الثلاثاء، 21 يونيو 2022

ج3. الصلاة وأحكام تاركها المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)

 

ج3. الصلاة وأحكام تاركها
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)


عشرة مسائل تتعلق بالصلاة الأولى ذنب ترك الصلاة أعظم من القتل والزنا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ما يقول السادة العلماء الذين وفقهم الله وأرشدهم وهداهم وسددهم في تارك الصلاة عامدا هل يجب قتله أم لا؟ وإذا قتل فهل يقتل كما يقتل المرتد والكافر فلا يغسل ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين أم يقتل حدا مع الحكم بإسلامه وهل تحبط الأعمال وتبطل بترك الصلام أم لا وهل تقبل صلاة النهار الليل وصلاة الليل بالنهار أم لا وهل تصح صلاة من صلى وحده وهو يقدر على الصلاة جماعة أم لا وإذا صحت هل يأثم بترك الجماعة أم لا وهل يشترط حضور المسجد أم يجوز فعلها في البيت وما حكم من نقر الصلاة ولم يتم ركوعها وسجودها وما كان مقدار صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حقيقة التخفيف الذي نبه عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "صل بهم صلاة أخفهم" وما معنى قوله لمعاذ: "أفتان أنت"؟.
والمسؤول سياق صلاته صلى الله عليه وسلم من حين كان يكبر إلى ان يفرغ منها سياقا مختصرا كأن السائل يشهده فأرشد الله من دل على سواء السبيل وجمع بين بيان الحكم والدليل وما أخذ الله الميثاق على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ الميثاق على أهل العلم أن يعلموا ويبينوا.
أجاب الشيخ الإمام العلامة بقية السلف ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الخلد متقلبه ومثواه.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليما كثيرا.

(1/30)


لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من اعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن اثمه ثم الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة ثم اختلفوا في قتله وفي كيفية قتله وفي كفره.
فأفتى سفيان بن سعيد الثوري وأبو عمرو الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واصحابهم بأنه يقتل ثم اختلفوا في كيفية قتله فقال جمهورهم يقتل بالسيف ضربا في عنقه وقال بعض الشافعية يضرب بالخشب إلى ان يصلي أو يموت وقال ابن سريج ينخس بالسيف حتى يموت لأنه ابلغ في زجره وأرجى لرجوعه.
والجمهور يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وضرب العنق بالسيف أحسن القتلات وأسرعها إزهاقا للنفس وقد سن الله سبحانه في قتل الكفار المرتدين ضرب الأعناق دون النخس بالسيف وإنما شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع فجعلت غلظة في مقابلة قوة الداعي ولأن في تذكيرا لعقوبة الله لقوم الفاء بالرجم بالحجارة على ارتكاب الفاحشة.
"فصل"
وقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وابو حنيفة وداود بن علي والمزاني يحبس حتى يموت أو يتوب ولا يقتل واحتج لهذا المذهب بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه البخاري.
وعن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء

(1/31)


مسلم يشهد أن لا إله الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة". أخرجاه في الصحيحين.
قالوا ولأنها من الشرائع العملية فلا يقتل بتركها كالصيام والزكاة والحج قال الموجبون لقتله قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأمر بقتلهم حتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ومن قال لا يقتل تارك الصلاة يقول متى تاب من شركه سقط عنه القتل وإن لم يقم الصلاة ولا آتى الزكاة وهذا خلاف ظاهر القرآن.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال بعث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وهو ظاهرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة فقال رجل يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" ثم ولى الرجل فقال خالد ابن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" فقال خالد فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر ان أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المانع من قتله كونه يصلي فدل على أن من لم يصل يقتل ولهذا قال في الحديث الآخر نهيت عن قتل المصلين أبو داود رقم والطبراني في الكبير مجمع الزوائد وهو يدل على المصلين لم ينهه الله عن قتلهم.
وروى الإمام أحمد والشافعي في مسنديهما مسند الإمام أحمد ومسند الإمام الشافعي رقم من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه اتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" فقال الأنصاري: بلى يا رسول الله ولا شهادة له قال: "أليس يشهد أن محمدا رسول الله" قال: بلى ولا شهادة له قال: "أليس يصلي الصلاة" قال: بلى ولا صلاة له قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" فدل على أنه لم ينهه عن قتل من لم يصل.
وفي صحيح مسلم رقم عن ام سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء

(1/32)


فتعرفون وتنكرون فمن انكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع" فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم فقال: "لا ما صلوا".
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". فوجه الاستدلال به من وجهين أحدهما أنه أمر بقتالهم إلى أن يقيموا الصلاة الثاني قوله: "إلا بحقها" والصلاة من أعظم حقها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم قد حرمت علي دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله". رواه الإمام أحمد المسند وابن خزيمة في صحيحه رقم فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه امر بقتالهم إلى أن يقيموا الصلاة وأن دماءهم وأموالهم إنما تحرم بعد الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فدماؤهم وأموالهم قبل بل هي مباحة.
وعن أنس بن مالك قال لما توفي رسول الله ارتد العرب فقال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل العرب فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". رواه النسائي وهو حديث صحيح.
وتقييد هذه الأحاديث يبين مقتضى الحديث المطلق الذي احتجوا به على ترك القتل مع أنه حجة عليهم فإنه لم يثبت العصمة للدم والمال إلا بحق الإسلام والصلاة آكد حقوقه على الاطلاق.
وأما حديث ابن مسعود وهو لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث البخاري رقم مسلم رقم فهو حجة لنا في المسألة فإنه جعل منهم "التارك لدينه" والصلاة ركن الدين الأعظم ولا سيما إن قلنا بأنه كافر فقد ترك الدين بالكلية وإن لم يكفر فقد ترك عمود الدين.
قال الإمام أحمد وقد جاء في الحديث لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة

(1/33)


راجع طبقات الحنابلة وقد كان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
قال فكل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ورغبتهم في الإسلام على القادر رغبتهم في الصلاة فاعرف نفسك يا عبد الله واحذر أن تلقي الله ولا قدر للإسلام عندك فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك.
وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة عمود الدين" المقاصد الحسنة رقم ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط ولم ينتفع بالطنب ولا بالأوتاد وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد وكذلك الصلاة من الإسلام.
وجاء في الحديث "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت منه صلاته تقبل منه سائر عمله وإن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله" مجمع الزوائد فصلاتنا آخر ديننا وهي أول ما نسأل عنه غدا من اعمالنا يوم القيامة فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام هذا كله كلام أحمد. والصلاة أول فروض الإسلام وهي آخر ما يفقد من الدين فهي أول الإسلام وآخره فإذا ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه وكل شيء ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه. قال الإمام أحمد كل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه والمقصود أن حديث عبد الله بن مسعود: " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه". من أقوى الحجج في قتل تارك الصلاة.
"فصل"
في اختلاف القائلين بقتل تارك الصلاة واختلف القائلون بقتله في مسائل إحداها: أنه هل يستتاب أم لا فالمشهور أنه يستتاب فإن تاب ترك وإلا قتل هذا قول الشافعي وأحمد

(1/34)


وأحد القولين في مذهب مالك وقال أبو بكر الطرطوشي في تعليقه مذهب مالك أنه يقال له صل ما دام الوقت باقيا فإن فعل ترك وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل وهل يستتاب أم لا قال بعض اصحابنا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وقال بعضهم لا يستتاب لأن هذا حد من الحدود يقام عليه فلا تسقطه التوبة كالزاني والسارق وهذا القول يلزم من قال يقتل حدا فإنه إذا كان حده على ترك الصلاة القتل كان كمن حده القتل على الزنا والمحاربة والحدود تجب ولا تسقطها التوبة بعد الرفع إلى الإمام.
وأما من قال يقتل لكفره فلا يلزمه هذا لأنه جعله كالمرتد وإذا أسلم سقط عنه القتل قال الطرطوشي وهكذا حكم الطهارة والغسل من الجنابة والصيام عندنا فإذا قال لا أتوضأ ولا أغتسل من الجنابة ولا أصوم قتل ولم يستتب سواء قال هي فرض علي أو جحد فرضها. قلت: هذا الذي حكاه الطرطوشي عن بعض اصحابه أنه يقتل استتابة هو رواية عن مالك.
وفي استتابه المرتد روايتان عن أحمد وقولان للشافعي ومن فرق بين المرتد وبين تارك الصلاة في الاستتابة فاستتاب المرتد دون تارك الصلاة كإحدى الروايتين عن مالك يقول الظاهر أن المسلم لا يترك دينه إلا لشبهة عرضت له تمنعه البقاء عليه فيستتاب رجاء زوالها والتارك للصلاة مع إقراره بوجوبها عليه لا مانع له فلا يمهل.
قال المستتيبون له: هذا قتل لترك واجب شرعت له الاستتابة فكانت واجبة كقتل الردة قالوا بل الاستتابة هاهنا أول ى لان احتمال رجوعه اقرب لأن التزامه للإسلام يحمله على التوبة مما يخلصه في الدنيا والآخرة وهذا القول هو الصحيح لأن اسوأ أحواله أن يكون كالمرتد وقد اتفق الصحابة على قبول توبة المرتدين ومانعي الزكاة.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا يعم المرتد وغيره والفرق بين قتل هذا حدا وقتل الزاني والمحارب أن قتل تارك

(1/35)


الصلاة إنما هو على إصراره على الترك في المستقبل وعلى الترك في الماضي بخلاف المقتول في الحد فإن سبب قتله على الحد لأنه لم يبق له سبيل إلى تداركها وهذا له سبيل الاستدراك بفعلها بعد خروج وقتها ثم الأئمة الأربعة وغيرهم ومن يقول من أصحاب أحمد لا سبيل له إلى الاستدراك كما هو قول طائفة من السلف يقول القتل ها هنا على ترك فيزول الترك بالفعل فأما الزنا والمحاربة فالقتل فيهما على فعل والفعل الذي مضى لا يزول بالترك.

(1/36)


"فصل"
المسألة الثانية: أنه لا يقتل حتى يدعى إلى فعلها فيمتنع فالدعاء إليها لا يستمر ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت ولم يأمر بقتالهم ولم يأذن في قتلهم لأنهم لم يصروا على الترك فإذا دعي فامتنع لا من عذر حتى يخرج الوقت تحقق تركه وإصراره.

(1/36)


"فصل"
المسألة الثالثة: بماذا يقتل هل بترك صلاة أو صلاتين أو ثلاث صلوات هذا فيه خلاف بين الناس فقال سفيان الثوري ومالك وأحمد في إحدى الروايات يقتل بترك صلاة واحدة وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وحجة هذا القول ما تقدم من الاحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة.
وقد روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله". رواه الإمام أحمد في مسنده.
وعن أبي الدرداء قال أوصاني أبو القاسم أن لا أترك الصلاة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة رواه عبد الرحمن ابن أبي حاتم في سننه مجمع الزوائد ووباله ولأنه إذا دعي إلى فعلها في وقتها فقال لا أصلي ولا عذر له فقد ظهر إصراره فتعين إيجاب قتله وإهدار دمه واعتبار التكرار ثلاثا ليس عليه دليل من نص ولا إجماع ولا قول صاحب وليس أولى من اثنتين.
وقال إسحاق بن منصور المعروف بالكوسج من أصحاب أحمد إن كانت الصلاة المتروكة تجمع إلى ما بعدها كالظهر والعصر والمغرب والعشاء لم يقتل حتى يخرج وقت الثانية لأن وقتها وقت

(1/36)


الأولى في حال الجمع فأورث شبهة هاهنا وإن كانت لا تجمع إلى ما بعدها كالفجر والعصر وعشاء الآخرة قتل بتركها وحدها إذ لا شبهة ها هنا في التأخير وهذا القول حكاه إسحاق عن عبد الله بن المبارك أو عن وكيع بن الجراح الشك من اسحاق في تعيينه. قال أبو البركات بن تيمية: والتسوية أصح وإلحاق التارك ها هنا بأهل الأعذار في الوقت لا يصح كما لم يصح إلحاقه بهم في أصل الترك.
قلت: وقول إسحاق اقوى وافقه لأنه قد ثبت أن هذا الوقت للصلاتين في الجملة فأورث ذلك شبهة في إسقاط القتل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من قتل الأمراء المؤخرين الصلاة عن وقتها وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر وقد يؤخرون العصر إلى آخر وقتها ولما قيل له ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" فدل على أن ما فعلوه صلاة يعصمون بها دماءهم.
"فصل"
وعلى هذا فمتى دعي إلى الصلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وإن لم يتضيق وقت الثانية نص عليه الإمام أحمد.
وقال القاضي محمد بن الحسين أبو يعلى وأصحابه كأبي الخطاب محفوظ بن محمد الكلواذاني وابن عقيل لا يقتل حتى يتضايق وقت التي بعدها قال الشيخ أبو البركات ابن تيمية من دعي إلى صلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وإن لم يتضيق وقت الثانية نص عليه.
قال وإنما اعتبرنا تضايق وقت الثانية في المثال الذي ذكره يعني أبا الخطاب لأن القتل بتركها دون الأولى لأنه لما دعي إليها كانت فائتة والفوائت لا يقتل تاركها ولفظ أبي الخطاب الذي أشار إليه فإن أخر الصلاة حتى خرج وقتها جاحدا لوجوبها كفر ووجب قتله فإن أخرها تهاونا لا جحودا لوجوبها دعي إلى فعلها فإن لم يفعلها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله فالتي أخرها تهاونا هي التي أخرها حتى خرج وقتها فدعي إليها بعد خروج وقتها فإذا امتنع من فعلها حتى تضايق وقت الآخرة التي بعدها كان قتله بتأخير الصلاة التي دعي إليها حتى تضايق وقتها.

(1/37)


هذا تقرير ما ذكره الشيخ قال وقال بعض أصحابنا يقتل لترك الأول ي ولترك قضاء كل فائتة إذا أمكنه عذر لأن القضاء عندنا على الفور فعلى هذا لا يعتبر تضايق وقت الثانية قال والأول أصح لأن قضاء الفوائت موسع على التراخي ثم الشافعي وجماعة من العلماء والقتل لا يجب في مختلف في إباحته وحظره.
وعن أحمد رواية أخرى أنه إنما يجب قتله إذا ترك ثلاث صلوات وتضايق وقت الرابعة وهذا اختيار الإصطخري من الشافعية ووجه هذا القول أن الموجب للقتل هو الإصرار على ترك الصلاة والإنسان قد يترك الوقوف لكسل أو ضجر أو شغل يزول قريبا ولا يدوم فلا يسمى بذلك تاركا للصلاة فإذا كرر الترك مع الدعاء إلى الفعل علم أنه إصرار. وعن أحمد رواية ثالثة أنه يجب قتله بترك صلاتين ولهذه الرواية مأخذان: "أحدهما" أن الترك الموجب للقتل هو الترك المتكرر لا مطلق الترك حتى يطلق عليه أنه تارك الصلاة وأقل ما يثبت به الترك المتكرر مرتين.
"المأخذ الثاني" أن الصلاة ما تجمع إحداهن إلى الأخرى فلا يتحقق تركها إلا بخروج وقت الثانية فجعل ترك الوقوف موجبا للقتل.
وأبو إسحاق وافق هذه الرواية في المجموعتين.
"فصل"
وحكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة واستقبال القبلة وستر العورة حكم تارك الصلاة وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه هو كترك الصلاة وكذلك ترك الركوع والسجود وإن ترك ركنا أو شرطا مختلفا فيه وهو يعتقد وجوبه فقال ابن عقيل حكمه حكم تارك الصلاة ولا بأس أن نقول بوجوب قتله وقال الشيخ أبو البركات ابن تيمية عليه الإعادة ولا يقتل من أجل ذلك بحال فوجه قول ابن عقيل أنه تارك للصلاة ثم نفسه وفي عقيدته فصار كتارك الزكاة طاعة المجمع عليه ووجه قول أبي البركات ابن تيمية أنه لا يباح الدم بترك المختلف في وجوبه وهذا أقرب إلى مأخذ الفقه وقول ابن عقيل أقرب إلى الأصول

(1/38)


فإن تارك ذلك عازم وجازم على باطلة فهو كما لو ترك مجمعا عليه وللمسألة غور بعيد يتعلق بأصول الإيمان وأنه من أعمال القلوب واعتقادها.
"فصل"
في حكم تارك الجمعة روى مسلم في صحيحه رقم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقوم يتخلفون عن الجمعة "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
وعن أبي هريرة وابن عمر أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: على أعواد منبره " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين". رواه مسلم في صحيحه.
وفي السنن كلها أبو داود من حديث أبي الجعد الضمري وله البغوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه". رواه الإمام أحمد من حديث جابر.
وأخطأ على الشافعي من نسب إليه القول بأن صلاة الجمعة فرض على الكفاية إذا قام بها قوم سقطت عن الباقين فلم يقل الشافعي هذا قط فإنما غلط عليه من نسب ذلك إليه بسبب قوله في صلاة العيد إنها تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة بل هذا نص من الشافعي أن صلاة العيد واجبة على الأعيان.
وهذا هو الصحيح في الدليل فإن صلاة العيد من اعاظم شعائر الإسلام الظاهرة ولم يكن يتخلف عنها أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ولو كانت سنة لتركها ولو مرة واحدة كما ترك قيام رمضان بيانا لعدم وجوبه وترك الوضوء لكل صلاة بيانا لعدم وجوبه وغير ذلك.
وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أمر بالعيد كما أمر بالجمعة فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} سورة الكوثر الآية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يغدوا إلى مصلاهم لصلاة العيد معه إن فات وقتها وثبت الشهر بعد الزوال أبو داود رقم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العواتق1 وذوات الخدور وذوات الحيض أن يخرجن إلى العبد وتعتزل الحيض المصلي البخاري رقم مسلم رقم ولم يأمر بذلك في الجمعة قال شيخنا ابن تيمية فهذا يدل على ان العيد آكد من الجمعة
__________
1 جمع عائق وهي البكر التي بلغت سن الزواج ولم تتزوج.

(1/39)


وقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة". لا ينفي صلاة العيد فإن الصلوات الخمس وظيفة اليوم والليلة وأما العيد فوظيفة العام ولذلك لم يمنع ذلك من وجوب ركعتي الطواف ثم كثير من الفقهاء لأنها ليست من وظائف اليوم والليلة المتكررة ولم يمنع وجوب صلاة الجنازة ولم يمنع من وجوب سجود التلاوة ثم من أوجبه وجعله صلاة ولم يمنع من وجوب صلاة الكسوف ثم من أوجبها من السلف وهو قول قوي جدا.
والمقصود أن الشافعي رحمه الله نص على أن من وجبت عليه الجمعة وجب عليه العيد ولكن قد يقال إن هذا لا يستفاد منه وجوبه على الأعيان فإن فرض الكفاية يجب على الجميع لبعض بفعل البعض وفائدة ذلك تظهر في مسألتين إحداهما أنه لو اشترك الجميع في فعله أثيبوا ثواب من أدى الواجب لتعلق الوجوب الثانية لو اشتركوا في تركه استحق الجميع الذم والعقاب فلا يلزم من قوله تجب صلاة العيد على من تجب عليه صلاة الجمعة أن تكون واجبة على الأعيان كالجمعة فهذا يمكن أن يقال ولكن ظاهر تشيبه العيد بالجمعة والتسوية بين من تجب عليه الجمعة ومن يجب عليه العيد يدل على استوائهما في الوجوب ولا يختلف قوم أن الجمعة واجبة على الأعيان فكذا العيد.
والمقصود بيان حكم تارك الجمعة قال أبو عبد الله ابن حامد ومن جحد وجوب الجمعة كفر فإن صلاها أربعا مع اعتقاد وجوبها قال فإن قلنا هي ظهر مقصورة لم يكفر وإلا كفر حكم تارك الصوم والحج والزكاة وهل يلحق تارك الصوم والحج والزكاه بتارك الصلاة في وجوب قتله فيه ثلاث روايات عن الإمام أحمد:
إحداها: يقتل بترك ذلك كله كما يقتل بترك الصلاة وحجة هذه الرواية أن الزكاة والصيام والحج من مباني الإسلام فيقتل بتركها جميعا كالصلاة ولهذا قاتل الصديق مانعي الزكاة وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة إنها لقرينتها في كتاب الله".
وأيضا فإن هذه المباني من حقوق الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر برفع القتال إلا عمن التزم كلمة الشهادة وحقها وأخبر أن عصمة الدم لا تثبت إلا بحق

(1/40)


الإسلام فهذا قتال للفئة الممتنعة والقتل للواحد المقدوم عيله إنما هو لتركه حقوق الكلمة وشرائع الإسلام وهذا أصح الأقوال.
والرواية الثانية: لا يقتل الصلاة بترك غير الصلاة، لأن الصلاة عبادة بدنية لا تدخلها النيابة بحال، والحج والصوم والزكاة تدخلها النيابة.
ولقول عبد الله بن شقيق كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة الترمذي رقم ولأن الصلاة قد اختصت من سائر الأعمال بخصائص ليست لغيرها فهي أول ما فرض الله من الإسلام ولهذا امر النبي صلى الله عليه وسلم نوابه ورسله ان يبدؤوا بالدعوة إليها بعد الشهادتين.
فقال لمعاذ: "ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة". ولأنها أول ما يحاسب عليها العبد من عمله ولأن الله فرضها في السماء ليلة المعراج ولأنها أكثر الفروض ذكرا في القرآن ولأن أهل النار لما يسألون {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} سورة المدثر الآية لم يبدؤوا ترك الصلاة ولأن فرضها لا يسقط عن العبد بحال دون حال ما دام عقله معه بخلاف سائر الفروض فإنها تجب في حال دون حال ولأنها عمود فسطاط الإسلام وإذا سقط الفسطاط وقع الفسطاط ولأنها آخر ما يفقد من الدين ولأنها فرض على الحر والعبد والذكر والأنثى والحاضر والمسافر والصحيح والمريض والغني والفقير ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من إجابة إلى الإسلام إلا بالتزام الصلاة كما قال قتادة عن يروي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من اجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولأن قبول سائر الأعمال موقوف على فعلها فلا يقبل الله من تاركها صوما ولا حجا ولا صدقة ولا جهادا ولا شيئا من الأعمال كما قال عون بن عبد الله إن العبد إذا دخل قبره سئل عن صلاته أول شيء يسأل عنه فإن جازت له نظر فيما سوى ذلك من عمله وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد ويدل على هذا الحديث الذي في المسند والسنن من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد من عمله يحاسب بصلاته فإن صلحت فقد

(1/41)


أفلح وأنجح وأن فسدت فقط فقد خاب وخسر". ولو قبل منه شيء من أعمال البر لم يكن من الخائبين الخاسرين.
الرواية الثالثة: يقتل بترك الزكاة والصيام ولا يقتل بترك الحج لأنه مختلف فيه هل هو على الفور أو على التراخي فمن قال هو على التراخي قال كيف يقتل بأمر موسع له في تأخيره.
وهذا المأخذ ضعيف جدا لأن من يقتله بتركه لا يقتله بمجرد التأخير وإنما صورة المسألة أن يعزم على ترك الحج ويقول هو واجب علي ولا أحج أبدا فهذا موضوع النزاع والصواب القول بقتله لأن الحج من حقوق الإسلام والعصمة تثبت لمن تكلم بالإسلام إلا بحقه والحج أعظم حقوقه.
"فصل"
وأما المسألة الثالثة: وهو انه هل يقتل حدا كما يقتل المحارب والزاني أم يقتل كما يقتل المرتد والزنديق هذا فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: يقتل كما يقتل المرتد وهذا قول سعيد بن جبير وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وأبي عمرو الأوزاعي وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعبد الملك بن حبيب من المالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه وحكاه أبو محمد ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة.
والثانية: يقتل حدا لا كفرا وهو قول مالك والشافعي واختار أبو عبد الله ابن بطة هذه الرواية ونحن نذكر حجج صليت أدلة الذين لا يكفرون تارك الصلاة قال الذين لا يكفرونه بتركها قد ثبت له حكم الإسلام بالدخول فيه فلا نخرجه عنه إلا بيقين.
قالوا وقد روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه في الصحيحين.

(1/42)


وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفة على الرحل: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال: "إذا يتكلوا" فأخبر بها معاذ ثم موته تأثما متفق على صحته.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لاإله إلا الله خالصا من قلبه". رواه البخاري.
وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلاة الغداة وقال: "دعوت لامتي وأجبت بالذي لو يتحقق عليه كثير منهم تركوا الصلاة" فقال أبو ذر أفلا أبشر الناس قال: "بلى" فانطلق فقال عمر: إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا1 عن العبادة فناداه أن ارجع فرجع والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي المسند أيضا من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أو صلاة تركها فإن الله عز وجل: يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".
وفي المسند أيضا وعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له ثم الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له ثم الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وفي المسند أيضا من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك". رواه أهل السنن.
__________
1 بضم الكاف: الامتناع.

(1/43)


وقال الترمذي هذا حديث حسن قالوا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي لفظ آخر: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي صحيح قصة عتبان بن مالك وفيها: "إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
وفي حديث الشفاعة يقول الله عز وجل: "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله". وفيه مجمع الزوائد: "فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط"، وفي السنن والمسانيد قصة صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم تخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فترجح سيئاته ولم يذكر في الشهادة ولو كان فيها غيرها لقال ثم تخرج له صحائف حسناته فترجح سيئاته ويكفينا في هذا قوله فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ولو كان كافرا لكان مخلدا في النار غير خارج منها.
فهذه الأحاديث وغيرها تمنع من التكفير والتخليد وتوجب من الرجاء له ما يرجى لسائر أهل الكبائر قالوا ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول وهذا يقر بالوحدانية شاهدا أن محمدا رسول الله مؤمنا بأن الله يبعث من في القبور فكيف يحكم بكفره والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد.
قال المكفرون: الذين رويت عنهم هذه الأحاديث التي استدللتم بها على عدم تكفير تارك الصلاة هم الذين حفظ عنهم الصحابة تكفير تارك الصلاة بأعيانهم قال أبو محمد ابن حزم:
وقد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد قالوا ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة وقد دل على كفر تارك الصلاة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فصل في الاستدلال بالكتاب أما الكتاب فالدليل الأول قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ

(1/44)


إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} فوجه الدلالة من الآية أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا بحكمه ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين فقال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وأنهم يدعون إلى السجود لربهم تبارك وتعالى فيحال بينهم وبينه فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي "أي قرون"، البقر ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين أو مجموعها فإن كان كل واحد منها مستقلا بذلك فالدلالة ظاهرة وإن كان مجموع الأمور الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة إذ لا يجوز أن يضم ما لا تأثير له إلى ما هو مستقل بها.
ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطا على التكذيب بيوم الدين بل هو وحده كاف فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك إذ لا يمكن لقائل أن يقول لا يعذب إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة فإذا كان كل واحد منها موجبا للإجرام وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين.

(1/45)


الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فوجه الدلالة أنه سبحانه علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.
الدليل الرابع قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وقد اختلف السلف في معنى السهو عنها، فقال سعد بن أبي وقاص ومسروق ابن الأجدع وغيرهما هو تركها حتى يخرج وقتها، روى في ذلك حديث مرفوع قال محمد بن نصر المروذي حدثنا سفيان بن أبي شيبة حدثنا عكرمة بن إبراهيم حدثنا عبد الملك بن عمير بم مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن الصلاة ساهون، قال: "هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها".
وقال حماد بن زيد حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال قلت: لأبي يا ابتا أرأيت قول الله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه قال إنه ليس ذاك ولكنه إضاعة الوقت سنن البيهقي وقال حيوة بن شريح أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قال هو تاركها ثم سأله عن الماعون قال: منع المال عن حقه.
إذا عرف هذا فالوعيد بالويل اطرد في القرآن للكفار كقوله: وويل للمشركين: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} إلا في موضعين وهما {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فعلق الويل بالتطفيف وبالهمز واللمز وهذا لا يكفر به بمجرده فويل تارك الصلاة إما ان يكون ملحقا بويل الكفار أو بويل الفساق فإلحاقه بويل الكفار أولى لوجهين:
أحدهما: أنه قد صح عن سعد ابن أبي وقاص في هذه الآية أنه قال لو تركوها لكانوا كفارا ولكن ضيعوا وقتها.
الثاني: ما سنذكر من الأدلة على كفره يوضحه:

(1/46)


الدليل الخامس: وهو قوله سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} .
قال شعبة بن الحجاج حدثنا أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الآية قال هو نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر قال محمد بن نصر حدثنا عبد الله بن سعد بن إبراهيم حدثنا محمد بن زياد بن زبار حدثني شرقي بن القطامي قال حدثني لقمان بن عامر الخزاعي قال جئت أبا أمامه الباهلي فقلت: حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن صخرة قذف بها من شفير 1 جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام" قلت: وما غي وأثام قال: "بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل جهنم فهذا الذي ذكره الله في كتابه" {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وأثاما قال محمد بن نصر حدثنا الحسن بن عيسى حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا هشيم بن بشير قال أخبرني زكريا ابن أبي مريم الخزاعي قال سمعت أبا أمامة الباهلي يقول إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة خمسين خريفا من حجر يهوي أو قال صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات عظام سمان2 فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة قال نعم غي وأثام وقال أيوب بن بشير عن شفي بن ماتع قال إن في جهنم واديا يسمى غيا يسيل دما وقيحا فهو لمن خلق له قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} .
فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولو كان مع عصاة المسلمين لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو أسفلها فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام بل من أمكنه الكفار ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فلو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان وأنه يكون تحصيلا للحاصل.
__________
1 حرفها.
2 أي حجم الصخرة كحجم عشرة نوق حوامل سمان.

(1/47)


الدليل السادس: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} الروضات الزكواة فإخوانكم في الدين سورة التوبة الآية فعلق إخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة المؤمنين فلا يكونوا مؤمنين لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
الدليل السابع: قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فلما كان الإسلام تصديق الخبر والانقياد للأمر جعل سبحانه له ضدين عدم التصديق وعدم الصلاة وقابل التصديق بالتكذيب والصلاة بالتولي فقال: {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكما أن المكذب كافر فالمتولي عن الصلاة يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة.
قال سعيد عن قتادة {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} لا صدق بكتاب الله ولا صلى لله ولكن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
قال ابن جريج: سمعت عطاء ابن أبي رباح يقول هي الصلاة المكتوبة الدر المنثور ووجه الاستدلال بالآية إن الله حكم بالخسران المطلق لمن الهاه ماله وولده عن الصلاة والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح يوضحه أنه سبحانه وتعالى اكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد:
أحدهما: إتيانه بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.
الثاني: تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له بخلاف قولك عالم صالح.
الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} ونظائره.
الرابع: إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وهو يفيد مع الفصل فائدتين اخريين قوة الاسناد واختصاص المسند إليه بالمسند كقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ

(1/48)


الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} سورة الحج الآية وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ونظائر ذلك الدليل.
التاسع: قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه نفى الإيمان عمن إذا ذكروا بآيات الله لم يخروا سجدا مسبحين بحمد ربهم ومن أعظم التذكير بآيات الله التذكير بآيات الصلاة فمن ذكر بها ولم يتذكر ولم يصل ولم يؤمن بها لأنه سبحانه خص المؤمنين بها بأنهم أهل السجود وهذا من أحسن الاستدلال واقربه فلم يؤمن بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} إلا من التزم إقامتها.
الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ذكر هذا بعد قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ثم توعدهم على ترك الركوع وهو الصلاة إذا دعوا إليها ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبر عن تركهم لها وعليه وقع الوعيد.
على أنا نقول لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها اصلا فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلية خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب وهو مع ذلك مصر على تركها هذا من المستحيل قطعا فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا فإن الايمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان.
ولا تصغى إلى كلام من ليس له خبره ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار وأن الله فرض عليه الصلاة وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل.
وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم وهذا من لأوامره المحال ان يقوم بقلب العبد إيمان جازم

(1/49)


لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية ونحن نقول الإيمان هو التصديق ولكن ليس التصديق مجردا اعتقادا صدق المخبر دون الانقياد له ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين.
وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} أي يعتقدون أنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وأبلغ من هذا قول النفرين اليهوديين لما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه عما دلهما على نبوته فقالا نشهد أنك نبي فقال: "ما يمنعكما من اتباعي" قالا إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود. فهؤلاء قد اقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره.
ومن هذا كفر أبي طالب فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق وأقر بذلك بلسانه وصرح به في شعره ولم يدخل بذلك في الإسلام فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق والثاني: محبة القلب وانقياده ولهذا قال تعالى لإبراهيم: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وإبراهيم كان معتقدا لصدق رؤياه من حين رآها فإن رؤيا الأنبياء وحي وإنما جعله مصدقا لها بعد أن فعل ما أمر به.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه". فجعل التصديق عمل الفرج لا ما يتمنى القلب والتكذيب تركه لذلك وهذا صريح في ان التصديق لا يصح إلا بالفعل.
وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وقد روي هذا مرفوعا الكامل لابن عدي والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة والوعد على فعلها والوعيد على تركها وبالله التوفيق.

(1/50)


"فصل"
وأما الاستدلال بالسنة على ذلك فمن وجوه:
الدليل الأول: ما رواه مسلم في صحيحه رقم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه أهل السنن وصححه الترمذي.
الدليل الثاني: ما رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم.
الدليل الثالث: ما رواه ثوبان مولى1 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك". رواه هبة الله الطبري وقال إسناده صحيح على شرط مسلم.
الدليل الرابع: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف". رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وإنما خص هؤلاء الاربعة بالذكر لأنهم من رؤس الكفرة.
وفيه نكتة بديعة وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون ومن شغله عنها رياسة ووزارة فهو مع هامان ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.
الدليل الخامس: ما رواه عبادة بن الصامت قال فيزورون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم ولا تتركوا الصلاة عمدا فمن تركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة". رواه عبد الرحمن ابن أبي حاتم في سننه.
الدليل السادس: ما رواه معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
1 خادم.

(1/51)


"من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله". رواه الإمام أحمد ولو كان باقيا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام.
الدليل السابع: ما رواه أبو الدرداء قال أوصاني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن لا أترك الصلاة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة. رواه عبد الرحمن ابن أبي حاتم في سننه.
الدليل الثامن: ما رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" وهو حديث صحيح مختصر ووجه الاستدلال به أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه تسقط الخيمة بسقوط عمودها فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة وقد احتج أحمد بهذا بعينه.
الدليل التاسع: في الصحيحين والسنن والمسانيد من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان". رواه الإمام أحمد وفي بعض ألفاظه الإسلام خمس فذكره.
ووجه الاستدلا به من وجوه: أحدها: أنه جعل الإسلام كالقبة المبنية على خمسة أركان فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قبة الإسلام.
الثاني: أنه جعل هذه الاركان في كونها أركانا لقبة الإسلام قرينة الشهادتين فهما ركن والصلاة ركن والزكاة ركن فما بال قبة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد أركانها دون بقية أركانها.
الثالث: أنه جعل هذه الأركان نفس الإسلام وداخلة في مسمى اسمه وما كان أعطى لمجموع أمور إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمى ولا سيما إذا كان من أركانه لا من اجزائه التي ليست بركن له كالحائظ للبيت فإنه إذا سقط البيت بخلاف العود والخشبة واللبنة ونحوها.
الدليل العاشر: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا" ووجه الدلالة فيه من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جعله مسلما بهذه الثلاثة فلا يكون مسلما بدونها.

(1/52)


الثاني: أنه إذا صلى إلى الشرق لم يكن مسلما حتى يصلي إلى قبلة المسلمين فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية.
الدليل الحادي عشر: وما رواه الدارمي عبد الله عبد الله بن عبد الرحمن تعظيم قدرالصلاة رقم قال حدثنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن قرم عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الجنة الصلاة". وهذا يدل على أن من لم يكن من أهل الصلاة لم تفتح له الجنة وهي تفتح لكل مسلم فليس تاركها مسلم ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر وهو قوله: "مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله". فإن الشهادة أصل المفتاح والصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه. وقال البخاري: وقيل لوهب بن منبه أليس مفتاح الجنة لاإله إلا الله قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
الدليل الثاني عشر: ما رواه محجن بن الأدرع الأسلمي أنه كان في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: "ما منعك أن تصلي ألست برجل مسلم"؟ . قال: بلى ولكني صليت في أهلي فقال له: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت". رواه الإمام أحمد المسند والنسائي.
فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة وأنت تجد تحت الفاظ الحديث أنك لو كنت مسلما لصليت وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق وما لك لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي ألست برجل مسلم؟.
فصل:
وأما إجماع الصحابة فقال ابن زنجويه حدثنا عمر بن الربيع حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب حين طعن في المسجد. قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته. قال: فأمر عبد الرحمن بن عوف أن يصلي بالناس. قال: فلما دخلنا على عمر بيته غشي عليه من الموت فلم يزل في غشيته حتى أسفر

(1/53)


ثم أفاق فقال: هل صلى الناس؟. قال: فقلنا نعم. فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة. وفي سياق آخر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة, ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى, "وذكر القصة". فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ولا يعلم عن صحابي خلافهم, وقال الحافظ عبد الحق الاشبيلي رحمه الله في كتابه في الصلاة: ذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمدا لتركها حتى يخرج جميع وقتها, منهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وابن عباس وجابر وأبو الدرداء, وكذلك روي عن علي بن أبي طالب هؤلاء من الصحابة. ومن غيرهم: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وعبد الله بن المبارك وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر ابن أبي شيبة وأبو خيثمة زهير بن حرب. قال: المانعون من التكفير يجب حمل هذه الأحاديث وما شاكلها على كفر النعمة دون كفر الجحود كقوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها". وقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم". وقوله: "تبرؤه من نسب وإن دق كفر بعد إيمان". وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وقوله: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد". وقوله: "من حلف بغير الله فقد كفر". رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ وقوله: "اثنتان في أمتي هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت". ونظائر ذلك كثيرة.
قالوا: وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ولم يوجب زوال هذا الاسم عنهم كفر الجحود والخلود في النار فكذلك كفر تارك الصلاة ليس بكفر جحود ولا يوجب التخليد في الجحيم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له". فنفى عنه الإيمان ولا يوجب ترك أداء الأمانة أن يكون كافرا كفرا ينقل عن الملة. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه. وقد قال طاووس: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: هو

(1/54)


به كفر, وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال أيضا: كفر لا ينقل عن الملة. وقال سفيان عن ابن جريح عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
فصل: في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفين.
معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك. فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر, ولما كان الإيمان أصلا له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيمانا فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة والحج والصيام والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة1 الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان, وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة, ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق, وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب, ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب.
وكذلك الكفر ذو أصل وشعب. فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر, والحياء شعبة من الإيمان, وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر, والصدق شعبة من شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر, والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان, وتركها من شعب الكفر, والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر, والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان, فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية. فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا وهي شعبة من شعب الكفر
__________
1 تنحيته.

(1/55)


فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف فهذا أصل, وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهوالتكلم بكلمة الإسلام, والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه, وعمل الجوارح, فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة, وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة.
فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب, وهومحبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.
فإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ولا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره فإنه يلزمه من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت, ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان, فإن الإيمان ليس مجرد التصديق كما تقدم بيانه وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته.
"فصل": وها هنا أصل آخر وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد, فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه, وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.

(1/56)


وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده. فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان, وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا ولا يمكن أن ينفي عنه اسم الكفر بعد أن اطلقه الله ورسوله عليه فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد, ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافرا ولا يطلق عليهما اسم كافر. وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لا يأمن جاره بوائقه, وإذا نفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد وكذلك قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". فهذا كفر عمل. وكذلك قوله: "من أتى كاهنا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد". وقوله: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به وكافرا بما ترك العمل بت, فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه. وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقا وأخرجوهم من ديارهم فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق

(1/57)


كافرين بما تركوه منه, فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ففرق بين قتاله وسبابه وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به والآخر كفر, ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العلمي لا الاعتقادي, وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان, وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر, وقضوا على أصحابها بالخلود في النار, وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في إذنه كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته كتبه ورسله, وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرا ويسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرا. وليس الكافران على حد سواء, وسمى الكافر ظالما كما في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

(1/58)


وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
وقال يونس نبيه: {لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وقال صفيه آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} . وقال كليمه موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم, ويسمى الكافر فاسقا كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . وقوله: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} .
وهذا كثير في القرآن ويسمى المؤمن العاصي فاسقا كما في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . نزلت في الحكم ابن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق, وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقال عن ابليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . وقال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} . وليس الفسوق كالفسوق.
والكفر كفران, والظلم ظلمان, والفسق فسقان, وكذا الجهل جهلان: جهل كفر كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . وجهل غير كفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} .
كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر: وهو شرك العمل: كالرياء. وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} . وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . وفي شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه أبو داود وغيره, ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه

(1/59)


عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل".
فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل, فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان". وفي الصحيح أيضا: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا ائتمن خان".
فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لايكون إلا منافقا خالصا, وكلام الإمام أحمد يدل على هذا فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم, وهل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟. قال: هو مصر, مثل قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام, ونحو قوله: "لا يشرب الخمر حين بشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن". ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ". قال إسماعيل: فقلت: له ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض, فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.
فصل
وههنا أصل آخر وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان, هذا من أعظم أصول أهل السنة, وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية.

(1/60)


ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل, وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ 1 مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه. الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر.
قال الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن يريد: الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب فهو مسلم، ولا أسمية مؤمنا, ومن أتى دون ذلك يريد دون الكبائر: سميته مؤمنا ناقص الإيمان. فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق". فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام.
وكذلك الرياء شرك فإذا راءى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام, وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرا وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام, وقد بينا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان, فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان, وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنا وقد لا يسمى, كما أنه قد يسمى بشعبة من شعب الكفر كافرا وقد لا يطلق عليه هذا الاسم فها هنا أمران أمر اسمي لفظي وأمر معنوي حكمي, فالمعنوي هل هذه الخصلة كفر أم لا؟ , واللفظي هل يسمى من قامت به كافرا أم لا؟ فالأمر الأول شرعي محض, والثاني لغوي وشرعي.
__________
1 لا ينقصكم.

(1/61)


فصل
وها هنا أصل آخر وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا وإن كان ما قام به إيمانا ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافرا وإن كان ما قام به كفرا, كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالما ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقهيا ولا طبيبا, ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الايمان إيمانا وشعبة النفاق نفاقا وشعبة الكفر كفرا. وقد يطلق عليه الفعل كقوله: "فمن تركها فقد كفر". "ومن حلف بغير الله فقد كفر" , وقوله: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر ومن حلف بغير الله فقد كفر". رواه الحاكم في صحيحه بهذااللفظ.
فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق, وكذا يقال لمن ارتكب محرما إنه فعل فسوقا وإنه فسق بذلك المحرم ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه.
وهكذا الزاني والسارق والشارب والمنتهب لا يسمى مؤمنا وإن كان معه إيمان كما أنه لا يسمى كافرا وإن كان ما أتى به من خصال الكفر وشعبه إذ المعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان والمقصود أن سلب الإيمان من تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر. وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فلا يسمى تارك الصلاة مسلما ولا مؤمنا وإن كان شعبة من شعب الإسلام والإيمان.
نعم يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطا في صحة الباقي واعتباره, وإن كان المتروك شرطا في اعتبار الباقي لم ينفعه ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, ولا تنفع الصلاة من صلاها عمدا بغير وضوء, فشعب الإيمان قد يتعلق

(1/62)


بعضها ببعض تعلق المشروط بشرطه، وقد لايكون كذلك فيبقى النظر في الصلاة: هل هي شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة, والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه ومحال بقاء الربح بلا رأس مال فإذا خسرها خسر أعماله كلها وإن أتى بها صورة, وقد أشار إلى هذا في قوله: "فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع". وفي قوله: "أول ما ينظر من أعماله الصلاة, فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من أعماله بعد".
وومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها, ودعى إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وعصبت عيناه وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول اقتلوني ولا أصلي أبدا! ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم يغسل يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين, وبعضهم يقول إنه مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل فلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة والله الموفق.
فصل
في سياق أقوال العلماء من التابعين ومن بعدهم في كفر تارك الصلاة ومن حكى الإجماع على ذلك, وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه, وحكى محمد بن نصر عن ابن المبارك قال: من أخر صلاة حتى يفوت وقتها متعمدا من غير عذر فقد كفر, وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: من قال إني لا أصلي المكتوبة اليوم فهو أكفر من حمار. وقال يحيى بن معين: قيل لعبد الله بن المبارك إن هؤلاء يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان, فقال عبد الله: لا نقول نحن ما يقول هؤلاء من ترك الصلاة متعمدا من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر.
وقال ابن أبي شيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من ترك الصلاة فقد كفر" , فيقال له ارجع عن الكفر فإن فعل وإلا قتل بعد أن يؤجله الوالي ثلاثة أيام.

(1/63)


وقال أحمد بن يسار: سمعت صدقة بن الفضل وسئل عن تارك الصلاة فقال كافر. فقال له السائل: أتبين منه امرأته؟ فقال صدقة: وأين الكفر من الطلاق. لو أن رجلا كفرلم تطلق منه امرأته.
قال محمد بن نصر: سمعت إسحاق يقول صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن تارك الصلاة" كافر وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

(1/64)


فصل
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: هل تحبط الأعمال بترك الصلاة أم لا؟
فقد عرف جوابها مما تقدم, وإنا نفرد هذه المسألة بالكلام عليها بخصوصيتها فنقول أما تركها بالكلية فإنه لا يقبل معه عمل كما لا يقبل مع الشرك عمل فإن الصلاة عمود الإسلام كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الشرائع كالأطناب والأوتاد ونحوها, وإذا لم يكن للفسطاط عمود لم ينتفع بشيء من أجزائه فقبول سائر الاعمال موقوف على قبول الصلاة, فإذا ردت ردت عليه سائر الأعمال, وقد تقدم الدليل على ذلك.
وأما تركها أحيانا فقد روي البخاري في صحيحه من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بكروا بصلاة العصر فإن من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
وقد تكلم قوم في معنى هذا الحديث فأتوا بما لا حاصل له. قال المهلب معناه: من تركها مضيعا لها متهاونا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها حبط عمله في الصلاة خاصة أي لا يحصل له أجر المصلي في وقتها, ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة. وحاصل هذا القول: إن من تركها فاته أجرها. ولفظ الحديث ومعناه يأبى ذلك ولا يفيد حبوط عمل قد ثبت وفعل, وهذا حقيقة الحبوط في اللغة والشرع ولا يقال لمن فاته ثواب عمل من الأعمال إنه قد حبط عمله وإنما يقال فاته أجر ذلك العمل.
وقالت طائفة: يحبط عمل ذلك اليوم لا جميع عمله فكأنهم استصعبوا

(1/64)


حبوط الأعمال الماضية كلها بترك صلاة واحدة، وتركها عنده ليس بردة تحبط الأعمال فهذا الذي استشكله هؤلاء هو وارد عليهم بعينه في حبوط عمل ذلك اليوم والذي يظهر في الحديث. والله أعلم بمراد رسوله أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدا فهذا يحبط العمل جميعه وترك معين في يوم معين فهذا يحبط عمل ذلك اليوم فالحبوط العام في مقابلة الترك العام, والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين, فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم, قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات, كما أن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . وقالت عائشة لأم زيد بن أرقم: أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب لما باع بالعينة1. وقد نص الإمام أحمد على هذا فقال: ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج لئلا ينظر ما لا يحل فيحبط عمله, وآيات الموازنة في القرآن تدل على أن السيئة تذهب بحسنة أكبر منها, فالحسنة يحبط أجرها بسيئة أكبر منها.
فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟.
قيل: الحديث لم ينف الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لقب وهو مفهوم ضعيف جدا وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات ولهذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح.
ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله: " الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". أي فكأنما

(1/65)


سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال, وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها, كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه وتمتعه بها بمنزلة أهله وماله فإذا ترك صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال فخرج من بيته لحاجة وفيه أهله وماله فرجع وقد احتيج الأهل والمال فبقي وترا دونهم وموتورا بفقدهم عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقا.
فصل
والحبوط نوعان: عام وخاص, فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة, والخاص حبوط السيئات والحسنات بضعها ببعض وهذا حبوط مقيد جزئي وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه, ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر فإن عظمت الشعبة ذهب في مقابلتها شعب كثيرة وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار فأبطل الحراب المكروه الحراب المحبوب كما تبطل محاربة أعدائه التي يحبها محاربته التي يبغضها والله المستعان.

(1/66)


فصل
وأما المسألة الخامسة التي هى قوله هل تقبل صلاة الليل بالنهار وصلاة النهار باليل أم لا؟
فهذه المسألة لها صورتان: إحداهما يقبل فيها بالنص والإجماع وهي ما إذا فاتته صلاة النهار بنوم أو نسيان فصلاها بالليل وعكسه كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" واللفظ لمسلم.
وروى مسلم عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس, وقال لبلال: "أكلأ لنا الليل" فصلى بلال ما قدر له, ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى

(1/66)


راحلته مواجه الفجر, فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولاأحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا, ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أي بلال"؟ فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال قتادة: فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ".
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين نحو هذه القصة. وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة قال: "إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا فنزلنا منزلا دهاسا من الأرض فقال: "من يكلؤنا" فقال بلال: أنا. قال: "إذا تنام". قال: لا. فنام حتى طلعت الشمس فاستيقظ فلان وفلان فيهم عمر فقال: اهبطوا فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون" فلما فعلوا, قال: "هكذا فافعلوا لمن نام منكم أو نسي". فهذا متفق عليه بين الأئمة, واختلفوا في مسألتين: لفظية وحكمية.
فاللفظية هل تسمى هذه الصلاة أداء أو قضاء؟ فيه نزاع لفظي محض فهي قضاء لما فرض الله عليهم, وأداء باعتبار الوقت في حق النائم والناسي فإن الوقت في حقهما وقت الذكر والانتباه, فلم يصلها إلا في وقتها الذي أمرنا بإيقاعها فيه وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من قوله: "فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فهذه الزيادة لم أجدها في شيء من كتب الأحاديث, ولا أعلم لها إسنادا, ولكن قد روى البيهقي السنن والدارقطني من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها".
فصل
وأما المسألة الحكمية: فهل تجب المبادرة إلى فعلها على الفور حين يستيقظ ويذكر أم يجوز له التأخير؟ فيه قولان: أصحهما وجوبها على الفور, وهذا قول جمهور الفقهاء منهم إبراهيم النخعي ومحمد بن شهاب الزهري وربيعة

(1/67)


ابن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبوحنيفة ومالك والإمام أحمد وأصحابهم, وأكثر العلماء, وظاهر مذهب الشافعي أنه على التراخي, واحتج من نص على هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المكان الذي ناموا به بل أمرهم فاقتادوا رواحلهم إلى مكان آخر فصلى فيه وفي حديث أبي قتادة فلما استيقظوا قال اركبوا فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس نزل ثم دعا بميضأة فيها ماء فتوضأ ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعيتن ثم صلى الغداة قالوا: ولو وجب القضاء على الفور لم يفارق منزله حتى يفعلها, قالوا: ولا يصح الاعتذار عن هذا بأن ذلك المكان كان فيه شيطان فلم يصلوا فيه فإن حضور الشيطان في المكان لا يكون عذرا في تأخير الواجب. قال الشافعي: ولو كان وقت الفائتة يضيق لما أخره لأجل الشيطان فقد صلى صلى الله عليه وسلم وهو يخنق الشيطان. قال الشافعي: فخنقه للشيطان في الصلاة أبلغ من واد فيه شيطان. قالوا: ولأنها عبادة مؤقتة فإذا فاتت لم يجب قضاؤها على الفور كصوم رمضان بل أولى؛ لأن الأداء متوسع في الصلاة دون الصوم فكانت التوسعة في القضاء أولى. وقال أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي الشافعي إن أخرها لعذر قضاها على التراخي للحديث وإن أخرها لغير عذر قضاها على الفور لئلا يثبت بتفريطه ومعصيته رخصة لم تكن. واحتج الجمهور بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: "ليس في النوم تفريط فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ". وعند الدارقطني في هذا الحديث: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها" , وهذه الألفاظ صريحة في الوجوب على الفور, قالوا: وما استدللتم به على جواز التأخير فإنما يدل على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملا معرضا عن القضاء بل يفعله لتكميل الصلاة من اختيار بقعة على بقعة وانتظار رفقة أو جماعة لتكثير أجر الصلاة ونحو ذلك

(1/68)


من تأخير يسير لمصلحتها وتكميلها, فكيف يؤخذ من هذا التأخير اليسير لمصلحتها جواز تأخير سنين عددا؟.
وقد نص الإمام أحمد على أن المسافر إذا نام في منزله عن الصلاة حتى فاتت أنه يستحب له أن ينتقل عنه إلى غيره فيقضيها فيه للخبر مع أن مذهبه وجوب فعلها على الفور, وإذا كانت أوامر الله ورسوله المطلقة على الفور فكيف المقيدة ولهذا أوجب الفورية في المقيدة أكثر من نفاها في المطلقة.
وأما ما تمسكوا به من القياس على قضاء رمضان فجوابه من وجهين: أحدهما أن السنة فرقت بين الموضعين فجوزت تأخير قضاء رمضان وأوجبت فعل المنسية ثم ذكرها, فليس لنا أن نجمع ما فرقت السنة بينهما.
الثاني: أن هذا القياس حجة عليهم فإن تأخير رمضان إنما يجوز إذا لم يأتي رمضان وهم يجوزون تأخير الفائتة وإن أتى عليها أوقات صلوات كثيرة فأين القياس وأما قولهم لو وجب الفور لما جاز التأخير لأجل الشيطان فقد تقدم جوابه وهو أن الموجبين للفور يجوزون التأخير اليسير لمصلحة التكميل, وأما نقضهم بخنق النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان في صلاته فمن أعجب النقض, فإن التأخير اليسير للعدول عن مكان الشيطان لا تترك به الصلاة ولا يذهب به وقتها ولا يقطعها المصلي بخلاف من عرض له الشيطان في صلاته فإنه لو تركها لأجله لكان قد أبطل صلاته وقطعها بعد دخوله فيها, ولعله إن تعرض له في الصلاة الثانية فيقطعها فيترك الصلاة بالكلية فأين إحدى المسألتين من الأخرى والله أعلم بالصواب. فصل
وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فهي مسألة عظيمة تنازع فيها الناس هل ينفعه القضاء ويقبل منه أم لا ينفعه ولا سبيل له إلى استدراكها أبدا.
فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك يجب عليه قضاؤها ولا يذهب القضاء عنه إثم التفويت بل هو مستحق للعقوبة إلى أن يعفو الله عنه, وقالت طائفة من السلف والخلف من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر يجوز

(1/69)


له التأخير, فهذا لا سبيل له إلى استدراكها. ولايقدر على قضائها أبدا ولا يقبل منه, ولا نزاع بينهم أن التوبة النصوح تنفعه.
ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمد تركها فلا تصح التوبة بدون قضائها أم لا تتوقف التوبة على القضاء فيحافظ عليها في المستقبل ويستكثر من النوافل, وقد تعذر عليه استدراك ما مضى هذا محل الخلاف.
ونحن نذكر حجج الفريقين:- قال الموجبون للقضاء: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم والناسي بالقضاء وهما معذورين غير مفرطين فإيجاب القضاء على المفرط العاصي أولى وأحرى, فلو كانت الصلاة لا تصح إلا في وقتها لم ينفع قضاؤها بعد الوقت في حق النائم والناسي. قالوا: وقد صلى صلى الله عليه وسلم العصر بعد المغرب يوم الخندق, ومعلوم قطعا أنهم لم يكونوا نائمين ولا ساهين عنها, ولو اتفق النسيان لبعضهم لم يتفق للجميع, قالوا: وكيف يكون المفرط بالتأخر أحسن حالا من المعذور فيخفف عن المفرط ويشدد على المعذور. قالوا: وإنما أنام الله سبحانه وتعالى رسوله والصحابة ليبين للأمة حكم من فاتته الصلاة وأنها لا تسقط عنه بالتفويت بل يتداركها فيما بعد. قالوا: وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أفطر بالجماع في رمضان أن يقضي يوما مكانه, قالوا: والقياس يقتضي وجوب القضاء فإن الأمر متوجه على المكلف بفعل العبادة في وقتها, فإذا فرط في الوقت وتركه لم يكن ذلك مسقطا لفعل العبادة عنه.
قال الآخرون: أوامر الرب تبارك وتعالى نوعان: نوع مطلق غير مؤقت فهذا يفعل في كل وقت, ونوع مؤقت بوقت محدود وهو نوعان: أحدهما ما وقته بقدر فعله كالصيام. والثاني: ما وقته أوسع من فعله كالصلاة, وهذا القسم فعله في وقته شرط في كونه عبادة مأمورا بها فإنه إنما أمر به على هذه الصفة فلا تكون عبادة على غيرها, قالوا: فما أمر الله به في الوقت فتركه المأمور حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت شرعا وإن أمكن حسا بل لا يمكن حسا أيضا فإن إيتانه بعد الوقت أمر غير المشروع.

(1/70)


قالوا ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها, ولا الوقوف بعرفة بعد وقته. قالوا: ولا مشروع إلا ما شرعه الله ورسوله, وهو سبحانه ما شرع فعل الصلاة والصيام والحج إلا في أوقات مختصة بت, فإذا فاتت تلك الأوقات لم تكن مشروعة, ولم يشرع الله سبحانه فعل الجمعة يوم السبت ولاالوقوف بعرفة في اليوم العاشر, ولا الحج في غير أشهره.
وأما الصلوات الخمس فقد ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصليها إذا زال عذره, وكذلك صوم رمضان شرع الله سبحانه قضاءه بعذر المرض والسفر والحيض, وكذلك شرع رسوله الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت للمعذور بسفر أو مرض أو شغل يبيح الجمع فهذه يجوز تأخيرها عن وقتها المختص إلى وقت الأخرى للمعذور, ولا يجوز لغيره بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام, كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر, ولكن يجب عليه فعلها وإن أخرها إلى وقت الثانية في هذه الصورة لأنها تفعل في هذا الوقت في الجملة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها, وقيل له صلى الله عليه وسلم ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" , وهم كانوا يؤخرون الظهر خاصة إلى وقت العصر فأمر بالصلاة خلفهم وتكون نافلة للمصلي وأمره أن يصلي الصلاة في وقتها ونهى عن قتالهم.
قالوا: وأما من أخر صلاة النهار فصلاها بالليل أوصلاة الليل فصلاها بالنهار فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله. فلا يكون صحيحا ولامقبولا. قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". وقال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". فلو كان يمكنه استدراكها بالليل لم يحبط عمله ولم يكن موتورا من أعماله بمنزلة الموتور من أهله وماله. وقالوا: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فكذا من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ولو كان فعلها بعد المغرب

(1/71)


وطلوع الشمس صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو اقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم إذ لاخلاف بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق وقتها عن كمال فعلها, وإنما أراد بالإدراك الصحة والإجزاء. وعندكم تصح وتجزيء ولو أدرك منها قدر تكبيرة أو لم يدرك منها شيئا. فلا معنى للحديث عندكم البتة.
قالوا: والله سبحانه قد جعل لكل صلاة وقتا محدودا الأول والآخر. ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها ولا بعد خروج وقتها. والمفعول قبل الوقت وبعده أمر غير مشروع. فلو كان الوقت ليس شرطا في صحتها لكان لا فرق في الصحة بين فعلها قبل الوقت وبعده؟ لأن كلا الصلاتين صلاها في غير وقتها فكيف قبلت من هذا المفرط بالتفويت ولم تقبل من المفرط بالتعجيل؟.
قالوا: والصلاة في الوقت واجبة على كل حال. حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت. فإذا عجز عن الوضوء أو الاستقبال أو طهارة الثوب والبدن وستر العورة أو قراءة الفاتحة أو القيام في الوقت وأمكنه أن يصلي بعد الوقت بهذه الأمور فصلاته في الوقت بدونها هي التي شرعها الله فعلم أن الوقت مقدم عند الله ورسوله على جميع الواجبات. فإذا لم يكن إلا أحد الأمرين وجب أن يصلي في الوقت بدون هذه الشروط والواجبات. ولوكان له سبيل إلى استدراك الصلاة بعد خروج وقتها لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط والواجبات خيرا من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله. وهذا باطل بالنص والاجماع.
وقالوا أيضا: فقد توعد الله سبحانه من فوت الصلاة عن وقتها بوعيد التارك لها. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} , وقد فسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها كما ثبت ذلك عن سعد بن أبي وقاص. وفيه حديث مرفوع. وقال تعالى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها

(1/72)


وترك وقتها وترك واجباتها وأركانها, وأيضا إن مؤخرها عن وقتها عمدا متعد لحدود الله كمقدمها عن وقتها فما بالها تقبل مع تعدي هذا الحد ولا تقبل مع تعدي الحد الآخر؟.
قالوا: وأيضا فنقول لمن قال إنه يستدركها بالقضاء: أخبرنا عن هذه الصلاة التي تأمر بفعلها هي التي أمر الله بها أم هي غيرها فإن قال هي بعينها قيل له فالعامد بتركها حينئذ ليس عاصيا لأنه قد فعل ما أمر الله به بعينه فلا يلحقه الإثم والملامة وهذا باطل قطعا وإن قال ليست هي التي أمر الله بها قيل له فهذا من أعظم حججنا عليك إذا ساعدك أن هذه غير مأمور بها.
ثم نقول أيضا ما تقولون في من تعمد تفويتها حتى خرج وقتها ثم صلاها: أطاعه صلاته تلك أم معصية؟ فإن قالوا: صلاته طاعة وهو مطيع بها خالفوا الإجماع والقرآن والسنن الثابتة, وإن قالوا: هي معصية قيل فكيف يتقرب إلى الله بالمعصية وكيف تنوب المعصية عن الطاعة؟ فإن قلتم: هو مطيع بفعلها عاص بتأخيرها وهو أنه إذا تقرب بالفعل الذي هو طاعة لا بالتفويت الذي هو معصية قيل لكم الطاعة هي موافقة الأمر وامتثاله على الوجه الذي أمر به فأين الله ورسوله ممن تعمد تفويت الصلاة بفعلها بعد خروج وقتها حتى يكون مطيعا له بذلك, فلو ثبت ذلك لكان فاصلا للنزاع في المسألة.
قالوا: وأيضا فغير أوقات العبادة لا تقبل تلك العبادة بوجه كما أن الليل لا يقبل الصيام وغير أشهر الحج لا يقبل الحج وغير وقت الجمعة لا تقبل الجمعة فأي فرق بين من قال أنا أفطر النهار وأصوم الليل أو قال أنا أفطر رمضان في هذا الحر الشديد وأصوم مكانه شهرا في الربيع أو قال أنا أؤخر الحج من شهره إلى المحرم أو قال أنا أصلي الجمعة بعد العشاء الآخرة أو أصلي العيدين في وسط الشهر وبين من قال أنا أؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار فهل يمكن أحدا قط أن يفرق بين ذلك.
قالوا: وقد جعل الله سبحانه للعبادات أمكنه وأزمنة وصفات فلا ينوب مكان عن المكان الذي جعله الله مكانا ميقاتا لها كعرفة ومزدلفة ومنى ومواضع الجمار

(1/73)


والمبيت والصفا والمروة, ولا تنوب صفة من صفاتها التي أوجبها الله عليها عن صفة فكيف ينوب زمان عن زمانها الذي أوجبها الله فيه عنه.
قالوا: وقد دل النص والإجماع على أن من أخر الصلاة عن وقتها عمدا أنها قد فاتته, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله". وما فات فلا سبيل إلى إدراكه البتة ولو أمكن أن يدرك لما سمي فائتا وهذا مما لا شك فيه لغة وعرفا, وكذلك هو في الشرع, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من يوم عرفة". أفلا تراه جعله فائتا بفوات وقته لما لم يمكن أن يدرك في يوم بعد ذلك اليوم, وهذا بخلاف المنسية والتي نام عنها فإنها لا تسمى فائتة, ولهذا لم تدخل في قوله: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
قالوا: والأمة مجمعة على أن من ترك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها فقد فاتته ولو قبلت منه وصحت بعد الوقت لكان تسميتها فائتة لغوا وباطلا وكيف يفوت ما يدرك؟. قالوا: وكما أنه لا سبيل إلى استدراك الوقت الفائت أبدا فلا سبيل إلى استدراك فرضه ووصفه.
قالوا: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد المسند وغيره: "من أفطر يوما من رمضان عذر لم يقضه عنه صيام الدهر". فأين هذا من قولكم يقضيه عنه صيام يوم من أي شهر أراد؟.
قالوا: وقد أمر الله سبحانه المسلمين حال مواجهة عدوهم أن يصلوا صلاة الخوف فيقصروا من أركانها ويفعلوا فيها الأفعال الكثيرة ويستدبروها فيها القبلة ويسلمون قبل الإمام بل يصلون رجالا وركبانا حتى لو لم يمكنهم إلا الإيماء توا بها على دوابهم إلى غير القبلة في وقتها, ولو قبلت منهم في غير وقتها وصحت لجاز لهم تأخيرها إلى وقت الأمن وإمكان الإتيان بها, وهذا يدل على أنها بعد خروج وقتها لا تكون جائزة ولا مقبولة منهم مع العذر الذي أصابهم في سبيله وجهاد أعدائه, فكيف تقبل وتصح من صحيح مقيم لا عذر له البتة, وهو يسمع داعي الله جهرة فيدعها حتى يخرج وقتها ثم يصليها في غير الوقت.

(1/74)


وكذلك لم يفسح في تأخيرها عن وقتها للمريض, بل أمره أن يصلي على جنبه بغير قيام ولا ركوع ولا سجود إذا عجز عن ذلك, ولو كانت تقبل منه وتصح في غير وقتها لجاز تأخيرها إلى زمن الصحة, فأخبرونا أي كتاب أو سنة أو أثر عن صاحب نطق بأن من أخر الصلاة وفوتها عن وقتها الذي أمر الله بإيقاعها فيه عمدا يقبلها الله منه بعد خروج وقتها, وتصح منه وتبرأ ذمته منها ويثاب عليها ثواب من أدى فريضته. هذا والله ما لا سبيل لكم إليه البتة حتى تقوم الساعة, ونحن نوجد لكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال مثل ما قلناه وخلاف قولكم.
فصل
في قول أبي بكر الصديق الذي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكره عليه, قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن زيد أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب: إني موصيك بوصية إن حفظتها إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل وحقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة وإنما ثقلت: موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا, وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف, وإن الله عز وجل ذكر أهل الجنة وصالح ما عملوا وتجاوز عن سيئاتهم, فإذا ذكرتهم خفت ألا أكون منهم وذكر أهل النار وأعمالهم فإذا ذكرتهم قلت: أخشى أن أكون منهم وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يتمنى على الحق ولا يلقى بيده إلى التهلكة فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه, وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ولن تعجزه.
وقال هناد بن السري: حدثنا عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي, قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة فذكره. قالوا: فهذا أبو بكر قال: إن الله لا يقبل عمل النهار بالليل ولا عمل الليل بالنهار ومن يخالفنا بهذه المسألة يقولون بخلاف

(1/75)


هذا صريحا, وأنه يقبل صلاة العشاء الآخرة وقت الهاجرة, ويقبل صلاة العصر نصف النهار.
قالوا: فهذا قول أبي بكر وعمر وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود والقاسم بن محمد ابن أبي بكر, وهذيل القيلي ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وغيرهم. قال شعبة عن يعلى بن عطاء عن عبد الله بن خراش قال: رأى ابن عمر رجلا يقرأ في صحيفة قال له يا هذا القاريء إنه لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها فصل ثم أقرأ ما بدا لك. قال: ولا يصح تأويلكم ذلك على أنه لا صلاة كاملة لوجوه: أحدها: أن النفي يقتضي نفي حقيقة المسمى والمسمى هنا هو التوقيت وحقيقته منتفية. هذه حقيقة اللفظ فما الموجب للخروج عنها.
الثاني: إنكم إذا أردتم بنفي الكمال: الكمال المستحب فهذا باطل, فإن الحقيقة الشرعية لا تنتفي لنفي مستحب فيها وإنما تنتفي لنفي ركن من أركانها وجزء من أجزائها وهكذا كل نفي ورد على حقيقة شرعية كقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا صلاة لمن لا وضوء له, ولا عمل لمن لا نية له, ولا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل, ولا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب". ولو انتفت لانتفاء بعض مستحباتها, فما من عبادة إلا وفوقها من جنسها ما هوه أحب إلى الله منها, وقد ساعدتمونا على أن الوقت من واجباتها فإن انتفت بنفي واجب فيها لم تكن صحيحة ولا مقبولة.
الثالث: إنه إذا لم يكن نفي حقيقة المسمى, فنفي صحته والاعتداد به أقرب إلى نفيه من كماله المستحب. وقال محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن عبد الله بن مسعود كان يقول: إن للصلاة وقتا كوقت الحج, فصلوا الصلاة لميقاتها.
فهذا عبد الله قد صرح بأن وقت الصلاة كوقت الحج فإذا كان الحج لا ييقبل في غير وقته فما بال الصلاة تجزيء في غيرة وقتها؟.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن بديل العقيلي قال: بلغني أن العبد إذا صلى

(1/76)


الصلاة لوقتها صعدت ولها نور ساطع في السماء, وقالت حفظتني حفظك الله وإذا صلاها لغير وقتها طويت كما يطوى الثوب الخلق فيضرب بها وجهه.
فصل: قال الذين يعتدون بها بعد الوقت ويبرئون بها الذمة. واللفظ لأبي عمر بن عبد البر1 فإنه انتصر لهذه المسألة أتم انتصار.
ونحن نذكر كلامه بعينه. قال في الاستذكار في باب "النوم عن الصلاة": قرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا ابن الاصبهاني حدثنا عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم بن سلمة عن مسروق عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعرسوا من آخر الليل فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس فأمر بلالا فأذن ثم صلى ركعتين, قال ابن عباس فما يسرني بها الدنيا وما فيها يعني الرخصة: قال أبو عمر: ذلك عندي والله أعلم لأنه كان سببا إلى أن أعلم أصحابه المبلغين عنه إلى سائر أمته بأن مراد الله عن عباده في الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها يقضيها أبدا متى ذكرها ناسيا كان لها أو نائما عنها أو متعمدا لتركها.
ألا ترى إلى حديث مالك في هذا الباب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها". والنسيان في لسان العرب يكون للترك عمدا أو يكون ضد الذكر. قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} . أي تركوا طاعة الله والإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركهم الله من رحمته, وهذا لا خلاف فيه ولا يجهله من له أقل علم بتأويل القرآن.
فإن قيل فلم خص النائم والناسي بالذكر في قوله في غير هذا الحديث: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قيل: خص النائم والناسي ليرتفع التوهم والظن فيهما لرفع القلم في سقوط التأثيم عنهما بالنوم والنسيان فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سقوط الاثم مسقط لما لزمهما من فرض الصلاة وأنها واجبة عليهما عند الذكر لها يقضيها
__________
1 هو العلامة ابن عبد البر من كبار فقهاء المالكية توفي 436 هـ.

(1/77)


كل واحد منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها, ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهمة في الناسي والنائم ليست فيه، ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرا له, وسوى الله سبحانه وتعالى في حكمها على لسان رسوله بين حكم الصلاة المؤقتة والصيام الؤقت في شهر رمضان بل كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته, فنص على النائم والناسي في الصلاة كما وصفنا ونص على المريض والمسافر في الصوم, وأجمعت الأمة ونقلت: الكافة فيمن لم يصم شهر رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرا وبطرا ثم تاب منه بعد ذلك أن عليه قضاءه, وكذلك من ترك الصلاة عامدا فالعامد والناسي في القضاء للصلاة والصيام سواء, وإن اختلفا في الاثم كالجاني على الأموال المتلف لها عامدا وناسيا سواء, إلا في الاثم وكان الحكم في هذا النوع بخلاف رمي الجمار في الحج الذي لا يقضى وقته لعامد ولا ناس لوجوب الدم فيما ينوب عنها, وبخلاف الضحايا أيضا لأن الضحايا ليست بواجبة فرضا, والصلاة والصيام كلاهما فرض واجب ودين ثابت يؤدى أبدا إن خرج الوقت المؤجل لهما, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق أن يقضى" , وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها, كان المتعمد لتركها الآثم في فعله ذلك لا يسقط عنه فرض الصلاة, وأن يحكم عليه بالإتيان بها؛ لأن التوبة من عصيانه في عمد تركها هي أداؤها وإقامتها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها. وقد شذ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال: ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها؛ لأنه غير نائم ولا ناس. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قال: والمتعمد غير الناسي والنائم. قال: وقياسه عليهما غير جائز عندنا. كما أن من قتل الصيد لا يجزيه عندنا. فخالف في المسألتين جمهور العلماء. وظن أنه يستتر في ذلك برواية شاذة جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة من علماء

(1/78)


المسلمين وهو محجوج بهم مأمور باتباعهم. فخالف هذا الظاهري طريق النظر والاعتبار وشذ عن جماعة علماء الأمصار. ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول.
ومن الدليل على أن الصلاة تصلى وتقضى بعد خروج وقتها كالصيام سواء وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ عنهم بالرجوع إليهم وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". ولم يستثن متعمدا من ناس, ونقلت الكافة عنه صلى الله عليه وسلم أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاة العصر بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع. ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون من الحرب ولم يكن يومئذ نائما ولا ناسيا ولا كانت بين المسلمين والكافرين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى الظهر والعصر بالليل, ودليل آخر أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة". فخرجوا مبادرين وصلى بعضهم العصردون بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يقل لهم إن الصلاة لم تصل في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها.
ودليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصوات عن ميقاتها

(1/79)


قالوا: أنفصليها معهم؟ قال: نعم. حدثنا عبد الوراث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى الحمصي قال أتى إلي عن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه سيجيء بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها". قالوا: نصليها معهم يا رسول الله قال: "نعم".
قال أبو عمر: أبو مثنى الحمصي هو الأملوكي: ثقة. وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها, ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا, وقد كان الأمراء من بني أمية وأكثر هم يصلون الجمعة عند الغروب. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يدخل وقت العصر.
وروي ذلك عنه من وجوه صحاح قد ذكرت بعضها في صدر الكتاب يعني الإستذكار في المواقيت, وحدثنا عبد الله بن محمد بن راشد حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النسوي حدثنا سويد بن نضر حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك عن سليمان بن مغيرة عن ثابت بن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا مفرطا, والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم والناسي, ثم الجميع من جهة العذر وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان عليه من تفريطه, وقد روي في حديث أبي قتادة هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر, وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بسفره,

(1/80)


وفيه قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نصليها لميقاتها من الغد؟. قال: "لا إن الله لا ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم".
وروى من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد, وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي وهو مذكور في الصحابة قال قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه لشغل اشتغل بت, وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين وكبارهم. وقد أجمع العلماء على أن من ترك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر, وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه واعتقاد ترك العود إليه قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} , ومن لزمه حق الله أو لعباده لزمه الخروج منه وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الله عز وجل بحقوق الآدميين وقال: "دين الله أحق أن يقضي". والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله بجهله وحبه لشذوذه وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا ينازع في قبولها, والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع ثم جاء من الاختلاف شذوذ خارج عن اقوال علماء الأمصار فاتبعه دون سنة رويت في ذلك, وأسقط به الفريضة المجمع على وجوبها، ونقض أصله ونسي نفسه.
ثم ذكر أن مذهب داود وأصحابه1 وجوب قضاء الصلاة إذا فوتها عمدا, ثم قال: فهذا قول داود وهو وجه أهل الظاهر, وما أرى هذا الظاهري إلا وقد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف عدا جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه, فذكر عن ابن مسعود ومسروق وعمر بن عبد العزيز في قوله: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} . أن ذلك عن مواقيتها ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا, وهو لا يقول بتكفير تارك الصلاة عمدا إذا إذا أبى إقامتها ولا بقتله
__________
1 هم الظاهرية.

(1/81)


إذا كان مقرا بها فقد خالفهم فكيف يحتج بهم على أنه معلوم أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها.
قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} . ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه, ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا, وذكر عن سلمان أنه قال: الصلاة مكيال فمن وفاه وفي له ومن طففه فقد علمتم ما قاله الله في المطففين, وهذا لا حجة فيه لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون من لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها, وإن صلاها في وقتها وذكر عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها, وكذا نقول: لا صلاة له كاملة الأجزاء كما جاء: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد, ولا إيمان لمن لا أمانة له" , ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من نسي عمله بتركها وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح، ولا له في شيء منه حجة, لأن ظاهره خلاف ما تأوله.
فصل
قال المانعون من صحتها بعد الوقت وقبولها1: لقد أرعدتم وأبرقتم ولم تنصفونا في حكاية قولنا على وجهه ولافي نقلنا مذاهب السلف ولا في حججنا فإنا لم نقل قط ولا أحد من أهل الإسلام إنها سقطت من ذمته بخروج وقتها وإنها لم تبق واجبة عليه حتى تجلبوا علينا بما أجلبتم وتشنعوا علينا بما شنعتم بل قولنا وقول من حكينا قوله من الصحابة والتابعين أشد على مؤخر الصلاة ومفوتها من قولكم: فإنه قد تحتمت عقوبته وباء بإثم لا سبيل له إلى استدراكه إلا بتوبة يحدثها وعمل يستأنفه, وقد ذكر من الأدلة ما لاسبيل لكم إلى رده فإن وجدتم السبيل إلى الرد فأهلا بالعلم أين كان ومع من كان, فليس القصد إلا طاعة الله وطاعة رسوله ومعرفة ما جاء به ونحن نبين ما في كلامكم من مقبول ومردود؛ فأما: قولكم إن سرور ابن عباس بتلك الصلاة التي صلاها بعد طلوع الشمس لأنه كان سببا إلى أن أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المبلغين عنه إلى سائر أمته
__________
1 والكلام هنا للإمام ابن القيم، وهو الإمام الحجة.

(1/82)


بأن مراد الله من عباده في الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها يقضيها أبدا ناسيا كان لها أو نائما أو متعمدا لتركها فهذا ظن محض منكم أن ابن عباس أراده, ومعلوم أن كلامه لا يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة ولا هو يشعر به.
ولعل ابن عباس إنما سر بها ذلك السرور العظيم لكونه صلاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفعل مثل ما فعلوا, وحصل له سهمان من الأجر كما حصل للصحابة وخص تلك الصلاة بذلك تنبيها للسامع أنها مع كونها ضحى قد فعلت بعد طلوع الشمس فلا يظن أنها ناقصة وأنها لا أجر فيها فما يسرني بها الدنيا وما فيها, وليس ما فهمتموه عن ابن عباس أولى من هذا الفهم, ولعله أراد أن ذلك من رحمة الله بالأمة ليقتدي به من نام عن الصلاة ولم يفرط بتأخيرها, فمن أين يدل كلامه هذا على أن سروره بتلك الصلاة لأنها تدل على أن من لم يصل وأخر صلاة الليل إلى النهار عمدا, وصلاة النهار إلى الليل أنها تصح منه وتقبل وتبرأ بها ذمته؟ وأن فهم هذا من كلام ابن عباس لمن أعجب العجب فأخبرونا كيف وقع لكم هذا الفهم من كلامه وبأي طريق فهمتموه؟.
فصل
وأما قولكم إن النسيان في لغة العرب هو الترك كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} إلخ. فنعم لعمر الله إن النسيان في القرآن على وجهين: نسيان ترك ونسيان نسيان سهو.
ولكن حمل الحديث على نسيان الترك عمدا باطل لأربعة أوجه:
أحدها: أنه قال: "فليصلها إذا ذكرها" وهذا صريح في أن النسيان في الحديث نسيان سهو لا نسيان عمد, وإلا كان قوله: "إذا ذكرها" كلاما لا فائدة فيه, فالنسيان إذا قوبل بالذكر لم يكن إلا نسيان سهو كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} , وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نسيت فذكروني".
الثاني: أنه قال: "فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" ومعلوم أن من تركها عمدا لا يكفر عنه فعلها بعد الوقت إثم التفويت: هذا مما لاخلاف فيه بين

(1/83)


الأمة, ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ يبقى معنى الحديث: من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فكفارة إثمه صلاتها بعد الوقت, وشناعة هذا القول أعظم من شناعتكم علينا القول بأنها لا تنفعه ولا تقبل منه, فأين هذا من قولكم الثالث: أنه قابل الناسي في الحديث بالنائم, وهذه المقابلة تقتضي أنه الساهي كما يقول جملة أهل الشرع: النائم والناسي غير مؤاخذين.
الرابع: أن الناسي في كلام الشارع إذا علق به الأحكام لم يكن مراده إلا الساهي وهذا مطرد في جميع كلامه كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".
فصل
وأما قولكم: فسوى الله سبحانه في حكمهما أي حكم العامد والناسي على لسان رسوله بين حكم الصلاة المؤقتة والصيام المؤقت في شهر رمضان بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته فنص على النائم والساهي في الصلاة كما وصفنا, ونص على المريض والمسافر في الصوم, واجتمعت الأمة ونقلت: الكافة فيمن لم يصم شهر رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإثم تركه أشرا وبطرا ثم تاب منه أن عليه قضاءه إلى آخره, فجوابه من وجوه:
أحدها قولكم إن الله سبحانه وتعالى سوى بينهما أي بين العامد والناسي فكلام باطل على إطلاقه فما سوى الله سبحانه بين عامد وناس أصلا, وكلامنا في هذا العامد العاصي الآثم المفرط غاية التفريط فأين سوى الله سبحانه بين حكمهما في صلاة أو صيام, وقولكم فنص على النائم والناسي في الصلاة كما وصفنا قد تقدم أن النسيان المذكور في الصلاة لا يصح حمله على العمد بوجه, وأن الذي نص عليه في الحديث هو نسيان السهو الذي هو نظير النوم فلا تعرض فيه للعامد, وأما نصه على المريض والمسافر في الصوم فهما وإن أفطرا عامدين فلا يمكن أخذ حكم تارك الصلاة عمدا من حمكها وما سوى الله ولا رسوله بين تارك الصلاة عمدا أو أشرا حتى يخرج وقتها وبين تارك الصوم لمرض

(1/84)


أو سفر حتى يؤخذ حكم أحدهما من الآخر, فمؤخر الصوم في المرض والسفر كمؤخر الصلاة لنوم أو نسيان وهذان هما اللذان سوى الله ورسوله بين حكمهما فنص الله على حكم المريض والمسافر في الصوم المعذورين ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكم النائم والناسي في الصلاة المعذورين فقد استوى حكمهما في الصوم والصلاة, ولكن أين استوى حكم العامد المفرط الآثم والمريض والمسافر والنائم والناسي المعذورين.
يوضحه أن الفطر بالمرض قد يكون واجبا بحيث يحرم عليه الصوم, والفطر في السفر إما واجب عند طائفة من السلف والخلف, أو أنه أفضل من الصوم عند غيرهم أو هما سواء. أو الصوم أفضل منه لمن لا يشق عليه ثم آخرين, وعلى كل تقدير فإلحاق تارك الصلاة والصوم عمدا وعدوانا به من أفسد الإلحاق وأبطل القياس, وهذا مما لا خفاء به عند كل عالم.
وقولكم إن الأمة اجتمعت والكافة نقلت: أن من لم يصم شهر رمضان عامدا أشرا أو بطرا ثم تاب منه فعليه قضاؤه, فيقال لكم أوجدونا عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فن دونهم صرح بذلك, ولن تجدوا إليه سبيلا, وقد أنكر الأئمة كالإمام أحمد والشافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات التي حاصلها عدم العلم بالخلاف لا العلم بعدم الخلاف, فإن هذا مما لا سبيل إليه إلا فيما علم بالضرورة أن الرسول جاء بت, وأما ما قامت الأدلة الشرعية عليه فلا يجوز لأحد أن ينفي حكمه لعدم علمه بمن قال به فإن الدليل يجب اتباع مدلوله وعدم العلم بمن قال به لا يصح أن يكون معارضا بوجه ما, فهذا طريق جميع الأئمة المقتدى بهم. قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم للناس اختلافا إذا لم يبلغه, وقال في رواية المروزي كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال إني لا أعلم مخالفا كان أسلم. وقال في رواية أبي طالب هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون ولكن يقول ما أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله أجمع الناس. وقال في رواية أبي الحارث

(1/85)


لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع. لعل الناس اختلفوا. وقال الشافعي في أثناء مناظرته لمحمد بن الحسن: لا يكون لأحد أن يقول أجمعوا حتى يعلم إجماعهم في البلدان ولا يقبل على أقاويل من نأت داره منهم ولا قربت إلا خبر الجماعة عن الجماعة. فقال لي تضيق هذا جدا قلت: له وهو مع موجود وقال في موضع آخر وقد بين ضعف دعوى الإجماع وطالب من يناظره بمطالبات عجز عنها فقال له المناظر فهل من إجماع قلت: نعم. الحمد لله كثيرا في كل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك الإجماع هو الذي إذا قلت: أجمع الناس لم تجد أحدا يقول لك ليس هذا بإجماع فهذه الطريق التي يصدق بها من أدعى الإجماع فيها, وقال بعد حكاه في مناظرته أو ما كفاك عيب الإجماع أنه لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الإجماع إلا فيما لم يختلف فيه أحد إلى أن كان أهل زمانك هذا. قال له المناظر: فقد ادعاه بعضكم. قلت: أفحمدت ما ادعى منه؟ قال: لا. قلت: فكيف صرت إلى أن تدخل فيما زعمت في أكثر ما عبت الاستدلال من طريقك عن الإجماع وهو ترك ادعاء الإجماع فلا تحسن النظر لنفسك إذا قلت: هذا إجماع فتجد حولك من يقول لك معاذ الله أن يكون هذا إجماعا. وقال الشافعي في رسالته: ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا فهذا كلام أئمة أهل العلم في دعوى الإجماع كما ترى.
فلنرجع إلى المقصود فنقول: من قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من ترك الصلاة عمدا لغير عذر حتى خرج وقتها أنها تنفعه بعد الوقت وتقبل وتبرأ ذمته فالله يعلم أنا لم نظفر على صاحب واحد منهم قال ذلك.
وقد نقلنا عن الصحابة والتابعين ما تقدم حكايته, وقد صرح الحسن بما قلناه, فقال محمد بن نصر المروزي في كتابه في الصلاة: حدثنا إسحاق حدثنا النضر عن الاشعت عن الحسن قال: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا فإنه لا يقضيها. قال محمد وقول الحسن هذا يحتمل معنيين: أحدهما أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمدا فلذلك لم ير عليه القضاء؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره.

(1/86)


والثاني: أنه لم يكفره بتركها, وأنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما فرض أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم, فإذا تركها حتى ذهب وقتها فقد لزمته المعصية لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه فيه, فإذا أتى به بعد ذلك فإنما أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه فيه فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به عن المأمور به, وهذا مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه. قال: ومن ذهب إلى هذا قال في الناسي للصلاة حتى يذهب وقتها وفي النائم أيضا لو لم يأت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا استيقظ". وذكر أنه نام عن صلاة الغداة فقضاها بعد ذهاب الوقت لما وجب عليه في النظر قضاؤها أيضا فلما جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وجب عليه قضاؤها وبطل حظ النظر, فقد نقل محمد الخلاف صريحا وظن أن الأمة أجمعت على خلافه, وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يرى أن الإجماع ينعقد بعد الخلاف.
والثاني: أنه لايرى خلاف الواحد قادحا في الإجماع, وفي المسألتين نزاع معروف.
وأما قوله إن القياس يقتضي أن لا يقتضي النائم والناسي لولا الخبر فليس كما زعمتم لأن وقت النائم والناسي هو وقت ذكره وانتباهه لا وقت له غير ذلك كما تقدم والله أعلم.
وأما قولكم إن الكافة نقلت: والأمة اجمعت أن من لم يصم شهر رمضان أشرا وبطرا أن عليه قضاءه, فأين النقل بذلك إذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه أهل السنن والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة: "من أفطر يوما من رمضان من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه". فهذه الرواية المعروفة فأين الرواية عنه أو عن أصحابه: من أفطر رمضان أو بعضه أجزأ عنه أن يصوم مثله, وأما قولكم: إن الصلاة والصيام دين ثابت يؤدى أبدا وإن خرج الوقت المؤجل لهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق أن يقضي". فنقول: هذا الدليل مبني على مقدمتين:

(1/87)


إحداهما: إن الصلاة والصيام دين ثابت في ذمة من تركهما عمدا, والمقدمة الثانية: أن هذا الدين قابل للأداء فيجب أداؤه؛ فأما المقدمة الأولى فلا نزاع فيها ولانعلم أن أحدا من أهل العلم قال بسقوطها من ذمته بالتأخير ولعلكم توهمتم علينا أنا نقول بذلك وأخذتم في الشناعة علينا وفي التشغيب ونحن لم نقل ذلك ولا أحد من أهل الإسلام, وأما المقدمة الثانية ففيها وقع النزاع وأنتم لم تقيموا عليها دليلا فادعاؤكم لها هو دعوى محل النزاع بعينه جعلتموه مقدمة من مقدمات الدليل وأثبتم الحكم بنفسه فمنازعوكم يقولون لم يبق للمكلف طريق إلى استدراك هذا الفائت وإن الله تعالى لا يقبل أداء هذا الحق إلافي وقته وعلى صفته التي شرعه عليها, وقد أقاموا على ذلك من الأدلة ما قد سمعتم فما الدليل على أن هذا الحق قابل للأداء في غير وقته المحدود له شرعا, وأنه يكون عبادة بعد خروج وقته.
وأما قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" وقوله: "دين الله أحق أن يقضى". فهذا إنما قاله في حق المعذور لا المفرط, ونحن نقول في مثل هذا الدين يقبل القضاء, وأيضا فهذا إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في النذر المطلق الذي ليس له وقت محدود الطرفين, ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن امرأة قالت يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها"؟ قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك".
وفي رواية أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرا فأنجاها الله سبحانه وتعالى فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال: "صومي عنها". رواه أهل السنن وكذلك جاء منه الأمر بقضاء هذا الدين في الحج الذي لا يفوت وقته إلا بنفاد العمر.
ففي المسند والسنن من حديث عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ

(1/88)


لا يستطيع ركوب رحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده". قال: نعم. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عنه". وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها"؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". متفق على صحته.
وعن ابن عباس أيضا قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه فقضيته أكان يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عن أبيك". رواه الدارقطني.
ونحن نقول في مثل هذا الدين القابل للأداء: دين الله أحق أن يقضى.
فالقضاء المذكور في هذه الأحاديث ليس بقضاء عبادة مؤقتة محدودة الطرفين وقد جاهر بمعصيته الله سبحانه وتعالى بتفويتها بطرا وعدوانا فهذا الدين مستحقه لا يعتد به ولا يقبله إلا على صفته التي شرعه عليها, ولهذا لو قضاه على غير تلك الصفة لم تنفعه.
فصل
قولكم وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها أولى. فجوابه من وجوه: أحدها المعارضة بما هو أصح منه أو مثله وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه صحته وقبوله منه متعد لحدود الله مضيع لأمره تارك لحقه عمدا وعدوانا فقياس هذا على هذا في صحة العبادة وقبولها منه وبراء الذمة بها من أفسد القياس.
الوجه الثاني: أن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له, فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر كما قال صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها". رواه البيهقي والدارقطني وقد تقدم.

(1/89)


فالوقت وقتان: وقت اختيار ووقت عذر, فوقت المعذور بنوم أو سهو هو وقت ذكره واستيقاظه فهذا لم يصل الصلاة إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمدا وعدوانا؟.
الثالث: أن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي ويبن المعذور وغيره, وهذا مما لا خلاف فيه, فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز.
الرابع: إنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجة علينا بل ألزمنا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل له إلى استدراكها تغليظا عليه, وجوزنا قضاءها للمعذور غير المفرط.
فصل
وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فما أصحه من حديث على مقتضى قولكم فإنكم تقولون هو مدرك العصر ولو لم يدرك من وقتها شيئا البتة بمعنى أنه مدرك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته, فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه لم يتعلق إدراكها بركعة, ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إثم, بل هو آثم يتعمد ذلك اتفاقا, فإنه أمر أن يوقع جميعها في وقتها, فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم بل هو مدرك آثم, فلو كانت تصح بعد الغروب لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت أولا يدرك منه شيئا, فإن قلتم: إذا أخرها إلى بعد الغروب كان أعظم أثرا. قيل لكم: النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين إدراك الركعة وعدمها في كثرة الإثم وخفته وإنما فرق بينهما في الإدراك وعدمه, ولا ريب أن المفوت لمجموعها في وقت أعظم من المفوت لأكثر ها والمفوت لأكثر ها فيه أعظم من المفوت لركعة منها.
فنحن نسألكم ونقول: ما هذا الإدراك الحاصل بركعة؟ أهذا إدراك يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحد, أو إدراك يقتضي الصحة فلا فرق فيه بين أن يفوتها بالكلية أو يفوتها إلا ركعة منها.

(1/90)


فصل
وأما احتجاجكم بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق نوم ولا نسيان ثم قضاها. فيقال: يالله العجب! لو أتينا نحن بمثل هذا لقامت قيامتكم وأقمتم قيامتنا بالتشنيع علينا فكيف تحتجون على تفويت صاحبه عاص لله آثم متعد لحدود مستوجب لعقابه بتفويت صدر من أطوع الخلق لله وأرضاهم له وأتبعهم لأمره, وهو مطيع لله في ذلك التأخير متبع مرضاته فيه وذلك التأخير منه صلوات الله وسلام عليه إما أن يكون نسيانا منه أو يكون أخرها عمدا, وعلى التقديرين فلا حجة لكم فيه بوجه فإنه إن كان نسيانا فنحن وسائر الأمة نقول بموجبه وأن الناسي يصليها متى ذكرها, وإن كان عامدا فهو تأخير لها من وقت إلى وقت أذن فيه كتأخير المسافر والمعذور الظهر إلى وقت العصر والمغرب إلى وقت العشاء. وقد أختلف الناس فيمن أدركته الصلاة وهو مشغول بقتال العدو على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يصلي حال القتال على حسب حاله ولا يؤخر الصلاة. قالوا: والتأخير يوم الخندق منسوخ, وهذا هو مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد في المشهور عنه من مذهبه.
الثاني: أنها تؤخر كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وهذا مذهب أبي حنيفة. والأولون يجيبون على هذا بأنه كان قبل أن تشرع صلاة الخوف فلما شرعت صلاة الخوف لم يؤخرها بعد ذلك في غزاة واحدة. والحنيفة تجيب عن ذلك بأن صلاة الخوف إنما شرعت على تلك الوجوه ما لم يلتحم القتال, فإنهم يمكنهم أن يصلوا صلاة الخوف كما أمر الله سبحانه بأن يقوموا صفين صفا يصلون وصفا يحرسون, وأما حال الالتحام فلا يمكن ذلك فالتأخير وقع حال الاشتغال بالقتال وصلاة الخوف شرعت حال المواجهة قبل الاشتغال بالقتال وهذا له موضع, وهذا في القول كما ترى.
وقالت طائفة ثالثة: يخير بين تقديمها والصلاة على حسب حاله وبين تأخيرها حتى يتمكن من فعلها, وهذا مذهب جماعة من الشاميين وهو إحدى الروايتين

(1/91)


عن الإمام أحمد, لأن الصحابة فعلوا هذا وهذا في قصة بني قريظة, كما سنذكرها بعد هذا إن شاء الله تعالى, وعلى الأقوال الثلاثة فلا حجة للعاصي المفرط المعتدي الذي قد باء بعقوبة الله وإثم التفويت في ذلك بوجه من الوجوه, وبالله التوفيق.
فصل
وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بتأخير الصحابة العصر إلى بعد غروب الشمس عمدا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركت طائفة الصلاة في الطريق فقالوا: لم يرد منا تأخيرها فصلوها في الطريق, وأبت طائفة أخرى أن تصليها إلا في بني قريظة فصلوها بعد العشاء, فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين, فإن الذين أخروها كانوا مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معتقدين وجوب ذلك التأخير, وأن وقتها الذي أمروا به حيث أدركهم في بني قريظة فكيف يقاس العاصي المتعدي لحدود الله على المطيع له الممتثل لأمره فهذا من أبطل قياس في العالم وأفسده وبالله التوفيق.
وقد فضلت طائفة من العلماء الذين أخروها إلى بني قريظة على الذين صلوها في الطريق. قالوا: لأنهم امتثلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة, والآخرون تأولوا فصلوها في الطريق.
فصل
وأما استدلاكم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلى نافلة مع الأمراء الذين كانوا يضيعون الصلاة عن وقتها ويصلونها في غير الوقت, فلا حجة فيه لأنهم لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار بل كانوا يؤخرون صلاة الظهر إلى وقت العصر, وربما كانوا يؤخرون العصر إلى وقت الأصفرار ونحن نقول إنه متى أخر إحدى صلاتي الجمع إلى وقت الأخرى صلاها في وقت الثانية وإن كان غير معذور. وكذلك إذا أخر العصر إلى الاصفرار. بل إلى أن يبقى منها قدر ركعة فإنه يصليها بالنص. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولامطر1 أراد أن لا يحرج أمته. فهذا التأخير لا يمنع صحة الصلاة.
__________
1 رواه مسلم.

(1/92)


وأما قولكم قد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة من أخر الظهر إلى وقت العصر مع تفريطه في خروج وقت الظهر, فجوابه إن الوقت مشترك بين الصلاتين في الجملة, وقد جمع رسول الله بالمدينة خوف ولا مرض وهذا لا ينازع فيه, ولكن هل أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في وقت الضحى من غير نوم لا نسيان.
وأما قولكم وقد روي من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيمن نام عن صلاة الصبح: "وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". أن هذا أوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر, وهو حديث صحيح الإسناد.
فيا لله العجب! أين في هذا الحديث ما يدل بوجه من وجوه الدلالة نصها أو ظاهرها أو إيمائها على أن العاصي المتعدي لحدود الله بتفويت الصلاة عن وقتها تصح منه بعد الوقت وتبرأ ذمته منها, وهو أهل أن تقبل منه, وكأنكم فهمتم من قوله: "فإذا كان الغد فليصلها لميقاتها" أمره بتأخيرها إلى الغد. وهذا باطل قطعا لم يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحديث صريح في إبطاله فإنه أمره أن يصليها إذا استيقظ أو ذكرها, ثم روى في تمام الحديث هذه الزيادة وهي قوله: "فإذا كان من الغد فليصلها لميقاتها".
وقد اختلف الناس في صحة هذه الزيادة ومعناها, فقال بعض الحفاظ هذه الزيادة وهم من عبد الله بن رباح الذي روى الحديث عن أبي قتادة أو من أحد الرواة, وقد روي عن البخاري أنه قال: لا يتابع في قوله: "فليصل إذا ذكرها لوقتها من الغد".
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين قال سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى الحفتنا الشمس, فجعل الرجل يقوم دهشا إلى طهوره. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكنوا, ثم ارتحل فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا: يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: "أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم".
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي: وفي هذا دليل

(1/93)


على ما قال البخاري؛ لأن عمران بن الحصين كان حاضرا ولم يذكر ما قال عبد الله بن رباح عن أبي قتادة.
وعندي أنه لا تعارض بين الحديثين ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادتها من الغد وإنما الذي أمر به فعل الثانية في وقتها, وأن الوقت لم يسقط بالنوم والنسيان بل عاد إلى ما كان عليه, والله أعلم. قوله: وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر إلى آخره, وقد تقدم جواب هذا وأمثاله مرارا وأن هذا التأخير كان طاعة لله تعالى وقربة وغايته أنه جمع بين الصلاتين لشغل مهم من أمور المسلمين, فكيف يصح إلحاق تأخير المتعدي لحدود الله بت؟ ولقد ضعفت مسألة نصر بمثل هذا قوله: وليس ترك الصلاة حتى يخرج وقتها عمدا مذكورا عند الجمهور في الكبائر. فيقال يا لله العجب! وهل تقبل هذه المسألة نزاعا. وهل ذلك إلا من أعظم الكبائر وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تفويت صلاة العصر محبطا للعمل فأي كبيرة تقوى على إحباط العمل سوى تفويت الصلاة.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين الصلايتن من غير عذر من الكبائر. ولم يخالفه صحابي واحد في ذلك. بل الآثار الثابتة الصحابة كلها توافق ذلك. هذا والجامع بين الصلاتين قد صلاهما في وقت إحداهما للعذر. فماذا نقول فيمن صلى الصبح في وقت الضحى عمدا وعدوانا والعصر نصف الليل من غير عذر. وقد صرح الصديق أن الله لا يقبل هذه الصلاة ولم يخالف الصديق صحابي واحد وقد توعد الله سبحانه بالويل والغي لمن سها عن صلاته وأضاعها, وقد قال الصحابة وهم أعلم الأمة بتفسير الآية إن ذلك تأخيرها عن وقتها كما تقدم حكايته.
ويا لله العجب أي كبيرة أكبر من كبيرة تحبط العمل وتجعل الرجل بمنزلة من قد وتر أهله وماله, وإذا لم يكن تأخير صلاة النهار إلى الليل وتأخير صلاة الليل إلى النهار من غير عذر من الكبائر لم يكن فطر شهر رمضان من غير عذر وصوم شوال بدله من الكبائر, ونحن نقول بل ذلك أكبر من كل

(1/94)


كبيرة بعد الشرك بالله. ولأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك به خير له من أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار عدوانا عمدا بلاعذر, وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن سليمان بن يسار عن المسور بن مخرمة أنه دخل مع ابن عباس على عمر حين طعن فقال ابن عباس يا أمير المؤمنين الصلاة فقال: أجل أصلي: إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة. وقال إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان الناس الإسلام: تعبد الله ولاتشرك به شيئا وتقيم الصلاة التي افترض الله بمواقيتها فإن في تفريطها الهلكة.
وقال محمد بن نصر المروزي وسمعت إسحاق يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تارك الصلاة كافر" , وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر, وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر, وإنما جعل أوقات الصلاة بما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة في السفر فصلى إحداهما في وقت الأخرى, فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأولى منهما وقتا للأخرى في حال والأخرى وقتا للأولى في حال صار وقتاهما وقتا واحدا في حال العذر, كما أمرت الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت آخر الليل أن تصلي المغرب والعشاء, وإذا كان صلاة الذي يؤخر العصر حتى تصير الشمس بين قرني الشيطان صلاة المنافق بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقول بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه لمن يصليها بعد العشاء, وقد قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . فإذا اجتنب الرجل كبائر المنهيات واستمر على صلاة الصبح في وقت الضحى والعصر بعد العشاء كان على قولكم مغفورا له غير آثم البتة, وهذا لا يقول أحد.
قوله: والعجب من هذا الظاهري كيف نقض أصله فإنه يقول ما وجب بإجماع فإنه لا يسقط إلا بالإجماع, فيقال: غاية هذا أن منازعكم تناقض فلا يكون تناقضه مصححا لقولكم, وإن أردتم بذلك الاستدلال بالاستصحاب وأن الصلاة

(1/95)


كانت في ذمته بإجماع فلا تسقط إلا بإجماع وهو مفقود, قيل لكم: ومن ذا الذي قال بسقوطها من ذمته بالتأخير, وأن ذمته قد برئت منها, فمن قال بهذا فقوله أظهر بطلانا من أن نحتاج إلى دليل عليه. والذي يقول منازعوكم إنها قد استقرت في ذمته على وجه لا سبيل له إلى أدائها واستدراكها إلا بعود ذلك الوقت بعينة, وهذا محال, ثم نعارض هذا الإجماع بإجماع مثله أو أقوى منه, فنقول: أجمع المسلمون على أنه عاص متعد مفرط بإضاعة الوقت فلا يرتفع هذا الاجماع إلا بإجماع مثله, ولم يجمعوا أنه يرتفع عنه الإثم والعدوان بالفعل بعد الوقت, بل لعل هذا لم يقله أحد.
فهذا ما يتعلق بالحجاج من الجانبين, وليس لنا غرض فيما وراء ذلك, وقد بان من هو أسعد بالكتاب والسنة وأقوال السلف في هذه المسالة والله المستعان.
فصل
فإن قيل فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المفطر متعمدا في نهار رمضان بالقضاء في موضعين أحدهما المجامع. والثاني: المستقيء. ففي السنن من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد جامع أهله في رمضان فذكر الحديث وقال فيه: "فأتى بعذق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعا" وفيه قال: "كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله عز وجل". وعند ابن ماجة: "وصم يوما مكانه".
وفي السنن والمسند من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض". قيل: الحديثان معلولان لا يثبتان. أما قصة المجامع في رمضان فقد رواها أصحاب الصحيح ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة, والذي ذكرها لا تقوم به الحجة فإنها من رواية عبد الجبار بن عمر الأيلي وقد ضعفه الأئمة. قال يحيى بن معين: "ليس بشيء ولا يكتب حديثه" وقال مرة: "ضعيف" وكذلك قال أبو زرعة والسعدي أي ابن سعد والنسائي, وقال البخاري: "ليس بالقوي عنده مناكير" وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه يخالف فيه والضعف بين على رواياته" ورواه أئمة أصحاب ابن شهاب عنه كمالك وغيره فلم يذكروا قوله: "صم يوما مكانه". ورواه أبو مروان العثماني عن إبراهيم بن سعد عن الليث عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له في هذه القصة اقض

(1/96)


يوما مكانه". وكذا روي عن الدراوردي عن إبراهيم بن سعد عن الليث قال البيهقي وإبراهيم عنده الحديث عن الزهري بلا هذه الكلمة, وقد رواه حجاج بن أرطاة عن إبراهيم بن علي كذا مر عن ابن المسيب وعن الزهري عن حميد عن أبي هريرة ورواه حجاج عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وقال فيه عمرو وأمره أن يقضي يوما مكانه, وقد رواه هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال فيه: "وصم يوما مكانه واستغفر الله". فخالف هشام الناس في روايته عن أبي سلمة والحديث لحميد عن أبي هريرة.
ورواه ابن أبي اويس قال حدثني أبي أن ابن شهاب أخبره عن حميد أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الذي يفطر في رمضان أن يصوم يوما مكانه, ولكن هذا يخالف رواية أصحاب ابن شهاب فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة, وقال الشافعي أخبرنا مالك عن عطاء الخراساني عن ابن المسيب قال أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث, وقال في آخره: "فصم يوما مكان ما أصبت". وهذا مرسل ولكنه من مراسيل ابن المسيب, ورواه داود بن أبي هند عن عطاء فلم يذكر قوله: "وصم يوما مكانه" وعطاء كذبه ابن المسيب. وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ يخطيء ولا يعلم فبطل الاحتجاج بت".
وأما حديث المستقيء عمدا فهو حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء". فقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال: قال محمد يعني البخاري لا أراه محفوظا, وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "ليس من ذا شيء". وقال الترمذي في كتاب العلل: حدثنا علي بن حجر حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض". قال الترمذي: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: ما أراه محفوظا قال: وقد روى يحيى ابن أبي كثير

(1/97)


عن عمر بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء بفطر الصائم.
وبتقدير صحة الحديث فلا حجة فيه, إذ المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الاستقياء أو المريض الذي احتاج أن يستقيء فاستقاء فإن الاستقياء في العادة لا يكون وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء حاجة فيكون المستقيء متداويا بالاستقياء كما لو تداوى بشرب دواء, وهذا يقبل منه القضاء أو يؤمر به اتفاقا, وقد اختلف الفقهاء في المجامع في نهار رمضان إذا كفر هل يجب أن يقضي يوما مكان الذي أفطره على ثلاثة أقوال: وهي الشافعي أحدها يجب. والثاني: لا يجب. والثالث: إن كفر بالعتق أو الإطعام وجب عليه الصيام وإن كفر بالصوم لم يجب عليه قضاء ذلك اليوم1.
__________
1 وهناك دليل يقطع النزاع الذي طال وهو الإجماع على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ولا أدري كيف فات الجميع هذه الحجة.

(1/98)


فصل
وأما المسألة السادسة: وهي هل تصح صلاة من صلى وحده وهو يقدر على الصلاة جماعة أم لا؟
فهذه المسألة مبينة على أصلين: أحدهما أن صلاة الجماعة فرض أم سنة؟ وإذا قلنا هي فرض فهل هي شرط لصحة الصلاة أم تصح بدونها مع عصيان تاركها؟ فهاتان مسألتان:
أما المسألة الأولى: فاختلف الفقهاء فيها فقال بوجوبها عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأبو عمر الأوزاعي وأبو ثور والإمام أحمد في ظاهر مذهبه ونص عليه الشافعي في مختصر المزني, فقال: وأما الجماعة فلا أرخص في تركها إلا من عذر, وقال ابن المنذر في كتاب الأوسط: ذكر حضور الجماعة على العميان, وإن بعدت منازلهم عن المسجد. ويدل على ذلك أن شهود الجماعة فرض لا ندب, ثم ذكر حديث ابن أم مكتوم أنه قال: يا رسول الله إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا فهل يسعني أن أصلي في بيتي قال: "تسمع الإقامة". قال: نعم. قال: "فأتها". قال ابن المنذر: ذكر تخويف النفاق على تارك شهود العشاء والصبح في جماعة, ثم قال في أثناء الباب: فدلت الأخبار التي ذكرت على وجوب فرض

(1/98)


الجماعة على من لا عذر له, فمما دل عليه قوله لابن أم مكتوم وهو ضرير: "لا أجد لك رخصة". فإذا كان الأعمى لا رخصة له فالبصير أولى أن لا تكون له رخصة. قال: وفي اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأن يحرق على قوم تخلفوا عن الصلاة بيوتهم أبين البيان على وجوب فرض الجماعة, إذ غير جائز أن يتهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخلف عن ندب وعما ليس بفرض.
قال: ويؤيده حديث أبي هريرة أن رجلا خرج من المسجد بعدما أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم, ولو كان المرء مخيرا في ترك الجماعة وإتيانها لم يجز أن يعصي من تخلف عما لا يجب عليه أن يحضره, وإنما لما أمر الله جل ذكره بالجماعة في حال الخوف دل على أن ذلك في حال الأمن أوجب, والأخبار المذكورة في أبواب الرخصة في التخلف عن الجماعة لأصحاب الأعذار تدل على فرض الجماعة على من لا عذر له, ولو كان حال العذر وغير حال العذر سواء لم يكن للترخيص في التخلف عنها في أبواب العذر معنى, ودل على تأكيد فرض الجماعة قوله صلى الله عليه وسلم: "من يسمع النداء فلم يجب فلا صلاة له". ثم ساق الحديث في ذلك ثم قال: وقال الشافعي ذكر الله الأذان بالصلاة, فقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . وقال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان للصلوات المكتوبات فأشبه ما وصفت أن لا يحل أن تصلي كل مكتوبة إلا في جماعة حتى لا يخلو جماعة مقيمون أو مسافرون من أن يصلي بهم صلاة جماعة فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر وإن تخلف أحد فصلاها منفردا لم تكن عليه إعادتها صلاها قبل الإمام أو بعده إلا صلاة الجمعة فإن من صلاها ظهرا قبل صلاة الإمام كان عليه إعادتها لأن إتيانها فرض هذا كله لفظ ابن المنذر, وقالت الحنفية والمالكية: هي سنة مؤكدة ولكنهم يؤثمون تارك السنن المؤكدة ويصححون الصلاة بدونه, والخلاف بينهم وبين من قال أنها واجبة لفظي. وكذلك صرح بعضهم بالوجوب, قال الموجبون: قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ

(1/99)


طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} . ووجه الاستدلال بالآية من وجوه:
أحدها أمره سبحانه لهم بالصلاة في الجماعة, ثم أعاد هذا الأمر سبحانه مرة ثانية في حق الطائفة الثانية بقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} . وفي هذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان إذ لم يسقطها سبحانه عن الطائفة الثانية بفعل الأولى, ولو كانت الجماعة سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف ولو كانت فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى ففي, الآية دليل على وجوبها على الأعيان, فهذه على ثلاثة أوجه أمره بها أولا ثم أمره بها ثانيا وأنه لم يرخص لهم في تركها حال الخوف.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه عاقبهم يوم القيامة بأن حال بينهم وبين السجود لما دعاهم إلى السجود في الدنيا فأبوا أن يجيبوا الداعي. إذا ثبت هذا فإجابة الداعي هي إتيان المسجد بحضور الجماعة لا فعلها في بيته وحده, فهكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإجابة.
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فرخص له فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء". قال: نعم. قال: "فأجب". فلم يجعل مجيبا له بصلاته في بيته إذا سمع النداء فدل على أن الإجابة المأمور بها هي إتيان المسجد للجماعة, ويدل عليه حديث ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح". قال: نعم. قال: "فحي هلا". رواه أبو داود والإمام أحمد, "وحي هلا: اسم فعل أمر معناه أقبل وأجب, وهو صريح في أن إجابة هذا الأمر بحضور الجماعة, وأن المتخلف عنها لم يجبه.
وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ

(1/100)


وَهُمْ سَالِمُونَ} , قال: هو قول المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح, فهذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما: أن هذه الإجابة واجبة, والثانية: لا تحصل إلا بحضور الصلاة في الجماعة, وهذا هو الذي فهمه أعلم الأمة وأفقههم من الإجابة وهم الصحابة رضي الله عنهم, فقال ابن المنذر في كتاب الأوسط: روينا عن ابن مسعود وأبي موسى أنهما قالا: من سمع النداء ثم لم يجب فإنه لا تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر, قال: وروي عن عائشة أنها قالت: من سمع النداء فلم يجب لم يرد خيرا ولم يرد بت, وعن أبي هريرة أنه قال: إن تمتليء أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه, فهذا وغيره يدل أن الإجابة عند الصحابة هي حضور الجماعة, وأن المتخلف غير مجيب فيكون عاصيا. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} , ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أمرهم بالركوع وهو الصلاة وعبر عنها بالركوع لأنه من أركانها والصلاة يعبر عنها بأركانها وواجباتها كما سماها الله سجودا وقرآنا وتسبيحا فلا بد لقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} من فائدة أخرى وليست إلا فعلها مع جماعة المصلين, والمعية تفيد ذلك.
إذا ثبت هذا الأمر المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور ممتثلا إلا بالإتيان به على تلك الصفة والحال, فإن قيل: فهذا ينتقض بقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} , والمرأة لا يجب عليها حضور الجماعة, قيل: الآية لم تدل على تناول الأمر بذلك لكل امرأة بل مريم بخصوصها أمرت بذلك, بخلاف قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} , ومريم كانت لها خاصة لم تكن لغيرها من النساء فإن أمها نذرتها أن تكون محررة لله ولعبادته ولزوم المسجد, وكانت لا تفارقه, فأمرت أن تركع مع أهله, ولما اصطفاها الله وطهرها على نساء العالمين أمرها من طاعته بأمر اختصها به على سائر النساء, قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى

(1/101)


نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} , فإن قيل كونهم مأمورين أن يركعوا مع الراكعين لا يدل على وجوب الركوع معهم حال ركوعهم بل يدل على الإتيان بمثل ما فعلوا, كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} , فالمعية تقضي المشاركة في الفعل ولاتستلزم المقارنة فيه. قيل: حقيقة المعية مصاحبة ما بعدها لما قبلها وهذه المصاحبة تفيد زائدا على المشاركة ولا سيما في الصلاة فإنه إذا قيل صل مع الجماعة أو صليت مع الجماعة لا يفهم منه إلا اجتماعهم على الصلاة.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين, وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم, والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين 1 حسنتين لشهد العشاء". وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". متفق على صحته واللفظ لمسلم.
وللإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار".
قال المسقطون لوجوبها: هذا ما لا يدل على وجوب صلاة الجماعة لوجوه:
أحدها: أن هذا الوعيد إنما جاء في المتخلفين عن الجمعة, بدليل ما راه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
__________
1 المرماة ما بين ظلف الشاة من اللحم، والظلف هو كل حافر منشق.

(1/102)


الثاني: أن هذا كان جائزا لما كانت العقوبات المالية جائزة, ثم نسخ بما نسخ العقوبات المالية.
الثالث: أنه هم ولم يفعل, ولو كان التحريق جائزا لكان واجبا لا تكون مستوية الطرفين, بل إما واجبة أو محرمة, فلما لم يفعل ذلك دل على عدم الجواز. قالوا: والحديث يدل على سقوط فرض الجماعة لأنه هم بالتخلف عنها وهو لا يهم بترك واجب. قالوا: وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم بإحراق بيوتهم عليهم لنفاقهم لا لتخلفهم عن حضور الجماعة.
قال الموجبون: ليس فيما ذكرتم ما يسقط دلالة الحديث, أما قولكم: إن الوعيد إنما هو في حق تارك الجمعة فنعم هو في حق تارك الجمعة وتارك الجماعة, فحديث أبي هريرة صريح في أنه في حق تارك الجماعة وذلك بين في أول الحديث وآخره, وحديث ابن مسعود في أن ذلك لتارك الجمعة أيضا فلا تنافي بين الحديثين, وأما قولكم إنه منسوخ فما أصعب هذه الدعوى وأصعب إثباتها فأين شروط النسخ من وجود معارض مقاوم متأخر ولن تجدوا أنتم ولا أحد من أهل الأرض سبيلا إلى إثبات ذلك بمجرد الدعوى, وقد اتخذ كثيرا من الناس دعوى النسخ والإجماع سلما إلى إبطال كثير من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بهين ولا تترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة أبدا بدعوى الإجماع ولا دعوى النسخ إلى أن يوجد ناسخ صحيح صريح متأخر نقلته الأئمة وحفظته: إذ محال على الأمة أن تضيع الناسخ الذي يلزمها حفظه وتحفظ المنسوخ الذي قد بطل العمل به ولم يبق من الدين.
وكثير من المولدة المتعصبين إذا رأوا حديثا يخالف مذهبهم يتلقونه بالتأويل وحمله على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلا فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزعوا إلى دعوى الإجماع على خلافه فإن رأوا من الخلاف مالا يمكنهم من دعوى الإجماع فزعوا إلى القول بأنه منسوخ وليست هذه طريق أئمة الإسلام بل أئمة الإسلام كلهم على خلاف هذا الطريق وأنهم إذا وجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة صريحة لم يبطلوها بتأويل ولا دعوى إجماع ولا

(1/103)


نسخ. والشافعي وأحمد من أعظم الناس إنكارا لذلك, وبالله التوفيق.
وإنما لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هم به للمانع الذي أخبر أنه منعه منه وهو اشتمال البيوت على من لا تجب عليه الجماعة من النساء والذرية فلو أحرقها عليهم إلى من لا يجب عليه وهذا لا يجوز كما إذا وجب الحد على حامل فإنه لا يقام عليها حتى تضع لئلا تسري العقوبة إلى الحمل, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهم بما لا يجوز فعله أبدا, وقد أجاب عنه بعض أهل العلم بجواب آخر: وهو أن القوم كانوا أخوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمعوه يقول هذه المقالة ثم يصرون على التخلف عن الجماعة.
وأما قولكم إن الحديث يدل على عدم وجوب الجماعة لكونه هم بتركها فمما لا يلتفت إليه ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يهم بعقوبة طائفة من المسلمين بالنار وإحراق بيوتهم لتركهم سنة لم يوجبها الله عليهم ولا رسوله وهو صلى الله عليه وسلم لم يخبر أنه كان يصلي وحده بل كان يصلي جماعة هو وأعوانه الذين ذهبوا معه إلى تلك البيوت, وأيضا فلو صلاها وحده لكان هناك واجبان واجب الجماعة وواجب عقوبة العصاة وجهادهم, فترك أدنى الواجبين لأعلاهما كالحال في صلاة الخوف.
وأما قولكم إنما هم بعقوبتهم على نفاقهم لا على تخلفهم عن الجماعة فهذا يستلزم محظورين: أحدهما إلغاء ما اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلق الحكم به من التخلف عن الجماعة. والثاني: اعتبار ما ألغاه فإنه لم يكن يعاقب المنافقين على نفاقهم بل كان يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله. الدليل الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المجسد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فرخص له, فلما ولى دعاه فقال: "هل تسمع النداء". قال: نعم. قال: "فأجب" , وهذا الرجل هو ابن أم مكتوم, واختلف في اسمه فقيل عبد الله وقيل عمرو.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن عمرو بن أم مكتوم قال: قلت: يا رسول الله أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني, فهل لي رخصة أن

(1/104)


أصلي في بيتي؟ قال: "تسمع النداء". قال: نعم. قال: "ما أجد لك رخصة".
قا المسقطون لوجوبها: هذا أمر استحباب لا أمر إيجاب, وقوله: لا أجد لك رخصة أي إن أردت فضيلة الجماعة. قالوا: وهذا منسوخ. قال الموجبون: الأمر مطلق للوجوب فكيف إذا صرح صاحب الشرع بأنه لا رخصة للعبد في التخلف عنه لضرير شاسع الدار لا يلائمه قائده, فلو كان العبد مخيرا بين أن يصلي وحده أو جماعة لكان أولى الناس بهذا التخيير مثل الأعمى.
قال أبو بكر بن المنذر: ذكر حضور الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن المسجد, ويدل ذلك على أن شهود الجماعة فرض لاندب, وإذا قال لابن أم مكتوم وهو ضرير لا أجد لك رخصة فالبصير أولى أن لا تكون له رخصة.
الدليل السادس: ما رواه أبو داود وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر" -قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلاها".
قال المسقطون للوجوب: هذا حديث فيه علتان إحدهما أنه من رواية مغراء العبدي وهو ضعيف عندهم. الثانية: إنما يعرف عن ابن عباس موقوفا عليه.
قال الموجبون: قد قال قاسم بن أصبغ في كتابه: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر". وحسبك بهذا الإسناد صحة. ورواه ابن المنذر: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن عوف حدثنا هشيم شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا؛ قالوا: ومعارك العبدي قد روى عنه أبو اسحاق السبيعي على جلالته ولو قدر أنه لم يصح رفعه فقد صح عن ابن عباس بلا شك, وهو قول صاحب لم يخالفه صاحب.
الدليل السابع: ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم

(1/105)


كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وفي لفظ: وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه.
فوجه الدلالة أنه جعل التخلف عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم نفاقهم؛ وعلامات النفاق لا تكون بترك مستحب ولا بفعل مكروه؛ ومن استقرأ علامات النفاق في السنة وجدها إما ترك فريضة أو فعل محرم, وقد أكد هذا المعنى بقوله: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن.
وسمى تاركها المصلي في بيته متخلفا تاركا للسنة التي هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان عليها وشريعته التي شرعها لأمته, وليس المراد بها السنة التي من شاء فعلها ومن شاء تركها, فإن تركها لا يكون ضلالا ولا من علامات النفاق كترك الضحى وقيام الليل وصوم الإثنين والخميس.
الدليل الثامن: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمام ة أقرؤهم". ووجه الاستدلال به أنه أمر بالجماعة وأمره على الوجوب.
الدليل التاسع: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من صلى وحده خلف الصف أن يعيد الصلاة, فروى وابصة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة, رواه الإمام أحمد مسند وأهل السنن وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وحسنه الترمذي.
وعن علي بن شيبان قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه ثم صلينا وراءه صلاة أخرى فقضى الصلاة, فرأى رجلا فردا خلف

(1/106)


الصف, فوقف عليه حتى انصرف, وقال: "استقبل صلاتك لا صلاة للذي خلف الصف". رواه الإمام أحمد وابن حبان.
وفي رواية الإمام أحمد صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلا يصلي فردا خلف الصف فوقف نبي الله صلى الله عليه وسلم الرجل حتى انصرف فقال له استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف.
قال ابن المنذر: وثبت هذا الحديث أحمد وإسحاق, فوجه الدلالة أنه أبطل صلاة المنفرد عن الصف وهو في جماعة, وأمره بإعادة صلاته مع أنه لم ينفرد إلا في المكان خاصة فصلاة المنفرد عن الجماعة والمكان أولى بالبطلان, يوضحه أن غاية هذا الفذ أن يكون منفردا, ولو صحت صلاة المنفرد لما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفيها, فأمر من صلى كذلك أن يعيد صلاته.
قال المسقطون للوجوب: لايمكنكم الاستدلال بهذا الحديث إلا بعد إثبات بطلان صلاة الفذ خلف الصف. وهذا قول شاذ مخالف لجمهور أهل العلم وقد دل على صحتها إجماع الناس على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف, وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف جبريل, فروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي.
فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف جبريل مقتديا به. قالوا: وقد أحرم أبو بكرة فذا خلف الصف ثم مشى حتى دخل الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. قالوا: وقد أحرم ابن عباس عن يساره صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأداره عن يمينه ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال الصلاة بل صحح إحرامه فذا, فهذا في النفل وحديث جابر في الفرض أنه قام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده فأقامه عن يمينه.
قال الموجبون: العجب من معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة بمثل ذلك

(1/107)


فإنه لا تعارض بين الأحاديث بوجه من الوجوه, وأما قولكم إن هذا قول شاذ فلعمر الله ليس شاذا ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الصحيحة والصريحة, ولو تركها من تركها فلا يكون ترك السنن لخفائها على من تركها أو لنوع تأيل مسوغا لتركها لغيره, وكيف يقدم ترك التارك لهذه السنة عليها.
هذا وقد قال بهذه السنة جماعة من أكابر التابعين منهم سعيد بن جبير وطاوس وإبراهيم النخعي ومن دونهم كالحكم وحماد وابن أبي ليلى والحسن بن صالح ووكيع. وقال بها الأوزاعي, حكاه الطحاوي عنه وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن اسحاق بن خزيمة فأين الشذوذ, وهؤلاء القائلون وهذه السنة.
وأما معارضتكم بموقف المرأة فمن أفسد المعارضات لأن ذلك هو موقف المرأة المشروع لها حتى لو وقفت في صف الرجال أفسدت صلاة من يليها عند أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد, فإن قيل لو وقفت فذة خلف صف النساء صحت صلاتها قيل ليس كذلك بل إذا انفردت المرأة عن صف النساء لم تصح صلاتها كالرجل الفذ خلف الرجال ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في تعليقه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لفرد خلف الصف". خرج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرجال للحديث الصحيح بقي فيما عداه على هذا العموم وأما قصة صلاته صلوات الله وسلامه عليه خلف جبريل وحده والصحابة خلفه فقد أجيب عنها بأنها كانت في أول الأمر حين علمه مواقيت الصلاة وقصة أمره صلى الله عليه وسلم الذي صلى خلف الصف فذا بالإعادة متأخرة بعد ذلك وهذا جواب صحيح.
وعندي فيه جواب آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو إمام المسلمين فكان بين أيديهم وكان هو المؤتم بجبريل وحده وكان تقدم جبريل عليه السلام أبلغ في حصول التعليم من أن يكون إلى حانبه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم على المنبر ليأتموا وليتعلموا صلاته وكان ذلك لأجل التعليم لم يدخل في نهيه صلى الله عليه وسلم الإمام إذا أم الناس أن يقوم في مقام أرفع منهم

(1/108)


وأما قصة أبي بكرة فليس فيها أنه رفع رأسه من الركوع قبل دخوله في الصف وإنما يمكن التمسك بها لو ثبت ذلك ولا سبيل إليه وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد فيمن ركع دون الصف ثم مشى راكعا حتى دخل فيه بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع, وعنه في ذلك ثلاث روايات:
إحداها تصح مطلقا, وحجة هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا بكرة بالإعادة ولا استفصله هل أدركه قبل رفع رأسه من الركوع أم لا ولو اختلف الحال لاستفصله. وروى سعيد بن منصور في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف، ثم يمشي راكعا ويعتد بها. وصل الصف أم لم يصل.
والرواية الثانية: أنها لا تصح. نص عليها في رواية إبراهيم بن الحارث ومحمد بن الحكم. وفرق بينه وبين من أدرك الركوع في الصف، لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة فأشبه ما لو أدركه وقد سجد, وهذه الرواية أصح عند أكثر أصحابه.
والرواية الثالثة: إن كان عالما بالنهي لم تصح صلاته وإلا صحت لقصة أبي بكرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعد". والنهي يقتضي الفساد, ولكن ترك في الجاهل به حيث لم يأمره بالإعادة, وكانت هذه حال أبي بكرة.
وأما قصة ابن عباس وجابر في ترك أمرهها بابتداء الصلاة وقد أحرما فذين فهذه أولا ليس فيها أنهما قد دخلا في الصلاة. وإنما فيه أنهما وقفا عن يساره فأدارهما عند أول وقوفهما, ولو قدر أنهما أحرما كذك فمن أحرم فذا صح إحرامه بالصلاة ودخوله فيها, وإنما الاعتبار بالركوع وحده وإلا فمن وقف معه آخر قبل الركوع صحت صلاته, ولو أعتبرنا إحرام المأمومين جميعا لم ينعقد تحريم أحد حتى يتفق هو ومن إلى جانبه في ابتداء التكبير وانتهائه, وهذا من أعظم الحرج والمشقة ولهذا لم يعتبره أحد أصلا والله أعلم.
الدليل العاشر: ما رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ثلاثة في قرية لا يؤذن فيهم ولا

(1/109)


تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان, فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية".
فوجه الاستدلال منه أنه أخبر باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان وإقامة الصلاة, ولو كانت الجماعة ندبا يخير الرجل بين فعلها وتركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها.
الدليل الحادي عشر: ما رواه في صحيحة رقم من حديث أبي الشعثاء المحاربي قال: كنا قعودا في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصرة حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. وفي رواية سمعت أبا هريرة وقد رأى رجلا يجتاز في المسجد خارجا بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم, ووجه الاستدلال به أنه جعله عاصيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه بعد الأذان لتركه الصلاة جماعة, ومن يقول الجماعة ندب يقول لا يعصي الله ولا رسوله من خرج بعد الأذان وصلى وحده, وقد احتج ابن المنذر في كتابه على وجوب الجماعة بهذا الحديث, وقال لو كان المرء مخيرا في ترك الجماعة وإتيانها لم يجز أن يعصي من تخلف عما لا يجب عليه أن يحضره, والذي يقول صلاة الجماعة ندب إن شاء فعلها وإن شاء تركها يجوز للرجل أن يخرج من المسجد وقد أخذ المؤذن في إقامة الصلاة بل يجوز له أن يجلس فلا يصلي مع الإمام والجماعة, فإذا صلوا قام فصلى وحده ولو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من يفعل هذا لأنكروا عليه غاية الإنكار بل قد أنكر ما هو دون هذا وهو على من لا يصلي مع الجماعة اكتفاء بصلاته في رحله. وقال: "ما لك لا تصلي معنا ألست برجل مسلم". وأمر بالصلاة في الجماعة لمن صلى ثم أتى مسجد الجماعة فقال: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة".
الدليل الثاني عشر: إجماع الصحابة رضي الله عنهم, ونحن نذكر نصوصهم وقد تقدم قول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن ابن مسعود قال: من سمع المنادي فلم يجب عذر فلا صلاة له.

(1/110)


وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن أبي الحصين عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: من سمع المنادي فلم يجب بغير عذر فلا صلاة له, وقال أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. قيل: ومن جار المسجد؟ قال: من سمع المنادي. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم أخبرنا منصور عن الحسن بن علي قال: من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر. وقال عبد الرزاق عن يروي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: من سمع النداء من جيران المسجد وهو صحيح من غير عذر فلا صلاة له.
وقال وكيع عن عبد الرحمن بن حصين عن أبي نجيح المكي عن أبي هريرة قال: لأن تمتليء أذنا ابن آدم رصاصا مذابا خير له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن عدي بن ثابت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: من سمع المنادي فلم يجب من غير عذر فلم يرد خيرا أولم يرد به.
قال وكيع حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عابس قال: من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له.
وقال عبد الرزاق عن ليث عن مجاهد قال: سأل رجل ابن عباس فقال: رجل يصوم النهار ويقوم الليل لا يشهد جمعة ولا جماعة. فقال ابن عباس: هو في النار, ثم جاء الغد فسأله عن ذلك فقال: هو في النار. قال: واختلف إليه قريبا من شهر يسأله عن ذلك, ويقول ابن عباس: هو في النار.
فهذه نصوص الصحابة كما تراها صحة وشهرة وانتشارا, ولم يجيء عن صحابي واحد خلاف ذلك وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة لو كان وحده, فكيف إذا تعاضدت وتضافرت؟ وبالله التوفيق.

(1/111)


فصل
وأما المسالة السابعة وهي: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة أم لا؟
فاختلف الموجبون لها في ذلك على قولين:

(1/111)


أحدهما: أنها فرض يأثم تاركها وتبرأ ذمته بصلاته وحده, وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال إجابة الداعي إلى الصلاة فرض, ولو أن رجلا قال: هي عندي سنة أصليها في بيتي مثل الوتر وغيره لكان خلاف الحديث وصلاته جائزة, وعنه رواية ثانية ذكرها أبو الحسن الزعفراني في كتاب الإقناع أنها شرط للصحة فلا تصح صلاة من صلى وحده, وحكاه القاضي عن بعض الأصحاب واختاره أبو الوفاء ابن عقيل وأبو الحسن التميمي وهو قول داود وأصحابه. قال ابن حزم: وهو قول جميع أصحابنا ونحن نذكر حجج الفريقين:
قال المشترطون: كل دليل ذكرناه في الوجوب يدل على أنها شرط فإنها إذا كانت واجبة فتركها المكلف لم يفعل ما أمر به فبقي في عهدة الأمر. قالوا: ولو صحت الصلاة بدونها لما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا صلاة له, ولو صحت لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي ثم لم يجبه لم تقبل منه الصلاة التي صلى". فلما وقف القبول عليها دل على اشتراطها, كما أنه لما وقف القبول على الوضوء من الحدث دل على اشتراطه.
قالوا: ونفي القبول إما أن يكون لفوات ركن أو شرط ولا ينتقض هذا بنفي القبول عن صلاة العبد الآبق وشارب الخمر أربعين يوما؛ لأن امتناع القبول هناك لارتكاب أمر محرم قارن الصلاة فأبطل أجرها.
قالوا: ولو صحت صلاة المنفرد لما قال ابن عباس إنه في النار, قالوا: لو صحت صلاته أيضا لما كانت واجبة, وأنه إنما يصح عبادة من أدى ما أمر به, وقد ذكرنا من أدلة الوجوب ما فيه كفاية. قال المصححون لها وهم ثلاثة أقسام قسم يجعلها سنة إذا شاء فعلها وإن شاء تركها, وقسم يجعلها فرض كفاية إذا قام بها طائفة سقطت عمن عداهم, وقسم يقول: هي فرض على الأعيان وتصح بدونها. وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". وفيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسة وعشرين ضعفا, وذلك أنه إذا توضأ

(1/112)


فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث تقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه, ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة". قالوا فلو كانت صلاة المنفرد باطلة لم يفاضل بينها وبين صلاة الجماعة إذ لا مفاضلة بين الصحيح والباطل.
قالوا: وفي صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله". قالوا: فشبه فعلها في جماعة بما ليس بواجب, والحكم في المشبه كهو في المشبه به أو دونه في التأكيد.
قالوا: وقد روى يزيد بن الأسود قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا قال: "علي بهما" -فجيء بهما ترعد فرائصهما- قال: "ما منعكما أن تصليا معنا" , فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة". رواه أهل السنن. وعند أبي داود: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة". قالوا: ولولا صحة الأولى لم تكن الثانية نافلة.
وعن محجن بن الأذرع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فصلى يعني ولم أصل فقال لي: "ألا صليت" قلت: يا رسول الله قد صليت في الرحل ثم أتيتك. قال: "فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة". رواه الإمام أحمد
وفي الباب عن أبي هريرة وعن أبي ذر وعبادة وعبد الله بن عمر ولفظ حديث ابن عمر عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط والقوم يصلون في المسجد فقلت: ما يمنعك أن تصلي مع الناس قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين". رواه أبو داود والنسائي.
فصل
قال الموجبون: التفضيل لا يستلزم براءة الذمة من كل وجه سواء كان مطلقا أو مقيدا فإن التفضيل يحصل مع مناقضة المفضل للمفضل عليه من كل وجه

(1/113)


كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} , وقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} , وهو كثير فكون صلاة الفذ جزءا واحدا من سبعة وعشرين جزءا من صلاة الجميع لا يستلزم إسقاط فرض الجماعة, ولزوم كونها ابنة بوجه من الوجوه, وغايتها أن يتأدى الواجب بها, وبينهما من الفضل ما بينهما فإن الرجلين يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتهما في الفضل كما بين السماء والأرض.
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له من الأجر إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها" حتى بلغ عشرها فإذا عقل اثنان يصليان فرضهما صلاة أحدهما أفضل من صلاة الآخر بعشرة أجزاء وهما فرضان فهكذا يعقل مثله في صلاة الفذ وصلاة الجماعة.
وأبلغ من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها". فإذا لم يعقل في صلاته إلا في جزء واحد كان له من الأجر بقدر ذلك الجزء, وإن برأت ذمته من الصلاة, فهكذا المصلي وحده له جزء واحد من الأجر وإن برئت الذمة, ومثل هذه الصلاة لا يسميها الشارع صحيحة وإن اصطلح الفقهاء على تسميتها صلاة فإن الصحيح المطلق ما تربت عليه أثره وحصل به مقصودة وهذه قد فات معظم أثرها ولم يحصل منها جل مقصودها فهي أبعد شيء من الصحة, وأحسن أحوالها أن ترفع عنه العقاب وإن حصلت شيئا من الثواب فهو جزء وما هذا إلا على قول من لا يجعلها شرطا للصحة. وأما من جعلها شرطا لا تصح بدونه فجوابه إن التفضيل إنما هو بين صلاتين صحيحتين وصلاة الرجل وحده إنما تكون صحيحة للعذر, وأما بدون العذر فلا صلاة له كما قال الصحابة رضي الله عنهم, وهؤلاء لو أجابوا بهذا لرد عليهم منازعوهم إن المعذور يكمل له أجره, فأجابوا على ذلك بأنه لا يستحق بالفعل إلا جزءا واحدا, وأما التكميل فليس من جهة الفعل بل بالنية إذا كان من عادته أن يصلي جماعة فمرض أو حبس أو سافر وتعذرت عليه الجماعة والله يعلم أن من نيته أن لو قدر على الجماعة لما تركها فهذا يكمل له أجره مع أن صلاة الجماعة أفضل من صلاته من حيث العملين.
قالوا: ويتعين هذا ولا بد. فإن النصوص قد صرحت بأنه لا صلاة لمن سمع النداء ثم

(1/114)


صلى وحده, فدل على أن من له جزء من سبعة وعشرين جزءا هو المعذور الذي له صلاة, قالوا: والله تعالى يفضل القادر على العاجز وإن لم يؤاخذه فذلك فضله يؤتيه من يشاء.
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين وكان مبسورا قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: "من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد". فهذا إنما هو في المعذور وإلا فغير المعذور ليس له من الأجر شيء إذا كانت الصلاة فرضا, وإن كانت نفلا لم يجز له التطوع على جنب فإنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من الصحابة البتة مع شدة حرصهم على أنواع العبادة وفعل كل خير, ولهذا جمهور الأمة يمنع منه ولا تجوز الصلاة على جنب إلا لمن لم يستطع القعود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب". وعمران بن حصين هو راوي الحديثين وهو الذي سأل عنهما النبي صلى الله عليه وسلم.
فصل
وأما استدلالكم بحديث عثمان بن عفان: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل". فمن أفسد الاستدلال وأظهر ما في نقضه عليكم قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان واتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر". وصيام الدهر غير واجب وقد شبه به الواجب. بل الصحيح أن صيام الدهر كله مكروه فقد شبه به الصوم الواجب فغير ممتنع تشبيه الواجب بالمستحب في مضاعفة الأجر على الواجب القليل حتى يبلغ ثوابه ثواب المستحب الكثير.
فصل
وأما استدلالكم بحديث يزيد بن الأسود ومحجن بن الأدرع وأبي ذر وعبادة فليس في حديث واحد منهم أن الرجل كان قد صلى وحده منفردا مع قدرته على الجماعة البتة ولو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما أقره على ذلك وأنكرعليه. وكذلك ابن عمر لم يقل صليت وحدي وأنا أقدر على الجماعة. ونحن نقول: إنه لم يصل من ترك الجماعة وهو يقدر عليها. ونقول كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا صلاة له, فحيث يثبت لهؤلاء صلاة فلا بد من أحد الأمرين: أن

(1/115)


يكونوا صلوا جماعة مع غير هذه الجماع, ة أويكونوا معذورين وقت الصلاة, ومن صلى وحده لعذر ثم زال عذره في الوقت لم يجب عليه إعادة الصلاة, كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أو صلى قاعدا لمرض ثم بريء في الوقت أو صلى عريانا ثم وجد السترة في الوقت.
قالوا: وقد دلت أحكام الشريعة على أن صلاة الجماعة فرض على كل واحد وذلك من وجوه أحدها أن الجمع لأجل المطر جائز وليس جوازه إلا محافظة على الجماعة, وإلا فمن الممكن أن يصلي كل واحد في بيته منفردا, ولو كانت الجماعة ندبا لما جاز ترك الواجب, وتقديم الصلاةعن وقتها ندب محض.
الثاني: أن المريض إذا لم يستطع القيام في الجماعة وأطاق القيام إذا صلى وحده صلى جماعة وترك القيام ومحال أن يترك ركنا من أركان الصلاة لمندوب محض.
الثالث: أن الجماعة حال الخوف يفارقون الإمام ويعملون العمل الكثير في الصلاة ويجعلون الإمام منفردا في وسط الصلاة كل ذلك لأجل تحصيل الجماعة, وكان من الممكن أن يصلوا وحدانا بدون هذه الأمور ومحال أن يرتكب ذلك وغيره لأجل أمر مندوب إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله, وبالله التوفيق.

(1/116)


فصل
وأما المسألة الثامنة وهي هل له فعلها في بتيه أم يتعين المسجد؟
فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما له فعلها في بيته وبذلك قالت الحنفية والمالكية وهو أحد الوجهين للشافعية. والثاني: ليس له فعلها في البيت إلا من عذر, وفي المسألة قول ثالث: فعلها في المسجد فرض كفاية وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي, وجه القول الأول حديث الرجلين اللذين صليا في رحالهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبهما إلى فعلها في المسجد ولم ينكر عليهما فعلها في رحالهما, وكذلك حديث محجن بن الأدرع وحديث عبد الله بن عمر وقد تقدمت هذه الأحاديث, وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا

(1/116)


فربما عملا الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه فيصلي بنا.
وفي الصحيحين أيضا قال: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجُحش1 شقة الأيمن, فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا, وفي الصحيحن أيضا عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع في الأرض أول قال: "المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد". وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا". ووجه الرواية الثانية ما تقدم من الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة فإنها صريحة في إتيان المساجد.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن أم مكتوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: "إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه". وفي لفظ لأبي داود: "ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرق عليهم بيوتهم". وقال له ابن أم مكتوم وهورجل أعمى: هل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: "لا أجد لك رخصة". وقال ابن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وعن جابر بن عبد الله قال: فقد النبي صلى الله عليه وسلم قوما في صلاة فقال: "ما خالفكم عن الصلاة"؟ . فقالوا: الماء كان بيننا, فقال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في السمجد". رواه الدارقطني.
وقد تقدم هذا المعنى عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة, فإن خالف وصلى في بيته جماعة عذر ففي صحة صلاته قولان: قال أبو البركات ابن تيمية في شرحه فإن خالف وصلاها في بيته جماعة لا تصح من غير عذر بناء على ما اختاره ابن عقيل في تركه الجماعة حيث ارتكب النهي, ويعضده قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
قال: والمذهب الصحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته
__________
1 جحش هو شيء أكبر من الخدش.

(1/117)


في بيته أو في سوقه خمسا وعشرين ضعفا". ويحمل قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". على نفي الكمال جمعا بينهما. قال والرواية الأولى اختيار أصحابنا وأن حضور المسجد لا يجب وهي عندي بعيدة جدا إن حملت على ظاهرها فإن الصلاة في المسجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته وفي تركها بالكلية أو في المفاسد ومحو آثار الصلاة بحيث تفضي إلى فتور همم أكثر الخلق عن أصل فعلها, ولهذا قال عبد الله بن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. قال: وإنما معنى هذه الرواية -والله اعلم- أن فعلها في البيت جائز لآحاد الناس إذا كانت تقام في المساجد فيكون فعلها في المسجد فرض كفاية على هذه الرواية, وعلى الأخرى فرض عين. قال: ويدل على ذلك جواز الجمع بين الصلاتين للأمطار, ولوكان الواجب فعل الجماعة فقط دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت فإن الإنسان غالبا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو غلام أو صديق أو نحوهم فيمكنه الصلاة جماعة فلا يجوز ترك الشرط وهو الوقت من أجل السنة, فلما جاز الجمع علم أن الجماعة في المساجد فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان هذا كلامه.
ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة, فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر, وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار, ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة قد توارى خوفا من أهل مكة فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام فخطبهم بعد ذلك عتاب وقال: يا أهل مكة والله لا يبلغني أن أحدا منكم تخلف عن الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع وزاده رفعة في أعينهم, فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. والله أعلم بالصواب.

(1/118)


فصل
وأما المسألة التاسعة وهي: حكم من نقر الصلاة ولم يتم ركوعها ولا سجودها
فهذه المسألة قد شفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى, وكذلك أصحابه من بعده فلا معدل لناصح نفسه عما جاءت به السنة في ذلك ونحن نسوق مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك بألفاظه. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا". فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. قال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". متفق على صحته وهذا لفظ البخاري.
وفيه دليل على تعين التكبير للدخول في الصلاة وأن غيره لا يقوم مقامه كما يتعين الوضوء واستقبال القبلة وعلى وجوب القراءة وتقييد بما تيسر لا ينفي تعين الفاتحة بدليل آخر. فإن الذي قال هذا الذي قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج". وهو الذي قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" , ولا تضرب سننه بعضها ببعض.
وفيه دليل على وجوب الطمأنينة وأن من تركها لم يفعل ما أمر به فيبقى مطالبا بالأمر, وتأمل أمره بالطمأنينة في الركوع والاعتدال في الرفع منه فإنه لا يكفي مجرد الطمأنينة في ركن الرفع حتى تعتدل قائما قلنا فيجمع بين الطمأنينة والاعتدال خلافا لمن قال إذا ركع ثم سجد من ركوعه ولم يرفع رأسه صحت صلاته, فلم يكتف من شرع الصلاة بمجرد الرفع حتى يأتي به كاملا بحيث يكون معتدلا فيه ولا ينفي هذا وجوب التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد في الرفع بدليل آخر فإن الذي قال هذا وأمر به هو الذي أمر بالتسبيح في الركوع فقال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِْ} . قال: "اجعلوها في ركوعهم" , وأمر بالتحميد في الرفع فقال: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد". فهو الذي أمرنا

(1/119)


بالركوع وبالطمأنينة فيه وبالتسبيح والتحميد, وقال في الرفع من السجود: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا".
وفي لفظ: "حتى تعتدل جالسا". فلم يكتف بمجرد الرفع كحد السيف حتى تحصل الطمأنينة والاعتدال ففيه أمر بالرفع والطمأنينة فيه والاعتدال ولا يمكن التمسك بما لم يذكر في هذا الحديث على اسقاط وجوبه عند أحد من الأئمة، فإن الشافعي يوجب الفاتحة والتشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه, وأبو حنيفة يوجب الجلوس مقدار التشهد والخروج من الصلاة بالمنافي ولم يذكر ذلك فيه, ومالك يوجب التشهد والسلام ولم يذكر ذلك فيه, وأحمد يوجب التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد وقول رب اغفر لي ولم يذكر في الحديث, فلا يمكن لأحد أن يسقط كل ما لم يذكر فيه, فإن قيل فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقره على تلك الصلاة مرتين ولو كانت باطلة لم يقره عليها فإنه لا يقر على باطل قيل: كيف يكون قد أقره وهو صلى الله عليه وسلم يقول له ارجع فصل فإنك لم تصل فأمره ونفى عنه مسمى الصلاة التي شرعها, وأي إنكار أبلغ من هذا فإن قيل فهو لم ينكر عليه في نفس الصلاة قيل: نعم لما في ذلك من التنفير له وعدم تمكنه من التعليم كما ينبغي كما أقر الذي بال في المسجد على إكمال بوله حتى قضاها ثم علمه, وهذا من رفقة وكمال تعليمه ولطفه صلوات الله وسلامه عليه, فإن قيل: فهلا قال له في نفس الصلاة اقطعها قيل لم يقل للبائل اقطع بولك وهذا أولى, نعم: لو أقره على تلك الصلاة ولم يأمره بإعادتها ولم ينف عنه الصلاة الشرعية كان فيه متمسك لكم فإن قيل قوله: لم تصل أي لم تصل صلاة كاملة وإنما الممتنع أن تكون له صلاة صحيحة قد أخل ببعض مستحباتها ثم يقول له ارجع فصل فإنك لم تصل, هذا في غاية البطلان.
وعن رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد يوما ونحن معه إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل". ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا

(1/120)


كل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل" , فخاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل فقال الرجل في آخر ذلك فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطيء, فقال أجل: "إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمر الله ثم تشهد وأقم فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فأحمد الله وكبره وهلله ثم اركع فاطمئن راكعا ثم اعتدل قائما ثم اسجد فاعتدل ساجدا ثم اجلس فاطمئن جالسا ثم قم فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك". قال: فكان هذا أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من هذا شيئا انتقص من صلاته ولم تنقص كلها. رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وفي رواية أبي داود: "وتقرأ بما شئت من القرآن ثم تقول الله أكبر, وعنده فإن كان معك قرآن فاقرأ به". وفي رواية لأحمد: "إذا أردت أن تصلي فتوضأ فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن لركوعك فإذا رفعت رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصليها فإذا سجدت فمكن لسوجودك فإذا رفعت فاعتمد على فخذك اليسرى ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة". فإذا ضممت قوله في هذا الحديث: "توضأ كما أمر الله" , إلى قوله في الصفا والمروة: "ابدؤوا بما بدأ الله به": أفاد وجوب الوضوء على الترتيب الذي ذكره الله سبحانه. وقوله في الحديث: "اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت" , تقييد لمطلق قوله: "اقرأ بما تيسر معك من القرآن" , وهذا معنى قوله في الحديث: "وتقرأ بما شئت من القرآن" , وقال: "فإن كان معك قرآن وإلا فأحمد الله وكبره وهلله" , فألفاظ الحديث يبين بعضها بعضا وهي تبين مراده صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يتعلق بلفظ منها ويترك بقيتها.
وقوله: "ثم تقول الله أكبر": فيه تعيين هذا اللفظ دون غيره وهو التكبير المعهود في قوله: "تحريمها التكبير" وقوله: "فإذا رفعت رأسك فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها" , صريح في وجوب الرفع والاعتدال منه والطمأنينة فيه

(1/121)


وعن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزيء صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" , رواه الإمام أحمد المسند وأهل السنن, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح, وهذا نص صريح في أن الرفع من الركوع وبين السجود الاعتدال فيه والطمأنينة فيه ركن لا تصح الصلاة إلا به.
وعن علي بن شيبان قال خرجنا حتى قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه رجلا لا يقيم صلاته – يعني صلبه في الركوع والسجود- فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود". رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وقوله: "لا صلاة" – يعني تجزيه بدليل قوله: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" , ولفظ أحمد في هذا الحديث: "لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده".
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" , رواه الإمام أحمد المسند.
وفي سنن البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزيء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبة في الركوع والسجود" , وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نقر المصلي صلاته وأخبر أنها صلاة المنافقين.
وفي المسند والسنن من حديث عبد الرحمن بن شبل قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وعن توطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير, فتضمن الحديث النهي في الصلاة عن التشبه بالحيوانات: بالغراب في النقرة وبالسبع بافتراشه ذراعية في السجود وبالبعير في لزومه مكانا معينا من المسجد يتوطنه كما يتوطن البعير.
وفي حديث آخر نهى عن عن التفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب, ورفع الأيدي كأذناب الخيل. فهذه ست حيوانات نهى عن التشبه بها.
وأما ما وصفه من صلاة النقار بأنها صلاة المنافقين, ففي صحيح مسلم عن علاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر قال: فلما دخلنا عليه قال: أصليتما العصر؟ فقلنا إنما انصرفنا الساعة من الظهر

(1/122)


قال: تقدموا فصلوا العصر فقمنا فصلينا فلما انصرفنا, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" , وقد تقدم قول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -يريد الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق. وقد قال تعالى: ِ {إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} . فهذه ست صفات في الصلاة من علامات النفاق: الكسل عند القيام إليها, ومراءاة الناس في فعلها, وتأخيرها, ونقرها, وقلة ذكر الله فيها, والتخلف عن جماعتها.
وعن أبي عبد الله الأشعري قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل منهم فقام يصلي وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال: "ترون هذا لو مات ما مات على ملة محمد ينقر صلاقته كما ينقر الغراب الدم إنما مثل الذي يصلي وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين فما يغنيان عنه فأسبغوا الوضوء وويل للأعقاب من النار فأتموا الركوع والسجود".
وقال أبو صالح: فقلت: لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد ابن أبي سفيان كل هؤلاء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو بكر ابن خزيمة في صحيحه فأخبر أن نقار الصلاة لو مات مات على غير الإسلام.
وفي صحيح البخاري عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود قال: ما صليت لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم, ولو أخبر أن صلاة النقار صحت لما أخرجه عن فطرة الإسلام بالنقر. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لص الصلاة وسارقها شرا من لص الأموال وسارقها.
ففي المسند من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" , قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" , أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع والسجود". فصرح

(1/123)


بأنه أسوأ حالا من سارق الأموال, ولا ريب أن لص الدين شر من لص الدنيا.
وفي المسند من حديث سالم بن أبي الجعد عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف فقد علمتم ما قاله الله في المطففين". قال مالك: وكان يقال في كل شيء وفاء وتطفيف فإذا توعد الله سبحانه بالويل للمطففين في الأموال فما الظن بالمطففين في الصلاة؟؟. وقد ذكر أبو جعفر العقيلي عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له الصلاة حفظك الله كما حفظتني ثم يصعد بها إلى السماء ولها ضوء ونور وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى الله تبارك وتعالى فتشفع لصاحبها, وإذا ضيع وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني ثم يصعد بها إلى السماء فتغلقت دونها أبواب السماء ثم تلف كما يلف الثوب الخلق ثم يضرب بها وجه صاحبها".
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى الشامي جاء الحديث: "إذا توضأ فأحسن الصلاة ثم ذكره تعليقا".

(1/124)


فصل
وأما المسألة العاشرة وهي: مقدار صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهي: من أجل المسائل وأهمها وحاجة الناس إلى معرفتها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب, وقد ضيعها الناس من عهد أنس بن مالك رضي الله عنه, ففي صحيح البخاري من حديث الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: له ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة, وهذه الصلاة قد ضيعت.
وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا مهدي عن غيلان عن أنس قال: ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: فالصلاة؟ قال: أليس قد ضيعتم ما ضيعتم فيها؟ أخرجه البخاري عن موسى. وأنس رضي الله عنه تأخر حتى شاهد من إضاعة أركان الصلاة وأوقاتها وتسبيحها في الركوع والسجود وإتمام تكبيرات الانتقال فيها ما أنكره وأخبر أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بخلافه كما ستقف عليه مفصلا إن شاء الله.

(1/124)


ففي الصحيحن من حديث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكملها، وفي الصحيحين أيضا قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم زاد البخاري: وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه, فوصف صلاته صلى الله عليه وسلم بالإيجاز والتمام. والإيجاز هو الذي كان يفعله, لا الإيجاز الذي كان يظنه من لم يقف على مقدار صلاته؛ فإن الإيجاز أمر نسبي إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه, فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المئة كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى ست مئة إلى ألف, ولما قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الإيجاز بالنسبة إلى البقرة.
ويدل على هذا أن أنسا نفسه قال في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز. فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات. وأنس أيضا هو القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا ألو أن أصلى بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا.
قال ثابت: كان أنسا يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي. وأنس هو القائل هذا. وهو القائل: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه لا يكذب بعضه بعضا. ومما يبين ما ذكرناه ما رواه أبو داود في سننه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يباعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم. هذا سياق حديثه. فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجازه صلى الله عليه وسلم الصلاة وإتمامها وبين

(1/125)


فيه أن من إتمامها الذي أخبر به إطاعة الاعتدالين حتى يظن الظان أنه قد أوهم أو نسي من شدة الطول فجمع بين الأمرين في الحديث.
وهو القائل: ما رأيت أوجز من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتم, فيشبه أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود والاعتدالين بينهما؛ لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين, وسر ذلك أنه بإيحاز القيام وإطالة الركوع والسجود والإعتدالين تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله: ما رأيت أوجز ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الذي كان يعتمده صلوات الله عليه وسلامه في صلاته فإنه كان يعدلها حيث يعتدل قيامها وركوعها وسجودها واعتدالها.
ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته بين التسليم والانصراف قريبا من السواء.
وفي لفظ لهما: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء, ولا يناقض هذا ما رواه البخاري في هذا الحديث, كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وما بين السجدتين وإذا رفع رأسه ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء, فإن البراء هو القائل هذا وهذا, فإنه في السياق الأول أدخل في ذلك قيام القراءة وجلوس التشهد, وليس مراده أنهما بقدر ركوعه وسجوده وإلا ناقض السياق الأول: الثاني, وإنما المراد أن طولهما كان مناسبا لطول الركوع والسجود والاعتدالين بحيث لا يظهر التفاوت الشديد في طول هذا وقصر هذا كما يفعله كثير ممن لا علم عنده بالسنة, يطيل القيام جدا ويخفف الركوع والسجود.
وكثيرا ما يفعلون هذا في التراويح وهذا هو الذي أنكره أنس بقوله: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كثيرا من الأمراء في زمانه كان يطيل القيام جدا فيثقل على المأمومين ويخفف

(1/126)


الركوع والسجود والاعتدالين فلا يكمل الصلاة, فالأمران اللذان وصف بهما يروي رسول الله صلى الله عليه وسلم هما اللذان كان الأمراء يخالفونهما وصار ذلك أعني تقصير الاعتدالين شعارا حتى استحبه بعض الفقهاء وكره إطالتهما, ولهذا قال ثابت: وكان يروي يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل: قد نسي. فهذا الذي فعله أنس هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله, وإن كرهه من كرهه فسنة رسول الله أولى وأحق بالاتباع. وقول البراء في السياق الآخر: ما خلا القيام والقعود: بيان أن ركن القراءة والتشهد أطول من غيرهما, وقد ظن طائفة أن مراده بذلك قيام الاعتدال من الركوع وقعود الفصل بين السجدتين وجعلوا الاستثناء عائدا إلى تقصيرهما وبنوا على ذلك أن السنة تقصيرهما وأبطل من غلا منهم الصلاة بتطويلهما, وهذا غلط فإن لفظ الحديث وسياقه يبطل هؤلاء فإن لفظ البراء: كان ركوعه وسجوده وما بين السجدتين وإذا رفع رأسه وما خلا القيام والقعود قريبا من السواء. فكيف يقول: وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا رفع رأسه من الركوع: هذا باطل قطعا.
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد تقدم حديث أنس أنه صلى بهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقوم بعد الركوع حتى يقول القائل: قد نسي, وكان يقول بعد رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولامعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
ورواه من حديث ابن أبي أوفى وزادفيه بعد قوله: من شيء بعد: "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد, اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" , وكذلك كان هديه في صلاة الليل يركع قريبا من قيامه ويرفع رأسه بقدر ركوعه ويسجد بقدر ذلك, ويمكث بين السجدتين بقدر ذلك, وكذلك فعل في صلاة الكسوف أطال ركن الاعتدال قريبا من القراءة فهذا هديه الذي

(1/127)


كأنك تشاهده وهو يفعله, وهكذا فعل الخلفاء الراشدون من بعده.
وقال زيد بن أسلم: كان عمر يخفف القيام والقعود ويتم الركوع والسجود, فأحاديث أنس رضي الله عنه كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين زيادة على ما يفعله أكثر الائمة بل كلهم إلاالنادر فأنس أنكر تطويل القيام على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وقال: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة يقرب بعضها من بعض وهذا موافق لرواية البراء بن عازب أنها كانت قريبا من السواء فأحاديث الصحابة في هذا الباب يصدق بعضها بعضا.
فصل
وأما قدر قيامه للقراءة فقال أبو برزة الأسلمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المئة متفق على صحته.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن السائب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع1.
وفي صحيح مسلم عن قطبة بن مالك: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} . وربما قال: "ق".
وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} 2. وكانت صلاته بعد تخفيفا, فقوله: وكانت صلاته بعد تخفيفا أي بعد صلاة الصبح أخف من قراءتها, ولم يرد أنه كان بعد ذلك يخفف قراءة الفجر عن {ق} , يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} , وفي العصر بنحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك.
__________
1 الآية التي فيها ذكر موسى وهارون هي رقم 45 والآية التي فيها ذكر عيسى هي رقم 50 ولولا السلعة لزاد.
2 عدد آياتها 45.

(1/128)


وفي صحيح مسلم عن زهير عن سماك بن حرب قال: ِسألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء. قال: وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها فأخبر أن هذا كان تخفيفه, وهذا مما يبين أن قوله: وكانت صلاته بعد تخفيفا أي بعد الفجر, فإنه جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخفيف وبين قراءته فيها بـ "سورة ق" ونحوها.
وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ "سورة الطور" قريبأ من سورة "ق".
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} فقالت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة فإنها لآخر ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب1, فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل لم تكن من المهاجرين بل هي من المستضعفين, كما قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين عذر الله. وفهذا السماع كان متأخرا بعد فتح مكة قطعا.
وفي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولي الطوليين, وسأل ابن مليكة أحد رواته ما طولي الطوليين فقال: من قبل نفسه المائدة والأعراف. ويدل على صحة تفسيره حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرقها في الركعتين. رواه النسائي.
وروى النسائي أيضا من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في المغرب بالدخان, وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـ سورة "الطور" في المغرب. فأما العشاء فقال البراء بن عازب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.
متفق عليه. .
9- صلاة.
__________
1 عدد آيات والمرسلات 50 آية

(1/129)


وفي الصحيحن أيضا عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فقلت له فقال سجدت بها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.
وفي المسند والترمذي من حديث بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الآخرة بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور. قال الترمذي: حديث حسن. وقال لمعاذ في صلاة العشاء الآخرة: اقرأ بـ سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وسورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} متفق عليه.
وأما الظهر والعصر ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا, وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية, ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. متفق عليه. ولفظه لمسلم.
وفي رواية البخاري: وكان يطلول الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية, وفي رواية لأبي داود قال: فظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم.
قال سعد ابن أبي وقاص لعمر أما أنا فأمد في الأوليين وأخفف في الأخريين وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عمر: ذلك ظني بك. رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر سورة "الم تنزيل السجدة" وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك, وحرزنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على النصف من ذلك.
وفي رواية بدل قومه تنزيل السجدة: قدر ثلاثين آية, وفي الأخريين قدر

(1/130)


خمس عشرة آية, وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة وفي الأخريين قدر نصف ذلك. هذه الالفاظ كلها في صحيح مسلم.
وقد احتج به من استحب قراءة السورة بعد الفاتحة في الأخريين وهو ظاهر الدلالة لو لم يجيء حديث أبي قتادة المتفق على صحته أنه كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الأخريين بفاتحة الكتاب فذكر السورتين في الركعتين الأوليين واقتصاره على الفاتحة في الأخريين يدل على اختصاص كل ركعتين بما ذكر من قراءتهما وحديث سعد يحتمل لما قال أبو قتادة ولما قال أبو سعيد, وحديث أبي سعيد ليس صريحا في قراءة السوره في الأخريين فإنما هو حزر وتخمين. وقال أبو جابر بن سمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وفي العصر نحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك رواه مسلم.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك رواه مسلم أيضا.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} , {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوهما من السور. رواه أحمد وأهل السنن. وفي سنن النسائي عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
وفي السنن من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ سورة تنزيل السجدة وفيه دليل على أنه لا يكره قراءة السجدة في صلاة السر وأن الإمام إذا قرأها سجد ولا يخير المأمومون بين اتباعه وتركه بل يجب عليهم متابعته.
وقال أنس: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . رواه النسائي, والصحابة رضي الله عنهم أنكروا على من كان يبالغ في تطويل القيام وعلى من كان يخفف الأركان ولا سيما ركني الاعتدال, وعلى من كان لا يتم التكبير وعلى من كان يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وعلى من كان يتخلف عن جماعتها.
وأخبروا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ما زال يصليها حتى مات, ولم يذكر

(1/131)


أحد منهم أصلا أنه نقص من صلاته في آخر حياته صلى الله عليه وسلم, ولا أن تلك الصلاة التي كان يصليها منسوخة, بل استمر خلفاؤه الراشدون على منهاجه في الصلاة كما استمروا على منهاجه في غيرها، فصلى الصديق صلاة الصبح فقرأ فيها بالبقرة كلها فلما انصرف منها قالوا: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع, قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين, وكان عمر يصلي الصبح بالنحل ويونس وهود ويوسف ونحوها من السور.
قال المخففون: إنكم وإن تمسكتم بالسنة في التطويل فنحن أسعد بها منكم في الإيجاز والتخفيف لكثرة الأحاديث بذلك وصحتها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإيجاز والتخفيف وشدة غضبه على المطولين وموعظته لهم وتسميتهم منفرين فعن أبي مسعود أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع أشد غضبا منه يومئذ, ثم قال: "أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للبخاري: "فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة".
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أم أحدكم فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض, وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". راواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: له "أم قومكم". قال: قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا, قال: "ادنه" فأجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: "أم قومك فمن أم قوما فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف وإن فيهم ذا الحاجة فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء". رواه مسلم.
وفي رواية: "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة" , وقال أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويكلمها, وفي لفظ: يوجز ويتم. متفق عليه.
وقال أنس أيضا: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة

(1/132)


رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه. متفق عليه. وسياقه البخاري.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال: "أنت إمامهم فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا". رواه الإمام أحمد. وأهل السنن، ورواه أبو داود في سننه من حديث الجريري عن السعدي عن أبيه أو عمه قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده ثلاثا. ورواه أحمد أيضا في مسنده.
وروى أبو داود في سننه من حديث ابن وهب: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فتلك بقاياهم في الصوامع والدريات, {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} " , هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة هي المكتوبة أو شيء تنفلت بت. قال: إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار, {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ".
ثم غدا من الغد فقال: ألا تركب لننظر ونعتبر؟ قال: نعم, فركبوا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها, قال: أتعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها, هؤلاء أهل ديار أهلكم البغي والحسد, إن الحسد يطفيء نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني الكف القدم واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فأما سهل ابن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم.
وأما ابن أبي العمياء من أهل بيت المقدس, وهو إن جهلت حاله فقد رواه

(1/133)


أبو داود وسكت عنه, وهذا يدل على أنه حسن عنده. قالوا: وهذا يدل على أن الذي أنكره أنس من تغيير الصلاة هو شدة تطويل الأئمة لها, وإلا تناقضت أحاديث أنس, ولهذا جمع بين الإيجاز والإتمام.
وقوله: ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في إنكاره التطويل, وقد جاء هذا مفسرا عن أنس نفسه, فروى النسائي من حديث العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس بن مالك فقال: أصليتم؟ فقلنا: نعم. قال: يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام قط أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا.
قال زيد: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام.
وهو حديث صحيح, وقد صرح به عمران بن الحصين لما صلى خلف علي بالبصرة قال عمران لقد ذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة, كان يخفف القيام والقعود, ويطيل الركوع والسجود, وهو حديث صحيح.
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لمعاذ لما طول بقومه في العشاء الآخرة: "أفتان أنت" أو قال: " أفاتن أنت"؟ ثلاث مرات, فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} . {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والصغير والضعيف وذو الحاجة". وعن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} في الركعتين كلتيهما, فلا أدري سها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا, رواه أبو داود.
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن حريث أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} , وعن عقبة بن عامر قال: كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته فقال لي: "ألا أعلمك سورتين لم يقرأ بمثلهما"؟ قلت: بلى, فلعمني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . فلم يرني أعجب بهما. فلما نزل للصبح قرأ بهما ثم قال: "كيف رأيت يا عقبة"؟ .

(1/134)


وفي رواية: "ألا أعلمك خير سورتين قرأنا"؟ قلت: بلى. قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ", فلما نزل صلى بهما الغداة قال كيف ترى يا عقبة؟ رواه أحمد وأبو داود.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فأنكروا عليه فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بت: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك, وأعوذ بك من ضراء مضرة ومن فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".
قالوا: فأين هذه الأحاديث من أحاديث التطويل صحة وكثرة وصراحة. وحينئذ فيتعين حملها على أنها في أول الإسلام لما كان في المصلين قله, فلما كثروا واتسعت رقعة الإسلام شرع التخفيف وأمر به لأنه أدعى إلى القبول ومحبة العبادة فيدخل فيها برغبة ويخرج منها باشتياق ويندر بها الوسواس فإنها متى طالت استولى الوسواس فيها على المصلي فلا يفي ثواب إطالته بنقصان أجره.
قالوا: وكيف يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره من الائمة من محبة الصحابة له والقيام خلفه لسماع صوته بالقرآن غضا كما أنزل وشدة رغبة القوم في الدين وإقبال قلوبهم على الله وتفريغها له في العبادة ولهذا قال: "إن منكم منفرين" , ولم يكونوا ينفرون من طول صلاته صلى الله عليه وسلم فالذي كان يحصل للصحابة خلفه في الصلاة كان يحملهم على أن يروا صلاته وإن طالت خفيفة على قلوبهم وأبدانهمم فإن الإمام محمل المأمومين بقلبه وخشوعه وصوته وحاله فإذا عرى من ذلك كله كان كلا على المأمومين وثقلا عليهم فليخفف من ثقله عليهم ما أمكنه لئلا يبغضهم الصلاة.
قالوا: وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج لشدة تنطعهم في الدين وتشددهم في العبادة بقوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم". ومدح الرفق وأهله وأخبر عن محبة الله له وأنه يعطي عليه ما لا يعطي على العنف, وقال:

(1/135)


"لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه". وقال: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق". فالدين كله في الاقتصاد في السبيل والسنة. والله تعالى يحب ما دوام عليه العبد من الأعمال, والصلاة القصد هي التي يمكن المداومة عليها دون المتجاوزة في الطول.
فصل
قال المكملون للصلاة أهلا وسهلا بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعينين وهل ندندن إلا حول الاقتداء به ومتابعة هديه وسنته ولا نضرب سنته بعضها ببعض ولا نأخذ منها ما سهل ونترك منها ما شق علينا لكسل وضعف عزيمة واشتغال بدنيا قد ملأت القلوب وملكت الجوارح وقرت بها العيون, بدل قرتها بالصلاة فصارت أحاديث الرخصة في حقها شبهة صادفت شهوة وفتورا في العزم وقلة رغبة في بذل الجهد في النصحية في الخدمة واستسهلت حق الله تعالى، وجعلت كرمه وغناه من أعظم شبهاتها في التفريط فيه وإضاعته وفعله بالهوينا تحلة القسم. ولهجت بقولها: ما استقصى كريم حقه قط. وبقولها: حق الله مبني على المسامحة والمساهلة والعفو, وحق العباد مبني على الشح والضيق والاستقصاء فقامت في رحمة المخلوقين كأنها على الفرش الوثيرة والمراكب الهينة وقامت في حق رحمة ربها وفاطرها كأنها على الجمر المحرق تعطيه الفضلة من قواها وزمانها وتستوفي لأنفسها كمال الحظ ولم تحفظ من السنة إلا: "أفتان أنت يا معاذ"؟ , "أيها الناس إن منكم منفرين".
ووضع الحديث موضعه ولم تتأمل ما قبله وما بعده ومن لم تكن قرة عينه في الصلاة ونعيمه وسروره ولذته فيها وحياة قلبه وانشراح صدره فإنه لا يناسبه إلا هذا الحديث وأمثاله بل لا يناسبه إلا صلاة السراق والنقارين, فنقرة الغراب أولى به من استفراغ وسعه في رحمة رب الأرباب, وحديث "أفتان أنت يامعاذ" , الذي لم يفهمه أولى به من حديث: "كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى" وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الصبح بالمعوذتين وكان هذا في السفر أولى به من حديث صلاته في الحضر بمئة آية إلى مئتين, وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم

(1/136)


المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الذي انفرد ابن ماجة بروايتة أولى به من الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بطولي الطوليين وهي الأعراف, فهو يميل من السنة إلى ما يناسبه ويأخذ منها بما يوافقه ويتلطف لمن خشن في تأويل ما يخالفه ودفعه بالتي هي أحسن, ونحن نبرأ إلى الله من سلوك هذه الطريقة ونسأله أن يعافينا مما ابتلى به أربابها بل ندين الله بكل ما صح عن رسوله ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا فنقر ما لنا على ظاهره, ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره, بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابله بالسمع والطاعة ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها فليس الشأن في الأخذ ببعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها منزلته ووضعه بموضعه فنقول: وبالله التوفيق الإيجاز والتخفيف المأمور به والتطويل المنهي عنه لا يمكن أن يرجع فيه إلى عادة طائفة وأهل بلد وأهل مذهب ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم ولا إلى اجتهاد الأئمة الذين يصلون بالناس ورأيهم في ذلك فإن ذلك لا ينضنبط وتضطرب فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب ويفسد وضع الصلاة الرجعة مقدارها تبعا لشهوة الناس, ومثل هذا لا تأتي به شريعة بل المرجع في ذلك والتحاكم إلى ما كان يفعله من شرع الصلاة للأمة وجاءهم بها من عند الله وعلمهم حقوقها وحدودها وهيآتها وأركانها, وكان يصلي وراءه الضعيف والكبير والصغير وذو الحاجة ولم يكن بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه فالذي كان يفعله صلوات الله عليه وسلامه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} , وقد سئل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك في ذلك من خير؟ فأعادها عليه فقال: كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها. رواه مسلم في الصحيح.
وهذا يدل على أن الذي أنكره أبو سعيد وأنس وعمران بن الحصين والبراء

(1/137)


ابن عازب إنما هو حذف الصلاة والاختصار فيها والاقتصار على بعض ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله, ولهذا لما صلى بهم أنس قال: إني لا آلو أن أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه: كان إذا انتصب قائما يقوم يقول القائل قد أوهم وإذا جلس بين السجدتين مكث حتى يقول القائل قد أوهم, فهذا مما أنكره أنس على الائمة حيث كانوا يقصرون هذين الركنين كما أنكر عليهم تقصير الركوع والسجود وأخبر أن أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز فحزروا تسبيحه في الركوع والسجود عشرا عشرا ومن المعلوم أنه لم يكن يسبحها هذا, مسرعا من غير تدبر فحالهم أجل من ذلك.
وقد بلى أنس بمن وهمه في ذلك كما بلى بمن وهمه في روايته ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقالوا: كان صغيرا يصلي وراء الصفوف فلم يكن يسمع جهره بها وكما بلى بمن وهمه في إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج والعمرة معا, وقالوا: كان بعيدا منه لا يسمع إحرامه حتى قال لهم: ما تعدونني إلا صبيا كنت تحت بطن ناقة رسول الله فسمعته يهل بهما جميعا, وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولأنس عشر سنين فخدمه واختص به وكان يعد من أهل بيته, وكان غلاما كيسا فطنا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رجل كامل له عشرون سنة, ومع هذا كله فيغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته وقدر صلاه وكيفية إحرامه ويستمر غلطه على خلفائه الراشدين من بعده ويستمر على صلاته في مؤخر المسجد حيث لا يسمع قراءة أحد منهم.
وقد اتفق الصحابة على أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة فكان ركوعه ورفعه منه وسجوده ورفعه منه مناسبا لقيامه, فإذا كان يقرأ في الفجر بمئة آية إلى ستين آية فلا بد أن يكون ركوعه وسجوده مناسبا لذلك, ولهذا قال البراء ابن عازب: إن ذلك كله كان قريبا من السواء, وقال عمران بن حصين كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة وكذلك كان

(1/138)


قيامه بالليل وصلاة الكسوف, وقال عبد الله بن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات". رواه الإمام أحمد والنسائي.
فهذا أمره وهذا فعله المفسر له لا ما يظن الغالط المخطيء أنه كان يأمرهم بالتخفيف ويفعل هو خلاف ما أمر بت, وقد أمر صلاة الله وسلامه عليه الائمة أن يصلوا بالناس كما كان يصلي بهم.
ففي الصحيحين عن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا, وصلاة كذا في حين كذا, وإذاحضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم وصلوا كما رأيتموني أصلي". والسياق للبخاري.
فهذا خطاب للأئمة قطعا وإن لم يختص بهم فإذا أمرهم أن يصلوا بصلاته وأمرهم بالتخفيف علم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمر به. يوضح ذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا بالنسبة إلى ماهو أخف منه. فلا حد له في اللغة يرجع فيه إليه وليس من الأفعال العرفية التي يرجع فيها إلى العرف كالحرز والقبض وإحياء الموات والعبادات يرجع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيآتها كما يرجع إليه في أصلها فلو جاز الرجوع في ذلك إلى عرف الناس وعوائدهم في مسمى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافا متباينا لا ينضبط, ولهذا لما فهم بعض من نكس الله قلبه أن التخفيف المأمور به هو ما يمكن من التخفيف اعتقد أن الصلاة كلما خفت وأوجزت كانت أفضل فصاركثير منهم يمر فيها مر السهم ولا يزيد على الله أكبر في الركوع والسجود بسرعة ويكاد سجوده يسبق ركوعه وركوعه يكاد يسبق قراءته وربما ظن الاقتصار على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث.
ويحكى عن بعض هؤلاء أنه رأى غلاما له يطمئن في صلاته فضربه وقال:

(1/139)


لو بعثك السلطان في شغل أكنت تبطئ في شغله مثل هذا الإبطاء؟ وهذا كله تلاعب بالصلاة وتعطيل لها وخداع من الشيطان وخلاف لأمر الله ورسوله حيث قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} . فأمرنا بإقامتها وهو الإتيان بها قائمة تامة القيام والركوع والسجود والأذكار وقد علق الله سبحانه الفلاح بخشوع المصلى في صلاته فمن فاته خشوع الصلاة لم يكن من أهل الفلاح, ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعا. بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعا, وكلما قل خشوعة اشتدت عجلته حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع ولا اقبال على العبودية, ولا معرفة حقيقة العبودية والله سبحانه قد قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} , وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} . وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} . وقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وقال: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} , وقال لموسى {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقرونا بإقامتها فالمصلون في الناس قليل ومقيم الصلاة منهم أقل القليل.
كما قال عمر رضي الله عنه: "الحاج قليل والركب كثير", فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلة القسم, ويقولون يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم وليتنا نأتي به ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على الله جل جلاله بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم فليس من عمد إلى أفضل ما يقدر عليه فيزينه ويحسنه ما استطاع ثم يتقرب به إلى من يرجوه ويخافه كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه فيستريح منه ويبعثه إلى من لا يقع عنده بموقع وليس من كانت الصلاة ربيعا لقلبه وحياة له وراحة وقرة لعينه وجلاء لحزنه وذهابا لهمه وغمه ومفزعا له إليه في نوائبه ونوازله كمن هي سحت لجوارحه, وتكليف له وثقل عليه فهي كبيرة على هذا وقرة عين وراحة لذلك.
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو

(1/140)


قلوبهم من محبة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور العبد في الصلاة وخشوعه فيها وتكميله لها واستفراغه وسعة في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله تعالى.
قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة فاعرف نفسك يا عبد الله واحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك. فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك. وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات فيرتع في رياض معاني القرآن, وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحسن بقربه من الله قربا لا نظير له ففرغ قلبه له وأقبل عليه بكليته, وهذا الإقبال منه بين اقبالين من ربه فإنه سبحانه أقبل عليه أولا, فانجذب قلبه إليه بإقباله؛ فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول. وها هنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات تحصل لمن تفقه قلبه في معاني القرآن وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعا من صلاته ومحلا منها فإنه إذا انتصب قائما بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيوميته, وإذا قال الله أكبر شاهد كبرياءه وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك شاهد بقلبه ربا منزها عن كل عيب سالما من كل نقص محمودا بكل حمد فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه, فلا يذكر على قليل إلا كثرة ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئا داحرا وكمال

(1/141)


الاسم من كمال مسماه, فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء فشأن المسمى أعلى وأجل, وتعالى جده أي ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة, وعلا شأنه على كل شأن وقهر سلطانه على كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته أو في الهيته أو في أفعاله أو في صفاته كما قال مؤمن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} , فكم في هذه الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها غير المعطل لحقائقها, وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه الشديد واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه ويبعده عن قربه ليكون أسوأ حالا.
"فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: "حمدني عبدي". فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , انتظر الجواب بقوله: "اثنى علي عبدي", فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر جوابه: "يمجدني عبدي", فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدني وأثنى علي عبدي ومجدني عبدي" , ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى وهي: الله والرب الرحمن, فشاهد قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلها معبودا موجودا مخوفا لا يستحق العبادة غيره ولا تنبغي إلا له, قد عنت له الوجوه وخضعت له الموجودات وخشعت له الأصوات {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} , {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} .
وكذلك خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار, وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع وألزم العباد الأمر والنهي وشاهد من ذكر اسمه رب العالمين قيوما. قام بنفسه وقام به كل شيء فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها. قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه.
فالتدبير كله بيديه ومصير الامور كلها إليه, فمراسيم التدبيرات نازلة من

(1/142)


عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} , لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا مبدل لكلماته تعرج الملائكة والروح إليه وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه فيقدر المقادير ويوقت المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائما بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.
ثم يشهد عند ذكر اسم الرحمن جل جلاله ربا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببا إليهم بصنوف النعم, وسع كل شيء رحمة وعلما, وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا فوسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي فبلغت رحمته حيث بلغ علمه, فاستوى على عرشه برحمته وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته وأرسل رسله برحمته وشرع شرائعه برحمته وخلق الجنة برحمته والنار أيضا برحمته فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته, وسجنه الذي يسجن فيه من خليقته.
فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعيظه من الرحمة البالغة والنعمة السابغة وما في حشوها من الرحمة والنعمة فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة, ومن أخص مشاهد هذا الاسم شهود المصلي نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه, وأهله لعبوديته ومناجاته وأعطاه ومنع غيره وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره وذلك من رحمته به.
فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} , فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين فيشهد ملكا قاهرا قد دانت له الخليفة وعنت له الوجوه وذلت لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز فيشهد بقلبه ملكا على عرش السماء مهيمنا لعزته تعنو الوجوه وتسجد, وإذا لم تعطل حقيقة صفة الملك أطلعته على شهود حقائق الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكه وجحد له فإن الملك الحق التام الملك لا يكون إلا حيا قيوما سميعا بصيرا مدبرا قادرا متكلما آمرا ناهيا مستويا على سرير

(1/143)


مملكته, يرسل رسله إلى أقاصي مملكته بأوامره, فيرضى على من يستحق الرضا, ويثيبه ويكرمه ويدنيه, ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه, فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويعطى من يشاء ويقرب من يشاء ويقصى من يشاء, له دار عذاب وهي النار, وله دار سعادة عظيمة وهي الجنة. فمن أبطل شيئا من ذلك أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى ونفى عنه كماله وتمامه.
وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره فقد أنكر عموم ملكه وكماله فيشهد المصلي مجد الرب تعالى في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل, فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فلا معبود يستحق العبادة إلا هو ولا معين على عبادته غيره, فعبادته أعلى الغايات وإعانته أجل الوسائل, وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مئة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور, وجمع معانيها في القرآن وجمع معانيه في المفصل وجمع معانيه في الفاتحة وجمع معانيها في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد: وهما توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية, وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته فكان أول السورة ذكر اسمه: الله والرب والرحمن تطابقا لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته. وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله. لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه.
ثم يشهد الداعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين. وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه, والهداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب للرب سبحانه وتعالى. وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله, ولما كان العبد مفتقرا في كل حال إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من

(1/144)


أمور قد أتاها على غير الهداية, فهو يحتاج إلى التوبة منها, وأمور هدى إلى أصلها دون تفصيلها أو هدى إليها من وجه دون وجه, فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها ليزداد هدى, وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي, وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو يحتاج إلى الهداية فيها, وأمور لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية, وأمور قد هدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها فهو محتاج إلى الثبات عليها.
إلى غير ذلك من أنواع الهدايات- فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة, ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمتة دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه, ودون الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم. فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم. فسبيل المنعم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علما وعملا.
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين يكون كالخاتم له وافق فيه ملائكة السماء وهذا التأمين من زينة الصلاة كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة واتباع للسنة وتعظيم أمر الله وعبودية اليدين وشعار الانتقال من ركن إلى ركن. ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه واستماعه من الإمام بالانصات وحضور القلب وشهوده.
وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام, فخصت بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب جل جلاله, ولهذا نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتضامن وانخفاض, ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه, وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته فأفضل ما يقول الراكع على الاطلاق: سبحان ربي العظيم, فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل

(1/145)


لهذا الذكر لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} , قال: "اجعلوها في ركوعكم". وأبطل كثير من أهل العلم صلاة من تركها عمدا, وأوجب سجود السهو على من سها عنها, وهذا مذهب الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الحديث والسنة, والأمر بذلك لا يقصر عن الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ووجوبه لا يقصر عن وجوب مباشرة المصلي بالجبهة واليدين الركوع تعظيم الرب جل جلاله بالقلب والقالب والقول, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب".
فصل
ثم يرفع رأسه عائدا إلى أكمل حديثه, وجعل شعار هذا الركن حمد الله والثناء عليه وتحميده, فافتتح هذا الشعار بقول المصلي: "سمع الله لمن حمده" أي: سمع سمع قبول وإجابة, ثم شفع بقوله: "ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء" ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله: "ربنا ولك الحمد"؛ فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين, وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما, فإن قوله: "ربنا" متضمن في المعنى أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أزمة الأمور وإليه مرجعها فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا". قوله: "ولك الحمد" فتضمن ذلك معنى قول الموحد: له الملك وله الحمد. ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدرا وصفة فقال: "ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء" أي: قدر ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما, فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود وهو يملأ ما يخلقه الرب تبارك وتعالى بعد ذلك ما يشاؤه فحمده قد ملأ كل موجود وملأ ما سيوجد فهذا أحسن التقديرين. وقيل: ما شئت من شيء وراء العالم فيكون قوله بعد: للزمان على الأول, والمكان: على الثاني. ثم أتبع ذلك بقوله: "أهل الثناء والمجد" فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل الركعة: من الحمد والثناء والمجد, ثم أتبع ذلك بقوله: "أحق ما قال العبد" تقريرا لحمده وتمجيده والثناء عليه, وأن ذلك أحق ما نطق به العبد, ثم أتبع

(1/146)


ذلك بالاعتراف بالعبودية وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد ثم عقب ذلك بقوله: "لا مانع لما أعطيت ولامعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" , وكان يقول ذلك بعد انقضاء الصلاة أيضا, فيقوله في هذين الموضعين إعترافا بتوحيده ون النعم كلها منه, وهذا يتضمن أمورا أحدها أنه المنفرد بالعطاء والمنع. الثاني: أنه إذا أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه.
الثالث: أنه لاينفع عنده ولا يخلص من عذابه ولا يدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك, إنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاتهز
ثم ختم ذلك بقوله: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" , كما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح كما كان يختم الصلاة بالاستغفار وكان الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها, فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار وأنفع الدعاء من حمده وتمجيده والثناء عليه والاعتراف له بالعبودية والتوحيد والتنصل إليه من الذنوب والخطايا فهو ذكر مقصود في ركن مقصود ليس بدون الركوع والسجود.
فصل
ثم يكبر ويخر لله غير رافع يديه؛ لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه فهما ينحطان لعبوديتهما فأغنى ذلك عن رفعهما, ولذلك لم يشرع رفعهما ثم رفع الرأس من السجود؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه, وشرع السجود على أكمل الهيئة ومنعتها في العبودية وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية, والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له, ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله, ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة. ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض, كان جديرا بأن لا يخرج عن أصله

(1/147)


بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه, فإن العبد لو ترك لطبعه ودواعي نفسه لتكبر وأشر وخرج عن أصله الذي خلق منه ولوثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة فنازعه إياهما, وأمر بالسجود خضوعا لعظمة ربه وخشوعا له وتذللا بين يديه وانكسارا له فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردا له إلى حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه, وقد صار أعلاه أسفله خضوعا بين يدي ربه الأعلى وخشوعا له وتذللا لعظمته واستكانة لعزته وهذا غاية خشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدم واستعمله فيها ورده إليها ووعده بالإخراج منها فهي أمه وأبوه وأصله وفصله, فضمته حيا على ظهرها وميتا وجعلت له طهرا ومسجدا فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر وأجمع العبودية لسائر الأعضاء فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعا وخضوعا وإلقاء باليدين.
وقال مسروق لسعيد بن جبير ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له, وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بوجهه قصدا بل إذا اتفق له ذلك فعله. ولذلك سجد في الماء والطين, ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على الأعضاء السبعة الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين. فهذا فرض أمر الله به رسول وبلغه الرسول لأمته.
ومن كماله الواجب أو المستحب مباشرة مصلاه بأديم وجهه واعتماده على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه وارتفاع أسافله على أعاليه, فهذا من تمام السجود ومن كماله أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع فيقل بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه, ويجافي عضديه عن جنبيه ولا يفرشهما على الأرض ليستقل كل عضو منه بالعبودية.
ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدا لله اعتزل ناحية يبكي ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. ولذلك

(1/148)


اثنى الله سبحانه على الذين يخرون ثم سماع كلامه, وذم من لا يقع ساجدا عنده ولذلك كان قول من أوجبه قويا في الدليل, ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون خروا سجدا لربهم فكانت تلك السجدة أول سعادتهم وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر.
ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له فقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} , فأخبر عن إيمانهم بعلوه وفرقيته وخضوعهم له بالسجود تعظيما وإجلالا, وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .
فالذي حق عليه العذاب هو الذي لا يسجد له سبحانه وهو الذي أهانه بترك السجود له, وأخبر أنه لا مكرم له, وقد هان على ربه حيث لم يسجد له, وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} .
ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية متضمنة لاقسامها كانت أفضل أعمال العبد ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه.
وكان السجود أفضل أركانها الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان وجعله خاتمة الركعة وغايتها وشرع فعله بعد الركوع, فإن الركوع توطئة له ومقدمة بين يديه, وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه وهو قول: "العبد سبحان ربي الأعلى". فهذا أفضل ما يقال فيه, ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره في السجود بغيره حيث قال: "اجعلوها في سجودكم" , ومن تركه عمدا فصلاته باطلة عند كثير من العلماء منهم الإمام أحمد وغيره؛ لأنه لم يفعل ما أمر به وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ونزه ربه عما لايليق به مما يضاد عظمته وعلوه. ثم

(1/149)


لما شرع السجود بوصف التكرار لم يكن بد من الفصل بين السجدتين ففصل بينهما بركن مقصود شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق, فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة ودفع شر الدنيا والآخرة.
فالرحمة تحصل الخير, والمغفرة تقي الشر, والهداية توصل إلى هذا وهذا, والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان, وجعل جلوس الفصل محلا لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله والثناء عليه والخضوع له فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بين يدي حاجته فهذا الركن مقصود الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة؛ فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه ثم عاد إلى الحمد والثناء ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله؛ فشرع له أن يتمثل في الخدمة فيقعد فعل العبد الذليل جاثيا على ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبا راهبا معتذرا إليه مستعديا إليه على نفسه الأمارة بالسوء.
ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة إلى إتمام الأربع, كما شرع له تكرير الذكر مرة بعد مرة لأنه أبلغ في حصول المقصود وأدعى إلى الاستكانة والخضوع, فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها فالتابعون شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثيا على ركبتيه ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها عوضا عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم, فبعضهم يقول: أنعم صباحا, وبعضهم يقول: لك البقاء والنعمة, وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك. وبعضهم يقول: تعيش ألف عام, وبعضهم يسجد للملوك وبعضهم يسلم, فتحياتهم بينهم تتضمن ما بحبه المحيى من الأقوال والأفعال والمشركون يحيون أصنامهم.
قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة, فلما جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله

(1/150)


فالتحية هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت وهوسبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه؛ فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه, وكذلك قوله والصلوات فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل, والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك بت, وكذلك قوله والطيبات هي صفة الموصوف المحذوف أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده فهو طيب وأفعاله طيبة وصفاته أطيب شيء وأسماؤه أطيب الأسماء واسمه الطيب ولا يصدر عنه إلا طيب ولا يصعد إليه إلا طيب ولا يقرب منه إلا طيب وإليه يصعد الكلم الطيب, وفعله طيب والعمل الطيب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" , وفي حديث رقية المريض الذي رواه أبو داود رقم وغيره: "أنت رب الطيبين ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون" , كما يقال: لأهل الجنة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وقد حكم سبحانه في شرعه وقدره أن: الطيبات للطيبين, فإذا كان هو سبحانه الطيب على الاطلاق فالكلمات الطيبات والأفعال الطيبات والصفات الطيبات والأسماء الطيبات كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه, بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه, فطيب كل ما سواه من آثار طيبته, ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له, ولما كان السلام من أنواع التحية وكان المسلم داعيا لمن يحييه وكان الله سبحانه هو الذي يطلب منه السلام لعباده الذين اختصهم بعبوديته وارتضاهم لنفسه وشرع أن يبدأ بأكرمهم عليه وأحبهم إليه وأقربهم منه منزلة في هذه التحية بالشهادتين اللتين هما مفتاح الإسلام فشرع أن يكون خاتمة الصلاة فدخل فيها بالتكبير والحمد والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية والإلهية وختمها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
وشرعت هذه التحية في وسط الصلاة, إذا زادت على ركعتين تشبيها لها بجلسة الفصل بين السجدتين وفيها مع الفصل راحة للمصلي لاستقباله الركعتين الآخرتين

(1/151)


بنشاط وقوة, بخلاف ما إذا والى بين الركعات, ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى وإن تطوع بأربع جلس في وسطهن.
فصل
وجعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها فإن المصلي إذا فرغ من صلاته جلس جلسة الراغب الراهب يستعطى من ربه ما لا غنى به عنه, فشرع له أمام استعطائه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله, ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته, فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبودتيه, ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة ثم الصلاة على رسوله ثم قيل له تخير من الدعاء أحبه إليك فذاك الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك, وشرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلا لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم, وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم وآله والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله, ولذلك كان المطلوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مثل الصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء بعده وآله المؤمنين, فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وأفضل , فإذا أتى بها المصلي أمر أن يستعيذ بالله من مجامع الشر كله فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه فليس الشر إلا العذاب وأسبابه, والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة, وأسبابه الفتنة وهي نوعان: كبرى وصغرى, فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات, والصغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال, فإن المفتون فيهما لا يتداركها.
ثم شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته والدعاء في هذا المحل قبل السلام أفضل من الدعاء بعد السلام وأنفع للداعي, وهكذا كانت عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في الصلاة من أولها إلى آخرها, فكان يدعو في الاستفتاح أنواعا من الدعاء وبعد الركوع وبعد رفع رأسه منه وفي السجود وبين

(1/152)


السجدتين وفي التشهد قبل التسليم, وعلم الصديق دعاء يدعوا به في صلاته, وعلم الحسن بن علي دعاء يدعو به في قنوت الوتر.
وكان إذا دعا لقوم أو على قوم جعله في الصلاة بعد الركوع ومن ذلك أن المصلي قبل سلامه في محل المناجاة والقربة بين يدي ربه, فسؤاله في هذا الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يديه وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع فقال: "جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة". ودبر الصلاة جزؤها الأخير كدبر الحيوان ودبر الحائط وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها بقرينة تدل عليه كقوله: "تسبحون الله وتحمدونه وتكبرونه دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين" , فهنا دبرها الفراغ منها, وهذا نظير انقضاء الأجل, فإنه يراد له آخرالمدة ولما يفرغ ويراد به فراغها وانتهاؤها.
فصل
ثم ختمت بالتسليم وجعل تحليلا لها يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج منه, وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام, ثم شرع ذلك لكل مصل وإن كان منفردا فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة, وكما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريما لها فتحريمها تكبير الرب تعالى, والجامع لإثبات كل كمال له وتنزيه عن كل نقص وعيب وإفراده وتخصيصه بذلك وتعظيمه وإجلاله, فالتكبير يتضمن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها, فالصلاة من أولها إلى آخرها تفصيل لمضمون الله أكبر وأي تحريم أحسن من هذا التحريم المتضمن للإخلاص والتوحيد, وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين فافتتحت بالاخلاص وختمت بالإحسان.
فصل
قال المكملون للصلاة: فالصلاة وضعت على هذا النحو وهذا الترتيب لا يمكن أن يحصل ما ذكرناه من مقاصدها التي هي جزء يسير من قدرها وحقيقتها إلا مع الإكمال والإتمام والتمهل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله, ومحال حصول

(1/153)


ما ذكرناه مع النقر والتخفيف الذي يرجع إلى شهوة الإمام والمأمومين, ومن أراد أن يصلي هذه الصلاة الخاصة فلا بد له من مزيد تطويل. وأما الصلاة الحرجية فلا تتوقف على ذلك.
وأما استدلالكم بأحاديث الأمر بالإيجاز فقد بينا أن الإيجاز هو الذي كان يفعله وعليه داوم حتى قبضة الله إليه, فلا يجوز عير هذا البتة.
وأما قراءته في الفجر بالمعوذتين فهذا إنما كان في السفر كما هو مصرح به في الحديث, والمسافر قد أبيح له أو أوجب عليه قصر الصلاة لمشقة السفر, فأبيح له تخفيف أركانها, فهلا عملتم بقراءته في الحضر بمائة آية في الفجر, وأما قراءته صلاة الله عليه وسلامه بسورة التكوير في الفجر فإن كان في السفر فلا حجة لكم فيه, وإن كان في الحضر فالذي يحكى عنه ذلك روى عنه أنه كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة وبـ "ق" ونحوها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل في الصلاة وهو يريد إطالتها فيخففها لعارض من بكاء صبي وغيره. وأما حديث تسبيحه في الركوع والسجود ثلاثا فلا يثبت, والأحاديث الصحيحة بخلافه, وهذا السعدي مجهول لا تعرف عينه ولا حاله.
وقد قال أنس أن عمر بن عبد العزيز كان أشبه الناس صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مقدار ركوعه وسجوده عشر تسبيحات, وأنس أعلم بذلك من السعدي عن أبيه أو عمه لو ثبت. فأين علم من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين كوامل إلى علم من لم يصل معه إلا بتلك الصلاة الواحدة أو صلوات يسيرة؟. فإن عم هذا السعدي أو أباه ليس من مشاهير الصحابة المداومين الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما لازمه أنس والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وغيرهم ممن ذكر صفة صلاته وقدرها. وكيف يقوم صلى الله عليه وسلم بعد الركوع حتى يقولوا قد نسي ويسبح فيه ثلاث تسبيحات فيجعل القيام منه بقدره أضعافا مضاعفة.
وكذلك جلوسه بين السجدتين حتى يقولوا قد أوهم, ولا ريب أن ركوعه وسجوده كان نحوا من قيامه بعد الركوع وجلوسه بين السجدتين حتى تكرهوا إطالتها ويغلو من يغلو منكم فيبطل الصلاة بإطالتهما. وقد شهد البراء بن عازب أن ركوعه وسجوده كان نحوا من قيامه. ومحال أن يكون مقدار ذلك ثلاث

(1/154)


تسبيحات, ولعله خفف مرة لعارض فشهده عم السعدي أو أبوه فأخبر به, وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن طول صلاة الرجل من فقهه, وهذا الحكم أولى من الحكم له بقلة الفقه, فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم الحق وما خالفه فهو الحكم الباطل الجائر.
فروى مسلم في صحيحه من حديث عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة عن فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة". والمئنة: العلامة, وعند سراق الصلاة أن العجلة فيها من علامات الفقه فكلما سرق ركوعها وسجودها وأركانها كان ذلك علامة فضيلته وفقهه, وفي صحيح بن حبان وسنن النسائي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف المشي مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة, فهذا فعله وذاك قوله في مثل صلاة الجمعة التي يجتمع لها الناس, وكان يقرأ فيها سورة الجمعة والمنافقين كاملتين. ولم يقتصر على الثلاث الآيات من آخرهما في جمعة واحدة أصلا, فعطل كثيرا من الناس سنته فاقتصر على آخرهما, ولم يقرأ بهما كاملتين أصلا.
وكذلك كان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة "تنزيل السجدة". و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} كاملتين في الركعتين مع قراءته المترسلة على مهله وتأن, فعطل كثير من الائمة ذلك واقتصروا على هذه وهذه. وعلى إحدى السورتين في الركعتين ومن يقرأ بهما كاملتين, فكثير منهم يقرأ بهما بسرعة. وهذا مكروه للإمام, وكل هذا فرار من هديه صلى الله عليه وسلم.
فإن جاءهم حديث صحيح خالف ما ألفوه واعتادوه, قالوا: هذا منسوخ أو خلاف الإجماع, والعيار على ذلك عندهم مخالفة أقوالهم, ولو كانت أحاديث التطويل منسوخة لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك, ولما احتجوا بها على من لم يعمل بها ولاعمل بها أعلم الأمة به وهم الخلفاء الراشدون, فهذا صديق الأمة وشيخ الإسلام صلى الصبح فقرأ البقرة من أولها إلى آخرها وخلفه والصغير الكبير وذو الحاجة, فقالوا له: يا خليفة رسول الله كادت الشمس تطلع, فقال لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين.

(1/155)


ومضى على منهاجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب, وكان يقرأ في الفجر: "بالنحل ويوسف وبهود ويونس وبني إسرائيل ونحوها من السور.
وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالتخفيف ويؤمنا بالصافات. فالذي فعله هو الذي أمر به وقد تقدم حكاية الذكر والدعاء الذي كان يقوله في ركن الإعتدال من الركوع وأنه كان يطيله حتى يقول من خلفه قد أوهم, وتقدم حديث أبي سعيد في دخوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله فيتوضأ ثم يأتي المسجد فيدركه في الركعة الأولى, فيالله العجب للذي حرم الإقتداء به في ذلك أو جعله مكروها, ونحن نقول كلا والذي بعثه بالحق إن الاقتداء به في ذلك مرضاة الله ورسوله وإن تركها من تركها.
وأما حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء ودخول سهيل بن أبي أمامة على أنس بن مالك فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر, فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه المجهول, والأحاديث الصحيحة عن أنس كلها تخالفه. كيف يقول أنس هذا؟ وهو القائل: إن أشبه من رأى صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز وكان يسبح عشرا عشرا, وهو الذي كان يرفع رأسه من الركوع حتى يقال قد نسي, وكذلك ما بين السجدتين. ويقول: ما آلو أن أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الذي يبكي على إضاعتهم الصلاة.
ويكفي في رد حديث ابن أبي العمياء ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في سندها ولا شبهة في دلالتها, فلو صح حديث ابن أبي العمياء وهو بعيد عن الصحة لوجب حمله على أن تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للسنة الراتبة كسنة الفجر والمغرب والعشاء وتحية المسجد ونحوها, لا أن تلك صلاته التي كان يصليها بأصحابه دائما وهذا مما يقطع ببطلانه وترده سائر الأحاديث الصحيحة الصريحة.
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخفف بعض الصلاة. ٍ كما كان يخف

(1/156)


سنة الفجر حتى تقول عائشة أم المؤمنين: هل قرأ فيها بأم القرآن؟. وكان يخفف الصلاة في السفر حتى كان ربما قرأ في الفجر بالمعوذتين, وكان يخفف إذا سمع بكاء الصبي, فالسنة التخفيف حيث خفف, والتطويل حيث أطال, والتوسط غالبا, فالذي أنكره أنس هو التشديد الذي لا يخفف صاحبه على نفسه مع حاجته إلى التخفيف, ولا ريب أن هذا خلاف سنته وهديه.
وأما حديث معاذ وقوله: "أفتان أنت يا معاذ" , فلم يتعلق السراق منه إلا بهذه الكلمة ولم يتأملوا أول الحديث وآخره, فاسمع قصة معاذ:
فعن جابر بن عبد الله قال: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل, فوافق معاذ يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ, فقرأ سورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه معاذا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان أنت"؟ أو قال: "أفاتن أنت ثلاث مرات"؟ ثلاث مرات. " فلولا صليت: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". رواه البخاري ومسلم ولفظه للبخاري.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخلة فدخل المسجد مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه, فلما قضى معاذ الصلاة قيل له ذلك فقال: إنه لمنافق أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخلة؟ قال فجاء حرام: النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ عنده فقال: يا بنى الله إني أردت أن أسقي نخلا لي فدخلت المسجد لأصلي مع القوم فلما طول تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه, فزعم أني منافق, فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: "أفتان أنت؟ لا تطول بهم اقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها".
وعن معاذ بن رفاعة الأنصاري عن سليم من بني سلمة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ونكون في أعمالنا بالنهار فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطول علينا, فقال رسول الله: "يا معاذ بن جبل لا تكن فتانا, إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك".

(1/157)


ثم قال: "يا سليم ما معك من القرآن"؟ قال: إني أسأل الله الجنة أو قال: أسأل الجنة وأعوذ به من النار, والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار". قال سليم: سترون غدا إذا التقى القوم إن شاء الله وقال والناس يتجهزون إلى أحد فخرج فكان في الشهداء رحمه الله, رواه الإمام أحمد.
فإن قيل فقد روى الإمام أحمد المسند من حديث بريدة أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ فيها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فقام رجل قبل أن يفرغ فصلى وذهب فقال له معاذ قولا شديدا, فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه فقال: إني كنت أعمل في نخلي وخفت على الماء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوها من السور".
فقد أجيب عن هذا بأن قصة معاذ تكررت وهذا جواب في غاية البعد عن الصواب؛ فإن معاذا كان أفقه في دين الله من أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعود له, وأجود من هذا الجواب أن يكون قرأ في الركعة الأولى بالبقرة وفي الركعة الثانية بـ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . فسمعه من صلى معه من الركعة الأولى فقال: صلى بالبقرة, وبعضهم سمع قراءته في الثانية فقال: صلى بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
والذي في الصحيحن أنه قرأ سورة البقرة وشك بعض الرواة فقال: البقرة والنساء, وقصة قراءته بـ {اقْتَرَبَتِ} لم تذكر في الصحيح والذي في الصحيح أولى بالصحة منها, وقد حفظ الحديث جابر, فقال: كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح سورة البقرة وذكر القصة, فهذا جابر أخبر أنه فعل ذلك مرة وأنه قرأ بالبقرة ولم يشك, وهذا الحديث متفق على صحته أخرجاه.
فصل
وقد ظهر بهذا أن التعمق والتنطع والتشديد الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخالف لهديه وهدي أصحابه وما كانوا عليه وأن موافقته فيما فعله هو وخلفاؤه من بعده هو محض المتابعة وإن أباها وجهلها من جهلها, فالتعمق والتنطع مخالفة ما جاء به وتجاوزه والغلو فيه ومقابلة إضاعته والتفريط فيه والتقصير عنه وهما خطأ وضلالة وانحراف عن الصراط المستقيم والمنهج القويم, ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه.

(1/158)


وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: خير الناس النمط الأوسط الذي يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي. ذكره ابن المبارك عن محمد بن طلحة عن علي. وقال ابن عائشة: ما أمر الله عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان, فإما إلى غلو وإما إلى تقصير.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه, وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه, فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} , وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} .
فمنع ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك, والتبذير انحراف في جانب البذل, ورضاء الله فيما بينهما, ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين, والوسط دائما محمي الأطراف, أما الأطراف فالخلل إليها أسرع كما قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فقد اتفق شرع الرب تعالى وقدره على أن خيار الأمور أوساطها.
وأما قولهم: إن محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصوته وقراءته يحملهم على احتمال إطالته فلا يجدون بها مشقة فلعمر الله إن الأمر كما ذكروا. بل حبهم له يحملهم على بذل نفوسهم وأموالهم بين يديه, وعلى وقاية نفسه الكريمة بنفوسهم فكانوا يتقدمون إلى الموت بين يديه تقدم المحب إلى رضاء محبوب.
ولعمر الله هذا شأن أتباعه من بعده إلى يوم القيامة لا تأخذهم في متابعة سنته لومة لائم ولا يثنيهم عنها عذل عاذل فهم يحتملون في متابعته والإهتداء بهديه لوم اللائمين وطعن الطاعنين ومعاداة الجاهلين الذين رضوا من سنته بآراء الرجال بدلا وتمسكوا بها فلا يبغون عنها حولا, وعرضوا عليها نصوص السنة والقرآن عرض الجيوش على السلطان فما وافقها قبلوه وما خالفها تلطفوا في رده بأنواع التأويل, فمرة يقولون: هذا متروك الظاهر, ومرة يقولون: لا يعلم له قائل, ومرة يقولون:

(1/159)


هو منسوخ, ومرة يقولون: متبوعنا أعلم به منا, وما خالفه إلا وقد صح عنده ما يقتضي مخالفته, فأتباعه في مجاهده هذه الفرق دائبون, وعلى متابعة سنته دائرون. فإن كان قد غاب عن أعينهم شخصه الكريم فقد شاهدوا ببصائرهم ما كان عليه من الهدي المستقيم.
فصل
فهاك سياق صلاته من حين استقباله القبلة وقوله: الله أكبر, إلى حين سلامه كأنك تشاهده عيانا, ثم اختر لنفسك بعد ما شئت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة واستقبل القبلة ووقف في مصلاه رفع يديه إلى فروع أذنيه واستقبل بأصابعه القبلة ونشرها وقال: " الله أكبر" , ولم يكن يقول قبل ذلك نويت أن أصلي كذا وكذا مستقبل القبلة أربع ركعات فريضة الوقت أداء الله تعالى إماما. ولا كلمة واحدة من ذلك في مجموع صلاته من أولها إلى آخرها فقد نقل عنه أصحابه حركاته وسكناته وهيئاته حتى اضطراب لحيته في الصلاة حتى إنه حمل بنت ابنته مرة في الصلاة فنقلوه ولم يهملوه, فكيف ينعق ملؤهم من أولهم إلى آخرهم على ترك نقل هذا المهم الذي هو شعار الدخول في الصلاة ولعمر الله لو ثبت عنه من هذا كلمة واحدة لكنا أول من اقتدى به فيها وبادر إليها, ثم كان يمسك شماله بيمينه فيضعها عليها فوق المفصل ثم يضعها على صدره ثم يقول: "سبحانك اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم أغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد".
وكان يقول أحيانا: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك ظلمت نفسي وأعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني
__________
1 أول المسلمين في عصره كما تقول: فلان أول مدرسته أي في هذا العام أو فلان أول الثانوية العامة أي في هذا العام.

(1/160)


سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك, أنا بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك". ولكن هذا إنما حفظ عنه في صلاة الليل, وربما كان يقول: " الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا, والحمد لله كثيرا والحمد لله كثيرا, وسبحان الله بكرة وأصيلا". وربما كان يقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله الا أنت لا إله إلا أنت. سبحان الله وبحمده سبحان الله وبحمده". ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وربما قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثه وهمزه". وربما قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه" ثم يقرأ فاتحة الكتاب. فإن كانت الصلاة جهرية أسمعهم القراءة ولم يسمعهم بسم الله الرحمن الرحيم فربه أعلم هل كان يقرؤها أم لا؟.
وكان يقطع قراءته آية آية: ثم يقف على {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يبتديء {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ويقف ثم يبتديء: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على ترسل وتمهل وترتيل يمد "الرحمن" ويمد "الرحيم" وكان يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالألف يعني: لا يقرأ "ملك" وهي قراءة, وإذا ختم السورة قال: "آمين". يجهر بها ويمد بها صوته. ويجهر بها من خلفه حتى يرتج المسجد.
واختلفت الرواية عنه هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السورة أم كانت سكتة بعد القراءة كلها؟ فقال يونس عن الحسن عن سمرة: حفظت سكتتين سكتة إذا كبر الإمام حتى يقرأ, وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب, وسكتة عند الركوع. وصدقه أبي بن كعب على ذلك. ووافق يونس أشعث الحمراني عن الحسن فقال: سكتة إذا استفتح وسكتة إذا فرغ من القراءة كلها.
وخالفهما قتادة فقال عن الحسن أن سمرة بن جندب وعمران بن الحصين تذاكرا فحدث سمرة أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقط فحفظ ذلك سمرة وأنكر عليه عمران بن حصين فكتبا في ذلك إلى أبي كعب فكان في كتابه أن سمرة قد حفظ.
وقال قتادة أيضا عن الحسن عن سمرة: سكتتان حفظتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/161)


إذا دخل في الصلاة وإذا فرغ من القراءة, ثم قال بعد: وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقد اتفقت الأحاديث أنهما سكتتان فقط, إحداهما: سكتة الافتتاح, والثانية: مختلف فيها, فالذي قال: إنها بعد قراءة الفاتحة هو قتادة. وقد أختلف عليه سمرة فمرة قال ذلك ومرة قال من القراءة, ولم يختلف على يونس وأشعث أنها بعد فراغه من القراءة كلها, وهذا أرجح الروايتين, والله اعلم.
وبالجملة فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها من خلفه, وليس في سكوته في هذا المحل إلا هذا الحديث المختلف فيه كما رأيت, ولو كان يسكت هنا سكتة طويلة يدرك فيها قراءة الفاتحة لما اختفى ذلك على الصحابة ولكان معرفتهم به ونقلهم أهم من سكتة الافتتاح ثم يقرأ بعد ذلك سورة طويلة تارة وقصيرة تارة ومتوسطة تارة كما تقدم ذكر الأحاديث به, ولم يكن يبتديء من وسط السورة ولا من آخرها وإنما كان يقرأ من أولها فتارة يكملها وهو أغلب أحواله وتارة يقتصر على بعضها ويكملها في الركعة الثانية, ولم ينقل أحد عنه أنه قرأ بآية من سورة أو بآخرها إلا في سنة الفجر فإنه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية.
وكان يقرأ بالسورة في الركعة وتارة يعيدها في الركعة الثانية وتارة يقرأ سورتين في الركعة, أما الأول فكقول عائشة: إنه قرأ في المغرب بالأعراف فرقها في الركعتين. وأما الثاني: فقراءته في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما: والحديثان في السنن. وأما الثالث فكقول ابن مسعود: ولقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهما فذكر عشرين سورة من المفصل: سورتين في ركعة, وهذا في الصحيحين, وكان يمد قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصلوات -وأقصر ما حفظ عنه أنه كان يقرأ بها فيها فى الحضر "ق" ونحوها, وكان يجهر بالقراءة في الفجر, والأوليين من المغرب والعشاء, ويسر فيما سوى ذلك, وربما كان يسمعهم الآية في قراءة السر أحيانا.

(1/162)


وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {الم تَنْزِيلُ} "السجدة" و {هَلْ أَتَى} كاملتين ولم يقتصر على إحداهما ولا على بعض هذه وبعض هذه فقط, وكان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة "الجمعة" والمنافقون" كاملتين ولم يقتصر على أواخرهما, وربما كان يقرأ بسورة "الأعلى" و "الغاشية" وكان يقرأ في العيدين بسورة "ق" و "اقتربت الساعة" كاملتين ولم يقتصر على أواخرهما, وكان يقرأ في صلاة السر سورة فيها السجدة أحيانا فيسجد للسجدة ويسجد معه من خلفه, وكان يقرأ في الظهر قدر: {الم تَنْزِيلُ} "السجدة" أونحو ثلاثين آية, ومرة كان يقرأ فيها بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوها من السور. ومرة بـ "لقمان" "والذاريات". وكان يقوم في الركعة الأولى منها حتى لا يسمع وقع قدم.
وكذلك كان يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية, وكانت قراءتة في العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية, وكان يقرأ في المغرب بالأعراف تارة وبالطور تارة والمرسلات تارة وبالدخان تارة.
وروي عنه أنه قرأ فيها بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تفرد به ابن ماجه, ولعل أحد رواته وهم من قراءته بهما في سنة المغرب, فكان يقرأ بهما في سنة المغرب فقال: كان يقرأ بهما في المغرب أو سقطت "سنة" من النسخة والله أعلم.
وكان يقرأ في عشاء الآخرة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ويسجد فيها جميع من خلفه وبـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحو ذلك من السور, وكان إذا فرغ من القراءة سكت هنيهة ليرجع إليه نفسه.
فصل
ثم كان يرفع يديه إلى أن يحاذي بهما فروع أذنيه كما رفعهما في الاستفتاح, صح عنه ذلك كما صح التكبير للركوع, بل الذين رووا عنه رفع اليدين ههنا أكثر من الذين رووا عنه التكبير, ثم يقول الله أكبر ويخر راكعا ويضع يديه على ركبتيه فيمكنهما من ركبتيه وفرج بين أصابعه وجافى مرفقيه عن جنبيه ثم اعتدل وجعل رأسه حيال ظهره فلم يرفع رأسه ولم يصوبه, وهصر ظهره- أي مده- ولم يجمعه, ثم قال: "سبحان ربي العظيم".

(1/163)


وروى عنه أنه كان يقول: "سبحان ربي العظيم وبحمده". قال أبو داو: وأخاف أن لا تكون هذه الزيادة محفوظة, وربما مكث قدر ما يقول القائل عشر مرات وربما مكث فوق ذلك ودونه, وربما قال: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" , وربما قال: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" , وربما قال: "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع قلبي وسمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين" , وربما كان يقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" , وكان ركوعه مناسبا لقيامه في التطويل والتخفيف وهذا بين في سائر الأحاديث.
فصل
ثم كان يرفع رأسه قائلا: "سمع الله لمن حمده" , ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع فإذا اعتدل قائما قال: "ربنا لك الحمد" وربما قال: "اللهم ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت منم شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وربما زاد على ذلك: "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد, اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ" , وكان يطيل هذا الركن حتى يقول القائل: قد نسي. وكان يقول في صلاة الليل فيه: "لربي الحمد لربي الحمد".
فصل
ثم يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه وكان يضع ركبتيه قبل يديه هكذا قال عنه وائل بن حجر وأنس بن مالك, وقال عنه ابن عمر: إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه, واختلف على أبي هريرة, ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه".
وروى عنه المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه". فأبو هريرة قد تعارضت الرواية عنه, وحديث وائل وابن عمر قد تعارضا فرجحت طائفة حديث ابن عمر ورجحت طائفة حديث وائل بن حجر, وسلكت طائفة مسلك النسخ, وقالت: كان الأمر الأول وضع اليدين قبل الركبتين, ثم

(1/164)


نسخ بوضع الركبتين أولا. وهذه طريقة ابن خزيمة في ذكر الدلائل على الأمر بوضع اليدين عند السجود منسوخ, فإن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ.
ثم روى من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين؛ وهذا لو ثبت لكان فيه الشفاء لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاري: "عنده مناكير", وقال ابن معين: "ليس بشيء لا يكتب حديثه" وقال النسائي: "متروك الحديث".
وهذه القصة مما وهم فيها يحيى أو غيره وإنما المعروف عن مصعب بن سعد عن أبيه نسخ التطبيق في الركوع بوضع اليدين على الركبتين, فلم يحفظ هذا الراوي وقال المنسوخ وضع اليدين قبل الركبتين, قال السابقون باليدين قد صح حديث ابن عمر فإنه من رواية عبيد الله عن نافع عنه, قال ابن أبي داود وهو قول أهل الحديث؛ قالوا وهم أعلم بهذا من غيرهم فإنه نقل محض؛ قالوا: وهذه سنة رواها أهل المدينة وهم أعلم بها من غيرهم.
قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان أحدهما: محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. والثاني: الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر وقالوا: وحديث وائل بن حجر له طريقان وهما معلومان في أحدهما شريك تفرد بت؛ قال الدارقطني: "وليس بالقوي فيما يتفرد به" والطريق الثاني: من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه ولم يسمع من أبيه.
قال السابقون بالركبتين: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر, قال البخاري: حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة لا يتابع عليه فيه محمد بن عبد الله بن الحسن قال: ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا, وقال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت منه, قال: وزعم بعض العلماء أنه منسوخ ولهذالم يحسنه الترمذي وحكم بغرابته وحسن حديث وائل. قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: "لا يبرك كما يبرك البعير":, والبعير إذا برك بدأ بيديه قبل ركبتيه, وهذا النهي لا يمانع قوله: "وليضع يديه قبل ركبتيه" بل ينافيه ويدل

(1/165)


على أن هذه الزيادة غير محفوظة, ولعل لفظها انقلب على بعض الرواة, قالوا: ويدل على ترجيح هذا امران آخران:
أحدهما: ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة, وفي لفظ: "نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة", ولا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد عليهما فيكون قد أوقع جزءا من الصلاة معتمدا على يديه بالأرض, وأيضا فهذا الاعتماد بالسجود نظير الاعتماد في الرفع منه سواء, فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك. الثاني: أن المصلي في انحطاطه ينحط منه إلى الأرض الأقرب إليها أولا ثم الذي من فوقه ثم الذي من فوقه حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه وهو وجهه, فإذا رفع رأسه من السجود ارتفع أعلى ما فيه أولا ثم الذي دونه حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه, والله أعلم.
فصل
ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه, ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة, وكان يعتمد على إليتي كفيه ويرفع مرفقيه ويجافي عضديه عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه ويرفع بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه, ويعتدل في سجوده ويمكن وجهه من الأرض مباشرا به للمصلى ساجدا على كور العمامة.
قال أبو حميد الساعدي وعشرة من الصحابة يسمعون كلامه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه, فإذا أراد أن أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه, ثم قال: "الله أكبر" فرفع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنعه ووضع يديه على ركبتيه وقال: "سمع الله لمن حمده" ثم رفع واعتدل حتى رجع كل عضو في موضعه معتدلا, ثم هوى ساجدا وقال: "الله أكبر" ثم جافى وفتح عضديه عن بطنه وفتح أصابع رجليه ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم موضعه معتدلا, ثم هوى ساجدا وقال: "الله أكبر" ثم ثنى رجله وقعد عليها حتى يرجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع

(1/166)


يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة ثم صنع كذلك حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم. وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى".
وروي أنه كان يزيد عليها: "وبحمده" , وربما قال: "اللهم إني لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصورة وشق سمعه وبصوره, تبارك الله أحسن الخالقين". وكان يقول أيضا: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" , وكان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت" , وكان يقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" , وكان يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقة وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره" , وكان يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وكان يجعل سجوده مناسبا لقيامه ثم يرفع رأسه قائلا: "الله أكبر" غير رافع يديه ثم يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويضع يديه على فخذيه ثم يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وفي لفظ: "وعافني" بدل "واجبرني" هذا حديث ابن عباس.
وقال حذيفة كان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" , والحديثان في السنن وكان يطيل هذه الجلسة حتى يقول القائل قد أوهم أو قد نسي.
فصل
ثم يكبر غير رافع يديه ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى, ثم يرفع رأسه مكبرا وينهض على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه وفخذيه.
وقال مالك بن الحويرث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا, فهذه تسمى جلسة الاستراحة لا ريب أنه صلى الله عليه وسلم فعلها, ولكن هل فعلها على أنها من سنن الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره أو لحاجته إليه لما أسن وأخذه اللحم؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين:
أحدهما أن فيه جمعا بينه ويبن حديث وائل بن حجر وأبي هريرة أنه كان ينهض على صدور قدميه.
الثاني: أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم فكان عبد الله بن مسعود

(1/167)


يقوم على صدور قدميه في الصلاة ولايجلس رواه البيهقي عنه.
ورواه عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري من رواية عطية العوفي عنهم وهو صحيح عن ابن مسعود ولم يكن يرفع يديه في هذا القيام, وكان إذا استتم قائما أخذ القراءة ولم يسكت وافتتح قراءته بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإذا جلس في التشهد الأول مفترشا كما يجلس بين السجدتين ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة وجعل بصرة إلى موضع إشارته وكان يرفع أصبعه السبابة ويحنيها قليلا يوحد بها ربه عز وجل.
وذكر أبو داود من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هكذا الاخلاص" يشير بأصبعه التي تلي الإبهام, وهكذا الدعاء فرفع يديه مدا حذو منكبيه -وهكذا الابتهال- فرفع يديه مدا وقد روي موقوفا, ثم كان يقول: "التحيات لله والصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" , وكان يعلمه أصحابه كما يعلمهم القرآن.
وكان أيضا يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله" , هذا تشهد ابن عباس والأول تشهد ابن مسعود وهو أكمل؛ لأن تشهد ابن مسعود يتضمن جملا متغايرة وتشهد ابن عباس جملة واحدة, وأيضا فإنه في الصحيحين وفيه زيادة الواو, وكان يعلمهم إياه كما يعلمهم القرآن.
وروى ابن عمر عنه: "التحيات لله الصلوات الطيبات" , وفيه أنواع أخركلها جائزة, وكان يخفف هذه الجلسة حتى كأنه جالس على الرضف, وهي الحجارة المحماة, ثم يكبر وينهض فيصلي الثالثة والرابعة ويخففهما عن الأوليين وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وربما زاد عليها أحيانا.
فصل
وكان إذا قنت لقوم أو على قوم يجعل قنوته في الركعة الأخيرة بعد رفع رأسه من الركوع, وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصبح.
وقال حميد عن أنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاته يدعو

(1/168)


على رعل وذكوان, وقال ابن سيرين قلت: لأنس قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال: نعم بعد الركوع يسيرا, وقال ابن سيرين عن أنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على عصية متفق على هذه الأحاديث, فهؤلاء أعلم الناس بأنس قد حكوا عنه أن قنوته كان بعد الركوع وحميد هو الذي روى عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: "كنا نقنت قبل الركوع وبعده" , والمراد بهذا القنوت طول القيام, وقد أخبر أبو هريرة مثل ما أخبر به أنس سواء أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع لما قال: "سمع الله لمن حمده" قال قبل أن يسجد: "اللهم نج عياش ابن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين" -متفق عليه.
وقال ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلانا وفلانا -بعد ما يقول- سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد". فقد اتفقت الأحاديث أنه قنت بعد الركوع وأنه قنت لعارض ثم تركه ثم قال أنس: القنوت في المغرب والفجر رواه البخاري.
وقال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر والمغرب, رواه مسلم. وقنت أبو هريرة في الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده" يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار, وقال: لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره البخاري.
وقال أحمد وصلاة العصر مكان صلاة العشاء, وقال ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم ويؤمن من خلفه, ذكره أبو داود وقد اتفقت الأحاديث كما ترى على أنه في الركعة الأخيرة بعد الركوع وأنه عارض لا راتب.
وفي صحيح مسلم عن أنس قنت يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه.
وعند الإمام أحمد قنت شهرا ثم تركه, وقال أبو مالك الأشجعي قلت: لأبي يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر عمر وعثمان وعلي بالكوفة ههنا قريبا خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال أي بني إنه محدث!

(1/169)


قال الترمذي: هذا صحيح ورواه النسائي, ولفظه: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت, وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت وصليت خلف عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت, ثم قال يا بني بدعة! فمن كره القنوت في الفجر احتج بهذه الأحاديث وبقول أنس ثم تركه, قالوا: فهو منسوخ, ومن استحبه قبل الركوع فحجته الآثار عن الصحابة والتابعين بذلك.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء عن أبي مغفل أنه قنت في الفجر قبل الركوع، وقال: مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقنت في الفجر قبل الركوع.
وقال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقنت قبل الركوع. قال أصبع بن الفرج والحارث بن مسكين وابن أبي العمر حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: سئل مالك عن القنوت في الصبح أي ذلك أعجب إليك؟ قال: الذي أدركت الناس عليه, وهو أمر الناس القديم القنوت قبل الركوع, قلت: أي ذلك تأخذ في خاصة نفسك؟ قال: القنوت قبل الركوع, قلت: فالقنوت في الوتر, قال: ليس فيه قنوت.
فصل
ومن استحبه بعد الركوع فذهب إلى الأحاديث التي صرحت بأنه بعد الركوع وهي صحاح كلها, قال الأثرم قلت: لأبي عبد الله يقول أحد في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل عاصم الأحول؟ قال: ما عملت أحدا يقوله غيره خالف عاصما. قلت: هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع والتميمي عن أبي مجلز عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع, وأيوب عن محمد قال: سألت أنسا وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه, قيل لأبي عبد الله وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ قال: بلى كلها خفاف أين كانت وأبو هريرة, قلت: لأبي عبد الله فلم ترخص إذا في القنوت قبل الركوع؟ وإنما صحت الأحاديث بعد الركوع فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع, وفي الوتر نختاره بعد الركوع ومن قنت قبل الركوع فلا بأس

(1/170)


لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه, فأما في الفجر فبعد الركوع والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القنوت في النوازل ثم تركه، ففعله سنة وتركه سنة. وعلى هذا دلت جميع الأحاديث وبه تتفق السنة.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن القنوت في أي صلاة؟ قال: في الوتر بعد الركوع, فإن قنت رجل في الفجر اتباع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت دعاء للمستضعفين فلا بأس, فإن قنت رجل بالناس يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس.
وقال إسحاق الحربي: سمعت أبا ثور يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبد الله: إنما يكون القنوت في النوازل. فقال له أبو ثور: أي نوازل أكثر من هذه النوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت.
وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القنوت في الفجر فقال: نعم في الأمر يحدث, كما قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم, قلت: له ويرفع صوته؟ قال: نعم ويؤمن من خلفه كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع. وسمعته قال لما سئل عن القنوت في الفجر فقال: إذا نزل بالمسلمين أمر قنت الإمام وأمن من خلفه. ثم قال: مثل ما نزل بالناس من هذا الكافر. يعني بابك.
وقال عبد القدوس بن مالك العطار: سألت أبا عبد اله أحمد بن حنبل فقلت: إني رجل غريب من أهل البصرة وإن قوما قد اختلفوا عندنا في أشياء وأحب أن أعلم رأيك فيما اختلفوا فيه, قال سل عما أحببت, قلت: فإن بالبصرة قوما يقنتون كيف ترى في الصلاة خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت وخلف من لا يقنت, فإن زاد في القنوت حرفا أو دعا بمثل "إنا نستعينك" أو "عذابك الجد" أو "نحفد", فإن كنت في الصلاة فاقطعها.
فصل
وشرع لأمته أن يصلوا عليه في التشهد الأخير فيقولوا: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" وأمرهم أن يتعوذوا بالله من عذاب النار وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال, وعلم الصديق أن

(1/171)


يدعو في صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت القمدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". ثم كان يسلم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله" وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله" وروى ذلك خمسة عشر صحابيا, وكان إذ اسلم قال: "استغفر الله ثلاثا اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام لا إله الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
وشرع لأمته التسبيح والتحميد عقيب كل صلاة، وروى عنه النسائي من حديث أبي أمامة أنه قال: "من قرأ آية الكرسي عقيب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".
فصل
وكان يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين دائما, ولما شغل عنهما يوما صلاهما بعد العصر, وندب إلى أربع بعدها فقال: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعدها حرمه الله على النار" , قال الترمذي: حديث صحيح, ولم ينقل عنه أنه كان يصلي قبل العصر. حديث صحيح. وفي السنن عنه أنه قال: "رحم الله امرا صلى قبل العصر أربعا" , وكان يصلي بعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الصبح ركعتين, فهذه اثنتا عشرة ركعة سننا راتبة, والفرائض سبع عشرة ركعة. وكان يصلي من الليل عشر ركعات, وربما صلى اثنتي عشرة ركعة ويوتر بواحدة, فهذه أربعون ركعة ورده دائما: الفرائض وسننها وقيام الليل والوتر, ولم يكن من سننه الدعاء بعد الصبح والعصر, وإنما كان من هديه الدعاء في الصلاة وقبل السلام منها كما تقدم, والله أعلم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق