وَهُمْ
سَالِمُونَ}, قال: هو قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح, فهذا الدليل مبني
على مقدمتين إحداهما: أن هذه الإجابة واجبة, والثانية: لا تحصل إلا بحضور الصلاة
في الجماعة, وهذا هو الذي فهمه أعلم الأمة وأفقههم من الإجابة وهم الصحابة رضي
الله عنهم, فقال ابن المنذر في كتاب الأوسط: روينا عن ابن مسعود وأبي موسى أنهما
قالا: من سمع النداء ثم لم يجب فإنه لا تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر, قال: وروي
عن عائشة أنها قالت: من سمع النداء فلم يجب لم يرد خيرا ولم يرد بت, وعن أبي
هريرة أنه قال: إن تمتليء أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع المنادي
ثم لا يجيبه, فهذا وغيره يدل أن الإجابة عند الصحابة هي حضور الجماعة, وأن
المتخلف غير مجيب فيكون عاصيا. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}, ووجه الاستدلال
بالآية أنه سبحانه أمرهم بالركوع وهو الصلاة وعبر عنها بالركوع لأنه من أركانها
والصلاة يعبر عنها بأركانها وواجباتها كما سماها الله سجودا وقرآنا وتسبيحا فلا
بد لقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} من فائدة أخرى وليست إلا فعلها مع جماعة
المصلين, والمعية تفيد ذلك.
إذا ثبت هذا الأمر المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور ممتثلا إلا
بالإتيان به على تلك الصفة والحال, فإن قيل: فهذا ينتقض بقوله تعالى: {يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ},
والمرأة لا يجب عليها حضور الجماعة, قيل: الآية لم تدل على تناول الأمر بذلك لكل
امرأة بل مريم بخصوصها أمرت بذلك, بخلاف قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}, ومريم كانت لها خاصة لم تكن لغيرها
من النساء فإن أمها نذرتها أن تكون محررة لله ولعبادته ولزوم المسجد, وكانت لا
تفارقه, فأمرت أن تركع مع أهله, ولما اصطفاها الله وطهرها على نساء العالمين
أمرها من طاعته بأمر اختصها به على سائر النساء, قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ
الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ
عَلَى
|
|
نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ}, فإن قيل كونهم مأمورين أن يركعوا مع الراكعين لا يدل على وجوب
الركوع معهم حال ركوعهم بل يدل على الإتيان بمثل ما فعلوا, كقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ},
فالمعية تقضي المشاركة في الفعل ولاتستلزم المقارنة فيه. قيل: حقيقة المعية
مصاحبة ما بعدها لما قبلها وهذه المصاحبة تفيد زائدا على المشاركة ولا سيما في
الصلاة فإنه إذا قيل صل مع الجماعة أو صليت مع الجماعة لا يفهم منه إلا اجتماعهم
على الصلاة.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين, وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب
فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال
فأحرق عليهم بيوتهم, والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو
مرماتين1 حسنتين لشهد العشاء". وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو
يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا
يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق
عليهم بيوتهم بالنار". متفق على صحته واللفظ لمسلم.
وللإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "لولا ما في البيوت من النساء
والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار".
قال المسقطون لوجوبها: هذا ما لا يدل على وجوب صلاة الجماعة لوجوه:
أحدها: أن هذا الوعيد إنما جاء في المتخلفين عن الجمعة, بدليل ما راه مسلم
في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقوم
يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال
يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المرماة ما بين ظلف الشاة من اللحم، والظلف هو كل حافر منشق.
|
|
الثاني:
أن هذا كان جائزا لما كانت العقوبات المالية جائزة, ثم نسخ بما نسخ العقوبات
المالية.
الثالث:
أنه هم ولم يفعل, ولو كان التحريق جائزا لكان واجبا لا تكون مستوية الطرفين, بل
إما واجبة أو محرمة, فلما لم يفعل ذلك دل على عدم الجواز. قالوا: والحديث يدل
على سقوط فرض الجماعة لأنه هم بالتخلف عنها وهو لا يهم بترك واجب. قالوا: و أيضا
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم بإحراق بيوتهم عليهم لنفاقهم لا لتخلفهم عن
حضور الجماعة.
قال الموجبون: ليس فيما ذكرتم ما يسقط دلالة الحديث, أما قولكم: إن الوعيد
إنما هو في حق تارك الجمعة فنعم هو في حق تارك الجمعة وتارك الجماعة, فحديث أبي
هريرة صريح في أنه في حق تارك الجماعة وذلك بين في أول الحديث وآخره, وحديث ابن
مسعود في أن ذلك لتارك الجمعة أيضا فلا تنافي بين الحديثين, وأما قولكم إنه
منسوخ فما أصعب هذه الدعوى وأصعب إثباتها فأين شروط النسخ من وجود معارض مقاوم
متأخر ولن تجدوا أنتم ولا أحد من أهل الأرض سبيلا إلى إثبات ذلك بمجرد الدعوى,
وقد اتخذ كثيرا من الناس دعوى النسخ والإجماع سلما إلى إبطال كثير من السنن
الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بهين ولا تترك لرسول الله صلى
الله عليه وسلم سنة صحيحة أبدا بدعوى الإجماع ولا دعوى النسخ إلى أن يوجد ناسخ
صحيح صريح متأخر نقلته الأئمة وحفظته: إذ محال على الأمة أن تضيع الناسخ الذي
يلزمها حفظه وتحفظ المنسوخ الذي قد بطل العمل به ولم يبق من الدين.
وكثير من المولدة المتعصبين إذا رأوا حديثا يخالف مذهبهم يتلقونه بالتأويل
وحمله على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلا فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزعوا
إلى دعوى الإجماع على خلافه فإن رأوا من الخلاف مالا يمكنهم من دعوى الإجماع
فزعوا إلى القول بأنه منسوخ وليست هذه طريق أئمة الإسلام بل أئمة الإسلام كلهم
على خلاف هذا الطريق وأنهم إذا وجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة
صريحة لم يبطلوها بتأويل ولا دعوى إجماع ولا
|
|
نسخ.
والشافعي وأحمد من أعظم الناس إنكارا لذلك, وبالله التوفيق.
وإنما لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هم به للمانع الذي أخبر أنه
منعه منه وهو اشتمال البيوت على من لا تجب عليه الجماعة من النساء والذرية فلو
أحرقها عليهم إلى من لا يجب عليه وهذا لا يجوز كما إذا وجب الحد على حامل فإنه
لا يقام عليها حتى تضع لئلا تسري العقوبة إلى الحمل, ورسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يهم بما لا يجوز فعله أبدا, وقد أجاب عنه بعض أهل العلم بجواب آخر: وهو
أن القوم كانوا أخوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمعوه يقول هذه المقالة
ثم يصرون على التخلف عن الجماعة.
وأما قولكم إن الحديث يدل على عدم وجوب الجماعة لكونه هم بتركها فمما لا
يلتفت إليه ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يهم بعقوبة طائفة من
المسلمين بالنار وإحراق بيوتهم لتركهم سنة لم يوجبها الله عليهم ولا رسوله وهو
صلى الله عليه وسلم لم يخبر أنه كان يصلي وحده بل كان يصلي جماعة هو وأعوانه
الذين ذهبوا معه إلى تلك البيوت, و أيضا فلو صلاها وحده لكان هناك واجبان واجب
الجماعة وواجب عقوبة العصاة وجهادهم, فترك أدنى الواجبين لأعلاهما كالحال في
صلاة الخوف.
وأما قولكم إنما هم بعقوبتهم على نفاقهم لا على تخلفهم عن الجماعة فهذا
يستلزم محظورين: أحدهما إلغاء ما اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلق
الحكم به من التخلف عن الجماعة. والثاني: اعتبار ما ألغاه فإنه لم يكن يعاقب
المنافقين على نفاقهم بل كان يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله. الدليل
الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد
يقودني إلى المجسد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فرخص له, فلما
ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء". قال: نعم. قال: "فأجب",
وهذا الرجل هو ابن أم مكتوم, واختلف في اسمه فقيل عبدالله وقيل عمرو.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن عمرو بن أم مكتوم قال: قلت: يا
رسول الله أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني, فهل لي رخصة أن
|
|
أصلي
في بيتي؟ قال: "تسمع النداء". قال: نعم. قال: "ما أجد لك
رخصة".
قا المسقطون لوجوبها: هذا أمر استحباب لا أمر إيجاب, وقوله: لا أجد لك
رخصة أي إن أردت فضيلة الجماعة. قالوا: وهذا منسوخ. قال الموجبون: الأمر مطلق
للوجوب فكيف إذا صرح صاحب الشرع بأنه لا رخصة للعبد في التخلف عنه لضرير شاسع
الدار لا يلائمه قائده, فلو كان العبد مخيرا بين أن يصلي وحده أو جماعة لكان
أولى الناس بهذا التخيير مثل الأعمى.
قال أبو بكر بن المنذر: ذكر حضور الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن
المسجد, ويدل ذلك على أن شهود الجماعة فرض لاندب, وإذا قال لابن أم
مكتوم وهو ضرير لا أجد لك رخصة فالبصير أولى أن لا تكون له رخصة.
الدليل السادس: ما رواه أبو داود وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يمنعه من
اتباعه عذر" -قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة
التي صلاها".
قال المسقطون للوجوب: هذا حديث فيه علتان إحدهما أنه من رواية مغراء العبدي وهو
ضعيف عندهم. الثانية: إنما يعرف عن ابن عباس موقوفا عليه.
قال الموجبون: قد قال قاسم بن أصبغ في كتابه: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من
عذر". وحسبك بهذا الإسناد صحة. ورواه ابن المنذر: حدثنا علي بن عبدالعزيز
حدثنا عمرو بن عوف حدثنا هشيم شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
مرفوعا؛ قالوا: ومعارك العبدي قد روى عنه أبو اسحاق السبيعي على جلالته ولو قدر
أنه لم يصح رفعه فقد صح عن ابن عباس بلا شك, وهو قول صاحب لم يخالفه صاحب.
الدليل السابع: ما رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود قال: من سره أن
يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن فإنهن من سنن
الهدى وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم
|
|
كما
يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم وما
من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل
خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها
إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى يهادي بين الرجلين حتى يقام في
الصف.
وفي لفظ: وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من
سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه.
فوجه الدلالة أنه جعل التخلف عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم
نفاقهم؛ وعلامات النفاق لا تكون بترك مستحب ولا بفعل مكروه؛ ومن استقرأ علامات
النفاق في السنة وجدها إما ترك فريضة أو فعل محرم, وقد أكد هذا المعنى بقوله: من
سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن.
وسمى تاركها المصلي في بيته متخلفا تاركا للسنة التي هي طريقة رسول الله صلى
الله عليه وسلم التي كان عليها وشريعته التي شرعها لأمته, وليس المراد بها السنة
التي من شاء فعلها ومن شاء تركها, فإن تركها لا يكون ضلالا ولا من علامات النفاق
كترك الضحى وقيام الليل وصوم الإثنين والخميس.
الدليل الثامن: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم
بالإمام ة أقرؤهم". ووجه الاستدلال به أنه أمر بالجماعة وأمره على الوجوب.
الدليل التاسع: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من صلى وحده خلف الصف أن يعيد
الصلاة, فروى وابصة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف
الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة, رواه الإمام أحمد مسند و أهل السنن وأبو حاتم
ابن حبان في صحيحه وحسنه الترمذي.
وعن علي بن شيبان قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه
وصلينا خلفه ثم صلينا وراءه صلاة أخرى فقضى الصلاة, فرأى رجلا فردا خلف
|
|
الصف,
فوقف عليه حتى انصرف, وقال: "استقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف".
رواه الإمام أحمد وابن حبان.
وفي رواية الإمام أحمد صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلا يصلي
فردا خلف الصف فوقف نبي الله صلى الله عليه وسلم الرجل حتى انصرف فقال له استقبل
صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف.
قال ابن المنذر: وثبت هذا الحديث أحمد وإسحاق, فوجه الدلالة أنه أبطل صلاة
المنفرد عن الصف وهو في جماعة, وأمره بإعادة صلاته مع أنه لم ينفرد إلا في
المكان خاصة فصلاة المنفرد عن الجماعة والمكان أولى بالبطلان, يوضحه أن غاية هذا
الفذ أن يكون منفردا, ولو صحت صلاة المنفرد لما حكم رسول الله صلى الله عليه
وسلم بنفيها, فأمر من صلى كذلك أن يعيد صلاته.
قال المسقطون للوجوب: لايمكنكم الاستدلال بهذا الحديث إلا بعد إثبات بطلان
صلاة الفذ خلف الصف. وهذا قول شاذ مخالف لجمهور أهل العلم وقد دل على صحتها
إجماع الناس على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف, وقد صلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم خلف جبريل, فروى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه
جبريل يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه
والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وأتاه حين
كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه
والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي.
فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف جبريل مقتديا به. قالوا: وقد أحرم أبو
بكرة فذا خلف الصف ثم مشى حتى دخل الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم
بالإعادة. قالوا: وقد أحرم ابن عباس عن يساره صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده
فأداره عن يمينه ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال الصلاة بل صحح
إحرامه فذا, فهذا في النفل وحديث جابر في الفرض أنه قام عن يسار رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخذ بيده فأقامه عن يمينه.
قال الموجبون: العجب من معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة بمثل ذلك
|
|
فإنه
لا تعارض بين الأحاديث بوجه من الوجوه, وأما قولكم إن هذا قول شاذ فلعمر الله
ليس شاذا ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الصحيحة والصريحة, ولو تركها
من تركها فلا يكون ترك السنن لخفائها على من تركها أو لنوع تأيل مسوغا لتركها
لغيره, وكيف يقدم ترك التارك لهذه السنة عليها.
هذا وقد قال بهذه السنة جماعة من أكابر التابعين منهم سعيد بن جبير وطاوس
وإبراهيم النخعي ومن دونهم كالحكم وحماد وابن أبي ليلى والحسن بن صالح ووكيع.
وقال بها الأوزاعي, حكاه الطحاوي عنه وإسحاق بن راهويه و الإمام أحمد وأبو بكر
بن المنذر ومحمد بن اسحاق بن خزيمة فأين الشذوذ, وهؤلاء القائلون وهذه السنة.
وأما معارضتكم بموقف المرأة فمن أفسد المعارضات لأن ذلك هو موقف المرأة المشروع
لها حتى لو وقفت في صف الرجال أفسدت صلاة من يليها عند أبي حنيفة وأحد القولين
في مذهب أحمد, فإن قيل لو وقفت فذة خلف صف النساء صحت صلاتها قيل ليس كذلك بل
إذا انفردت المرأة عن صف النساء لم تصح صلاتها كالرجل الفذ خلف الرجال ذكر ذلك
القاضي أبو يعلى في تعليقه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لفرد
خلف الصف". خرج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرجال للحديث الصحيح بقي
فيما عداه على هذا العموم وأما قصة صلاته صلوات الله وسلامه عليه خلف جبريل وحده
والصحابة خلفه فقد أجيب عنها بأنها كانت في أول الأمر حين علمه مواقيت الصلاة
وقصة أمره صلى الله عليه وسلم الذي صلى خلف الصف فذا بالإعادة متأخرة بعد ذلك
وهذا جواب صحيح.
وعندي فيه جواب آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو إمام المسلمين فكان
بين أيديهم وكان هو المؤتم بجبريل وحده وكان تقدم جبريل عليه السلام أبلغ في
حصول التعليم من أن يكون إلى حانبه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم على
المنبر ليأتموا وليتعلموا صلاته وكان ذلك لأجل التعليم لم يدخل في نهيه صلى الله
عليه وسلم الإمام إذا أم الناس أن يقوم في مقام أرفع منهم
|
|
وأما
قصة أبي بكرة فليس فيها أنه رفع رأسه من الركوع قبل دخوله في الصف وإنما يمكن
التمسك بها لو ثبت ذلك ولا سبيل إليه وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد فيمن
ركع دون الصف ثم مشى راكعا حتى دخل فيه بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع, وعنه
في ذلك ثلاث روايات:
إحداها تصح مطلقا, وحجة هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر
أبا بكرة بالإعادة ولا استفصله هل أدركه قبل رفع رأسه من الركوع أم لا ولو اختلف
الحال لاستفصله. وروى سعيد بن منصور في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يركع قبل أن
يدخل في الصف، ثم يمشي راكعا ويعتد بها. وصل الصف أم لم يصل.
والرواية الثانية: أنها لا تصح. نص عليها في رواية إبراهيم بن الحارث
ومحمد بن الحكم. وفرق بينه وبين من أدرك الركوع في الصف، لأنه لم يدرك في الصف
ما يدرك به الركعة فأشبه ما لو أدركه وقد سجد, وهذه الرواية أصح عند أكثر
أصحابه.
والرواية الثالثة: إن كان عالما بالنهي لم تصح صلاته وإلا صحت لقصة أبي
بكرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعد". والنهي يقتضي الفساد,
ولكن ترك في الجاهل به حيث لم يأمره بالإعادة, وكانت هذه حال أبي بكرة.
وأما قصة ابن عباس وجابر في ترك أمرهها بابتداء الصلاة وقد أحرما فذين
فهذه أولا ليس فيها أنهما قد دخلا في الصلاة. وإنما فيه أنهما وقفا عن يساره
فأدارهما عند أول وقوفهما, ولو قدر أنهما أحرما كذك فمن أحرم فذا صح إحرامه
بالصلاة ودخوله فيها, وإنما الاعتبار بالركوع وحده وإلا فمن وقف معه آخر قبل
الركوع صحت صلاته, ولو أعتبرنا إحرام المأمومين جميعا لم ينعقد تحريم أحد حتى
يتفق هو ومن إلى جانبه في ابتداء التكبير وانتهائه, وهذا من أعظم الحرج والمشقة
ولهذا لم يعتبره أحد أصلا والله أعلم.
الدليل العاشر: ما رواه أبو داود في سننه و الإمام أحمد في مسنده من حديث
أبي الدرداء. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ثلاثة في قرية لا
يؤذن فيهم ولا
|
|
تقام
فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان, فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب
القاصية".
فوجه الاستدلال منه أنه أخبر باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها
الأذان وإقامة الصلاة, ولو كانت الجماعة ندبا يخير الرجل بين فعلها وتركها لما
استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها.
الدليل الحادي عشر: ما رواه في صحيحة رقم من حديث أبي الشعثاء المحاربي قال: كنا
قعودا في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصرة حتى
خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية سمعت أبا هريرة وقد رأى رجلا يجتاز في المسجد خارجا بعد الأذان فقال:
أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم, ووجه الاستدلال به أنه جعله
عاصيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه بعد الأذان لتركه الصلاة جماعة, ومن
يقول الجماعة ندب يقول لا يعصي الله ولا رسوله من خرج بعد الأذان وصلى وحده, وقد
احتج ابن المنذر في كتابه على وجوب الجماعة بهذا الحديث, وقال لو كان المرء
مخيرا في ترك الجماعة وإتيانها لم يجز أن يعصي من تخلف عما لا يجب عليه أن
يحضره, والذي يقول صلاة الجماعة ندب إن شاء فعلها وإن شاء تركها يجوز للرجل أن
يخرج من المسجد وقد أخذ المؤذن في إقامة الصلاة بل يجوز له أن يجلس فلا يصلي مع
الإمام والجماعة, فإذا صلوا قام فصلى وحده ولو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من يفعل هذا لأنكروا عليه غاية الإنكار بل قد أنكر ما هو دون هذا وهو
على من لا يصلي مع الجماعة اكتفاء بصلاته في رحله. وقال: "ما لك لا تصلي
معنا ألست برجل مسلم". وأمر بالصلاة في الجماعة لمن صلى ثم أتى مسجد
الجماعة فقال: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم
فإنها لكما نافلة".
الدليل الثاني عشر: إجماع الصحابة رضي الله عنهم, ونحن نذكر نصوصهم وقد تقدم قول
ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وقال الإمام
أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن ابن مسعود
قال: من سمع المنادي فلم يجب عذر فلا صلاة له.
|
|
وقال
أحمد أيضا: حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن أبي الحصين عن أبي بردة عن أبي موسى
الأشعري قال: من سمع المنادي فلم يجب بغير عذر فلا صلاة له, وقال أحمد: حدثنا
وكيع عن سفيان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: لا صلاة
لجار المسجد إلا في المسجد. قيل: ومن جار المسجد؟ قال: من سمع المنادي. وقال
سعيد بن منصور: حدثنا هشيم أخبرنا منصور عن الحسن بن علي قال: من سمع النداء فلم
يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر. وقال عبدالرزاق عن يروي عن أبي إسحاق عن
الحارث عن علي قال: من سمع النداء من جيران المسجد وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة
له.
وقال وكيع عن عبد الرحمن بن حصين عن أبي نجيح المكي عن أبي هريرة قال: لأن
تمتليء أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه. وقال
الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن عدي بن ثابت عن عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها قالت: من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر فلم يرد خيرا أولم يرد
به.
قال وكيع حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عابس قال: من سمع
النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له.
وقال عبدالرزاق عن ليث عن مجاهد قال: سأل رجل ابن عباس فقال: رجل يصوم النهار
ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة. فقال ابن عباس: هو في النار, ثم جاء الغد
فسأله عن ذلك فقال: هو في النار. قال: واختلف إليه قريبا من شهر يسأله عن ذلك,
ويقول ابن عباس: هو في النار.
فهذه نصوص الصحابة كما تراها صحة وشهرة وانتشارا, ولم يجيء عن صحابي واحد
خلاف ذلك وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة لو كان وحده, فكيف إذا تعاضدت
وتضافرت؟ وبالله التوفيق.
فصل
وأما المسالة السابعة وهي: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة أم لا؟
فاختلف الموجبون لها في ذلك على قولين:
|
|
أحدهما:
أنها
فرض يأثم تاركها وتبرأ ذمته بصلاته وحده, وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد
ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال إجابة الداعي إلى الصلاة فرض, ولو أن رجلا
قال: هي عندي سنة أصليها في بيتي مثل الوتر وغيره لكان خلاف الحديث وصلاته
جائزة, وعنه رواية ثانية ذكرها أبو الحسن الزعفراني في كتاب الإقناع أنها شرط
للصحة فلا تصح صلاة من صلى وحده, وحكاه القاضي عن بعض الأصحاب واختاره أبو
الوفاء ابن عقيل وأبو الحسن التميمي وهو قول داود وأصحابه. قال ابن حزم: وهو قول
جميع أصحابنا ونحن نذكر حجج الفريقين:
قال المشترطون: كل دليل ذكرناه في الوجوب يدل على أنها شرط فإنها إذا كانت
واجبة فتركها المكلف لم يفعل ما أمر به فبقي في عهدة الأمر. قالوا: ولو صحت
الصلاة بدونها لما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا صلاة له, ولو
صحت لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي ثم لم يجبه لم تقبل
منه الصلاة التي صلى". فلما وقف القبول عليها دل على اشتراطها, كما أنه لما
وقف القبول على الوضوء من الحدث دل على اشتراطه.
قالوا: ونفي القبول إما أن يكون لفوات ركن أو شرط ولا ينتقض هذا بنفي
القبول عن صلاة العبد الآبق وشارب الخمر أربعين يوما؛ لأن امتناع القبول هناك
لارتكاب أمر محرم قارن الصلاة فأبطل أجرها.
قالوا: ولو صحت صلاة المنفرد لما قال ابن عباس إنه في النار, قالوا: لو صحت
صلاته أيضا لما كانت واجبة, وأنه إنما يصح عبادة من أدى ما أمر به, وقد ذكرنا من
أدلة الوجوب ما فيه كفاية. قال المصححون لها وهم ثلاثة أقسام قسم يجعلها سنة إذا
شاء فعلها وإن شاء تركها, وقسم يجعلها فرض كفاية إذا
قام بها طائفة سقطت عمن عداهم, وقسم يقول: هي فرض على الأعيان وتصح بدونها. وقد
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة
الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". وفيهما عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه
خمسة وعشرين ضعفا, وذلك أنه إذا توضأ
|
|
فأحسن
الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة
وحطت عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم
يحدث تقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه, ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة".
قالوا فلو كانت صلاة المنفرد باطلة لم يفاضل بينها وبين صلاة الجماعة إذ لا
مفاضلة بين الصحيح والباطل.
قالوا: وفي صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام
الليل كله". قالوا: فشبه فعلها في جماعة بما ليس بواجب, والحكم في المشبه
كهو في المشبه به أو دونه في التأكيد.
قالوا: وقد روى يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته
فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في آخر
القوم لم يصليا قال: "علي بهما" -فجيء بهما ترعد فرائصهما- قال: "ما
منعكما أن تصليا معنا", فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا
تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما
نافلة". رواه أهل السنن. وعند أبي داود: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم
أدرك مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة". قالوا: ولولا صحة الأولى لم
تكن الثانية نافلة.
وعن محجن بن الأذرع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فصلى يعني
ولم أصل فقال لي: "ألا صليت" قلت: يا رسول الله قد صليت في الرحل ثم
أتيتك. قال: "فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة". رواه الإمام أحمد
وفي الباب عن أبي هريرة وعن أبي ذر وعبادة وعبدالله بن عمر ولفظ حديث ابن عمر عن
سليمان مولى ميمونة قال: أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط والقوم يصلون في المسجد
فقلت: ما يمنعك أن تصلي مع الناس قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين". رواه أبو داود والنسائي.
فصل
قال الموجبون: التفضيل لا يستلزم براءة الذمة من كل وجه سواء كان مطلقا أو مقيدا
فإن التفضيل يحصل مع مناقضة المفضل للمفضل عليه من كل وجه
|
|
كقوله
تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ
مَقِيلاً}, وقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ}, وهو
كثير فكون صلاة الفذ جزءا واحدا من سبعة وعشرين جزءا من صلاة الجميع لا يستلزم
إسقاط فرض الجماعة, ولزوم كونها ابنة بوجه من الوجوه, وغايتها أن يتأدى الواجب
بها, وبينهما من الفضل ما بينهما فإن الرجلين يكون مقامهما في الصف واحدا وبين
صلاتهما في الفضل كما بين السماء والأرض.
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب
له من الأجر إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها" حتى بلغ عشرها فإذا عقل اثنان
يصليان فرضهما صلاة أحدهما أفضل من صلاة الآخر بعشرة أجزاء وهما فرضان فهكذا
يعقل مثله في صلاة الفذ وصلاة الجماعة.
وأبلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت
منها". فإذا لم يعقل في صلاته إلا في جزء واحد كان له من الأجر بقدر ذلك
الجزء, وإن برأت ذمته من الصلاة, فهكذا المصلي وحده له جزء واحد من الأجر وإن
برئت الذمة, ومثل هذه الصلاة لا يسميها الشارع صحيحة وإن اصطلح الفقهاء على
تسميتها صلاة فإن الصحيح المطلق ما تربت عليه أثره وحصل به مقصودة وهذه قد فات
معظم أثرها ولم يحصل منها جل مقصودها فهي أبعد شيء من الصحة, وأحسن أحوالها أن
ترفع عنه العقاب وإن حصلت شيئا من الثواب فهو جزء وما هذا إلا على قول من لا
يجعلها شرطا للصحة. وأما من جعلها شرطا لا تصح بدونه فجوابه إن التفضيل إنما هو
بين صلاتين صحيحتين وصلاة الرجل وحده إنما تكون صحيحة للعذر, وأما بدون العذر
فلا صلاة له كما قال الصحابة رضي الله عنهم, وهؤلاء لو أجابوا بهذا لرد عليهم
منازعوهم إن المعذور يكمل له أجره, فأجابوا على ذلك بأنه لا يستحق بالفعل إلا
جزءا واحدا, وأما التكميل فليس من جهة الفعل بل بالنية إذا كان من عادته أن يصلي
جماعة فمرض أو حبس أو سافر وتعذرت عليه الجماعة والله يعلم أن من نيته أن لو قدر
على الجماعة لما تركها فهذا يكمل له أجره مع أن صلاة الجماعة أفضل من صلاته من
حيث العملين.
قالوا: ويتعين هذا ولا بد. فإن النصوص قد صرحت بأنه لا صلاة لمن سمع
النداء ثم
|
|
صلى
وحده, فدل على أن من له جزء من سبعة وعشرين جزءا هو المعذور الذي له صلاة,
قالوا: والله تعالى يفضل القادر على العاجز وإن لم يؤاخذه فذلك فضله يؤتيه من
يشاء.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين وكان مبسورا قال سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: "من صلى قائما فهو أفضل ومن
صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد". فهذا
إنما هو في المعذور وإلا فغير المعذور ليس له من الأجر شيء إذا كانت الصلاة
فرضا, وإن كانت نفلا لم يجز له التطوع على جنب فإنه لم يفعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من الصحابة البتة مع شدة حرصهم على أنواع
العبادة وفعل كل خير, ولهذا جمهور الأمة يمنع منه ولا تجوز الصلاة على جنب إلا
لمن لم يستطع القعود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران: "صل قائما
فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب". وعمران بن حصين هو راوي
الحديثين وهو الذي سأل عنهما النبي صلى الله عليه وسلم.
فصل
وأما استدلالكم بحديث عثمان بن عفان: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام
نصف الليل". فمن أفسد الاستدلال وأظهر ما في نقضه عليكم قوله صلى الله عليه
وسلم: "من صام رمضان واتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر". وصيام
الدهر غير واجب وقد شبه به الواجب. بل الصحيح أن صيام الدهر كله مكروه فقد شبه
به الصوم الواجب فغير ممتنع تشبيه الواجب بالمستحب في مضاعفة الأجر على الواجب
القليل حتى يبلغ ثوابه ثواب المستحب الكثير.
فصل
وأما استدلالكم بحديث يزيد بن الأسود ومحجن بن الأدرع وأبي ذر وعبادة فليس
في حديث واحد منهم أن الرجل كان قد صلى وحده منفردا مع قدرته على الجماعة البتة
ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما أقره على ذلك وأنكرعليه. وكذلك ابن عمر
لم يقل صليت وحدي وأنا أقدر على الجماعة. ونحن نقول: إنه لم يصل من ترك الجماعة
وهو يقدر عليها. ونقول كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا صلاة
له, فحيث يثبت لهؤلاء صلاة فلا بد من أحد الأمرين: أن
|
|
يكونوا
صلوا جماعة مع غير هذه الجماع,ة أويكونوا معذورين وقت الصلاة, ومن صلى وحده لعذر
ثم زال عذره في الوقت لم يجب عليه إعادة الصلاة, كما لو صلى بالتيمم ثم وجد
الماء في الوقت أو صلى قاعدا لمرض ثم بريء في الوقت أو صلى عريانا ثم وجد السترة
في الوقت.
قالوا: وقد دلت أحكام الشريعة على أن صلاة الجماعة فرض على كل واحد وذلك
من وجوه أحدها أن الجمع لأجل المطر جائز وليس جوازه إلا محافظة على الجماعة,
وإلا فمن الممكن أن يصلي كل واحد في بيته منفردا, ولو كانت الجماعة ندبا لما جاز
ترك الواجب, وتقديم الصلاةعن وقتها ندب محض.
الثاني: أن المريض إذا لم يستطع القيام في الجماعة وأطاق القيام إذا صلى
وحده صلى جماعة وترك القيام ومحال أن يترك ركنا من أركان الصلاة لمندوب محض.
الثالث: أن الجماعة حال الخوف يفارقون الإمام ويعملون العمل الكثير في
الصلاة ويجعلون الإمام منفردا في وسط الصلاة كل ذلك لأجل تحصيل الجماعة, وكان من
الممكن أن يصلوا وحدانا بدون هذه الأمور ومحال أن يرتكب ذلك وغيره لأجل أمر
مندوب إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله, وبالله التوفيق.
فصل
وأما المسألة الثامنة وهي هل له فعلها في بتيه أم يتعين المسجد؟
فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما له
فعلها في بيته وبذلك قالت الحنفية والمالكية وهو أحد الوجهين للشافعية. والثاني:
ليس له فعلها في البيت إلا من عذر, وفي المسألة قول ثالث: فعلها في المسجد فرض
كفاية وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي, وجه القول الأول حديث الرجلين اللذين
صليا في رحالهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبهما إلى فعلها في المسجد ولم
ينكر عليهما فعلها في رحالهما, وكذلك حديث محجن بن الأدرع وحديث عبدالله بن عمر
وقد تقدمت هذه الأحاديث, وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله
عليه وسلم أحسن الناس خلقا
|
|
فربما
عملا الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم صلى الله
عليه وسلم ونقوم خلفه فيصلي بنا.
وفي الصحيحين أيضا قال: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجُحش1 شقة
الأيمن, فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا, و في الصحيحن أيضا عن أبي
ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع في الأرض أول قال: "المسجد
الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد". وصح عنه
صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا". ووجه
الرواية الثانية ما تقدم من الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة فإنها صريحة في
إتيان المساجد.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن أم مكتوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: "إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج
فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه". وفي لفظ
لأبي داود: "ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرق عليهم
بيوتهم". و قال له ابن أم مكتوم وهورجل أعمى: هل تجد لي رخصة أن أصلي في
بيتي؟ قال: "لا أجد لك رخصة". وقال ابن مسعود: لو صليتم
في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم
لضللتم.
وعن جابر بن عبدالله قال: فقد النبي صلى الله عليه وسلم قوما في صلاة
فقال: "ما خالفكم عن الصلاة"؟. فقالوا: الماء كان بيننا, فقال: "لا
صلاة لجار المسجد إلا في السمجد". رواه الدار قطني.
وقد تقدم هذا المعنى عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة, فإن خالف وصلى
في بيته جماعة عذر ففي صحة صلاته قولان: قال أبو البركات ابن تيمية في شرحه فإن
خالف وصلاها في بيته جماعة لا تصح من غير عذر بناء على ما اختاره ابن عقيل في
تركه الجماعة حيث ارتكب النهي, ويعضده قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
قال: والمذهب الصحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضاعف
على صلاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جحش هو شيء أكبر من الخدش.
|
|
في
بيته أو في سوقه خمسا وعشرين ضعفا". ويحمل قوله: "لا صلاة لجار المسجد
إلا في المسجد". على نفي الكمال جمعا بينهما. قال والرواية الأولى اختيار
أصحابنا وأن حضور المسجد لا يجب وهي عندي بعيدة جدا إن حملت على ظاهرها فإن
الصلاة في المسجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته وفي تركها بالكلية أو في المفاسد
ومحو آثار الصلاة بحيث تفضي إلى فتور همم أكثر الخلق عن أصل فعلها, ولهذا قال
عبدالله بن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة
نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. قال: وإنما معنى هذه الرواية -والله اعلم- أن
فعلها في البيت جائز لآحاد الناس إذا كانت تقام في المساجد فيكون فعلها في
المسجد فرض كفاية على هذه الرواية, وعلى الأخرى فرض عين. قال: ويدل على ذلك جواز
الجمع بين الصلاتين للأمطار, ولوكان الواجب فعل الجماعة فقط دون الفعل في المسجد
لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت فإن الإنسان
غالبا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو غلام أو صديق أو نحوهم فيمكنه الصلاة
جماعة فلا يجوز ترك الشرط وهو الوقت من أجل السنة, فلما جاز الجمع علم أن
الجماعة في المساجد فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان هذا كلامه.
ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا
لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة, فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل
الجماعة لغير عذر, وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار, ولما مات رسول الله صلى
الله عليه وسلم وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو وكان عتاب بنأسيد
عامله على مكة قد توارى خوفا من أهل مكة فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام
فخطبهم بعد ذلك عتاب وقال: يا أهل مكة والله لا يبلغني أن أحدا منكم تخلف عن
الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر له أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا الصنيع وزاده رفعة في أعينهم, فالذي ندين الله به أنه لا يجوز
لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. والله أعلم بالصواب.
|
|
فصل
وأما المسألة التاسعة وهي: حكم من نقر الصلاة ولم يتم ركوعها ولا سجودها
فهذه المسألة قد شفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى, وكذلك أصحابه من
بعده فلا معدل لناصح نفسه عما جاءت به السنة في ذلك ونحن نسوق مذهب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك بألفاظه. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم
فرد عليه السلام فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا". فقال: والذي
بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. قال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم
استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم
ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد
حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". متفق على صحته وهذا لفظ
البخاري.
وفيه دليل على تعين التكبير للدخول في الصلاة وأن غيره لا يقوم مقامه كما يتعين
الوضوء واستقبال القبلة وعلى وجوب القراءة وتقييد بما تيسر لا ينفي تعين الفاتحة
بدليل آخر. فإن الذي قال هذا الذي قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن
فهي خداج". وهو الذي قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب",
ولا تضرب سننه بعضها ببعض.
وفيه دليل على وجوب الطمأنينة وأن من تركها لم يفعل ما أمر به فيبقى
مطالبا بالأمر, وتأمل أمره بالطمأنينة في الركوع والاعتدال في الرفع منه فإنه لا
يكفي مجرد الطمأنينة في ركن الرفع حتى تعتدل قائما قلنا فيجمع بين الطمأنينة
والاعتدال خلافا لمن قال إذا ركع ثم سجد من ركوعه ولم يرفع رأسه صحت صلاته, فلم
يكتف من شرع الصلاة بمجرد الرفع حتى يأتي به كاملا بحيث يكون معتدلا فيه ولا
ينفي هذا وجوب التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد في الرفع بدليل آخر
فإن الذي قال هذا وأمر به هو الذي أمر بالتسبيح في الركوع فقال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِْ}. قال: "اجعلوها في ركوعهم", وأمر
بالتحميد في الرفع فقال: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا
ولك الحمد". فهو الذي أمرنا
|
|
بالركوع
وبالطمأنينة فيه وبالتسبيح والتحميد, وقال في الرفع من السجود: "ثم ارفع
حتى تطمئن جالسا".
وفي لفظ: "حتى تعتدل جالسا". فلم يكتف بمجرد الرفع كحد السيف حتى تحصل
الطمأنينة والاعتدال ففيه أمر بالرفع والطمأنينة فيه والاعتدال ولا يمكن التمسك
بما لم يذكر في هذا الحديث على اسقاط وجوبه عند أحد من الأئمة، فإن الشافعي يوجب
الفاتحة والتشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه,
وأبو حنيفة يوجب الجلوس مقدار التشهد والخروج من الصلاة بالمنافي ولم يذكر ذلك
فيه, ومالك يوجب التشهد والسلام ولم يذكر ذلك فيه, وأحمد يوجب التسبيح في الركوع
والسجود والتسميع والتحميد وقول رب اغفر لي ولم يذكر في الحديث, فلا يمكن لأحد
أن يسقط كل ما لم يذكر فيه, فإن قيل فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقره على
تلك الصلاة مرتين ولو كانت باطلة لم يقره عليها فإنه لا يقر على باطل قيل: كيف
يكون قد أقره وهو صلى الله عليه وسلم يقول له ارجع فصل فإنك لم تصل فأمره ونفى
عنه مسمى الصلاة التي شرعها, وأي إنكار أبلغ من هذا فإن قيل فهو لم ينكر عليه في
نفس الصلاة قيل: نعم لما في ذلك من التنفير له وعدم تمكنه من التعليم كما ينبغي
كما أقر الذي بال في المسجد على إكمال بوله حتى قضاها ثم علمه, وهذا من رفقة
وكمال تعليمه ولطفه صلوات الله وسلامه عليه, فإن قيل: فهلا قال له في نفس الصلاة
اقطعها قيل لم يقل للبائل اقطع بولك وهذا أولى, نعم: لو أقره على تلك الصلاة ولم
يأمره بإعادتها ولم ينف عنه الصلاة الشرعية كان فيه متمسك لكم فإن قيل قوله: لم
تصل أي لم تصل صلاة كاملة وإنما الممتنع أن تكون له صلاة صحيحة قد أخل ببعض
مستحباتها ثم يقول له ارجع فصل فإنك لم تصل, هذا في غاية البطلان.
وعن رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في
المسجد يوما ونحن معه إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته ثم انصرف فسلم على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "وعليك فارجع فصل فإنك
لم تصل". ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا
|
|
كل
ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل", فخاف الناس
وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل فقال الرجل في آخر ذلك فأرني وعلمني
فإنما أنا بشر أصيب وأخطيء, فقال أجل: "إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمر
الله ثم تشهد وأقم فإن كان معك قرآن فاقرأ و إلا فأحمد الله وكبره وهلله ثم اركع
فاطمئن راكعا ثم اعتدل قائما ثم اسجد فاعتدل ساجدا ثم اجلس فاطمئن جالسا ثم قم
فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك". قال:
فكان هذا أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من هذا شيئا انتقص من صلاته ولم تنقص
كلها. رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وفي رواية أبي داود: "وتقرأ بما شئت من
القرآن ثم تقول الله أكبر, وعنده فإن كان معك قرآن فاقرأ به". وفي رواية
لأحمد: "إذا أردت أن تصلي فتوضأ فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ
بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن
لركوعك فإذا رفعت رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصليها فإذا سجدت فمكن
لسوجودك فإذا رفعت فاعتمد على فخذك اليسرى ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة".
فإذا ضممت قوله في هذا الحديث: "توضأ كما أمر الله", إلى قوله في
الصفا والمروة: "ابدؤوا بما بدأ الله به": أفاد وجوب الوضوء على
الترتيب الذي ذكره الله سبحانه. وقوله في الحديث: "اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ
بما شئت", تقييد لمطلق قوله: "اقرأ بما تيسر معك من القرآن",
وهذا معنى قوله في الحديث: "وتقرأ بما شئت من القرآن", وقال: "فإن
كان معك قرآن وإلا فأحمد الله وكبره وهلله", فألفاظ الحديث يبين بعضها بعضا
وهي تبين مراده صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يتعلق بلفظ منها ويترك بقيتها.
وقوله: "ثم تقول الله أكبر": فيه تعيين هذا اللفظ دون غيره وهو
التكبير المعهود في قوله: "تحريمها التكبير" وقوله: "فإذا رفعت
رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها", صريح في وجوب الرفع
والاعتدال منه والطمأنينة فيه
|
|
وعن
أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزيء صلاة
الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود", رواه الإمام أحمد المسند و أهل
السنن, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح, وهذا نص صريح في أن الرفع من الركوع وبين
السجود الاعتدال فيه والطمأنينة فيه ركن لا تصح الصلاة إلا به.
وعن علي بن شيبان قال خرجنا حتى قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه
وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه رجلا لا يقيم صلاته – يعني صلبه في الركوع
والسجود- فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين لا
صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود". رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وقوله: "لا صلاة" – يعني تجزيه بدليل قوله: "لا تجزئ صلاة الرجل
حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود", ولفظ أحمد في هذا الحديث: "لا ينظر
الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى
صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده", رواه الإمام أحمد المسند.
وفي سنن البيهقي عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تجزيء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبة في الركوع والسجود",
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نقر المصلي صلاته وأخبر أنها صلاة المنافقين.
وفي المسند والسنن من حديث عبدالرحمن بن شبل قال: نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وعن توطن الرجل المكان في المسجد كما
يوطن البعير, فتضمن الحديث النهي في الصلاة عن التشبه بالحيوانات: بالغراب في
النقرة وبالسبع بافتراشه ذراعية في السجود وبالبعير في لزومه مكانا معينا من
المسجد يتوطنه كما يتوطن البعير.
وفي حديث آخر نهى عن عن التفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب, ورفع الأيدي
كأذناب الخيل. فهذه ست حيوانات نهى عن التشبه بها.
وأما ما وصفه من صلاة النقار بأنها صلاة المنافقين, ففي صحيح مسلم عن علاء
بن عبدالرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر قال:
فلما دخلنا عليه قال: أصليتما العصر؟ فقلنا إنما انصرفنا الساعة من الظهر
|
|
قال:
تقدموا فصلوا العصر فقمنا فصلينا فلما انصرفنا, قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين
قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا", وقد تقدم قول
ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -يريد الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق.
وقد قال تعالى: ِ{إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}. فهذه ست صفات في الصلاة من علامات
النفاق: الكسل عند القيام إليها, ومراءاة الناس في فعلها, وتأخيرها, ونقرها,
وقلة ذكر الله فيها, والتخلف عن جماعتها.
وعن أبي عبدالله الأشعري قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس
في طائفة منهم فدخل رجل منهم فقام يصلي وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه
وسلم ينظر إليه فقال: "ترون هذا لو مات ما مات على ملة محمد ينقر صلاقته
كما ينقر الغراب الدم إنما مثل الذي يصلي وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا
تمرة أو تمرتين فما يغنيان عنه فأسبغوا الوضوء وويل للأعقاب من النار فأتموا
الركوع والسجود".
وقال أبو صالح: فقلت: لأبي عبدالله الأشعري من حدثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء
الأجناد: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد ابن أبي سفيان كل
هؤلاء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو بكر ابن خزيمة في صحيحه
فأخبر أن نقار الصلاة لو مات مات على غير الإسلام.
وفي صحيح البخاري عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود
قال: ما صليت لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه
وسلم, ولو أخبر أن صلاة النقار صحت لما أخرجه عن فطرة الإسلام بالنقر. وقد جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم لص الصلاة وسارقها شرا من لص الأموال وسارقها.
ففي المسند من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ
الناس سرقة الذي يسرق من صلاته", قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال:
"لا يتم ركوعها ولا سجودها", أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع
والسجود". فصرح
|
|
بأنه
أسوأ حالا من سارق الأموال, ولا ريب أن لص الدين شر من لص الدنيا.
وفي المسند من حديث سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قاله الله
في المطففين". قال مالك: وكان يقال في كل شيء وفاء وتطفيف فإذا توعد الله سبحانه
بالويل للمطففين في الأموال فما الظن بالمطففين في الصلاة؟؟. وقد ذكر أبو جعفر
العقيلي عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة
فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له الصلاة حفظك الله كما حفظتني ثم يصعد
بها إلى السماء ولها ضوء ونور وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى الله تبارك
وتعالى فتشفع لصاحبها, وإذا ضيع وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له
الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني ثم يصعد بها إلى السماء فتغلقت دونها أبواب السماء
ثم تلف كما يلف الثوب الخلق ثم يضرب بها وجه صاحبها".
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى الشامي جاء الحديث: "إذا توضأ
فأحسن الصلاة ثم ذكره تعليقا".
فصل
وأما المسألة العاشرة وهي: مقدار صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهي: من أجل المسائل وأهمها وحاجة الناس إلى معرفتها أعظم من حاجتهم إلى الطعام
والشراب, وقد ضيعها الناس من عهد أنس بن مالك رضي الله عنه, ففي صحيح البخاري من
حديث الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: له ما يبكيك؟ فقال:
لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة, وهذه الصلاة قد ضيعت.
وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا مهدي عن غيلان عن أنس قال: ما أعرف شيئا مما كان
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: فالصلاة؟ قال: أليس قد ضيعتم ما
ضيعتم فيها؟ أخرجه البخاري عن موسى. وأنس رضي الله عنه تأخر حتى شاهد من إضاعة
أركان الصلاة وأوقاتها وتسبيحها في الركوع والسجود وإتمام تكبيرات الانتقال فيها
ما أنكره وأخبر أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بخلافه كما ستقف عليه
مفصلا إن شاء الله.
|
|
ففي
الصحيحن من حديث قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها، وفي
الصحيحين أيضا قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم زاد البخاري: وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه,
فوصف صلاته صلى الله عليه وسلم بالإيجاز والتمام. والإيجاز هو الذي كان يفعله,
لا الإيجاز الذي كان يظنه من لم يقف على مقدار صلاته؛ فإن الإيجاز أمر نسبي
إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه, فلما كان يقرأ في الفجر
بالستين إلى المئة كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى ست مئة إلى ألف, ولما قرأ في
المغرب بالأعراف كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى البقرة.
ويدل على هذا أن أنسا نفسه قال في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من
حديث عبدالله بن إبراهيم بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير
يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن
عبدالعزيز. فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات. وأنس أيضا هو
القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا ألو أن أصلى بكم كما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي بنا.
قال ثابت: كان أنسا يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من
الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى
يقول القائل قد نسي. وأنس هو القائل هذا. وهو القائل: ما صليت وراء إمام قط أخف
صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه لا يكذب بعضه بعضا. ومما
يبين ما ذكرناه ما رواه أبو داود في سننه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت
وحميد عن أنس بن مالك قال: ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله
عليه وسلم في تمام, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن
حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يباعد بين السجدتين حتى نقول:
قد أوهم. هذا سياق حديثه. فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين
الإخبار بإيجازه صلى الله عليه وسلم الصلاة وإتمامها وبين
|
|
فيه
أن من إتمامها الذي أخبر به إطاعة الاعتدالين حتى يظن الظان أنه قد أوهم أو نسي
من شدة الطول فجمع بين الأمرين في الحديث.
وهو القائل: ما رأيت أوجز من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتم, فيشبه
أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود والاعتدالين
بينهما؛ لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف
الركوع والسجود والاعتدالين, وسر ذلك أنه بإيحاز القيام وإطالة الركوع والسجود
والإعتدالين تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله: ما رأيت أوجز ولا
أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الذي كان يعتمده صلوات الله عليه وسلامه في صلاته فإنه كان يعدلها حيث
يعتدل قيامها وركوعها وسجودها واعتدالها.
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم
فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته
فجلسته بين التسليم والانصراف قريبا من السواء.
وفي لفظ لهما: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه وركوعه وإذا رفع
رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء, ولا يناقض هذا ما رواه
البخاري في هذا الحديث, كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وما بين
السجدتين وإذا رفع رأسه ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء, فإن البراء هو
القائل هذا وهذا, فإنه في السياق الأول أدخل في ذلك قيام القراءة وجلوس التشهد,
وليس مراده أنهما بقدر ركوعه وسجوده وإلا ناقض السياق الأول: الثاني, وإنما
المراد أن طولهما كان مناسبا لطول الركوع والسجود والاعتدالين بحيث لا يظهر
التفاوت الشديد في طول هذا وقصر هذا كما يفعله كثير ممن لا علم عنده بالسنة,
يطيل القيام جدا ويخفف الركوع والسجود.
وكثيرا ما يفعلون هذا في التراويح وهذا هو الذي أنكره أنس بقوله: ما صليت وراء
إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كثيرا من
الأمراء في زمانه كان يطيل القيام جدا فيثقل على المأمومين ويخفف
|
|
الركوع
والسجود والاعتدالين فلا يكمل الصلاة, فالأمران اللذان وصف بهما يروي رسول الله
صلى الله عليه وسلم هما اللذان كان الأمراء يخالفونهما وصار ذلك أعني تقصير
الاعتدالين شعارا حتى استحبه بعض الفقهاء وكره إطالتهما, ولهذا قال ثابت: وكان
يروي يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى
يقول القائل: قد نسي. فهذا الذي فعله أنس هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يفعله, وإن كرهه من كرهه فسنة رسول الله أولى وأحق بالاتباع. وقول البراء
في السياق الآخر: ما خلا القيام والقعود: بيان أن ركن القراءة والتشهد أطول من
غيرهما, وقد ظن طائفة أن مراده بذلك قيام الاعتدال من الركوع وقعود الفصل بين
السجدتين وجعلوا الاستثناء عائدا إلى تقصيرهما وبنوا على ذلك أن السنة تقصيرهما
وأبطل من غلا منهم الصلاة بتطويلهما, وهذا غلط فإن لفظ الحديث وسياقه يبطل هؤلاء
فإن لفظ البراء: كان ركوعه وسجوده وما بين السجدتين وإذا رفع رأسه وما خلا
القيام والقعود قريبا من السواء. فكيف يقول: وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا رفع
رأسه من الركوع: هذا باطل قطعا.
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد تقدم حديث أنس أنه صلى بهم صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقوم بعد الركوع حتى يقول القائل: قد نسي, وكان
يقول بعد رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء
السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد
وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولامعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك
الجد". رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
ورواه من حديث ابن أبي أوفى وزادفيه بعد قوله: من شيء بعد: "اللهم
طهرني بالثلج والبرد والماء البارد, اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى
الثوب الأبيض من الدنس", وكذلك كان هديه في صلاة الليل يركع قريبا من قيامه
ويرفع رأسه بقدر ركوعه ويسجد بقدر ذلك, ويمكث بين السجدتين بقدر ذلك, وكذلك فعل
في صلاة الكسوف أطال ركن الاعتدال قريبا من القراءة فهذا هديه الذي
|
|
كأنك
تشاهده وهو يفعله, وهكذا فعل الخلفاء الراشدون من بعده.
وقال زيد بن أسلم: كان عمر يخفف القيام والقعود ويتم الركوع والسجود, فأحاديث
أنس رضي الله عنه كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركوع
والسجود و الاعتدالين زيادة على ما يفعله أكثر الائمة بل كلهم إلاالنادر فأنس
أنكر تطويل القيام على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وقال: كانت
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة يقرب بعضها من بعض وهذا موافق لرواية
البراء بن عازب أنها كانت قريبا من السواء فأحاديث الصحابة في هذا الباب يصدق
بعضها بعضا.
فصل
وأما قدر قيامه للقراءة فقال أبو برزة الأسلمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين
الستين إلى المئة متفق على صحته.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن السائب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذت
النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع1.
وفي صحيح مسلم عن قطبة بن مالك: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في
الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}. وربما قال:
"ق".
وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
الفجر بـ{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}2. وكانت صلاته بعد تخفيفا, فقوله: وكانت
صلاته بعد تخفيفا أي بعد صلاة الصبح أخف من قراءتها, ولم يرد أنه كان بعد ذلك
يخفف قراءة الفجر عن {ق}, يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن سماك
عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى}, وفي العصر بنحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الآية التي فيها ذكر موسى وهارون هي رقم 45 والآية التي فيها ذكر عيسى هي رقم
50 ولولا السلعة لزاد.
2 عدد آياتها 45.
|
|
وفي
صحيح مسلم عن زهير عن سماك بن حرب قال: ِسألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء. قال: وأنبأني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}
ونحوها فأخبر أن هذا كان تخفيفه, وهذا مما يبين أن قوله: وكانت صلاته بعد تخفيفا
أي بعد الفجر, فإنه جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخفيف
وبين قراءته فيها بـ "سورة ق" ونحوها.
وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر
بـ "سورة الطور" قريبأ من سورة "ق".
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ سورة {وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً} فقالت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة فإنها لآخر ما سمعت من
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب1, فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر
ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل لم تكن من المهاجرين بل هي من
المستضعفين, كما قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله.
وفهذا السماع كان متأخرا بعد فتح مكة قطعا.
وفي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب
بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولي الطوليين,
وسأل ابن مليكة أحد رواته ما طولي الطوليين فقال: من قبل نفسه المائدة والأعراف.
ويدل على صحة تفسيره حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله قرأ في
صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في الركعتين. رواه النسائي.
وروى النسائي أيضا من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في
المغرب بالدخان, وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ بـ سورة "الطور" في المغرب. فأما العشاء فقال البراء
بن عازب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ} وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.
متفق عليه. .
9- صلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عدد آيات والمرسلات 50 آية
|
|
وفي
الصحيحن أيضا عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ سورة {إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فقلت له فقال سجدت بها خلف أبي القاسم فلا أزال
أسجد بها حتى ألقاه.
وفي المسند والترمذي من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ
في العشاء الآخرة بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور. قال الترمذي:
حديث حسن. وقال لمعاذ في صلاة العشاء الآخرة: اقرأ بـ سورة {وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا} و سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} و سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} متفق عليه.
وأما الظهر والعصر ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت صلاة الظهر
تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى
المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا
فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا
الآية أحيانا, وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية, ويقرأ في
الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. متفق عليه. ولفظه لمسلم.
وفي رواية البخاري: وكان يطلول الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية, وفي
رواية لأبي داود قال: فظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم.
قال سعد ابن أبي وقاص لعمر أما أنا فأمد في الأوليين وأخفف في الأخريين وما آلو
ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عمر: ذلك ظني بك.
رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في
الركعتين الأوليين من الظهر قدر سورة "الم تنزيل السجدة" وحزرنا قيامه
في الأخريين قدر النصف من ذلك, وحرزنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على
النصف من ذلك.
وفي رواية بدل قومه تنزيل السجدة: قدر ثلاثين آية, وفي الأخريين قدر
|
|
خمس
عشرة آية, وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة وفي الأخريين
قدر نصف ذلك. هذه الالفاظ كلها في صحيح مسلم.
وقد احتج به من استحب قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين وهو ظاهر الدلالة لو
لم يجيء حديث أبي قتادة المتفق على صحته أنه كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب
وسورتين وفي الأخريين بفاتحة الكتاب فذكر السورتين في الركعتين الأوليين
واقتصاره على الفاتحة في الأخريين يدل على اختصاص كل ركعتين بما ذكر من قراءتهما
وحديث سعد يحتمل لما قال أبو قتادة ولما قال أبو سعيد, وحديث أبي سعيد ليس صريحا
في قراءة السوره في الأخريين فإنما هو حزر وتخمين. وقال أبو جابر بن سمرة: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وفي
العصر نحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك رواه مسلم.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك رواه مسلم أيضا.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْبُرُوجِ}, {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوهما من السور. رواه أحمد و
أهل السنن. وفي سنن النسائي عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بنا الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
وفي السنن من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر ثم
قام فركع فرأينا أنه قرأ سورة تنزيل السجدة وفيه دليل على أنه لا يكره قراءة
السجدة في صلاة السر وأن الإمام إذا قرأها سجد ولا يخير المأمومون بين اتباعه
وتركه بل يجب عليهم متابعته.
وقال أنس: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتين السورتين
في الركعتين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ}. رواه النسائي, والصحابة رضي الله عنهم أنكروا على من كان يبالغ
في تطويل القيام وعلى من كان يخفف الأركان ولا سيما ركني الاعتدال, وعلى من كان
لا يتم التكبير وعلى من كان يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وعلى من كان يتخلف عن
جماعتها.
وأخبروا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما زال يصليها حتى مات, ولم
يذكر
|
|
أحد
منهم أصلا أنه نقص من صلاته في آخر حياته صلى الله عليه وسلم, ولا أن تلك الصلاة
التي كان يصليها منسوخة, بل استمر خلفاؤه الراشدون على منهاجه في الصلاة كما
استمروا على منهاجه في غيرها، فصلى الصديق صلاة الصبح فقرأ فيها بالبقرة كلها
فلما انصرف منها قالوا: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع, قال: لو طلعت لم
تجدنا غافلين, وكان عمر يصلي الصبح بالنحل ويونس وهود ويوسف ونحوها من السور.
قال المخففون: إنكم وإن تمسكتم بالسنة في التطويل فنحن أسعد بها منكم في
الإيجاز والتخفيف لكثرة الأحاديث بذلك وصحتها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالإيجاز والتخفيف وشدة غضبه على المطولين وموعظته لهم وتسميتهم منفرين فعن أبي
مسعود أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان
مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع أشد غضبا منه
يومئذ, ثم قال: "أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز
فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية
للبخاري: "فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة".
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أم أحدكم فليخفف فإن
فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض, وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". راواه
البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: له "أم
قومكم". قال: قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا, قال: "ادنه"
فأجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين
كتفي ثم قال: "أم قومك فمن أم قوما فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض
وإن فيهم الضعيف وإن فيهم ذا الحاجة فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء".
رواه مسلم.
وفي رواية: "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة", وقال أنس بن مالك: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكلمها, وفي لفظ: يوجز ويتم. متفق عليه.
وقال أنس أيضا: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة
|
|
رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه.
متفق عليه. وسياقه البخاري.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال: "أنت
إمامهم فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا". رواه الإمام
أحمد. و أهل السنن، ورواه أبو داود في سننه من حديث الجريري عن السعدي عن أبيه
أو عمه قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فكان يتمكن في ركوعه وسجوده
قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده ثلاثا. ورواه أحمد أيضا في مسنده.
وروى أبو داود في سننه من حديث ابن وهب: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي
العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم
فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فتلك بقاياهم في الصوامع والدريات, {وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}", هذا الذي في رواية اللؤلؤي
عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في
زمن عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة
مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة هي المكتوبة أو
شيء تنفلت بت. قال: إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد
عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار, {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}".
ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لننظر ونعتبر؟ قال: نعم, فركبوا جميعا فإذا بديار
باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها, قال: أتعرف هذه الديار؟ قال: ما
أعرفني بها وبأهلها, هؤلاء أهل ديار أهلكم البغي والحسد, إن الحسد يطفيء نور
الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني الكف القدم واللسان، والفرج
يصدق ذلك أو يكذبه. فأما سهل ابن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له
مسلم.
وأما ابن أبي العمياء من أهل بيت المقدس, وهو إن جهلت حاله فقد رواه
|
|
أبو
داود وسكت عنه, وهذا يدل على أنه حسن عنده. قالوا: وهذا يدل على أن الذي أنكره
أنس من تغيير الصلاة هو شدة تطويل الأئمة لها, وإلا تناقضت أحاديث أنس, ولهذا
جمع بين الإيجاز والإتمام.
وقوله: ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ظاهر في إنكاره التطويل, وقد جاء هذا مفسرا عن أنس نفسه, فروى النسائي من حديث
العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس بن مالك فقال: أصليتم؟ فقلنا:
نعم. قال: يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام قط أشبه بصلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا.
قال زيد: وكان عمر بن عبدالعزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام.
وهو حديث صحيح, وقد صرح به عمران بن الحصين لما صلى خلف علي بالبصرة قال عمران
لقد ذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت صلاة النبي صلى الله
عليه وسلم معتدلة, كان يخفف القيام والقعود, ويطيل الركوع والسجود, وهو حديث
صحيح.
وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لمعاذ لما
طول بقومه في العشاء الآخرة: "أفتان أنت" أو قال: "أفاتن
أنت"؟ ثلاث مرات, فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؛ فإنه يصلي وراءك الكبير
والصغير والضعيف وذو الحاجة". وعن معاذ بن عبدالله الجهني أن رجلا من جهينة
أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ} في الركعتين كلتيهما, فلا أدري سها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم
قرأ ذلك عمدا, رواه أبو داود.
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن حريث أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى}, وعن عقبة بن عامر قال: كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم
ناقته فقال لي: "ألا أعلمك سورتين لم يقرأ بمثلهما"؟ قلت: بلى,
فلعمني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}.
فلم يرني أعجب بهما. فلما نزل للصبح قرأ بهما ثم قال: "كيف رأيت يا
عقبة"؟.
|
|
وفي
رواية: "ألا أعلمك خير سورتين قرأنا"؟ قلت: بلى. قال: {قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ}. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}", فلما نزل صلى بهما
الغداة قال كيف ترى يا عقبة؟ رواه أحمد وأبو داود.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز
فيها فأنكروا عليه فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: أما إني دعوت
فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بت: "اللهم بعلمك الغيب
وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي
وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر
والغنى ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك, وأعوذ بك من ضراء مضرة ومن فتنة
مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".
قالوا: فأين هذه الأحاديث من أحاديث التطويل صحة وكثرة وصراحة. وحينئذ فيتعين
حملها على أنها في أول الإسلام لما كان في المصلين قله, فلما كثروا واتسعت رقعة
الإسلام شرع التخفيف وأمر به لأنه أدعى إلى القبول ومحبة العبادة فيدخل فيها
برغبة ويخرج منها باشتياق ويندر بها الوسواس فإنها متى طالت استولى الوسواس فيها
على المصلي فلا يفي ثواب إطالته بنقصان أجره.
قالوا: وكيف يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره من الائمة من
محبة الصحابة له والقيام خلفه لسماع صوته بالقرآن غضا كما أنزل وشدة رغبة القوم
في الدين وإقبال قلوبهم على الله وتفريغها له في العبادة ولهذا قال: "إن
منكم منفرين", ولم يكونوا ينفرون من طول صلاته صلى الله عليه وسلم فالذي
كان يحصل للصحابة خلفه في الصلاة كان يحملهم على أن يروا صلاته وإن طالت خفيفة
على قلوبهم وأبدانهمم فإن الإمام محمل المأمومين بقلبه وخشوعه وصوته وحاله فإذا
عرى من ذلك كله كان كلا على المأمومين وثقلا عليهم فليخفف من ثقله عليهم ما أمكنه
لئلا يبغضهم الصلاة.
قالوا: وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج لشدة تنطعهم في الدين
وتشددهم في العبادة بقوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع
صيامهم". ومدح الرفق وأهله وأخبر عن محبة الله له وأنه يعطي عليه ما لا
يعطي على العنف, وقال:
|
|
"لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه". وقال: "إن هذا
الدين متين فأوغلوا فيه برفق". فالدين كله في الاقتصاد في السبيل والسنة.
والله تعالى يحب ما دوام عليه العبد من الأعمال, والصلاة القصد هي التي يمكن
المداومة عليها دون المتجاوزة في الطول.
فصل
قال المكملون للصلاة أهلا وسهلا بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعلى الرأس والعينين وهل ندندن إلا حول الاقتداء به ومتابعة هديه وسنته ولا نضرب
سنته بعضها ببعض ولانأخذ منها ما سهل ونترك
منها ما شق علينا لكسل وضعف عزيمة واشتغال بدنيا قد ملأت القلوب وملكت الجوارح
وقرت بها العيون, بدل قرتها بالصلاة فصارت أحاديث الرخصة في حقها شبهة صادفت
شهوة وفتورا في العزم وقلة رغبة في بذل الجهد في النصحية في الخدمة واستسهلت حق
الله تعالى، وجعلت كرمه وغناه من أعظم شبهاتها في التفريط فيه وإضاعته وفعله
بالهوينا تحلة القسم. ولهجت بقولها: ما استقصى كريم حقه قط. وبقولها: حق الله
مبني على المسامحة والمساهلة والعفو, وحق العباد مبني على الشح والضيق
والاستقصاء فقامت في رحمة المخلوقين كأنها على الفرش الوثيرة والمراكب الهينة
وقامت في حق رحمة ربها وفاطرها كأنها على الجمر المحرق تعطيه الفضلة من قواها
وزمانها وتستوفي لأنفسها كمال الحظ ولم تحفظ من السنة إلا: "أفتان أنت يا
معاذ"؟, "أيها الناس إن منكم منفرين".
ووضع الحديث موضعه ولم تتأمل ما قبله وما بعده ومن لم تكن قرة عينه في الصلاة
ونعيمه وسروره ولذته فيها وحياة قلبه وانشراح صدره فإنه لا يناسبه إلا هذا
الحديث وأمثاله بل لا يناسبه إلا صلاة السراق والنقارين, فنقرة الغراب أولى به
من استفراغ وسعه في رحمة رب الأرباب, وحديث "أفتان أنت يامعاذ", الذي
لم يفهمه أولى به من حديث: "كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع
فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الركعة الأولى" وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الصبح بالمعوذتين وكان هذا
في السفر أولى به من حديث صلاته في الحضر بمئة آية إلى مئتين, وحديث صلاته صلى
الله عليه وسلم
|
|
المغرب
بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الذي انفرد
ابن ماجة بروايتة أولى به من الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بطولي الطوليين وهي الأعراف, فهو يميل من السنة إلى
ما يناسبه ويأخذ منها بما يوافقه ويتلطف لمن خشن في تأويل ما يخالفه ودفعه بالتي
هي أحسن, ونحن نبرأ إلى الله من سلوك هذه الطريقة ونسأله أن يعافينا مما ابتلى
به أربابها بل ندين الله بكل ما صح عن رسوله ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا فنقر
ما لنا على ظاهره, ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره, بل الكل لنا لا نفرق بين شيء
من سننه بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابله بالسمع والطاعة ونتبعها أين توجهت
ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها فليس الشأن في الأخذ ببعض سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وترك بعضها بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها
منزلته ووضعه بموضعه فنقول: وبالله التوفيق الإيجاز والتخفيف المأمور به
والتطويل المنهي عنه لا يمكن أن يرجع فيه إلى عادة طائفة و أهل بلد و أهل مذهب
ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم ولا إلى اجتهاد الأئمة الذين يصلون بالناس ورأيهم
في ذلك فإن ذلك لا ينضنبط وتضطرب فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب ويفسد وضع
الصلاة الرجعة مقدارها تبعا لشهوة الناس, ومثل هذا لا تأتي به شريعة بل المرجع
في ذلك والتحاكم إلى ما كان يفعله من شرع الصلاة للأمة وجاءهم بها من عند الله
وعلمهم حقوقها وحدودها وهيآتها وأركانها, وكان يصلي وراءه الضعيف والكبير
والصغير وذو الحاجة ولم يكن بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه فالذي كان يفعله
صلوات الله عليه وسلامه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}, وقد سئل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما
لك في ذلك من خير؟ فأعادها عليه فقال: كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع
فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه
وسلم في الركعة الأولى مما يطولها. رواه مسلم في الصحيح.
وهذا يدل على أن الذي أنكره أبو سعيد وأنس وعمران بن الحصين والبراء
|
|
ابن
عازب إنما هو حذف الصلاة والاختصار فيها والاقتصار على بعض ما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفعله, ولهذا لما صلى بهم أنس قال: إني لا آلو أن أصلي بكم صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه:
كان إذا انتصب قائما يقوم يقول القائل قد أوهم وإذا جلس بين السجدتين مكث حتى
يقول القائل قد أوهم, فهذا مما أنكره أنس على الائمة حيث كانوا يقصرون هذين
الركنين كما أنكر عليهم تقصير الركوع والسجود وأخبر أن أشبههم صلاة برسول الله
صلى الله عليه وسلم عمر بن عبدالعزيز فحزروا تسبيحه في الركوع والسجود عشرا عشرا
ومن المعلوم أنه لم يكن يسبحها هذا, مسرعا من غير تدبر فحالهم أجل من ذلك.
وقد بلى أنس بمن وهمه في ذلك كما بلى بمن وهمه في روايته ترك رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صلاته الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقالوا: كان صغيرا يصلي وراء
الصفوف فلم يكن يسمع جهره بها وكما بلى بمن وهمه في إحرام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالحج والعمرة معا, وقالوا: كان بعيدا منه لا يسمع إحرامه حتى قال
لهم: ما تعدونني إلا صبيا كنت تحت بطن ناقة رسول الله فسمعته يهل بهما جميعا,
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولأنس عشر سنين فخدمه واختص به وكان
يعد من أهل بيته, وكان غلاما كيسا فطنا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
رجل كامل له عشرون سنة, ومع هذا كله فيغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قراءته وقدر صلاه وكيفية إحرامه ويستمر غلطه على خلفائه الراشدين من بعده ويستمر
على صلاته في مؤخر المسجد حيث لا يسمع قراءة أحد منهم.
وقد اتفق الصحابة على أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فكان
ركوعه ورفعه منه وسجوده ورفعه منه مناسبا لقيامه, فإذا كان يقرأ في الفجر بمئة
آية إلى ستين آية فلا بد أن يكون ركوعه وسجوده مناسبا لذلك, ولهذا قال البراء ابن
عازب: إن ذلك كله كان قريبا من السواء, وقال عمران بن حصين كانت صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم معتدلة وكذلك كان
|
|
قيامه
بالليل وصلاة الكسوف, وقال عبدالله بن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات". رواه الإمام أحمد والنسائي.
فهذا أمره وهذا فعله المفسر له لا ما يظن الغالط المخطيء أنه كان يأمرهم
بالتخفيف ويفعل هو خلاف ما أمر بت, وقد أمر صلاة الله وسلامه عليه الائمة أن
يصلوا بالناس كما كان يصلي بهم.
ففي الصحيحين عن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن
شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما
رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: "ارجعوا
إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا, وصلاة كذا
في حين كذا, وإذاحضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم وصلوا كما
رأيتموني أصلي". والسياق للبخاري.
فهذا خطاب للأئمة قطعا وإن لم يختص بهم فإذا أمرهم أن يصلوا بصلاته وأمرهم
بالتخفيف علم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمر به. يوضح ذلك أنه ما من
فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا
بالنسبة إلى ماهو أخف منه. فلا حد له في اللغة يرجع فيه إليه وليس من الأفعال
العرفية التي يرجع فيها إلى العرف كالحرز والقبض وإحياء الموات والعبادات يرجع
إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيآتها كما يرجع إليه في أصلها فلو جاز الرجوع
في ذلك إلى عرف الناس وعوائدهم في مسمى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة
ومقاديرها اختلافا متباينا لا ينضبط, ولهذا لما فهم بعض من نكس الله قلبه أن
التخفيف المأمور به هو ما يمكن من التخفيف اعتقد أن الصلاة كلما خفت وأوجزت كانت
أفضل فصاركثير منهم يمر فيها مر السهم ولا يزيد على الله أكبر في الركوع والسجود
بسرعة ويكاد سجوده يسبق ركوعه وركوعه يكاد يسبق قراءته وربما ظن الاقتصار على
تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث.
ويحكى عن بعض هؤلاء أنه رأى غلاما له يطمئن في صلاته فضربه وقال:
|
|
لو
بعثك السلطان في شغل أكنت تبطئ في شغله مثل هذا الإبطاء؟ وهذا كله تلاعب بالصلاة
وتعطيل لها وخداع من الشيطان وخلاف لأمر الله ورسوله حيث قال تعالى: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ}. فأمرنا بإقامتها وهو الإتيان بها قائمة تامة القيام والركوع والسجود
والأذكار وقد علق الله سبحانه الفلاح بخشوع المصلى في صلاته فمن فاته خشوع
الصلاة لم يكن من أهل الفلاح, ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعا. بل لا
يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعا, وكلما قل خشوعة
اشتدت عجلته حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع ولا اقبال على
العبودية, ولا معرفة حقيقة العبودية والله سبحانه قد قال: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ}, وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}. وقال: {وَأَقِمِ
الصَّلاةَ}. وقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقال: {وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ} وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ},
وقال لموسى {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فلن تكاد تجد ذكر
الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقرونا بإقامتها فالمصلون في الناس قليل ومقيم
الصلاة منهم أقل القليل.
كما قال عمر رضي الله عنه: "الحاج قليل والركب كثير", فالعاملون
يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلة القسم, ويقولون يكفينا أدنى ما يقع
عليه الاسم وليتنا نأتي به ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على
الله جل جلاله بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم فليس من
عمد إلى أفضل ما يقدر عليه فيزينه ويحسنه ما استطاع ثم يتقرب به إلى من يرجوه
ويخافه كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه فيستريح منه ويبعثه إلى من لا يقع
عنده بموقع وليس من كانت الصلاة ربيعا لقلبه وحياة له وراحة وقرة لعينه وجلاء
لحزنه وذهابا لهمه وغمه ومفزعا له إليه في نوائبه ونوازله كمن هي سحت لجوارحه,
وتكليف له وثقل عليه فهي كبيرة على هذا وقرة عين وراحة لذلك.
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو
|
|
قلوبهم
من محبة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور العبد
في الصلاة وخشوعه فيها وتكميله لها واستفراغه وسعة في إقامتها وإتمامها على قدر
رغبته في الله تعالى.
قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من
الصلاة ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة فاعرف نفسك يا عبدالله
واحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك. فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر
الصلاة في قلبك. وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله
وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك فإذا وقف الاثنان بين يدي
الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء قد
امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات
فيرتع في رياض معاني القرآن, وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات
وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله
فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحسن بقربه من الله قربا لا نظير له ففرغ
قلبه له وأقبل عليه بكليته, وهذا الإقبال منه بين اقبالين من ربه فإنه سبحانه
أقبل عليه أولا, فانجذب قلبه إليه بإقباله؛ فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال
آخر أتم من الأول. وها هنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات تحصل لمن تفقه قلبه
في معاني القرآن وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعا من
صلاته ومحلا منها فإنه إذا انتصب قائما بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه
قيوميته, وإذا قال الله أكبر شاهد كبرياءه وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك
اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك شاهد بقلبه ربا منزها عن كل عيب سالما من كل نقص
محمودا بكل حمد فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك
اسمه, فلا يذكر على قليل إلا كثرة ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة
إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئا داحرا وكمال
|
|
الاسم
من كمال مسماه, فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء
فشأن المسمى أعلى وأجل, وتعالى جده أي ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة, وعلا شأنه
على كل شأن وقهر سلطانه على كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه
وربوبيته أو في الهيته أو في أفعاله أو في صفاته كما قال مؤمن الجن: {وَأَنَّهُ
تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}, فكم في هذه
الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها غير المعطل لحقائقها,
وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه الشديد واعتصم بحوله
وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه ويبعده عن قربه ليكون أسوأ حالا.
"فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقف هنيهة يسيرة ينتظر
جواب ربه له بقوله: "حمدني عبدي". فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ},
انتظر الجواب بقوله: "اثنى علي عبدي", فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ} انتظر جوابه: "يمجدني عبدي", فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور
نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم
النفوس لاستطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدني
وأثنى علي عبدي ومجدني عبدي", ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء
الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى وهي: الله والرب الرحمن, فشاهد قلبه من ذكر
اسم الله تبارك وتعالى إلها معبودا موجودا مخوفا لا يستحق العبادة غيره ولا
تنبغي إلا له, قد عنت له الوجوه وخضعت له الموجودات وخشعت له الأصوات {تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}, {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}.
وكذلك خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة
والنار, وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع وألزم العباد الأمر والنهي
وشاهد من ذكر اسمه رب العالمين قيوما. قام بنفسه وقام به كل شيء فهو قائم على كل
نفس بخيرها وشرها. قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه.
فالتدبير كله بيديه ومصير الامور كلها إليه, فمراسيم التدبيرات نازلة من
|
|
عنده
على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة
والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين {يَسْأَلُهُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}, لا مانع لما
أعطى ولا معطي لما منع ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا مبدل لكلماته تعرج
الملائكة والروح إليه وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه فيقدر المقادير ويوقت
المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائما بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.
ثم يشهد عند ذكر اسم الرحمن جل جلاله ربا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببا
إليهم بصنوف النعم, وسع كل شيء رحمة وعلما, وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا فوسعت
رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي فبلغت رحمته حيث بلغ علمه, فاستوى على عرشه
برحمته وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته وأرسل رسله برحمته وشرع شرائعه
برحمته وخلق الجنة برحمته والنار أيضا برحمته فإنها سوطه الذي يسوق به عباده
المؤمنين إلى جنته ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته, وسجنه الذي يسجن فيه
من خليقته.
فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعيظه من الرحمة البالغة والنعمة السابغة وما
في حشوها من الرحمة والنعمة فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده كما أن العبودية
هي السبب المتصل منهم به فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة, ومن أخص مشاهد
هذا الاسم شهود المصلي نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه, وأهله لعبوديته
ومناجاته وأعطاه ومنع غيره وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره وذلك من رحمته به.
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}, فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى
الملك الحق المبين فيشهد ملكا قاهرا قد دانت له الخليفة وعنت له الوجوه وذلت
لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز فيشهد بقلبه ملكا على عرش السماء مهيمنا
لعزته تعنو الوجوه وتسجد, وإذا لم تعطل حقيقة صفة الملك أطلعته على شهود حقائق
الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكه وجحد له فإن الملك الحق التام الملك
لا يكون إلا حيا قيوما سميعا بصيرا مدبرا قادرا متكلما آمرا ناهيا مستويا على
سرير
|
|
مملكته,
يرسل رسله إلى أقاصي مملكته بأوامره, فيرضى على من يستحق الرضا, ويثيبه ويكرمه
ويدنيه, ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه, فيعذب من يشاء ويرحم
من يشاء ويعطى من يشاء ويقرب من يشاء ويقصى من يشاء, له دار عذاب وهي النار, وله
دار سعادة عظيمة وهي الجنة. فمن أبطل شيئا من ذلك أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح
في ملكه سبحانه وتعالى ونفى عنه كماله وتمامه.
وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره فقد أنكر عموم ملكه وكماله فيشهد المصلي مجد
الرب تعالى في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة وهي متضمنة لأجل
الغايات وأفضل الوسائل, فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فلا معبود
يستحق العبادة إلا هو ولا معين على عبادته غيره, فعبادته أعلى الغايات وإعانته
أجل الوسائل, وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مئة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في
أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور, و جمع معانيها في القرآن وجمع
معانيه في المفصل وجمع معانيه في الفاتحة وجمع معانيها في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد: وهما توحيد
الربوبية وتوحيد الإلهية, وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله فهو يعبد بألوهيته
ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته
فكان أول السورة ذكر اسمه: الله والرب والرحمن تطابقا لأجل الطالب من عبادته
وإعانته وهدايته. وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله. لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي
سواه.
ثم يشهد الداعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شدة فاقته
وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة
فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين. وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا
بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه, والهداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق
القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب
للرب سبحانه وتعالى. وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله, ولما كان العبد
مفتقرا في كل حال إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من
|
|
أمور
قد أتاها على غير الهداية, فهو يحتاج إلى التوبة منها, وأمور هدى إلى أصلها دون
تفصيلها أو هدى إليها من وجه دون وجه, فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها ليزداد
هدى, وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في
الماضي, وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو يحتاج إلى الهداية فيها, وأمور لم
يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية, وأمور قد هدي إلى الاعتقاد الحق
والعمل الصواب فيها فهو محتاج إلى الثبات عليها.
إلى غير ذلك من أنواع الهدايات- فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في
أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة, ثم بين أن أهل هذه الهداية هم
المختصون بنعمتة دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه, ودون
الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم. فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه
وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم. فسبيل المنعم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها
علما وعملا.
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من
التأمين يكون كالخاتم له وافق فيه ملائكة السماء وهذا التأمين من زينة الصلاة
كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة واتباع للسنة وتعظيم أمر الله وعبودية اليدين
وشعار الانتقال من ركن إلى ركن. ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه واستماعه من
الإمام بالانصات وحضور القلب وشهوده.
وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام, فخصت
بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب جل جلاله, ولهذا نهى عن قراءة القرآن في
الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتضامن وانخفاض, ولهذا شرع فيهما من
الذكر ما يناسب هيئتهما فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه
وخضوعه, وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته فأفضل ما
يقول الراكع على الاطلاق: سبحان ربي العظيم, فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك
وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل
|
|
لهذا
الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}, قال: "اجعلوها في
ركوعكم". وأبطل كثير من أهل العلم صلاة من تركها عمدا, وأوجب سجود السهو
على من سها عنها, وهذا مذهب الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الحديث والسنة,
والأمر بذلك لا يقصر عن الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
ووجوبه لا يقصر عن وجوب مباشرة المصلي بالجبهة واليدين الركوع تعظيم الرب جل
جلاله بالقلب والقالب والقول, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما
الركوع فعظموا فيه الرب".
فصل
ثم يرفع رأسه عائدا إلى أكمل حديثه, وجعل شعار هذا الركن حمد الله والثناء
عليه وتحميده, فافتتح هذا الشعار بقول المصلي: "سمع الله لمن حمده"
أي: سمع سمع قبول وإجابة, ثم شفع بقوله: "ربنا ولك الحمد ملء السموات
والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء" ولا يهمل أمر هذه الواو في
قوله: "ربنا ولك الحمد"؛ فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين, وهي تجعل
الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما, فإن قوله: "ربنا" متضمن في
المعنى أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أزمة الأمور وإليه مرجعها فعطف على
هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا". قوله: "ولك الحمد"
فتضمن ذلك معنى قول الموحد: له الملك وله الحمد. ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته
قدرا وصفة فقال: "ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من
شيء" أي: قدر ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما, فهذا الحمد
قد ملأ الخلق الموجود وهو يملأ ما يخلقه الرب تبارك وتعالى بعد ذلك ما يشاؤه
فحمده قد ملأ كل موجود وملأ ما سيوجد فهذا أحسن التقديرين. وقيل: ما شئت من شيء
وراء العالم فيكون قوله بعد: للزمان على الأول, والمكان: على الثاني. ثم أتبع
ذلك بقوله: "أهل الثناء والمجد" فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح
به الصلاة قبل الركعة: من الحمد والثناء والمجد, ثم أتبع ذلك بقوله: "أحق
ما قال العبد" تقريرا لحمده وتمجيده والثناء عليه, وأن ذلك أحق ما نطق به
العبد, ثم أتبع
|
|
ذلك
بالاعتراف بالعبودية وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد ثم عقب ذلك بقوله: "لا
مانع لما أعطيت ولامعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد", وكان يقول
ذلك بعد انقضاء الصلاة أيضا, فيقوله في هذين الموضعين إعترافا بتوحيده ون النعم
كلها منه, وهذا يتضمن أمورا أحدها أنه المنفرد بالعطاء والمنع. الثاني: أنه إذا
أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه.
الثالث: أنه لاينفع عنده ولا يخلص من عذابه ولا يدني من كرامته جدود بني
آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك, إنما ينفعهم عنده
التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاتهز
ثم ختم ذلك بقوله: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد",
كما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح كما كان يختم الصلاة بالاستغفار وكان
الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها, فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار
وأنفع الدعاء من حمده وتمجيده والثناء عليه والاعتراف له بالعبودية والتوحيد
والتنصل إليه من الذنوب والخطايا فهو ذكر مقصود في ركن مقصود ليس بدون الركوع
والسجود.
فصل
ثم يكبر ويخر لله غير رافع يديه؛ لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه فهما
ينحطان لعبوديتهما فأغنى ذلك عن رفعهما, ولذلك لم يشرع رفعهما ثم رفع الرأس من
السجود؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه, وشرع السجود على أكمل الهيئة ومنعتها
في العبودية وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية,
والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات
له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته
وما قبله كالمقدمات له, ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وأفضل
الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله, ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب
إلى الإجابة. ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض, كان جديرا بأن لا يخرج عن
أصله
|
|
بل
يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه, فإن العبد لو ترك لطبعه ودواعي
نفسه لتكبر وأشر وخرج عن أصله الذي خلق منه ولوثب على حق ربه من الكبرياء
والعظمة فنازعه إياهما, وأمر بالسجود خضوعا لعظمة ربه وخشوعا له وتذللا بين يديه
وانكسارا له فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردا له إلى حكم العبودية ويتدارك
ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله فتمثل له حقيقة
التراب الذي خلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه, وقد صار أعلاه
أسفله خضوعا بين يدي ربه الأعلى وخشوعا له وتذللا لعظمته واستكانة لعزته وهذا
غاية خشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدم
واستعمله فيها ورده إليها ووعده بالإخراج منها فهي أمه وأبوه وأصله وفصله, فضمته
حيا على ظهرها وميتا وجعلت له طهرا ومسجدا فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر
وأجمع العبودية لسائر الأعضاء فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعا وخضوعا
وإلقاء باليدين.
وقال مسروق لسعيد بن جبير ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له,
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بوجهه قصدا بل إذا اتفق له ذلك
فعله. ولذلك سجد في الماء والطين, ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على
الأعضاء السبعة الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين. فهذا فرض أمر الله به
رسول وبلغه الرسول لأمته.
ومن كماله الواجب أو المستحب مباشرة مصلاه بأديم وجهه واعتماده على الأرض بحيث
ينالها ثقل رأسه وارتفاع أسافله على أعاليه, فهذا من تمام السجود ومن كماله أن
يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع فيقل بطنه عن فخذيه
وفخذيه عن ساقيه, ويجافي عضديه عن جنبيه ولا يفرشهما على الأرض ليستقل كل عضو
منه بالعبودية.
ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدا لله اعتزل ناحية يبكي ويقول: يا ويله أمر
ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. ولذلك
|
|
اثنى
الله سبحانه على الذين يخرون ثم سماع كلامه, وذم من لا يقع ساجدا عنده ولذلك كان
قول من أوجبه قويا في الدليل, ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون خروا سجدا
لربهم فكانت تلك السجدة أول سعادتهم وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر.
ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له فقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ
وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ}, فأخبر عن إيمانهم بعلوه وفرقيته وخضوعهم له بالسجود تعظيما
وإجلالا, وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ
حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
فالذي حق عليه العذاب هو الذي لا يسجد له سبحانه وهو الذي أهانه بترك السجود له,
وأخبر أنه لا مكرم له, وقد هان على ربه حيث لم يسجد له, وقال تعالى: {وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته
وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية متضمنة لاقسامها كانت أفضل أعمال العبد
ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه.
وكان السجود أفضل أركانها الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وكان تكرره في الصلاة
أكثر من تكرر سائر الأركان وجعله خاتمة الركعة وغايتها وشرع فعله بعد الركوع,
فإن الركوع توطئة له ومقدمة بين يديه, وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه
وهو قول: "العبد سبحان ربي الأعلى". فهذا أفضل ما يقال فيه, ولم يرد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره في السجود بغيره حيث قال: "اجعلوها في
سجودكم", ومن تركه عمدا فصلاته باطلة عند كثير من العلماء منهم الإمام أحمد
وغيره؛ لأنه لم يفعل ما أمر به وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية
المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال
سقوطه وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ونزه ربه عما لايليق به مما يضاد
عظمته وعلوه. ثم
|
|
لما
شرع السجود بوصف التكرار لم يكن بد من الفصل بين السجدتين ففصل بينهما بركن
مقصود شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة
والهداية والعافية والرزق, فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة ودفع شر الدنيا
والآخرة.
فالرحمة تحصل الخير, والمغفرة تقي الشر, والهداية توصل إلى هذا وهذا, والرزق
إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب وما به قوام الروح والقلب من العلم
والإيمان, وجعل جلوس الفصل محلا لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله والثناء
عليه والخضوع له فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بين يدي حاجته فهذا الركن مقصود
الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة؛ فإن العبد لما أتى
بالقيام والحمد والثناء والمجد ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه ثم عاد إلى
الحمد والثناء ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة بقي سؤال حاجته
واعتذاره وتنصله؛ فشرع له أن يتمثل في الخدمة فيقعد فعل العبد الذليل جاثيا على
ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبا راهبا معتذرا إليه مستعديا إليه
على نفسه الأمارة بالسوء.
ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة إلى إتمام الأربع, كما شرع له تكرير
الذكر مرة بعد مرة لأنه أبلغ في حصول المقصود وأدعى إلى الاستكانة والخضوع, فلما
أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها فالتابعون شرع له أن يجلس في آخر
صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثيا على ركبتيه ويأتي في هذه الجلسة
بأكمل التحيات وأفضلها عوضا عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه فإن
الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم, فبعضهم
يقول: أنعم صباحا, وبعضهم يقول: لك البقاء والنعمة, وبعضهم يقول: أطال الله
بقاءك. وبعضهم يقول: تعيش ألف عام, وبعضهم يسجد للملوك وبعضهم يسلم, فتحياتهم
بينهم تتضمن ما بحبه المحيى من الأقوال والأفعال والمشركون يحيون أصنامهم.
قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة, فلما
جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله
|
|
فالتحية
هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت وهوسبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه؛
فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي
الذي لا يموت ولا يزول ملكه, وكذلك قوله والصلوات فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا
الله عز وجل, والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك بت, وكذلك قوله والطيبات هي صفة
الموصوف المحذوف أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده فهو
طيب وأفعاله طيبة وصفاته أطيب شيء وأسماؤه أطيب الأسماء واسمه الطيب ولا يصدر
عنه إلا طيب ولا يصعد إليه إلا طيب ولا يقرب منه إلا طيب وإليه يصعد الكلم
الطيب, وفعله طيب والعمل الطيب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة
عنه ومنتهية إليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا
طيبا", وفي حديث رقية المريض الذي رواه أبو داود رقم وغيره: "أنت رب
الطيبين ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون", كما يقال: لأهل الجنة: {سَلامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}. وقد حكم سبحانه في شرعه وقدره
أن: الطيبات للطيبين, فإذا كان هو سبحانه الطيب على الاطلاق فالكلمات الطيبات
والأفعال الطيبات والصفات الطيبات والأسماء الطيبات كلها له سبحانه لا يستحقها
أحد سواه, بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه, فطيب كل ما سواه من آثار طيبته,
ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له, ولما كان السلام من أنواع التحية وكان
المسلم داعيا لمن يحييه وكان الله سبحانه هو الذي يطلب منه السلام لعباده الذين
اختصهم بعبوديته وارتضاهم لنفسه وشرع أن يبدأ بأكرمهم عليه وأحبهم إليه وأقربهم
منه منزلة في هذه التحية بالشهادتين اللتين هما مفتاح الإسلام فشرع أن يكون
خاتمة الصلاة فدخل فيها بالتكبير والحمد والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية
والإلهية وختمها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
وشرعت هذه التحية في وسط الصلاة, إذا زادت على ركعتين تشبيها لها بجلسة الفصل
بين السجدتين وفيها مع الفصل راحة للمصلي لاستقباله الركعتين الآخرتين
|
|
بنشاط
وقوة, بخلاف ما إذا والى بين الركعات, ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى وإن
تطوع بأربع جلس في وسطهن.
فصل
وجعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها فإن المصلي إذا
فرغ من صلاته جلس جلسة الراغب الراهب يستعطى من ربه ما لا غنى به عنه, فشرع له
أمام استعطائه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله, ثم يتبعها بالصلاة على من
نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته, فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه
بعبودتيه, ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة ثم الصلاة
على رسوله ثم قيل له تخير من الدعاء أحبه إليك فذاك الحق الذي عليك وهذا الحق
الذي لك, وشرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلا لقرة عينه بإكرام آله
والصلاة عليهم, وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم وآله والأنبياء
كلهم بعد إبراهيم من آله, ولذلك كان المطلوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
مثل الصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء بعده وآله المؤمنين, فلهذا كانت هذه
الصلاة أكمل ما يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وأفضل , فإذا
أتى بها المصلي أمر أن يستعيذ بالله من مجامع الشر كله فإن الشر إما عذاب الآخرة
وإما سببه فليس الشر إلا العذاب وأسبابه, والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ وعذاب
في الآخرة, وأسبابه الفتنة وهي نوعان: كبرى وصغرى, فالكبرى فتنة الدجال وفتنة
الممات, والصغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات وفتنة
الدجال, فإن المفتون فيهما لا يتداركها.
ثم شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته والدعاء في هذا
المحل قبل السلام أفضل من الدعاء بعد السلام وأنفع للداعي, وهكذا كانت عامة
أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في الصلاة من أولها إلى آخرها, فكان
يدعو في الاستفتاح أنواعا من الدعاء وبعد الركوع وبعد رفع رأسه منه وفي السجود
وبين
|
|
السجدتين
وفي التشهد قبل التسليم, وعلم الصديق دعاء يدعوا به في صلاته, وعلم الحسن بن علي
دعاء يدعو به في قنوت الوتر.
وكان إذا دعا لقوم أو على قوم جعله في الصلاة بعد الركوع ومن ذلك أن
المصلي قبل سلامه في محل المناجاة والقربة بين يدي ربه, فسؤاله في هذا الحال
أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يديه وقد سئل النبي صلى الله عليه
وسلم أي الدعاء أسمع فقال: "جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة". ودبر
الصلاة جزؤها الأخير كدبر الحيوان ودبر الحائط وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها
بقرينة تدل عليه كقوله: "تسبحون الله وتحمدونه وتكبرونه دبر كل صلاة ثلاثا
وثلاثين", فهنا دبرها الفراغ منها, وهذا نظير انقضاء الأجل, فإنه يراد له
آخرالمدة ولما يفرغ ويراد به فراغها وانتهاؤها.
فصل
ثم ختمت بالتسليم وجعل تحليلا لها يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج
منه, وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه
فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه
بالسلام, ثم شرع ذلك لكل مصل وإن كان منفردا فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة,
وكما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريما لها فتحريمها تكبير الرب تعالى, والجامع
لإثبات كل كمال له وتنزيه عن كل نقص وعيب وإفراده وتخصيصه بذلك وتعظيمه وإجلاله,
فالتكبير يتضمن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها, فالصلاة من أولها إلى
آخرها تفصيل لمضمون الله أكبر وأي تحريم أحسن من هذا التحريم المتضمن للإخلاص
والتوحيد, وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين فافتتحت بالاخلاص وختمت
بالإحسان.
فصل
قال المكملون للصلاة: فالصلاة وضعت على هذا النحو وهذا الترتيب لا يمكن أن يحصل
ما ذكرناه من مقاصدها التي هي جزء يسير من قدرها وحقيقتها إلا مع الإكمال
والإتمام والتمهل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله, ومحال حصول
|
|
ما
ذكرناه مع النقر والتخفيف الذي يرجع إلى شهوة الإمام والمأمومين, ومن أراد أن
يصلي هذه الصلاة الخاصة فلا بد له من مزيد تطويل. وأما الصلاة الحرجية فلا تتوقف
على ذلك.
وأما استدلالكم بأحاديث الأمر بالإيجاز فقد بينا أن الإيجاز هو الذي كان يفعله
وعليه داوم حتى قبضة الله إليه, فلا يجوز عير هذا البتة.
وأما قراءته في الفجر بالمعوذتين فهذا إنما كان في السفر كما هو مصرح به
في الحديث, والمسافر قد أبيح له أو أوجب عليه قصر الصلاة لمشقة السفر, فأبيح له
تخفيف أركانها, فهلا عملتم بقراءته في الحضر بمائة آية في الفجر, وأما قراءته صلاة
الله عليه وسلامه بسورة التكوير في الفجر فإن كان في السفر فلا حجة لكم فيه, وإن
كان في الحضر فالذي يحكى عنه ذلك روى عنه أنه كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة
وبـ "ق" ونحوها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل في الصلاة وهو يريد
إطالتها فيخففها لعارض من بكاء صبي وغيره. وأما حديث تسبيحه في الركوع والسجود
ثلاثا فلا يثبت, والأحاديث الصحيحة بخلافه, وهذا السعدي مجهول لا تعرف عينه ولا
حاله.
وقد قال أنس أن عمر بن عبدالعزيز كان أشبه الناس صلاة برسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان مقدار ركوعه وسجوده عشر تسبيحات, وأنس أعلم بذلك من السعدي عن أبيه أو
عمه لو ثبت. فأين علم من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين كوامل إلى
علم من لم يصل معه إلا بتلك الصلاة الواحدة أو صلوات يسيرة؟. فإن عم هذا السعدي
أو أباه ليس من مشاهير الصحابة المداومين الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كما لازمه أنس والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وزيد بن ثابت
وغيرهم ممن ذكر صفة صلاته وقدرها. وكيف يقوم صلى الله عليه وسلم بعد الركوع حتى
يقولوا قد نسي ويسبح فيه ثلاث تسبيحات فيجعل القيام منه بقدره أضعافا مضاعفة.
وكذلك جلوسه بين السجدتين حتى يقولوا قد أوهم, ولا ريب أن ركوعه وسجوده كان نحوا
من قيامه بعد الركوع وجلوسه بين السجدتين حتى تكرهوا إطالتها ويغلو من يغلو منكم
فيبطل الصلاة بإطالتهما. وقد شهد البراء بن عازب أن ركوعه وسجوده كان نحوا من
قيامه. ومحال أن يكون مقدار ذلك ثلاث
|
|
تسبيحات,
ولعله خفف مرة لعارض فشهده عم السعدي أو أبوه فأخبر به, وقد حكم النبي صلى الله
عليه وسلم أن طول صلاة الرجل من فقهه, وهذا الحكم أولى من الحكم له بقلة الفقه,
فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم الحق وما خالفه فهو الحكم الباطل
الجائر.
فروى مسلم في صحيحه من حديث عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة عن فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا
الخطبة". والمئنة: العلامة, وعند سراق الصلاة أن العجلة فيها من علامات
الفقه فكلما سرق ركوعها وسجودها وأركانها كان ذلك علامة فضيلته وفقهه, وفي صحيح
بن حبان وسنن النسائي عن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف المشي مع
الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة, فهذا فعله وذاك قوله في مثل صلاة الجمعة التي
يجتمع لها الناس, وكان يقرأ فيها سورة الجمعة والمنافقين كاملتين. ولم يقتصر على
الثلاث الآيات من آخرهما في جمعة واحدة أصلا, فعطل كثيرا من الناس سنته فاقتصر
على آخرهما, ولم يقرأ بهما كاملتين أصلا.
وكذلك كان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة "تنزيل السجدة". و{هَلْ أَتَى
عَلَى الْأِنْسَانِ} كاملتين في الركعتين مع قراءته المترسلة على مهله وتأن,
فعطل كثير من الائمة ذلك واقتصروا على هذه وهذه. وعلى إحدى السورتين في الركعتين
ومن يقرأ بهما كاملتين, فكثير منهم يقرأ بهما بسرعة. وهذا مكروه للإمام, وكل هذا
فرار من هديه صلى الله عليه وسلم.
فإن جاءهم حديث صحيح خالف ما ألفوه واعتادوه, قالوا: هذا منسوخ أو خلاف الإجماع,
والعيار على ذلك عندهم مخالفة أقوالهم, ولو كانت أحاديث التطويل منسوخة لكان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك, ولما احتجوا بها على من لم يعمل
بها ولاعمل بها أعلم الأمة به وهم الخلفاء الراشدون, فهذا صديق الأمة وشيخ
الإسلام صلى الصبح فقرأ البقرة من أولها إلى آخرها وخلفه والصغير الكبير وذو
الحاجة, فقالوا له: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع, فقال لو طلعت الشمس لم
تجدنا غافلين.
|
|
ومضى
على منهاجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب, وكان يقرأ في الفجر: "بالنحل
ويوسف وبهود ويونس وبني إسرائيل ونحوها من السور.
وقد تقدم حديث عبدالله بن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالتخفيف
ويؤمنا بالصافات. فالذي فعله هو الذي أمر به وقد تقدم حكاية الذكر والدعاء الذي
كان يقوله في ركن الإعتدال من الركوع وأنه كان يطيله حتى يقول من خلفه قد أوهم,
وتقدم حديث أبي سعيد في دخوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فيذهب الذاهب
إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله فيتوضأ ثم يأتي المسجد فيدركه في الركعة
الأولى, فيالله العجب للذي حرم الإقتداء به في ذلك أو جعله مكروها, ونحن نقول
كلا والذي بعثه بالحق إن الاقتداء به في ذلك مرضاة الله ورسوله وإن تركها من
تركها.
وأما حديث سعيد بن عبدالرحمن بن أبي العمياء ودخول سهيل بن أبي أمامة على أنس بن
مالك فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر, فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فهذا مما تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه المجهول, والأحاديث
الصحيحة عن أنس كلها تخالفه. كيف يقول أنس هذا؟ وهو القائل: إن أشبه من رأى صلاة
برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبدالعزيز وكان يسبح عشرا عشرا, وهو الذي
كان يرفع رأسه من الركوع حتى يقال قد نسي, وكذلك ما بين السجدتين. ويقول: ما آلو
أن أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الذي يبكي على إضاعتهم
الصلاة.
ويكفي في رد حديث ابن أبي العمياء ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة
التي لا مطعن في سندها ولا شبهة في دلالتها, فلو صح حديث ابن أبي العمياء وهو
بعيد عن الصحة لوجب حمله على أن تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة
الراتبة كسنة الفجر والمغرب والعشاء وتحية المسجد ونحوها, لا أن تلك صلاته التي
كان يصليها بأصحابه دائما وهذا مما يقطع ببطلانه وترده سائر الأحاديث الصحيحة
الصريحة.
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخفف بعض الصلاة.ٍ كما كان
يخف
|
|
سنة
الفجر حتى تقول عائشة أم المؤمنين: هل قرأ فيها بأم القرآن؟. وكان يخفف الصلاة
في السفر حتى كان ربما قرأ في الفجر بالمعوذتين, وكان يخفف إذا سمع بكاء الصبي, فالسنة
التخفيف حيث خفف, والتطويل حيث أطال, والتوسط غالبا, فالذي أنكره أنس هو التشديد
الذي لا يخفف صاحبه على نفسه مع حاجته إلى التخفيف, ولا ريب أن هذا خلاف سنته
وهديه.
وأما حديث معاذ وقوله: "أفتان أنت يا معاذ", فلم يتعلق السراق منه إلا
بهذه الكلمة ولم يتأملوا أول الحديث وآخره, فاسمع قصة معاذ:
فعن جابر بن عبد الله قال: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل, فوافق معاذ يصلي
فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ, فقرأ سورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل وبلغه أن
معاذا نال منه, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه معاذا, فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أفتان أنت"؟ أو قال: "أفاتن أنت ثلاث
مرات"؟ ثلاث مرات. "فلولا صليت: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فإنه يصلي
وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". رواه البخاري ومسلم ولفظه للبخاري.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل
حرام وهو يريد أن يسقي نخلة فدخل المسجد مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز في
صلاته ولحق بنخله يسقيه, فلما قضى معاذ الصلاة قيل له ذلك فقال: إنه لمنافق
أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخلة؟ قال فجاء حرام: النبي صلى الله عليه وسلم
ومعاذ عنده فقال: يا بنى الله إني أردت أن أسقي نخلا لي فدخلت المسجد لأصلي مع
القوم فلما طول تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه, فزعم أني منافق, فأقبل النبي
صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: "أفتان أنت؟ لا تطول بهم اقرأ {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها".
وعن معاذ بن رفاعة الأنصاري عن سليم من بني سلمة أنه أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ونكون في
أعمالنا بالنهار فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطول علينا, فقال رسول الله: "يا
معاذ بن جبل لا تكن فتانا, إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك".
|
|
ثم
قال: "يا سليم ما معك من القرآن"؟ قال: إني أسأل الله الجنة أو قال:
أسأل الجنة وأعوذ به من النار, والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ, فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله
الجنة ونعوذ به من النار". قال سليم: سترون غدا إذا التقى القوم إن شاء
الله وقال والناس يتجهزون إلى أحد فخرج فكان في الشهداء رحمه الله, رواه الإمام
أحمد.
فإن قيل فقد روى الإمام أحمد المسند من حديث بريدة أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه
صلاة العشاء فقرأ فيها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فقام رجل قبل أن يفرغ فصلى
وذهب فقال له معاذ قولا شديدا, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه
فقال: إني كنت أعمل في نخلي وخفت على الماء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صل بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور".
فقد أجيب عن هذا بأن قصة معاذ تكررت وهذا جواب في غاية البعد عن الصواب؛ فإن
معاذا كان أفقه في دين الله من أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعود
له, وأجود من هذا الجواب أن يكون قرأ في الركعة الأولى بالبقرة وفي الركعة
الثانية بـ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. فسمعه من صلى معه من الركعة الأولى فقال:
صلى بالبقرة, وبعضهم سمع قراءته في الثانية فقال: صلى بـ {اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ}.
والذي في الصحيحن أنه قرأ سورة البقرة وشك بعض الرواة فقال: البقرة والنساء,
وقصة قراءته بـ {اقْتَرَبَتِ} لم تذكر في الصحيح والذي في الصحيح أولى بالصحة
منها, وقد حفظ الحديث جابر, فقال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح سورة البقرة وذكر القصة, فهذا جابر أخبر أنه
فعل ذلك مرة وأنه قرأ بالبقرة ولم يشك, وهذا الحديث متفق على صحته أخرجاه.
فصل
وقد ظهر بهذا أن التعمق والتنطع والتشديد الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم هو المخالف لهديه وهدي أصحابه وما كانوا عليه وأن موافقته فيما فعله هو
وخلفاؤه من بعده هو محض المتابعة وإن أباها وجهلها من جهلها, فالتعمق والتنطع
مخالفة ما جاء به وتجاوزه والغلو فيه ومقابلة إضاعته والتفريط فيه والتقصير عنه
وهما خطأ وضلالة وانحراف عن الصراط المستقيم والمنهج القويم, ودين الله تعالى
بين الغالي فيه والجافي عنه.
|
|
وقد
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: خير الناس النمط الأوسط الذي يرجع إليهم
الغالي ويلحق بهم التالي. ذكره ابن المبارك عن محمد بن طلحة عن علي. وقال ابن
عائشة: ما أمر الله عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان, فإما إلى غلو وإما إلى
تقصير.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه, وقد مدح تعالى أهل التوسط
بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه, فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً},
وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا
كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
فمنع ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك, والتبذير
انحراف في جانب البذل, ورضاء الله فيما بينهما, ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم
وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين, والوسط دائما محمي الأطراف, أما
الأطراف فالخلل إليها أسرع كما قال الشاعر:
كانت
هي الوسط المحمي فاكتنفت
|
بها
الحوادث حتى أصبحت طرفا
|
فقد
اتفق شرع الرب تعالى وقدره على أن خيار الأمور أوساطها.
وأما قولهم: إن محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصوته وقراءته
يحملهم على احتمال إطالته فلا يجدون بها مشقة فلعمر الله إن الأمر كما ذكروا. بل
حبهم له يحملهم على بذل نفوسهم وأموالهم بين يديه, وعلى وقاية نفسه الكريمة
بنفوسهم فكانوا يتقدمون إلى الموت بين يديه تقدم المحب إلى رضاء محبوب.
ولعمر الله هذا شأن أتباعه من بعده إلى يوم القيامة لا تأخذهم في متابعة سنته
لومة لائم ولا يثنيهم عنها عذل عاذل فهم يحتملون في متابعته والإهتداء بهديه لوم
اللائمين وطعن الطاعنين ومعاداة الجاهلين الذين رضوا من سنته بآراء الرجال بدلا
وتمسكوا بها فلا يبغون عنها حولا, وعرضوا عليها نصوص السنة والقرآن عرض الجيوش
على السلطان فما وافقها قبلوه وما خالفها تلطفوا في رده بأنواع التأويل, فمرة
يقولون: هذا متروك الظاهر, ومرة يقولون: لا يعلم له قائل, ومرة يقولون:
|
|
هو
منسوخ, ومرة يقولون: متبوعنا أعلم به منا, وما خالفه إلا وقد صح عنده ما يقتضي
مخالفته, فأتباعه في مجاهده هذه الفرق دائبون, وعلى متابعة سنته دائرون. فإن كان
قد غاب عن أعينهم شخصه الكريم فقد شاهدوا ببصائرهم ما كان عليه من الهدي
المستقيم.
فصل
فهاك سياق صلاته من حين استقباله القبلة وقوله: الله أكبر, إلى حين سلامه كأنك
تشاهده عيانا, ثم اختر لنفسك بعد ما شئت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
قام إلى الصلاة واستقبل القبلة ووقف في مصلاه رفع يديه إلى فروع أذنيه واستقبل
بأصابعه القبلة ونشرها وقال: "الله أكبر", ولم يكن يقول قبل ذلك نويت
أن أصلي كذا وكذا مستقبل القبلة أربع ركعات فريضة الوقت أداء الله تعالى إماما.
ولا كلمة واحدة من ذلك في مجموع صلاته من أولها إلى آخرها فقد نقل عنه أصحابه
حركاته وسكناته وهيئاته حتى اضطراب لحيته في الصلاة حتى إنه حمل بنت ابنته مرة
في الصلاة فنقلوه ولم يهملوه, فكيف ينعق ملؤهم من أولهم إلى آخرهم على ترك نقل
هذا المهم الذي هو شعار الدخول في الصلاة ولعمر الله لو ثبت عنه من هذا كلمة
واحدة لكنا أول من اقتدى به فيها وبادر إليها, ثم كان يمسك شماله بيمينه فيضعها
عليها فوق المفصل ثم يضعها على صدره ثم يقول: "سبحانك اللهم باعد بيني وبين
خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب
الأبيض من الدنس اللهم أغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد".
وكان يقول أحيانا: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}1. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت
وأنا عبدك ظلمت نفسي وأعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت
واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أول المسلمين في عصره كما تقول: فلان أول مدرسته أي في هذا العام أو فلان أول
الثانوية العامة أي في هذا العام.
|
|
سيئها
لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك, أنا
بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك". ولكن هذا إنما حفظ عنه في
صلاة الليل, وربما كان يقول: "الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا, والحمد لله
كثيرا والحمد لله كثيرا, وسبحان الله بكرة وأصيلا". وربما كان يقول: "الله
أكبر الله أكبر لا إله الا أنت لا إله إلا أنت. سبحان الله وبحمده سبحان الله
وبحمده". ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وربما قال: "أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثه وهمزه". وربما قال: "اللهم إني
أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ فاتحة الكتاب. فإن
كانت الصلاة جهرية أسمعهم القراءة ولم يسمعهم بسم الله الرحمن الرحيم فربه أعلم
هل كان يقرؤها أم لا؟.
وكان يقطع قراءته آية آية: ثم يقف على {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يبتديء {الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} ويقف ثم يبتديء: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على ترسل وتمهل وترتيل
يمد "الرحمن" ويمد "الرحيم" وكان يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ} بالألف يعني: لا يقرأ "ملك" وهي قراءة, وإذا ختم السورة
قال: "آمين". يجهر بها ويمد بها صوته. ويجهر بها من خلفه حتى يرتج
المسجد.
واختلفت الرواية عنه هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السورة أم كانت سكتة بعد
القراءة كلها؟ فقال يونس عن الحسن عن سمرة: حفظت سكتتين سكتة إذا كبر الإمام حتى
يقرأ, وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب, وسكتة عند الركوع. وصدقه أبي بن كعب على
ذلك. ووافق يونس أشعث الحمراني عن الحسن فقال: سكتة إذا استفتح وسكتة إذا فرغ من
القراءة كلها.
وخالفهما قتادة فقال عن الحسن أن سمرة بن جندب وعمران بن الحصين تذاكرا فحدث
سمرة أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا
فرغ من قراءة: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقط فحفظ ذلك سمرة
وأنكر عليه عمران بن حصين فكتبا في ذلك إلى أبي كعب فكان في كتابه أن سمرة قد
حفظ.
وقال قتادة أيضا عن الحسن عن سمرة: سكتتان حفظتها عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
|
|
إذا
دخل في الصلاة وإذا فرغ من القراءة, ثم قال بعد: وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقد اتفقت الأحاديث أنهما سكتتان فقط, إحداهما:
سكتة الافتتاح, والثانية: مختلف فيها, فالذي قال: إنها بعد قراءة الفاتحة هو
قتادة. وقد أختلف عليه سمرة فمرة قال ذلك ومرة قال من القراءة, ولم يختلف على
يونس وأشعث أنها بعد فراغه من القراءة كلها, وهذا أرجح الروايتين, والله اعلم.
وبالجملة فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه كان
يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها من خلفه, وليس في سكوته في هذا المحل إلا هذا
الحديث المختلف فيه كما رأيت, ولو كان يسكت هنا سكتة طويلة يدرك فيها قراءة
الفاتحة لما اختفى ذلك على الصحابة ولكان معرفتهم به ونقلهم أهم من سكتة
الافتتاح ثم يقرأ بعد ذلك سورة طويلة تارة وقصيرة تارة ومتوسطة تارة كما تقدم
ذكر الأحاديث به, ولم يكن يبتديء من وسط السورة ولا من آخرها وإنما كان يقرأ من
أولها فتارة يكملها وهو أغلب أحواله وتارة يقتصر على بعضها ويكملها في الركعة
الثانية, ولم ينقل أحد عنه أنه قرأ بآية من سورة أو بآخرها إلا في سنة الفجر
فإنه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْنَا} الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية.
وكان يقرأ بالسورة في الركعة وتارة يعيدها في الركعة الثانية وتارة يقرأ سورتين
في الركعة, أما الأول فكقول عائشة: إنه قرأ في المغرب بالأعراف فرقها في
الركعتين. وأما الثاني: فقراءته في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين
كلتيهما: والحديثان في السنن. وأما الثالث فكقول ابن مسعود: ولقد عرفت النظائر
التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهما فذكر عشرين سورة من المفصل:
سورتين في ركعة, وهذا في الصحيحين, وكان يمد قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر
الصلوات -وأقصر ما حفظ عنه أنه كان يقرأ بها فيها فى الحضر "ق"
ونحوها, وكان يجهر بالقراءة في الفجر, والأوليين من المغرب والعشاء, ويسر فيما
سوى ذلك, وربما كان يسمعهم الآية في قراءة السر أحيانا.
|
|
وكان
يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {الم تَنْزِيلُ} "السجدة" و {هَلْ أَتَى}
كاملتين ولم يقتصر على إحداهما ولا على بعض هذه وبعض هذه فقط, وكان يقرأ في صلاة
الجمعة بسورة "الجمعة" و المنافقون" كاملتين ولم يقتصر على
أواخرهما, وربما كان يقرأ بسورة "الأعلى" و "الغاشية" وكان
يقرأ في العيدين بسورة "ق" و "اقتربت الساعة" كاملتين ولم
يقتصر على أواخرهما, وكان يقرأ في صلاة السر سورة فيها السجدة أحيانا فيسجد
للسجدة ويسجد معه من خلفه, وكان يقرأ في الظهر قدر: {الم تَنْزِيلُ}
"السجدة" أونحو ثلاثين آية, ومرة كان يقرأ فيها بـ {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوها من السور. ومرة بـ
"لقمان" "والذاريات". وكان يقوم في الركعة الأولى منها حتى
لا يسمع وقع قدم.
وكذلك كان يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية, وكانت قراءتة في العصر في
الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية, وكان يقرأ في المغرب بالأعراف
تارة وبالطور تارة والمرسلات تارة وبالدخان تارة.
وروي عنه أنه قرأ فيها بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ} تفرد به ابن ماجه, ولعل أحد رواته وهم من قراءته بهما في سنة
المغرب, فكان يقرأ بهما في سنة المغرب فقال: كان يقرأ بهما في المغرب أو سقطت
"سنة" من النسخة والله أعلم.
وكان يقرأ في عشاء الآخرة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وسورة {إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ويسجد فيها جميع من خلفه وبـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}
ونحو ذلك من السور, وكان إذا فرغ من القراءة سكت هنيهة ليرجع إليه نفسه.
فصل
ثم كان يرفع يديه إلى أن يحاذي بهما فروع أذنيه كما رفعهما في الاستفتاح, صح عنه
ذلك كما صح التكبير للركوع, بل الذين رووا عنه رفع اليدين ههنا أكثر من الذين
رووا عنه التكبير, ثم يقول الله أكبر ويخر راكعا ويضع يديه على ركبتيه فيمكنهما
من ركبتيه وفرج بين أصابعه وجافى مرفقيه عن جنبيه ثم اعتدل وجعل رأسه حيال ظهره
فلم يرفع رأسه ولم يصوبه, وهصر ظهره- أي مده- ولم يجمعه, ثم قال: "سبحان
ربي العظيم".
|
|
وروى
عنه أنه كان يقول: "سبحان ربي العظيم وبحمده". قال أبو داو: وأخاف أن
لا تكون هذه الزيادة محفوظة, وربما مكث قدر ما يقول
القائل عشر مرات وربما مكث فوق ذلك ودونه, وربما قال: "سبحانك اللهم وبحمدك
اللهم اغفر لي", وربما قال: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح",
وربما قال: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع
قلبي وسمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين", وربما كان
يقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة", وكان ركوعه
مناسبا لقيامه في التطويل والتخفيف وهذا بين في سائر الأحاديث.
فصل
ثم كان يرفع رأسه قائلا: "سمع الله لمن حمده", ويرفع يديه كما يرفعهما
عند الركوع فإذا اعتدل قائما قال: "ربنا لك الحمد" وربما قال: "اللهم
ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت منم شيء بعد أهل الثناء
والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما
منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وربما زاد على ذلك: "اللهم طهرني
بالثلج والبرد والماء البارد, اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب
الأبيض من الوسخ", وكان يطيل هذا الركن حتى يقول القائل: قد نسي. وكان يقول
في صلاة الليل فيه: "لربي الحمد لربي الحمد".
فصل
ثم يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه وكان يضع ركبتيه قبل يديه هكذا قال عنه وائل
بن حجر وأنس بن مالك, وقال عنه ابن عمر: إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه, واختلف
على أبي هريرة, ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا
يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه".
وروى عنه المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليبدأ
بركبتيه قبل يديه". فأبو هريرة قد تعارضت الرواية عنه, وحديث وائل وابن عمر
قد تعارضا فرجحت طائفة حديث ابن عمر ورجحت طائفة حديث وائل بن حجر, وسلكت طائفة
مسلك النسخ, وقالت: كان الأمر الأول وضع اليدين قبل الركبتين, ثم
|
|
نسخ
بوضع الركبتين أولا. وهذه طريقة ابن خزيمة في ذكر الدلائل على الأمر بوضع اليدين
عند السجود منسوخ, فإن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ.
ثم روى من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن
سلمة عن مصعب بن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل
اليدين؛ وهذا لو ثبت لكان فيه الشفاء لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاري:
"عنده مناكير", وقال ابن معين: "ليس بشيء لا يكتب حديثه"
وقال النسائي: "متروك الحديث".
وهذه القصة مما وهم فيها يحيى أو غيره وإنما المعروف عن مصعب بن سعد عن أبيه نسخ
التطبيق في الركوع بوضع اليدين على الركبتين, فلم يحفظ هذا الراوي وقال المنسوخ
وضع اليدين قبل الركبتين, قال السابقون باليدين قد صح حديث ابن عمر فإنه من
رواية عبيدالله عن نافع عنه, قال ابن أبي داود وهو قول أهل الحديث؛ قالوا وهم
أعلم بهذا من غيرهم فإنه نقل محض؛ قالوا: وهذه سنة رواها أهل المدينة وهم أعلم
بها من غيرهم.
قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان أحدهما: محمد بن عبدالله بن حسن عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. والثاني: الدراوردي عن عبيدالله عن نافع عن ابن
عمر وقالوا: وحديث وائل بن حجر له طريقان وهما معلومان في أحدهما شريك تفرد بت؛
قال الدارقطني: "وليس بالقوي فيما يتفرد به" والطريق الثاني: من رواية
عبدالجبار بن وائل عن أبيه ولم يسمع من أبيه.
قال السابقون بالركبتين: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر, قال
البخاري: حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة لا يتابع عليه فيه محمد بن
عبدالله بن الحسن قال: ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا, وقال الخطابي: حديث
وائل بن حجر أثبت منه, قال: وزعم بعض العلماء أنه منسوخ ولهذالم يحسنه الترمذي
وحكم بغرابته وحسن حديث وائل. قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: "لا يبرك
كما يبرك البعير":, والبعير إذا برك بدأ بيديه قبل ركبتيه, وهذا النهي لا
يمانع قوله: "وليضع يديه قبل ركبتيه" بل ينافيه ويدل
|
|
على
أن هذه الزيادة غير محفوظة, ولعل لفظها انقلب على بعض الرواة, قالوا: ويدل على
ترجيح هذا امران آخران:
أحدهما: ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة, وفي لفظ: "نهى أن يعتمد الرجل
على يديه إذا نهض في الصلاة", ولا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد
عليهما فيكون قد أوقع جزءا من الصلاة معتمدا على يديه بالأرض, و أيضا فهذا
الاعتماد بالسجود نظير الاعتماد في الرفع منه سواء, فإذا نهى عن ذلك كان نظيره
كذلك. الثاني: أن المصلي في انحطاطه ينحط منه إلى الأرض الأقرب إليها أولا ثم الذي
من فوقه ثم الذي من فوقه حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه وهو وجهه, فإذا رفع رأسه من
السجود ارتفع أعلى ما فيه أولا ثم الذي دونه حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه,
والله أعلم.
فصل
ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه, ويستقبل بأصابع يديه
ورجليه القبلة, وكان يعتمد على إليتي كفيه ويرفع مرفقيه ويجافي عضديه عن جنبيه
حتى يبدو بياض إبطيه ويرفع بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه, ويعتدل في سجوده
ويمكن وجهه من الأرض مباشرا به للمصلى ساجدا على كور العمامة.
قال أبو حميد الساعدي وعشرة من الصحابة يسمعون كلامه: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه,
فإذا أراد أن أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه, ثم قال: "الله
أكبر" فرفع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنعه ووضع يديه على ركبتيه وقال:
"سمع الله لمن حمده" ثم رفع واعتدل حتى رجع كل عضو في موضعه معتدلا,
ثم هوى ساجدا وقال: "الله أكبر" ثم جافى وفتح عضديه عن بطنه وفتح
أصابع رجليه ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم موضعه
معتدلا, ثم هوى ساجدا وقال: "الله أكبر" ثم ثنى رجله وقعد عليها حتى
يرجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك حتى إذا قام من
السجدتين كبر ورفع
|
|
يديه
حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة ثم صنع كذلك حتى إذا كانت
الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم.
وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى".
وروي أنه كان يزيد عليها: "وبحمده", وربما قال: "اللهم إني
لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصورة وشق سمعه وبصوره, تبارك
الله أحسن الخالقين". وكان يقول أيضا: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم
اغفر لي", وكان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت",
وكان يقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح", وكان يقول: "اللهم
اغفر لي ذنبي كله دقة وجله و أوله وآخره وعلانيته وسره", وكان يقول: "اللهم
إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت
كما أثنيت على نفسك". وكان يجعل سجوده مناسبا لقيامه ثم يرفع رأسه قائلا: "الله
أكبر" غير رافع يديه ثم يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويضع
يديه على فخذيه ثم يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني
وارزقني" وفي لفظ: "وعافني" بدل "واجبرني" هذا حديث
ابن عباس.
وقال حذيفة كان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي", والحديثان في السنن
وكان يطيل هذه الجلسة حتى يقول القائل قد أوهم أو قد نسي.
فصل
ثم يكبر غير رافع يديه ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى, ثم يرفع رأسه
مكبرا وينهض على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه وفخذيه.
وقال مالك بن الحويرث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من
صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا, فهذه تسمى جلسة الاستراحة لا ريب أنه صلى الله
عليه وسلم فعلها, ولكن هل فعلها على أنها من سنن الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره
أو لحاجته إليه لما أسن وأخذه اللحم؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين:
أحدهما أن فيه جمعا بينه ويبن حديث وائل بن حجر وأبي هريرة أنه كان ينهض
على صدور قدميه.
الثاني: أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته
كانوا ينهضون على صدور أقدامهم فكان عبدالله بن مسعود
|
|
يقوم
على صدور قدميه في الصلاة ولايجلس رواه البيهقي عنه.
ورواه عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري من رواية عطية العوفي
عنهم وهو صحيح عن ابن مسعود ولم يكن يرفع يديه في هذا
القيام, وكان إذا استتم قائما أخذ القراءة ولم يسكت وافتتح قراءته بـ {الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإذا جلس في التشهد الأول مفترشا كما يجلس بين
السجدتين ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على فخذه اليمنى وأشار
بأصبعه السبابة ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة وجعل بصرة إلى موضع
إشارته وكان يرفع أصبعه السبابة ويحنيها قليلا يوحد بها ربه عز وجل.
وذكر أبو داود من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هكذا
الاخلاص" يشير بأصبعه التي تلي الإبهام, وهكذا الدعاء فرفع يديه مدا حذو
منكبيه -وهكذا الابتهال- فرفع يديه مدا وقد روي موقوفا, ثم كان يقول: "التحيات
لله والصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله", وكان يعلمه أصحابه كما يعلمهم القرآن.
وكان أيضا يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله", هذا تشهد
ابن عباس والأول تشهد ابن مسعود وهو أكمل؛ لأن تشهد ابن مسعود يتضمن جملا
متغايرة وتشهد ابن عباس جملة واحدة, و أيضا فإنه في الصحيحين وفيه زيادة الواو,
وكان يعلمهم إياه كما يعلمهم القرآن.
وروى ابن عمر عنه: "التحيات لله الصلوات الطيبات", وفيه أنواع أخركلها
جائزة, وكان يخفف هذه الجلسة حتى كأنه جالس على الرضف, وهي الحجارة المحماة, ثم
يكبر وينهض فيصلي الثالثة والرابعة ويخففهما عن الأوليين وكان يقرأ فيهما بفاتحة
الكتاب وربما زاد عليها أحيانا.
فصل
وكان إذا قنت لقوم أو على قوم يجعل قنوته في الركعة الأخيرة بعد رفع رأسه من
الركوع, وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصبح.
وقال حميد عن أنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاته
يدعو
|
|
على
رعل وذكوان, وقال ابن سيرين قلت: لأنس قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة
الصبح قال: نعم بعد الركوع يسيرا, وقال ابن سيرين عن أنس: قنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على عصية متفق على هذه
الأحاديث, فهؤلاء أعلم الناس بأنس قد حكوا عنه أن قنوته كان بعد الركوع وحميد هو
الذي روى عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: "كنا نقنت قبل الركوع وبعده",
والمراد بهذا القنوت طول القيام, وقد أخبر أبو هريرة مثل ما أخبر به أنس سواء
أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع لما قال: "سمع الله لمن حمده"
قال قبل أن يسجد: "اللهم نج عياش ابن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن
هشام والمستضعفين من المؤمنين"-متفق عليه.
وقال ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من
الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلانا وفلانا -بعد ما
يقول- سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد". فقد اتفقت الأحاديث أنه قنت بعد
الركوع وأنه قنت لعارض ثم تركه ثم قال أنس: القنوت في المغرب والفجر رواه
البخاري.
وقال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر والمغرب,
رواه مسلم. وقنت أبو هريرة في الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء الآخرة وصلاة
الصبح بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده" يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار,
وقال: لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره البخاري.
وقال أحمد وصلاة العصر مكان صلاة العشاء, وقال ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة
إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم ويؤمن من
خلفه, ذكره أبو داود وقد اتفقت الأحاديث كما ترى على أنه في الركعة الأخيرة بعد
الركوع وأنه عارض لا راتب.
وفي صحيح مسلم عن أنس قنت يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه.
وعند الإمام أحمد قنت شهرا ثم تركه, وقال أبو مالك الأشجعي قلت: لأبي يا أبت إنك
قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر عمر وعثمان وعلي بالكوفة
ههنا قريبا خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال أي بني إنه محدث!
|
|
قال
الترمذي: هذا صحيح ورواه النسائي, ولفظه: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم يقنت, وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت وصليت خلف عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان
فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت, ثم قال يا بني بدعة! فمن كره القنوت في الفجر
احتج بهذه الأحاديث وبقول أنس ثم تركه, قالوا: فهو منسوخ, ومن استحبه قبل الركوع
فحجته الآثار عن الصحابة والتابعين بذلك.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء عن أبي مغفل أنه
قنت في الفجر قبل الركوع، وقال: مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقنت في
الفجر قبل الركوع.
وقال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقنت قبل الركوع. قال أصبع بن الفرج
والحارث بن مسكين وابن أبي العمر حدثنا عبدالرحمن بن القاسم قال: سئل مالك عن
القنوت في الصبح أي ذلك أعجب إليك؟ قال: الذي أدركت الناس عليه, وهو أمر الناس
القديم القنوت قبل الركوع, قلت: أي ذلك تأخذ في خاصة نفسك؟ قال: القنوت قبل
الركوع, قلت: فالقنوت في الوتر, قال: ليس فيه قنوت.
فصل
ومن استحبه بعد الركوع فذهب إلى الأحاديث التي صرحت بأنه بعد الركوع وهي صحاح
كلها, قال الأثرم قلت: لأبي عبدالله يقول أحد في حديث أنس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قنت قبل عاصم الأحول؟ قال: ما عملت أحدا يقوله غيره خالف عاصما. قلت:
هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع والتميمي عن
أبي مجلز عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع, وأيوب عن محمد
قال: سألت أنسا وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه, قيل لأبي عبد الله وسائر
الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ قال: بلى كلها خفاف أين كانت وأبو هريرة,
قلت: لأبي عبد الله فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع؟ وإنما صحت الأحاديث بعد
الركوع فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع, وفي الوتر نختاره بعد الركوع ومن قنت
قبل الركوع فلا بأس
|
|
لفعل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه, فأما في الفجر فبعد الركوع
والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القنوت في النوازل ثم تركه، ففعله
سنة وتركه سنة. وعلى هذا دلت جميع الأحاديث وبه تتفق السنة.
قال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن القنوت في أي صلاة؟ قال: في الوتر بعد الركوع,
فإن قنت رجل في الفجر اتباع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت دعاء
للمستضعفين فلا بأس, فإن قنت رجل بالناس يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس.
وقال إسحاق الحربي: سمعت أبا ثور يقول لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: ما تقول في
القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبدالله: إنما يكون القنوت في النوازل. فقال له أبو
ثور: أي نوازل أكثر من هذه النوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت.
وقال الأثرم: سألت أبا عبدالله عن القنوت في الفجر فقال: نعم في الأمر يحدث, كما
قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم, قلت: له ويرفع صوته؟ قال: نعم ويؤمن
من خلفه كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعت أبا عبدالله يقول:
القنوت في الفجر بعد الركوع. وسمعته قال لما سئل عن القنوت في الفجر فقال: إذا
نزل بالمسلمين أمر قنت الإمام وأمن من خلفه. ثم قال: مثل ما نزل بالناس من هذا الكافر.
يعني بابك.
وقال عبد القدوس بن مالك العطار: سألت أبا عبداله أحمد بن حنبل فقلت: إني رجل
غريب من أهل البصرة وإن قوما قد اختلفوا عندنا في أشياء وأحب أن أعلم رأيك فيما
اختلفوا فيه, قال سل عما أحببت, قلت: فإن بالبصرة قوما يقنتون كيف ترى في الصلاة
خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت وخلف من لا يقنت, فإن زاد
في القنوت حرفا أو دعا بمثل "إنا نستعينك" أو "عذابك الجد"
أو "نحفد", فإن كنت في الصلاة فاقطعها.
فصل
وشرع لأمته أن يصلوا عليه في التشهد الأخير فيقولوا: "اللهم صل على محمد
وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وآل محمد كما
باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" وأمرهم أن يتعوذوا بالله من عذاب النار
وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال, وعلم الصديق أن
|
|
يدعو
في صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" وكان من آخر ما
يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما
أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت القمدم وأنت المؤخر لا إله إلا
أنت". ثم كان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله" وعن
يساره: "السلام عليكم ورحمة الله" وروى ذلك خمسة عشر صحابيا, وكان إذ
اسلم قال: "استغفر الله ثلاثا اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام لا إله الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
قدير, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لا
إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله
إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
وشرع لأمته التسبيح والتحميد عقيب كل صلاة، وروى عنه النسائي من حديث أبي أمامة
أنه قال: "من قرأ آية الكرسي عقيب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن
يموت".
فصل
وكان يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين دائما, ولما شغل عنهما يوما صلاهما بعد
العصر, وندب إلى أربع بعدها فقال: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع
ركعات بعدها حرمه الله على النار", قال الترمذي: حديث صحيح, ولم ينقل عنه
أنه كان يصلي قبل العصر. حديث صحيح. وفي السنن عنه أنه قال: "رحم الله امرا
صلى قبل العصر أربعا", وكان يصلي بعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين
وقبل الصبح ركعتين, فهذه اثنتا عشرة ركعة سننا راتبة, والفرائض سبع عشرة ركعة.
وكان يصلي من الليل عشر ركعات, وربما صلى اثنتي عشرة ركعة ويوتر بواحدة, فهذه
أربعون ركعة ورده دائما: الفرائض وسننها وقيام الليل والوتر, ولم يكن من سننه
الدعاء بعد الصبح والعصر, وإنما كان من هديه الدعاء في الصلاة وقبل السلام منها
كما تقدم, والله أعلم.
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق