ذاهبون إلى أنه يدخل أو أن القبول بموت المولى كما يدخل وقت قبول الوصاية بموت الموصي ووجه ذلك أنه لا يملك المولى صاحب العهد إحكام الزهامة والإمامة ولا يستقل بالإيالة والسياسة ما دام المولي العاهد حيا فلا معنى للقبول في حال حياته كالوصاية      وصار صائرون إلى أنه يقبل في حياة العاهد فإن تولية العهد من عظائم الأمور وإنما يعهد الإمام إلى مستجمع لشرائط الإمامة نظرا للمسلمين واستيثاقا في الدين وسكونا إلى إعداد وزر وملاذ وركونا إلى اعتاد موئل ومعاذ وإنما يتم هذا الغرض بأن يلزم التولية في حياته فتقدر وفاته والإمامة معقودة وساحة للإمام مورودة مصمودة فينجر في الإمامة أذيالها ولا يتبتر أحوالها     وينبني على هذا الخلاف أمر خلع المعهود إليه فمن أخر القبول إلى

ما بعد الموت ملك المولي صرف المعهود غليه كما يصرف الموصي الموصى إليه ومن نجز القبول منه خلع المعهود إليه من غير سبب يقتضيه وصير الإمام العاهد كالمختار العاقد ومعلوم أن من صح منه عقد الإمامة من أهل الاختيار لم يملك الخلع على حكم الإيثار فكذلك القول في المولى العاهد مع المعهود إليه وينقدح في ذلك للخلاف وجه فإن الإمامة ما تمت بعد لولي العهد بخلاف من عقد له الإمامة أهل الاختيار والأظهر منع الخلع من غير سبب يوجبه ولو عين الإمام من ليس على شرائط الإمامة ولم يكن في حالة التولية على استجماع الصفات المرعية فالوجه بطلان التولية من جهة أنه أساء في الاختيار والغرض من العهد تنجيز نظر وكفاية للمسلمين هواجم خطر عند موت المولى على أقصى الإمكان في الحال والأوان وليس ذلك مقطوعا به أيضا فالاحتمال عند انعدام القواطع وانحسام البراهين السواطع مضطرب رحب وللظنون مجر وسحب ومن قال من يصلح للخلافة إذا أفضت الخلافة إلي فولي عهدي فلان ثم انتهت إليه النوبة لم يكن لما صدر منه قبل الخلافة وقع في الشرع وهذا متفق عليه على البت والقطع فإنه تصرف وليس إليه من الأمر شيء وقد ذكرنا في      القسم المقطوع به إن العاهد لو جعل الإمامة شورى بين محصورين صالحين للزعامة فالأمر ينحصر فيه والمستند القطعي فيه ما جرى لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذ جعل المر مفوضا بين الستة المشهورين فإذا اتفق مثل ذلك من إمام فتعيين واحد من المذكورين إلى من جعل الإمام التعيين إليه وإن لم يفوض التعيين إلى أحد فإلى أهل الاختيار أن يعينوا أفضل المذكورين كما سيأتي تفصيل القول في إمامة الفاضل والمفضول إن شار الله عز وجل     ولو رتب العاهد التولية في مذكورين صالحين للأمر فقال ولي العهد فلان فإن مات في حياتي ففلان فإن اخترمته المنية قبل موتي ففلان فهذا صحيح وعهده متبع فإن ذكر صالحين للأمر ورأى أن يرتب مراتبهم فليس ما جاء به منافيا للنظر للمسلمين فلزم تنفيذه وهذا متفق عليه لا خلاف فيه واستأنس الأئمة مع القطع بما كان من أمر سول الله  في أمراء جيش موتة فإنه قال صاحب الراية زيد بن      حارثة فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا منهم     ولو قال العاهد الإمام بعدي فلان ثم الإمامة بعده لفلان ثم الإمامة بعده لفلان فرتب الخلافة في مذكورين متهيئين معينين للإمامة بعد وفاته فأما المعين للأمر أولا فتفضى الخلافة إليه فإن مات ففي إفضاء الخلافة إلى المذكورين بعده خلاف وليس ذلك كذكره مترتبين في حياته عند تقدير وفاتهم يترتبون على تقديره مع استمرار سلطانه وامتداد زمانه

وعلى هذه القضية كانت تولية أمراء جيش مؤتة وإذا ذكر العاهد أولياء عهود بعد وفاته فأفضت الإمارة إلى الأول منهم فعهد هو إلى غير من ذكره العاهد الأول فالوجه تقديم عهده على عهد من تقدمه فإنه لما أفضى إليه الأمر فقد صار الوالي المستقل بأعباء الإمامة والعهد الصادر منه أحق بالإمضاء من عهد نبذه العاهد الأول ورأى أيامه وبين منقرض زمانه وسلطانه وبين نفوذ عهده الثاني اعتقاب أيام ونوبة إمام      وذهب بعض من خاض في هذا الفن أن ترتيب عهد الإمام الأول لا يتبع بالنقض ولا يتعقب بالرفض والصحيح ما اخترناه الآن من تنفيذ عهد من أفضت إليه الخلافة ولو شعب مشعب هذه القواعد لكثرت المسائل وتضاعفت الغوائل ولا يكاد يخفى مدركها على ذوي البصائر في الشريعة      وما مهدناه مغن عن الإمعان والإبلاغ ففيه أكمل مقنع وبلاغ والذي يجب الاعتناء به تمييز المقطوع به عن المظنون ومستند القطع الإجماع فما اتفق ذلك فيه تعين فيه تعين فيه الاتباع وما لم نصادف فيه إجماعا عرضناه على مسالك النظر والعبر وأعملنا فيه طرق المقاييس وأرمينا فيه سبل الاجتهاد     فهذا منتهى مقصدنا في استنابة الخليفة إماما بعده     فأما إذا استناب في حياته نائبا وفوض إلى نظره تنفيذ الأمور الناجزة فإن سلم إليه مقاليد الأمور كلها جعله يستقل وينفذ ويقضي ويمضي ويعقد ويحل ويولي ويعزل وهو في أموره كلها لا يطالع الإمام ولا يراجعه بل ينفرد ويستبد      فهذا غير سائغ فإن في تجويزه جمع إمامين وسنعقد في امتناع ذلك بابا وفاء بتراجم الكتاب إن شاء الله عز وجل      فإن قيل هذا المرشح للاستبداد متوحد بالأمور والإمام لا يشاركه فيما يتعاطاه وإنما الممتنع انتصاب إمامين قائمين بالأمور      قلنا هذا أبعد من الجواز فإن الإمام إنما ينتصب للقيام بمصالح الإسلام والنظر في مهمات الأنام بعين ساهرة فإذا آثر السكون إلى التعطيل والركون إلى التودع كان الإمام تاركا منصبه وصار بمنزلة من ليس إماما متصديا للإمامة وهذا غير مسوغ قطعا فهذا إن سلم الأمور إليه على الاستقلال والاستبداد وإن فوض إليه الأمور ولكنه كان بمرأى من الإمام ومسمع ولم يكن الإمام ذاهلا عن مجامع أموره وكان المتصرف المستناب يراجع الإمام فيما يجريه ويمضيه فهذا جائز غير ممتنع وهذا المنصب هو المسمى الوزارة     ثم الإمام لا يتوزر إلا شهما كافيا ذا نجدة وكفاية ودراية ونفاذ رأي واتقاد قريحة وذكاء فطنة ولا بد أن يكون متلفعا من جلابيب الديانة بأسبغها وأضفاها راقيا من أطواد المعالي إلى ذراها فإنه متصد لأمر     عظيم وخطيب جسيم والاستعداد للمراتب على قدر أخطار المناصب وقد قيل يشترط في المستوزر اجتماع شرائط الإمامة خلا النسب والاعتزاء إلى شجرة قريش      وأنا أقول      أما النجدة والكفاية فلا بد منهما وكذلك الورع فإنه رأس الخيرات وأساس المناقب ومن لم يتصف به فجميع ما فيه من المآثر يصير وسائل ووصائل إلى الشر وطرائق إلى اجتلاب الضر ولا يخفى على ذي بصيرة أن الفطن الماجن غير المرضي أضر على خليفة الله من الأحمق الغبي ولا شك أن العقل أصل الفضائل فإن لم يقترن به الورع والتقوى انقلب ذريعة إلى الفساد ومطية حائدة عن منهج الرشاد فوجب اشتراط استجماع الوزير شرائط المجتهدين ومراتب الأئمة في علوم الدين      وظاهر مذهب الشافعي رحمه الله أن ذلك مشروط في التصدي لهذا المنصب العلى وليس ذلك بدعا من أصل هذا الحبر وسنقرر من طريقته اشتراط استجماع القضاة رتب المجتهدين      فإذا كان يشترط ذلك فيهم فمن إليه نصب القضاة وصرفهم وترشيح الولاة لمهمات الأنام في خطة الإسلام أولى في معتقدة بالإمامة في دين الله وعلم الشريعة     وأنا بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده آت في ذلك بالحق المبين     وأمهد في هذا للناظرين مدرك اليقين والمستعان رب العالمين فأقول     أما الإمام فلا بد من أن يكون بالغا مبلغ المجتهدين قطعا فإنه وزر الدين والدنيا ومؤيل الخلائق أجمعين وهو مرجع الخلائق كلهم في مهماتهم على تفنن حالاتهم وأولى الأمور بالرعاية ما يتعلق بالنظر في قواعد الإسلام وضبط أصول الأحكام فلو لم يكن الإمام في الدين على أعلى منصب ومقام لكان مقلدا تابعا غير متبوع ولما كان ملاذ اللائذين ومعاذ المسلمين جامعا لشتات الآراء محتويا على مقاليد الشريعة مستقلا بالنظر في أمر الملة ولئن ساغ أن لا يربط أمر الدين برأي قوام على المسلمين والإسلام فليجر ترك الأمر سدى مجرى تخبيط الناس فيها فإن الدنيا إنما ترعى من حيث يستمد استمرار قواعد الدين منها فهي مرعية على سبيل التبعية ولولا مسيس الحاجة إليها على هذه القضية لكانت الدنيا الدنية حرية بأن يضرب عنها بالكلية والذي يكشف الغطاء في ذلك أن التقليد إنما سوغ عند تحقيق العجز عن الاستبداد بالاجتهاد ثم على المقلد نظر ضعيف في تخير قدوة وأسوة فلو كان الإمام مقلدا لحمل الناس على مقتضى تقليده وموجب نظره الواهي في تعيين من يقلده وهذا مستحيل لا يستريب فيه ذو تحصيل فإذا    الإمام من حيث كان قدوة الخلق وحاملهم على مسالك الحق وجب أن يكون على الاستقلال والاستجماع لخلال الكمال في الدين والدنيا ولو لم يكن كذلك لكان تابعا غير متبوع فأما من سوى الإمام فأحرى المنازل باجتماع الفضائل منصب الوزير القائم مقام الإمام في تنفيذ الأحكام فإن نظره يعم عموم نظر الإمام في خطة الإسلام ولكن من حيث ليس له رتبة الاستقلال يجب أن يراجع الإمام في مجامع الخطوب لا يبلغ اشتراط بلوغه مبلغ المجتهدين رتبة القطع فإنه لو قيل إنه ينفذ الأمور فإذا اعتاص عليه أمر راجع الإمام أو من يصلح للمراجعة من أئمة الدين وحملة الشريعة لم يكن ذلك هجوما على مخالفة مقطوع به إذ مرتبة الوزير وإن علت فإنها ليست رتبة المستقلين وإنما المستقل الإمام على أن الأظهر اشتراط كون الوزير الذي إليه تنفيذ الأمور إماما في الدين فإن ما يتعاطاه عظيم الخطر والغرر ويعسر عليه مراجعة الإمام في تفاصيل الوقائع وإنما يطالع الإمام في الأصول والمجامع فإذا لم يكن إماما في الدين لم يؤمن زلله في أمور المسلمين يتعذر تلافيها كالدماء والفروج وما في معانيها وما ذكرناه من الصفات في الوزير الذي إليه تنفيذ الأمور فأما إذا كان الإمام يتولى التنفيذ والمتصدي للوزارة يظهر فليس إليه افتتاح أمر وإنما هو بمنزلة السفير في كل قضية بين الإمام والرعية فإن كان الإمام يستضيء برأيه فيما يأتي ويذر فهو     مستشار مبلغ وليس إليه من الولاية شيء فلا يشترط فيه إلا أمران      أحدهما أن يكون موثوقا به بحيث تقبل روايته فإن ملاك أمره إخبار الجند والرعايا بما ينفذه الإمام وهذا يستدعي الورع وصدق اللهجة والتنفيذ والثقة يشعر بهما      والثاني الفطنة والكياسة فإن عظائم الأمور لا يدرك معانيها لينقلها إلا فطن لا يؤتى عن غفلة وذهول ومن لم يكن فطنا لم يوثق بفهمه لما ينهيه ولم يؤمن خطأه فيما يبلغه ويؤديه      ولا يضر أن يكون صاحب هذا المنصب عبدا مملوكا فإن الذي يلابسه ليس ولاية وإنما هو إنباء وإخبار والمملوك من أهل ولاية الأخبار     وذكر مصنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية إن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا وهذه عثرة ليس لها مقيل وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل فإن الثقة لا بد من رعايتها وليس الذمي موثوقا به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله وروايته مردودة وكذلك شهادته على المسلمين فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين      فمن لا يقبل شهادته على باقة بقل ولا يوثق به في قول وفعل كيف ينتصب وزيرا وكيف ينتهض مبلغا عن الإمام سفيرا      على أنا لا نأمن في أمر الدين شره بل نرتقب نفسا فنفسا ضره وقد توافت شهادة نصوص الكتاب والسنة على النهي عن الركون إلى الكفار والمنع من ائتمانهم وإطلاعهم على الأسرار      قال الله تعالى     لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا          وقال     لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء    وقال رسول الله  أنا برئ من كل مسلم مع مشرك لا ترا آي نارهما     واشتد نكر عمر على أبي موسى الأشعري لما تخذ كاتبا نصرانيا     وقد نص الشافعي رحمه الله عليه أن المترجم الذي ينهى إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب أن يكون مسلما عدلا رضيا ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار فليت شعري كيف يستجيز التصدي للتصنيف من هذا منهتى فهمه ومبلغ علمه ومن استجرأ على تأليف الكتب تعويلا على ذاربة في عذبة لسانه واستمكانه من طرف البسط في بيانه ولم يكن بحرا معلوليا في العلوم لا ينكش ولا يغضغض ونهرا معدودا لا ينزف ولا يمخض فقد تهدف فيما صنف واقتحم المهاوي وتعسف ولست والله في ذلك أتكلف وأتصلف      فهذا انتهاء مرامنا فيمن يستنيبه الإمام بعد وفاته أو في استمرار حياته في جميع الأمور      فأما الذين يستنيبهم في بعض الأمصار والأقطار أو في بعض الأعمال فأنا الآن بعد تقديم اللياذ برب البرية والتبرئ من الحول والقوة أذكر في مستنابيه قولا كافيا شافيا ومجموعا وجيزا وافيا إن شاء الله عز وجل فأقول     ولا الاستنابة لا بد منها ولا غناء عنها فإن الإمام لا يستمكن من     تولي جميع الأمور وتعاطيها ولا يفيء نظره بمهمات الخطة ولا يحويها     وهذه القضية بينة في ضرورات العقل لا يستريب اللبيب فيها ولكن لا يجوز له في مجامع الخطوب أن يطوق الكفاة الأعمال ثم يقطع البحث عنهم ويضرب عن سبر أحوالهم فإنه لو فعل ذلك لكان معطلا فائدة الإمامة مبطلا سر الزعامة والرياسة العامة بل عليه أن يمهد مسالك انتهاء الأخبار والأنباء إليه في مجامع الخطوب وتنصيب مرتبين للإنهاء وتبليغ الأخبار والأنباء حتى تكون الخطة بكلايته مربوطة وبرعايته محوطة ومجامع الأمور برأيه منوطة واطلاعاته على البلاد والعباد مبسوطة فهو يرعاهم كأنه يراهم وإن شط المزار وتقاصت الديار وليس من الممكن أن يتكلف الإحاطة بتفاصيل الأمور وآحاد أفرادها ولكنه لا يغفل عن مجامعها وأصولها واستبراء أحوال أصحاب الأعمال وأقوى ذرائعه في الوقوف على أحوال العمال دعاؤه المتظلمين إلى جنابه واستحثاثه أصحاب الحاجات على شهود بابه فإذا ثبتت هذه المقالة فإن سئلنا بعدها عن تفاصيل المستنابين وأعدادهم قلنا استقصاء القول في ذلك يتوقف على بيان ما يناط بالإمام من أشغال المسلمين في الدنيا والدين وسنعقد في ذلك بابا جامعا إن    شاء الله عز وجل ومضمونه غرة الكتاب المقصد واللباب ثم إذا تبين ما يرتبط بنظر الإمام فإنه يستنيب فيما إليه الكفاة المستقلين بالأمور ويجمع جميعهم اشتراط الديانة والثقة والكفاية فيما يتعلق بالشغل المفوض على ما سيأتي ذلك مفصلا إن شاء الله عز وجل في الباب المشتمل على تفصيل ما يتولاه الأئمة والذي نذكره الآن اشتراط رتبة الاجتهاد ونفي اشتراطها فنقول إن كان الأمر المفوض إلى المستناب أمرا خاصا يمكن ضبطه بالتنصيص عليه وتخصيصه بالذكر فلا يشترط أن يكون المستناب فيه إماما في الدين ولكنه يقتص أثر النص ويرتاد اتباع المستناب وتكفيه فيما ترشح له الديانة والاستقلال بالأمر المفوض إليه والهداية إليه وإن لم يكن مما يضبطه النص ولكن كان لا يستدعي القيام به الاطلاع على قواعد الشريعة فلا يشترط رتبة الاجتهاد بل يكفي من البصيرة ما ينتهض ركنا وذريعة إلى تحصيل الغرض المقصود في الأمر المفوض فالذي ينتصب لجباية الصدقات ينبغي أن يكون بصيرا بالأموال الزكائية ونصبها وأوقاصها وما أوجبه الله فيها وأمراء الأجناد وأصحاب الألوية والمراتب ينبغي أن يكونوا محيطين بما تقتضيه مناصبهم وإن كان الأمر المفوض مما لا تضبطه النصوص من المولى وكان عظيم الوقع في وضع الشرع     لا يكفي فيه الخوض في مخصوص من العلوم كالقضاء فالذي يؤثره الشافعي رضي الله عنه ومعظم الأئمة أنه يشترط أن يكون المتولي للقضاء مجتهدا ولم يشترط أبو حنيفة رحمه الله ذلك وجوز أن يكون مقلدا يستفتي فيما يعن من المشكلات المفتي ويحكم بموجبه وهذا عندنا مظنون لا يتطرق القطع إلى النفي والإثبات فيه وسيأتي ذلك مشروحا موضحا إن شاء الله عز وجل والذي ذكرناه الآن جمل يجري مجرى الأساس والتوطئة وتمهيد القواعد      ونحن نختم هذا الباب بنكته لا بد من الإحاطة بها فنقول     قد دلت المرامز التي ذكرناها على صفات الولاة فأما إذا طرأت عليهم أحوال لو كانوا عليها ابتداء لما جاز نصيبهم فوجه القول في طرئانها عليهم كوجه في طرئان الصفات المنافية لعقد الإمامة على الإمام وقد مضى ذلك على أبلغ وجه في البيان ولكنا ذكرنا أن الفسق الذي يجري مجرى العثرة لا يوجب خلع الإمام ولا انخلاعه فلو فرض مثل ذلك في حق بعض المستنابين فالإمام يخلعه ولا يجري أمر المستناب الذي هو في قبضة الإمام مجرى الإمام الذي لو تعرض لخلعه لارتجت      خطة الإسلام بأعطافها وأيضا فإن يخلع القاضي الإمام ويد الخليفة لا تطاولها يد ولو سوغ خلع الإمام لاستحال أن يتصدى لخلع الإمام من يشاء من الأتباع وقد مضى من ذلك ما في بعضه إقناع     وستأتي صفات القضاة والولاة اقترانا بالتولية وطرئانا وما يوجب الخلع والانخلاع   الباب السادس       في إمامه المفضول         اختلفت الخائضون في هذا الفن في إمامة المفضول على آراء متفاوتة ومذاهب متهافتة ولو ذهبت أذكر المقالات وأستقصيها وأنسبها إلى قائليها وأعزيها لخفت خصلتين      إحداهما خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها وتعاففها نفسي الأبية وتحتويها وهي سرد فصل منقول عن كلام المتقدمين منقول وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال والتشييع بعلوم الأوائل والإغارة على مصنفات الأفاضل وحق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفا وجمعا وتصنيفا أن يجعل مضمون كتابه أمرا لا يلغى في مجموع وغرضا لا يصادف في تصنيف ثم إن لم يجد بدا من ذكر ما ذكر أتى به في معرض التذرع والتطلع إلى ما هو المقصود والمعمود فهذه واحدة      والخصلة الثانية اجتناب الإطناب وتنكب الإسهاب في غير مقصود الكتاب     فأعود وأقول ذهبت طوائف منهم الزيدية إلى تصحيح عقد الإمامة للمفضول على الإطلاق والإرسال من غير استفصال والذي يتعين     الوقوف عليه في صدر الباب أن الذي يقع التعرض له من الفضل والقول في الفاضل والمفضول ليس هو على أعلا القدر والمرتبة وارتفاع الدرجة والتقرب إلى الله تعالى في عمله وعلمه فرب ولي من أولياء الله هو قطب الأرض وعماد العالم لو أقسم على الله لأبره وفي العصر من هو أصلح للقيام بأمور المسلمين منه فالمعني بالفضل استجماع الخلال التي يشترط اجتماعها في المتصدي للإمامة فإذا أطلقنا الأفضل في هذا الباب عنينا به الأصلح للقيام على الخلق بما يستصلحهم      وهذا تنبيه على معنى التفضيل وسيأتي مشروحا في أثناء الباب على التفصيل إن شاء الله عز وجل فإذا تقرر ذلك فقد صار طوائف من أئمتنان إلى تجويز عقد الإمامة للمفضول مع التمكن من العقد للأفضل الأصلح واعتلوا بأن المفضول إذا كان مستجمعا للشرائط المرعية فاختصاص الفاضل بالمزايا اتصاف بما لا تفتقر الإمامة إليه فإذا عقدت الإمامة لمن ليس عاريا من الخلال المعتبرة استقلت بالصفات التي لا غنى عنها لا مندوحة وليس للفضائل نهاية وغاية     وذهب معظم المنتمين إلى الأصول من جملة الأئمة إلى أن الإمامة لا تنعقد للمفضول مع إمكان العقد لفاضل ثم تحزب هؤلاء حزبين وتصدعوا صدعين فذهب فريق إلى أن مدرك ذلك القطع وصار فريق إلى أن المسألة من الظنونات التي لا يتطرق إليها أساليب العقول ولا قواطع الشرع المنقول ومسلك الحق المبين ما أوضحه الآن للمسترشد المستبين    فأقول لا خلاف أنه إذا عسر عقد الإمامة للفاضل واقتضت مصلحة المسلمين تقديم المفضول وذلك لصغو الناس وميل أولي البأس والنجدة إليه ولو فرض تقديم الفاضل لاشرأبت الفتن وثارت المحن ولم بجد عددا وتفرقت الأجناد بددا فإذا كانت الحاجة في مقتضى الإيالة تقتضي تقديم المفضول قدم لا محالة إذ الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة فإذا كان في تقديم الفاضل اختباطها وفسادها وفي تقديم المفضول ارتباطها وسدادها تعين إيثار ما فيه صلاح الخليفة باتفاق أهل الحقيقة ولا خلاف أنه لو قدم فاضل واتسقت له الطاعة ونشأ في الزمن من هو أفضل منه فلا يتبع عقد الإمامة للأول بالقطع والرفع فإذا وضح ما ذكرته فأقول إن تهيأ لأهل الاختيار تقديم الفاضل من غير مانع مدافع وتحقق الاستكمان من ترشيح الأصلح فيجب القطع والحالة هذه بإيجاب تقديم الأفضل الأصلح والذي يحقق ذلك أن الإمام إذا تصدى له مسلكان في مهم ألم وخطب أعضل وأدلهم وتحقق أن أحدهما لو آثره واختاره لعمت فائدته وعائدته وعظم وقعه نفعا ودفعا ولو سلك المسلك الثاني لم يكن بعيدا في مقتضى الاختيار من مدارك الرشاد ولا جارا أضرارا فلا خلاف بين المسلمين أجمعين إنه يتعين تقديم الأنفع وإذا كان يتحتم ذلك في الأمور الجزئية على الإمام المطاع علي أقصى ما يستطاع فلان يجب على أهل الاختيار أن يؤثروا الأكمل والأفضل أولى فإن مزيد الكفاية ومزية الهداية والدراية ليس هين الأثر قريب الوقع فلا ارتياب في إيجاب تحصيل ذلك للمسلمين إذا سهل مدركه ولم يتوعر مسلكه      ولكن قد تقدم أن الإمامة لا تنعقد في اختيارنا إلا بعقد من يستعقب عقده منعة وشوكة للإمام المعقود له بحيث لا تبعد من الإمام أن يصادم بها من نابذه وناوأه ويقارع من خالفه وعاداه وإذا فرض العقد للمفضول على هذا الوجه ففي الحكم بأن الإمامة غير منعقدة له فتن ثائرة وهيجان نائرة وقد يهلك فيها أمم ويصرع الأبطال الذين هم نجدة الإسلام على السواعد واللمم ولا يفي ما كنا نرقبه من مزايا الفوائد بتقديم الفاضل بما نحاذره الآن من تأخر المفضول وقد قدمنا أن المصلحة إذا اقتضت تقديم المفضول قدمناه فآل حاصل الكلام ومنتهى المرام إلى أنا نقطع بتحريم تقديم المفضول مع التمكن من تقديم الفاضل ولكن إذا اتفق تقديم المفضول واختياره مع منعة تتحصل من مشايعة أشياع ومتابعة أتباع فقد نفذت الإمامة نفوذا لا يدرأ وإن جرى العقد من غير منعة فالإمامة للفاضل عندي لا تنعقد على هذا الوجه فما الظن بالمفضول      وهذا مشكل عظيم بينته وسر جسيم في الإيالة أعلنته ولا يحظى والله بهذا الكتاب إلا من وافقه التوفيق وساوقه التحقيق فكم فيها من عقد في مشكلات فضضتها وأبكار من بدائع المعاني افتضضتها فإذا وضح القول في إمامة الفاضل والمفضول فأنا وراء ذلك أقول     قد تقدم في صدر الباب أن الأفضل هو الأصلح فلو فرضنا مستجمعا      للشرائط بالغا في الورع الغاية القصوى وقدرنا آخر أكفا منه وأهدى إلى طرق السياسة والرياسة وإن لم يكن في الورع مثله فالأكفى أولى بالتقديم      ولو كان أحدهما أفقه والثاني أعرف بتجنيد الجنود وعقد الأولوية والبنود وجر العساكر والمناقب وترتيب المراتب والمناصب فلينظر ذو الرأي إلى حكم الوقت فإن كان إكناف خطة الإسلام إلى الاستقامة والممالك منتفضة عن ذوي العرامة ولكن ثارت بدع وأهواء واضطربت مذاهب ومطالب وآراء والحاجة ماسة إلى من يسوس الأمور الدينية أمس فالأعلم أولى      وإن تصورت الأمور على الضد مما ذكرناه ومست الحاجة إلى شهامة وصرامة وبطاش يحمل الناس على الطاعة ولا يحاش فالأشهم أولى بأن يقدم     والآن كما وضح المقال وزال الإشكال فلنختم الكلام ولنخص بالباب الذي يليه    الباب السابع       في منع نصب إمامين         إذا تيسر نصب إمام واحد يطبق خطة الإسلام ويشمل الخليفة على تفاوت مراتبها في مشارق الأرض ومغاربها أثره تعين نصبه ولم يسع والحالة هذه نصب إمامين وهذا متفق عليه لا يلقى فيه خلاف ولما استتبت البيعة لخليفة رسول الله  أبي بكر الصديق ثم استمرت الخلافة إلى منقرض زمن الأئمة رضي الله عنهم أجمعين فهم على الاضطرار من غير حاجة إلى نقل أخبار من مذاهب المهاجرين والأنصار أم مبنى الإمامة على أن لا يتصدى لها إلا فرد ولا يتعرض لها إلا واحد في الدهر ومن لم يحط بدرك ذلك من شيم العاقدين والذين عقد لهم فهو بعيد الفهم فدم القريحة مستميت الفكر     وقد تقرر من دين الأمة قاطبة أن الغرض من الإمامة جمع الآراء المشتتة وارتباط الأهواء المتفاوتة وليس بالخافي على ذوي البصائر أن     الدول إنما تضطرب بتحزب الأمر وتفرق الآراء وتجاذب الأهواء ونظام الملك وقوام الأمر بالإذعان والإقرار لذي رأي ثابت لا يستبد ولا ينفرد بل يستضيء بعقول العقلاء ويستبين برأي طوائف الحكماء والعلماء ويستثمر لباب الألباب فيحصل من انفراده الفائدة العظمى في قطع الاختلاف ويتحقق باستضاءته استثمار عقول العقلاء فالغرض الأظهر إذا من الإمامة إلا يثبت لا بانفراد الإمام وهذا مغن بوضوحه عن الإطناب والإسهاب مستند إلى الإطباق والاتفاق إذ داعية التقاطع والتدابر والشقاق ربط الأمور بنظر ناظرين وتعليق التقدم بأميرين وإنما يستمر أكناف الممالك برجوع أمراء الأطراف إلى رأي واحد ضابط ونظر متحد رابط     وإذا لم يكن لهم موئل عنه يصدرون ومطمح إليه يتشوفون تنافسوا وتتطاولوا وتغالبوا وتصاولوا وتواثبوا على ابتغاء الاستيلاء والاستعلاء وتغالبوا غير مكترثين باستئصال الجماهير والدهماء فيكون الداهية الدهياء وهذا مثار البلايا ومهلكة البرايا وفيه تنطحن السلاطين والرعايا فقد تقرر أن نصب إمامين مدعاة الفساد وسبب حسم الرشاد ثم إن فرض     نصب إمامين على أن ينفذ أمر كل واحد منهما في جميع الخطة جر ذلك تدافعا وتنازعا وأثر ضر نصبهما يبر على ترك الأمر مهملا سدى وإن نصب إمام في بعضها وآخر في باقيها مع التمكن من نصب إمام نافذ الأمر في جميع الخطة كان ذلك باطلا إجماعا كما سبق تقريره وفيه أبطال فائدة الإمامة المنوطة برأي واحد يجمع الآراء كما سبق إيضاحه فيما تقدم وهذا واضح لا خفاء به      والذي تباينت فيه المذاهب أن الحالة إذا كانت بحيث لا ينبسط رأي إمام واحد على الممالك وذلك يتصور بأسباب لا يغمض منها اتساع الخطة وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة وجزائر في لجج متقاذفة وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام     وعزى هذا المنصب إلى شيخنا أبي الحسن والأستاذ أبي إسحق الإسفراييني وغيرهما وابتغى هؤلاء مصلحة الخلق وقالوا     إذا كان الغرض من الإمامة استصلاح العامة وتمهيدا لأمور وسد الثغور فإذا تيسر نصب إمام واحد نافذ الأمر فهو أصلح لا محالة في مقتضى السياسة والإيالة وإن عسر ذلك ولا سبيل إلى ترك الذين لا يبلغهم نظر الإمام مهملين لا يجمعهم وازع ولا ردعهم رادع فالوجه أن ينصبوا في ناحيتهم وزرا يلوذن به إذ لو بقوا سدى لتهافتوا على ورطات الردى وهذا ظاهر لا يمكن دفعه     وأنا أقول فيه مستعينا بالله تعالى إن سبق عقد الإمامة لصالح لها وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الأقطار ثم ظهر ما يمنع من انثبات نظره أو طرأ فلا وجه لترك الذين لا يبلغهم أمر الإمام مهملين ولكنهم ينصبون أميرا يرجعون إلى رأيه ويصدرون عن أمره ويلتزمون شرعة المصطفى فيما يأتون ويذرون ولا يكون ذلك المنصوب إماما ولو زالت الموانع واستمكن الإمام من النظر لهم أذعن الأمير والرعايا للإمام وألقوا إليه السلم والإمام يمهد عذرهم ويسوس أمرهم فإن رأى تقرير من نصبوه فعل وإن رأى تغيير الأمر     فرأيه المتبوع وإليه الرجوع وإن لم يتقدم نصب إمام كما تقدم تصويره ولكن خلا الدهر عن إمام في زمن فترة وانفصل شطر من الخطة عن شطر وعسر نصب إمام واحد يشمل راية البلاد والعباد فنصب أمير في أحد الشطرين للضرورة في هذه الصورة ونصب أمير في القطر الآخر منصوب ولم يقع العقد الواحد على حكم العموم إذا كان يتأتى ذلك فالحق المتبع في ذلك أن واحدا منهما ليس إماما إذ الإمام هو الواحد الذي به ارتباط المسلمين أجمعين      ولست أنكر تجويز نصبهما علىحسب الحاجة ونفوذ أمرهما على موجب الشرع ولكنه زمان خال عن الإمام وسيأتي في خلو الزمان عن الإمام أكمل شرح وتفصيل فهو أحد غرضي الكتاب اللذين عليهما التعويل ثم إن اتفق نصب إمام فحق على الأميرين أن يستسلما له ليحكم عليهما بما يراه صلاحا     وهذا بيان مضمون الباب وإيضاح سره ثم فرع المتكلفون مسائل لا يكاد يخفى مدركها على المحصل المتأمل ونحن نذكر فيه ما يتضح به الغرض ويرشد إلى أمثاله وأشكاله فلو اتفق نصب إمامين في قطرين وكانا صالحين للإمامة مستجمعين للصفات المرعية وعقد لكل واحد الإمامة على حكم العموم ولم يشعر العاقدون في كل ناحية بما جرى في الناحية الأخرى      ولكن بين كل قوم ما أنشأوه من الاختيار والعقد على أن يتفرد من اختاروه بالإمامة فإن اتفق ذلك فلا شك أن لا تثبت الإمامة لهما لما سبق تقريره فإن منصب الإمامة يقتضي الاستقلال بالأشغال كما تقدم وجمع مستقلين بالزعامة الكبرى محال      واختلف الفقهاء في جواز نصب قاضيين في بلدة واحدة على تقدير عموم ولاية كل واحد منهما في جميع البقعة والأصح منع ذلك في القاضيين وذلك مظنون من جهة أن الإمام من وراء القضاة والولاة والمستنابين في الأعمال فإن فرض تنازع وتمانع بين واليين كان وزر المسلمين مرجوعا إليه في الخصومات الشاجرة وأما الإمامة فهي الغاية القصوى وليس بعدها تقدير مرجوع إليه ومتبوع فيستحيل فرض إمامين نافذي الحكم عموما فإذا عقدت الإمامة لرجلين كما سبق تصويره نظر فإن وقع العقدان معا لم يصح واحد منهما ويبتدئ أهل الاختيار عقد الإمامة لمستصلح لها وإن تقدم أحد العقدين فهو النافذ والمتأخر مردود وإن غمض التاريخ وعسر إثبات المتقدم منها بالبينة كان كما لو تحققنا وقوع العقدين معا     إذ لا وجه لتعطيل البيضة عن منصب الإمامة ولا سبيل إلى ترك الأمر مبهما مع تحقيق اليأس من الاطلاع على تاريخ الإنشاء والإيقاع ولو ادعى    أحد المختارين تقدما ورام تحليف الثاني لم يجب إليه فإن هذا الخطب العظيم يجل عن الإثبات باليمين والنكول والإمام نائب عن المسلمين أجمعين ولا سبيل إلى تحليف النائب ومقصود الحق لغيره فهذا المقدار مقنع كاف في غرض الباب    الباب الثامن       تفصيل ما إلى الأئمة والولاة        ليعلم طالب الحق وباغي الصدق أن مطلوب الشرائع من الخلائق على تفنن الملل والطرائق والاستمساك بالدين والتقوى والاعتصام بما يقربهم على الله زلفى والتشمير لابتغاء ما يرضي الله تقدس وتعالى والاكتفاء ببلاغ من هذه الدنيا والندب إلى الانكفاف عن دواعي الهوى والإنحجاز عن مسالك المنى ولكن الله تعالى فطر الجبلات على التشوف والشهوات وناط بقاء المكلفين ببلغة وسداد فتعلقت التكاليف من هذه الجملة بالمحافظة على تمهيد المطالب والمكاسب وتمييز الحلال من الحرام وتهذيب مسالك الأحكام على فرق الأنام فجرت الدنيا من الدين مجرى القوام والنظام من الذرائع إلى تحصيل مقاصد الشرائع ومن العبادات الرائقة الفائقة المرضية في الإعراب عن المقاصد الكلية في القضايا الشرعية أن مضمونها دعاء إلى مكارم الأخلاق ندبا واستحبابا وحتما وإيجابا والزجر عن الفواحش وما يخالف المعالي تحريما وخطرا وكراهية تبين عيافة وحجرا وإباحة تغني      عن الفواحش كإباحة النكاح المغني عن السفاح أو تعين على الطاعة وتعضد أسباب القوة والاستطاعة ثم لما جبلت النفوس على حب العاجل والتطلع إلى الضنة بالحاصل والتعلق في تحصيل الدنيا بالوصائل والوسائل والاستهانة بالمهالك والغوائل والتهالك على جمع الحطام من غير تماسك وتمالك     وهذا يجر التنافس والازدحام والنزاع والخصام واقتحام الخطوب العظام فاقتضى الشرع فيصلا بين الحلال والحرام وإنصافا وانتصافا بين طبقات الأنام وتعليق الإقدام على القرب والطاعات بالفوز بالثواب وربط اقتحام الآثام بالعقاب ثم لم ينحجز معظم الناس عن الهوى بالوعد والوعيد والترغيب والتهديد فقيض الله السلاطين وأولي الأمر وازعين ليوفروا الحقوق على مستحقيها ويبلغوا الحظوظ ذويها ويكفوا المعتدين ويعضدوا المقتصدين ويشيدوا مباني الرشاد ويحسموا معاني الغي والفساد فتنتظم أمور الدنيا ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى وما ابتعث الله نبيا في الأمم السالفة حتى أيده وعضده بسلطان ذي عدة ونجدة ومن الرسل  من اجتمعت له النبوة والأيد والقوة كداود وموسى وسليمان  أجمعين ولما اختتم الله الرسالة في العالم بسيد ولد آدم أيده بالحجة البيضاء والمحجة الغراء وشد السيف أزره وضمن إظهاره ونصره وجعله إمام الدين والدنيا وملاذ الخلق في الآخرة والأولى ثم أكمل الله الدين واختتم الوحي فاستأثر برسوله سيد النبيين فخلفه أبو بكر     الصديق ليدعو إلى دين الله دعاءه ويقرر من مصالح الدنيا ومراشدها وينتحي في استصلاح العباد انتحاءه      وغرضنا من تقديم هذه المقدمة وتوطئة طرق الأفهام إلى ما يتعلق من الأحكام بالإمام فالقول الكلي أن الغرض استبقاء قواعد الإسلام طوعا أو كرها والمقصد الدين ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرضية مرعية ثم المتعلق بالأئمة الأمور الكلية      ونحن الآن بعد هذا الترتيب نذكر نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدين ثم نذكر نظره في الدنيا وبنجاز القسمين يحصل الغرض الأقصى مما يتعلق بالأئمة والورى      فأما نظره في الدين فينقسم إلى النظر في أصل الدين وإلى النظر في فروعه      فأما القول في أصل الدين فينقسم إلى حفظ الدين بأقصى الوسع على المؤمنين ودفع شبهات الزائغين كما سنقرره إن شاء الله رب العالمين وغلى دعاء الجاحدين والكافرين إلى التزام الحق المبين فلتقع البداية الآن بتقرير سبيل الإيقان على أهل الإيمان فنقول والله المستعان     إن صفا الدين عن الكدر والأقذار وانتفض عن شوائب البدع والأهواء كان حقا على الإمام أن يرعاهم بنفسه ورقبائه بالأعين الكالئة     ويرقبهم بذاته وأمنائه بالآذان الواعية ويشارفهم مشارفة الضنين دخائره ويصونهم عن نواجم الأهواء وهواجم الآراء فإن المبادئ أهون من قطع التمادي      فإن قيل بم يزيغ عن المنهج المستقيم والدين القويم      قلنا إن كان ما انتحله ذلك الزائغ النابغ ردة استتابة فإن أبى واستقر وأصر تقدم بضرب رقبته      والقول في المرتد وحكمه يحويه كتاب من كتب الفقه فمن أراد الاحتواء على التفاصيل فليطلبه من فن الفقه      وإن تاب واتهمه الإمام بالاتقاء مع الانطواء على نقيض ما أظهره من التوبة فسيأتي ذلك عند القول في فروع الدين     وإن كان ما صار إليه الناجم بدعة لا تبلغ مبلغ الردة فينحتم على الإمام المبالغة في منعه ودفعه وبذل كنه المجهود في ردعه ووزعه فإن تركه     على بدعته واستمراره في دعوته يخبط العقائد ويخلط القواعد ويجر المحن ويثير الفتن ثم إذا رسخت البدع في الصدور أفضت إلى عظائم الأمور وترقت إلى حل عصام الإسلام      فإن قيل إذا لم تكن البدعة ردة وأصر عليها منتحلها فبماذا يدفع الإمام غائلته      قلنا سنعقد بابا في تقاسيم العقوبات ومراتبها وتفاصيلها ومناصبها ونعزى كل عقوبة إلى مقتضيها وموجبها وفيه يتبين المسئول عنه إن شاء الله عز وجل      فإن قيل فصلوا ما يقتضي التكفير وما يوجب التبديع والتضليل      قلنا هذا طمع في غير مطمع فإن هذا بعيد المدرك ومتوعر المسلك يستمد من تيار بحار علوم التوحيد ومن لم يحط بنهايات الحقائق لم يتحصل في التكفير على وثائق ولو أوغلت في جميع ما يتعلق به أطراف الكلام في هذا الكتاب لبلغ مجلدات ثم لا يبلغ منتهى الغايات فالوجه البسط في مقصود هذا المجموع وإيثار القبض فيما ليس من موضوعه وإحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنه فهذا كله فيه إذا أخذت البدع تبدو وأمكن قطعها     فأما إذا شاعت الأهواء وذاعت وتفاقم الأمر واستمرت المذاهب الزئغة واشتدت المطالب الباطلة فإن استمكن الإمام من منعهم لم يأل في منعهم     جهدا ولم يغادر في ذلك قصدا واعتقد ذلك شوفه الأعظم وأمره الأهم وشغله الأطم فإن الدين أحرى بالرعاية وأولى بالكلاية وأخلق بالعناية وأجدر بالوقاية وأليق بالحماية      وقد أدرجنا في أثناء ما قدمنا أن المقصود باهتمام الإمام الدين والنظر في الدنيا تابع على قطع ويقين باتفاق المسلمين فإن لم يتمكن من دفعهم إلا بقتال واعتناق أهوال فسنذكر ذلك مستقصى في الباب المشتمل على تقاسيم العقوبات وضروب السياسات إن شاء الله عز وجل      وإذا كان الإمام يجر عساكر الإسلام إلى البغاة ومانعي الزكاة وأثر امتناعهم عن الطاعة والخروج عن ربقة الجماعة آل فرع الدين فما يؤول إلى أصل الدين أولى باعتناء إمام المسلمين وسنقول ذلك مشروحا إن قدر الله عزت قدرته     فهذا إن كان الإمام مقتدرا على النابغين وصد الممتنعين المبتدعين وإن تفاقم الأمر وفات استدراكه الإطاقة وعسرت مقاومة مصادمة ذوي البدع والأهواء وغلب على الظن أن مسالمتهم ومتاركتهم وتقريرهم على مذاهبهم وجه الرأي ولو جارهم لتألبوا وتأشبوا ونابذوا الإمام مكادحين مكافحين وسلوا أيديهم عن الطاعة ولخرج تدارك الأمور عن الطوق والاستطاعة وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور في الديار واستجراء الكفار فإن كذلك لم يظهر ما يخرق حجاب الهيبة ويجر منتهاه     عسرا وخيبة لكن إن أغمد عنهم صوارمه لم يكف عنهم صرائمه وعزائمه وتربص بهم الدوائر واضطرهم بالرأي الثاقب إلى أضيق المعابر والمصائر وأتاهم من حيث لا يحتسبون وحرص أن يستأصل رؤساهم ويجتث كبراءهم ويقطع بلطف الرأي عددهم ويبدد في الأقطار المتبانية عددهم ويحسم عنهم على حسب الإمكان مددهم ويعمل بمغمضات الفكر فيهم سبل الإيالة والمرء يعجز لا محالة وهذا هين إذا لم يبدوا أشراسا ولم ينصبوا للخروج على الإمام رأسا فإذا وهت قوتهم ووهنت منتهم صال عليهم صولة تكفي شرهم وسطا بهم سطوة يمحق ضرهم كما سيأتي تفصيل القول في إنحاء حالة السياسات وإن انتهى الأمر إلى اتفاقهم على الإمام وخروجهم عن الطاعة فنذكر ذلك متصلا بباب السياسات عند تفصيلنا صفوف القتال وعلى الله الاتكال ولا يخفى على ذي بصيرة أن ما أطلنا القول فيه هو الحيد عن مسلك الحق في قواعد العقائد     فأما اختلاف العلماء في فروع الشريعة ومسالك التحري والاجتهاد والتآخي من طرق الظنون فعليه درج السلف الصالحون وانقرض صحب رسول الله  الأكرمون واختلافهم سبب المباحثة عن أدلة الشريعة وهو منة من الله تعالى ونعمة وقد قال     رسول الله  اختلاف أمتي رحمة فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام بل يقر كل إمام ومتبعيه على مذهبهم ولا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم فإن قيل فما الحق الذي يحمل الإمام الخلق عليه في الاعتقاد إذا تمكن منه      قلنا هذا لا يحوي الغرض منه أسطر وأوراق وفيه تنافس المتنافسون وكل فئة تزعم أنها الناجية ومن عداهم هالكون ولكن إن لم يكن هذا بالهين فمدرك الحق بين فمن أراد التناهي في ذلك ليكون قدوة وأسوة استحثته النفس الطلعه على نزف بحور ومقارعة شدائد وأمور وطي رقعة العمر على العناء والمضض والصبر ومن رام اقتصادا وحاول ترقيا عن التقليد واستبدادا فعليه بما يتعلق بعلم التوحيد من الكتاب المترجم بالنظامي فهو محتو على لباب الألباب وفيه سر كل كتاب في أساليب العقول     والذي أذكره الآن لائقا بمقصود هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام     فيه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين قبل إن نبغت الأهواء وزاغت الآراء وكانوا رضي الله عنهم ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات والإمعان في ملابسة المعضلات والاعتناء بجمع الشبهات وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى وكف الأذى والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة وما كانوا ينكفون رضي الله عنهم عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر وتبلد في القرائح هيهات قد كانوا أذكى الخلائق أذهانا وأرجحهم بيانا ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات داعية الغوايات وسبب الضلالات فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون وإليه مدفوعون فإن أمكن حمل العوام على ذلك فهو الأسلم ولما قال رسول الله  ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة الناجي منها واحدة فاستوصفه الحاضرون الفرقة الناجية فقال هم الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي     ونحن على قطع واضطرار من عقولنا نعلم أنهم ما كانوا يرون الخوض في      الدقائق ومضايق الحقائق ولا كانوا يدعون إلى التسبب إليها بل كانوا يشتدون على من يفتح الخوض فيها والذي يحقق ذلك أن أساليب العقول لا يستقل بها إلا الفذ الفرد المرموق الذي تثنى عليه الخناصر ويشير إليه الأصاغر والأكابر ثم هو على أغرار وأخطار إن لم يعصمه الله فكيف يسلم من مهاوي الأفكار الغر الغبي والحصر العي وكيف الظن بالعوام إذا اشتبكوا في أحاييل الشبهات وارتبكوا في ورطات الجهالات      فليجعل الإمام ما وصفناه الآن أكبر همه فهو محسمة للفتن ومدعاة إلى استداد العوام على ممر الزمن فإن انبثت في البرية غوائل البدع واحتوت على الشبهات أحناء الصدور ونشر دعاة الضلالة أعلام الشرور فلو تركوا وقد أخذت منهم الشبهات مآخذها لضلوا وارتكسوا وزلوا وانتكسوا      فالوجه والحالة هذه أن يبث فيهم دعاة الحق ويتقدم إلى المستقلين بالحقائق حتى يسعوا في إزاحة الشبهات بالحجج والبينات ويتناهوا في بلوغ قصارى الغايات وإيضاح الدلالات وارتياد أوقع العبارات ويدرأ أصحاب الضلالات بجمع انحسام كلام الزائغين وظهور دعوة الموحدين وإيضاح مسالك الحق المبين وحكم الزمان الذي نحن فيه ما ذكرناه الآن والله المستعان     وهذه تفاصيل من أحق ما يتعين على الإمام الاعتناء به وقد يختلف

نظره في البلاد على حسب تباين أحوال العباد فيرى في بعضها الحمل على مذاهب السابقين وفي بعضها حمل دعاة الحق على إبداء مسالك الصدق وهذا مغاص يهلك فيه الأنام بزلة الإمام وقد اتفق للمأمون وكان في أنجد الخلفاء وأقصدهم خطة ظهرت هفوته فيها وعسر على من بعده تلا فيها فإنه رأى تقرير كل ذي مذهب على رأيه فنبغ النابغون وزاغ الزائغون وتفاقم الأمر وتطوق خطبا هائلا وانتهى زلله وخطله إلى أن سوغ للمعطلة أن يظهروا آراءهم ورتب مترجمين ليردوا كتب الأوائل إلى لسان العرب وهلم جرا إلى أحوال يقصر الوصف عن أدناها     ولو قلت إنه مطالب بمغبات البدع والضلالات في الموقف الأهول في العرصات لم أكن مجازفا فالذي تحصل مما سلف بعد الإطناب ومجاوزة الاقتصاد إلى الإسهاب أن التعرض لحسم البدع من أهم ما يجب على الإمام الاعتناء به وقد قدمت في وجه الابتداءات لذلك ما فيه مقنع وبلاغ وجميع ما ذكرته قسم واحد فيما يتعلق بأصل الدين وهو حفظة على أهله      والقسم الثاني في أصل الدين السعي في دعاء الكافرين إليه فأقول      قد أيد الله عزت قدرته الدين بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة ثم حفه بالقوة والشوكة والعدة والنجدة والإمام القوام على أهل الإسلام مأمور باستعمال منهاج الحجاج في أحسن الجدال فإن نجع وإلا ترقى إلى أعمال الأبطال المصطلين بنار القتال فللدعاء إلى الدين الحق مسلكان      أحدهما الحجة وإيضاح المحجة      والثاني الاقتهار بغرار السيوف وإيراد الجاحدين الجاهرين مناهل الحتوف     والمسلك الثاني مرتب على الأول فإن بلغ الإمام تشوف طوائف من الكفار إلى قبول الحق لو وجدوا مرشدا أشخص إليهم من يستقل بهذا الأمر من علماء المسلمين وينبغي أن نتحيز لذلك فطنا لبيبا بارعا أريبا متهديا أديبا ينطبق على عرفانه بيانه ويطاوعه فيما يحاول لسانه ذا عبارة رشيقة مشعرة بالحقيقة وألفاظ راقية مترقية عن الركاكة منحطة عن التعمق وشوارد الألفاظ مطبقة مفصل المعنى من      غير قصور ولا ازدياد      وينبغي أن يكون متهديا إلى التدرج إلى مسالك الدعوة رفيقا ملقا شفيقا نعم خراجا ولاجا جدلا محجاجا عطوفا رحيما رؤوفا فإن لم تنجح الدعوة وظهر الجحد والنبوة تطرق إلى استفتاح مسالك النجاح بذوي النجدة والسلاح وهذا يتصل الآن بذكر الجهاد وسيأتي ذلك على قدر مقصود الكتاب في أثناء الأبواب إن شاء الله عز وجل فهذا منتهى الغرض في النظر الكلي في أصول الدين      فأما القول في ذكر تفاصيل نظر الإمام في فروع الدين فهذا مما يتسع فيه الكلام وتكثر الأقسام ونحن بعون الله تعالى لا نقصر في التقريب وتحسين الترتيب والنظم البديع العجيب فذو البيان من إذا تبدد المقصد وانتشر لأم الأطراف وضم النشر وإذا ضاق نطاق النطق استطال بعذبة لسانه وعبر عن غاية المقصود بأدنى بيانه     فأقول قد يبتدر إلى ظن المنتهي إلى هذا الموضوع أني أريد بما افتتحته     تفصيل تصرفات الإمام في فروع الشريعة ليس الأمر كذلك فإن الغرض الآن بيان ما يتعلق بالعبادات البدنية ليتألف القول فيها بما سبق تقريره في أصل الدين فينظم أصل الدين بفرعه وذكر ما يتعلق بالأئمة في المعاملات والتصرفات المالية سيأتي في القسم الثاني المشتمل على ذكر نظر الإمام في أحكام الدنيا      فنعود إلى المقصود الناجز ونقول العبادات البدنية التي تعبد الله بها المكلفين لا يتعلق صحتها بنظر الإمام وإذا أقامها المتعبدون على شرائطها وأركانها في أوقاتها وأوانها صحت ووقعت موقع الاعتداء وقد زل من شرط في انعقاد الجمعة تعلقها بإذن الإمام واستقصاء القول في ذلك مطلوب من علم الشريعة      فإن قيل ما وجه ارتباط العبادات بنظر الإمام      قلنا ما كان منها شعارا ظاهرا في الإسلام تعلق به نظر الإمام وذلك ينقسم إلى ما يرتبط باجتماع عدد كثير وجم غفير كالجمع والأعياد ومجامع الحجيج وغلى ما لا يتعلق باجتماع كالأذان وعقد الجماعات في ما عدا الجمعة من الصلوات     فأما ما يتعلق بشهود جمع كثير فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه فإن     الناس إذا كثروا عظم الزحام وجمع المجمع أخيافا وألف أصنافا وخيف في مزدحم القوم أمور محذورة فإذا كان منهم ذو نجدة وبأس بكف عادية إن هم بها معتدون كان المجمع محروسا ودرأت هيبة الوالي ظنونا وحدوسا ولذلك أمر رسول الله  بعد فتح مكة أبا بكر رضي الله عنه على الحجيج ثم استمرت تلك السنة في كل سنة فلم يخل حج عن إمام أو مستناب من جهة مياسير الإمام ولذلك صدر الخلفاء مياسير الأمراء أو ذوي الأولوية بإقامة الجمع فإنها تجمع الجماعات وهي إن لم تصن عرضها للفتن والآفات فهذا وجه نظر الإمام في الشعار الذي يجمع جمعا كثيرا     فأما الشعار الظاهر الذي لا يتضمن اجتماع جماعات فهو كالأذان وإقامة الجماعات في سائر الصلوات فإن عطل أهل ناحية الأذان والجماعات تعرض لهم الإمام وحملهم على إقامة الشعار فإن أبوا ففي العلماء من يسوغ للسلطان أن يحملهم عليه بالسيف ومنهم من لم يجوز ذلك والمسألة مجتهد فيها وتفصيلها موكول إلى الفقهاء     فأما ما لم يكن شعارا ظاهرا من العبادات البدنية فلا يظهر تطرق الإمام إليه إلا أن ترفع واقعة فيرى فيها رأيه مثل أن ينهى إليه أن شخصا ترك صلاة متعمدا من غير عذر وامتنع عن قضائها فقد نرى قتله على رأي الشافعي رضي الله عنه وتعذيبه وحبسه على رأي الآخرين      فهذا مجموع القول فيما يتعلق بالأئمة من أصل الدين وفرعه      فأما ما يتعلق بالأئمة من أحكام الدنيا فنقدم فيه أولا ترتيبا ضابطا يطلع على غرض كلي ويفيد الناظر العلم بانحصار القضايا المتعلقة بالأئمة      ثم نخوض في إيضاح الأقسام على حسب ما يقتضيه هذا الكتاب      فنقول على الإمام بذل كنه الاجتهاد في ابتغاء الازدياد في خطة الإسلام والسبيل إليه الجهاد ومنابذة أهل الكفر والعناد وعليه القيام بحفظ الخطة      فالتقسيم الأولي الكلي طلب ما لم يحصل وحفظ ما حصل      والقول في حفظ ما حصل ينقسم إلى حفظه عن الكفار وغلى حفظ أهله عن التواثب والتغالب والتقاطع والتدابر والتواصل      فأما حفظ الخطة عن الكفار فهو بسد الثغور وإقامة الرجال على المراصد على ما سيأتي الشرح عليه     وأما حفظ من تحويه الخطة فينقسم إلى ما يتعلق بمراتب الكليات وغلى ما يتعلق بالجزئيات     فأما ما يتعلق بأمر كلي فهو نقض بلاد الإسلام عن أهل العرامة والمتلصصين والمترصدين للرفاق فيجب على الإمام صرف الاهتمام إلى ذلك حتى تنتفض البلاد عن كل غائلة ويتمهد السبل للسابلة      وأما ما يرتبط بالجزئيات فيحصره ثلاثة أقسام      أحدها فصل الخصومات الثائرة وقطع المنازعات الشاجرة     وهذا يناط بالقضاة والحكام وإنما عددنا ذلك من الجزئيات فإن الحكومات تنشأ من الآحاد والأفراد والغوائل من المتلصصين وقطاع الطرق ويثبت باجتماع أقوام ثم إذا رتب السلطان لحسم موادهم رجالا لم يثوروا فيكون ذلك نظرا كليا في كفاية أهم الأشغال وتصدي القضاة لفصل الخصومات لا تحسم ثوران الخصوم بل إذا ثارت فصلها الحكام     والقسم الثاني في نظره الجزئي في حفظ المراشد على أهل الخطة يكون بإقامة السياسات والعقوبات الزاجرة من ارتكاب الفواحش والموبقات      والقسم الثالث القيام على المشرفين على الضياع بأسباب الصون والحفظ والإنقاذ وهذا يتنوع نوعين      أحدهما الولاية على من لا ولى له من الأطفال والمجانين في أنفسهم وأموالهم      والثاني سد حاجات المحاويج     فهذه جوامع ما يرعى به الإمام من في الخطة ثم لا يتأتى الاستقلال بهذا المنصب إلا بنجدة عظيمة يطبق الخطة ويفصل عنها فتقاذف إلى بلاد الكفار والنجدة بالرجال ويرتب الرجال بالعدد والأموال     والأموال التي تمتد يد الإمام إليها قسمان      أحدها ما يتعين مصارفه      والثاني ما لا يتخصص بمصارف مضبوطة بل يضاف إلى عامة المصالح      فأما ما يتعين مصرفه فالزكاة وأربعة أخماس الفيء وأربعة أخماس خمس الفيء وأربعة أخماس الغنيمة وأربعة أخماس خمس الغنيمة      فهذه الأموال لها مصارف معلومة مستقصاة في كتب الفقه وقد نرمز إليها في تفصيل الكلام      وأما المال الذي يعم وجوه الخير وهو الذي يسميه الفقهاء المرصد للمصالح فهو خمس خمس الفيء وخمس خمس الغنيمة وينضم إليها تركة من مات من المسلمين ولم يخلف وارثا خاصا وكذلك الأموال الضائعة التي أيس من معرفة مالكيها كما سنذكرها     فهذه مآخذ الأموال التي يقبضها الإمام ويصرفها إلى مصارفها     وقد نجز التقسيم المحتوي الضابط على ما يناط بالأئمة من مصالح الدنيا وقد تقدم استقصاء القول فيما يتعلق به من أمور الدين     والآن نرجع إلى تفصيل هذه الأقسام على ما يليق بمقصود هذا الكتاب وإن تعلقت أطراف الكلام بأحكام فقهية أحلناها على كتب الفقه فإنا لم نخض في تأليف هذا وغرضنا تفاصيل الأحكام وإنما حاولنا تمهيد الإيالات الكلية ثم كتب الفقه عتيدة لمن أرادها والعجب ممن صنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية حيث ذكر جملا في أحكام الإمامة في صدر الكتاب واقتصر على نقل المذاهب ولم يقرن المختار منها بحجاج وإيضاح منهاج به اكتراث وأحسن ما فيه ترتيب أبواب وذكر تقاسيم وألقاب ثم ليس لتقاسيمه صدر عن دراية وهداية إلى درك منشأ الأقسام عن قواعدها وأصولها وجرى له اختباط وزلل كثير في النقل ثم ذكر كتبا من الفقه فسردها     سردا وطردها على مسالك الفقهاء طردا ولم يأت بها منقحا موضحا على طرق الفقهاء فذكر طرفا من كتاب السير وقتال أهل البغي وأدب القضاة وقسم الفيء والغنائم ولم أذكر ما ذكره عايبا ثالبا بل ذكرته تمهيدا لعذري أن قيضت الكلام في غير مقصود الكتاب وأحلته على فن الفقه      فأعود الآن إلى تفاصيل الأقسام      فأما الجهاد فيتعلق به أمر كلي وقد يغفل المتجرد للفقه عنه فأقول      ابتعث الله محمدا  إلى الثقلين وحتم على المستقلين بأعباء شريعته دعوتين     إحداهما الدعوة المقرونة بالأدلة والبراهين والمقصد منها إزالة     الشبهات وإيضاح البينات والدعاء إلى الحق بأوضح الدلالات      والأخرى الدعوة القهرية المؤيدة بالسيف المسلول على المارقين الذين أبوا واستكبروا بعد وضوح الحق المبين      فأما البراهين فقد ظهرت ولاحت ومهدت والكفار بعد شيوعها في رتب المعاندين فيجب وضع السيف فيهم حتى لا يبقى عليها إلا مسلم أو مسالم وقد قال طوائف من الفقهاء الجهاد من فروض الكفايات فإذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين وإن تعطل الجهاد حرج الكافة على تفاصيل معروفة في مسالك الفقه      ثم قالوا يجب أن ينتهض إلى كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار عند الاقتدار عسكر جرار في السنة مرة واحدة وزعموا أن الفرض يسقط بذلك     وهذا عندي ذهول عن التحصيل فيجب إدامة الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان ولا يتخصص ذلك بأمد معلوم بالزمان فإن اتفق جهاد في جهة ثم صادف الإمام من أهل تلك الناحية غرة واستمكن من فرصة وتيسر إنهاء عسكر إليهم تعين على الإمام أن يفعل ذلك ولو استشعر من رجال المسلمين ضعفا ورأى أن يهادن الكفار عشر سنين ساغ ذلك     فالمتبع في ذلك الإمكان لا الزمان      ولكن كلام الفقهاء محمول على الأمر الوسط القصد في غالب العرف فإن جنود الإسلام إذا لم يلحقها وهن ولم يتجاوز عددهم وعددهم المعروف في مستمر العرف فإذا غزوا فرقا وأحزابا في أقطار الديار كابدوا من الشقا والعناد ووعثاء الأسفار ومصادمة أبطال الكفار ما كابدوا وعضهم السلاح وفشى فيهم الجراح وهزلت دوابهم وتبترت أسبابهم فالغالب أنهم لا يقوون على افتتاح غزوة أخرى ما لم يتودعوا سنة فجرى ما ذكروه على حكم الغالب فأما إذا كثر عدد جند الإسلام واستمكن الإمام من تجهيز جيش بعد انصراف جيش فليفعل ذلك جادا مجتهدا عالما بأنه مأمور بمكاوحة الكفار ما بقي منهم في أقاصي الديار ديار ثم لا يؤثر لذوي البأس والنجدة من المسلمين الاستئثار والانفراد والاستبداد بالأنفس في الجهاد بل ينبغي أن يصدروا عن رأي صاحب الأمر حتى يكون كالئهم ورداءهم ومراعيهم من ورائهم فلا يضيعون في غالب الظنون     ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها     الأئمة بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ولا يغفلوا عنه كتجهيز الموتى ودفنهم والصلاة عليهم      وأما الجهاد فموكول إلى الإمام ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره فيصير أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان والسبب فيه أنه تطوق أمور المسلمين وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم فمن حيث اتناط جر الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام وهو نائب عن كافة أهل الإسلام صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلواته المفروضة التي يقيمها وأما سائر فروض الكفايات فإنها متوزعة على العباد في البلاد ولا اختصاص لها بالإمام نعم إن ارتفع إلى مجلس الإمام أن قوما في قطر من أقطار الإسلام يعطلون فرضا من فروض الكفايات زجرهم وحملهم على القيام به فهذا منتهى ما أردناه في الجهاد      ثم القول في كيفية القتال والغنائم والأسرى من النساء والمقاتلة يستقصي في كتاب السير من كتب الفقه     وأمتا اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع ويستظهر لها بذخائر الأطعمة ومستنقعات     المياه واحتفار الخنادق وضروب الوثائق واعتاد والأسلحة والعتاد وآلات القصد والدفع ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا أو يقلوا فيضيعوا والمعتبر في كل ثغر أن يكون بحيث لوأمه جيش لاستقل أهله بالدفاع إلى أن يبلغ خبرهم الإمام أو من يليه من أمراء الإسلام وإن رأى أن يرتب في ناحية جندا ضخما يستقلون بالدفع لو قصدوا ويشنون الغارات على أطراف ديار الكفار فيقدم من ذلك ما يراه الأصوب والأصلح والأقرب إلى تحصيل الغرض والأنجح معولا بعد جده على فضل ربه لا على جده     وأما نقض أهل العرامة من خطة الإسلام ففيه انتظام الأحكام ولا تصفو نعمة عن الأقذاء ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار فإذا اضطربت الطرق وانقطعت الرفاق وانحصر الناس في البلاد وظهرت دواعي الفساد ترتب عليه غلاء الأسعار وخراب الديار وهواجس الخطوب الكبار فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها ولا يتهنا بشيء منها دونها فلينتهض الإمام لهذا المهم وليوكل بذلك     الذين يخفون وإذا جرى خطب لا يتواكلون ولا يتخاذلون ولا يركنون إلى الدعة والسكون ويتسارعون إلى لقاء الأشرار بدار الفراش إلى النار فليس للناجمين من المتلصصين مثل أن يبادروا قبل أن يتجمعوا أو يتألبوا ويتحد كلمتهم ويستقر قدمهم ثم يندب لكل صقع من ذوي البأس من يستقل بكفاية هذا المهم وإذا تمهدت الممالك وتوطدت المسالك انتشر الناس في حوائجهم ودرجوا في مدارجهم وتقاذفت أخبار الديار مع تقاصي المزار إلى الإمام وصارت خطة الإسلام كائنها بمرأى منه ومسمع واتسق أمر الدين والدنيا واطمأن إلى الأمنة الورى والإمام في حكم البدرقة في البلاد للسفرة والحاضرة فيكلأ بعين ساهرة وبطشة قاهرة     فأما فصل الخصومات فمن أهم المهمات ولولاه لتنازع الخلق وتمانعوا فليرتب الإمام القضاة ثم القول في أحكامهم مستقصى في كتاب مفرد من الفقه     وأما زجر الغواة وردع الطغاة بضروب العقوبات فنبسط القول فيه قليلا في أحكام الإيالات فنقول      القول في ذلك ينقسم إلى الزجر بنصب القتال وإلى إقامة عقوبات ونكال على آحاد الرجال      فأما القتال فالقول فيه يتعلق بقتال أهل البغي وتفصيل صفاتهم وحالاتهم ودفعهم عن البلاد التي احتووا عليها بتقديم العذر أولا وبالمباحثة عما نقموه وإسعافهم بمناهم إن دعوا إلى حق وادعوا على صدق وإبانة حيدهم عن سنن الصواب إن عرتهم شائبة الارتياب فإن أبوا آذنهم يحرب كل ذلك مذكور مشهور      ويتعلق القتال بقطاع الطرق والراصدين للطارقين والمجاهدين يحمل الأسلحة وذلك مقرر في باب القطاع بما فيه أكمل إقناع وكل من امتنع عن الاستسلام للإمام والإذعان لجريان الأحكام فإن لم يكن مع الامتناع منعة وشوكة اقتهر على الطاعة وموافقة الجماعة      وإن استظهر الممتنعون بشوكة دعوا إلى الطاعة فإن عادوا فذاك وألا صدمهم الإمام بشوكة تفض صدمتهم وتفل عزتهم ومنعتهم     ومما أحلناه على هذا الفصل ما تقدم القول في أهل البدع إذا كثروا     فيدعوهم الإمام إلى الحق فإن أبوا زبرهم ونهاهم عن إظهار البدع فإن أصروا سطا بهم عند امتناعهم عن قبول الطاعة وقاتلهم مقاتلة البغاة وهذا يطرد في كل جمع يعتزون إلى أهل الإسلام إذا سلوا أيديهم عن ربقة الطاعة وإن ضمنوا للإمام أن لا يظهروا البدع وعلم الإمام أنهم سيبثون الدعوة سرا ويجرون إلى عامة الخلق شرا وإن لم يتظاهروا بها جهرا فيحرص الإمام أن يظهر منهم على خافية بعد تقديم الإنذار إليهم ثم يتناهى في تعزير من كان ذلك منه فإن جانبوا الائتلاف وأبدوا صفحة الخلاف وتميزوا عن الجماعة وتجمعوا للخروج عن ربط الطاعة نصب عليهم القتال إذا امتنعوا      وإن علم أنهم لكثرتهم وعظم شوكتهم لا يطاقون فالقول فيهم كالقول في الباغي إذا استحفل شأنه وتمادى زمانه وغلب على ظن الإمام أنه لو صادمه ودافعه بمن معه لاصطلم الباغي أتباعه وأشياعه ولم يستفد بلقائه إلا فرط عنائه واستئصاله أوليائه فالوجه أن يداري ويستنفد جهده فإن سقطت منة الإمامة بالكلية فهذا إمام سقطت طاعته وقد تقدم الكلام في ذلك في صفات الأئمة     فهذا بيان القول في مقاتلة فرق المسلمين وتتمة الكلام فيه أن اجتهاد الإمام إذا أدى إلى حكم في مسألة مظنونة ودعى إلى موجب اجتهاده قوما فيتحتم عليهم متابعة الإمام فإن أبوا قاتلهم الإمام كما قاتل الصديق مانعي الزكاة في القصة المعروفة ثم قتاله إياهم لا يعتمد ظنا فإنه لا يسوغ تعريض      المسلمين للقتل من الفئتين على ظن وحدس وتخمين نفس بل يجب اتباع الإمام قطعا فيما يراه من المجتهدات فترتب القتال على أمر مقطوع به وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه وإن كان أصله مظنونا ولو لم يتعين اتباع الإمام في مسائل التحري لما تأتي فصل الخصومات في المجتهدات ولاستمسك كل خصم بمذهبه ومطلبه وبقي الخصماء في مجال خلاف الفقهاء مرتبكين في خصومات لا تنقطع ومعظم حكومة العباد في موارد الاجتهاد      وقد نجز مقدار غرضنا من نصب القتال على المارقين المنافقين على الإمام      فأما العقوبات التي يقيمها على آحاد الناس فهي منقسمة إلى الحدود والتعزيرات     فأما الحدود فاستقصاء القول في مقتضياتها وتفاصيل المذاهب في كيفياتها وإقاماتها في أوقاتها وسبيل إثباتها وذكر مسقطاتها مذكورة     في كتب الفقه      وهي بجملتها مفوضة إلى الأئمة والذين يتولون الأمور من جهتهم      والقصاص في النفس والطرف فإن كان خالص حق الآدمي فليس لمستحقيه استيفاؤه دون الرفع إلى السلطان      وأما التعزيرات فهي أيضا مفصلة في كتب الفقه في أبواب متعلقات بموجبات لها وأسباب فمنها ما يكون حقا للآدمي بسقط بإسقاطه ويستوفي مطلبه      ومنها ما يثبت حقا لله تعالى لارتباطه بسبب هو حق الله      ثم رأى الشافعي رحمه الله أن التعزيرات لا تتحتم تحتم الحدود فإن الحدود إذا أثبت فلا خيرة في درئها ولا تردد في إقامتها والتعزيرات مفوضة إلى رأي الإمام فإن رأى التجاوز والصفح تكرما فعل ولا معترض عليه فيما عمل      وإن رأى إقامة التعزير تأديبا وتهذيبا فرأيه المتبع وفي العفو والإقالة متسع     والذي ذكرناه ليس تخيرا مستندا إلى التمني ولكن الإمام يرى ما هو الأولي والأليق والأحرى فرب عفو هو أوزع لكريم من تعزير وقد يرى ما صدر عنه عثرة هي بالإقالة حرية والتجاوز عنها يستحث على استقبال الشيم المرضية ولو يؤاخذ الإمام الناس بهفواتهم لم يزل دائبا في عقوباتهم     وقد قال المصطفى  أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ولو تجاوز عن عرم خبيث لا يزداد بالتجاوز عنه إلا تماديا واستجراء وتهجما واعتداء فليس له الصفح والحالة هذه      ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء     وما يتعين الاعتناء به الآن وهو مقصود الفصل أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا يستد إلا على رأي مالك رضي الله عنه وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير ونقل النقلة عنه أنه قال للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها

وذهب بعض الجهلة عن غرة وغباوة أن ما جرى في صدر الإسلام من التخفيفات كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام وكان يكفي في ردعهم التنبيه واليسير والمقدار القريب من التعزير وأما الآن فقد قست القلوب وبعدت العهود ووهت العقود وصار متشبث عامة الخلق الرغبات والرهبات فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات لما استمرت السياسات      وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء وهو على الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث به سيد الأنبياء وعلى الجملة من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء فقد رد الشريعة واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة ولو جاز ذلك لساغ رجم من ليس محصنا إذا زنا في زمننا هذا لما تخيله هذا القائل ولجاز القتل بالتهم في الأمور الخطيرة ولساغ إهلاك من يخاف غائلته في بيضة الإسلام إذا ظهرت المخائل والعلامات وبدت الدلالات ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات     وهذه الفنون في رجم الظنون لو سلطت على قواعد الدين لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعا ولانتحاه ردعا ومنعا فينتهض هواجس النفوس حالة محل الوحي إلى الرسل ثم يختلف ذلك باختلاف      الأزمنة والأمكنة فلا يبقى للشرع مستقر وثبات      هيهات هيهات ثقل الاتباع على بعض بني الدهر فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسا ولاستصوا به رأسا حتى ينفض مذرويه ويتلفت في عطفيه اختيالا وشماسا      فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير فإن سطى معتد وتعدى مراسم الشرع فلير ذلك حيدا عن دين المصطفى على القطع ومن اعتدى عالما بأنه ارتكب ذنبا واقتحم حوبا فهو عاص غير آيس من رحمة الله     والويل كل الويل لمن يقترف الكبائر ويراها بمقتضى الاستصواب الذي عزله عن دين المصطفى فالحق المتبع ما نقله الأثبات عن سيد الورى وما سواه محال وماذا بعد الحق إلا الضلال وما اقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ سير الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدة الدين ومن تشبث بهذا فقد انسل عن ربقة الدين انسلال الشعرة عن العجين

وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زماني وجاوزت عد الاقتصاد في كلامي لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور رجال      فقد حكى لي بعض المرموقين بالعقل الراجح حكاية فقال      دخل بعض العلماء على بعض الملوك فسأله الملك عن الوقاع في نهار رمضان فقال محبيبا على من يصدر ذلك منه صوم شهرين متتابعين فقيل للعالم بعد انفصاله عن المجلس أليس إعتاق الرقبة مقدما على الصيام في حق المقتدر عليه والسائل كان ملك الزمان الذي يركع له التيجان فقال لو ذكرت له الإعتاق لاستهان بالوقاع في رمضان ولأعتق عبدا على الفور في المكان فإذا علمت أنه يثقل عليهم صوم شهرين تباعا ذكرته ليفيده ارعواء وامتناعا     وأنا أقول إن صح هذا من معتز إلى العلماء فقد كذب على دين الله وافترى وظلم نفسه واعتدى وتبوأ مقعده من النار في هذه الفتوى ودل على انتهائه في الخزي إلى الأمر الأقصى ثكلته أمه لو أراد مسلكا رادعا وقولا وازعا فاجعا لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله     وأليم عقابه وحاق عذابه وأبان له أن الكفارات وإن أتت على خزائن الدنيا واستوعبت ذخائر من غبر ومضى لما قابلت هم الخطيئة في شهر الله المعظم وحماه المحرم وذكر له أن الكفارات لم تثبت ممحصات للسيئات وكان يغنيه الحق عن التصريف والتحريف      ولو ذهبنا نكذب للملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله بالرأي ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح فإنه قد يشيع في ذوي الأمر أن علماء العصر يحرفون الشرع بسببهم فلا يعتمدونهم وإن صدقوهم فلا يستفيدون من أمرهم إلا الكذب على الله وعلى رسوله والسقوط عن مراتب الصادقين والالتحاق بمناصب الممخرقين المنافقين     فإن قيل أليس روى أن حد الشرب كان أربعين جلدة في زمن أبي بكر     الصديق ثم رأى عمر رضي الله عنه لما تتابع الناس في شرب الخمر واستقلوا ذلك القدر من الحد أن يجلد الشارب ثمانين وساعده علي بن طالب رضي الله عنه قلنا هذا قول من يأخذ العلم من بعد ليعلم هذا السائل أن عقوبة الشارب لم تثبت مقدرة محدودة في زمن رسول الله  بل روى أنه رفع إلى مجلسه شارب بعد تحريم الخمر فأمر الحاضرين بأن يضربوه بالنعال وأطراف الثياب فيبكتوه ويحثوا التراب عليه ثم رأى أبو بكر الجلدة فكان يجلد لأربعين مجتهدا غير بان على توقيف وتقدير في الحد ثم رأى عمر ما رأى وقد قال علي رضي الله عنه لا أحد رجلا فيموت فأجد في نفسي فيه شيئا من الحق إلا شارب الخمر فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله  فكأن عقوبة الشارب تضاهي التعزيرات المفوضة إلى رأي الأئمة في مقدارها وإن كان لا يسوغ الصفح عنها فكيف يستجيز السائل أن يتخذ قصة مشكلة على الصحابة ملاذه في تغيير المصطفى  فإذا قضيت من     هذا الفصل وطرى فأقول بعده لست أرى للسلطان اتساعا في التعزير إلا في إطالة الحبس وهو صعب الموقع جدا وليس الحبس ثابتا في حد حتى يحط التعزير عنه      ويسوغ للقاضي أن يحبس في درهم أمدا بعيدا إلى اتفاق القضاء أو الإبراء وقد منع بعض الفقهاء تبليغ مدة الحبس في التعزير سنة نظرا إلى مدة التغريب حدا كاملا فيقص عليه تعزير وإنما هو جزء من حد فليتفطن لذلك الناظر     وقد كنت أحلت على هذا الفصل شيئا من أمور الدين وهذا أو أن الوفاء به فأقول إن نبغ في الناس داع في الضلالة وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته وشر غائلته فالوجه أن يمنعه وينهاه ويتوعده لو حاد عن ارتسام أمره وأباه فلعله يتزجر وعساه ثم يكل به موثوقا به حيث لا يشعر به ولا يراه فإن عاد إلى ما عنه نهاه بالغ في تعزيره وراعى حدا لشرع وتحراه ثم يثنى عليه الوعيد والتهديد ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر ويرشح مجهولين يجلسون إليه على هيئات متفاوتات ويعتزون إلى مذهبه ويسترشدونه ويتدرجون إلى التعلم والتلقي منه فإن أبدى شيئا أطلعوا السلطان عليه فيتسارع إلى تأديبه والتنكيل به وإذا تكرر     عليه ذلك أوشك أن يمتنع ويرتدع ثم إن انكف فهو الغرض وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطان تنكيله وعقوباته فتبلغ العقوبات مبالغ تربى على الحدود وإنما يتسبب إلى تكثير العقوبات بأن يبادره بالتأديب مهما عاد وإذا تخللت العقوبات في أثناء موجباتها تعددت وتجددت فلا يبرى جلده عن تعزير وجلدات نكال حتى تحل به عقوبة أخرى     والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة ويتعدوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة والمسلك الذي مهدناه يتضمن الزجر الأعظم والردع الأتم واستمرار العقوبات مع تقدير المعاودات فإن مجرم أنكف بالقليل فالكثير محرم فلا أدب في تعذيب مسلم وإن أبى عدنا له وإنما ينسل عن ضبط الشرع من لم يحط بمحاسنه ولم يطلع على خفاياه ومكامنه فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو يحث عن الشريعة لألفاها أو خيرا منها في وضع الشرع ولو لم يأمن الإمام مع التناهي في المراقبة والمثابرة والمواظبة غائلة المبتدع أطال حبسه وحصر نفسه     فهذا مسلك السداد ومنهج الرشاد والاقتعاد وما عداه سرف ومجاوزة حد وغلو وعتو والأنبياء  مبعوثون بحسم المراسم والدعاء إلى قصد الأمور وما يتعلق بما نحن فيه أن المتعلقين بضبط الأحوال على حكم الاستصواب في كل باب يرون ردع أصحاب التهم قبل إلمامهم بالهنات والسيئات والشرع لا يرخص في ذلك والذي انتزعت من الشرع ما يقرب سبل تحصيل الغرض في هذا فمن آداب الدين أن لا يقف الإنسان في مواقف التهم فالوجه أن ينهى الإمام من يتصدى لها عن ذلك على جزم وبث      فإن عاد عاقبه على مخالفته أمر سلطانه واستجرائه على والي زمانه فيكون هذا تطرقا إلى الردع على موجب الشرع      ومما كنت أحلته من الأمور الدينية على هذا الفصل القول في توبة الزنديق وقد ذهبت طوائف من سلف هذه الأمة إلى أنه لا يقبل توبته بعدما ظهرت زندقته فإن من عقده أن يظهر خلاف ما يضمر ويتقي الناس ويبدي وفاق الناس فالذي أبداه من توبته عين مذهبه في زندقته     وهذا خارج عندي عن قاعدة الشريعة فإني لا أعرف خلافا إن عسكرا من عساكر الإسلام إذا أناخوا بساحة الكفار فلما أظلتهم السيوف وعاينوا مخائل الحتوف نطقوا بكلمتي الشهادة فيحكم بإسلامهم وإن تحققنا أنهم لم يلهموا الهداية لدين الحق الآن وكان رسول الله  يداري المنافقين مع القطع وتواتر الوحي بنفاقهم وشقاقهم وهو القدوة والأسوة      فالوجه إذا في كف شر ما قدمناه ذكره في دفع عادية الداعي إلى بدعته والتسبب إلى الحبس بالمسلك المذكور لائق بالزنادقة فهذا منهتى القول في ذلك ولا يدرك ما ضمناه هذا الفصل من الجمع بين مقاصد ذوي الإيالة وموافقة الشريعة إلا من وفر حظه من العلوم ودفع إلى مضائق الحقائق والله المشكور على الميسور والمعسور إنه الودود الغفور      انتهى مرامنا فيما يتعلق بالعقوبات من أحكام الإيالات ولم يبق مما رسمناه في حفظ من في الخطة إلا القيام على المشرفين على الضياع وقد ذكرنا أن ذلك ينقسم إلى الولايات وإلى سد الحاجات وغنقاذ ذوي الفاقات      فأما الولاية فالسلطان ولى من لا ولي له من الأطفال والمجانين وهي تنقسم إلى ولاية الإنكاح وحفظ الأموال واستيفاء الأموال والقول في الولايتين من فن الفقه فليطلبه طالبه من المستقلين به      وأما سد الحاجات والخصاصات فمن أهم المهمات ويتعلق بهذا ضرب من الكلام الكلي وقد لا يكفي مجموعا في الفقه فأقول     إذا بنينا على غالب الأمر في العادات وفرضنا انتفاء     الرمان عن الحوائج والعاهات وضروب الآفات ووفق المثرون المؤثرون لأداء الزكوات انطبقت فضلات أموال الأغنياء على أقدار الحاجات وأن قدرت آفة وأزم وقحط وجدب وعارضة غلاء في الأسعار تزيد معه أقدار الزكوات على مبالغ الحاجات فالوجه استحثاث الخلق بالموعظة الحسنة على أداء ما افترض الله عليهم في السنة     فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون لم تف الزكوات بحاجاتهم فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم من الجهات التي سيأتي عليها شرحنا إن شاء الله عز وجل فإن لم يبلغهم نظر الإمام وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم وإن ضاع فقير بين ظهر أبى موسرين حرجوا من عند آخرهم وباؤا بأعظم المآثم وكان الله طليبهم وحسيبهم      وقد قال رسول الله  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن ليلة شعبان وجاره طاو      وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم      ومقصود هذا الفصل ما نذكره الآن     فلو بلى أهل بلدة بقحط وكشرت الشدة عن أنيابها وبثت المنون بدائع أسبابها وعلم من معه بلاغ أنهم لو صفروا أيديهم وفرقوا ما معهم لافتقروا افتقارهم فلا نكلفهم أن ينهوا أنفسهم إلى الضرار الناجز والافتقار العاجل فإنهم لو فعلوا ذلك هلكوا مع الهالكين ولو تماسكوا أوشك أن يبقوا أو يبقى ببقائهم من نفضات أموالهم مضررون وغايتنا أن نذكر الأصلح على أقصى الإمكان وما قدر الله أن يكون كان ولا يبين ما نحاوله إلا بذكر مسألة من      الأحكام تخالف بظاهرها ما افتتحناه فلو فرضنا مصطحبين في الأسفار في بعض القفار وانتهى أحدهما إلى المخمصة ومع الثاني ما يبلغه في غالب الظن إلى العمران فيتعين عليه والحالة هذه أن يسد رمق رفيقه ويكتفي ببلاغ يكفيه في طريقه ولا نكلف الموسرين في مدة الشدة أن ينتهوا إلى كفاية يومهم ويفرقوا باقي أموالهم على المحاويج ويرقبوا أمر الله في غدهم ولا يسوغ لهم أن يغفلوا عن أمور المساكين أصلا ويتركوهم يموتون هزلا والأمر في الرفيقين مفروض فيه إذا قرب وصولهما إلى البلدان والعمران ولا يعود فيهما شذاذ وامتداد     أما إذا كان القحط لا يفضي إلى منتهى العلوم وهذا يناظر ما لو كان الرفيقان في متاهات لا يدريان متى ينتهي بهما إلى العمران فلا يكلف من معه زاد واستعداد أن يؤثر على نفسه ويجتزئ بحاجة يومه أو وقته فإذا تقرر ما ذكرناه فالوجه عندي إذا ظهر الضر وتفاقم الأمر وأنشبت المنية أظفارها وأشفى المضرورون استشعر الموسرون أن يستظهر كل موسر بقوت سنة ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات وأصحاب الخصاصات ولست أقول أن منقرض السنة يستعقب انجلاء المحن وانقضاء الفتن على علم أو ظن غالب ولكن لا سبيل إلى ترك الفقراء على ضرهم ولا نعرف توفيقا في الشرع ضابطا ينتهي إليه فيما يبذله الموسر وفيما يبقيه ورأينا في السنة قواعد شرعية تشير إلى هذه القصية وفي اعتبار السنة إيضاحا له ظنية عقلية فأما أمارات الشرع فمن أقربها تعلق وظيفة الزكاة بانقضاء السنة وكان رسول الله      يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوت سنة      وأما الأمر العقلي فقد ظن أن الأحوال تتبدل في انقضاء السنة فإنها مدة الغلات وأمد الثمرات وفيها تحول الأحوال وتزول وتعتقب الفصول ثم الباذلون في بذلهم على غرر وخطر ولكن ما ذكرناه أقصد معتبر وما ذكرته بيان ما يسوغ وليس أمرا مجزوما ولا حكما محتوما فمن طابت نفسه بإيثار أخيه على نفسه فالإيثار من شيم الصالحين وسير الموفقين     فهذا منقرض القول في الأمور الجزئية التي تتعلق بالإمام في حفظ من في خطة الإسلام فإن قيل لن تذكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلنا الشرع من مفتتحة إلى مختتمه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وما يتعلق بالإمام منه ما فصلناه الدعاء إلى المعروف والنهي عن المنكر يثبت لكافة المسلمين إذا قدموا على ثبت وبصيرة وليس إلى الرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب من غير فظاظة وملق ومن ظهر منه الصدق والديانة وتجرد لله تعالى فأوضح الحق وأبانه على تخضع لله واستكانة ثم زان برفقة شأنه وما دخل الرفق أمرا إلا زانه ونجع كلامه في      المستكبرين في زمانهم المتولين بأركانهم فإن لم يرعوا لم يكن للرعية المكاوحة وشهر الأسلحة ولكنهم ينهون الأمور إلى الولاة ثم أنهم يرون رأيهم في فنون الردع كما سبق تفصيلها      فإن قيل أليس الولاة يعتنون بتقويم المكاييل والموازين قلنا إن تولى السلطان أبوابا في الأمر بالمعروف فلا معترض عليه فيها ولكن لا يختص به إلا ما يتعلق بالسياسة ولو تصدى للأمر بالتقويم والجريان على المنهج القويم والمسلك المستقيم آحاد من المسلمين محتسبين كانوا غير ممنوعين ولا مدفوعين نعم يتعلق بالوالي أن يكلف المتهم بالتطفيف عرض ميزانه ومكياله ولا يثبت ذلك لمن ليس مأمورا من جهة السلطان وهذا يدخل تحت ما تقدم في فصل العقوبات وردع المتهمين بما لا يرضى من الخيالات فلم أد إفراد الأمر بالمعروف بالذكر     أما تفاصيل القول في الأمر بالمعروف فإنه يحويه كتاب يليق بالفقهاء أن يستقصوه فوكلوه إلى المتكلمين كما وكلوا إليهم التوبة وتفاصيل الأقوال في الخروج عن المظالم ولو حاولت قولا قريبا في الأمر بالمعروف وسيطا لأبر على قدر هذا الكتاب ولم يكن حاويا بسيطا انتهى القول في الكلي والجزئي مما يسوس به الإمام     الرعية      والان ابتداء ذكر نجدة الأمام وعدته     بخفي على ذي بصيرة أن الأمام يحتاج في منصبه العظيم وخطبه الشامل العميم إلى الاعتضاد بالعدد والعتاد والاستعداد بالعساكر والاجناد فإنه متصد لحراسة البيضة وحفظ الحريم والتشوف إلى بلاد الكفار فيجب أن يكون عسكره معقودا يرون التطلع إلى اوامره شوفا مقصودا ومطمحا معمودا ولا يجوز أن يكون معوله المطوعة الذي لا ينشأون إذا ندبوا مبادرين حتى يتأهبوا ويستعدون وتيألبوا وان تقوم الممالك إلا بجنود مجندة وعساكر مجردة هم مشرأبون للانتداب مهما ندبوا بعزائم جامعة وآذان متشوفة إلى صوت هائعة وهؤلاءهم المرتزقة لا يشغلهم عن البدار دهقنة وتجارة ولا تلهيهم ترفة ولا عمارة وكان رسول الله  في زمنه لا يدون ديوانا ولا يجرد للجهاد اعوانا إذ كان المهاجرون والانصار يحفون إلى ارتسام اوامره من غير اناة واستئخار وانقرض على ذلك من خلافة الصديق ثم لما انتهت النوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه جند الجنود وعسكر العساكر ودون      الدواوين وصارت سيرته وايالته اسوة العالمين إلى يوم الدين      فإذا تقرر انه يتحتم استظهار الأمام بالاعوان والانصار فلا بد من الاستعداد بالاموال وقد ذكرنا أن الأموال التي يجمعها ويجيبها ويطلبها وينتحيها ينقسم إلى ما يتعين مصرفه والى ما يعم انبساطه على وجوه لامصالح وتفاصيل الأقوال في الأموال مذكورة في كتب الفقه ولكين اذكر تراجمها وابسط القول قليلا فيما يتعلق بالايات الكبيرة منها فمن الأموال المختصة بالمصارف الزكوات وهي مصروفة إلى الاصناف الموصوفين في كتاب الله وسنن رسول الله واوصاف القول في اقدارها ومحالها وفي مصارفها مذكورة في كتابين من الفقه أحدهما بكتاب الزكاة والثاني بكتاب قسم الصدقات     ومنها اربعة اخماس الفيء والفيء ماء كافر عثر عليه من غير ايجاف خيل وركاب ويدخل تحته الجزية والاخرجه عند من يراها من العلماء واموال المرتدين وما ينجلي عنه الكفار من غير قتال مرعوبين مذعورين أو مختارين     فأربعة اخماس ما وصفناه يختص في ظاهر المذهب بالمرتزقة والجند المترتبين في الإسلام والقول فيه وفي خمس الغنيمة وخمس الفيء مذكور في كتاب مفرد في فن الفقه      واما المال العام فهو مال المصالح وهو خمس خمس الفيء وخمس خمس الغنيمة وما يخلفه مسلم ليس له وارث خاص      ويلتحق بالمرصد للمصالح مال ضائع للمسلمين قد تحقق اليأس من معرفة مالكه ومستحقه      فهذه الأموال التي يحويها يد الأمام ومصارفها مقررة عند الفقهاء وقد كثر فيها الاختلاف ومسالك الظنون والامام يرى فيه رأيه وان اعتاصت مسألة اجال فيها فكره وردد نظره واستضاء برأي العلماء فإذا غلب ظنه مضي قدما وأمضي مقتضى رأيه ولا يليق بهذا الكتاب التعرض لتفاصيل المسائل الظنية مع اعتناء العلماء بتصنيفها وجمعها وتأليفها      فالذي اذكره في الأموال ثلاثة اشياء يفتقر اليها الابالة لا محالة      أحدها ذكر ألفاظ وجيزة ضابطة لجمل المصاريف وكلياتها      والثاني في تحقيق القول في أن الأمام هل ينزف مال بيت المال كل سنة أو يستظهر بذخيرة ليكون من أمره على بصيرة     والثالث تفصيل القول فيه إذا نفذت الأموال وانحسمت مجالبها     ومكاسبها فكيف يكون مضطربه ومحاله ومن أين ماله والى ماذا يؤل ماله      فأما القول الضابط في كلى المصارف فأقول من يرعاه الأمام بما في يده من المال ثلاثة اصناف صنف منهم محتاجون والامام يبغي سد حاجاتهم وهؤلاء معظم مستحقي الزكوات في الاية المشتملة على ذكر اصناف المستحقين قال الله تعالى     إنما الصدقات للفقراء    الاية وللمساكين استحقاق في خمس الفيء والغنيمة كما يفصله الفقهاء فهؤلاء صنف من الاصناف الثلاثة     والصنف الثاني اقوام يبغي الأمام عليهم كفايتهم ويدرأ عنهم بالمال الموظف لهم حاجتهم ويتركهم مكفيين ليكونوا متجردين لما هم بصدده من مهم الإسلام وهؤلاء صنفان أحدهما المرتزقة وهم نجدة المسلمين وعدتهم ووزرهم وشوكتهم فينبغي أن يصرف اليهم ما يرم خلتهم     ويسد حاجتهم ويستغنوا به عن وجوه المكاسب والمطالب ويتهيأوا لما رشحوا له ويكون اعينهم ممتده إلى أن يندبوا فيخفوا على البدار وينتدبوا من غير أن يتثاقلوا وتيشاغلوا بقضاء ارب وتمهيد سبب      وغضرنا الاكتفاء بتراجم كلية في التقاسيم والفقهاء يستقلون بايضاح التفاصيل فهؤلاء صنف من الصنفين المذكورين آخرا      والصنف الثاني الذين انتصبوا لاقامة اركان الدين وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التوسل إلى ما يقيم اودهم ويسد خلتهم ولولا قيامهم بما لا بسوه لتعطلت اركان الإيمان فعلى الأمام أن يكفيهم مؤنتهم حتى يسترسلوما فيما تصدوا له بفراغ جنان وتجرد اذهان وهؤلاء هم القضاة والحكام والقسام والمفتون والمتفقهون وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه عما سداده وقوامه فأما المرتزقة فالمال المخصوص يعم اربعة اخماس الفيء      والصنف الثاني يدر عليهم كفايتهم وارزاقهم من سهم المصالح وقد أتى مساق التقسيم على صنفين من الاصناف للثلاثة المتقدمين     والصنف الثالث قوم يصرف اليهم طائفة من مال بيت المال على     غناهم واستظهارهم ولا يتوقف على استحقاقهم على سد حاجة ولا استبقاء كفاية وهم بنو هاشم وبنوا المطلب المسمون في كتاب الله ذوو القربى فهؤلاء يستحقون سهما من خمس الفيء والغنيمة من غير اعتبار حاجة وكفاية عند الأمام الشافعي رحمه الله وقد شهدت بصحة مذهبه الأخبار الصحيحة والنصوص الصريحة وسير الخلفاء ومذاهب العلماء قبل ظهور اختلاف الاراء      فهذه جمل في مصارف أموال بيت المال يليق بالايالة العظمى حفظها وقد انتهى الغرض في هذا الفن      فأما القول في نزف الأموال أو الاستظهار بالذخائر فهذا الفن اليق باحكام السياسات مما قبله      وقد ذهبت طوائف من علماء السلف إلى أن الأمام إذا اوصل كل ذي حق في بيت المال حقه ففضل في بيت المال مال فلا سبيل إلى تبقيته بل يتعين تفريقه واستيعاء جميع ما احتوته يد الأمام من الأموال      أما المرتزقة أن توفرت عليهم كفايتهم وانسدت خلاتهم وفضل من اربعة اخماس الفيء فاضل فيجب الفاضل عليهم على اقدار اعطيتهم واقساطهم     وأما الزكوات أن انتهى مستحقوها إلى مقاربة الاستقلال واكتفوا بما نالوه منها فلا سبيل إلى رد فاضل الزكوات عليهم فإن اسباب     استحقاقهم ما اتصفوا به من حاجاتهم فإذا زالت اسباب الاستحقاق زال الاستحقاق بزوالها فالفاضل عند هذا القائل أن تصور استغناء مستحقي الزكاة في قطر وناحية منقول إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى وان بالغ مصور في تصوير شغور الخطة عن مستحقي الزكاة في ناحية أخرى فهذا اخرق للعوائد وتصوره عسر ولكن العلماء ربما يفرضون صورا بعيدة وغرضهم وتقديرها تمهيد حقائق المعاني فإن احتملنا تصور ذلك فالفاضل من الزكوات عند هؤلاء مردود إلى سهم المصالح العامة      واما المال المرصد للمصالح فلا يتصور انقطاع مصارفه والامام يبدأ فيه بالاهم فالاهم فإن مست الحاجة إلى ضم طائفة منه إلى مال المرتزقة أو صفر بيت المال عن الفيء فأهم المصالح تمهيد كفاية المرتزقة وان لم تف الزكوات حاجات المحاويج سد الأمام حاجتهم بمال المصالح فأذن مال المصالح معد لكل مصلحة ليس لها على الخلوص والخصوص مال وكل مصرف قصر عنه المال المعد له فمال المصالح يستتمه ويستكمله     ولو فرض زوال الحاجات وارتفاع الضرورات فهؤلاء يقولون فاضل مال المصالح يبني به الرباطات والقناطر والمساجد وغيرها من جهات الخير فحاصل هذا المذهب انه لا يبقي في منقرض كل سنة في بيت المال مال ويرتب في استقبال السنة المتظرة اموالها وهؤلاء يستدلون بسيرة الخلفاء

الراشدين فإنهم رضي الله عنهم اجمعين ما كانوا يستظهرون بأموال وذخائر وهم اسوة من بعدهم في امور الامامة أن حاولوا السداد والاستقامة والذ ياقطع به أن الحاجة إذا انسدت فاستمكن الأمام من الاستظهار بالادخار فحتم عليه أن يفعل ذلك ولست ارى ذلك من مسائل التحري التي تتقابل فيها مسالك الظنون والدليل القاطع على ذلك أن الاستظهار بالجنود والعسكر المعقود عند التمكن حتم وان انفذ الكفار وتقاصت الديار لان الخطة إذا خلت عن نجدة معدة لم يأمن من الحوادث والبوائق والافات والطوارق وإذا ارتبط النظر بالأمر الكلي وآل الخوف والاستشعار إلى البيضة والحوزة فقد عظم الخطر وتفاقم الغرر وصعب موقع تقدير الزلل والخطل وإذا كان الاستظهار بالجنود محتوما فلا معول على ملكة لا معتضد ولا مستند لها من الأموال فإنها شوف الرجال ومرتبط الامال ومن ألف مبادئ النظر في تصاريف الاحوال في الايالات لم يخف عليه مدرك الحق في هذا المقال     وإذا كان منصب الأمام القوام على طبقات الانام مقتضيا أن يتحرى الاصلح فالاصلح فكيف يليق بنظر ذي تحقيق أن يبدد الأموال في     ابتناء القناطر والدساكر ويترك ما هو ملاذ العساكر والاطناب في الواضحات يزري بذوي الالباب فإذا يتعين على الأمام الاحتفاظ بفضلات الأموال فإنها تنزل من نجدة الإسلام منزلة السور من الثغور      فإن قيل أن احتاج الأمام إلى مال اخذه من الجهة التي يأخذ منها لو صفر بيت المال عن المال قلنا هذا ضعف بين في الرأي وانحلال واضح في النظر في العواقب ولا يستتب بهذا النظر أمر جزئي فكيف الظن بسياسة الإسلام ولو ساغ ذلك لجاز أن لا يستظهر بالجنود المعقودة ويعول على استنفار المطوعة مهما عنت الحاجة والمت ملمة وهذا باطل لا سبيل إلى المصير اليه والتعويل عليه      وأما ما تعلق به الاولون من سير الخلفاء فحق على المنتهى إلى هذا الموضع أن ينعم نظره ويجرد لدرك التحقيق فكرة فنقول     ما كانت الاموال تبلغ في زمنهم مبلغا يحتمل الادخار فإن الصديق رضيالله عنه بلى في معظم زمانه بقتال الردة وما اتفقت مغانم بها اكتراث والاحتفال ثم لما ولى عمر الأمر واتسعت خطة الإسلام وانتشرت رايات الدين واستفحل أمر المسلمين وكثرت الغزوات وانبثت الدعوات وكسر جند الإسلام صول كسرى وقصر طول قيصر واستمرت الدولة وعظم الصولة ووفرت المغانم وتجردت للجهاد والعزائم والقت الممالك إلى حماة الإسلام مقاليدها ولنت كل جبنة ابية للاحكام جيدها وفتحت الكور والامصار وكثر الاعوان والانصار فقد يعتقد المعتقد

ابتناء القناطر والدساكر ويترك ما هو ملاذ العساكر والاطناب في الواضحات يزري بذوي الالباب فإذا يتعين على الأمام الاحتفاظ بفضلات الأموال فإنها تنزل من نجدة الإسلام منزلة السور من الثغور      فإن قيل أن احتاج الأمام إلى مال اخذه من الجهة التي يأخذ منها لو صفر بيت المال عن المال قلنا هذا ضعف بين في الرأي وانحلال واضح في النظر في العواقب ولا يستتب بهذا النظر أمر جزئي فكيف الظن بسياسة الإسلام ولو ساغ ذلك لجاز أن لا يستظهر بالجنود المعقودة ويعول على استنفار المطوعة مهما عنت الحاجة والمت ملمة وهذا باطل لا سبيل إلى المصير اليه والتعويل عليه      وأما ما تعلق به الاولون من سير الخلفاء فحق على المنتهى إلى هذا الموضع أن ينعم نظره ويجرد لدرك التحقيق فكرة فنقول     ما كانت الاموال تبلغ في زمنهم مبلغا يحتمل الادخار فإن الصديق رضيالله عنه بلى في معظم زمانه بقتال الردة وما اتفقت مغانم بها اكتراث والاحتفال ثم لما ولى عمر الأمر واتسعت خطة الإسلام وانتشرت رايات الدين واستفحل أمر المسلمين وكثرت الغزوات وانبثت الدعوات وكسر جند الإسلام صول كسرى وقصر طول قيصر واستمرت الدولة وعظم الصولة ووفرت المغانم وتجردت للجهاد والعزائم والقت الممالك إلى حماة الإسلام مقاليدها ولنت كل جبنة ابية للاحكام جيدها وفتحت الكور والامصار وكثر الاعوان والانصار فقد يعتقد المعتقد    إمكان الادخار ولكنا نقول كان معظم الأموال غنائم احتوى عليها عساكر الإسلام بايجاف الخيل والركاب وليس يخفي أن اربعة اخماسها مصروفه إلى المصطلين بنات القتال اسلابا وسهاما وارضاخا وكان امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رتب في كل ناحية حماة وكفاة وامراء وولاة وولاهم امور الأموال وفوض اليهم الأحكام على تصاريف الاحوال ورسم لهم مراسم يقتدون بها ونصب لهم معالم في اخماس المغانم يهتدون اليها وكانوا يبثون ما ينفق من مال في العساكر المرتزقة المترتبين في الناحية فلا يفضل إلا النزر ثم ما كان يفضل ويحيى إلى امير المؤمنين بفرقه على الذين في جزائر العرب ويتسع في الاستحقاق كل سبب فما كان يفضل ويحيى من الأموال المجبية على هذه القضية في انقضاء السنة فانقرض ذخيره     ولما ضرب الخراج على بلاد العراق جرى الأمر في الأموال المستفادة على نحو ما ذكرناه إذ كان اكثر الجند في تلك الناحية وهم النجدة الكبرى في وجه الروم وملوك الاطراف واعناقهم صور إلى بلاد الشرق وسائر الاكناف ولا يقطع بأن بيت المال خلا في زمان امير المؤمنين عثمان عن الأموال بل نظن ظنا غالبا أنه كان استظهر بذخائر على تطلع إلى العواقب وبصائر حتى اشرأبت الفتن وثارت المحن واضطرب الزمن وتقلقت      الخلافة في نصابها واصفقت الملهة بسيدها وبابها وما اتسق بعده أمر وما استمر على ما كان يعهد عصر ولم يتفرغ امير المؤمنين علي رضي الله عنه من مصادمة البغاة ومكاوحة الطغاة إلى تجهيز الغزاة وجرت هناة على اثر هناة ثم صار بعد مقتله رسم الخلافة مرفوضا وانقلب الأمر ملكا عضوضا وتغير الحكم والزمان والله جلت قدرته اعظم بما جرى وكان      فإن قيل على ماذا تحملون الأمر في زمان المصطفى  قلنا كان صحبه الاكرمون الانصار والمهاجرون لما ندبوا إلى الجهاد في سبيل الله والذب عن حوزة الإسلام يصادمون المارقين على الضر والاواء ويطيرون إلى الغزات صابرين على البأساء ومعظم في ملتطم اهوال القتال رجال وجرت نهضات وكثير من الاعزة في رمضاء الحجاز حفاة وكان نبي الله  يستمد من أموال الموسيرين في تجهيز المجاهدين إذا اهم أمر وادلهم خطب كما جرى في تجهيز جيش العسرة وهذا المقدار فيه اقناع وعبرة     فأما الآن فقد اتسعت خطة الإسلام وهي على الازدياد والحمد لله على ممر الايام ولكل زمان رسمه وحكمه ونحن على ارتجال من عقولنا نعلم فيما     يمضي ويحكم أن صاحب الأمر لو لم يجعل الاستظهار بالادخار اكبر همه عند الايثار واطراد اسباب الاختيار لعظم الفتق وعسر الرتق فأفضى الأمر إلى عظائم لا يحيط بها مجاري الافكار      فهذا القدر فيه مقنع وبلاغ والازدياد على ما مهدناه مضطرب رحب ومساغ      وقد انتهى المرام وغرض الكلام في الفصل الثاني من الفصول الثلاثة المترجمة اولا في احكام الأموال      فأما الفصل الثالث منها وهو اهمها فالغرض ذكر ما يقتضيه الايالة الشرعية والسياسة الدينية فيه إذا اصفرت يد راعي الرعية عن الأموال والحاجات ما سة فليت شعري كيف الحكم وما وجه القضية فإن ارتقب الأمام حصول أموال في الاستقبال ضاع رجال القتال وجر ضياعهم اسوأ الاحوال وان استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط الشرع في الأقوال والافعال     وقد قدمنا حينما سبق انا لا نحدث لتربية الممالك في معرض الاستصواب مسالك لا نرى لها من شرعة المصطفى مدارك فإن بلى الأمام بذلك فليتئد     ولينعم النظر هنالك فقد دفع إلى خطتين عظيمتين      إحداهما تعريض الخطة للضياع      والثانية اخذ مال في غير استناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف والله ولي التوفيق والتيسير وهو باسعاف راجيه جدير فنقول      إذا اخلا بيت المال انقسمت الاحوال ونحن نرتبها على ثلاثة اقسام ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ للاحكام ونمزج القضايا السياسية بالموجبات الشرعية فلا تخلو الحال وقد صفر بيت المال من ثلاثة انحاء      أحدها أن يطأ الكفار والعياذ بالله ديار الإسلام      والثاني لا يطأوها ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا ونتوقع انحلالا وانفلالا لو لم نصادف مالا ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الاقطار وتشوفهم إلى وطء اطراف الديار      والثالث أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على اهب وعتاد وشوكة واستعداد ولو وقفوا ولو ندبوا للغزو والجهاد لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد وفضل استمداد ولو لم يمدوا لانقطعوا عن الجهاد     فهذه التقاصيم قاعدة الفصل فلنقل فيها اولا ولنذكر في كل قسم منها معولا ثم ننظر إلى ما وراءها والله المستعان على ما نحاوله من بيان   فصل         فأما إذا وطئ الكفار ديار الإسلام فقد اتفق حملة الشريعة قاطبة على انه يتعين على المسلمين أن يخفوا ويطيروا إلى مدافعتهم زرافات ووحدانا حتى انتهوا إلى أن العبيد ينسلون عن ربقة طاعة السادة ويبادرون الجهاد على الاستبداد وإذا كان هذا دين الأمة ومذهب الأئمة فأي مقدار الأموال فيهجوم أمثال هذه الاهوال لو مست اليها الحاجة وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعد لها ولم توازها فإذا وجب تعريض المهج للتوى وتعين في محاولة المدافعة التهاوي على ورطات الردى ومصادمة العدى ومن ايدي في ذلك تمردا فقد ظلم واعتدى فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات فالاموال في هذا المقام من المستحقرات     وأجمع المسلمون اجمعون على أنه إذا اتفق في الزمان مضيقون فقراء مملقون تعين على الاغنياء أن يسعوا في كفايتهم وكذلك اتفقوا كافة     على وجوب بذل الأموال في تجهيز الموتى وغيره من جهات فروض الكفايات فلاح على أبلغ وجه في الايضاح انه يجب على الاغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات اموالهم كما سنفصل القول في ذلك أن شاء الله عز وجل حتى تتجلى هذه الداهية وتنكف الفئة المارقة الطاغية ولا ينبغي أن يعقد الناظر الان فكره بالتفصيل فإن بعد في التأسيس والتأصيل وسيأتي في شرح ذلك ما عليه التعويل أن شاء الله      فهذا بيان مقدار غرضنا الان إذا وطئ الكفار بلاد الإسلام      فأما إذا لم يجر ذلك بعد ولكنا نحاذره ونستشعره لانقطاع مواد الأموال واختلال الحال واشارة الزمن إلى سوء المغبات في المال ولو لم يتدراك ما يخاف وقوعه لو وقع في غالب الظن      فهذا الفن ملحق بالقسم الأول قطعا ولا يحل في الدين تأخير النظر للاسلام والمسلمين إلى اتفاق استجراء الكافرين ولو فرض في مثل هذا الحال توقف وتمكث لانحل العصام وتبتر النظام والدفع اهون من الرفع واموال العالمين لا تقابل وطأة الكفار في قرية من قرى الديار وفيها سفك دم المسلمين وامتداد يد إلى الحرام ولو وقع وتم فلا مستدرك لما انقضي وتقدم إلا التأسف وقرع سن الندم فإذا يلتحق هذا القسم بما تقدم     فأما القسم الثالث وهو أن لا يخاف من الكفار هجوما لا خصوصا في بعض الاقطار ولا عموما ولكن الانتهاض إلى الغزوات والانتداب للجهاد     في البلاد يقتضي مزيد عتاد واستعداد فهل يكلف الأمام المثين والموسرين أن يبذلوا ما يستعدون به هذا موقع النظر ومجال الفكر      ذهب ذاهبون إلى انه لا يكلفهم ذلك بل يرتقب في توجيه العساكر ما يحصل من الأموال والذي اختاره قاطعا به أن الأمام يكلف الاغنياء بذل فضلات الامومال ما يحصل به الكفاية والغناء فإن اقامة الجهاد فرض على العباد فتوجيه الاجناد على اقصى الإمكان والاجتهاد في البلاد محتوم لا تساهل فيه وما أقرب تقاعدنا عنهم إلى سيرهم الينا واستجرائهم علينا وإذا كنا لا نسوغ تعطيل شيء من فروض الكفايات فأحرى فنونها بالمراعاة الغزوات      والامور في الولايات إذا لم تؤخذ من مباديها جرت امورا يعسر تداركها عند تماديها      وقد اجرينا فيما تقدم أن الدنيا تبع الدين وان صاحبنا بعث لتأسيس الدين وتأدية الرسالة والابلاغ والاكتفاء نم هذه الدنيا ببلاغ فمن عظائم الأمور ترك الاجناد وتعطيل الجهاد وانحصار العساكر في الثغور     فان قيل قد ذكرتم انه تمتد يد الأمام إلى اموال الموسرين عند الهم بتجهيز الاجناد إلى الجهاد فما قولكم فيه إذا كان مع المرتزقة كفايتهم وعدتهم      في إقامتهم ونهضتهم ومرابطتهم وغزوتهم في أوانها وابانها ولكن خلى بيت المال أو كاد أن يخلوا وخاف الأمام غائلة هائلة من خلو بيت المال عند عسكرة للكفارة أو دبرة على المجاهدين      فقد تقدم القول الناجع الواقع في وجوب الاستظهار بالذخائر وتنزيل اعداد المال منزلة اعداد الرجال ولو وهت كفاية الرجال امتدت يد الأمام إلى الأموال والذخيرة احدى العدتين فما الوجه في ذلك     قلت هذا الآن دون تقسيم الأخير الذي تقدر نجازه فان المرتزقة إذ لزموا الثغور والمراصد وتقاعدوا عن الانبعاث إلى المقاصد كان ذلك متضمنا تعطيل الجهاد ناجزا وفيه خصلة أخرى وهي أن مع معظم اموال بيت المال مما تحويه ايدي المسلمين من أموال الكافرين فإذا انقطع الجهاد انقطع بانقطاعه وجوه الأموال التي تنصب إلى بيت المال ويتداعى ذلك إلى اختلال وانحلال يتعذر معه المرابطة فإن المؤن إذا كانت دائرة بحمامها وقد اكتفيت المطالب وعرت وجوهها لم يخف على ذي نظر في العواقب افضاء الأمر على قرب وكثب إلى انقطاع اصل السبب والقيم     المنصوب في مال طفل مأمور بأن لا يقصر نظره على ضرورة حاله بل ينظر في حاله باستنماء ماله وطلب الاغبط فالاغبط في جميع امواله وليس أمر كلي الملة بأقل من أمر طفل ولا نظر الأمام القوام على خطة الإسلام بأقصر نظرا وفكرا من قيم وهذا واضح لاخفاء بمدركه عند انقطاع الجهاد      فأما إذا كان جنود الإسلام مشمرين للجهاد فالوجوه التي منها ينتظم الأموال غير منحسمة والاحوال متسقة منتظمة فيبعد تنجيز التعرض لاموال الناس لأمر مقدر على نأى وبعد      ولا ينجلي هاذ الفصل حتى اذكر بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده امرا يوضح الانفصال عما تضمنه هذا السؤال من الاشكال ولكن الذي ذكرته الآن فيه بلاغ واستقلال      فإن قيل قد ذكرتم في التقاسيم التي قدمتم أن الأمام يستمد من أموال الاغنياء فأبينوه وفصلوه وبوحوا بالغرض وحصلوه واوضحوا المآخذ والوجوه     قلنا قد انتهى الكلام في مقصود الفصل إلى غمرة تغرق الجهول     و تحير العقول وما أراها تخيض إلا من كان التوفيق مطيته والابتهال إلى الله طوبته والتبحر في بحور العلوم عدته وينبغي أن ننبه على خطره وغرره ثم نندفع في درر الكلام وغرره فالخائض فيما انتهي الكلام أن لم يعصم ولم يثبت منه القدم بين شرفين عند الالتفات إلى طرفين      فإن وقع نظره في النكفاف عن الأموال التزم مصير الإسلام إلى اسوأ المصائر والاحوال وان استرسل في اطلاق الايدي في الأموال من غير اقتصاد انتصب إلى احداث مطالبات كلية لا اصل لها في القضايا الشرعية     وقد تقدم أن التدابير إذا لم يكن لها عن الشرع صدر فالهجوم عليها حظر ثم قصارها إذا لم تكن مقيدة بمراسم الإسلام مؤيدة بموافقة مناظم الأحكام ضرر فاعود واقول لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء ولم يتعرض له العلماء فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلقى مدونا في كتاب ولا مضمنا لباب ومتى انتهى مساق الكلام إلى احكام نظمها اقوام احلتها على اربابها وعزيتها إلى كتابها ولكني لا أبتدع ولا أخترع شيئا بل ألاحظ وضع الشرع واستشير معنى يناسب ما أراه واتحراه وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا يوجد فيها اجوبه العلماء معدة واصحاب المصطفى صلوات الله عليه ورضي الله عنهم لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصا معدودة واحكاما محصورة محدودة ثم حكموا     في كل واقعة عنت ولم يجاوزوا وضع الشرع ولا تعدوا حدوده فعلمونا أن احكام الله تعالى لا تتناهي في الوقائع وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرة عن قواعد مضبوطة      فليكن الكلام في الأموال وقد صفر بيت المال واقعة لا نعهد فيها للماضين مذهبا ولا نحصل لهم مطلبا ولنجر فيه ما جرى عليه الاولون إذ دفعوا إلى وقائع لم يكونوا يألفوها ولم ينقل لهم مذاهب ولم يعرفوها وإذا استد الناظر استوى الأول والآخر فنقول للناس حالتان      إحداهما انيعدموا قدوة واسوة واماما يجمع شتات الرأي ويردوا إلى الشرع المجرد من غير داع وحاد فإن كانوا كذلك فموجب الشرع والحالة هذه في فروض الكفايات أن يحرج المكلفون القادرون لو عطلوا فرضا واحدا ولو اقامه من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين ولا يثبت لبعض المكلفين توجيه الطلب على آخرين فإنهم ليسوا منقسمين إلى داع ومدعو وحاد ومحدو     وليس الفرض متعينا على كل مكلف فلا يعقل تبين التكليف     في فروض الكفايات مع عدم الوالي إلا كذلك فلنضرب في ذلك الجهاد مثلا فنقول لو شغر الزمان عن وال تعين على المسلمين القيام بمجاهدة الجاحدين وإذا قام به عصب فيهم كفاية سقط الفرض عن سائر المكلفين فهذا إذا عدموا واليا     فأما إذا وليهم امام مطاع فإنه يتولى جر الجنود وعقد الالوية البنود وابرام الذمم والعهود فلو ندب طائفة إلى الجهاد تعين عليهم مبادرة الاستعداد من غير تخاذل وتواكل وايتأد ولم يكن لهم أن يقولوا ليس ما ندبنا اليه متعينا علينا فليقم به غيرنا فإنا قد اثبتنا أن المسلمين إذا نصبوا واليا يدبرهم في اصدارهم وايرادهم تدبير الاباء في اولادهم ولو ساغ مقابلة اوامره ونواهيه بما يوهي شأنه ويوهنه لما استتب له مقصد فيما يذره ويأتيه ولافضى إلى عسر يتعذر تلافيه ولو وكل كل مندوب ارتسام مراسم الوالي المنصوب إلى غيره لما استقرت للامام طاعة في ساعة فإذا رأى الوالي المنصوب رأيا من هذا الفن كان متبعا ولم يجد الرعايا دون ابتاعه محيدا ومتسعا فإذا تقرر ذلك بنينا عليه أمر المال قائلين لو شغرت الايام عن قيام إما بأمور المسلم والاسلام ومست الحاجة في اقامة الجهاد إلى مال وعتاد واهب واستعداد كان وجوب بذله عند تحقيق الحاجات على منهاج فروض الكفايات فليست الأموال بأعز من المهج التي يجب تعريضها للاغرار المؤدية إلى الردى والتوى     فهذا إذا لم يكن في الزمان وزر يلاذ به فإذا ساس المسلمين وال وصفرت يده عن عدة ومال فله أن يعين بعض الموسرين لبذل ما تقتضيه ضرورة الحال لا محاله كما يندب من يراه اهلا للانتداب فلا ينبغي أن يستبعد المرء حكم الأمام في فلسه مع نفوذ حكمه في روحه ونفسه      ولست اقول ذلك عن حسبان ومخالجة ريب بل اقطع به على الغيب وسيزداد ذلك وضوحا وانشكافا إذا ذكرت من تفاصيل هذه القاعدة اطرافا وكيف يبعد مدرك ذلك على الفطن الاريب وفي أخذ فضلات من أموال رجال تخفيف اعباء عنهم واثقال واقامة دولة الإسلام على ابهة الاستقلال في احسن حال ولو لم يتدراك الأمام ما استرم من سور الممالك لاشقى الخلائق على ورطات المهالك ولخيفت خصلة لو تمت لاكلت ولا ألمت لكان اهون فائت فيها أموال الاغنياء وقد يتعداها إلى اراقة الدماء وهتك الستور وعظائم الأمور     فإذا تمهد ما ذكرناه فلنقل بعده ليس للامام في شيء من مجاري الأحكام أن يتهجم ويتحكم فعل من يتشهى ويتمنى ولكنه يبني اموره كلها دقها وجلها عقدها وحلها على وجه الرأي والصواب في كل باب فلا يندب قوما للجهاد إلا إذا رأى تعينهم منهج الرشاد ومسلك السداد ثم يحزب الناس     أحرابا ويجهل ندبهم إلى الجهاد ندبا كذلك ويجهز إلى كل حيل من الكفار من يليهم في صوب تلك الديار وهذا يغني وضوحه في طرق الايالة عن الاطناب والاطالة      والأمر في أخذ الأموال يجري على هذه الاحوال فيشير على كل اغنياء في كل صقع بأن يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال وليس لتفاصيل الرأي غاية ونهاية فلير الأمام في ذلك كله رأيه وما ذكرناه ليس حصرا وضبطا في المقال ولكنا جئنا ضربا للأمثال وعلى رأي الأمام بعد عون الله الاتكال في مضطرب الاحوال     ومن تتمة القول في في هذا أن المسلمين إذا وجدوا معاذا واتخذوا لملماتهم ملاذا لم يكن لهم مضادته ومرادته ومعاندته ومحادثته فإن رأىاذا وقعت واقعة عامة وداهية مطبقة للخطة طامة ومست الضرورات في دفاعها إلى عدة ومادة من المال تامة ويد الأمام صافرة وبيوت الأموال شاغرة أن يتسبب إلى استيداء مال من موسري المؤمنين فإنه يفعل ذلك على موجب     الاستصواب ما أراه وعمم أهل الاقتدار واليسار في أقاصي البلاد ورتب على كل ناحية في تحصيل المراد ذا كفاية ودربة وسداد وان عسر التبليغ إلى الاستيعاب ورأى في وجه الصواب أن يخصص اقواما ثم يجعل الناس في ذلك فئاما فيستأدى عند كل ملمة من فرقة أخرى وأمة اتبع في ذلك فئاما فيستأدى عند كل ملمة من فرقة أخرى وأمة اتبع في ذلك كله اوامره واجتنب زواجره ثم ليكن في ذلك علي اكمل نظر وأسد فكر وعبر فان اقتضى الرأي تعيين اقوام على التنصيص يعرض لهم على التخصيص ونر إلى من كثر ماله وقل عياله وقد يتخير من خيف عليه من كثرة ماله أن يطغى ولو ترك لفسد ولو غض من غلوائه قليلا لأوشك أن يقتصد ويستد وإذا لم يخل المتصدى للامامة والاستقامة عن تحديد النظر وتسديد الفكر ففيما ذكرناه تصريحا أو رمزا اليه تلويحا له معتبر ثم إذا قد لاحت المراشد ووضحت القاصد فنذكر بعدها ثلاثة فصول بعد تمهيد ما سبق من الاصول     أحدها أن من الناس من ذهب إلى أن الأمام يأخذ ما يأخذه في معرض الاقتراض على بيت النمال على كل حال فإن تأتت مداره ومجالبه تعين ردما     اقترض والمقترض يطالبه وقال قائلون أن عمم بالاستداء مياسير البلاد والمثرين من طبقات العباد فلا مطمع في الرد والاسترداد وان خصص بعضا لم يكن ذلك إلا قرضا ونحن نذكر ما يتعلق به كل فريق ثم نذكر مسلك التحقيق      فمن قال الأمام يستقرض استمسك بأن اقدار الواجبات مضبوطة الجهات في قواعد الدين ومذاهب المسلمين وكان رسول الله  إذا اضاق المحاويج والفقراء استسلف من الاغنياء وربما استعجل الزكوات فلو كان يسوغ الاخذ من غير اقتراض لكان عليه السلام بينه ليتقدي به نم بعده عند فرض الاضافة وربما تعلق هؤلاء بأن مآخذ الأموال لو تعدت الطرق المضبوطة والمسالك الموضحة في الشريعة لانبسطت الايدي إلى الأموال ولجر ذلك فنونا من الخبال ولم يثق ذو مال بماله لا في حاله ولا في مآله وهذا خروج عن ضبط الدين وحل لعصام الإسلام عن أموال المسلمين      والمرتضى عندي أن ذلك جبن وخور وذهول عن سنن النظر فإن للامام أن ياخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه سادا للحاجة على ما قدمنا منهاجه ولا يلزمه الاستقراض سواء فرض أخذه من معينيين أو من المياسير اجمعين     والدليل عليه انا لو فرضنا خلو الزمان عن مطاع لوجب على المكلفين

القيام بفرائض الكفايات من غير أن يرتقبوا مرجعا فإذا وليهم امام فكأنهم ولوه أن يدبرهم تعيينا وتبيينا فيما كان من وظائفهم فوض ولولاه لاوشك أن يتخاذلوا ويحمل البعض الأمر فيه على البعض ثم تنسحب المآثم على كافتهم والامام القوام يدفع التخاذل والتغالب والتغالب ويحمل الاعيان على التناوب فيما على الكافة والخروج عن عهدته      والذي يوضح المقصد انه لو استقرض لكان يؤدي ما اقترضه من مال فاضل مستغنى عنه في بيت المال وربما تمس الحاجة إلى ما يقدره في الحال فاضلا ثم يقتضي الحال استرداد ما وفيناه على المقرض ويستدبر التدبير فلا يزال في رد واسترداد وما أدى إلى التسلسل فهو في وضعه لا يتحصل     والذي يجب التعويل عليه أن كل واقعة وقعت في الإسلام تعين على ملتزمي الإسلام أن يقيموا أمر الله فيها إما بأنفسهم إذا فقدوا من يليهم أو بأن يتبعوا أمر واليهم فإذا امتثلوا أمر الله بأنفسهم أو بأموالهم على تفنن أحوالهم فارتقابهم رجوعا في مآلهم يشعر بأنهم ما كانوا متأصلين فيما كلفهم ربهم وهذا ظن كاذب ورأى غير صائب فالمسلمون هم المخاطبون والامام في التزام احكام الإسلام كواحد من الانام ولكنه مستتاب في تنفيذ الأحكام فإذا نفذت فلا مطمع في مرجع فإن در لبيت المال مال فحظ المسلمين منه تهيؤه للحاجات في مستقبل الاوقات فهذا     منتهى القول في هذا الفن      وأنا أقول الآن لست أمنع الأمام من الاقتراض على بيت المال أن رأى ذلك استطابة للقلوب وتوصلا إلى تيسير الوصول إلى المال مهما اتفقت واقعة أو هجمت هاجمة والذي قدمته ليس تحريما للاستقراض ولكنه تمهيد لما يسوغ للامام أن يفعله والأمر موكول إلى رأيه واستصوابه في افتتاح كل أمر ومآبه والجملة في ذلك انه إذا المت ملمة واقتضي المامها مالا فإن كان في بيت المال مال استمدت كفايتها من ذلك المال وان لم يكن في بيت المال نزلت على أموال كافة المسلمين فإذا كفيت من اموالهم فقد انقضت وانقطعت تبعاتها وعلائقها فإذا حدث مال تهيأ ما حدث للحوادث المستقبلة فهذه معضلات لا يستد فيها إلا مؤيد ولا يطبق مقصد الحق فيها إلا مسدد فإن قيل قد ذكر الفقهاء أن من معه طعام إذا وجد مضطرا اليه واقعا في المخمصة مشفيا على الهلاك لم يلزمه مالك الطعام بذله من غير بدل واحياء المهج من فروض الكفايات لعى مجرى الاوقات وقد يتعين على الانسان في بعض الازمان إذا انفرد بالانتهاء إلى مضطر أن يبذل كنه الجد ويتفرغ غاية الوسع في انقاذه ثم لا يجب التبرع والتطوع بالبذل     قلنا هذه المسألة عندنا فيه إذا كان للمضطر مال غائب أو حاضر     فأما إذا كان لا يملك شيئا فيجب سد جوعته ورد خلته من غير التزامه عوضا ولا أعرف خلافا أن سد خلات المضطربين في سني المجاعات محتوم على الموسرين ثم لا يرجعون عليم إذا انسلوا من تحت كلا كل الفتن وفقراء المسلمين بالاضافة إلى متوسليهم كالابن الفقير في حق ابيه ليس للاب لاموسر أن يلزم ابنه الاستقراض منه إلى أن يستغنى يوما من الدهر ولو كان لولده مال غائب اقرض ولده أو استقرض له أن كان موليا عليه والذي يكشف الغطاء فيه أن من رأى مسلما مشرفا على حريق أو غريق واحتاج انقاذه إلى انقاذ سببه واكداد جسده لم يجز في مقابلة سعيه طلب عوض وما ذكره الاولون من استسلاف رسول الله  عند مسيس الحاجات واستعطاله الزكوات فلست انكر جواز ذلك ولكني اجوز الاستقراض عند اقتضاء الحال وانقطاع الأموال     ومصير الأمر إلى منتهى يغلب الظن فيه استيعاب الحوادث لما يتجدد في الاستقبال واما ما ادعوه من أن الرسول  كان لا يأخذ إلا وظيفة حاقة في أوان حلولها أو يستقرض فهذا زلل عظيم فإنه كان إذا حاول تجهيز جند اشار على المياسير من اصحابه بأن يبذلوا فضلات اموالهم والاقاصيص المأثورة المشهورة في ذلك بالغة مبلغ التواتر وكانوا رضي الله عنهم يبادرون ارتسام مراسم الرسول عليه السلام على طواعية وطيب انفس ويزدحمون على امتثال الاوامر حائزين به اكرم الوسائل ازدحام الهيم العطاش على المناهل وكانت مبادئ اشاراته انجع في قلوب الناس من سيوف أهل النجدة والبأس في أهل العناد والشراس وما شبهوا به من أداء الأمر إلى اخلال وافضائه إلى امتداد الايدي إلى الامومال فلا احتفال بالاموال عند اظلال الاهوال على بيضة الإسلام ولا يسوغ اخذ الأموال على الاهمال هزلا من غير استفصال فإن سئلنا الدليل فقد قدمنا ما فيه اكمل مقنع فهذا انجاز الغرض من هذا الفصل وهو أحد الفصول الثلاثة الموعودة بعد تمهيد الاصول     فأما الفصل الثاني وبه يتم المقصد في بعض ما سبق وهو أن عساكر الإسلام إذا كثروا اعني المرتزقة المترتبين في ديوان الجنود والمعقود وعظمت المؤن القائمة بكفايتهم وهي جارية على استمرار الاوقات حسب توالي الحاجات التي تتقاضاها الفطن والجبلات وكان اتساع الرقاع والاصقاع وكثرة الثغور والمراصد في البقاع لا يستقل إلا بكثرة الرجال المترصدين للقراع وقد قسمهم الأمام على اصناف وانواع وصففهم جيلا جيلا ورعيلا رعيلا فمنهم مندوبون أو منتدبون لنفض حريم البلاد عن     المتلصصين ذوي العرامة ومنهم متصرفون في البلاد لردع النابغين من أهل الفساد الزاغين عن منهاج السداد ومنهم مرتبون في مرابطة الحصون والقلاع وآخرون في المضائق والمراصد والنجدة الكبرى محتفون بالامام وبأمراء الاجناد في البلاد      وإذا انتهي تدبير الممالك إلى ذلك فالغالب أن ما ينفق من اخماس الغنائم والفيء لا يقيم الاود ولا يديم العدد فإنا كما نصيب نصاب والحرب سجال وللقتال مضطرب وتباين احال         ونم ظن ممن يلاقي الحروب    بأن لا يصاب فقد ظن عجزا       والمغانم في وضع الشرع ليست مقصودة فإن الغرض بالتجرد للجهاد اعلاء كلمة الله وحياطة الملة والمغانم ليست معمودة مقصودة إذ لا يليق بمحاسن الشريعة أن نجعل بذل المهج والتغرير بالارواح إلى تحصيل المغانم ذريعة فإذا لا تقوم المملكة بتوقع الاغتنام ولا بد للامام من الاعتصام باوثق عصام على ممر الايام ووزر الإسلام مأمور بأقصى الاحتياط والحفظ في اللحظ بعد اللحظ ولا اشبه ما يرتقب من مغنم بالاضافة    إلى المؤن القارة إلا بما يقتنصه القانصون من الصيود بالاضافة إلى النفقات الدائرة فلو ترك الناس المكاسب معولين على الاصطياد لهلكوا وضاعوا واضطربوا وجاعوا فهذه التشبيهات قدمتها لتوطئه أمر مقطوع به عندي قد يأباه المقلدون الذين لا تقتضيهم نفوسهم التحويم على الحقائق فضلا عن ورودها وكلما ظهرت حقيقة ولاحت إلى دركها طريقة ضروا بجحودها فأقول والله المستعان لا بد من توظيف أموال يراها الأمام قائمة بالمؤن الرابتة أو مدانية لها وإذا وظف الأمام على الغلات والثمرات أو ضروب الزوائد والفوائد من الجهات يسرا من كثير سهل احتماله ووقى به اهب الإسلام وماله واستظهر رجاله وانتظمت قوماعد الملك واحواله ولو عدم الناس سلطانا يكف عن زرعهم وضرعهم عادية الناجمين وتوثب الهاجمين لاحتاجوا في اقامة حراس من ذوي البأس إلى اضعاف ما رمزنما اليه فان استنكر ذلك غر غبي قلنا اتنكر أن ماذكرته وجه الرأي فإن أباه وادعى خلافه تركته ودعواه ولن يفلح قط مقلد يتبع في تقليده هواه وان اعترف به وقد تقرر أن الاستظهار بأقصى العدد والعدد محتوم ولا يفي به توقع مغنوم ومفهوم انه لو استقر بنا داهية ووقع والعياذ بالله خرم في ناحية لاضطرنا في دفع البأس إلى بعض الناس لو تقدمنا بوجه رأي لظننا أن الأمور في     استتابها تجري على سنن صومابها فإن قيل لم يكن ما ذكرتموه في زمن الخلفاء الراشدين قلنا لما انتشرت الرعية وكثرت المؤن المعنية تسبب امير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى توظيف الخراج والارفاق على اراضي العراق بأطباق واتفاق والذي يؤثر من خلاف فيه فهو في كيفيته لا في أصله فإن قيل أليس مذهب امامكم الشافعي رضي الله عنه أن الخراج المستأدى من غير اراضي العراق غير ثابت قلنا مذهبه أن الجزية المضروبة على اراضي الكفارة باسم الخراج تسقط باسلامهم كما تسقط الجزى الموزعة على رقابهم وهو كما قال     والذي ذكرناه أمر كلي بعيد المأخذ من آحاد المسائل ومنشأة الايالة الكبرى مع الشهادات الباتة القاطعة من قاعدة الشريعة فإذا مست الحاجة إلى استمداد نجدة الدين وحرمة المسلمين من الأموال ولم يقع الاجتزاء والاكتناء بما يتوقع على المغيب من جهة الكفار وتحقق الاضطرر في ادامة الاستظهار واقامة حفظ الديار إلى عون من المال مطرد دار ولو عين الأمام اقواما من ذوي الثروة واليسار لجر ذلك حزازات في النفوس     وفكرا سيئة في الضمائر والحدوس وإذا رتب على الفضلات والثمرات والغلات قدرا قريبا كان طريقه في رعاية الجنود والرعية مقتصدة مرضية ثم أن اتفقت مغانم واستظهر بأخماسها بيت المال وغلب الظن اطراد الكفاية إلى امد مظنون ونهاية فيفض حينئذ وظائفه فإنها ليست واجبات توقيفية ومقدرات شرعية وانما رأيناها نظرا إلى الأمور الكلية فمهما استظهر بيت المال واكتفى حط الأمام ما كان يقتضيه وعفا فإن عادت مخايل حاجة اعاد الأمام مناهجه      وهذا الفصل الذي أطلت انفاسي فيه يلتفت على أمر قدمته في الاستظهار بالادخار فلست أرى للامام أن يمد يده إلى أموال أهل الإسلام ليبتني في كل ناحية حرزا ويقتني ذخيرة وكنزا ويتأثل مفخرا وعزاء ولكن توجه لدرور المؤمن على ممر الزمن ما سبق رسمه فإن استغنى عنه بأموال افاءها الله على بيت مال المسلمين كف طلبته على الموسرين فرحم الله امرءا طالع هذا الفصل وانصف وانتصف ولم يلزمه جاده تقليده ولم يتعسف فالذي حواه هذا الفصل اقصد الطرائق أسد المسالك إلى مدارك الحقائق وقد نجز الفصل الثاني     فأما الفصل الثالث فمضمونه الرد على من يرى تعزير المسرفين الموغلين     باتباع الشهوات واقتراف السيئات واتباع الهنات بالمصادرات من غير فروض افتقار وحاجات      وهذا مذهب جد ردئ ومسلك غير مرضى فليس في الشريعة أن اقتحام المآثم يوجه إلى مرتكبها ضروب المغارم وليس في اخذ الأموال منهم أمر كلي يتعلق بحفظ الحوزة والذب عن البيضة وليس يسوغ لنا أن نستحدث وجوها في استصلاح العباد وجلب اسباب الرشاد لا أصل لها في الشريعة فإن هذا يجر خرما عظيما وخطبا هائلا جسيما      فإن قيل قد ذكرت تسويغ وظائف لم يحم عليها طائف فكيف يأبى التهذيب والتأديب منع مادة الفساد وان لم يعهد ذلك منصوص مذكورا في الشرع مخصوصا     قلنا ما ذكرته من الوظائف مستنده إجماع العلماء كافة حيث نزلوا وارتحلوا وعقدوا وحلوا على وجوب الذب عن حريب الإسلام فإذا لم نصادف في بيت المال مالا اضطررنا لتمهيد الدين حفظ حوزة المسلمين     إلى الاخذ من أموال الموسرين ثم عرفنا على الجملة أن الاقتصاد مسلك الرشاد ولم نر في تفصيل مثل هذه القاعدة اصلا في الشرع فنتبعه فتبينا قطعا أن ما عم وقعه وسهل وضعه وعظم نفعه فهو اقرب معتبر      فأما ما نزف أموال العصاة فلا نرى له اصلا نعم لا يبعد أن يعتني الأمام عند ميس الحاجات بأموال العتاة وهذا فيه اكمل مروع ومقنع فان العتاة العصاة إذا علموا ترصد الأمام لاموالهم لاضطراب حالاتهم عند انفاق اضافة اعوان المسلمين وحاجاتهم كان ذلك وازعا لهم عن مخازيهم وزلاتهم فإن قيل اليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد ماله وشاطر عمرو بن العاص ماله حتى اخذ رسوله اليه نصف عمامته وفرد نعله      قلنا ما فعله رضي الله عنه محمول على محمل سائغ واضح وسبيل بين لائح وهو انهما كانا خامرا في امرة الاجناد والبلاد اموالا لله وكان لا يشذ عنه رضي الله عنه مجاري احوال مستخلفيه فعله رآهما مجاوزين حدود الاستحقاق ثم انعم النظر واطال الفكر وقدم الرأي وأخر فرأى ما أمضى وشهد وغبنا وقدره اجل وأعلى من أن يتجاوز ويتعدى     فهذه جمل من ابواب الأموال من طريق الايالة المؤيدة بالحق المقيدة     بشهادة الشرع والصدق كافية ومسالك مرشدة شافية ابرزتها بتوفيق الله من ناحية الاشكال إلى ضاحية الايضاح كأنها غيداء مشنفة مقرطة بالدرر والاوضاح فإين تقع هذه الفصول من كتب مضمونها اقوال واغارة على كتب رجال مع اختباط واختزاء وافتضاح ولكن سل الحسناء على يخت القباح      انتهى مجامع القول في أموال بيت المال ونجز بنجازها غرضنا في هذا الكتاب في تفصيل ما إلى الأئمة وولاة الأمر     ونحن الآن نعقد فصلا في مستخلفي الأمام وقد مضى فيما تقدم صدر صالح فيهم ولكنا احلنا استقصاء المقاصد واستيفاء سبل المراشد على هذا الباب والان نفي أن شاء الله عز وجل بالمواعد ونستعين بالله تعالى   فصل        ليس من الممكن أن يتعاطى الأمام مهمات المسلمين في الخطة وقد اتسعت اكنافها وانتشرت اطرافها ولا يجد بدا من أن يستنيب في احكامها ويستخلف في نقضها أو في ابرامها واحكامها وشغله الذي لا يخلفه فيه أحد مطالعات كليات الأمور إذ لو وكل ذلك إلى غيره وعمد على أن لا يبحث ولا يخبر ولا يفحص ولا ينفر وفوض ذلك إلى موثوق به ورسم له التشمير والبحث و التنقير وآثر التخلص لعبادة الله والانحجاز عن النظر في أمر الملة واختار الرفاهية والرغد والدعة والدد فذلك غير سائغ وهو مؤاخذ بحق الأمة يوم القيامة مطالب أو معاتب معاقب وإذا تمادى على ذلك فقد ينتهي الأمر إلى التفسيق وقد سبق القول فيه على التحقيق فإن اراد أن يخلع نفسه فقد تقدم فيه قول بالغ وبيان شاف سائغ فإذا منصب الأمام يقتضي القيام بالنظر العام في حقوق الرعايا والمستخلفين عليهم على ممر الايام فأما تفاصيل الأمور فما تولاه الأمام بنفسه فهو الأصل وما استخلف فيه كافيا مستقلا داريا متيقظا فيما نيط به واعيا فالاستخلاف في تفاصيل الاعمال سائغ بلا خلاف ثم ما يستخلف فيه ينقسم إلى أمر خاص يحتوي على الغرض منه مراسم يبينها ومعالم يعنيها     فيعقد الأمام مضمونها منشورا ويتخذه المولى دستورا والى أمر عام منتشر القضايا على الرعايا لا يضبط مقصوده رسولم ولا منشور منظوم      فأما الأمر الخاص فهو كجباية الصدقات والموظفات على المعادن المقطعات وما ضاهاها من الجهات فمن ولاه الأمام صنفا من هذه الاصناف ينبغي أن يكون المولى مستجمعا خصلتين      إحداهما الصيانة والديانة      والثانية الشهامة والكفاية اللائقة بما يتولاه ويتعاطاه     ولا يشترط أن يكون مجتهدا بالغا مبلغ المفتين ولكن الأمام يرسم له مقادير النصب والزكوات وتفاصيل الاسنان على ابلغ وجه في البيان فيمضي المولى قدما ويتخذ المراسم قدوة وأما ولو كان المنصوب لما ذكرناه عبدا مملوكا ساغ فإن امثال هذه الاعمال ليست ولاية على الكمال ومن هذا القبيل تفويض جر الاجناد إلى بلاد الكفر والعناد فليجتمع فيمن يقلد الأمر الثقة والصرامة والشهامة وليكن ممن حنكته التجارب وهذبته المذاهب لا يستفزه نزق ولا يضجره خلق ولا يبطؤه عن الغرض إذا امكنت خور بطرق للخدع كالصل النضناض ويتوثب    في أوان الفرصة كالصقر يهوي في الانقضاض وليكن طبابا لغرر هجوما في مظان الحاجات على الغرر عارفا بغوائل القتال مصطبرا في ملتطم الاهوال محببا في الجند لا يمقت لفرط فظاظة مهيبا لا يراجع الدنيات من غير حاجة ثم الأمام يقدم له مراسم في المغانم والاسرى يتخذها وزرا وذكرى وهذه الامرة قريبة أيضا إذا اختصت بجر العساكر ويكفي فيها الثقة واستجماع ما اشرنا اليه من البصائر وعمدتها الشجاعة والاستطاعة والتيقظ اللائق بهذه الشأن فالرأي قبل شجاعة الشجعان فأما الأمر الذي يعم ولا ينضبط مقصوده فهو كالقضاء ولاجلوس لفصل الحكومات بين الخصماء وقد يرتبط به امور الأموال والإبضاع والدماء واقامة العقوبات على ذوي الاعتداء والانصاف والانتصاف والمنع من سلوك مسالك الاعتساف وهذا اعظم الاشغال والأعمال فيقتضي هذا المنصب خلالا في الكمال سيأتي شرحنا عليه منها الدين والثقة والتلفع بجلباب الديانة والتسبب باسباب الأمانة والصيانة والعقل الراجح الثابت والرأي المستد الصائب والحرية والسمع والبصر ثم مذهب الأمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي رضي الله عنه ابن عمر المصطفى صلوات الله عليه     أن شرط التصدي للحكم بين العباد استجماع صفات الاجتهاد ولم يشترط أبو حنيفة رضي الله عنه ذلك وذكر الفقهاء هذه المسألة من فنون مسالك الظنون والذي أراه القطع باشتراط الاجتهاد وما وضح فيه منهج السداد يتقرر بتقديم اصل عظيم الغناء في احكام الاجتهاد فأقول وعلى طول الله وتيسيره الاعتماد وبفضله الاعتضاد على المقلد ضرب من النظر في تعيين مقلده وليس له أن يقلد من شاء من المفتين مع تباين المذاهب وتباعد الاراء والمطالب      وكيف يسوغ التخيير بين الاخذ بمذهب التحريم والتحليل ولا يتصور المصير إلى هذه السبيل مع تفاوت مناصب المفتين واهل التحصيل وإذا كان يتعين عليه ذلك فليتمهد النظر هنالك فمن عن له من المقلدة أن مذهب الشافعي رضي الله عنه ارجح ومسلكه اوضح لامور كلية اعتقدها وقضية لائقة بمقدار بصيرته اعتمدها فليس يعتقد أن كان معه مسكة من العقل وتشوف إلى مقدمات من الفضل أن امامه يجب له العصمة عن الزلل والخطل بل لا معصوم إلا الرسل والانبياء فما من مسألة إلا تتفق و المقلد يجوز أن يكون امامه زالا في معانيها وظهور الحق مع من يخالفه فيها وانما الذي غلب على وهمه على مبلغ وفهمه أن امامه بالاصابة في معظم المسائل جدير فهذا غاية ما يدور في الضمير     وأنا اقول بعد تقديم ذلك من انتحل مذهب أبي حنيفة من طبقات    المقلدين واتفق في عصره امام لا يباري ومجتهد لا يضاهي ولا يوازي وكان يعزي هذا المجتهد إلى مذهب الشافعي رحمه الله فلا يجوز أن يكون مثل هذا الذي ذكرناه متبعا مذهب امام واحد في جميع مسائل الشريعة موافقا رأيه ومسلكه فإن الظنون تختلف طرقها وتتفاوت سبلها وبتردد انحاؤها على حسب اختلاف القرائح والطباع وليس بالاجتماع في معظم المسائل امتناع فإن اصول المذاهب تؤخذ من مأخذ القطع وهي التي يصدر منها تفاريع المسائل فقد يعرض الوفاق في معظم المسائل من هذه الجهة فإذا اشتملت الايام على مثل هذا الأمام تعين على كافة المقلدين اتباعه والسبب فيه انه بالاضافة إلى الماضين المنقرضين في حكم الناخل للمذاهب والسابر لتباين المطالب وسبره لها اثبت من نظر المقلد والذي يوضح الحق في ذلك أن زمر المقلدين لو ارادوا أن يتبعوا مذهب أبي بكر رضي الله عنه لم يجدوا الي ذلك سبيلا فإن الذين استأخروا بالاعصار عن المهاجرين والانصار من ائمة الأمة اخبر بمذاهب الأولين واعرض بطرق صحب رسول الله  الاكرمين وقد كفوا من بعدهم النظر في طرائق المتقدمين وبوبوا الابواب ومهدوا الاسباب وما كانت المسائل مترتبة متهذبة في العصر الأول فاستبان أن حق المقلد أن يربط استفتاءه بالادنى فالادنى     والامام الذي وصفناه في عصرنا بالاضافة إلى أبي حنيفة والشافعي من حيث نخل مذاهب الأولين من الأئمة السابقين بالاضافة إلى الخلفاء الراشدين وغيرهم من علماء الصحابة رضي الله عنهم اجمعين      فإذا حق على المقلد أن يستفتي امام عصره فإن لم يجد في زمانه اماما اتبع الذين مضوا وعول على نظر يصدر من مثله فهذه مقدمة اطلت القول فيها والغرض منها في المسألة أن القاضي إذا كان مجتهدا فلا شد انه يستتبع المتحاكمين إلى مجلسه ولا يتبعهم فان تكليفه اتباع المخالفين على تباعد المذاهب يجر تناقضا لا سبيل إلى الوفاء به ومنصب الولاية يقتضي أن يكون الوالي متبوعا لا محالة فلئن استتبع الوالي البالغ مبلغ المجتهدين المقلدين فليس ذلك بدعا فإنه ابر عليهم بمنصب الولاية ثم بالإمامة في الدين فان استتبع مجتهدا فالسبب فيه انه وان ساواه في الاجتهاد فقد أربى عليه بالولاية وهي تقتضي الاستيلاء والاستعلاء والاحتواء على تفنن الاراء     فأما إذا فرضنا القاضي مقلداص فإن قلد امم عصره فإنه يحمل مجتهد الزمان على فتوى من يقلده ومعتمده ومعتضده الاجتهاد الضعيف الذي يعين به مقلده فكأنه يحمل المجتهدين على حكم نظره الضعيف وهذا مجال لا يخفي بطلانه على المحصل وان قلد القاضي بعض الأئمة المنقرضين فتقليده هذا اضعف فإنه اعتقد على الجملة من غير تفصيل أن الذي يقلده اولى من غيره فينضم إلى ضعف نظره الكليل مزيد ضعف في اعيان المسائل فكيف يستقيم حمل ائمة المسلمين على نظر مقلد في تخير مقلد      والذي قرر ذلك أن نظر المقلد في تعيين امام ليس نظرا حقيقيا وكيف ينظر من لا خبرة له     فهو اذن نظر مسلكه الضرورة اذلولاه لتعارض عليه التحريم والتحليل وما جرى مجرى الضرورات فسبيله أن يختص بالمضطر ولا يتعداه إلى من عداه كأكل الميتة يختص اباحته لمن ظهرت ضرورته واستبانت مخمصته فهذا قولي اشتراط الاجتهاد في الذي يتصدى لفصل الخصومات بين العباد ولئن عد الفقهاء ذلك من المظنونات فلست اعرف خلافا بين المسلمين أن الشطر أن يكون المستناب لفصل الخصومات والحكومات فطنا متميزا عن رعاع الناس معدودا من الاكياس ولا بد من أن يفهم الواقعة المرفوعة اليه على حقيقتها وينفطن لموقع الاعضال وموضع السؤال ومحل الاشكال منها ثم يتخير مفتيا ويعتقد أن قوله في حقه بمثابة قول الرسول في حق الذين عاصروه فيتخذه قدوته واسوته فأما إذا لم يفهم الواقعة فكيف      يفض نفوذ حكمة فيها وليس في عالم الله اخزى من مقصد للحكم لو اراد أن يصف ما حكم به لم يستطعه     ومما يقي اللبيب العجب منه انتصاب غر للقضاء لا يقف على الواقعة التي فيها القضية ولا يفهم العربية ويصغى إلى صكوك وقبالات متضمنها ألفاظ عويصة لا يحيط بفحواها ومقتضاها إلا مبرز تثني عليه الخناصر ويعد من المرموقين والاكابر في اللغة العربية إذ منها صدر الافاظ في اصول الفقه المشتمل على الخصوص والعموم والاستثناءات وسائر القضايا والموجبات في فن الفقه فإليه الرجوع في مآخذ الأحكام والنقض والابرام فليت شعري ما يعتاص مدركه ويستصعب مسلكه على المرتوى من هذه العلوم كيف ينفذ فيها قضاء من لا يفرق بين تقديمه وتأخيره ولا يعرف قبيله من دبيره وقد بدت مخايل الخرف وانتهى منه إلى الطرف ولو استوعب عمره الموفى على السرف بأقصى تشميره لم يقف من مضمون الصك على عشر من عشيرة فهل في عالم الله خزي ابين على خطوط سطرها من لم يستقل والله بحروف التهجي منها حتى نظمها له ناظمان من جانبيه والفها متطلعان عليه ومضمونها هذا حكمي وقضائي وقد اشهدت عليه من حضر مجلسي وتقديره هذا حكمي بما لم افهمه وقضائي فيما لم اعلمه وقد اشهدت من هو حاضري بما لا يتصور في خاطري ماله قاتله الله     كيف خروجه عن عهده مثل هذا القضاء إذا حشر الراعي والرعية في قضاء والنقي الخصماء واقيد الجماء من القرناء وجثى على الركب الأنبياء      اللهم اغفر لولا حذار الانتهاء إلى الوقيعة لندبت الإسلام ورثيت الشريعة فقد تعرضت وحق الحق لاعظم الغرر وتناهت في اقتحام جراثيم الخطر والرأي يهلك بين العجز والضجر      فهذا مقدار غرضي اللائق بهذا المجموع في ذكر صفات الولاة والقضاة وفي ادب القضاء والدعاوي والبينات ومراتب الشهادات كتب معروفة في الفقه فليتبعها من ينتحيها وليطلبها من يدريها      وقد نجز بحمد الله ومنه وحسن تأييده جوامع الكلام فيما يناط بالائمة من احكام الأمة وقد انتهى الكلام بعد نجاز هذه الابواب إلى المغزى واللباب فاحسنوا الاصاخة معشر الطلاب إلى تجديد العهد بغرض الكتاب فأقول     ما تقدم وان احتوى على كل بدع عجاب في حكم التوطئة وتمهيد الاسباب     فالمقصد فصلان      أحدهما تفصيل الأحكام المتعلقة بالامام عند تقرير شغور الايام عن وزر يلوذ به أهل الإسلام      والثاني بيان ما يتمسك به المكلفون فيما كلفوه من وسيلة وذريغة إذا عدموا المفتين وحملة الشريعة وإذا انقضي الفصلان نجز بانقضائهما مضمون هذا التصنيف والاتكال في التيسير على لفط الخبير اللطيف      فان قيل فإذا كان الفصلان الغرض فلم أطلت فيما قدمت القول في ابواب الامامة واحكام الرئاسة والزعامة      قلت لا يتأتى الوصول إلى درك الخلو عن الأمام لمن لم يحط بصفات الأئمة ولا يتقرر الخوض في تفاصل الأحكام عند شغور الايام ما لم تتفق الاحاكة بما يناط بالامام فلم اذكر المقدمة وأنا مستغن عنها على أني اتيت فيها بسر الايالة الكلية وسردت امورا تتضاءل عنها القوى البشرية وتركتها منتهى الامنية يذعن لها القلوب الابية وقرن ليدائعها النفوس العصية ويبتدرها ايدي النساخ في الاصقاع القصية وكأني بها وقد عمت بيمن مولانا الخطط المشرقية والمغربية     والله ولي التوفيق بمنه وفضله

الركن الثاني       القول في خلو الزمان عن الأمام         مضمون هذا الفن يحويه ثلاثة ابواب      أحدها في تصور انخرام الصفات المرعية جملة أو تفصيلا      والثاني في استيلاء مستول مستظهر بطول وشوكة وصول     والثالث في شغور الدهر جملة عن وال بنفسه أو متول بتوليه غيره   الباب الأول       في انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة         قد تقدم قول شاف بالغ فيما يشترط استجماع الأمام له من الصفات ونحن الآن نفرض في تعذر آحادها وافرادها على التدريج ونبدأ بأقلها غناء ثم نترقى إلى ما يبر وقعه واثره على ما تقدم ذكره حتى نستوعب معقود الباب ومقصوده بعون الله وتأييده ومنه وتسديده فالذي يقتضي الترتيب تقديمه النسب وقد تقدم أن الانتساب إلى قريش معتبر في منصب الامامة فلو لم نجد قرشيا يستقل باعبائها ولم نعدم شخصا يستجمع بقية الصفات نصبنا من وجدناه عالما كافيا ورعا وكان اماما منفذا الأحكام على الخاص والعام فان النسب ثبت اشتراطه تشريفا لشجرة رسول الله  إذ لا يتوقف شيء من مقاصد الأمامة على الاعتزاء إلى نسب والانتماء إلى حسب     ونحن نعلم قطعاا أن الأمام زمام الايام وشرف الانام والغرض    من نصبه انتظام احكام المسلمين والاسلام والاسلام ويستحيل أن يترك الخلق سدى لا رابط لهم ويخلوا فوضى لا ضابط لهم فيغتلم من الفتن بحرها المواج ويثور لها كل ناجم مهتاج ونحن في ذلك نرقب قرشيا والخلق يتهاوون في مهاوي المهالك ويلتطمون في الخطط والممالك فإذا عدم النسم لا يمنع نصب كاف ثم ينفذ من احكامه ما ينفذ من احكام القرشي والذي يعترض في ذلك انا إذا نصبنا قرشيا مستجمعا للخلال المرضية والخصال المرعية ولم نر إذ نصبناه افضل منه ثم نشأ في الزمان من يفضله فلا نخلع المفضول لظهور الفاضل ولو نصبنا من ليس قرشيا إذ لم نجد منتسبا إلى قريش ثم نشأ في الزمان قرشي على الشرائط المطلوبة فإن عسر خلع من ليس نسيبا اقررناه وان لم يتعذر خلعه فالوجه عندي تسليم الأمر إلى القرشي فإن هذا المنصب في حق المستحقين المعتزين إلى شجرة النبوة والذي قدمنا نصبه في منزلة المستناب عمن يجمع إلى فضائل الاسباب شرف الانتساب فإذا تمكنا من رد الأمر إلى النصاب ابتدرناه بلا ارتياب وهذا كالقاضي ينوب بالتصرف عمن غاب فإذا حضر مستحق الحق وآب اطرد تصرف المالك على استبتاب وانحسم عنه كل باب فهذا ما حاولناه في فرض تعذر رعاية النسب    فأما القول في فقد رتبة الاجتهاد فقد مضى أن استجماع صفات المجتهدين شرط الامامة فلو لم نجد من يتصدى للامامة في الدين ولكن صادفنا شهما ذا نجدة وكفاية واستقلال بعظائم الأمور على ما تقدم وصف الكفاية فيتعين نصبه في أمور الدين والدنيا وينفذ احكامه كما ينفذ الأمام الموصوف بخلال الكمال المرعة في منصب الأمام وائمة الدين وراء ارشاده وتسديده وتبين ما يشكل في الواقعات من احكام الشرع والعلم وان كان شرطه في منصب الامامة معقولا ولكن إذا لم نجد عالما فجمع الناس على كاف ويستفتى فيما يسنح ويعن له من المشكلات اولى من تركهم سدى متهاوين على الورطات متعرضين للتغالب والتواثب وضروب الافات فإن لم نجد كافيا ورعا متقيا ووجدنا ذا كفاية يميل إلى المجون وفنون الفسق فإن كان في انهماكه وانتهاكه الحرمات واجترائه على المنكرات بحيث لا يؤمن غائلته وعاديته فلا سبيل إلى نصبه فإنه لو استظهر بالعناد وتقوى بالاستعداد لزاد ضيره على خيره ولصارت الاهب والعدد العتيدة للدفاع عن بيضة الإسلام ذرائع للفساد ووصائل إلى الحيد من مسالك الرشاد وهذا نقيض الغرض المقصود بنصب الأئمة ولو فرض المام مهم يتعين مبادرته في حكم الدين قبل أن يطأ الكفار طرفا من بلاد الإسلام ولم نجد بدا من جر عسكر وصادفنا فاسقا نقلده     الامارة وعسر انجرار العسكر دون مرموق مطاع ولم نتمكن من تقى دين وان بذلنا كنه المستطاع فقد نضطر إذا استفرتنا داهية يتعين المسارعة إلى دفعها إلى تقليد الفاسق جر العسكر     ولو فرض فاسق يشرب الخمر أو غيره من الموبقات وكنا نراه حريضا مع ما يخامره من الزلات وضروب المخالفات على الذب عن حوزة الإسلام مشمرا في الدين لانتصاب اسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام وكان ذا كفاية ولم نجد غيره فالظاهر عندي نصبه مع القيام بتقويم اوده على اقصي الإمكان فإن تعطيل الممالك عن راع يرعاه ووال يتولاها عظيم الاثر والموقع في انحلال الأمور وتعطيل الثغور فان كنا نتوسم ممن ننصبه الانتداب والانتصاب للامرة لما فيه من الكفاية والشهامة وكان مستقلا بنفض الممالك والمسالك عن ذوي العرامة فنصبه اقرب إلى استصلاح الخلق من تركهم مهملين ولا نعدل ما نتوقعه من الشر من     فساده وبما ضرى به من شرته ما يعن من خبال الخلق إذا عدموا بطاشا يسوسهم ويمنع الثوار الناجمين منهم فإذا نصب من وصفناه في الصورة التي ذكرناها في حكم الضرورة ومن تأمل ما ذكرناه فهم منه أن لاصفات المشروطة في الأمام على ما تقدم وصفها وان كانت مرعية فالغرض الاظهر منها الكفاية والاستقلال بالأمر فهذه الخصلة هي الأصل ولكنها لا تنفع ولا تنجح مع الانهماك في الفسق والانسلال عن ربقة التقوى وقد تصير مجلبة للفساد إذا اتصل بها استعداد      ثم العلم يلي الكفاية والتقوى فإنه العدة الكبرى والعروة الوثقى وبه يستقل الأمام بامضاء احكام الإسلام فأما النسب وان كان معتبرا عند الإمكان فليس له غناء معقول ولكن الإجماع المقدم ذكره هو المعتمد المستند في اعتباره      والان تتهذب اغراض الباب لمسائل نفرضها مستعينين بالله تعالى      فإن قيل ما قولكم في قرشي ليس بذي دراية ولا بذي كفاية إذا عاصره عالم كاف تقي فمن اولى بالأمر منهما     قلنا لا نقدم إلا الكافي التقي العالم ومن لا كفاية فيه فلا احتفال به ولا اعتداد بمكانه اصلا     فإن قيل إذا اجتمع في عصر ودهر قرشي عالم ليس بذي كفاية واستقلال وكاف شهم مستقل بالأمر فمن نقدم منهما     قلنا أن لم يكن القرشي ذا خرق وحمق وكان لا يؤتي عن عته وخبل وكان بحيث لو نبه الأمور لفهمها واحاط بها وعلمها ثم انتهض لها فهو اولى بالإمامة وسبيله إذا وليها إن لا يقدم على خطب انفرادا منه برأيه واستبدادا ويستضيء برأي الحكماء والعقلاء ثم إذا عزم توكل وانما يتأتى ما ذكرناه ممن معه حظوة صالحه من الفطنة وادراك وجه الصواب ومثل هذا حري بأن يتخرج إذا تدرب وتهذب وقارع كر الزمان وفره وذاق حلوه ومره وان كان فدم القريحة مستميت الخاطر لا يطلع على وجه الرأي فإن أمضى امرا وأبرم حكما كان مقلدا وقد ظهرت بلادته وخرقه واستمرت جسارته وحمقه فمثله لا يحسب في الحساب ولا يربط به سبب من الاسباب والكافي الورع اولى بالأمر منه فالاستقلال بالنجدة والشهامة من غير اجتهاد اولى بالاعتبار والاختيار من العلم من غير نجده وكفاية وكان المقصود الاوضح الكفاية وما عداها في حكم الاستكمال والتتمة لها وإذا عدمنا كافيا فقد فقدنا من يؤثر نصبه واليا ويتحقق عند ذلك شغور الزمان عن الولاة على ما سيأتي ذلك أن شاء الله عز وجل   القول في ظهور مستعد بالشوكة مستول         قد سبق فيما تمهد من الابواب بيان خلال الكمال وذكر انخرام بعضها مع بقاء الاستقلال واوضحنا انا إذا وجدنا كافيا نصبناه وما وافق من احكامه موجب الشرع نفذناه ومن لم يكن ذا كفاية موثوقا به لفسقه لم يجز نصبه ولو نصب لم يكن لنصبه حكم اصلا      ومقصود هذا الباب تفصيل القول فيمن يستبد بالاستيلاء والاستعلاء من غير نصب ممن يصح نصبه فإذا استظهر المرء بالعدد والعدد ودعى الناس إلى الطاعة فالكلام في ذلك على اقسام      أحدها أن يكون المستظهر بعدته ومنته صالحاص للامامة على كمال شرائطها      والثاني أن لا يكون مستجمعا للصفات المعتبرة جمع ولكن كان من الكفاة      والثالث أن يستولي من غير صلاح لمنصب الامامة ولا اتصاف بنجدة وكفاية      فأما إذا كان المستظهر صالحا للامامة وليقع الفرض فيه إذا كان اصلح الناس لهذا المنصب فالقول في هذا القسم ينقسم قسمين     أحدهما أن يخلو الزمان عمن هو من أهل الحل والعقد     والثاني أن يكون في الزمان من يصلح للعقد والاختيار      فإن لم يكن في الزمان من يستجمع صفات أهل الاختيار وكان الداعي إلى اتباعه على الكمال المرعى فإذا استظهر بالقوى وتصدى للامامة كان اماما حقا وهو في حكم العاقد والمعقود له والدليل على ذلك أن الافتقار إلى الأمام ظاهر والصالح للامامة واحد وقد خلا الدهر عن أهل الحل ةالعقد فلا وجه لتعطيل الزمان عن وال يذب عن بيضة الإسلام ويحمي الحوزة وهذا مقطوع به لا يخفي دركه على من يحيط بقاعدة الايالة      فأما إذا اتخذ من يصلح وفي العصر من يختار ويعقد فهذا ينقسم قسمين     أحدهما أن يمتنع من هو من أهل العقد عن الاختيار والعقد بعد عرض الأمر عليه على قصد فإن كان كذلك فالمتخذ في صلاحه للامامة يدعو الناس ويتعين اجابته واتباعه على حسب الاستطاعة بالسمع والطاعة ولا يسوغ الفتور عن موافقته الحالة هذه في ساعة ووجود ذلك الممتنع عن العقد وعدمه بمثابة واحدة وإذا لم يكن الذي ابدى امتناعا عذر في امتناعه وترك موافقة المتعين للامر واتباعه فالامر ينتهي إلى خروجه عن أن يكون من أهل هذا الشأن لما تشبث به من التمادي في الفسق والعدوان فإن تأخير ما يتعلق بالأمر الكلي في حفظ خطة الإسلام تحريمه واضح بين وليس التواني فيه بالقريب الهين فهذا أحد قسمي الكلام     والثاني أن لا يمتنع من هو من أهل الاختيار ولكن هل يتوقف ثبوت الامامة والأمر مفروض في اتخاذ من يصلح لها على العقد أو على العرض على العاقد هذا مما اختلف فيه الخائضون في هذا الفن فذهب ذاهبون إلى انه لا بد من العقد فإنه ممكن وهو السبب في إثبات الامامة      والمرضي عندي انه لا حاجة إلى انشاء عقد وتجريد اختيار وقصد     والسبب فيه أن الزمان إذا اشتمل على عدد معين ممن يصلح لمنصب الامامة فلا بد من اختيار معين واحدا منهم إذ ليس بعضهم اولى من بعض فلو لم نقدر اختيارا مع وضوح وجوب اتخاذ الأمام افضى ذلك إلى النزاع والخصام فا اثر للاختيار والعقد والايثار إلا قطع الشجار وألا فليس الاختيار مفيدا تمليكا أو حاكما بأن العاقد في إثبات الامامة يصير شريكاص فإذا اتخذ في الدهر وتجرد في العصر من يصلح لهذا الشأن فلا حاجة إلى تعيين من عاقد وبيان والذي يوضح الحق في ذلك أن الأمر إذا تصور كذلك فختم على من اليه الاختيار عند من يراه في هذه الصورة أن يبايغ ويتابع ويختار ويشايع ولو امتنع لاستمرت الامامة علىالرغم منه فلا مغنى لاشتراط الاختيار وليس إلى من يفرض عاقدا اختيار فأذن تعين المتخذ في هذا الزمان فهذا الشأن يغنيه عن تعيين وتنصيص يصدر من انسان وتمام الكلام في ها المرام يستدعي ذكر أمر وهو أن     الرجل الفرد وان استغنى عن الاختيار والعقد فلا بد من أن يستظهر بالقوة والمنة ويدعو الجماعة إلى بذل الطاعة فإن فعل ذلك فهو الأمام على أهل الوفاق والاتباع وعلى أهل الشقاق والامتناع وان لم يكن مستظهرا بعدة ونجدة فالكلام في ذلك يرتبط بفنين      أحدهما انه يجب على الناس ابتاعه لتعينه لهذا المنصب وميسي الحاجة إلى وزر يرمق في أمر الدين والدنيا فإن كاعوا وما اطاعوا عصوا     ولنفرض هذا فيه إذا عدمنا من نراه أهلا للعقد والاختيار فليس في الناس من يتصدى لهذا الشأن حتى يقال يتوقف انعقاد الامامة على صدور الاختيار منه فعلى الناس كافة أن يطيعوه إذا كان فريد دهره ووحيد عصره في التصدي للامامة فإذا دعي في التصدي للامامة فإذا دعي الناس إلى الاذعان له والاقران فاستجابوا له طائعين فقد استقت الامامة واطردت الرياسة العامة وان اطاعه قوم يصير مستظهرا بهم على المنافقين عليه والمارقين من طاعته تثبت امامته أيضا وان لم يطعه أحد أو اتبعه ضعفاء لا تقوم بهم شوكة فهذه الصورة تضطرب فيها مسالك الظنون وتقع من الاحتمالات على فنون فيجوز أن يظن ظان أن الامامة لا تثبت إذ لم يجز عقد من يختار ولا طاعة تفيد عدة     ومنة تنزل منزلة الاختيار      وقد قدمنا في احكام الأئمة أن الامام إذا انصرف الخلق عن متابعته ومشايعته كان ذلك كوقوعه في اسر يبعد توقع انفكاكه عنه      نعم تعصي الخلائق في الصورة التي نحن فيها بمخالفة من توحد لاستحقاق التقدم وسبب تعصيتهم تقاعدهم عن نصب امام يندفع به النزاع والدفاع والخصومات الشاجرة والفتن الثائرة وتتسق به الأمور وتنتظم به المهمات والغزوات والثغور ويجوز أن يصير صائر إلى انه امام وان لم يطع وينفذ ما يمضيه من احكامه على مومافقة وضع الشرع وليس اضراب الخلق عن طاعته في هذه الصورة كما سبق تصويره وتقريره فيما تقدم من ابواب الكتاب فإن ذاك مفروض فيه إذا سقطت طاعة الأمام ووجدنا غيره وضعو الناس وميلهم إلى غيره فالذي يليق باستصلاح الراعي والرعية نصب من هو شوف النفوس والذي نحن فيه مصور فيه إذا تفرد في الزمان من يصلح للامامة فإذا كان كذلك تعينت طاعة مثل هذا على الناس كافة ولا معنى لكون الأمام اماما إلا أن طاعته واجبة وهذا الذي فيه الكلام بهذه الصفة فهو امام يجب اتباعه فتنفذ اذا احكامه     وهذا متجه عندي واضح والاول ليس بعيدا أيضا فإن قاعدة      الامامة الاستظهار بالمنة والاستكثار بالعدة والقوة وهذا مفقود في الذي لم يطع فهذا أحد الفنين      والفن الثاني من الكلام أن الذي تفرد بالاستحقاق يجب عليه أن يتعرض للدعاء إلى نفسه والتسبب إلى تحصيل الطاعة والانتهاض لمنصب الامامة فإن لم يعدم من يطيعه وآثر التقاعد والاستخلاء بعبادة الله مع علمه بأنه لا يسد أحد مسده كان ذلك عندي من اكبر الكبائر واعظم الجرائر وان ظن ظان أن انصرافه وانحرافه سلامه كان ما حسبه باطلا قطعا والقيام بهذا الخطب العظيم إذا كان في الناس كفاة في حكم فرض الكفاية فإذا استقل به واحد سقط الفرض عن الباقين فإذا توحد من يصلح له صار القيام به فرض عين     وسنعود إلى تقرير ذلك في اثناء الباب ونأتي بالعجب العجاب أن شاء الله عز وجل ثم أن اجتنب وتنكب ولم يدع إلى نفسه لم يصر بنفس استحقاقه اماما باتفاق العلماء اجمعين فهذا بيان المراد فيه إذا استولى من هو صالح للامامة وكان فريد الدهر في استحقاق هذا المنصب فلو اشتمل الزمان على طائفة صالحين للامامة فاستولي واحد منهم على البلاد والعباد على قضية الاستبداد من غير اختيار وعقد وكان المستظهر بحيث لو صادفه عقد مختار لانعقدت له الامامة فهذا القسم قد يعسر تصويره ونحن نقول فيه     أن قصر العاقدون وأخروا تقديم امام وطالت الفترة وتمادت العسرة وانتشرت اطراف المملكة وظهرت دواعي الخلل فتقدم صالح للامامة داعيا إلى نفسه محاولا ضم النشر ورد ما ظهر من دواعي الغرر فإذا استظهر بالعدة التامة من وصفناه فظهوره هذا لا يحمل على الفسوق والعصيان والمروق فإذا جرى ذلك وكان يجر صرفه ونصب غيره فتنا وأمورا محذورة فالوجه أن يوافق ويلقي اليه السلم وتصفق له ايدي العاقدين وهل تثبت له الامامة بنفس الاستظهار والانتداب للامر ما أراه انه لا بد من اختيار وعقد فإنه ليس متوحدا فيقضي بتعين الامامة له وثبوت الامامة من غير تولية عهد نم امام أو صدور بيعة ممن هو من أهل العقد أو استحقاق بحكم التفرد والتوحد كما سبق بعيد     وقد قال بعض ائمتنا إذا عسرت مدافعته وفي استمراره على ما تصدى له توفية لحقوق الامامة فيتعين تقريره وإذا تعين الأمر لم يبق للاختيار اعتبار فإن الاختيار إنما يفرض له اثرا ذا تقابل ممكنان ولم يكن أحدهما اولي من الثاني ولم يتأت الجمع بينهما فيعين الاختيار أحد الجازين فالاستظهار مع تعذر المعارضة والمناقضة يتضمن ثبوت الامامة     والمرضي عندنا المسلك الأول فيجب العقد له لما فيه من تقرير غرض الامامة واقامة حقوقها وتسكين الفتنة الثائرة وتطفية النائرة وعلى ذلك بايع الحسن والحسين رضي الله عنهما معاوية لما رأياه مستقلا وعلما ما في مدافعته من فنون الفتن وضروب المحن وغائلة هذا الفصل في تصويره فإن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة حافزة وضرورة مستفزة اشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه وتشوفه إلى استعلائه وذلك يسمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد     ولا يجوز عقد الامامة لفاسق وان كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت فاستمسك بعدته محاولا حمل أهل الحل والعقد على بيعته فهذا أيضا من المطاولة والمصاولة وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة لم يجز أن يبايع وانما التصوير فيه إذا ثار كان لحاجة ثم تألبت عليه جموع لو اراد أن يتحول عنهم لم يستطع وكان يجر محاولة ذلك عليه وعلى الناس     فتنا لا تطاق ومحنا يضيق عن احتمالها النطاق وفي استقراره الاتساق والانتظام ورفاهية أهل الإسلام فيجب تقريره كما تقدم      والمختار انه وان وجب تقريره فلا يكون اماما ما لم تجر البيعة      والمسألة في هذا الذي ذكرنا مظنونة والمقطوع به وجوب تقريره      هذا كله في استيلاء من هو صالح لمنصب الامامة وهو قسم واحد من الأقسام الثلاثة المرسومة في صدر الباب      فأما القسم الثاني وهو أن يستولى كاف ذو استقلال بالاشغال وليس على خلال الكمال المرعى في الامامة والقول في ذلك ينقسم      فلا يخلو الزمان إما أن يكون خاليا عن مستجمع لشرائط الامامة أو لا يكون شاغرا عن صالح لها     فإن خلال الزمان عن كامل على تمام الصفات نظر فإن نصب أهل النصب كافيا على ما تقدم تفصيل انخرام الصفات على ترتيب قدمته في الرتب والدرجات نزل منزلة الأمام في امضاء الحكم وتمهيد قواعد الإسلام كما تقدم مشروحا وان استولى بنفسه واستظهر بعدته وقام بالذب عن بيضة الإسلام وحوزته فالامر في ذلك ينقسم حب انقسام الكلام فيه      إذا كان المستولى صالحا للامامة فإن تصور توحد كاف في الدهر لا يباري شهامة ولا يجاري صرامة ولم نعلم مستقلا بالرئاسة العامة غيره فيتعين نصبه ثم تفصيل تعينه كتفصيل تعين من يصلح للامامة كما تقدم حرفا حرفا      وأنا الآن امد في ذلك انفاسي فإنه من أهم المقاصد وأعم الفوائد وهو مفتتح القول في بيان ما دفع اليه أهل الزمان والمقاصد من ذلك يحضره امور      أحدها أن العالم القائم بهذا الأمر في خلو الدهر وشغور العصر في حكم الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر ولا بد من إثبات ذلك بالواضحة والحجة اللائحة حتى إذا تقررت القاعدة رتبنا عليه ما يتضح به المقصود أن شاء الله والله المستعان المحمود     وقد اتفق المسلمون قاطبة على أن لآحاد المسلمين وافراد المستقلين بانفسهم من المؤمنين أن يأمروا بوجوه المعروف ويسعوا في اغاثة كل ملهوف ويشمروا في انقاذ المشرفين على المهالك والمناوي والحتوف وكذلك اتفقوا على أن من رأى مضطرا مظلوما مضطهدا مهضوما وكان متمكنا     من دفع من ظلمه ومنع من غشمه فله أن يدفع عنه بكنه جهده وغاية ايده كما له أن يدفع عن نفسه ولو هم رجل بأخذ مقدار نزر من مال انسان فله أن يدفعه باليد واللسان وان اتى الدفع على القاصد ظلما كان دمه مهدرا محبطا مطلولا مسقطا     فإذا كان يجوز الدفع عن الفلس والنفس باللسان والخمس ثم بالسلاح والجراح من غير مبالاة بزهوق الارواح مع التعرض للتردد بين الاخفاق والانجاح فلو انتفض الدهر عن امام ذي استقلال وقيام بمهمات الانام ولا خبال في عالم الله يبر على النظام والرعاع والطعام وهمج العوام ولو جرت فترة في بعض الاعوام وجرى ما نحاذره من خروج الأمور عن مسلك الانتظام للقي أهل الإسلام احوالا واختلالا لا يحيط بوصفه غايات الاطناب في الكلام ولأكل بعض الناس بعضا وارتجت الممالك واضطربت المسالك طولا عرضا ثم إذا خلت الديار عن الجنود المعقودة والانصار استجرأ لاكفار وتمادى الفساد والانتشار وعم الشر والضر وظهر الخبال في البحر والبر فكم من دماء لو افضى الأمر إلى ذلك لسفكت وحرمات لهتكت وكم من حدود تضيع وتهمل وكم ذريعة في تعطيل الشريعة تعمل وكم من مناظم للدين تدرس وكم معالج تمحق وتطمس     وقد يتداعى الأمر إلى اصل الملة ويفضي إلى عظائم يستأصل بها الدين كله إذا لم ينتهض من يحمل عبء الإسلام وكله     فلو انتهى الخطب إلى هذا المنتهى واستمكن متوحد في العالم من العدد والعدد وموافاة الاقدار ومصافاة الاعوان والانصار وثقابة الرأي والنهي وعزيمة في المعضلات لا تفل وشكيمة لا تحل وصرامة في الملمات تكل عن نفاذها ظبات السيوف وشهامة في الدواهي المدلهمات تستهين باقتحام جراثيم الحتوف وأناة تخف بالاضافة اليها الاطواد الراسخة وخفة إلى مصادمة العظائم تستفز ثقل الاوتاد الشامخة إذا حسب تلد بين يديه كل ماهر حسوب وإذا شمر خضع لجده وجده معوصات الخطوب وقد طبع الفاطر على الاذعان له حباب القلوب كلما ازدادت الأمور عسرا ازداد صدره الرحيب انفساحا وغرته الميمونة بشراص أن نطق فجوامع الكمل وبدايع الحكم ينزع عن الاصمخة صمام الصمم وان رمز واشار فالشهد الجني المشار وان وقع اغرب وابدع وخفض ورفع     وفرق وجمع ونفع ودفع العفة حكم خلائقه والاستقامة نظم طرائقه وقد حنكته التجارب وهذبته المذاهب يسكته حلمه وينطقه علمه وتغنيه اللحظة وتفهمه اللفظة يستخدم السيف والقلم ويعشو إلى ضوء رأيه الامم أن سطا على العتاة بعنفه شامخا بانفه ارفضت رواسي الجبال وتقطعت نياط قلوب الرجال وان لاحظ العفاة بطوله ازهرت رياض الامال وهذه الخلال إلى استمساك من الدين بالحبل المتين واعتصام بعرى الحق المبين ولياذ في قواعد العقائد بثلج الصدور وبرد اليقين وثقة بفضل الله لا يكدرها نوائب الزمان ولا يغيرها طوارق الحدثان وحق المليك الديان انه يقصر عن ادنى معانيه ومعاليه غايات البيان     هذه كنايات عن سيد الدهر وصدر العصر ومن إلى جنابه منتهى العلا والفخر وقد قيضه الله جلت قدرته لتولي امور العالمين وتعاطيها واعطى القوس باريها فهو على القطع في الذب عن دين الله والنضال عن الملة وترفيه المسلمين عن كل مدحضة ومزلة وتنقية الشريعة عن كل بدعة شنعا مضلة وكف الاكف العادية وعضد الفئة المرشدة الهادية في مقاسم شفيق رفيق قوام على كفالة ايتام ينتحي غبطتهم ويتجاوز عثرتهم     وسقطتهم وإذا كان يقوم الرجل الفرد بالذب عن اخيه وبهداية من يستهديه ونصرة من يندبه ويستدعيه فالاسلام في حكم شخص مائل يلتمس من يقيم اوده ويجمع شتاته وبدده ويكون عضده ومدده ووزره وعدده فلئن وجب استعاف الرجل الواحد بمناه واجابته في استنجاده واسترفاده إلى مهواه فالاسلام اولى بالذب والنادب اليه الله وانما لم يجعل لآحاد الناس شهر السلاح ومحاولة المراس في رعاية الصلاح والاستصلاح لما فيه من نفرة النفوس والاباء والنفاس والافضاء إلى التهارش والشماس     والذي يزيل اصل الاشكال والالباس انا نجوز للمطوعة في الجهاد الايغال في بلاد أهل العناد من الكفار على الاستبداد وان كان الاولي أن يكون صدرهم عن رأي الأمام الذي اليه الاستناد فلما كان غايتهم الاستشهاد والشهادة احدى الحسنيين لم نمنع المطوعة من التشمير للقتال والنزاع بين المسلمين محذور والسبب المفضي اليه محرم محظور فإذا     استقل فرد الزمان بعدة لا تصادم واستطالت يده الطولي على الممالك عرضا وطولا واستتبت الطاعة امكنت الاستطاعة فقيامه بمصالح أهل الإيمان بالسيف والسنان كقيام الواحد من أهل الزمان بالموعظة الحسنة باللسان وها أنا الآن انهي القول فيه إلى قصاري البيان والله تعالى المستعان     فالمتبع في حق المتعبدين الشريعة ومستندها القرآن ثم الايضاح من رسول الله والبيان ثم الإجماع المنعقد من حملة الشريعة من أهل الثقة والايمان فهذه القواعد وما عداها من مستمسكات الدين كالفروع والافنان والامام في التزام الأحكام وتطوق الإسلام كواحد من مكلفي الانام وانما هو ذريعة في حمل الاس على الشريعة غير أن الزمان إذا اشتمل على صالحين لمنصب الامامة فالاختيار يقطع الشجار ويتضمن التعيين والانحصار ولا حكم مع قيام الأمام إلا للمليك العلام فإذا لم يتفق مستجمع للصفات المرعية واستحال تعطيل الممالك والرعية وتوحد شخص بالاستعداد بالانصار والاستظهار بعدد الاقتهار والاقتسار والاستيلاء على مردة الديان وساعدته مواتاة الاقدار وتطامنت له اقاصي الاقطار وتكاملت اسباب الاقتدار فما الذي يرخص له في الاستئخار عن النصرة والانتصار والممتثل أمر الملك القهار كيف انقلب الأمر واستدار فالمعنى الذي يلزم الخلق طاعة الأمام ويلزم الأمام القيام بمصالح الإسلام انه ايسر ملك في امضاء الأحكام وقطع النزاع والالزام وهو بعينه يتحقق عند وجود     مقتدر على القيام بمهمات الانام مع شغور الزمان عن إمام فقد تحقق ما احاوله قطعا بحمد الله العظيم شأنه ووضح كفلق الصبح دليله وبرهانه فامض يا صدر الزمان قدما ولا تؤخر الانتهاض لما رشحك الله له قدما وأنا أقدر الآن اسئلة مخيلة واتولى بيمن ايام مولا جوابا عن كل سؤال يوضح تحقيقه وتحصيله ثم ينتجز بانقضاء السؤال والجواب مقصود هذا الفصل من هذا الباب     فإن قيل إنما كان يستقيم ما ذكرتموه ويستمر ما كررتموه لو كانت الأمور جارية على سنن السداد ومناهج الرشاد فأما والايدي عادية ووجوه الخبل والفساد بادية ونفوس المتمردين على الطغيان والعدوان متمادية وليس للملك عصام ضابط ولا انتظانم رابط وربقه الايالة محلولة وحدود السياسة مغلولة وسيوف الاعتداء مسلولة ورسوم العزائم منحلة ورقاب الطغام عن جامعة الولاة منسلة ومعالم العدل مندرسة ومناظم الانصاف منطمسة فالبعد من هذه الفئة الطاغية اسلم والنأي عنهم احزم وإذا استبدل الزمان عن الرشد غيا فلا تعدل بالسلامة شيئا     قلت هذا الآن تدليس والغاز وتلبيس وأنا اجيب عنه من وجهين      أحدهما أن الأمر على خلاف ما ذكره السائل وصوره فإن الطاعة مبسوطة وعرى الملك برأي سلطان الزمان منوطة وحوزة الإسلام والحمد لله محوطة والابهة قائمة والاركان وارفة الافنان رحيبة الاغطان وقاعدة الملك راسخة واطواد الهيبة شامخة واوتاد الدولة باذخة والسلطنة بمائها والمملكة مستمرة على علائها والعزة مستقرة في غلوائها ورواق الجد ممدود ولواء النصر معقود ما نجم ناجم إلا قسمه من القدر الغالب قاصم وما هجم ثائر هاجم إلا صدمه صادم ولو ذهبت ابسط في ذلك مقالا لصادفت مضطربا رحبا ومجالاإما تعدي الاجناد بعض حدود الاقتصاد فلم يخل منه زمان ولم يعر منه أو أن ونعم الحكم العدل والانصاف فلنضرب عما يجري في الاكناف والاطراف ولنعمل على تنكب الاعتساف فنقول     مرموق الخلائق على تفنن الاراء والطرائق الدماء والأموال والحرم     أما الدماء فمحقونة في أهبها في اعم الاحال فإن فرضت فتكة واغتيال وهتكة واحتيال تداركها المترصدون لهذه الاشغال      واما الأموال فمعظم الطلبات الخارجة عن الضبط محسومة واسباب المكاسب منظومة ومطالع المتعدين اطوارهم مردومة والتوزيعات والقسم مرفوضة وقواعد المطالبات والمصادرات منقوضة والرفاق من اقاضي الافاق على اطراف الطرق في خفض الامن وادعون واصحاب العرامات مطرقون تحت هيبة السلطنة خاشعون ولو قيس هذا الزمان اللاحق بالزمان السابق لظهر اختصاصها بفنون من النعمة والامنة لا يصفها الواصفون ولا يقوم بكشفها الكاشفون     واما الحرم فمصونة من جهة صدر جنود الإسلام مرعية محفوظة من نزغاتهم نرقاتهم محمية ملحوظة من رعاة الرعية وان فرضت لطخة وبلية كانت في حكم عثرة يرخى عليها الستر وتقال أو يلحق بمن يأتيها الخزي والنكال    هذا حكم كلي على مناظم المملكة فان انسلت عن الربط بوادر ونوادر غير مدركة وفارقت منهج الضبط ومسلكه أو هاجت في اكناف الخطة فتنة ثائرة ونائرة جرت مهلكة فمن الذي يضمن نفض الدنيا عن بوائقها ويرخصها عن دواهيها وعوائقها هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما دار الفلك على شلكه وما قامت النساء عن مثله درت اخلاق الدين في زمنه ببره وساس حوزة الإسلام بدرة وقال رضي الله عنه مرة لو تركت جرباء على ضفة الفرات لم تطل بالهناء فأنا المطالب بها يوم القيامة ثم صادف علج منه غرة وقتله قتلة مرة فلم ينفعه عزمه وحزمه لما نفذ فيه قضاء الله وحكمه ولم يجد لقضاء الله مردا وان كان سورا حول الإسلام وسدا والو ارخيت في هذا     الفصل فضل عناني وارسلت عذبة لساني وقصصت من بدائع هذه المعاني لجاوزت القواعد من مقاصدي في هذا المجموع والمباني      ثم اختتم هذا الفصل بما هو غايات الاماني وانهيه مبلغا يعترف بموضوعه القاصي والداني فأقول ما تشبث به الطاعنون من هنات وعثرات صدرها عن معرة الاجناد المنحرفين عن سنن الاقتصاد في أطراف الممالك والبلاد لو سلم لهم كما يدعون توبعوا فيما يأتون ويذرون ويدعون وغض عنهم طرف الانتقاد فيما يبتدعون ويخترعون فأين يقع ما يقولون مما يدفع الله بهم من معضلات الأمور ويدرأ بسببهم من فنون الدواهي على كرور الدهور أليس بهم انحصار الكفار في اقاصي الديار وبهم يخفق بنود الدين على الخافقين وبهم اقيمت دعوة الحق في الحرمين واثبتت كتائب الملة في المشرقين والمغربين وارتدت مناظم الكفار منكوسة ومعالمهم معكوسة وبذل عظيم الروم الجزية والدنية وصارت المسالمة والمتاركة له قصارى الامنية وانبسطت هيبة الإسلام على الاصقاع القصبة واطلبت على قمم الماردين رايته العلية واضحت ثغر صدورهم لأسنة عساكر الإسلام دريئة     هذه رمزة إلى ادنى الاثار في ديار الكفار فأما ما دفع الله بهم عن بلاد الإسلام من البدع والاهواء وضروب الاراء فلا يحتوي عليها نهايات الاوصاف    والابناء اليس اقتلعوا قاعدة القرامطة من ديارها واستأصلوا ما أعيا ذوي النجدة والبأس من خلفاء بني العباس من آثارها واوطأوا رقاب الزنادقة وكل فئة مارقة سنابك الخيل وانتهى رعيهم حيث انتهى الليل فلم يبق في خطة الإسلام متظاهر بالبدعة إلا اضحى منكوبا مرعوبا مكبوبا فإن ألفى زائغ مراوغ يدب الضر أو يمشي الخمر فهو من أهل الحق والسنة على اعظم الغرر فإذا كانوا عصاما لدين الإسلام ووزرا للشريعة التي ابتعث بها سيد الانام فأي قدر للدنيا     بحذافيرها بالاضافة إلى الدين واي احتفال بأغراضها مع استمرار الحق المبين والمنة لله رب العالمين ولو ارخيت في ذلك الطول لخفت انتهاء الكلام آل الاطناب والملل وربما كان ما قل ودل انجح مما يطول فيمل فمن لا يحيط بحقائق الاشياء في استبدادها فليتخيل جريان نقائضها واضدادها فلو فرضت والعياذ بالله فترة تجرأ بسببها الثوار من الديار ونبغ ذوو العرامة الاشرار وانسلوا عن ضبط بطاش في الزمان ذي اقتدار لافتدى ذوو الثروة واليسار أنفسهم وحرمهم بأضعاف ما هم الآن باذلون في دفع ادنى ما ينالهم من الضرار     نعم ولو تذاكرنا الواقعة التي أرخت في تواريه الأخبار لاغنتنا عن إطالة النظر والاعتبار لما أنجر من أقاصي بلاد الروم والعسكر الجرار وانسدت السبل وضاقت الحيل وغص الجو بالخرصان وجاش جيش الكفر بالفرسان ولم يشكوا انهم يطأون من الأرض مناكبها ويملكون مشارق الأرض ومغاربها وأضحت قلوب المسلمين واجفة واحشاؤهم راجفة وآراؤهم متفاوتة وعقولهم متهافتة فمال ملك الإسلام ألب    أرسلان تغمد الله روحه بالروح والرضوان اليهم وانقض انقضاض الصقر عليهم وغضب لله غضبة تستجفل الاساد عن أشبالها وانغمس في شرذمة قليلة في غمرة الداهية غير محتفل بأهوالها وكان الكفار اغتروا بوفور جمعهم ولم يعلموا أن الله من وراء قمعهم فرضى ملك الإسلام بمقدور القضاء ومد علم الحق إلى الفضاء فأضاءته من جنود الإسلام بروق السيوف ومطرت سحايب الحتوف وتكشرت انياب الهيجاء ودارت الرحا على الدماء واستمرت الحرب سجالا ونال كل من قرنه منالا فلما كان يوم الجمعة التقي الصفان والتحم الفئتان والتفت حلقتا البطان فقال الملك الب أرسلان طاردوهم حتى توافوا دعوة الخطباء في أقاصي البلدان فما زالت الشمس حتى زالت اعلامهم وزلت اقدامهم وبلغت أن قائدهم الملقب بقيصر لما نفخ الشيطان في مناخره وعمي في أول الأمر عن    آخره أقدم متابعا قائد غيه وضلاله مجيبا داعي جهله وخباله فكان أول من ابدت الحرب مقاتله وارسى عليه الموت كلا كله فحصل في قبضة الاسر وانبسطت عليه يد القسر ورد الله كيده في نحره واذاقه وبال امره فبات مع المقرنين في الاصفاد والله للباغين بالمرصاد فمن استمسك بالحق ولم يمل به مهوى الهوى عن الصدق تبين على البدار والسبق أن خزائن العالمين ودخائر الامم الماضين وكنوز المنقرضين لو قوبلت بوطأة من الكفار لاطراف ديار الإسلام لكانت مستحقرة متسنزرة فكيف لو تملكوا البلاد وقتلوا العباد وقرعوا الحصون والاسداد وخرقوا عن ذوات الخدور حجب الرشاد ومال اليهم من لا خلاف له من حثالة الناس بالارتداد وتخلل الحرائر العلوج وهتك حجالهن التبذل والربروج وهدمت المساجد ورفعت الشعائر والمشاهد وانقطعت الجماعات والاذان وشهرت النواقيس والصلبان وتفاقمت دواعي الاختزاء والافتضاح وصارت خطة الإسلام بحرا طافحا بالكفر الصراح فما القول في أقوام بلوا في الذب عن دين الله حشاشات الارواح وركبوا نهايات الغرر متجردين لله تعالى في الكفاح وواصلوا المساء بالصباح     والغدو بالرواح وركبوا إلى الموت أجنحة الرياح متشوفين إلى منهل المنايا على هزة وارتياح حتى وافوا بحرا من جمع الكفار لا ينزفه ادمان الانتزاح وركنوا للموت وتنادوا الابراح والموا بهم المام القدر المتاح وما وهنوا وما استكانوا وان عضهم السلاح وفشى فيهم الجراح حتى اهب الله رياح النصر من مهابها ورد شعائر الحق إلى نصابها وقيض من الطافه بدائع اسبابها ايثقل هؤلاء على أهل الإسلام بنزر من الحطام وهم القوام والنظام      فهذه نبذة كففت فيها غرب الكلام ودللت بالمرامز على نهايات المرام وأنا الآن آخذ في فن آخر وانتحى فيه فن الاستقصاء والاتمام فأقول لو سلمت للطاعنين غاية ما حاولوه جدلا ولم انازعهم مثلا وضربت عن مخافتهم حولا فهل هم منصفي في خطة اسائلهم عن سرها واباحثهم في خيرها وشرها ونفعها وضرها وحلولها ومرها فأقول     لو فرضنا خلو الزمان عمن تشكون من الاقوام وتعرى الخواص والعوام عن مسيطر بطاش قوام هذا اقرب إلى السداد والانتظام أم قيامهم على الثوار والطغام مع امتداد الايدي إلى نزر مما جمعوه من الشبهات     والحرام مع استمساكهم من الدين الحق بأقوى عصام ووقوفهم في وجوه الكفار كانهم اسود آجام فالوجه رؤية انعم الله في مقارها والابتهال الهي في دفع غوائل الطوارق ومضارها ومن طلب زمانا صافيا عن الاقذاء والاكدار فقد حاول ما يند عن الإمكان والاقتدار      شعر         ومكلف الايام ضد طباعها    متطلب في الماء جذوة نار        وقد حان الآن أن نضرب في معنى آخر مستجد مستجاد ونمعن في منهج حديث مستفاد فنقول     لو قدرنا ما يشكونهم على ما يقدرونهم فهل يسلمون ما يدفع الله من شرهم ويدرأ من ضرهم بسبب من هو سيد الأمة وملاذها وسندها ومعاذها وهل يعترفون بأنه لولا هيبته القاهرة وسطوته      القاسرة لانسل عن لجم الضبط العتاة واسترسل على انتهاك الحرمات واقتحام المنكرات الطغاة ولبلغ الأمر مبلغا لا يأتي عليه الصفاة فإن ابدى الطاعنون صفحة الخلاف وجانبوا وجه الانصاف كانوا في حكم من يعاند المحسوسات ويجاحد البداية والضرورات وان اذعنوا للحق وباحوا بالصدق وقالوا أن ما يدفع الله به ظاهر لا سبيل إلى انكاره ومن جحده شهدت عليه بدائع آثاره فنقول      إذا جل قدر من يدرأ من الافات والبليات وضروب المعضلات فالقيام بدفعها تصد لكفاية المسلمين متاوي ومعاطب وفنونا من الدواهي وليس من شرط الاستقلال بدفع مهمات إمكان دفع سائرها ومن رأى اخاه المسلم مشرفا على الهلاك وصادف ماله متعرضا للضياع واستمكن من دفع الهلاك عنه ولم يتمكن من انقاذ ماله فيتعين الدفع عن نفسه وان عسر تخليص ماله فالذي ناط الله عزت قدرته تعالى بمنصب صدر الزمان من دفع طوارق الحدثان لا يأتي على ادناه غايات البيان والذي يعسر دفعه ورده ومنعه لا يمنع وجوب درء ما يسهل درؤه وأنا استوضح مرامي بضرب مثل فأقول     أن بلى المسلمون بجدب في بعض سني الازم وألم بالناس     موتان فالافات السماوية لا يدخل دفعها تحت الايثار والاقتدار ولكن ما يمكن دفعه ويرتبط بالايثار والاختيار منعه من هرج أو نوران متلصص أو استجماع قطاع للطرق أو وطء طوائف من الكفار اطراف ديار الإسلام فيتعين القيام بالدفع على حسب الإمكان وان كان قد يغشى الخلائق من ضروب البوائق ما لا استمكان في درئه فما يصدر من الاجناد مما يتعذر تقدير دفعه كآفات سماوية وما يتيسر دفعه يتعين التشمير واجتناب التقصير في دفعه فقد بلغ الكلام في فنه نهاية الايضاح ولاح كفلق الصباح وقد انتهى مقدار الغرض في الجواب عن سؤال واحد      انا الآن اخذ في ضرب آخر في معرض سؤال وجواب عنه     فإن قيل هل يرخص الشارع للمستقل بالمنصب الذي وصفتموه النزول عنه والتخلي لعبادة الله وايثار الامتياز والانحجاز عن مظان الغرر ومواقع الخطر وتفويض أمر العباد إلى خالقهم ورازقهم قلنا لا يحل للقائم بالأمر الانسلال والانخزال عما تصدى له من كفاية المسلمين عظائم الاشغال إذا علم انه لا يخلفه من يسد في أمر الدين والدنيا مسده ويرد بوادر الظلمة رده وتبين أن من يتشوف إلى الاستقلال بالاشغال لا يبوء بالاعباء والاثقال ولا يرجع إلى حشمة وازعة وابهة رادعة ورأى مطاع واستبداد    ومتابعة اشياع ومشايعة اتباع وتوفر من همم الخلق ودواعي في الاذعان والاتباع واصفاق واطباق من طبقات الخلق في الافاق على الثقة باقواله والركون إلى متصرفات احواله واعتقاد مصمم من كافة الورى من يرى ومن لا يرى انه إذا تعطف وترأف فكافل شفيق وناصح رفيق وان استجار ملهوف بداره فركن وثيق وان تغشت سخطته جبابرة الأرض لم يبق منهم في الحناجر ريق يعم أهل الخلاف والوفاق نصحه واشفاقه ويطبق طبقات الخلائق مباره وارفاقه ويستنيم إلى مأمن انصافه كل ختار غادر ويستكين لهيبته كل جبار قاسر قد استطال على الرقاب الغلظ فرسانه واستمال حبات القلوب اسحانه فالى متى اطيل طول الكلام وقد تناهي الوضوح والكنى والحال تصرح وتبوح ومن يستجمع هذه الخلال إلا فرد الدهر ومرموق العصر ومن يتصدى في متسع الأرض إذا تأمل الباحث الطول منها والعرض لأدنى مقام من هذه المقامات ومن ترقى إلى اقرب درجة من هذه الدرجات هيهات هيهات لم يأت والله بمثله مكر الادوار ولم يحتو على شكله محدب الفلك الدوار ولم يسمح     بنظيره منقلب الايام والاقدار ومضطرب الدهور والاعصار ومن قدر له في العالمين ضريبا استطالت عليه ألسنة ارباب الالباب تفنيدا وتكذيبا ولو فرض فارض مستظهرا بالعدد بطاشا بانصار من غير رجوع إلى اعتزام وافتكار ونظر في مهمات الرعايا واعتبار لصارت الخطة فراشا لكل عاد وفراشا لكل ناد ثم من ينتهض لدين الله بالذب والانتصار ومن يتعطف عاطفته على علماء الاقطار ومن يكلأ بالعين الساهرة شعار الدين في أقاصي الديار والامصار ومن يحسم غوائل البدع بالرأي الثاقب من غير اثارة فتنة واظهار ضرار ومن يداوي بلطف الخلق ما يكل عنه غرار الحسام البتار ومن يهتم بالمساجد والمشاهد والمجالس والمدارس في الامصار ومن الذي تحن إلى سدته زمر الاولياء والاخيار حنين الطير إلى الاوكار ومن الذي يستوظف معظم ساعات الليل والنهار في الاصاخة إلى كلام الملهوفين من غير تبرم واستكثار فإذا لم يقم أحد مقامه في ادنى هذه الاثار تعين عليه قطعا على الله العظيم شأنه الثبوت الاصطبار والانتداب لله عزت قدرته في هذه المآرب والاوطار     وأنا الآن اذكر فصولا مجموعة انتحى فيها منشأ الحق وينبوعه واسترسل في العبارات القريبة المطبوعة فان نهايات المعاني لا يحويها الالفاظ المصنوعة والكلم المرصعة المسجوعة فأقول معولا على التأييد من الله والتوفيق ليس يخفي على ذوي البصائر والتحقي أن القيام بالذن عن الإسلام وحفظ الحوزة مفروض وذوو التمكن والاقتدار مخاطبون به فان استقل به كفاة      سقط الفرض عن الباقين وان تقاعدوا وتواكلوا عم كافة المقتدرين الحرج على تفاوت المناصب والدرج ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات احرى باحراز الدرجات واعلى من فنون القربات من فرائض الاعيان فان ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه باارتسام اختص المأثم به ولو اقامه فهو المثاب ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات والقائم به كلف نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب وآمل افضل الثواب ولا يهون قدر من يحل محل المسلمين اجمعين في القيام بمهم من مهمات لادين ثم يقضي عليه بأنه من فروض الكفايات قد يتعين على بعض الناس في بعض الاوقات فإن من مات رفيقه في طريقه ولم يحضر موته غيره تعين عليه القيام بغسله وتكفينه ودفنه ومن عثر على بعض المطضرين وانتهى إلى ذي مخمصة من المسلمين واستمكن من سد جوعته وكفاية حاجته ولو تعداه ووكله إلى من عداه لاوشك أن يهلك في ضيعته فيتعين على العاثر عليه القيام بكافيته واقرب مثال إلى ما نحاول الخوض فيه الجهاد فهو في وضع الشرع مع استقرار الكفار في الديار     من فروض الكفايات فلو وقف من هو من أهل القتال في الصف وعدد الكفار غير زائد على الضعف ثم آثر بعد الوقوف للمناجزة المحاجزة والانصراف من غير تحرف لقتال أو تحيز إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فيصير ما كان فرضا على الكفاية متعينا بالملابسة وقد قال العلماء ليس للرجل أن يخرج إلى صوب الجهاد على الاستبداد دون اذن الوالدين ولو خرج دونها كان عاقا مخالفا لأمر الله مشاقا ولو خرج من غير استئذان وانغمس في القتال لما التقى الصفات فليس له أن يرجع الآن وان لم يتقدم منه استئذان وكان خروجه على وجه العقوق والعصيان وكذلك العبد القن ليس له أن يخرج إلى الجهاد دون اذن مولاه فلو استقل بنفسه وخرج كان شاردا آبقا متمردا على مالك رقه تاركا ما أوجب الله من رعاي حقه وهو في حركاته وسكناته وتردداته في جميع شاراته وحالاته متعرض لسخط الله وسوء عقابه ثم لو تمادى على اباقة وشراده ووقف في الصف على استبداده تعينت عليه المصابرة حتى تضع الحرب اوزارها فهذه جمل قدمنا تذكارها وأنا أوضح الآن مواقعها وآثارها فأقول    قد تحقق أن صدر الورى وكهف الدين والدنيا احتمل اعباء الملة واثقالها وتقلد اشغالها وجردت اليه الخليقة آمالها جررت اليه الاماني اذيالها وربطت ملوك الأرض بعالي رأيه سلمها وقتالها ووفاقها وجدالها وواصلت البريه في اللياذ به غدوها وآصالها ولو آثر الايداع اياما معدودة لبلدت الاستقامة احوالها وزلزلت الأرض زلزالها وابدت غوائل الدهر أهوالها وبلغ الأمر مبلغا يعصر فيه التدارك ولا يرجى معه التماسك فإذا كان يجب على العبد الابق إذا لابس القتال ووقف في صف الابطال أن يصابر ويستقر ويثابر لانه لو انصرف لافضى انصرافه وانعطافه إلى انفلال الجند وانحلال العقد ثم إذا كثر الجمع في صف الإسلام فقد يقل اثر واحد ينسل وينفل وربما لا يستبين له وقع ولا يظهر لوقوفه في نظر العقل نفع ولا دفع إذا كانت بنود الإسلام تخفق على مائة ألف مثلا أو يزيدون ولكن حسم الشرع سبيل الانصراف والانكفاف فان تسويغ الانفلال للواحد يؤدي إلى تسويغه لغيره وهذا يتداعى إلى خروج الأمر عن الضبط إذ النفوس تتشوف إلى الفرار من مواطن الردى وتتنكب اسباب التوى     قإذا تقرر ذلك من حكم الشريعة فمن وقف في الاستقلال بمهمات المسلمين والذب عن حوزة الدين موقف من هو من في الزمان صدر العالمين ولو فرض والعياذ بالله تقاعده عن القيام بأمر الإسلام لانقطع قطعا سلك النظام فلأن يجب عليه المصابرة مع العلم بأنه لا يسد أحد في عالم الله مسده بعده وقد اضحى للدين وزرا وعدة وانتدب للسنة والاسلام جنة وحده اولى فخرج من ترديد المقال في هذا المجال والاستشهاد بالامثال قول مبتوت لامراء فيه ولا جدال في أنه يجب على صدر الدين قطعا من غير احتمال الاستثبات على ما يلابسه من الاحوال وأنا اتحدى علماء الدهر فيما اوضحت فيه مسلك الاستدلال فمن ابدى مخالفة فدونه والنزال في مواقف الرجال وهو قول اضمن الخروج عن عهدته في اليوم الجم الاهوال إذا حقت المحاقة في السؤال من الملك المتعال ذي الجلال ثم قربات العالمين وتطوعات المتقربين لاتوازي وقف من وقفات نم تعين عليه بذله المجهود في الذب عن الدين     ومما يتعين الآن ايضاحه قضية ناجزة يؤول اثر ضيرها وخيراه إلى الخلائق على تفاوت مناصبها ويظهر وقعها في مشارق الأرض ومغاربها وهي أنه شاع في بلاد الإسلام تشوف صدر الانام إلى بيت الله    الحرام وقد طوق الله هذا الداعي من معرفة الحلال والحرام ما يوجب عليه ايضاح الكلام في هذا المرام وكشف اسباب الاستبهام والاستعجام فأقول وبفضل الله الاعتصام أن كان ما صمم صدر الإسلام عليه الرأي والاعتزام من ابتغايتك المشاعر العظام متضمنا قطع نظره عن الخليقة فهو محرم على الحقيقة وأنا اوضح المسلك في ذلك وابين طريقه فليست الاعمال قربا لأعيانها وذواتها وليست عبادات لما هي عليها من خصائص صفاتها وانما تقع طاعة من حيث توافق قضايا أمر الله في اوقياتها فالصلاة الموظفة على العبد لو اتى بها على ابلغ وجه في الخضوع والاستكانة والخشوع قبل اوانها لم تقع موقع الاعتداد والصلاة ممن هو اهلها من افضل القربات ولو اقدم عليها محدث كان ما جاء به من المنكرات فالحج احرام ووقوف وافاضة وطواف ببيت مشيد من احجار سود وتردد بين جبلين على طورى المشي والسعي وحلاق إلى هيأت وآداب وانما تقع هذه الأفعال قربا من حيث توافق أمر الله تعالى وتقدس وقد اجمع المسلمون قاطبة على أن من غلب على الظن افضاء خروجه إلى الحج إلى تعرضه أو تعرض طوائف من المسلمين للغرر والخطر لم يجز له أن يغرر له بنفسه ويذريه ونم يتصل به ويليه بل يتعين عليه تأخير ما ينتجه إلى أن يتحقق تمام الاستمكان فيه وهذا في آحاد الناس ومن يختص امره به     وباخصه     فأما من ناط الله به امور المسلمين وربط بنظره معاقد الدين وظل للاسلام كافلا وملاذا وكهفا ومعاذا ولو قطع عن استصلاح العالمين ومنع الغاشمين ودفع الظالمين وقمع الناجمين نظره لارتبك العباد والرعايا والاجناد في مهاوي العبث والفساد واستطال المبتدعة الزائغون وثار في اطراف الخطة النابغون وزالت نضارة السنة وبهجتها ودرست اعلامها ومحجتها فكيف يحل لمن يحل في دين الله هذا المحل وقد احال الله عليه العقد والحل واناط باقباله واعراضه العز والذل وعلق بمنحه ومنعه الكثر والقل وربط بلحاظه وتوقيعاته والفاظه الرفع والخفض والابرام والنقض والبسط والقبض أن يقدم نسكا يحصه على القيام بمناظم الإسلام ومصالح الانام وآية حجة تعدل هذه الخطوب الجسام والامور العظام بحجه فإن اعترض متكلف في ادراج الكلا وقال من جرد الاعتصام بطول الله وفضه ووصل حبل امله بحبله كفاه ملاحظة الاغيار ووقاه ما يحاذر ويجتنب ورزقه من حيث لا يحتسب وقد ضمن الله أن يحفظ من الدين نظامه إلى قيام القيامة والاستمساك بكافية رب الارباب اولي من الاتكال على الاسباب قلت هذا من الطوام التي لا يتحصل منها طائل ولا يعثر الباحث عنها على     حاصل كلمة حق أريد بها باطل ولو حكمنا مساق هذه الطامات لجرتنا إلى تعطيل القربات وحسم اسباب الخيرات ولاستوت على حكمها الطاعات والمنكرات وبطلت قواعد الشرائع واتجهت اليها ضروب الوقائع واضحى ما سبب به المعترض في التعطيل من اقوى الذرائع فمضمون ما بلغه المرسلون اسباب الخير واجتناب دواعي الضير ثم الاكل سبب الشبع والشرب سبب الري وهلم جرا إلى كل مسخوط ومرضى ويجب من مساق ذلك رد أمر الخلق إلى خالقهم والانكفاف عن الأمر بالمعروف والانصراف عن اغاثة كل ملهوف وبهذه الترهات تعطل طوائف من ناشئة الزمان واغتروا بالتخاوض والتفاوض بهذا الهذيان فالامور كلها موكولة إلى حكم الله وليست اعمال العباد موجبة ولا علة ولكن الموفق لمدرك الرشاد ومسلك السداد من يقوم بما كلفه من الاسباب ثم يرى فوزه ونجاته بحكم رب الارباب فإاوضح أن قيام صدر الدهر وسيد العصر بمهمات الدين والدنيا وحاجات الورى سبب اقامه الله مطمحا لأعين العالمين وشوقا للاملين فلا تبديل لما وضع ولا واضع لمن رفع فلنضرب عن هذه الفنون اضراب من لا يستبدل عن مدارك اليقين مسالك الظنون     اللهم يسر بجودك وكرمك منهج الصواب وجنبني غوائل التعمق والاطناب وبعد فالذي يليق بهذا الموقف العلي والمنصب السني في أمر    الحج ما أنا واصفه وكاشفه فأقول أن ارجحن رأي مولانا إلى توطئة الطرق إلى بيت الله المعظم وحماه المحرم ومال اعتزامه إلى تقريب المسالك وتمهيدها وتذليلها وتعبيدها ونفضها عن الساعين في الأرض بالفساد وقاطعي الطرق على العباد وما أهون تحصيل هذا المراد عن من استمر تحت الانقياد لإمره كل متوج صعب القياد كيف وق اطافت باكناف البرية خطة المملكة في الاغوار والانجاد واستدارت على اطرافها من رقعة الملك القرى والبلاد إما الكوفى فإنها بنجدة الدولة مكنوفة وبرجال البأس محفوفة واا بلاد الشام فقد احتوى عليها اقوام منتفضون عن حواشي الجند المعقود مع الإقرار لملك الإسلام والاستكانة والاستسلام واما الحرم فقد استمر فيه الوفاق واستتم وعربان البرية من اضعف الخليقة والبرية ولا حاجة في استئصال شأفتهم واقتلاع كافتهم إلى صدمات هبيرة وكتائب هجامة مغيرة بل يكفيهم أن يقطع عنهم من اطراف البلاد الميرة وليست كفاية غوائلهم بالعصيرة ولولا حذار الاطالة لبسطت في ذلك القالة ومولانا اخبر بطرق الايالة لا محالة وتمهيد هذه الاسباب هين على مستخدم من ذلك الجناب مستناب ولكن لكل اجل كتاب وهذا قول من خبرهم دهرا وعاشرهم عصرا وعرف مداخلهم ومخارجهم ومسالكهم ومدارجهم    ثم إذا تمهدت السبل وانزاحت العوائق والعلل واظلت من الامنة على الطارقين الظلل واطت علىالبخاتي المحتجبات و الكلل وسفرت الحياض وحميت على الحجيج الرياض و الغياض وعمرت الاميال واقيمت على المتاعات الصوى والاطلال وتفقدت الابار وتعهدت الاعلام والاثار ورتب على المياه العدة ذوو النجدة والعدة وتمادت على اطراد الامن المدة فإذ ذاك ينتهض صدر الزمان محفوظا بحفظ الله ورعايته مكفوفا بأنعمه وكلايته والسعادة خدينه واليمن قربته في كتيبه باسلة ترتج لها الاداني والاقاصي ويتطامن لوقع سنابكها الصياصي ويستكين لنجدتها النواصي تخفق عليها رايته العلية وتسطع لآلئ العلياء من غرته البهية بجنيه النجاح ويحوش موكبه الفلاح والبرية تطوي منازلها ويقرب مناهلها فيوافي الميقات المشرقي بذات عرف وأمره السامي منسحب على اقصى بلاد الشرق هذه النهضة هي التي تليق بسدته     المنيفة وساحته السامية الشريفة فأما مبادرة المناسك ومسارعة المدارك قبل استمرار المسالك فمحذور محرم ومحظور ومن جل في الدين خطره دق في مراتب الديانات نظره فهذه تراجم منبهة على مناظم المقاصد لا يجحدها جاحد ولا يأباها إلا معاند لم اوردها تشدقا ولم اتكلفها تعمقا ولكني رأيت ايضاحها في دين الله محتوما وكشفها فرضاص متعينا مجزوما فإن تعديت مراسم الادب فالصدق قصدت والحق اردت وقد والله اوضحت وابلغت وانهيت حكم الله وبلغت والله المستعان وعليه التكلان وقد حان أن اكفكف غربي واستؤقف في هذا الفن سر بي واستفتح فنا لا يثقل على الرأي السامي وقعه ويتخلد على معتقب الجديدين أن شاء الله نفعه فأقول ما قدمته مرامز إلى ما خص الله به صدر العالم من المنصب الاسمى في الاقتدار والامكان والاحتكام على بني الزمان والاستمكان من ردع المتشوفين إلى العدوان     وهذه المعاني لا يطمع اللبيب في استيعاب ذكرها ومحاولة احصائها وحصرها والاحاطة بمبلغ قدرها ولو حاول الارذلون والادنون حظوظا من انعمالله أن يعدوها لم يستقصوها كما قال الله تعالى     وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها    وأنا اذكر الآن ما عل صدر الزمان من احكام     المليك الديان بعد أن اوضح ما اليه من مقاليد امور أهل الإيمان فأقول قد قدمت في الابواب المقدمة ما يتولاه الأئمة من امور الأمة واوردته على صيغ التقاسيم وبلغت الكلام فيه قصارى الكشف والتتميم ولم اغادر لباحث منقلبا ولمستفصل مضطربا وأنا الآن اقول     كل ما يناط بالائمة مما مضى موضحا محصلا مجملا ومفصلا فهو موكول إلى رأي صدر الدين فإن الأئمة إنما تولوا امورهم ليكونوا ذرائع إلى اقامة احكام الشرائع فإذا فقدنا من يستجمع الصفات المرعية في المنصب الاعلى ووجدنا من يستقل بأمور المسلمين وينهض باثقال العالمين ويحمل اعباء الدين ولو تواني فيها لانحلت من الإسلام شكائمه ولمالت دعائمه والغرض استصلاح أهل الإيمان على اقصى ما يفرض فيه الإمكان ولو بغت فئة على الأمام المستجمع لخلال الامامة وتولوا بعدة وعتاد واستولوا على اقطار وبلاد واستظهروا بشوكة واستعداد واستقلوا بنصب قضاة وولاة على انفراد واستبداد فينفذ من قضاء قاضيهم ما ينفذ من قضاء قضاة الأمام القائم بأمور الإسلام والسبب فيه انه انقطع عن قطر البغاة من الأمام نظره إلى أن يتفق استيلاؤه وظفره      فلو رددنا اقضيتهم لتعطلت امور المسلمين وبطلت قواعد من الدين فإذا كان ينفذ قضاء البغاة مع قيام الأمام فلأن ينفذ احكام وزرا الإسلام مع شغور الايام اولى فهذا بيان ما اليه     فأما ايضاح ما عليه فاذكر فيه لفظا وجيزا محيطا بالمعنى حاويا للغرض والمغزة ثم اندفع بعد الايجاز والضبط في طرف من البسط فاقول قد تقدم ما إلى الأئمة من الأحكام وومضح أن جميعها منوط برأي صدر الايام وسيد الانام فنأخذ ما عليه مما اليه فعليه بذل المجهود في اقامة ما اليه وهذا على ايجازه مشير إلى النهايات مشعر بالغايات ولكني اعرض على الرأي لااسمى كل أمر تمس اليه الحاجة واوضح مسلكه ومنهاجه وانتدب في بعض مجاري الكلام محررا مقدرا وأشير إلى المغزي والمرام مذكرا وقد قال الله لسيد الأنبياء الاكرمين     وذكر فإن الذكى تنفع المؤمنين    نعم والتذكير ينزع صمام الصمم عن صماخ اللب ويقشع غمام الغمم عن سماي القلب فأقول حقوق الله تعالى على عبده على قدر النعم والهموم بقدر الهمم وانعم الله إذا لم تشكر نقم والموفق من تنبه لما له وعليه قبل أن يزل به القدم وحظوظ الدنيا خضراء الدمن

لا تبقى على مكر الزمن والمسدد من نظر في اولاه لعاقبته وتزود من مكنته في دنياه لآخرته     فمما اعرضه على الجناب العال يامر يعظم وقعه على اعتقاب الايام والليالي وهو الاهتمام بمجاري الأخبار في اقاصي الديار فان النظر في امور الرعايا يترتب على الاطلاع على الغوامض والخفايا وإذا انتشرت من خطة المملكة الاطراف واسبلت العماية دون معرفتها اسداد الاعراف ولم تطلع شمس رأي راعي الرعية على صفة الاشراق والاشراف امتدت ايدي الظلمة إلى الضعفة بالاهلاك والاتلاف والثلة إذا نام عنها راعيها عاشت طلس الذئاب فيها وعسر تداركها وتلافيها والتيقظ والخبرة آس الايالة وقاعدة الامرة وإذا عمى المعتدون اخبارهم انشبوا في المستضعفين اظفارهم واستجرؤوا على الاعتداء ثم طمسوا عن مالك الأمر آثارهم ويخون حينئذ المؤتمن ويغش الناصح وتشيع المخازي والفضائح ويبدو في امال بيت المال دواعي الاختزال والاستزلال والغلول ويمحق في ادراج حمل الحمول وقد يفضي الأمر إلى ثوران    التوار في اقاصي الديار واستمرار تطاير شرار الاشرار وليس من الحزم الثقة بمواتاة الاقدار والاستنامة إلى مدار الفلك الدوار فقد يثور المخدور من مكمنه ويؤتي الوادع الامن من مأمنه ثم ما اعون البحث والتنقير على من اليه مقاليد التدبير على أن هذا الخطب الخطير قريب المدرك يسير فلو اصطنع صدر الدين والدنيا من كل بلده زمرا من الثقات على ما يرى ورسم لهم أن ينهوا اليه تفاصيل ما جرى فلا يغادروا نفعا ولا ضرا إلا بلغوه اختفاء وسرا لتواقب دقائق الأخبار وحقائق الاسرار على مخيم العز غضة طرية وتراءت للحضرة العلية مجاري الاحوال في الاعمال القصية فإذا استشعر أهل الخبر والفساد انهم من صاحب الأمر بالمرصاد آثروا الميل طوعا أو كرها إلى مسالك الرشاد وانتظمت أمور البلاد والعباد وما ذكرته لو قدر الله نتيجة خطره وفكره وموجب التفاته من الرأي السامي ونظره وهذا الذي رمزت اليه على قرب مدركه ويسره مدرأة لغائله كل أمر وعسره من غير بذل مؤنة واستمداد من معونة ومما القيه إلى المجلس السامي وجوب مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر فإنهم قدوة الأحكام واعلام الإسلام وورثة النبوة وقادة الأمة وسادة الملة ومفاتيح الهدى ومصابيح الدجى وهم على الحقيقة أصحاب الأمر      استحقاقا وذو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم واقتصاص اوامرهم والانكفاف عن مزاجرهم وإذا كان صاحب الأمر مجتهدا فهو المتبوع الذي يستتبع الكافة في اجتهاده ولا يتبع     فأما إذا كان سلطان الزمان لم يلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء والسلطان نجدتهم وشوكتهم وقوتهم وبدرقتهم فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله والغرض الذي نزاوله كنبى الزمان والسلطان مع العالم كملك في زمان النبي مأمور بالانتهاء إلى ما ينهيه اليه النبي والقول الكاشف للغطاء المزيل للخفاء أن الأمر لله والنبي منهيه فإن لم يكن في العصر نبي فالعلماء ورثة الشريعة والقائمون في انهائها مقام الأنبياء ومن بديع القول في مناصبهم أن الرسل يتوقع في دهرهم تبديل الأحكام بالنسخ وطوارئ الظنون على فكر المفتين وتغاير اجتهاداتهم يغير احكام الله على المستفتين فتصير خوماطرهم في احكام الله تعالى حالة محل ما تبدل من قضايا اوامر الله تعالى بالنسخ وهذه مرامز تؤمئ إلى امور عظيمة لم اطنب فيها مخافة الانتهاء إلى الاطراء والافراط في الثناء ومما انهيه إلى صدر العالم بعد تمهيد الاطلاع على إخبار البقاع والاصقاع فتنة هائجة في الدين ولو لم يتدارك لتقاذفت إلى معظم المسلمين ولتفاقمت غائلتها واعضت واقعتها وهي من أعظم الطوام على العوام وحق على من اقامه الله تعالى    ظهرا للاسلام أن يستوعب في دخص الملة عنها الليالي والايام واقصى اقتداري فيه انهاؤها كما نبغ ابتداؤها وعلى من مكله الله اعنة الملك التشمير لانقاذ الخلق عن اسباب الهلك وقد نشأ حرس الله ايام مولانا ناشئة من الزنادة والمعطلة وانبثوما في المخاليف والبلاد وشمروا لدعوة العباد إلى الانسلاخ عن مناهج الرشاد واستندوا إلى طوائف من المرموقين المعتزين واضحى أولئك عنهم ذابين ولم منتصرين وصار المغترون بأنعم الله وترفة المعيشة يتخذون فكاهة مجالسهم وهزو مقاعدهم الاستهانة بالدين والترامز والتغامز بشريعة المرسلين وتعدى اثر ما يلابسونه إلى اتباعهم واشياعهم من الرعاع المقلدين وفشي في عوام المسلمين شبه الملحدين وغوائل الجاحدين وكثر التخاوص والتفاوض في مطاعن الدين ومن أعظم المحن وأطم الفتن في هذا الزمن انحلال عصام التقوى عن الورى واتباعهم نزعات الهوى وتشوفهم إلى الاستمساك بحكام المنى وعرورهم عن الثقة بالوعد والوعيد في العقبى واعتلاقهم بالاعتياد المحض في مراسم الريعة تسمع وتروى حتى كأنها عندهم اسمار تحكي وتطوى وعم على شفا جرف هار من الردى فإذا انضم إلى ما هم مدفوعون اليه من البلوى دعوة المعطلة في السر والنجوى خيف من انسلال معظم العوام عن دين المصطفى     ولو لم يتدارك هذه الفتنة الثائرة احوجت الايالة إلى اعمال بطشة قاهرة ووطأة غامرة وقد كنت رأيت أن اعرض على الرأي السامي من مهمات الدين والدنيا امورا ثم بدا لي أن اجمع اطراف الكلام ومولانا امتع الله ببقائه أهل الإسلام اخبر بمبالغ الإمكان في هذا الزمان وقد لاح بمضمون ما رددته من الايضاح والبيان ما إلى مولانا عليه في حكم الإيمان فإن رأى بينه وبين المليك الديان بلوغه فيما تطقه غاية الاستمكان فليس فوق ذلك منصب مرتقب من القربات ومكان واوان وان فات مبلغ الايثار والاقتدار حالة لا يرى دفعها فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وان تكن الأخرى فمولانا بالنظر في مغبات العواقب احرى     وقد قال المصطفى في اثناء خطبته كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقد عظم والله الخطر لمقام مستقل في الإسلام من حكمه باتفاق علماء الانام انه لو مات على ضفة الفرات مضرور اوضاع على شاطئ الجيجون مقرور أو تصور في اطراف خطة الإسلام مكروب مغموم أو     تلوى في منقطع المملكة مضطهد مهموم أو جأر إلى الله تعالى مظلوم أو بات تحت الضر خاو أو مات على الجوع والضياع طاو فهو المسؤول عنها والمطالب بها في مشهد يوم عظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم      وفي الجملة ففضل الله تعالى على مولانا عميم والخطر في الاستقلال بالشكر عظيم والرب تعالى رؤوف رحيم      ومع هذا فمن سوغ لمولانا الاحجام عن مطالعة مصالح الانام فقد غشه إجماع أهل الإسلام وفارق مآخذ الأحكام وقد مضى هذا مقررا على الكمال والتمام وقد نجز منتهى الغرض من هذا المرام      وأنا بعون الله آخذ في القسم الثالث فأقول     قد تقرر الفراغ عن القول في استيلاء مستجمع لشرائط الامامة ثم في استغلاء ذي نجدة وشهامة وقد حان الآن أن افرض خلو الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة خلوه عمن يستحق الامامة والتصوير في هذا عسر فإنه يبعد غرو الدهر عن عارف بمسالك السياسة ونحن لا نشترط انتهاء الكافي إلى الغاية القصوى بل كفى أن يكون ذ حصاه واناة ودراية وهداية واستقلال بعظائم الخطوب واندهته معضلة استضاء فيها برأي ذوي الاحلام ثم انتهض مبادرا وجه الصواب بعد ابرام الاعتزام ولا يكاد يخلو الاوقات عن متصف بهذه الصفات ولكن قد يسهل تقرير ما نبغيه     بأن نفرض ذا الكفاية والدراية مضطهدا مهضوما منكوبا بعسر الزمان مصدوما مخلا عن ورد النيل محروما وقد ذكرنا أن الامامة لا تثبت دون اعتضاد بعدة واستعداد بشوكة ونجدة فكذلك الكفاية بمجردها من غير اقتدار واستمكان لا اثر لها في اقامة احكام الإسلام فإذا شغر الزمان عن كاف مستقل بقوى ومنة فكيف يجري قضايا الولايات وقد بلغ تغذرها منتهى الغايات فنقول     أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الادب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتولاه الناس عند خلو الدهر ولو سعى عند شغور الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعادة في الأرض بالفساد فهم من اهم ابواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانما ينهى احاد الناس عن شهر الاسلحة استبداداص إذا كان في الزمان وزر قوام على أهل الإسلام فإذا خلى الزمان عن السلطان وجب البدار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان ونهينا الرعايا عن الاستقلال بالانفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الاقرب إلى الصلاح والادنى إلى النجاح فإن ما يتولاه السلطان من امور السياسة اوقع وانجح وادفع للتنافس واجمع لشتات الرأي في تمليك الرعايا أمور الدماء     وشهر الاسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد وإذا امروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات وأتاها على اقرب الجهات      وقد قال العلماء لو خلى الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلده وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الاحالم والنهى وذوي العقول والحجى من يلتزمون امتثال اشارته واوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند المام المهمات وتبلدوا عند اظلال الواقعات ولو انتدب جماعة في قيام الأمام للغزوات واوغلوا في مواطن المخافات تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه إذ لو لم يفعلوا ذلك تهووا في ورطات المخافات ولم يستمروا في شيء من الحالات      ومما يجب الاعتناء به أمور الولايات التي كانت منوطة بالولاة كتزويج الايامى والقيام بأموال الايتام فأقول     ذهب بعض ائمة الفقه إلى أن ما يتعلق بالولاية تزويج الايامى فمذهب الشافعي رضي الله عنه وطوائف من العلماء أن الحرة البالغة العاقلة لاتزوج     نفسها فإن كان لها ولي زوجها وألا فالسلطان ولي من لا ولي له فإذا لم يكن لها ولي حاضر وشغر الزمان على السلطان فنعلم قطعا أن حسم باب النكاح محال في الشريعة ومن أبدى في ذلك تشككا فليس على بصيرة بوضع الشرع والمصير إلى سد باب المناكح يضاهي الذهاب إلى تحريم الاكتساب كما سيأتي القول في ذلك في الركن الأخير في الكتاب أن شاء الله عز وجل وهذا مقطوع به لامراء فيه فليقع النظر وراء ذلك في تفصيل التزويج فأقول      أن كان في الزمان عالم يتعين الرجوع اليه في تفاصيل النقض والابرام ومآخذ الأحكام فهو الذي يتولى المناكح التي كان يتولاها السلطان إذ كان     وقد اختلف قول الشافعي رحمة الله عليه في أن من حكم مجتهدا في زمان قيام الأمام بأحكام أهل الإسلام فهل ينفذ ما حكم به المحكم فأحد قوليه وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة انه ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الأمام وهذا قول مجتهد في القياس لست ارى الاطالة بذكر توجيهه وغرضني منه إذا انقدح المصير إلى تنفيذ أمر محكم من المفتين في استمرار الامامة واطراد الولاية والزعامة مع تردد وتحري واجتهاد وتآخي فإذا خلى الزمان وتحقق موجب الشرع على القطع والبت واستحالة تعطيل المناكح فالذي كان نفوذه من أمر المحكم مجتهدا فيه في قيام الأمام يصير مقطوعا به في شغور الايام وهذا إذا صادفنا عالما يتعين الرجوع إلى علمه ويجب اتباع حكمه فإن عرى الزمان عن العلماء عروه عن الأئمة ذوي      الأمر فالقول في ذلك يقع في الركن الثالث من الكتاب وهو الغرض الاعظم وسنوضح مقصدنا فيه على مراتب ودرجات ونأتي بالعجائب والايات ونبدي من سر الشريعة ما لم يجر في مجاري الخطرات أن شاء الله تعالى      ثم كل أمر يتعاطاه الأمام في الأموال المفوضة إلى الأئمة فإذا شغر الزمان عن الأمام وخلى عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل وصار علماء البلاد ولاة العباد فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم وإن فرض استواؤهم وفرضهم نادر لا يكاد يقع فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضي الأمر إلى شجار وخصام فالوجه عندي في قطع النزاع الاقراع فمن خرجت له القرعة قدم     والقول المقنع في هذه القواعد أن الأئمة المستجمعين لخصال المنصب الاعلى ليس اليهم إلا انهاء اوامر الله تعالى وايصالها طوعا وكرها إلى مقارها ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربط الايالات بمتبوع واحد أن تأتي ذلك فإن عسر ولم يتيسر تعلق انهاء احكام الله إلى المتعبدين بها بمرموقين في الاقطار والديار     ومن الاسرار في ذلك أنه إذا وجد في الزمان كاف ذو شهامة ولم يجن من العلم على مرتبة الاستقلال وقد استظهر بالعدد والانصار وعاضدته مواتاة الاقدار فهو الوالي واليه امور الأموال والاجناد والولايات لكن يتحتم عليه أن لا يبت أمرا دون مراجعه العلماء      فإن قيل هلا حزمت القول بأن عالم الزمان هو الوالي وحق على ذي النجدة اتباعه والاذعان لحكمه والاقرار لمنصب علمه      قلنا أن كان العالم ذا كفاية وهداية إلى عظائم الأمور فحق على ذي الكفاية العرى عن رتبة الاجتهاد أن يتبعه أن تمكن منه وان لم يكن العالم ذا دراية واستقلال بعظائم الاشغال فذو الكفاية الوالي قطعا وعليه المراجعة والاستعلام في مواقع الاستبهام ومواضع الاستعجام ثم إذا كانت الولاية منوطة بذي الكفاية والهداية فالاموال مربوطة بكلايته وجمعه وتفريقه ورعايته فإن عماد الدولة الرجال وقوامهم الأموال فهذا منتهى القول في ذلك     وقد انتهى القول إلى الركن الثالث وهو الأمر الاعظم الذي يطبق طبق الأرض فائدته ويستفيض على طبقات الخلق عامته والله ولي التوفيق بمنه وفضله   القول في الركن الثالث         مضمون هذا الركن يستدعي نخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها وتتبع مصادرها ومواردها واختصاص معاقدها وقواعدها وانعام النظر وتتبع مصادرها وموماردها واختصاص معاقدها وقواعدها وانعام النظر في اصولها وفصولها ومعرفة فروعها وينبوعها والاحتواء على مداركها ومسالكها واستبانة كلياتها وجزئياتها والاطلاع على معالمها ومناظمها والاحاطة بمبدأها ومنشأها وطرق تشعيبها وترتيبها ومساقها ومذاقها وسبب اتفاق العلماء واطباقها وعلة اختلافها وافتراقها ولو ضمنت هذا المجموع ما أشتر اليه ونصصت عليه لم يقصر عن اسفار ثم لا يحوي منتهى الاوطار      وانما ذكرت هذه المقدمة لتفيد الناظر في هذا الفن انه نتيجة بحور من العلوم لا يعبرها العوام ولا يفييء ببدائعها الايام والاعوام وقلما تسمح بجمعها لطالب واحد الاقدار والاقسام ولولا حذار انتهاء الأمر إلى حد التصلف والاعجاب لآثرت في التنبيه على علو قدر هذا الركن التناهي في الاطناب     وأنا الآن بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده ارتب القول في هذا الركن على مراتب واوضح في كل مرتبة ما يليق بها من التحقيق     فنذر أولا اشتمال الزمان على المفتين ثم نذكر خلو الدهر عن المجتهدين المستقلين بمنصب الاجتهاد مع انطواء الزمان على نقلة مذاهب الماضين ثم نذكر شغور العصر عن الاثبات والثقات رواة الاراء والمذاهب مع بقاء مجامع الشرع وشيوع اركان الدين على الجملة بين المسلمين ثم نذكر تفصيل القول في اندراس الشريعة وانطماس قواعدها وحكم التكليف لو فرض ذلك على العقلاء      فالمراتب التي ترومها في غرض هذا الباب اربع      فأما المرتبة الأولى فنقول فيها مستعينين بالله تعالى      حملة الشريعة والمستقلون بها هم المفتون المستجمعون لشرائط الاجتهاد من العلوم والضامون اليها التقوى والسداد وان دفعنا إلى ذلك فلا بد من ذكر ما يقع به الاستقلال في ذكر الخصال المرعية في الاجتهاد مع ايضاح ما على المستفتين من تخير المفتين فنقول     قد ذكرنا في مصنفات في اصول الفقه استيعاب القول في صفات المقتين وآداب المستفتين وتفاضل حالاتهم ودرجاتهم     ونحن نذكر الآن منها جملا مقنعة الشادي المبتدئ ويحظى بفوائدها المنتهى مع الاضراب عن الاطناب وتوقي الاسهاب فليقع البداية بأوصاف المجتهدين      والوجه أن اجمع ما ذكره المتقدمون أن الصفات المعتبرة في المفتى ست      احداها الاستقلال باللغة العربية فإن شريعة المصطفى متلقاها ومستقاها الكتاب والسنن وآثار الصحابة ووقائعهم واقضيتهم في الأحكام وكلها بأفصح اللغات واشرف العبارات فلا بد من الارتوماء من العربية فهي الذريعة إلى مدارك الشريعة      والثانية معرفة ما يتعلق بأحكام الشريعة من آيات الكتاب والاحاطة بناسخها ومنسوخها عامها وخاصها وتفسير مجملاتها فإن مرجع الشرع وقطبه الكتاب     والثالثة معرفة السنن فهي القاعدة الكبرى فإن معظم اصول التكاليف متلقى من اقوال رسول الله  وافعاله وفنون احواله     ومعظم أي الكتاب لا يستقل دون بيان الرسول ثم لا يتقرر الاستقلال بالسنن إلا بالتبحر في معرفة الرجال والعلم بالصحيح من الأخبار والسقيم واسباب الجرح والتعديل وما عليه التعويل في صفات الاثبات من الرواة والثقات والمسند والمرسل والتواريخ التي تترتب عليها استبانة الناسخ والمنسوخ وانما يجب ما وصفناه في الأخبار المتعلقة باحكام الشريعة وقضايا التكليف دون ما يتعلق منها بالوعد والوعيد والاقاصيص والمواعظ     والرابعة معرفة مذاهب المتقدمين الماضين في العصر الخالية ووجه اشتراط ذلك أن المفتي لو لم يكن محيطا بمذاهب المتقدمين فربما يهجم فيما يجريه على خرق الإجماع والانسلال عن ربقة الوفاق     والخامسة الاحاطة بطرق القياس ومراتب الأدلة فإن المنصوصات متناهية مضبوطة والوقائع المتوقعة لا نهاية لها      والسادسة الورع والتقوى فإن الفاسق لا يوثق بأقواله ولا يعتمد في شيء من احواله     وقد جمع الأمام المطلبي الشافعي رحمه الله هذه الصفات في كلمة وجيزة فقال من عرف كتاب الله نصا واستنباطا استحق الامامة في الدين والتفاصيل التي قدمناها متدرجة تحت هذه الكلم فإن معرفة الكتاب تستدعي لا محالة العلم باللغة فإن من اقتصر على اتباع اقوال المفسرين وتحفظها كان مقلدا ولم يكن عارفا والشافعي اعتبر المعرفة والاستقلال بالاخبار الشرعية مندرج تحت معرفة الكتاب وكذلك العلم بمواقع الإجماع من اقوال العلماء المنقرضين والاستنباط الذي ذكره مشعر بالقياس ومعرفة ترتيب الأدلة ثم لم يتعرض للورع فإن قد قال استحق      الامامة والأمر على ما ذكره فإن أراد أن يقبل قوله استمسك بالورع والتقوى واحترز عن الأمامة العظمى لا قال استحق الامامة في الدين      فهذا ما رأينا نقله من قول الأئمة في صفات المفتين ونحن نذكر ما هو المختار عندنا والله المستعان فالقول الوجيز فيه      أن المفتي هو المتمكن نم درك احكام الوقائع على يسر من غير معاناة تعلم وهذه الصفة تستدعي ثلاثة اصناف من العلوم     أحدها اللغة والعربية ولا يشترط التعمق والتبحر فيها حتى     يصير الرجل علامة العرب ولا يقع الاكتفاء بالاستطراف أو تحصيل المبادئ والاطراف بل القول الضابط في ذلك أن يحصل من اللغة والعربية ما يترقى به عن رتبة المقلدين في معرفة الكتاب والسنة وهذا يستدعي منصبا وسطا في علم اللغة و العربية     والصنف الثاني من العلوم الفن المترجم بالفقه ولا بد من التبحر فيه والاحتواء على قواعده ومآخذه ومعانيه ثم هذا الفن يشتمل على ما تمس الحاجة اليه من نقل مذاهب الماضين وينطوي على ذكر وجوه الاستدلال بالنصوص والظواهر من الكتاب ويحتوي على الأخبار المتعلقة باحكام بالتكاليف مع الاعتناء بذكر الرواة والصفات المعتبرة في الجرح والتعديل فإن اقتضت الحالة مزيد نظر في خبر فالكتب الحاوية على ذكر الصحيح والسقيم عتيدة ومراجعتها مع الارتواء من العربية يسيرة غير عسيرة وأهم المطالب في الفقه التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام وهذا هو الذي يسمى فقه النفس وهو انفس صفات علماء الشريعة     والصنف الثالث من العلوم العلم المشهور بأصول الفقه ومنه يستبان مراتب الأدلة وما يقدم منها وما يؤخر ولا يرقى المرء إلى منصب الاستقلال دون الاحاطة بهذا الفن      فمن اسجتمع هذه الفنون فقد علا إلى رتبة المفتين      والورع ليس شرطا في حصول منصب الاجتهاد فإن من رسخ في العلوم المعتبرة فاجتهاده يلزمه في نفسه أن يقتضي فيما يخصه من الأحكام موجب النظر ولكن الغير لا يثق بقوله لفسقه      والدليل على وجوب الاكتفاء بما ذكرناه من الخصال شيئان     أحدهما أن اشتراط المصير إلى مبلغ لا يحتاج معه إلى طلب وتفكر في الوقائع محال إذ الوقائع لا نهاية لها والقوى البشرية لا تفي بتحصيل كل ما يتوقع سيما مع قصر الاعمار فيكفي الاقتدار على الوصول إلى الغرض على يسر من غير احتياج إلى معاناة تعلم وهذا الذي ذكرناه يقتضي استعدادا واستمدادا من العلوم التي ذكرناها لا محالة      والثاني انا سبرنا احوال المفتين من صحب رسول الله الاكرمين فألفيناهم مقتدرين على الوصول إلى مدارك الأحكام ومسالك الحلال والحرام ولكنهم كانوا مستقلين بالعربية فإن الكتاب نزل بلسانهم وما كان يخفي عليهم من فحوى خطاب الكتاب والسنة خافية وقد عاصروا صاحب الشريعة وعلموا أن معظم افعاله واقواله مناط الشرع واعتنوا على اهتمام صادق بمراجعته  فيما كان يسنح لهم من المشكلات فنزل ذلك منهم منزلة تدريب الفقيه منافي مسالك الفقه      واما الفن المترجم باصول الفقه فحاصله نظم ما وجدنا من سيرهم وضم ما بلغنا من خبرهم وجمع ما انتهى الينا من نظرهم وتتبع ما سمعنا من غيرهم ولو كانوا عكسوا الترتيب لاتبعناهم     نعم كان يعتني الكثير منهم بجمع ما بلغ الكافة من إخبار رسول الله بل كانت الواقعة تقع فيبحث عن كتاب الله فكان معظم الصحابة لا يستقل بحفظ القرآن ثم كانوا يبحثون عن الأخبار فإن لم يجدوها اعتبروا     ونظروا وقاسوا فاتضح أن المفتي منهم كان مستعدا لامكان الطلب عارفا بمسلك النظر مقتدرا على مأخذ الحكم مهما عنت واقعة      فقد تحقق لمن انصف أن ما ذكرناه في صفات المفتين هو المقطوع به الذي لا مزيد عليه وانما بلائي كله حرس الله مولانا من ناشئة في الزمان شدوا طرفا من مقالات الأولين ركنوا إلى التقليد المحض ولم يتشوفوا إلى انحناء درك اليقين ابتغاء ثلج الصدور فضلا عن يشمروا للطلب ثم ينجحوا أو يخفقوا ثم إذا رأوا من لا يرى التعريج على التقليد ويشرأب إلى مدارك العلوم ويحاول الانتفاض من وضر الجهل نفروا نفار الاوابد وخروا نخر الحمر المستنفرة واضربوا عن اجالة الفكر والنظر وارجحنوا إلى المطاعن على من يحاول الحقائق ويلابس المضايق وقنعوا من منصب العلماء بالرد على من يبغي العلم والترقي عن الجهالات والبحث عن حقائق المقالات     ولم اجمع فصول هذا الكتاب مضمنة بمباحتي واختياراتي إلا ومعولي ثقابة رأي سيدنا ومولانا كهف الورى وسيد الدين والدنيا واتقاد     قريحته المتطلعة على حجم المغمضات وستور المعوصات      فهذا مبلغ في صفات المفتين مقنع أن شاء الله عز وجل ولا يتم المقصد في هذا الفصل ما لم امهد في احكام الفتوى قاعدة يعين الاعتناء بفهمها والاهتمام بعلمها      وهو أن المستفتي يتعين عليه ضرب من النظر وتعيين للفتى الذي يقلده ويعتمده وليس له أن يراجع في مسألة كل متلقب بالعلم وقد ذكرت طرفا صالحا من ذلك في الكتاب النظامي ولست اعيد ماذكرته في ذلك الكتاب ولكن آخذ بفن آخر لائق بهذا الكتاب فأقول      اختلفت مذاهب الاصوليين فيما على المستفتي من النظر     فذهب القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله في طائفة من المحققين إلى أن على المستفتي أن يمتحن من يريد تقليده وسبيل امتحانه أن يتلقن مسائل     متفرقة تليق بالعلوم التي يشترط استجماع المفتي لها ويراجعه فيها فإن اصاب فيها غلب على ظنه كونه مجتهدا وتقلده حينئذ وان تعثر فيها تعثرا مشعرا بخلوه من قواعدها لم يتخذه قدوته واسوته      وذهب بعض ائمتنا إلى أن ما ذكره القاضي لا يجب ولكن يكفي أن يشتهر في الناس استجماع الرجل صفات المجتهدين ويشيع ذلك شيوعا مغلبا على الظن وهؤلاء يقولون ليس للمستفتي اعتماد قول المفتي فإن وصفه نفسه بذلك في حكم الاطراء والثناء وقول المرء في ذكر مناقب نفسه غير مقبول      والذي اختاره أن ما ذكره القاضي لا يتحتم والدليل عليه أن الذين كانوا يرفعون وقائعهم وينهون مسائلهم إلى ائمة الصحابة كانوا لا يقدمون على استفتائهم القاء المسائل والامتحان بها وكان علماء الصحابة لا يأمرون عوامهم ومستفتيهم بأن يقدموا امتحان المقلدين     والذي أراه أن من ظهر ورعه من العماء وبعد عن مظان التهم فيجوز للمستفتي اعتماد فتواه وإذا ذكر انه من أهل الفتوى فأنا نعلم أن الغريب كان يرد ويسأل من يراه من علماء الصحابة وكان ذلك    مشتهرا مستفيضا من دأب الوافدين والواردين ولم يبدو نكير من جلة الصحابة وكبرائه وإذا كان الغرض حصول غلبة ظن المستفتي وهي تحصل باعتماد قول من ظهر ورعه كما يحصل باستفاضة الأخبار عنه وليس للمستفتي سبيل إلى الاحاطة بحقيقة رتبة المفتي مع عروه عن مواد العلوم سيما إذا فرض القول في غبى عرى عن مبادئ العلوم والاستئناس بافراطها ومما يتعين ذكره أن من وجد في زمان مفتياص تعين عليه تقليده وليس له أن يرقى إلى مذاهب الصحابة وبيان لك انه إذا ثبت مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه في واقعة وفتوى مفتي الزمان تخالف مذهبه فليس للعامي المقلد أن يؤثر تقديم مذهب أبي بكر من حيث انه في عقده     افضل الخليفة بعد المرسلين عليهم السلام      فإن الصحابة وان كانوا صدور الدين واعلام المسلمين ومفاتيح الهدى مصابيح الدجى فما كانوا يقدمون تمهيد الابواب وتقديم الاسباب للوقائع قبل وقوعها وقد كفانا البحث عن مذاهبهم الباحثون والائمة المعتنون بنخل مذاهب الماضين فمن ظهر له وجوب اتباع مذهب الشافعي لم يكن له أن يؤثر مذهب أبي بكر على مذهبه      وهذا متفق عليه إذ لولا ذلك لتعين تقديم مذهب أبي بكر في كل مسألة نقل مذهبه فيها ثم مذهب عمر ثم هكذا على حسب ترتيبهم في المناقب والمراتب     فإذا وضح ذلك بينا عليه معضلة من احكام الفتوى وقلنا من نظر من المستفتين نظرا يليق به كما سبقت الاشارة اليه فاداه نظرة إلى تقليد امام المسلمين الشافعي رحمه الله ولكن كان في زمانه مفتي مستجمع للشرائط المرعية وكانت فتواه قد تخالف مذهب الشافعي في بعض الوقائع فالمستفتي الذي اعتقد على الجملة اتباع الشافعي يقلد مفتي زمانه أم يتبع مذهب الشافعي ويتلقفه على حسب مسيس الحاجة نم ناقليه فنقول     أولا من ترقي إلى رتبة الفتوى واستقل بمنصب الاستبداد في الاجتهاد فلا يتصور في مطرد الاعتياد انطباق فتاويه واختياراته في جميع مسائل الشريعة على مذهب امام من الأئمة فإن مسالك الاجتهاد واساليب الظنون كثيرة وجهات النظر لا يحويها حصر      نعم يجوز أن يؤثر مفت قواعد الشافعي مثلا في وضع الأدلة والمآخذ الكلية ثم لا بد من اختلاف في تفاصيل النظر فامستفتي اذن يعتمد مذهب الحبر الذي اعتقد تقدمه على من عداه أم يرجع إلى مفتي زمانه فقد يتجه في ذلك أن يرجع إلى مفتي دهره فإن الأمام الماضي وان عظم قدره وعلا منصبه فهو من حيث تقدم وسبق ولم يلحقه هذا المستفتي ينزل منزلة ائمة الصحابة رضي الله عنهم بالاضافة إلى من بعدهم وقد ذكرنا انه ليس للمستفتي أن يتتبع مذاهب الصحابة والسبب فيه أن الأئمة المتأخرين اولى بالبحث عن مذاهب المتقدمين من المستفتين      كذلك مفتي الزمان في تفاصيل المسائل احق بالبحث من المستفتي ولئن كان ينقدح للمستفتي وجه من النظر في تقديم مذهب الشافعي فهو نظر كلي لا يلوح في تفاصيل المسائل ونظر المفتي في البحث والتنقير وتعيين جهات النظر في آحاد المسائل اصح واوثق من ظن على الجملة المستفت لا اختصاص له بالتفصيل فهذا وجه     ويجوز أن يقول قائل مذاهب الأئمة لا تنقطع بموتهم فكأن الشافعي     وان تقلب إلى رحمة الله تعالى حي ذاب عن مذهبه ولو فرضنا معاصره هذا المستفتى الشافعي وقد خالفه المفتي الذي هو موجود في الزمان لكان المستفتي يتبع الشافعي لا محالة      وليس ما ذكرناه خارما لما مهدناه من أن المستفتي لا يتبع مذاهب الصحابة فأنهم رضي الله عنهم ما كانوا يصنعون المسائل لتمهيد القواعد وتبويب الأبواب      والمستفتى مأمور باتباع مسالك الباحثين الفاحصين عن أقاصيص المتقدمين وطرق الماضين والافعي من المتناهين في البحث عن المطالب ونخل المذاهب والاهتمام بالنظر في المناصب والمراتب ونظره في التأصيل والتفصل والتنويع والتفريع اغوص من نظر علماء الزمان ومجرد تاريخ التقدم والتأخر مع القطع بأن المذاهب لا تزل بزوال منتحليها لا أثر له     فهذان وجهان متعارضان واحتمالان متقابلان ولا يبلغ القول في ذلك مبلغ القطع والاوجه عندي أن يقلد المستفتي مفتي زمانه ثم تحقيق القول في ذلك أن يقال حق المستفتي أن يستفتي مفتي زمانه في هذه الواقعة التي فيها مخاضنا الآن فأنا مسألة لا يصح فيها للشافعي رضي الله عنه تنصيص على مذهب فلنقل لمفتي الزمان معتقدي تقدم الشافعي وقد خالفك مذهبك في المسألة التي دفعت إلى السؤال عنها مذهب الشافعي فما ترى     لي في طريق الاستفتاء أأنزل على مذهب الشافعي أم أتبعك في فتواك فأن أدى اجتهاد المفتي إلى تكليفه ابتاعه واتبعه وقلده وان أدى اجتهاده إلى تكليفه تقليد امامه الزمه ذلك ونقل له مذهب امامه      وهذا من الاسرار فليتأمله المنتهى اليه      وهذا فيه إذا كان للامام المقدم مذهب منصوص عليه في المسألة      فأما إذا لم يصح فيه مذهب فليس إلا تقليد مفتي الزمان والله المستعان      ولو اخذت في تفاصيل احكام الفتوى لأطلت انفاسي وفيها مجموعات معلقة عني ومصنفة لي فليطلبها من يتشوف همته اليها وغرضي من هذا المجموع استقصاء القول في خلو الزمان عن المفتين وانما ذكرت طرفا من صفات المفتين واحكامهم ليتبين للناظر خلو الدهر عن المفتين عند خوضنا فيه والله ولي التوفيق وهو بأسعاف راجية حقيق وقد نجز مقصدنا في المرتبة الأولى    المرتبة الثانية         فأما المرتبة الثانية فهي فيه إذا خلي الزمان عن المفتين البالغين مبلغ المجتهدين ولكن لم يعر الدهر عن نقلة المذاهب الصحيحة عن الأئمة الماضين وتكاد هذه الصورة توافق هذا لزمان وأهله والوجه تقديم ما يتعلق بالناق وصفته ثم الخوض في ذكر ما يتعلق به المستفتون فأقول     لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ ولا يرجع إلى كيس وفطنة وفقه طبع فإن تصوير مسائلها اولا وايراد صورها على وجوهها     ثانيا لا يقوم بها إلا فقيه ثم نقل المذاهب بعد استتمام التصوير لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبير فلا ينزل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار والاقاصيص والاثار وان فرض النقل في الجليات من واثق بحفظه موثوق به في أمانته لم يمكن فرض نقل الخفيات من غير استقلال بالدراية      فإذا وضح ما حاولناه من صفة الناقل فالقول بعد ذلك فيما على المستفتين فإذا وقعت واقعة فلا يخلو إما أن يصادف النقلة فيها جواب الأئمة الماضين      وأما أن لا يجدوا فيها بعينها جوابا      فإن وجدوا فيها مذهب الأئمة منصوصا عليه نقوله واتبعه المستفتون     ولا بد من ازالة استبهام في هذا المقام فإذا نقل الناقلون مذهب الشافعي رحمه الله ونقلوا مذاهب عن المجتهدين المتأخرين عن عصره فالمستفتي يتبع أي المذاهب شاء مع اعتقاده أن من بعد الشافعي رضي الله عنه لا يوازيه ولا يدانيه هذا يبتني على ما أجريته في اثناء الكلام في المرتبة الأولى من هذا الركن وهو أن من عاصر مفتيا وصادف مذهبه مخالفا لمذهب الأمام الذي اعتقده افضل الأئمة الباحثين     والممهدين لابواب الأحكام قبل وقوع الوقائع فإنه يتبع مذهب المفتي أو مذهب الأمام المقدم المتقادم وقد تقدم فيه تردد ووضح أن الاختيار اتباع مفتي الزمان من حيث انه بتأخره سبر مذهب من كان قبله ونظره في التفاصيل أسد من نظر المقلد على الجملة      فإذا تجدد العهد بهذا فقد يظن الظان على موجب ذلك أن اتباع مذاهب الأئمة المتأخرين عن الشافعي اولى وان فاقهم الشافعي رحمه الله فضلا فإنهم باستئخارهم اختصوا بمزيد بحث وسبر      والذي أراه في ذلك القطع باتباع الأمام المقدم والاضراب عن مذاهب المتأخرين عنه قدرا وعصرا      وان كنت ارى تقليد مفتي الزمان لو صودف لان الذي يوجد لا يعصر تقليده وتطويقه احكام الوقائع      فأما تكليف المستفتين الاحاطة بمراتب العلماء المتأخرين عن الشافعي مثلا على كثرتهم وتفاوت مناصبهم ومراتبهم فعسر لا يستقل به إلا من وفرت حظوظه من علوم     وانما رأيت هذا مقطوعا به من حيث لم ير أحد من العلماء المقلدين على مذاهب من دون الأمام المقدم ولكن من كان من العلماء مفتيا جزم فتواه ولم يذكر مذهب من سواه ومن قدر نفسه     ناقلا أحال المراجعين على مذهب الحبر المتقدم وهذا لائح لا يجحده محصل فقد تقرر أن الواقعة إذا نقل فيها من هو من أهل النقل مذهب امام مقدم قد ظهر للمستفتي بما كلفه من النظر انه افضل الأئمة الباحثين فالمستفتي يتبع ما صح النقل فيه وان وقعت واقعة لم يصادف النقلة فيها مذهبا منصوصا عليه للامام المقدم وقد عرى الزمان عن المجتهدين      فهذا مقام يتعين صرف الاهتمام إلى الوقوف على المغزى منه والمرام وهو سر الكلام في هذه المرتبة فأقول      قد تقدم أن نقل الفقه يستدعي كيسا وفطنة وحظوة بالغة في الفقه ثم الفقيه الناقل يفرض على وجهين     أحدهما أن يكون في الفقه على مبلغ يتأتى منه بسببه نقل المذاهب في الجليات والخفايا تصويرا وتحريرا وتقريرا ولا يكون في فن الفقه بحيث يستدله قياس غير المنصوص عليه على المنصوص فإن كان كذلك اعتمد فيما نقل وان وقعت واقعات لا نصوص لصاحب المذهب في أعيانها فما تعرى عن النص ينقسم قسمين أحدهما أن يكون في معنى     المنصوص عليه ولا يحتاج في درك ذلك إلى فضل نظر وسبر غبر وانعام فكر فلا يتصور أن يخلوا عن الاحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقل بنقل الفقه فليلحق في هذا القسم غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه وبيان ذلك بالمثال من ألفاظ الشارع أن النبي  قال من أعتق شركا له في عبد قوم عليه نصيب صاحبه فالمنصوص عليه العبد ولكنا نعلم قطعا أن الأمة المشتركة في معنى العبد الذي اتفق النص عليه ولا حاجة في ذلك إلى الفحص والتنقير عن مباحث الاقيسة فإذا جرى لصاحب المذهب مثل ذلك لم يشك المستقل بنقل مذهبه في هذا الضرب في الحاق ما في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه وإذا احتوى الفقيه على مذهب امام مقدم حفظا ودراية واستبان أن غير المذكور ملحق بالمذكور فيما لا يحتاج فيه إلى استثارة معاني واستنباط علل فلا يكاذ يشذ عن محفوظ هذا الناقل حكم واقعة في مطرد العادات     والسبب فيه أن مذاهب الأئمة لا يخلو في كل كتاب بل في كل باب عن جوامع وضوابط وتقاسيم تحوي طرائق الكلام في الممكنات ما وقع      منها وما لم يقع ولو اوضحت ما احاوله بضرب الامثلة لاحتجت إلى ذكر صدر صالح من فن الفقه من غير مسيس الحاجة في هذا المجموع اليه      فإن الناس في هذا الذي افضى الكلام اليه طائفتان فقهاء ناقلون معتمدون فيما ينقلون ومستفتون راجعون إلى المستقلين بنقل مذاهب الماضين      فأما الفقهاء فلا يخفي عليهم مضمون ما ذكرته قطعا واما المستفتون فلا يحيطون بسر الغرض فيه وان بسط لهم المقال واكثرت لهم الامثال فتصيبهم من هذا الفصل مراجعة الفقهاء والنزول على ما ينهون اليهم من الأحكام     وقد فهم عنا من ناجيناه من الفقهاء ما اردناه واتضح المقصد فيما اولدناه ثم لسنا نضمن مع ما قربناه اشتمال الحفظ على قضاا جميع ما يتوقع وقوعه من الوقائع فإن فرضت واقعة لا يحويها نصوص ولا يضبطها حدود روابط وجوامع ضوابط ولم يكن في معنى ما انطوت النصوص عليه فالقول فيها يلتحق بالكلام فيه إذا خلى الزمان عن نقلة المذاهب وسيأتي ذلك في المرتبة الثالثة على الترتيب وهي المقصودة من الركن الثالث وما عداها كالمقدمات والتشبيب

وما ذكرناه الآن فيما إذا لم يكن ناقل المذاهب بحيث يقوى على مسالك الاقيسة ويستمكن من الاستبداد في استنباط المعاني      فأما من كان فقيه النفس متوقد الفريحة بصيرا بأساليب الظنون خبيرا بطرق المعاني في هذه الفنون ولكنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين لقصوره عن المبلغ المقصود في الاداب أو لعدم تبحره في الفن المترجم بأصول الفقه      على انه لا يخلو عن قواعد اصول الفقه الفقيه المرموق والفطن في ادراج الفقه وان كان لا يستقل بنظم ابوابه وتهذيب اسبابه فمثل هذا الفقيه إذا احاط بمذهب امام من الأئمة الماضين وذلك الأمام هو الذي ظهر في ظن المستفتين انه افضل المتقدمين الباحين فيما يجده منصوصا من مذهبه ينهيه ويؤديه ويلحق بالمنصوص عليه ما في معناه كما سبق الكلام فيه      وإذا عنت واقعة لا بد من اعمال القياس فيها وقد خبر الفقيه المستقل بمذهب امامه مسالك اقيسته وطرق تصرفاته في الحاقاته غير المنصوص عليه للشارع بالمنصوص عليه فلا يعسر عليه أن يبين في كل واقعة قياس مذهب امامه     ثم الذي اقطع به انه يتعين على المستفتي اتباع اجتهاد مثل هذا الفقيه في     الحاقه بطرق القياس التي ألفها وعرفها ما لا نص فيه لصاحب المذهب بقواعد المذهب     والدليل عليه أن المجتهد البالغ مبلغ ائمة الدين صفته انه آنس بأصول الشريعة واحتوى على الفنون التي لا بد منها في الاحاطة باصول الملة والاستمكان من التصرف فيها فإذا استجمعها العالم كان على ظن غالب في اصابة ما كلف في مسالك الاجتهاد فالذي احاط بقواعد مذهب الشافعي مثلا وتدرب في مقاييسه وتهذب في انحاء نظره وسبيل تصرفاته تنزل في لالحاق بمنصوصات الشافعي منزلة المجتهد الذي يتمكن بطرق الظنون الحاق غير المنصوص عليه في الشرع بما هو منصوص عليه ولعل الفقيه المستقيل بمذهب امام اقدر على الالحاق باصول المذهب الذي حواه من المجتهد في محاولته الالحاق باصول الشريعة فإن الأمام المقلد المقدم بذل كنة مجهوده في الضبط ووضع الكتاب بتبويب الابواب وتمهيد مسالك القياس والاسباب لكتاب المذهب الذي حواه من المجتهد في محاولته الالحاق باصول ترتيب الابواب والمجتهد الذي يبغي رد الأمر إلى اصل الشرع لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المهذب المفرع المرتب والذي يحقق الغرض في ذلك     أنا إذا عدمنا مجتهدا ووجدنا فقيها دربا قياسا وحصلنا على ظن غالب في التحاق مالا نص فيه في المذهب الذي ينتحله بالمنصوصات فاحالة المستفتين على ذلك اولي من تعرية وقائع عن التكاليف واحالة المسترشدين على عمايات وامور كلية كما سيأتي شرحنا عليه المرتبة الثالثة أن شاء الله عز اسمه      وهذا فتح عظيم في الشرع لائق بحاجات أهل الزمان وقد وفق الله شرحه      وننخل من محصل الكلام أن الفقيه الذي وصفناه يحل في حق المستفتي محل الأمام المجتهد الراقي إلى المرتبة العليا في الخلال المرعية ناقلا وملحقا وقايسا ثم يقلد المستفتي ذلك الأمام المقدم المنقلب إلى رحمة الله ورضوانه الفقيه الناقل القياس      فإن فرض فارض من مثل الفقيه الذي ذكرناه ترددا وتبلدا في بعض الوقائع على ندور فقد يتصور توقف المجتهد في بعض الوقائع     وأنا بعون الله وتوفيقه اذكر في آخر المرتبة الثالثة تفصيل القول في آحاد الوقائع إذا توقف فيها المفتون أو تردد فيها الناقلون وتوضح ما على المستفتي فيها أن شاء الله عز وجل     فهذا منتهى المطلوب في هذه المرتبة    المرتبة الثالثة         مضمون هذه المرتبة ذكر متعلق التكاليف إذا خلا الزمان عن المفتين وعن نقلة لمذاهب الأئمة الماضين فماذا يكون مرجع المسترشدين المسفتين في احكام الدين      وملاك الأمر في تصوير هذه المرتبة أن لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية ولا يعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية وانما يعتاص التفاصيل والتقاسيم والتغريغ ولا يجد المستفتي من ينص على حكم الله في الواقعة على التعيين      فإذا لاح للناظر تصوير هذه المرتبة فنحن بعون الله نقدم على الخوض في مقصودها الخاص أمر كليا في قواعد الشريعة يقضي اللبيب من حسنه العجب ويتهذب به الكلام في غرض المرتبة ويترتب ويجري مجرى الاس والقاعدة والملاذ المتبوع الذي اليه الرجوع فنقول     لا يخفي على من شدا طرفا من التحقيق أن مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة وقواعدها معدودة محدودة فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله  والاي المشتملة على الأحكام وبيان     الحلال والحرام معلومة والاخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية      ونحن نعلم انه لم يفوض إلى ذوي الرأي والاحلام أن يفعلوا ما يستصوبون فكم من أمر تقضي العقول بأنه الصواب في حكم الايالة والسياسة والشرع وارد بتحريمه فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح ولكنها مقصورة على الاصول المحصورة وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب      ثم نعلم مع ذلك انه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين      وقد ذهب بعض من ينتمي إلى اصحابنا إلى انه لا يبعد تقرير واقعة ليس في الشريعة حكم الله فيها وزعم إنها إذا اتفقت فلا تكليف على العباد فيها      وهذا زلل ظاهر والمعتقد انه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله فيها     والدليل القاطع على ذلك أن أصحاب المصطفى  ورضي عنهم استفتحوا النظر في الوقائع والفتاوي والاقضية فكانوا     يعرضونها على كتاب الله فإن لم يجدوا فيها متعلقا راجعوا سنن المصطفى  فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم ثم استن من بعدهم بسنتهم فلم تتفق في مكر الاعصار وممر اليل والنهار واقعة تقضي بعروها عن موجب من موجبات التكليف ولو كان ذلك ممكنا لكان يتفق وقوعه على تمادي الاماد مع التطاول والامتداد      فغذ لم يقع علمنا اضطرارا في مطرد الاعتياد أن الشريعة تشمل كل واقعة ممكنة     ولما قال رسول الله  لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بم تحكم يا معاذ فقل بكتاب الله قال فإن لم يجد قال اجتهد رأيي فقرره رسول الله عليه السلام وصوبه ولم يقل فإن قصر عنك اجتهادك فماذا تصنع فكان ذلك نصا على أن الوقائع يشملها القواعد التي ذكرها معاذ     فإذا نقرر ذلك فلو قال قائل ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له ومأخذ الأحكام متناهية فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهي وهذا اعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريان من علوم الشريعة     فنقول الشرع مبني بديع وأس هو منشأ كل تفصيل وتفريغ وهو معتمد المفتي من في الهداية الكلية والدراية وهو المشير إلى استرسال احكام الله على الوقائع مع نفي النهاية وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والاثبات والأمر والنهي والاطلاق والحجر والاباحة والحظر ولا يتقابل قط اصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وينتفي النهاية عن مقابله ومناقضه     ونحن نوضح ذلك بضرب امثال نستصحب استعمال هذه القاعدة الشريفة في تفاصيل الاغراض من هذه الرتبة والله المستعان في كل حين واوان      فنقول قد حكم الشرع بنجيس اعيان ومعنى النجاسة التعبد باجتناب ما نجسه الشرع في بعض العبادات على تفاصيل يعرفها حملة الشريعة في الحالات      ثم ما يحكم الشرع بنجاسته ينحصر نصا واستنباطا ومالا يحكم الشرع بنجاسته لا نهاية له في ضبطنا فسبيل المجتهد أن يطلب ما يسأل عن نجاسته وطهارته من القسم المنحصر فإن لم يجده منصوصا فيه ولا ملتحقا به بالمسلك المضبوط المعروف عند أهله الحقه بمقابل القسم ومناقضه وماحكم بطهارته فاستبان انه لا يتصور والحالة هذه خلو واقعة في النجاسة والطهارة عن حكم الله تعالى على ما لا نهاية له وهذا السر في قضايا التكاليف لا يوازيه مطلوب من هذا الفن علوا وشرفا وسيزداد المطلع عليه كلما نهج في النظر منهاجا ثم يزداد اهتزازا وابتهاجا     فإذا تقرر هذا نقول المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل اصل من اصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة الطب من الرعة والاس من      المبني وتوضح إنها منشأ التفاريغ واليه انصراف الجميع والمسائل الناشئة منها تنعطف عليها انعطاف بني المهود من الحاضنة إلى حجرها وتأزر اليها كما تأزر الحية إلى جحرها ولو اردت أن اصف مضمون هذا الركن بالتراجم والعبارات الدالة على الجوامع والجمل لتعقد الكلام ولم يحط به فهم المنتهى اليه وإذا فصلت ما ابتغيه فصلا فصلا وذكرت ما احاوله أصلا أصلا تبين الغرض من التفصيل وعلى فضل الله وتيسيره العويل فليقع البداية    بكتاب الطهارة         فنقول في حكم المياه      قد امتن الله على عباده بانزال الماء الطهور فقال عز من قائل     وأنزلنا من السماء ماء طهورا         والطهو في لسان الشرع هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره      ويطرأ على الماء الطهور ثلاثة اشياء أحدهما النجاسة والثاني الاشياء الطاهرة والثالث الاستعمال     فأما النجاسة إذا وقعت في الماء فمذهب مالك رضي الله عنه أن الماء طهور ما لم يتغير واستمسك في إثبات مذهبه بما روى عن النبي     انه قال خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ما لم يتغير وهو قريب من خمس قرب فإن لم يبلغ هذا المبلغ فوقعت فيه نجاسة ينجس تغير أو لم يتغير      واضطربت الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولست لاستقصاء تلك الروايات فإن غرطي وراء هذه المذاهب     فإن فرض عصر خال عن موثوق في نقل مذاهب الأئمة والتبس على الناس هذه التفاصيل التي رمزت اليها وقد تحققوا أن النجاسة على     الجملة مجتنبة ولم يخف على ذوي العقول أن النجاسات لا تؤثر في المياه العظيمة كالبحار والاودية الغزيرة كدجلة والفرات وغيرهما      ولا بد من استعمال المياه في الطهارات والاطعمة وبه قوام ذوي الارواح فالذي يقتضيه هذه الحالة أن من استيقن نجاسه اجتنبها ومن استيقن خلو ماء عن النجاسة لم يسترب في جواز استعماله وان شك فلم يدر اخذ بالطهارة فإن تكليف ما مستيقن الطهارة بحيث لا يطرق الهي مكان النجاسة عسر الكون معوز الوجود في جهات الاماكن متسع ولو كلف الخلق طلب يقين الطهارة في الماء لضاقت معايشهم وانقطعوا عن مضطربهم ومكاسبهم ثم لم يصلوا آخر إلى ما يبغون      فهذه قواعد كلية تخامر العقول من اصول الشريعة لا تكاد تخفي وان درست تفاصيل المذاهب     وان استيقن المرء وقوع نجاسة في ماء يقدره كثيرا وقد تناسى الناس القلتين ومذهب الصائر إلى اعتبارهما فالذي يقتضيه هذه الحالة أن المغترف من الماء أن استيقن أن النجاسة قد انتشرت إلى هذا المغترف وفي استعماله استعمال شيء من النجاسة فلا يستعمله وان تحقق أن النجاسة لم تنته الىهذا المغترف استعمله وان شك اخذ الطهارة فإن مما تقرر في قاعدة     الشريعة استصحاب الحكم بيقين طهارة الاشياء إلى أن يطرئ عليها يقين النجاسة      وهذا الذي ذكرته قريب من مذهب أبي حنيفة الآن ولو تردد الانسان في نجاسة شيء وطهارته ولم يجد من يخبره بنجاسته أو طهارته مفتيا أو ناقلا فمقتضي هذه الحالة الأخذ بالطهارة فإنه قد تقرر في قاعدة الشريعة أن من شك في طهارة ثوب ونجاسته فله الأخذ بطهارته فإذا عسر درك الطهارة من المذاهب وخلى الزمان عن مستقل بمذهب علماء الشريعة فالوجه رد الأمر ما ظهر في قاعدة الشرع انه الاغلب      وقد قدمنا أن الأصل طهارة الاشياء وان المحكوم بنجاسته معدود محدود ولو وجدنا في توافر العلماء عينا وجوزنا إنها دم ولم يبعد أن يكون صبغا مضاهيا للدم في لونه وقوامه واستوى الجائزان فيه عندنا فيجوز الأخذ بطهارته بناء على القاعدة التي ذكرنها فالتباس المذاهب وتعذر ذكر اقوال العلماء في العصر تنتزل منزلة التباس الاحوال في الطهارة والنجاسة مع وجود العلماء     فإن قيل هذا الذي ذكرته اختراع مذهب لم يصر اليه المتقدمون والذين

أوضحوا مذهبهم لم يخصصوها ببعض الاعصار بل ارسلوها منبسطه على الازمان كلها قلنا هذا الفن من الكلام يتقبله راكن إلى التقليد مضرب عن المباحث كلها أو متبحر في تيار بحار علوم الشريعة بالغ في كل غمره إلى قعرها صار بحرها صابر على سبرها بصير بمآخذ الاقيسة في معضلاتها غواص على مغاصاتها وافر الحظ في بدائعها وينكرها الشادون المستطرقون الذين لم يشتوفوا بهممهم إلى درك الحقائق ولم يضطروا إلى المآزق والمضايق ولا بد من تقرير الانفصال عن السؤال قبل الاندفاع في مجال المقال فنقول لوعرضت الكتب التي صنعها القياسون في الفقه مع ما فيها من المسائل المرتبة والابواب المبوبة والصور المفروضة قبل وقوعها وبدائع الاجوبة فيها والعبارات المخترفة من مستمسكاتهم فيها استدلالا وسؤالا وانفصالا كالجمع والفرق والنقض والمنع والقلب وفساد الوضع والقول بالموجب ونحوها لتعب أصحاب رسول الله  في فهمها إذ لم يكن عهد به ومن فاجأه شيء لم يعهده احتاج إلى رد الفكر اليه ليأنس به ثم يستمر على امثاله ومعظم المسائل التي وضعوها لم يلقوها بأعيانها منصوصا عليها ولكنهم قدروها على مقاربة ومناسة من اصول الشريعة فتقدير اعاص المذاهب ةالتباس الاراء والمطالب إذا جر اشكالا في النجاسة التي انتجه التباس المذاهب على شك ينتجه اشكال في الاحوال مع     بقاء المذاهب فقصارى القول فيه اعتبار شك بشك وبناء الأمر على تغليب ما قضى الشرع بتغليبه وهو الطهارة والذي يكشف الغطاء في ذلك أن من انكر ما ذكرته قيل له لو قدر خلو الزمان عن العلماء بتفاصيل هذا الشأل وأكشل على صاحب الواقعة أن الماء الذي وقعت فيه النجاسة مما كان يعفو العلماء عه أم لا ولا ماء غيره فماذا نقول ايها المعترض المنكر انقول يجب اجتنابه فهذا أن قلته فهو مذهب مخالف مذاهب الأولين ثم يعارضه جواز استعماله وان لم يطلع على مذاهب المتقدمين فهما اذن مسلكان والتحرز اقرب مآخذ الشريعة في مواقع الشك في النجاسات كما سبق تقريره      وان قال المعترض لا حكم لله في هذا الماء في الزمان الخالي عن العلماء روجع في ذلك وقيل له عنيت انه لا حرج على المرء فيه استعمل الماء أو ضرب      فهذا على التحقيق تسويغ الاستعمال لمكان الاشكال والذي ذكرناه امثل فإن تبقية ربط الشرع على اقصى الإمكان نظرا إلى القواعد الكلية اصوب من حل رباط التكاليف لمكان استبهام التفاصيل ولا يخفي مدرك الحق فيما ذكرناه على الفطن واما القدم البليد فلا احتفال به ومن ابى مسلكنا فهو عنود ججود أو غبي بليد والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولطفه      فإذا وضح ما ذكرناه فنعود إلى سبر الكلام ونستتم غرضنا في النجاسة والطهارة في هذا الاسلوب من الكلام     ونقول رب نجاسة مستيقنة يقضي الشرع بالعفو عنها ثم ذلك     ينقسم إلى ما لا يتصور التحرز عنه اصلا وليس من الممكن الاستقلال باجتنابه وهو كالغبار الثائر من قوارع الطرق التي يطرقها البهائم والدواب وعلى القطع نعلم نجاستها والناس في تردداتهم وتصرفاتهم يعرفون أن الرياح تثير الغبار فتنال الابدان والثياب ثم لا يخلو عما ذكرناه البيوت والدور والاكنان ونحن نعلم أن التحرز من هذا غير داخل في الاستطاعة ثم الانهار ينتشر اليها الغبار المثار قطعا فكيف يفرض غسل هذا النوع والماء يتغشاه منه ما يتغشى غيره من الثياب والابدان والبقاع فلا خفاء يكون ذلك محطوطا عن المكلفين اجمعين ومن ضروب النجاسات ما يدخل في الإمكان الاحتراز منها على عسر وإذا اتصلت بالبدن والثوب امكن غسلها ولكن يلقى المكلفون فيه مشقة لو كلفوا الاجتناب والازالة وهذا على الجملة معفو عنه عند العلماء      وانما اختلافهم في الاقدار والتفاصيل ومثال هذا القسم عند الشافعي رحمه الله دما البراغيث والبثرات إذا قلت وللائمة في تفصيل هذا الفن مذاهب مختلفة ليس نقلها من غرضنا الآن     ونحن نقول وراء ذلك لا يخفي على أهل الزمان الذي لم تدرس فيه     قواعد الشريعة وانما التبست تفاصيل انا غير مكلفين بالتوقي مما لا يتأتى التوقي عنه ولا يخلو مثل هذا الزمان عن العلم بأن ما يتعذر التصون عنه جدا وان كان متصورا على العسر والمشقة معفو عنه ولكن قد يخفي المعفو عنه قدرا وجنسا ولا يكون في الزمان من يستقل بتحصيله وتفصيله     فالوجه عندي فيه أن يقال أن كان التشاغل به مما يضيق متنفس الرجل ومضطربه في تصرفاته وعباراته وافعاله التي يجريها في عاداته ويجهده ويكده مع اعتدال حاله فليعلم انه في وضع الشرع غير مؤاخذ به فإن مما استفاض وتواتر من شيم الماضين رضي الله عنهم اجمعين التساهل في هذه المعاني حتى ظن طوائف من ائمة السلف أن معظم الابوال والارواث طاهرة لما صح عندهم من تساهل الماضين في هذه الابواب وان لم يكن التصون عنها مما يجر مشقة بينة مذهلة عن مهمات الاشغال فيجب ازالتها هذا مما يقضي به كلي الشريعة عند فرض دروس المذاهب في التفاصيل فهذا مسلك للقول في احكام النجاسات ولو اكثرت في التفاصيل لكنت هادما مبني الكتاب فإن أصل ذلك التنبيه على موجب القواعد مع تعذر الوصول إلى التفصيل فلو فصلنا وفرعنا لكان نقل تفاصيل المذاهب المضبوطة اولي مما يقرر كونه عند دروسها فليفهم هذه المرامز مطالعها مستعينا بالله عزت قدرته     وقد ذكرنا في صدر الباب أن الماء يطرئ عليه النجاسات والأشياء الطاهرة والاستعمال وقد نجز مقدار غرضنا في احكام النجاسات      فأما طرئان الاشياء الطاهرة على الماء فلا يتصور أن يخفي مع ظهور قواعد الشرع في الزمان أن ما يرد على الماء من الطاهرات ولا يغير صفة من صفاته فلا أثر له في سلب طهارة الماء وتطهيره وان غيره مجاورا أو مخالطا فهذا موضع اختلاف العلماء ولا حاجة بنا إلى ذكره ولكن اذكر ما يليق بالقاعدة الكلية فأقول      تخصيص الطهارات بالماء من بين سائر المائعات مما لا يعقل معناه وانما هو تعبد محض وكل ما كان تبعداص غير مستدرك المعنى فالوجه فيه اتباع اللفظ الوارد شرعا فلنتبع اسم الماء فكل تغير لا يسلب هذا الاسلم لا يسقط التطهير وهذا الذي ذكرته كليا في تقدير دروس تفاصيل المذاهب هو المعتمد في توجيه المذهب المرتضي من بين المسالك المختلفة     واما طرئان الاستعمال فالمذاهب مختلفة في الماء المستعمل والذي يوجبه الأصل لو نسيت هذه المذاهب فتنزيله على اسم الماء واطلاقه وليس يمتنع تمسة المستعمل ماء مطلقا فيسوغ على حكم الأصل من غير تفصيل التوضئ به تمسكا بالطهارة والاندراج تحت اسم الماء المطلق فهذا ما يتعلق بأحكام المياه على مقصدنا في هذا الركن والله اعلم

فصل في الأواني         الدباغ مختلف فيه على ما يذكره نقلة المذاهب وقفيه اختبار متعارضة واوضحها واظهرها يتضمن أن الدباغ يفيد طهارة جلود الميتات بعد الحكم بنجاستها بالموت ولكن لو نسيت المذاهب والاصح منها فالذي يقتضيه الأصل أن ما نجسه الموت لا يطهر بنشف فضول وتطييب رائحة والدباغ الآن عند القائل به في حكم رخصة غير معقولة المعنى وهو مختلف فيه فإذا درس السبيل الموصل اليه فالمكلفون متعبدون بلزوم موجب الأصل وهذا يطرد في جميع الرخص على ما سيأتي القول فيها مشروحا      واما الشعور والاوبار والعظام مما اختلف في نجاستها فإذا انحسم مسلك نقل المذاهب فيها والادلة على الصحيح منها التحق القول منها بما يشك في نجاسته وقد تقدم أن كل ما يشك في نجاسته فحكم الأصل الأخذ بطهارته    فصل في الأحداث الموجبة للوضوء والغسل        موجبات الوضوء والغسل محدودة والذي لا ينقص الوضوء والغسل     لا نهاية له كما سبق نظيره في النجاسات وموجب ما ذكرناه في زمان دروس التفاصيل امران      أحدهما أن كل ما أشكل على هذا الزمان كونه حدثا فلهم أن يأخذوا باستصحاب الطهارة مع طرئانه بناء على القاعدة في أن من استيقن الطهارة وشك في الحدث لم يقض بانتقاض الطهارة المستيقنة اولا بسبب طرئان الحدث فهذا أحد ما اردناه      والثاني أن بني الزمان لو تذكروا أن مسألة الأحداث فيها خلاف ولم يذكر أحد مذهب امامه الذي يعتقده قدوته واسوته فيجوز الأخذ باستبقاء الطهارة جريا على القاعدة الممهدة    فصل في الغسل والوضوء        اصل طهارة الحدث غير معقول المعنى وكذلك آلتها ومحلها وانقسامها إلى المغسل والممسوح فليس لها في الشرع قاعدة معنوية نعتمدها     وانما مرجعها التوقيف وقد اشتملت آية الوضوء على بيان بالغ فيه فليتخذها أهل الزمان مرجعهم في أصل الباب وسيتلى القرآن إلى نجز القيامة ثم الذي يقتضي الزمان الخالي عن الفقهاء وناقلي المذاهب أن النية لا تجب على المتوضئ إذ ليس لها ذكر في الكتاب ولم ينقل الوضوء نقل القرب التي شرعت مقصوده للتقرب إلى الله بل نقلت نقل الذرائع والمقدمات التي يقصد بها غيرها فليس في نقله المطلق على الاستفاضة والتواتر اشعار بالنية وليس في كتاب الله ما يضمنها وكذلك القول في التيمم     فإن قيل التيمم هو القصد فهلا اشعرلفظة بالنية قلنا هو بمعنى     القصد ولكنه مربوط بالصعيد فيجب من مقتضاه القصد إلى التراب       فهذا حكم النية في الزمان العارى عن ذكر الأدلة على اشتراط النية ويجب على أهل الزمان بحكم الاية غسل ما ينطلق عليه اسم الوجه وليس في الاية ما يوجب غسل المرفقين فانه قال     الي المرافق    فلئن لم تقضت تحديدا وموجبة اخراج الحد عن المحدود فإنها لا تقتضى جمعا وضما أيضا فليس فيها اقتضاء غسل المرفقين كما ذهب اليه زفر وكلما لا يعقل معناه واصله التوقيف فالرجوع فيه إلى لفظ الشارع فما اقتضى اللفظ وجوبه التزم ومالا يقتضي اللفظ وجوبه فلا وجوب فيه لان وجوب فيه لان التكاليف إنما تثبت إذا تحقق ورود أمر المكلف      فان قيل هلا وجب الاخذ بال أحوط قلنا لم يتأسس في قواعد الشرع أن ما شك في وجوبه وجب الأخذ بوجوبه نعم ما ذكره السائل مأخذ الاحتياط المندوب اليه في الشريعة     فأما غسل الرجلين فأخذه من فحوى الخطاب معوص مع اختلاف     القراء قي قوله تعالى وأرجلكم بالكسر والنصب      ولكن القول في هذه المتربة مبنى على بقاء القواعد الكلية من الاذكار ودروس تفاصيل المذاهب ونقل غسل الرجلين عن الرسول وصحبه متواتر ونسبه المصير الىالمسح إلى الشيعة مستفيض ومثل هذا لا يصور اندراسه مع توفير الدواعي على نقل القواعد فان فرض زوال القواعد عن الذكر وقع الكلام في المرتبة الرابعة على ما ستاتي مشروحة أن شاء الله      فالذي تحصل من هذا الباب انه يتبع ما بقي من الاذكار ويستمسك بآية الوضوء وما لم يعلم وجوبه ولم يشعر به كتاب الله فهو محطوط عن أهل الزمان فان التكليف لا يتوجه إلا مع العلم بتوجهه     فان قيل اليس غلبات الظنون مناط معظم الأحكام فهلا قلتم ما غلب على ظن المسترشد في خلو الزمان عن الفقهاء وجوبه وجب عليه الأخذ بوجوبه قلنا هذا قول من يقتنع بظواهر الاشياء ولا ينبغي التوصل إلى الحقائق فليعلم المنتهى الي هذا الموضع انا نعلم وجوب العمل بموجب خبر الواحد والقياس في مرتبته على شرطه ويستحيل في مقتضى القول أن يفيد ظم علماء ووجوب العمل بموجب الخبر الذي نقلته متعرضون للخطأ معلوم والخبر في نفسه مظنون وكذلك القول في القياس فالعلم بوجوب العمل     غير مرتب علي عين الخبر والقياس ولكن قام الدليل القاطع على وجوب العمل عند ثبوت الخبر والقياس فالذي اقتضى العلم بالعمل الدليل الدال على العمل بهما كما يستقصى في فن الاصول فالخبر والقياس بعمل عندهما ونعلم ذلك بالدليل المقتضى وجوب العمل عند ثبوتهما فإذا لم يعلم والمكلف في الزمان العرى عن حملة التفاصيل موجبا فكيف يعلم وجوبا وظنه الذي لا مستند له من تحقيق ما انتصب في الشرع علما انتصاب ظنون المجتهدين في اساليب الاقيسة ومعظم اصناف الظنون مطرحة لا احتفال بها      فقد تقرر ما حاولناه لكن فطن لكل فطن ووضح أن تعذر الوصول إلى العلم بما كان واجبا في العصور المشتملة على العلماء ينزل تعذر وقوع بعض الاعمال بالعجز عنه    فصل في التيمم وما في معناه        التيمم رخصة لا تعتمد معنى مستدركا وانما المتبع فيها موارد التوقيف    فما ظهر في العصر من التيمم على تحقيق وتثبت اتبع وما لم يظهر مقتضيه لم تثبت الرخصة بظنون العوام وهذا يطرد في الرخص كلها وقد قدمنا الآن أن ظن العامي لا يبالي به فيما يجول في مثله قياس العالم المجتهد والاقسية من المجتهدين لا جريان لها في معظم ابواب الرخص فكيف تثبت الرخص بظنون لا اصل لها والذي يجب الاعتناء يه في هذا الفصل أن المكلف إذا فعل عند اعواز الماء ما علمه وقد وضح انه لا يجب عليه ما لم يعلم وجوبه فإذا صلى على حسب العلم والامكان ولم يكن محيطا بان هذه الصلاة في تفصيل المذاهب مما يقتضى عند زوال الأعذار أم لا فالذي يقتضى الأصل الكلي انه لا يجب القضاء لانه أدى ما كلف وقام بما تمكن منه وقد صار إلى ذلك طوائف من العماء في تفصيل المذاهب منهم المزنى ويعزى ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه وهو خارج على حكم القاعدة المعتبرة في خلو العصر عن العلماء بالتفاصيل فان القضاء لا يوجبه الأمر بالأداء إذا الأمر بالأداء لا يشعر إلا به وإذا لم يتفق امتثاله في الوقت المضروب له كان موجب    الأمر مقتضيا فاوت المأمور به وليس في صيغته التعرض للقضاء وهذا معنى قول المحقيقن لا يجب القضاء إلا بامر مجدد فإذا أدى المكلف ما استمكن منه ولم يعلم امرا بالقضاء ولم يشعر به الأصل فايجاب القضاة من غير علم به ولا وجه له لما سبق تقريره ومما نذكره متصلا بذلك انه لو فتر الزمان وشغر كما فرضناه وقام المكلفون على مبلغ علمهم بما عرفوه ثم قضى الله تعالى ناشئة من العلماء واحيابهم ما دثر من العلوم فالذي أراه انهم لا يوجبون القضاء على الذين اقاموا في زمان الفترة ما تمكنوا منه فان مما تمهد في الشريعة أن من تطرق الخلل الي صلاته بسبب عذر نادر دائم كالمستحاضة فان المستحاضة تندر وإذا وقعت دامت وامتدت في الغالب فلو شفيت لم يلزمها قضاء الصلوات التي اقامتها مع استمرار الاستحاضة وتقدير خلو الدهر عن حملة للشريعة اجتهادا ونقلا نادر في التصوير والوقوع جدا ولو فرض والعياذ بالله كان تقدرير عود العلماء ابدع من كل بديع فليحلق ذلك بالنادر الدائم فهذا متنهى غرضنا في هذا الفن ولا حاجة بنا إلى ذكر المسح على الخفين فانه من قبيل الرخص وقد قدمنا في الرخص كلها أصلا ممهدا فليتبع في جميعها ذلك الأصل     الحيض حالة يبتلى بها بنات آدم من حيث الفطرة والجبلة ابتلاء معتادا على تكرر الادوار وما كان كذلك فالدواعي تتوفر على نقل الاصول التي تمس الحاجة فيه اليها هذا حكم اطارد الاعتياد فلا يجوز أن يخلو الزمان عن العلم باقل الحيض على الجملة واكثره ما دام الناس مهتمين باقامة الصلوات فان فرض انطماس اصول الشريعة واستمرار الفترة على الكليات والجزئيات فاستقصاء ذلك يقع في المرتبة الرابعة      فاذن لا يكاد يخفي مع تصوير بقاء اصول الشريعة أن المرأة إذا رات عشرة ايام ما وطهرت عشرين يوما مثلا إنها تترك الصوم والصلاة ويجتنبها زوجها كما دل عليه قوله تعالى     فاعتزلوا النساء في المحيض    وهذه القواعد لا تنسى ما ذكرت وظائف الصلوات فان زاد الدم على العشرة فهذا موقع خلاف العلماء     فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحيض قد يبلغ خمسة عشر يوما     واكثر الحيض عند طوائف عشرة ايام فان زاد الحيض على العشرة وقد فرض دروس التفاصيل فقد يخفي كونه حيضا على أهل الزمان وهما يقضي ببقائه في الاذكار أن المرأة مأمورة بالصلوات في اطباق الاستحاضة عليها فهذا مما لا يكاد ينسى مع ذكر الاصول قطعا فلادم الزائد على العشرة مثلا متردد في ظن أهل الزمان بين أن يكون حيضا وبين أن يكون استحاضة      وهذا الآن فن بديع فليتأ مله الموفق مستعينا بالله عزت قدرته فأقول      قد يظن الظان أن المرأة إذا شكت في أن ما تراه حيض أم فليست على علم بوجوب الصلاة عليها قد ذكرنا أن الوجوب لا يعلم بالموجب فقد ينتج هذا أن الصلاة لا يجب مع الشك ولكن يعارض هذا اصل اخر لم يتقدم مثله وهو أن أمر الله تعالى بالصلاة والصيام مستمر على النساء لا يسقطه عنهن إلا يقين الحيض والاستحاضة لا تافي الأمر بالصلاة فالامر إذا بالصلاة مستيقن على الجملة وسقوطه مشكوك فيه وحكم الاصول لقتضى أن من اسيقن على الجملة وجوبا ثم تعارض ظناه في سقوطه اخذ باستمرار الوجوب الثابت     وعلى هذا بنى علماء الشريعة مسائل الحيض بالاستحاضة عند الاشكال على الاحتياط والذي يعضد ويؤكد ما ذكرناه في حق الزمان العارى عن العلم بالتفاصيل أن الزائد على المقدار المعلوم ليس له ضبط ينتهي اليه ويوقف عنده وقد تحقق أن دم الاستحاضة لا ينافي وجوب الصلاة فلو     تعدت المرأة مبلغ فأين تقف ومتى تعود إلى اقامة الصلاة فهذا ظاهر ولست انفى مع ظهور هذا أن يخطر لعاقل في الزمان الحالي أن الصلوات تجب واحدة واحدة على اعتقاب وظائف الاوقات وليست في حكم ما علم وجوبه ناجزا في الحال وشك في سقوطه فالصلوات التي يدخل مواقيتها في الحادي عشر ما سبق وجوبها في العاشر ووجوبها في الحادي عشر مشكوك فيه وقد تعارض وقد تعارض اعتقادا الوجوب اعتقاد تحريم الاقدام على الصلوات فان اقامة الصلاة واجبة على الطاهرة على الحائض والذي قدمته من أن الأصل وجوب الصلاة من مسالك الظنون والترجيحات التي يتمسك بهما المجتهدون وظنون العوام لا معول عليها وسبيل العلم منحسم قطعا وليس في الزمان مقلد ولا ناقل عن مقلد فما الوجه إذا      وانما قدمنا وجوه الكلام تنبيها علي تقابل الظنون وتحقيقا لاختصاص هذه السبل بذوى الاجتهاد فإذا تقرر ذلك فاقول      الجمع بين تحريم اقامة الصلوات وايجاب ادائها محال والعلم لا يتطرق في حق هذا الشخص إلى درك التحريم ولا الي درك الوجوب ولا مرجح له يلوذبه ولا حكم لظنه ترجحه فالوجه القطع بسقوط التكليف عغنه في هذا الفن والتحاقه في هذا الحكم على الخصوص بمن لا تكليف عليه     فان فرضت صورة الصلاة لم يكن لها حكم الوجوب ولا الأجزاء ولا التحريم إذ شرط التكليف إمكان توصل المكلف إلى درك ما كلف وهذا     غير ممكن في الصورة التي ذكرناها وانما يستحيل تكليف المجنون من جهة انه يستحيل منه فهم الخطاب ودرك معناه وهذا المعنى محقق في هذا الحكم الخاص في حق هذا الشخص المخصوص وان كان التكليف مرتبطا به في غيره من الأحكام ولو استحاضت المرأة والتبس حيضها باستحاضتها فأحكام المستحاضة من اغمض ما خاض فيه العلماء ومقدار غرضنا من ذلك انه مهما غمض عليها إنها في حيض أو استحاضة وقد خلى الزمان عن موثوق به في تفصيل المستحاضات وقد علمت من اصل الشرع أن الحيض ينافي وجوب الصلاة وتحريم اقامتها في بخلاف الاستحاضة فيتصدى لها تحريم الصلاة وايجابها في كل وقت فيسقط التكليف عنها في خلو الزمان في الصلاة جملة ما اطرد اللبس عليها وهذا لا يغوص على سره إلا مرتاض في فنون العلم     وهذا المجموع يحوى امور يشترك في استادتها المبتدؤن والمنتهون وامور يختص باستدراكها اخص الخواص وقد يظن المنتهى إلى هذا الفصل أن سقوط التكليف فيما ذكرته يختص بخلو الزمان عن العلماء بالتفاصيل ولا يتصور مثله في زمن توافر العلماء المستقلين بحمل الشريعة وأنا اصور سقوط التكليف مع اشتمال الزمان على العلماء في صورة يحار الفطن اللبيب فيها فاقول لو فرض بيت مشحون بالمرضى المدنفين وكان رجلا يخطو     على سطح البيت من غير اعتداه ولا ظلم فانهار السقف وخر ذلك الرجل على مريض وعلم انه لو مكث عليه لمات ولو تحول عنه لم يجد بدا من وطئ مريض آخر ولو اتفق ذلك لمات من ينتقل اليه وليس في استطاعته التقصى عما هو فيه من غير اهلاك نفس محترمة فلا سبيل إلى امره بالمكث ولا امره بالانتقال وامره بالزوال عما ابتلى به من غير تسبب إلى قتل تكليف مالا يطاق وذلك محال عندنا     فاذن هذه الصورة وان اتفق قوعها فليس لله فيها حكم ولا طلبه على صاحب الواقعة بمكث ولا انتقال ولا نطلق القول بأنه يتخير بين المكث والزوال فان الخيرة من احكام الشريعة والذي اعتاص قضيته في الصورة التي ذكرناها سبيله على الخصوص فيما دفع اليه كسبيل بهيمة لا يتطرق اليها خطاب وقد يتفق لاحاد الناس في بقاء تفاصيل الشريعة في الاذكار حالة يقرب مأخذ القول فيها ما ذكرناه في دروس الفروع فإذا علمت المرأة أن يحرم اقامة الصلاة في زمان الحيض ثم ابتلت بالاستحاضة وصارت لا تميز بين الحيض والاستحاضة في بقعة خالية عن العلماء وتصدى لها وجوب الصلاة وتحريمها كما قدمنا تصوير ذلك فإنها تتوقف ولا تمضي أمرا إلى أن تخبر وتسال من يعلم فقد تمهد بما ذكرناه اصل عظيم سينعطف كلام     كثير في هذه المرتبة عليه وهو يتهذب لسؤال وجواب عنه      فان قيل السنا نعلم الآن تقابل الأمرين في حق المستحاضة الناسية المتحيرة ونغلب الأمر بالصلاة فنامرها باقامة الصلاة فهلا غلبت المرأة في زمان الفترة وجوب الصلاة على تحريم اقامتها في وقت الفترة قلنا قد ثبت في تفاصيل الشريعة عند حملتها أن وجوب الصلاة اغلب من النظر إلى تحريم اقامتها ونحن فرضا خلو الزمان عن العلم بالتفاصيل واستواه الأمر في الوجوب والتحريم في اعتقاد المرأة فان كان بقى في الزمان العلم بان الصلاة لا يسقط وجوبها إلا بيقين فهذا يتبع الأصل بموجبه فان قيل إذا كنتم تجرون احكام هذه المرتبة على بقاء اصول الشريعة ومن الاصول أن المستحاضة لا نترك الصلاة دهرها فلم فرضتم ذهاب هذا الأصل عن الاذهان وقد اجمع العلماء أن المستحاضة المتحيرة لا تترك الصلاة      قلنا الاطلاع على هذا الأصل من غوامض الفقه وليس كل مجمع عليه من الاصول التي عيناها فان أهل الدهر لو احاطوا بجميع مواقع الإجماع هان عليهم الحاق الفروع بها فالأصول التي قدرنا بقاءها كليات مسترسلة لا تعلق لها بالخوامض     فهذا تمام ما أردنا أن نوضحه من هذه المعاني والله ولي التأييد والتوفيق بمنه ولطفه كتاب الصلاة      هذا كتاب عظيم الموقع في الشرع لم يتشعب اصل في التكاليف تشعبه ولم يتهذب بالمباحث قطب من اقطاب الدين تهذبه والسبب فيه انه من اعظم شعائر الإسلام والناس على تاراتهم وتباين طبقاتهم مواظبون على وظائف الصلوات مثابرون على رعاية الاوقات باحثون عما يتعلق بها من الشرائط والاركان والهيئات فهي لذلك لا تدرس على ممر الدهور ولا يمحق ذكر اصولها عن الصدور وليس يليق بهذا الكتاب ذكر اصولها وفروعها ومسائلها والتنبيه على مغمضاتها وغوائلها فإنها مستقصاة في فن الفقه وانما يتعلق بهذا الفن من الكلام فصل واحد جامع يحوي جميع الغرض ونحن نستاقه على ما ينبغي أن شاء الله عز وجل منتزعا من الاصول التي قد مناها في كتاب الطهارة فتقول     ما استمر في الناس العلم بوجوبه فانهم يقيمونه وما ذهب عن ذكر أهل الدهر جملة فلا تكليف عليهم فيه وسقوط ما عسر الوصول اليه في الزمان لا يسقط الممكن فان من الاصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما اقيمت اصول الشريعة أن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه    وان اعتراض في هذا الدهر شيء اختلف العلماء في وجوبه كالطمأنينة في الركوع والسجود وعلم بنو الزمان الاختلاف ولم يحيطوا باصحاب المذاهب واحاطوا بهم ولكن كان درس تحقيق صفاتهم وتعذر على المسترشد بن النظر في اعيان المقلدين على ما يليق باستطاعتهم في تخير الأئمة قما يقع كذلك فقد تعارض القول بالوجوب فيه ونفي الوجوب فما كان كذلك فقد يظن الفطن أنه يتعين الأخذ بالوجوب بناء على أن من شك فلم يدر اثلاثا صلى الظهر أم اربعا فانه ياخذ بالثلاث المستيقنة ويصلي ركعة أخرى ويكون الشك في ركعة من ركعات الصلاة كالشك في اقامة اصل الصلاة ولكن هذا رأى بعض الأئمة وليس هذا المستهلك متفقا عليه بين علماء الشريعة والنظر في هذا من دقيق القول في فروع الفقه فإذا كان نبأ الأمر على شغور الزمان عن العلم بالتفاصيل فليس يليق بهذا الزمان تأسيس الكلام على مظنون فيه في دقيقن الفقه فان ظن العامى لا معول عليه وقد تعذر سبيل تأسيس التقليد وتخير المفتين فالوجه القطع بسقوط وجوب ما لم يعلم أهل الزمان وجوبه وان اعترضت صورة تعارض فيها إمكان التحريم والوجوب ولم يتأت الوصول إلى الاحاطة بإحدهما فهذا مما يسقط التكليف فيه راسا كما سبق تقريره في احكام الحيض المختلط بالاستحاضة فهذا يتعلق بأهل الزمان الذي وصفناه ومما تجزيه في ذلك انه إذا جرى في الصلاة ما اشكل انه مفسد للصلاة أم لا فقد يخطر للناظر أن الأصل     المرجوع اليه بقاء وجوب الصلاة إلى أن يتحقق براءة الذمة منها ولكن الذي يجب الجريان عليه في حكم الزمان المشتمل على ذكر القواعد الكلية مع التعرى عن التفاصيل الجزئية أن القضاء لا يجب فان التفاصيل إذا دريت لم يامن من مصل عن جريان ما هو من قبيل المفسدات في صلواته ولكن المؤاخذة بهذا شديدة ثم لا يامن من قاض في قضائه عن قريب مما وقع له في الاداء والاصول الكلية قاضية باسقاط القضاء فيما هذا سبيله     ونحن نجد لذلك امثلة مع الاحتواه على اصول الشريعة وتفاصيلها فان من ارتاب في أن الصلاة التي مضت هل كانت على موجب الشرع وهل استجمعت شرائط الصحة وهل اتفق الاتيان بأركانها في ابانها فلا مبالاة بهذه الخطرات إذ لا يخلو من امثالها مكلف وان بذل كنه جهده وتفانى في استفراغ جده ثم لا يسلم القضاء عن الارتياب الذي فرض وقوعه في الاداء فالذي يبتني الأمر في عرو الزمان عن ذكر التفاصيل أن لا يؤاخذ أهل الزمان بما لا يعملون وجوبه جملة باته ومما تهذب به غرضنا في هذا الفن انه لو طرأ على الصلاة ما يعلم المصلي انه يقتضي سجود السهو فانه يسجد ولو استراب في انه هل يقتضي السجود وكان محفوظا في الزمان أن ترك سجود السهو لا يبطل الصلاة والسجود الزائد عمدا من غير     مقتض ببطل الصلاة فالذي يقتضيه هذا الأصل أن لا يسجد المستريب وان كان هذا الأصل منسيا في الزمان فسجد المستريب لم يفض ببطلان صلاته فانه لم يزد سجودا عامدا وهذا يلتحق باطراف الكلام فيما يطرا على الصلاة ولا يدري المصلى انه مفسد لها ولو فرض مثل هذا في الزمان المشتمل على العلم بالتفاصيل وكان سجد رجل ظنا انه مأمور بالسجود فتقوى معظم العلماء انه لا يبطل صلاته فهذا منتهى غرضنا من كتاب الصلاة    فصل في الزكاة      القول فيها مع فرض دروس التفاصيل يتعلق بأمرين      أحدهما أن ما استيقن أهل الزمان وجوبه اخرجوه واوصلوه إلى مستحقيه وما ترددا في وجوبه عليهن فان الوجوب من غير علم بالموجب ومن غير استكمال من الاحاطة به محال      وإذا كان الزمان خاليا عن حملة العلوم بالتفاريع أهل الدهر غير مستمكنين من الوصول إلى العلم وقد وقع الاحتراز بتقييد عمن يجب عليه شئ في توافر العلماء وهو لا يدريه فانه مسمكن من البحث والوصول إلى العلم بمسائل اولى العلم فهذا أحد الأمرين     والثاني انه إذا ظهر ضرر المحتاجين واعتاض مقدار الواجب على     المؤسرين المثرين فهذا يتعلق بأمر كلى في إنقاذ المشرفين على الضياع وسيأتي ذلك ببيان على الاشباع أن شاء الله عز وجل      فأما صوم شهر رمضان فانه علي موجب اطراد العرف لا ينسى ما ذكرت اصول الشريعة والمرعى فيه ما تقدم تقريره فما يستيقن في الزمان وجوبه اقامة المكلفون وما شك في وجوبه لا يجب ولو فرضت صورة يتعارض فيها امران متناقصان ولا سبيل الي تقرير الجمع بينهما وليس أحدهما اولى بالتخيل والحسبان من الثاني فيسقط التكليف فيه أصلا مثل أن يجتمع إمكان تحريم شيء وايجابه كما تكرر وتقرر مرارا فيما تقدم      والقول في الحج يقرب من القول في غيره من العبادات      وسبيلنا أن نذكر الآن بابا جامعا يحوي امورا كلية يكثر فائدتهما ويظهر عادتها في تقدير خلو الزمان ولا يستغني بنور زماننا عنها والله ولي الاعانة بفضله وطوله    باب         في الأمور الكلية والقضايا التكلفية     فتقول لا غناء عن الاحاطة بالمكاسب فان فيها قوام الدين والدنيا فنذكر فيها ما يليق بالاغراض الكلية الكلية ثم نذكر قواعد في المناكحات ثم نختم الكلام بذكر فصول في الزواجر والايالات ونستفتح في المرتبة الرابعة أن شاء الله عز وجل

فأما القول في المكاسب فتقدم على مقصودنا في خلو الزمان عن تفاصيل الشريعة فصلا نفسيا ونتخذه تأصيلا لغرضنا وتاسيا وهذا الفصل لا يوازيه في احكام المعاملات فصل ولا يضاهيه في الشرف اصل وقد حار في مضمونة عقول ارباب الالباب ولم يحوم على المدرك السديد فيه أحد الاصحاب لست انتقص ائمة الدين وعلماء المسلمين ولا اعزيهم إلى الفتور والقصور عن مسالك المتأخرين ولكن الأولين رضي الله عنهم ما دفعوا مقصود هذا الفصل ولم تغشهم هواجم المحن والفن وكانوا في الزمان الأول لا يضعون المسائل قبل وقوعها فلم يتعرضوا للمباحث التي ساخوض فيها ولم يعتنوا بمعانيها      وها أنا أذكر نتفا اعتدها تحفا عند المدرعين مدارع الورع واتخذها يدا عند طبقات الخلق جمع فافرض أولا حالة واجرى فيها مقاصد ثم ابنى عليها قواعد واضبطها بروابط ومعاقد وامهدها اصولا لا نهدي إلى مراشد فأقول     لو فسدت المكاسب كلها وطبق الأرض الحرام في المطاعم والملابس وما تحويه الاديي وليس حكم زماننا ببعيد في هذا فلو اتفق وصفناه فلا سبيل الي       حمل الخلق والحالة هذه على الانعكاف عن الاوقات والتعري عن البزة واقرب مسلك يمتد اليه بصيرة الفطن في ذلك تلقى الأمر من اباحة الميتات عند المخصمة والضرورات وقد قال الفقهاء لا تحل الميتة إلا لمضطر يخاف على مهجته وحشائشه لو لم يسد جوعته ثم اضطربت مذاهبهم في انه إذا اضطر المرء فالى أي حد يستبسح من الميتة      فذهب ذاهبون إلى انه يقتصر على سد مرقه ولا يتعداه     وصار اخرون إلى انه يسد جوعته من الميتة ولو خضت في تحقيق ذلك لطال الباب بما لا يتعلق بمقصود الكتاب فان هذا فصل يقل في الزمان من يحيط بتحقيقه فمن اراده فليطلبه من تعليقات المعتمدين عنا إلى أن يتيح الله لنا مجموعا في مذهب للامام الشافعي رضي الله عنه ومقدار     غرضنا من ذلك انه قد يظن ظام أن حكم الانام إذا عمهم الحرام المضطر في تعاطى الميتة وليس الأمر كذلك فان الناس لو ارتقبوا فيما يطعمون أن ينتهوا إلى حالة الضرورة وفي الانتهاء اليها سقوط القوى وانتكاث المرر وانتفاض البنية سيما إذا تكرر اعتياد المصير إلى هذه الغاية ففي ذلك انقطاع المحترفين عن حرفهم وصناعاتهم وفيه الافضاء إلى ارتفاع الزرع والحراثة وطرائق الاكتساب واصلاح المعايش التي بها قوام الخلق قاطبة وقصاراه هلاك الناس اجمعين ومنهم ذو النجدة والبأس وحفظة الثغور من جنود المسلمين وإذا وهوا ووهنوا وضغطوا واستكانوا استجرأ الكفار وتخللوا ديار الإسلام وانقطع السلك وتبتر النظام ونحن على اضطرار من عقولنا نعلم أن الشرع لم يرد بما يؤدي الي بوار أهل الدنيا ثم يتبعها اندراس الدين وان شؤطنا في حق احاد من الناس في وقائع نادرة أن ينتهوا إلى الضرورة فليس في اشتراط ذلك ما يجر فسادا في الأمور الكلية      ثم أن ضعف الآحاد بطوارئ نادرة أن جرت امراضا واعراضا فالدنيا قائمة على استقلالها بقوامها ورجالها ونحن مع بقاء المواد منها نرجوا للمكنوبين أن يسلموا ويستبلوا عما بلوا به     فالقول المجمل في ذلك إلى أن الحرام إذا طبق الزمان واهله ولم يجدوا الي طلب الحلال سبيلا فلهم أن ياخذوا منه قدر الحاجة ولا     يشترط الضرورة التي ترعاها في احلال الميتة في حقوق احاد الناس بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر فان الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدى الضرورة في حق الآحاد فافهموا ترشسدوا بل لو هلك واحد لم يؤد هلاكه إلى خرم لامور الكلية الدنياوية والدينية ولو تصدى الناس الحاجة لهلكوا بالمسلك الذي ذكرناه من عند اخرهم وما عندي انه يخفي مدرك الحق الآن بعد هذا البيان على مسترشد      فإذا تقرر قطعا أن المرعى الحاجة فالحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول والمقدار الذي بان أن الضرورة وخوف الروح ليس مشروطا فيما نحن فيه كما يشترط في تفاصيل الشرع في الآحاد في اباحة الميتة وطعام الغير وليس من الممكن أن ناتي بعبارة عن الحاجة نضبطها ضبط التخصيص والتنقيص حتى تتميز تميز المسميات والمللقبات بكر اسمائها والقابها ولكن اقصى اقصى الإمكان في ذلك من البيان تقريب وحسن ترتيب ينبه على الغرض فنقول     لسنا نعني بالحاجة تتشوق الناس إلى الطعام وتشوفها اليه فرب مشتهى     لشيء لا يضره الانعكاف عنه فلا معتبر بالتشهي والتشوف فالمرعي إذا دفع الضرار واستمرار الناس على ما يقيم قواهم وربما يستبان الشيء بذكر نقيضه ومما يضطر محاول البيان اليه انه قد يتمكن من التنصيص على ما يبغيه بعبارة رشيقة تشعر بالحقيقة والحد الذي يميز المحدود عما عداه وربما لا يصادف عبارة ناصة فينقضي الحالة أن يقتطع عما يريد يميزه ما ليس نفيا واثباتا فلا يزال يلقط اطراف الكلام ويطويها حتى يفضي بالتفصيل إلى الغرض المقصود وهذا سبيلنا فيما دفعنا اليه فقد ذكرنا الحاجة وهي مبهمة فاقتطعنا من الابهام التشوف والتشهي المحض من غير فرض ضرار الانعكاف عن الطعام قد لا يستعقب ضعفا ووهنا حاجزا عن التقليب في الحال ولكن إذا تكرر الصبر على ذلك الحد من الجوع اورث ضعفا فلا نكلف هذا الضرب من الامتناع ويتحصل من مجموع ما نفينا واثبتنا أن الناس يأخذون ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المال والضرار الذي ذكرناه في ادراج الكلام عينيا به ما يتوقع منه فساد البنية أو ضعف يصد عن التصرف والتقلب في امور المعاش     فان قيل هلا جعلتم المعتبر في الفصل ما ينتفع به المتناول قلنا هذا سؤال عم عن مسالك المراشد فأنا أن اقمنا الحاجة العامة في حق الناس كافة مقام الضرورة في حق الواحد في استباحة ما هو محرم عند فرض الاختيار فمن المحال أن يسوغ الازدياد من الحرام انتفاعا وترفها وتنعيما فهذا منتهى البيان في هذا الشأن     ويتصل الآن بذلك القول في اجناس المطعومات ثم إذا اندفعنا في الملابس والمساكن وما في معانيها فنقول      الافوات في جملتها مندرجة تحت ضبط المقدم ومن جملتها اللحوم فان قيل هلا اكتفى الناس بالخبز وما في معناه في ابتلائهم بملابسة الحرام قلنا من احاط بما اوضحناه فيما قدمناه هان هليخ مدرك الكلام في ذلك فأنا اعتمدنا الضرار وتوقعه ولا شك أن في انقطاع عن اللحوم ضرارا عظيما يؤدي إلى انهلاك الانفس وحل القوى      ثم إذا تبين ذلك فلا تعيين فيما يتعاطاه الناس من هذه الفنون مع فرض القول في أن جميعها محرم فليقع الوقوف على المنتهي الذي اعتبرناه في محاولة درأ الضرار      واما الادوية والعقاقير التي تستعمل فمنع استعمالها مع مسيس الحاجة اليها يجر ضرارا وقد سبق القول في ذلك فان قيل ما ترون في الفواكه التي ليست اقواتا ولا ادوية قلنا      ما من صنف منها إلا يسد مسدا فليعتبر فيها درأ الضرار بها فما يدرأ استعماله ضرارا فهو ملتحق بالأجناس التي تقدم ذكرها فهذا منتهى القول في صنوف الاطعمة     فأما الملابس فإنها تنقسم قسمين     أحدهما ما في استعماله درء الضرار اباحته كسبيل الاطعمة      والقسم الثاني مالا يدرأ ضرارا ولكن يتعلق لبسه بستر ما يجب ستره أو برعاية المروءة فأما ستر العورة فهو ملتحق بما يدفع استعماله للضرار من المطاعم والملابس فان تكليف التعري عظيم الوقع وهو اوقع في النفوس من ضرر الجوع والضعف ووضوح هذا يغني عن الاطناب فيه      ونحن على قطع نعلم انه لا يليق بمحاسن الشريعة تكليف الرجال والنساء العرى مع إمكان الستر واما ما يتعلق بالمروءة من اللبس فاذكر قبله معتبرا منصوصا عليه للائمة رضي الله عنهم قالوا     من افلس واحاطت به الديون واقتضى رأي القاضي ضرب حجر عليه عند استدعاء غرمائه فأنا نبقي له دست ثوب ولا نتكره بارزا يستر عورته فإذا ابقوا ابقوا له اقامة لمروءته ثوابا وان كان قضاء الديون الحالة محتموما فلا يبعد أن يسوغ في شمول التحريم لبس ما يتضمن ترك لبسه خرما للمروءة          ثم ذلك يختلف باختلاف المناصب والمراتب ولا يتبين الغرض من هذا الفصل إلا بمزيد كشف فنقول ما من رجل إلا وهو يتردد بين طورين في المحنة والمعافاة ثم بين طرفي حاليه احوال متوسطة ثم له في كل حالة من حالاته التي يلابسها اقتصاد وتوسط واقتصار على الاقل وتناه في التجمل فان اقتصر لم يعد خارما لمنصبه وان طلب النهاية لم يعد مسرفا وان اقتصد كان بين طرفي الاقلال والكمال ثم المحجور عليه المفلس يترك عليه دست ثوب يليق بمنصبه ويكتفي بأقل المنازل مع رعاية منصبه      فالوجه أن نقول إذا عم التحريم اكتفى كل بما يترك عليه من الثياب لو حجر عليه      فان قيل لو عرى رجل ووجد ثوبا لغيره ليس معه مالكه ودخل عليه وقت الصلاة فانه يصلي عاريا ولا يلبس ما ليس له قلنا      لان المرعى في حق الآحاد حقيقة الضرورة بل يكتفي بحاجة ظاهرة والمقدار الذي ذكرناه من اللبس في حكم الحاجة الظاهرة     والدليل عليه ما ذكرناه في حكم المفلس ثم هذا الذي ذكرته في لبس المروءة مع عموم التحريم الظاهر في مسالك الظنون ولا يبلغ القول فيه عندي مبلغ القطع والذي قدمته في المطاعم مقطوع به وكذلك المقدار الذي     يتعلق بستر العورة مقطوع فان الناس ينقطعون بسبب التعرى عن التقلب والتصرف كما يمتنعون بضعف الابدان ووهن الاركان عن المكاسب      فهذه جمل في المطاعم والملابس كاملة اتينا فيها بالبدائع والايات مقيدة بالحجج والبينات وانما يعرف قدرها متعمق في العلوم موفق     فأما المساكن فاني ارى مسكن الرجل من اظهر ما تمس اليه حاجته والكن الذي يؤويه وعائلته وذريته مما لا غناء عنه وهذا الفصل مفروض فيه إذا عم التحريم ولم يجد أهل الاصقاع والبقاع متحولا عن ديارهم إلى مواضع مباحة ولم يستمكنوا من احياء موات وانشاء مساكن سوى ما هم ساكنوها فان قيل ما اتخذتموه معتبرهم في الملابس المفلس المحجور ثم لا يترك على المفلس مسكنه قلنا سبب ذلك انه في غالب الأمر يجد كنا باجرة نزرة فليكتف بذلك والذي دفعنا اليه لا يؤثر هذا المعنى فيه فان المجتنب عند عموم التحريم ملابسة المحرمات وهذا المعنى يطرد في البقاع المستأجرة وغيرهما فإذا تقرر التحاق المساكن بالحاجات وبطل النظر إلى المملوك والمستأجر لعموم التحريم فلا طريق إلا ما قدمناه ثم يتعين الاكتفاء بمقدار الحاجة ويحرم ما يتعلق بالترف والتنعيم فهذا مبلغ كافيما اردناه فان سدت     عنا صور في الفصل المفروض لم نتعرض لها ففيما مهدناه ببيان ما تركناه ومما يتعلق بتتمة البيان في ذلك أن جميع ما ذكرناه فيه إذا عمت المحرمات وانحسمت الطرق الي الحلال فأما إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحل فيتعين عليهم ترك الحرام واحتمال الكل في كسب ما يحل وهذا فيه إذا كان ما يتمكون منه معنيا كافيا داريا للضرورات سادا للحاجة فأما إذا كان لا يسد الحاجة العامة ولكنه يأخذ ماخذا ويسد مسدا فيجب الاعنتاء بتحصيله ثم بقية الحاجة يتدارك بما لا يحل على التفصيل المقدم      فان قيل ما ذكرتموه فيه إذا طبقت المحرمات طبق الأرض واستوعب الحرام الانام فما القول فيه إذا اختص ذلك بناحية من النواحي قلنا أن تمكن اهلها من الانتقال إلى مواضع يقتدرون فيها علي تحصيل الحلال تعين ذلك      وان تعذر ذلك عليهم وهم جم غفير وعدد كثير ولو اقتصروا على سد الرمق وانتظروا انقضاء اوقات الضرورات لا نقطعوا عن مكاسبهم فالقول فيهم كالقول في الناس كافة فليأخذوا اقدار حاجتهم كما فصلناها     فهذا نهاية المطلب في دارية هذه القاعدة العظيمة فان قيل اطلقتم تصوير عموم التحريم فابينوا ما ايهمتموه وأوضحوا ما أجملتموه قلنا إذا     استولى الظلمة وتهجم على أموال الناس الغاشمون ومدوا ايديهم اعتداء الي املاكهم ثم فرقوها في الخلق وبثوها وفسدت مع ذلك البياعات وحادت عن سنين الشرع المعاملات وتعدى ذلك إلى بذور الاقوات وتمادى على ذلك الاوقات وامتدت الفترات ولا خفاء بتصوير ما نحاوله ثم إذا ظهر ما ذكرناه ترتبت عليه الشبهات فإذا جاز أخذ الكفاية من المحرمات لم يخف جوازه في مظان الشبهات ثم يختص هذه الحالة بحكم وهو أن من صادف شيئا في يد انسان وهو يدعيه لنفسه ملكا وما عم التحريم في الزمان فيجوز للناظر إلى ما في يده الأخذ بكونه ملكا له وان غلب على الظن تحريمه وكيف لا والقاضي يجريه على ملكه عند فرض النزاع حتى تقوم بينة لمن يدعيه ويزعم كون صاحب اليد مبطلا فيه وهذا حكم الجواز ولا يخفي مأخذ الورع على من ينتجه      فهذا الفصل عظيم القدر الذي رأينا تقديمه على الخوض في غرضنا من العصر الذي يدرس فيه العلم بتفاصيل الشريعة      وقد عاد بنا الكلام اليه فنقول      إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل فنتكلم فيما يحل ويحرم من الاجناس ثم نتكلم فيما يتعلق بالتصرف في الاملاك وحقوق الناس     فأما القول فيما يحرم ويحل من اجناس الموجودات فليس يخفي على أهل السلام ما بقيت اصول الأحكام أن مرجع الأدلة السمعية كلها كتاب الله تعالى وابين آية في القران في التحريم والتحليل قول الله العزيز قل لا اجد فيما اوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير    وهذه الاية من المحكمات التي لا يتطرق اليها تعارض الاحتمالات وطرق التأويلات وليست من المتشابهات وهي من اخر ما نزل على المصطفى وقد انطبق مذهب مالك امام الهجرة على ظاهر الاية      ولو قلت هذه الاية ليست معضلة على في محاولة الذب عن مذهب الشافعي رحمه الله عليه ورضي عنه لكنت مظهرا مالا اضمره فإذا نسيت المذاهب فما لا يعلم فيه تحريم يجري على حكم الحل والسبب فيه انه لا يثبت الله حكم علي المكلفين غير مستند إلى دليل فإذا انتفى صح دليل التحريم استحال الحكم به     فان قيل كما انتفى الدليل على التحليل قلنا إذا انحسمت مسالك الأدلة في النفي والاثبات فموجب انتفائها انتفاء الحكم وإذا انتفى الحكم التحق المكلفون في الحكم الذي تحقق انتفاؤه بالعقلاء قبل ورود الشرائع ولو لم يرد شرع لما كان على الناس من جهة الله حجر وحرج ثم اقدامهم واحجامهم مع انتفاء الحجر عنهم يستويان ومقصود الاباحة في الشرع انتفاء الحرج واستواه الفعل والترك وهذا في التحقيق بمثابة انتفاء الأحكام قبل ورود الشرائع     فان قبل من الاصول أن الاعيان لله فليق على الحظر إلى أن يرد من مالك الاعيان اطلاق قلنا هذا قول من يرى المصير إلى الحظر قبل ورود الشرائع وهذا المذهب باطل قطعا ورددنا على منتحليه في اصول الفقه فليطبقه من يحاوله في ذلك الفن      وان زعم السائل أن من اصول شريعتنا أن لا ينسى وان نسيت التفاصيل تغلظ الحظ فليس الأمر كذلك فان المذاهب في ذلك متعارضة فالذي يقتضيه مذهب الأمام أبي حنيفة رضي الله عنهفي تفصيل الأحكام اجراء الاعيان على الحظر إلا أن يقوم دلالة في الحل     والذي يقتضيه مذهب الشافعي رضي الله عنه اجراء الأحكام على التحليل إلى أن يقوم دليل على الحظر والتحريم ومذهب مالك رحمه الله حصر المحرمات فيما اشتمل عليه قوله تعالى     قل لا اجد فيا اوحي إلى محرما على طاعم يطعمه    الاية     فكيف يكون ما قدره السائل أصلا مع تعارض هذه المذاهب      والاصل وهو المتفق عليه المقطوع فإذا درست المذهاي فليس ادعاء الحظر اولى من ادعاء الاباحة وإذا تعارضت الظنون انتفى الحكم كما سبق تقريره وقد قدمناه في العبادات أن ما انتفى دليل وجوبه لم نوجبه والتحريم إذا انتفى دليله كالوجوب إذا عدم دليله      وأنا الآن بعد نجاز هذا اقول فاضل هذا الزمان من يفهم مداخل هذه الفصول ومخارجها ويستبين مسالكها ومناهجها والمرموق والذي تثنى عليه الخناصر في الدهر من يحيط بشرف هذا الكلام ويميزه عن كلام بنى الزمان ولا حاجة إلى تكلف التصلف في مصاولة العلماء ومطاولتهم فان هذا مما كفانيه الله تعالى ولكنى قد ارى في اثناء ما اجريه التنبيه على علو قدر ما يجري حتى يثبت عنده مطالعة المطلع عليه ولا يستمر عليه فينفلت عنه مزايا الفوائد والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولطفه      فهذا بيان ما اردناه في تحليل الاجناس وتحريمها      فأما تفصيل القول في الأملاك فالأملاك محترمة لحرمة ملاكها والقول فيها في مقصود هذا الكتاب يتعلق بفصلين     أحدهما في المعاملات التي يتعاطاها الملاك     والثاني في حقوق التي تتعلق بالأملاك      فأما القلو في المعاملات فالأصل المقطوع به فيها تراضي الملاك والشاهد من نص القران في ذلك قوله تعالى وعز     لا تأكلوا اموالهم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم         فالقاعدة المعتبرة أن الملاك مختصمون باملاكهم لا يزاحم أحد مالكا في ملكه من غير حق مستحق ثم الضرورة تحوج ملاك الأموال التبادل فيها فان اصحاب الاطعمة قد يحتاجون إلى النقود واصحاب النقود يحتاجون إلى الاطعمة وكذلك القول في سائر صنوف المال فالامر الذي لا شك فيه تحريم التسالب والتغالب ومد الايدي إلى أموال الناس من غير استحقاق فإذا تراضوا بالتبادل فالشرع قد يضرب على المبتعدين ضروبا من الحجر في كيفية المعاملات استصلاحا لهم وطلبا لما هو الاحوط والاغبط ثم قد يعقل معاني بعضها وقد لا يعقل علل بعضها والله الخبير بخفايا لطفه فيها     ثم لو تراضي الملاك على تعدى الحدود لم يصح منهم مع التواطئ والتراضي إذا بقيت تفاصيل الشريعة فإذا درست وقد عرف بنو الزمان انه كان في الشرع تعبدات مرعية في العقود وقد فاتتهم بانقراض     العلماء وهم لا يأمنون أن يوقعوا العقود مع الاخلال بحدود الشرع وتعبداته على وجوه لو ادركها المفتون لعلموا بفسادها وليس لهم من العقود بد ووضوح الحاجة اليها يغني عن تكلف بسط فيها فليصدروا والعقود عن التراضي فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع اصل وليجروا العقود على حكم الصحة وفي تفاصيل الشرع ما يعضد هذا فان رجلين لو تبايعا ثم تنازعا في مجلس القاضي فادعى أحدهما جريان شرط مفسد للعقد وانكره الثاني فالذي صار اليه معظم الفقهاء أن القول قول من ينفي المفسد والعقد محمول على حكم الصحة      وهذا ما ذكرته ايناسا وتوطئه لمساق الكلام وألا فلا معتضد في مثل ما ذكرناه أهل زمان درست فيه تفاصيل الشريعة غير أن الكلام يجر الكلان وما ذكرناه في الزمان العرى عن التفاصيل مقطوع به فان الخلق مضطرون إلى التعامل لا يجدون لهم منه بدا     وقد ذكرناه أن الحرام إذا طبق طبق الأرض اخذ الناس منه اقدار حاجاتهم لما حققناه من نزول الحاجسة في حق العماة منزلة الضرورة في حق الآحاد وهذا مع بقاء الشريعة بتمامها وجمامها     فكيف إذا مست الحاجة إلى التعامل ولم يجد الخلق مرجعا في الشرع يلوذون يه ثم إذا ساغت المعاملات فلا تخصيص بالجواز فان منها ما هو وسيلة إلى الاقوات والملابس ونحوها ومنها ما هو تجائر ومكاسب لا سبيل إلى حسمها      والقول الضابط في ذلك أن ما لا يعلم تحريمه من المعاملات فلا حجر فيه عند خلو الزمان عن علم التفاصيل والقول فيه كالقول في اباحة الاجناس وقد تقدم موضحا مفصلا     هذا بيان العقود الصادرة عن التراضي فأما التغالب فلا يخفي تحريمه ما بقيت اصول الشريعة وقد تقع صورة عويصة لا تدرك إلا بعلم التفصيل مثل أن يغصب رجل ساحة فيدرحها في اثناء بناء له ولو انتزع لتهدم البناء فقد يخطر لبعض الناس أن الساحة تنتزع وترد إلى مالكها لانه ظلم لما غصب منه ملكه وقد يخطر للاخرين أن في هذم بناء الغاصب تخسيره واحباط ملكه وذو الساحة يجد بثمنها مثلها فيتعارض في مثل هذا إمكان النزع وتحريمه ولا سبيل أهل الزمان إلى الحكم بالظن وترك الخصومة ناشئة بينهما يجر ضرارا عظيما     ولو قلنا بتوقف في الواقعة ففي التوقف اتباع الحيلولة بين مالك الساحة وبينهما وهو تنجيز مراد الغاصب الباني فالذي يقتضيه الحالة أن يغرم صاحب البناء لصاحب الساحة قيمتها فان مما يقطع به من غير تعريج على ظن أن الحيلولة بين المالك وملكه من غير عوض محال مع إمكان بذل العوص ورد عين الساحة مظنون ولا سبيل إلى بناء الأمر على الظنون مع عدم المفتين وانحسام الطرق إلى درك مذاهبهم فليتخذ الفطن ما ذكرناه معتبرا في امثال ما نصصنا عليه      وان اشكل على أهل الزمان أن ما في ايديهم محرم أم لا فقد ذكرنا أن اخذ الحاجة من المشتبهات إذا عمت سائغ مع استقلال العلماء بالتفاصيل فما الظن والزمان خال عن معرفة التفاصيل      ويجوز الازدياد على قدر الحاجة في خلو الزمان عن المشتبهات فان أهل الزمان لم يستيقنوا تحريما في الزائد على مقدار الحاجة وقد تمهد أم أم لم يقم عليه دليل التحريم فلا حرج فيه في الزمان الشاغر عن حملة العلوم بتفاصيل الشريعة      فهذا منتهى المقصد فيما يتعلق بالمعاملات     فأما القول في الحقوق بالأموال فالمسلك الوجيز فيه أن الحقوق تنقسم إلى ما يفرض لمستحقين مختصمين والى ما يتعلق بالجهات العامة     فأما ما يقدر لأشخاص كالنفقات معنين كالنفقات وغيرها فما علم في الزمان وجوبه حكم به وما لم يعلم بنو الزمان لزومه فالأمر يجري فيه على براءة الذمة      وأنا الآن اضرب من قاعدة الشرع مثلين يقضي الفطن العجب منهما وغرضي بإيرادهما تنبيه القرائح لدرك المسلك الذي مهدته في الزمان الخالي      ولست اقصد الاستدلال بهما فان الزمان إذا فرض خاليا عن التفاريع والفاصيل لم يستند أهل الزمان إلا إلى مقطوع به فالذي اذكره من اساليب الكلام في تفاصيل الظنون فالمثلان أحدهما في الاباحة والثاني في براءة الذمة      فأما اضربه في المباحات مثلا فاقول الصيود مباحة وليس لها نهاية فلو اختلط بها صيود مملوكة والتبس الأمر فما من صيد يقتنصه المرء إلا ويجوز أن يكون ما احتوت عليه يده الصيد المملوك ثم اتفق العلماء على أن الاصطياد لا يحرم لان ما حل من الصيود غير منتاه والمختلط به محصور منتاه      وقد قدمنا أن ما لا حرج لا يتناهي وانما المعدود المحدود ما يحرم فإذا التبس على بنى الزمان اعيان المحرمات وهي مضبوطة لم يحرم عليهم مالا يتناهى     واما الذي اضربه مثلا في براءة الذمة فاقول     لو علم رجل أن لانسان عليه دينا والتبس عين ذلك الرجل عليه التباسا لا يتوقع ارتفاعه فمن أدعى من احاد الناس مع اطراد الالتباس انه مستحق الدين لم يجب على المدعى عليه بمجرد دعواه شيء ولو حلف لا يلزمه تسليم شيء اليه وان كانت يمينه بارة إذ لو منعناه من اليمين وحملناه على النكول وغرمناه المدعى فقد يدعى عليه اخر ذلك الدين قائلا أن الأول كان مبطلا وأنا ذو الحق ثم يطرد ذلك إلى غير نهاية فالاستمساك بالبراءة اولى من جهة أن الذين لا يستحقون عليه شيئا لا ينحصرون فتغليب ما انتفت النهاية عنه احرى والذي يعضد ذلك انه إذا كان للرجل اخت محرمة من الرضاع مثلا وقد اختلطت بنسوة لا ينحصرون عندها فاللرجل أن ينكح منهن من يشاء وهذا ايدع مما تقدم من جهة أن التحريم مغلب في الابضاع      وإذا تقابل في امرأة سببا تحريم وتحليل من غير ترجح أحد الوجهين على الثاني فالحرمة مغلبة في البضع على وضع الشرع     ومع هذا ايحنا للذي خفيت عليه اخته واختلطت ينسوة غير منحصرات عندنا أن ينكح منهن من يشاء على شرط الشرع     فوضح مما ذكرناه أن موجب تفاصيل الشريعة النظر إلى ما لا يتناهى ولا يتغير الحكم فيه بان يختلط به ما يتناهى      ومما يستتم به هذا الكلام إذ لا بسناه انه إذا انتفلت حمامات بلدة وهي مملوكة إلى بلده أخرى واختلطت بحمام مباحة فالذي صار اليه المحققون في علوم الشريعة انه لا يحرم الاصطياد بسبب هذا الاختلاط وان فرض اختلاط ما لا يتناهي عندنا بما لا يتناهى فان كان ما ذكرته محفوظا عند أهل الزمان بنوا عليه ما سبق من حمل الأمر على براءة الذمة عند تخيل الوجوب من غير استيقان وكذلك يبنى الأمر على الحل ورفع الحرج فيما لا يستيقن فيه تحريم     وان عرى الزمان عن الاحاطة بما ذكرته فالذي تقتضيه القاعدة الكلية نفى الوجوب فيما لا يقم دليل على وجوبه وارتفاع الحرج فيما لا يثبت فيه الحظر فان هذا مستبين على هذه القضية من القاعدة الكلية وان نسى ما قدمته من الامثلة في الاختلاط فهذا اخر ما حولناه الآن في تعلق الحقوق لمعنيين بأموال الناس نفيا واثباتا      فأما القول فيما يتعلق بالجهات العامة ن الحقوق وقد احلنا على هذا طرفا من الكلام في الزكاة فنقول فيه      إذا كانت هذه المتربة مفروضة في بقاء اصول الشريعة في الاذكار فالجهات العامة يبقى العلم باصلها شائعا مستفيضا ذائعا وان فرض دروس الذكر فيه فيكون سائر الاصول دراسة عن الاذكار والافكار أيضا ويقع الكلام في المرتبة الرابعة حينئذ فيما لا يتصور دروسه والكلام في بقاء الاصول وجوب إنقاذ المشرفين على الردى من المسلمين فإذا فرض بين ظهراني الموسرين مضرور في مخصمه أو جهة أخرى من جهات الضرورة واستمكن المثرون الموسرون من انقاذه باموالهم وجب ذلك على الجملة      ثم يدرك بمقتضى العقل وراء ذلك امرين      أحدهما أن من سبق إلى القيام بذلك فقد اسقط الفرض عن الباقين      والثاني أن الموسرين بأجمعهم لو تواكلوا وتخاذلوا واحال البعض على البعض حتى يهلك المضطر حرجوا من عند اخرهم إذ ليس بعضهم بالانتساب إلى الصنيع اولى من بعض وقد عمهم العلم والتمكن من الكفاية     وهذا الذي فصلناه معنى فرض الكفاية في قاعدة الشريعة     فاذن هذا النوع مما يتعلق بالأموال على حكم الكفاية فكل ما علم في الزمان المفروض كما ذكرناه نجيء به نحونا ما ذكرناه وكل ما اشكل وجوبه فالأصل براءة الذمة فيه كما سبق في حقوق الاشخاص المعينين      فهذا منتهى المقصود فيما يتعلق بالأملاك من المعاملات والحقوق الخاصة والعامة وأنا اذكر الآن فصلا في المواريث حتى يتم الكلام في فنه أن شاء الله عز وجل    فصل         نقل النقلة في مأثور الأخبار عن النبي ص  صلى الله عليه وسلم      تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها تنسى وهو أول علم ينتزع من امتى والعلم بالفرائض في هذا الزمان غض طرى والحمد لله وفحوى الحديث مبشرة ببقاء علوم الشريعة في عصرنا فانه قال أن علم الفرائض أول ما ينتزع من امتي     فلو اعضلت تفاصيل الفرائض وهذا يعسر مع بقاء الذكر في الاصول فان فرض دروس في التفاصيل فالذي يتعلق بمساق الكلام الذي تجريه صنفان     أحدهما فيه إذا مات رجل وخلف مختصين به وعلموا انهم ورثة ولكن اشكل مقدار ما يستحقه كل واحد      فالذي يقتضيه القاعدة الكلية انهم اصطلحوا وتراضوا على أمر نفذ ما تراضوا به وان ابوا وتمانعوا فالوجه التسوية بينهم فانهم مع التباس الحال متساوون ولا مطمع في ارتفاع اللبس مع انقراض العلماء ولا وجه لتبقية النزاع بينهم مع مسيس حاجتهم فاقتضى مجموع ذلك التسوية      ونحن نضرب لذلك مثلا من تفاصيل الشرع للايناس والتشبيه يحال الالتباس فنقول      لو ابهم الرجل طلقة بين نسوة له ومات قبل البيان فأنا نقف لهن ميراث زوجه ثم سبيلهن فيما وقف لهن ما ذكرناه من الاصطلاح أو التسوية وهذا يناظر ما نحن فيه من التباس الأمر ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا مات وخلف طائفة من الاقارب وجوزوا أن يكون فيهم محجوب وقدر كل واحد ذلك في نفسه واستووا في هذا التردد وتحققوا انهم المستحقون أو فيهم المستحقون فالذي يقتضيه القاعدة الاصطلاح أو التسوية كما سبق تقريره فها أحد الصنفين      واما للصنف الثاني فهو أن يكون فيهم من يعلم انه من المستحقين وفيهم من يشك في انه مستحق أم لا     فمن لا يعلم قطعا لنفه استحقاقا لا نثبت له شيئا من غير دليل يقتضيه     فالذي نعلم كونه مستحقا أن علم قطعا انه يستحق النصف وشك في انه هل يستحق النصف الباقي أم يستحق الرجل المشكوك فيه      فالذي يستيقن استحقاقه يأخذه هو وصاحبه في الباقي متساويان والاستحقاق لا يعدوهما فيشتركان فيه كما سبق ذكره في اصل الاستحقاق ولو لم يدر من يعلم اصول الاستحقاق أن المقدار المستيقن كم فجوز أن يكون اقل القليل وجوز أن يثبت له استحقاق الجميع على استغراق وكان قد درست الفرائض والمقدرات فلا يمكن أن يسلم اليه شيء إذ لا مقدار إلا فيجوز أن يكون المستيقن اقل منه فجميع المال بينهما على الحكم المقدم فيه إذا كان كل واحد منهما يجوز أن يكون هو المستحق لجميع التركة      ولو خلف قريبا ويجوز أهل الزمان أن يكون وارثا مستغرقا وجوزوا أن يكون المال مصروفا إلى مصالح المسلمين      فهذه الجهة مع الوارث بمثابة قريبين التبس الوارث منهما فلتجر هذه المسائل على قاعدتين      أحداهما طلب الاسيقان      والاخرى الاستحقاق     إذا دار بين شخصين أو اشخاص وكان لا يعدوهم الاستحقاق     واستوا في جهات الإمكان فالمال بينهم على البيان المقدم      ونحن نختم هذا الفصل الآن بمشكلة عجيبة ومعضلة غريبة نوردها في معرض السؤال ونبين الغرض منها في معرض الانفصال      فان قيل قد بينهم فصول الكلام في هذه المرتبة على مستندات مستيقنة وكررتم غير مرة أن الظنون لا يرتبط في خلو الدهر عن حملة الشريعة حكم فان ظنون من ليس من احزاب العلماء لا وقه لها وصرتم إلى انه لا يثبت شيء إلا بقطع وقد ناقصتم الآن ما هو قطب الكلام وقاعدة المرام إذ قلتم إذا دارت التركة المختلفة بين اثنين وجوز كل واحد منهما أن يكون مستحقا مستغرقا وجوز أن يكون محجوبا مزحوما محروما فالتركة بينهما وليس واحد منهما على استيشاق في الاستحقاق فهلا قلتم بناء على اليقين لا يأخذ واحد منهما شيئا من التركة من حيث لا يركن إلى قطع في الاستحقاق وبناء الأمر على استوئهما واشعار ذلك بتوزيع التركة عليهما من ادق مسالك الظنون واغمض فنون المجتهدات في الدعاوى والبينات وغيرهما من المشكلات ولا يستقل به إلا فطن ريان من علوم التفاصيل في التكاليف     والمرتبة الثالثة مبناها على دروس العلم بفروع الشريعة وفصولها مع بقاء قواعدها واصولها فهذا هو السؤال وسبيل الانفصال عنه أن نعترف     أولا بانتفاء اليقين كما اوضحه السائل ثم نعترف بان واحدا من الرجلين غير مستيقن استحقاق نفسه ولكنا نقول من الاصول التي آل اليه مجامع الكلام انه إذا لم يستيقن حجر وحظر من الشارع في شيء فلا يثبت فيه تحريم في خلو الزمان فلئن لم يستيقن واحد منهما استحقاقا فليس يعلم أيضا حجرا عليه فيما يأخذه وقد تحققنا أن الاستحقاق لا يعدوهما فعدم الاسيقان في الاستحقاق بعارضة انتفاء الدليل في الحظر وموجب ذلك رفع الحجر والحرج فان اقتسما على اصطلاح وتراض فلا اشكال في انتفاء الحرج عنهما وان تنازعا والنزاع مقطوع في أصل الشريعة فلا مسلك قطعا في قطعه إلا ما ذكرناه فلينعم المنتهي إلى هذا المنتهى نظره ففيه بيان بقايا ما تركها لكل غواص منتهى ونتائج القرائح لا تنتهي      فان قيل لا يتوصل إلى هذه الدقائق إلا مدرب في مأخذ الحقائق فكيف يدركه بنو الزمان الشاغر عن علماء الشريعة     قلنا أن تثبت ما ذكرناه مستنده القطع فعلى أهل الزمان بذل المجهود في دركه فأنا إذا فرضنا بقاء اصول الشريعة فمن اجلاها علم بنى الزمان     بان ما يتصور الوصول إلى الاستيقان فيه في الشريعة فيتعين التوصل اليه ورب شيء مدركه القطع وفي دركه عسر وعناء وهذا كالقول في قواعد العقائد فأنا إذا اوجبنا العلم بها فقد يدق مدركها ويتوعر مسلكها ولكنها إذا كانت مستدركة بأساليب العقول تعين السعي في ادراكها      فهذا نهاية المقصود في المكاسب ومن احاط بها لم يخف عليه مسلك يطالع به ويراجع فيه في جهات المطالب وفنون المكاسب      فأما القول في المناكحات فأنا نعلم إنها لا بد منها كما انه لا بد من الاقوات فان بها بقاء النوع كما بالأقوات بقاء النفوس والنكاح هو المغنى عن السفاح ولا ينتهي الأمر في حق الشخص المعين مع بقاء العلم بتفاصيل الشريعة إلى المنتهى الذي يباح في مثله الميتات في أمر الوقاع والاستمتاع ولا يجب على ذوى المكنة واليسار واصحاب الاقتدار يعفو الفقراء المتعزبين وان اشتدت غلمتهم وظهر توقانهم ولكن مع هذا التنبيه المناكح في حق الباس عامة في حكم مالا يد منه وقد تقرر فيما تقدم أن عموم الحاجة في حقوق الناس كافة كالضرورة في حق الشخص المعين     فهذه مقدمة رأينا تقديمها وأول ما نفتتحه بناء عليها انه إذا اشكل في الزمان الشرائط المرعية في النكاح ولم يأمن كل من يحاول نكاحا انه مخل بشرط معتبر في تفاصيل الشريعة فلا تحرم المناكح     يتوقع ذلك فأنا لو حرمناها لحسمناها واو علنا ذلك لتسببنا إلى قطع النسل وافناء النوع ثم لا تعف النفوس عموها فتسترسل في السفاح إذا صدت عن النكاح وهذا كما تقدم فيه إذا عمت الشبهات أو طبقت المحرمات في المطاعم والمشارب ولكنا ذكر أن المعتمد في البياعات والمعاملات التراضي والمنع من التغالب والتسالب فلئن تأتت تعبدات في تفاصيل المعاملات فاعتبار التراضي معلوم لا تنكر ما بقيت الاصول ونحن نذكر الآن الأصل المعتبر في النكاح فنقول     لا يخفي على ذوي التمييز أن الرضا المجرد لا يقع الاكتفاء به ولو اقنع الرضا لكان كل سفاح بين مقدم عليه وممكن منه مطاوعة نكاحا مباحا فما لا يكاد يخفي اعتباره صورة العقد والايجاب والقبول واما الولى والشهود فما اختلف العلماء في اصله وتفصيله فما اغمض امره على أهل الزمان ولم يخطر لهم على التعيين ولكنهم على الجملة لم يأمنوا أن يكونوا مخلين بشرط العقد ولا سبيل إلى دركه فهذا الظن غير     صائر وان تعين لهم شيء وترددوا في اشتراطه كالولى والشهود فقد يتعارض هاهنا ظنان      أحدهما انه لا يثبت شرط ما لم يعلم ثبوته      والثاني أن الأصل تحريم إلا بضاع فلا يستباح إلا بثبت وتحقيق ولكن لا معول على الظن الثاني من وجهين      أحدهما انا نرى الآن في تفاصيل الشريعة استباحة الانكحة في مجال الظنون والاجتهاد      والثاني أن هذا التعارض لا يثبت علما وإذا لم يثبت علما باشتراط شيء لم يشترط      وهذا لا يعارضه قول القائل إذا لم يثبت تصحيح النكاح لم نحكم به فأنا لو شرطنا في خلو الزمان العلم بانعقاد النكاح واشتماله على الشرائط المرعية وعروه عن المفسدات لما حكمنا بصحة نكاح أصلا مع دروس العلم بالتفاصيل     ومما لا يخفي رعايته في النكاح خلو المرأة عن نكاح الغير وعن اشتمال الرحم ماء محترم فان الغرض الاظهر في احلال النكاح وتحريم     السفاح أن يختص كل بعل بزوجته ولا يزدحم ناكحان على امرأة فيؤدي ذلك إلى اختلاط الانساب      واما أمر العدة فان كان محفوظا في العصر وهو الغالب ما بقيت الاصول فيراعي في النكاح الخلوعن العدة وان اشتبه على بنى الزمان تفاصيل العدد فلا يكاد يخفي اعتبار ظهور براءة الرحم عن الناكح المتقدم فان ظهر ذلك بحيضه ولم يعلم بثو الدهر اعتبار العدد في الاقراء أو مضي زمن لو كان حمل لظهر مخايله وحسب الناس أن النكاح يحل أو لم يعلموا تحريمه فهذا يلتحق بايرادهم عند النكاح على وجه يترددون في صحته وفساده من جهة مفسد مقترن أو اخلال بشرط فالوجه الحكم بالصحة كما تقدم ذكره فهذا ما يتعلق بالنكاح      فأما إذا طرئ على النكاح طارئ وكان حكمه محفوظا فلا كلام وان غمض فلم يدر انه قاطع النكاح أم لا     فالذي يقتضيه الأصل الحكم ببقاء النكاح إلى استيقان ارتفاعه وهذا يشهد لخ حكم من تفاصيل الشرع أن من شك فلم يدر اطلق أم لا أو استيقن انه لفظ ولم يعلم انه كان طلاقا أم لا فالنكاح مستدام     مستصحب وفاقا ولست استدل بهذا فان القول مصور لي غموض التفاصيل فلا يبقي شاهد من التفاريع في الزمان الخالى عن ذكرها ولكن المعتبر فيه ما قدمنا من أن التحريم إذا لم يقم عليه دليل فالأمر يجري على رفع الحرج وقد كررت هذا مرارا محاولا للإيناس به والكلام إذا لم يكن معهودا ذكر مرة واحدة فقد يتعداه الناظر من غير تعريج على تدبره فيفوته الفائدة وإذا تكرر استبان اعتناء مكرره فيترتب على انقيند في البحث عن مغزاه ومقتضاه      فهذا اخر المقصود في الأحكام المتعلقة بالانكحة وما يطرئ عليها      وقد بقي من تمام الكلام قول جامع كلى في الزواجر وما يتعلق بالإيالة فنقول      لا يكاد يخفي جواز دفع الظلمة وان انتهى الدفع إلى شهر الاسلحة فان من اجل اصول الشريعة دفع المعتدين باقصى الإمكان عن الاعتداء ولو ثارت فيه زائغة عن الرشاد واثروا السعي في الأرض بالفساد ولم يمنعوا قهرا ولم يدفعوا قسرا لاستجرأ الظلمة ولتفاقم الأمر وهذا يعني ظهوره عن الامعان في البيان     فأما إذا اعتدي المعتدون وظفرنا بهم فأصول الحدود لا تخفي     ما بقيت شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم والكلام الضابط فيها أن كل حد استيقنه أهل العصر اقامة ولاة الأمر كما تقدم القول الشافي البالغ في احكام الولاة      وإذا اشك بنوا الزمان في وجوب الحد لم يقيموه أصلا ولو علموا أن وجوب الحد مختلف فيه بين العلماء فهو اذن مظنون وكان في محل التحرى إذا كانت التفاصيل مذكورة محفوظة فإذا عدم أهل الزمان ما يتعلق به المقلدون من تقديم إمام على إمام فقد استوى عندهم الظنان وتعارض المذهبان ولا تعويل على ظنون العوام في أنفسهم فلا سبيل إلى الهجوم على اقامة العقوبات واراقة الدماء مع التردد ولو وقعت في حد مع بقاء الفروع واستوى في ظن المفتي ايجاب الحد ونفيه ولم يترجح أحد الظنين على الثاني فلا يفتي بالحد أصلا فحكم أهل الزمان الخالى عن علم التفاصيل يجري هذا المجرى      ومما يليق بذلك انه زنى رجل وعلم انه استوجب الحد ولكن لم يدر امحض هو فيرجم أو بكر فيجلد فلا سبيل مع الاشكال إلى رجمه     فأما الجلد فلا يجوز جلد المحصن كما لا يجوز رجم البكر إذ لا تبادل في الحدود فالوجه على حكم الأصل أن لا يحد أصلا     فإذا شككنا في أن الجلد هل يسوغ اقامته أم لا والعقوبة المشكوك فيها لا تقام في الزمان الذي فرضنا إلى الكلام فيه فان قيل لو زنا محصن واستوجب الرجم والشريعة مستقلون بضبط التفاصيل ورأى الأمام أن يقتل المحصن بالسياط ويحلها محل الاحجار فينبغي أن يجوز ذلك وإذا ثبت جوازه فليجلد من اعتاص الأمر في رجمه وجلده فان كان مرجوما فقد اقتصر على بعض ما يستحق وان كان مجلودا فقد اقيم عليه كاملا قلنا لسنا نرى أولا اقامة السياط مقام الاحجار فان الحدود لا يتغير كيفياتها ولا تبدل الاتها ثم أن انتهى مجتهد إلى تجويز ما اورده السائل فهو من دقيق القول في اساليب الطنون فكيف يدركه أهل الزمان الشاغر عن علماء التفاصيل      نجز الكلام في المرتبة الثالثة وقد قيض الله فيها امورا بديعة لا يدرك علو قدرها إلا الفطن الغواص وهو من اخص الخواص وكنت قد عزمت على أن اذكر في كل كتاب وباب فصولا وامهد اصولا ثم رأيت الاكتفاء بهذه اللمع إذا وجدتها ترشد إلى مسالك الكلام في الاصول اجمع ولو لم يكن فيه ما يسر الطالب إلا التنبيه على الاصول لكان ذلك كافيا      من قال قائل قد بينهم هذه المرتبة على خلو أهل الزمان عن ذكر التفاصيل والذي ذكرتموه مما يغمض على معظم العلماء في الدهر فكيف يدركه أهل زمان وفاتتهم تفريعات الشريعة وتفاصيلها فليس يحتاج اليه ذان والشريعة محفوظة فإذا درست فروعها ولم يستقل الناس بها لم يفهمها العوام فهذا الكلام اذن لا يحدى ولا يفيد على اختلاف الزمان في الذكر والنسيان قلنا الجواب عن هذا من وجهين     أحدهما انه ليس خاليا عن فوائد جمة مع بقاء العلوم بتفاصيل الشريعة     وفيها التنبيه على مأخذ الاصول والفروع ومن احكمه تنقحت قريحته في مباحث المعاني وعرف القواعد والمباني ورقى إلى مرقى عظيم من الكليات لا يدركه المتقاعد الوافي وطرق المباحث لا يتهذب إلا بفرض التقديرات قبل وقوعها والاحتواء على جملها ومجموعها      فهذا اجواب ولست ارتضيه     فاني لم اجمع هذا الكلام لهذا الغرض فالجواب السديد أني وضعت هذا الكتاب لامر عظيم فاني تخليت انحلال الشريعة وانقراض حملتها ورغبة الناس عن طلبها واضراب الخلق عن الاهتمام بها وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف ويقنعون بالاطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها أو فصول مغلفة وكلم مزيفة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطعام فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب ولا يخلفهم إلا التصانيف والكتب ثم لا يستقل بكتب الشريعة على كثرتها واختلافها مستقل بالمطالعة من غير مراجعة مع مرشد وسؤال عن عالم مسدد فجمعت هذه الفصول واملت أن يشبع منها نسخ في الاقطار والامصار ولو عثر عليها بنو الزمان لاوشك أن يفهموها      لانها قواطع ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاءهم معاذهم فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم ويتحفظونه لصغر حجمه واتساق نظمه      فهذا ما قصدت فان تحقيق ظنى فهو الفوز الاكبر وألا فالخير اردت والله المستعان    المرتبة الرابعة في خلو الظمان عن اصول الشريعة         قد مضي القول فيه إذا درست العلوم بتفاصيل الشريعة وبقيت اصولها في الذكر ومضمون هذه المرتبة تقدير دروس اصول الشريعة وقد ذهبت طوائف من علمائنا إلى أن ذلك لا يقع فان اصول الشريعة تبقي محفوظة على ممر الدهور إلى نفخة الصور واستمسكوا بقوله تعالى     انا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون    وهذه الطريقة غير مرضية والاية في حفظ القران عن التحريف والتبديل والتصريف وقد وردت إخبار في انطواء الشريعة وانطماس شرائع الإسلام ومدراس معالم الأحكام نقبض العلماء وقد قال      سيقبض العلم حتى يخلف الرجلان في فريضة فلا يجدان من يعرف حكم الله فيها     فالقول المرتضي في ذلك أن دروس اصول الشريعة في مستقر العادة في الاماد الدانية وان انقرض عمر الدنيا في مطرد العرف وقامت القايمة في الاعصار القريبة ولا حاجة إلا هذه التقديرات وان تطاول الزمن فلا تبعد في مطرد العرف انمحاق الشريعة أصلا أصلا حتى يدرس بالكلية وعلى هذا التدريج تبدأ الأمور الدينية والدنيوية وتزيد حتى تبلغ المنتهى ثم تنحط وتندرس حتى نتقضى وتنصرم كان لم تعهد      فان فرض ذلك قدمنا على غرضنا من ذلك صورة وهي أن طائفة ف6ي جزيرة من الجزائر لو بلغتهم الدعوة ولاحت عندهم دلالة النبوة فاعترضوا بالوحدانية والنبوة ولم تفقوا على شيء من اصول الأحكام ولم يستمكنوا من المسير إلى علماء الشريعة فالعقول على مذاهب أهل الحق لا تقتضي التحريم والتحليل وليس عليها في مدرك قضايا التكاليف تعويل وهذا الأصل من اعظم الطوام وهو منزلة الاقدام ومضلة معضم الانسام ولو أو غلت فيها لاربي مفاتيح الكلام في حواشيها على مقدار حجم الكتاب      فاحشة الاكتفاء بنقل المذاهب واحالة من يحاول الوقوف على مطابق الحقائق على بحر الكلام     فمقدار الغرض الآن أن الذين فرضنا الكلام لا يلزمهم إلا اعتقاد     بالتوحيد ونبوة النبي المنبعث وتوطين النفس على التوصيل اليه في مستقبل الزمان مهما صادفوا اسباب الإمكان ولسنا ننكر أن عقولهم تستحثهم في قضيات الجبلات عن الانكفاف عن اسباب الردى والانصراف عن موجبات التوى      ولكنا لا نقضي بان حكم الله عليهم موجب عقولهم فنعطف الآن على غرضنا ونقول      إذا درست فروع الشريعة واصولها ولم يبق معتصم يرجع اليه ويعول عليه انقطعت التكاليف عن العباد والتحقت أحوالهم بأحوال الذين لم يبلغهم دعوة ولم تنط بهم شريعة     وانما جعلت هذه الخاتمة منقطع الكلام لاني افتتحت باسم مولانا نصر الله ايامه واسبغ على ساحته السامية انعامه كتابا مضمونة ذكر مدارك العقول سأنخل فيها ثمرات الالباب وانزع من ملتطم الشبهات الصفوة اللباب واتركه عبرة في ارتباك المشكلات واشتباك المعضلات فصار ما قطعت عليه الكلام متقاضفا ما افتتحته والله ولى الاتمام وقد انتهيت إلى ما اردت ذكره في هذا الكتاب وبلغت كنه ما اعتمدته من تفصيل الابواب عرضته في معرض البراعة وجلوته في حلل البضاعة وزففت مخطوبة في كرم المناصب والمناسب إلى ارفع خاطب ووافق شن طبقته وصادفه     الاثمد الحدقة واحتاز الفريد الفريد واحرز ذو التاج الاقليد فاطال الله من اعلى منازل الإياله بقاء واعلى إلى غايات الجلالة ارتفاه ما طلع فجر وزخر بحر ودار فلك وسبه ملك واختلفت الجديدان واعتقب الملوان فهو ولي الاحسان والمتفضل بلامتنان وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم المبعوث بأفضل الاديان     

 

  نجز الكتب بحمد الله ومنه وحسن توفيقه وذلك في ثالث عشره شهر ربيع الأول سنة واربعين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد واله رحمه الله لمن دعا لكاتبه وقارئه ومن قال امين امين بلغت مطالعة واصلاحا مع مراجعة الأصل فصح بحمد الله ومنه كتبه      خليل بن العلائى الشافعي    

 وفرغ منه في تاسع عشر من جمادى الأولى سنة ثمانين واربعة وسبع ومائة ببيت المقدس حماه الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق