الثلاثاء، 21 يونيو 2022

ط مكتبة ابن تيمبة/ اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية تأليف: محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

 

عنوان الكتاب:

اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية

تأليف:

محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

الناشر:

مكتبة ابن تيمية، مصر

الأولى، 1408هـ/1988م

ص -7-   اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية
تأليف: ابن القيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
الله سبحانه المسئول المرجو الإجابة أن يمتعكم بالإسلام والسنة والعافية فإن سعادة الدنيا والآخرة ونعيمهما وفوزهما مبني على هذه الأركان الثلاثة وما اجتمعن في عبد بوصف الكمال إلا وقد كملت نعمة الله عليه: وإلا فنصيبه من نعمة الله بحسب نصيبه منها.
والنعمة نعمتان نعمة مطلقة ونعمة مقيدة فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد وهي الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى {  وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} فأضاف الدين إليهم إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.
والدين تارة يضاف إلى العبد وتارة يضاف إلى الرب فيقال الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه، ولهذا يقال في الدعاء: اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء، ونسب الكمال إلى الدين، والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم، وهم محل محض النعمة قابلين لها ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين: واجعلهم مثنين بها عليك قابليها وأتممها عليهم.
 وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبة إليهم فقال { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وكان الإكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة، واللفظتان وإن تقاربتا وتواخيتا فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل: فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات ولكن باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد " وقال عمر بن عبد العزيز إن للإيمان حدودا وفرائض وسننا وشرائع فمن استكملها فقد

 

ص -8-   استكمل الإيمان وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان.
وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه، فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم، والنعمة إليه أحسن.
والمقصود أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة وهي التي اختصت بالمؤمنين وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح.
والنعمة الثانية النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وتبسط الجاه وكثرة الولد والزوجة الحسنة، وأمثال هذه فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر والمؤمن والكافر، وإذا قيل لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو حق، فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر، ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة، وإنما كانت بلية كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك فقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلاَّ} أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارا، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضلة أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
(فإن قيل): كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله { أَكْرَمَهُ} فأثبت له الإكرام ثم أنكر عليه قوله { رَبِّي أَكْرَمَنِ} وقال { كَلاَّ} أي ليس ذلك إكراما مني وإنما هو ابتلاء فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه.
قيل الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من جنس النعمة المطلقة والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق، وكذلك أيضا إذا قيل إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدلها فهو بمنزلة من أعطى ما لا يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} وقال تعالى { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فهدايته إياهم نعمة منه عليهم، فبدلوا نعمة الله وآثروا عليها الضلال فهذا فصل النزاع في مسألة (هل لله على الكافر نعمة أم لا) وأكثر اختلاف الناس من جهتين إحداهما اشتراك الألفاظ

 

ص -9-   وإجمالها. والثانية من جهة الإطلاق والتفصيل.
(فصل) وهذه النعمة المطلقة هي التي يفرح بها في الحقيقة والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يحب الفرحين قال الله تعالى { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الإسلام والسنة: وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما: وكلما كان أرسخ فيهما كان قبله أشد فرحا حتى إن القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحا أحزن ما يكون الناس، فإن السنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، تقوم بأهلها وأن قعدت بهم أعمالهم ويسعى نورها بين أيديهم إذا طفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم: وأهل السنة هم المبيضة وجوههم إذا اسودت وجوه أهل البدعة. قال تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف. وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق، وهي الحياة والنور اللذان بهما سعادة العبد وهداه وفوزه، قال تعالى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} فصاحب السنة حي القلب مستنيرة وصاحب البدعة ميت القلب مظلمه.
وقد ذكر الله سبحانه هذين الأصلين في كتابه في غير موضع. وجعلهما صفة أهل الإيمان، وجعل ضدهما صفة من خرج عن الإيمان، فإن القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله وفهم عنه وأذعن وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، والقلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم في جميع جهاتهم فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق وأعمالهم مظلمة وأقوالهم مظلمة وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة وإذا قسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليه بقوافي الظلمات ومدخلهم في النار مظلم. وهذه الظلمة هي التي خلق فيها الخلق أولا، فمن أراد الله سبحانه وتعالى به السعادة أخرجه منها إلى النور ومن أراد به الشقاوة تركه فيها كما روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور

 

ص -10- اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى أن يجعل له نورا في قلبه وسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه وعظامه ودمه، ومن فوقه ومن تحته، وعن شماله وخلفه وأمامه، وأن يجعل ذاته نورا، فطلب صلى الله عليه وسلم النور لذاته ولأبعاضه ولحواسه الظاهرة والباطنة ولجهاته الست.
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: المؤمن مدخله من نور ومخرجه من نور وقوله نور وعمله نور، وهذا النور بحسب قوته وضعفه يظهر لصاحبه يوم القيامة فيسعى بين يديه ويمينه، فمن الناس من يكون نوره كالشمس وآخر كالنجم وآخر كالنخلة السحوق وآخر دون ذلك حتى أن منهم من يعطى نورا على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى كما كان نور إيمانه ومتابعته في الدنيا كذلك، فهو هذا بعينه يظهر هناك للحس والعيان. وقال وتعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فسمى وحيه وأمره روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح وسماه نورا لما يحصل به من الهدى واستنارة القلوب والفرقان بين الحق والباطل.
وقد اختلف في الضمير في قوله عز وجل { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} فقيل يعود على الكتاب وقيل على الإيمان، والصحيح أنه يعود على الروح في قوله { رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} فأخبر تعالى أنه جعل أمره روحا ونورا وهدى. ولهذا ترى صاحب إتباع الأمر والسنة قد كسي من الروح والنور وما يتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ما قد حرمه غيره، كما قال الحسن رحمه الله " إن المؤمن من رزق حلاوة ومهابة " وقال تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم. وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم؛ فذلك إخراجهم إياهم من النور إلى الظلمات، وقال تعالى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} فإحياؤه سبحانه وتعالى بروحه الذي هو وحيه وهو روح الإيمان والعلم وجعل له نورا يمشي به بين أهل الظلمة كما يمشي الرجل بالسراج المضيء في الليلة

 

ص -11- الظلماء فهو يرى أهل الظلمة في ظلامتهم وهم لا يرونه، كالبصير الذي يمشي بين العميان.
(فصل) والخارجون عن طاعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ومتابعتهم يتقلبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاثة، وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يتقلبون في عشرة أنوار؛ ولهذه الأمة من النور ما ليس لأمة غيرها ولنبيها صلى الله عليه وسلم من النور ما ليس لنبي غيره، فإن لكل نبي منهم نورين ولنبينا صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة من رأسه وجسده نور تام، كذلك صفته وصفة أمته في الكتب المتقدمة. وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي قوله تمشون به إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو بالنور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم؛ بل ضرره أكثر من نفعه، وفيه أن أهل النور هم أهل المشي في الناس ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع، فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى  الطاعات، وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم. وفي قوله { تَمْشُونَ بِهِ} نكتة بديعة، وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه.
(فصل) والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا. واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ. قال تعالى { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقد فسر قوله تعالى { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى، والنور يضاف إليه

 

ص -12- سبحانه على أحد وجهين، إضافة صفة إلى موصوفها وإضافة مفعول إلى فاعله، فالأول كقوله عز وجل { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت". وفي الأثر الآخر: "أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات". فأخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله؛ كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبراني والسنة له وكتاب عثمان الدارمي وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه"، وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه". وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال نور أنّى أراه"، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول معناه كان ثم نور، وحال دون رؤيته نور فأنّى أراه. قال ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ فقال: " رأيت نورا" وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال (نورانى أراه) على أنها ياء النسب والكلمة كلمة واحدة، وهذا خطأ لفظا ومعنى، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله: " أنّى أراه" كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث؛ ورده بعضهم باضطراب لفظه، وكل هذا عدول عن موجب الدليل. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له

 

ص -13- إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه. وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنه ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر " حجابه النور " فهذا النور هو " والله أعلم " النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه " رأيت نورا ".
(فصل) وقوله تعالى { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح} هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن كما قال أبي بن كعب وغيره، وقد اختلف في مفسر الضمير في " نوره " فقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم وقيل مفسره المؤمن أي مثل نور المؤمن، والصحيح أنه يعود على الله سبحانه وتعالى، والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله فيضاف إلى الفاعل والقابل ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحامل ومادة وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل؛ فالفاعل هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء، والقابل العبد المؤمن والمحل قلبه والحامل همته وعزيمته وإرادته، والمادة قوله وعمله، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان (أحدهما) طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن، فتأمل صفة المشكاة، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها المصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادتة من أصفى الأذهان وأتمها

 

ص -14- وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في أحدى طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به.
والطريقة الثانية طريقة التشبيه المفصل، فقيل المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه، شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى وقد جعل الله تعالى، القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف " القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها " والمصباح هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق وهي مادة المصباح التي يتقد منها والنور على النور، نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فيضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادقان ويتوافقان.
فهذا علامة النور على النور عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشبه الباطلة والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات   فهي في صدره { كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فانظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال فإن الناس قسمان أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى وإن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من

 

ص -15- العقل والسمع أمرها فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به وهي { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات، فلا هم في عملهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون مغترين بظاهر السراب ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب إن عندهم إلا نخالة الأفكار وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها وقدموها على السنة والقرآن { إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أوجبه لهم إتباع الهوى ونخوة الشيطان وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.
(فصل) القسم الأول: أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم بإتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وهؤلاء قسمان أحدهما الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله وينصرون الباطل ويوالون أهله وهم يحسبون أنهم على شيء إلا أنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين سبحانه وتعالى فحسب له ما عنده من العلم والعمل فوفاه إياه بمثاقيل الذر، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا إذ لم يكن خالصا لوجهه ولا على سنة رسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثور فصارت أعماله وعلومه

 

ص -16- حسرات عليه، والسراب ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري والقيعة والقاع هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد فشبه علوم من لم يأخذ علومه وأعماله من الوحي بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء فإذا أتوه وجدوا الله عنده فأخذتهم زبانية العذاب فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وهم الذين عنى بقوله { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وهم الذين عنى بقوله تعالى { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
والقسم الثاني من هذا الصنف أصحاب الظلمات وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا؛ فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة بل بمجرد التقليد وإتباع الآباء من غير نور من الله تعالى كظلمات جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر، وظلمة الظلم، وإتباع الهوى وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور، فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات. قوله ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم وحاله مظلم؛ وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور جد في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل:

 

ص -17- خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم

فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان، جال ومال وأبدى وأعاد وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة انحجز في حجرة الحشرات.
وقوله { فِي بَحْرٍ لُجِّي} اللجي العميق منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه، وقوله تعالى { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه، فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر، وأنها أمواج بعضها فوق بعض، والضمير الأول في قوله { يَغْشَاهُ} راجع إلى البحر والضمير الثاني في قوله { مِنْ فَوْقِه} عائد إلى الموج، ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب فههنا ظلمات: ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله، إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها واختلف في معنى ذلك فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد ينفي وقوع الشيء، ولا تنفي مقاربته فكأنه قال لم يقارب رؤيتها بوجه، قال هؤلاء: كاد من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات، فإذا قيل كاد يفعل، فهو إثبات مقاربة الفعل، فإذا الأفعال في النفي و الإثبات، فإذا قيل كاد يفعل، فهو إثبات مقاربة الفعل، فإذا قيل لم يكد يفعل فهو نفي لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد، وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر لأجل تلك الظلمات، وقالوا لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت ما كدت أصل إليك فمعناه وصلت إليك بعد الجهد والشدة، فهذا إثبات للوصول وإذا قلت كاد زيد يقوم فهي نفي لقيامه كما قال تعالى { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} ومنه قوله تعالى { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.

أنحوى هذا العصر ما هي لفظة   جرت في لسان جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن اثبتت قامت مقام جحود

وقالت فرقة ثالثة منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضي نفي

ص -18- خبرها كقولك كاد زيد يقوم، واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى فهي عنده تنفي الخبر سواء كانت منفية أو مثبتة، فلم يكد زيد يقوم، أبلغ عنده في النفي من (لم يقم) واحتج بأنها إذا نفت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل وهو أبلغ من نفيه، وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها وذلك يدل على عدم وقوعه، واعتذر عن مثل قوله تعالى { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وعن مثل قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم بأن هذا وارد على كلامين متباينين، أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له فالأول يقتضي وجود الفعل، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له بل كان آيسا منه فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.
وذهبت فرقة رابعة إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها، فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل وإن كانت في طرف النفي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها، فإنها لم توضع لنفيه وإنما استفيد من لوازم معناها فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا فيكون منفيا باللزوم وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت لا يكاد البطال يفلح ولا يكاد البخيل يسود ولا يكاد الجبان يفرح ونحو ذلك، وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا كما قال ابن مالك، فهذا التحقيق في أمرها.
والمقصود أن قوله { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} إما أنه يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة وهو الأظهر، فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها. قال ذو الرمة:

إذا غير النائي المحبين لم يكد   رسيس الهوى من حب مية يبرح

أي لم يقارب البراح وهو الزوال فكيف يزول، فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمله ورجاه، وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان

 

ص -19- بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج الذي قد غشيه السحاب من فوقه.
فياله تشبيها ما أبدعه وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه، وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم، وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم فهي سراب لا حاصل لها وظلمات لا نور فيها، وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة، ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه، كما ذكرهما في سورة البقرة في قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}.
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث، فإن الهدي يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب. مما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها؛ وقيل لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان، وقال في صفتهم { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} لأنهم قد رأوا في ضوء النهار وأبصروا الهدى، فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} ولم يقل ذهب نورهم، وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين وإن الله مع الصابرين وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم. فليس لهم نصيب من قوله { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ولا من { كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.

 

ص -20- وتأمل قوله تعالى { أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ولو اتصل ضوئها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله تعالى { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بنارهم ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور؛ وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية. وتأمل كيف قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع قوله { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} لأن الضوء هو زيادة في النور فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم وإنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم وأيضا فإن الله تعالى سمى كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا وهداه نورا ومن أسمائه النور والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله، وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبدلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها من تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها.
وتأمل كيف قال الله تعالى { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} فوحده ثم قال { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} فجمعها فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله تعالى { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ

 

ص -21- يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} فجمع سبل الباطل ووحد سبيل الحق ولا يناقض هذا قوله تعالى { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا مستقيما وقال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
وقد قيل إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قول الله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه } ويكون قوله تعالى: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مطابقا لقوله تعالى: { أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي، وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادا بالآية نظر، فإن السياق إنما قصد لغيره ويأباه قوله تعالى { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله تعالى { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر. قال الحسن رحمه الله: هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ولهذا قال { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه، وقال تعالى في حق الكفار { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فسلب العقل عن الكفار إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

 

ص -22- فصل
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا فقال تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها لا يهتدي سبيلا ولا يعرف طريقا؛ وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب، وأن تلك الظلمات التي فيه وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام. وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب.
وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته، فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون. وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه، وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه؛ والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء وأدرك الحق علما وعملا

 

ص -23- ومعرفة فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري: لقائل أن يقول شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيب الكفرة من الإقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى أو كمثل ذوي صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. قال والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: إن المثلين جميعا من جهة التمثلات المتركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه. وهذا القول الفصل والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض لم تأخذ هذا بحجزة ذلك فتشبهها بنظائرها كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها، كقوله تعالى { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة؛ وتساوي الحالين عند من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يزيد فيه من الكد والتعب وكقوله تعالى { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض وتصييرها شيئا واحدا فلا. كذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
قال فإن قلت أي المثلين أبلغ؟ قلت الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذلك أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.
قلت: قال شيخنا: الناس في الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى ههنا.
" القسم الأول " قبلوه باطنا وظاهرا، وهم نوعان: أحدهما أهل الفقه فيه والفهم

 

ص -24- والتعليم، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله تعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره وكنوزه، فهؤلاء مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم؛ وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم.
" النوع الثاني " حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة فحفظوا عليهم النصوص، وليسوا من أهل الاستنباط والنفقة في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه، والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه، وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به.
(فصل) القسم الثاني: من رده ظاهرا وباطنا وكفر به ولم يرفع به رأسا، وهؤلاء أيضا نوعان أحدهما: عرفه وتيقن صحته، وأنه حق ولكنه حمله الحسد والكبر وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه، ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم وهم الذين قال الله فيهم { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار} وقال تعالى فيهم { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}.
وقال تعالى فيهم { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَاد} وقال فيهم { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ، قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي سننتموه لنا

 

ص -25- وشرعتموه { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} فقولهم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار أي داخلوها كما دخلناها، ومقاسون عذابها كما نقاسيه، فأجابهم الأتباع وقالوا: بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا.
وفي الضمير قولان: أحدهما أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم واستبدال غيره به، والمعنى أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا إليه وحسنتموه لنا؛ وقيل على هذا القول أنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين، والمعنى على هذا أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى؛ أي بدأتم به وتقدمتمونا إليه فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار، أي بئس المستقر والمنزل والقول الثاني: أن الضمير في قوله { أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ضمير العذاب وصلي النار، والقولان متلازمان وهما حق.
وأما القائلون { رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} فيجوز أن يكون الأتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم الذين حملوهم عليه ودعوهم إليه، ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفا وهم الشياطين.
فصل: القسم الثالث الذين قبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ظاهرا وجحدوه وكفروا به باطنا، وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب، وهم أيضا نوعان أحدهما: من أبصر ثم عمي، وعلم ثم جهل، وأقر ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وسادتهم وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد نارا ثم حصل بعدها على الظلمة، والنوع الثاني ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته، وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، ولا يقربون من سماع القرآن والإيمان بل يهربون منه، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي، وإذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها، ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول: دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها، فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق، فإذا جاءت

 

ص -26- بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرا لا يدري أين يذهب ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها، ويقول مسكين الحال هم أخبر بها مني وأعرف.
فيالله العجب، أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال المقدمون لها على ما خالفها أعرف بها أيضا منك وممن اتبعته، فلم كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها، وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئا من اليقين، ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات، ويسميها الظواهر النقلية. ويسمى ما خالفها القواطع العقلية، فلم كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها، ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل أنهم يعادون الحق وأهله، وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته كالرافضة الذين عادوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل وأهل بيته، ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداته ومعاداة أهل بيته، وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون، والمقصود أن هؤلاء المنافقين قسمان: أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق، وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم. فأولئك زنادقة مستبصرون وهؤلاء زنادقة مقلدون، فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان، ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الإيمان كحال المستضعف بين الكفار الذي تبين له الإسلام ولم يمكنه المهاجرة بخلاف قومه، ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه. وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرا وباطنا وإما كافر ظاهرا وباطنا أو مؤمن ظاهرا كافر باطنا أو كافر ظاهرا مؤمن باطنا، والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود، وقد بين القرآن أحكامها، فالأقسام الثلاثة الأول ظاهرة وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة. وأما القسم الرابع ففي قوله تعالى { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ} فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ملك النصارى بالحبشة وكان في الباطن مؤمنا، وقد قيل إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وقوله تعالى { مِنْ أَهْلِ

 

ص -27- الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فإن هؤلاء ليس المراد بهم التمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد صلى الله عليه وسلم قطعا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار، فلا يثنى عليهم بهذا الثناء، وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه، فإن هؤلاء لا يطلق عليهم أنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه، وذلك الاعتبار قد زال بالإسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين، وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب. هذا هو المعروف في القرآن كقوله تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ونظائره. ولهذا قال جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة أن قوله تعالى { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} أنها نزلت في النجاشي، زاد الحسن وقتادة: وأصحابه. وذكر ابن جرير في تفسيره من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اخرجوا فصلوا على أخيكم فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات"، فقال هذا النجاشي. أصحمة. فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فأنزل الله تعالى { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّه} الآية.
والمقصود أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله تعالى في كتابه وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة، وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرا وكفر باطنا، وأنهم نوعان رؤساؤهم وساداتهم وأتباعهم ومقلدوهم، وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يدل السياق عليه، وقد يقال وهو أولى أن المثلين لسائر النوع، وأنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الإنكار بعد الإقرار والحصول في الظلمات بعد النور، وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والإعراض عنه، فإن المنافقين فيهم هذا وهذا. وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول، وعلى فريق منهم المثل الثاني.
فصل: وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة، منها أن المستضيء بالنار مستضيء

 

ص -28- بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة. وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم، كان ما معه من النور كالمستعار، ومنها أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله. وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا ذهبت مادة الإيمان طفيء كما تطفأ النار بفراغ مادتها، ومنها أن الظلمة نوعان: ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط، ومنها أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نارا ظاهرا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا، ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور، فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر؛ فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم، ومن ههنا يعلم السر في قوله تعالى { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم.
فإن أردت زيادة بيان وإيضاح فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد سئل عن الورود فقال " نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس، قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك فيقول من تنتظرون، فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك. قال فينطلق بهم فيتبعونه. ويعطي كل إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله تعالى ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون فينجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثم كذلك ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. فيجعلون بفناء الجنة. ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء " وذكر باقي الحديث فتأمل قوله فينطلق فيتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورا المنافق والمؤمن. ثم تأمل قوله تعالى { ذَهَبَ اللَّهُ

 

ص -29- بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "ليتبع كل أمة ما كانت تعبد" فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده، والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كان كل معبود سواه باطل. وتأمل قوله تعالى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع، وقوله في الحديث " فيكشف عن ساقه " وهذه الإضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية، وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا، وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد، وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئا هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم. ومنها أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
قال ابن عباس وغيره من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء، ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفا متحيرا، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، قال مجاهد: إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة، وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفسرت بالبرزخ، وفسرت بيوم القيامة والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة؛ فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم جزاء وفاقا { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا، ولهذا يسمى يوم الجزاء { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}.

 

ص -30- ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب، واستبشاره وحياته وانشراحه، واغتباطه ما هو أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره، هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين؛ ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها، وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألما يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاه. ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب. كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها. ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا. فرأى قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة فقال " إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة " فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.
وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور، فمنها خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل، ومنها استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والإيمان مما يظله في هذه الدار من

 

ص -31- حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن، وإن كان ضاحيا هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد، ومنها طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه، وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه، بل كان أخف شيء عليه.
ومنها أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما: واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وله حق بالنهار لا يقبله بالليل. واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحد إلا في نور نفسه إن كان له نور مشى في نوره، وإن لم يكن له نور أصلا لم ينفعه نور غيره، ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورا ظاهرا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه. ومنها أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرع سيرا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك، وأشدهم ثباتا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومخردل أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار، كما أثر فيهم تلك الكلاليب في الدنيا جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد، والمقصود أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والإضاءة، فالمؤمن حي القلب مستنيره، والكافر والمنافق ميت

 

ص -32- القلب مظلمه، وقال الله تعالى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس} الآية، وقال تعالى { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرا حيا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك، مستنيرا بنوره، والآخر أعمى ميتا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسا في الظلمات.
وقال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} الآية، وقد اختلفوا في مفسر الضمير من قوله تعالى { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} فقيل هو الإيمان لكونه أقرب المذكورين، وقيل هو الكتاب فإنه النور الذي هدى به عباده.
قال شيخنا: والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الآية، فسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة، ومن عدمها فهو ميت لا حي، والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحي، وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث دار الدنيا، ودار البرزخ ودار الجزاء، أعظمهم نصيبا من الحياة بهذا الروح. وسماه روحا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}.
وقال تعالى { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وسماه نورا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها.
وكمال الروح بهاتين الصفتين، بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، وإن كان العبد مشارا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث، فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم

 

ص -33- وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال. ويميز النقد الذي عليه سكة أهل المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنا لجنته سواه. من النقد الذي عليه سكة جنكسخان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربا ونقدا يروجه بين العالم؛ فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئا منها، بل ترد على عاملها أحوج ما يكون إليها وتكون من الأعمال التي قدم الله تعالى عليها فجعلها هباء منثورا، ولصاحبها نصيب وافر من قوله تعالى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة؛ ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فاتبعوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم وفهم ما قالوه، وبثه في المجالس والمحاضر. وأعرضوا عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم صفحا. ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة.
وأما تجريد أتباعه وتحكيمه وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه، وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها، وقبول ما وافقه، ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة، فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه فضلا عن أن يكون أخيته ومطلوبه، وهذا الذي لا ينجي سواه.
فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ قواه واستعد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه. والطريق بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسدود وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والإنابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود، وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب، فلم يفز إلا بأخس المطالب.
سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها، تربى فيه الصغير وهرم عليه الكبير، فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون وهيهات أين الظلام من

 

ص -34- الضياء، وأين الثرى من كواكب الجوزاء، وأين الحرور من الظلال، وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال، وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين العلم الذي سنده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين سبحانه، من الخوض الخرص الذي سنده شيوخ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين، بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم إليها في موارد النزاع، وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحض على النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر. وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات، إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسماوات.
لقد استبان والله الصبح لمن له عينان ناظرتان؛ وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيتان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات، فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال، فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منقذا وتمكنت فيها أسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء، واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله تعالى ونص نبيه المرفوع، واعجبا كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب، وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب، فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى من مشكاة السنة والقرآن، ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان.
سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر، وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر، قنعوا بأقوال استنبطوها بمعاول الآراء فكرا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا

 

ص -35- يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها، خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز. وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز. أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه؛ وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.
فياشدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا، ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلبا وغرورا، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر، وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر. أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غدا بآراء الرجال ويتخلص من مطالبة الله تعالى له بكثرة البحوث والجدال أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال، هيهات. والله لقد ظن أكذب الظن ومنّى نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله تعالى على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم.
فصل: وملاك السعادة والنجاة والفوز بتحقيق التوحيدين اللذين عليهما مدار كتاب الله تعالى. وبتحقيقهما بعث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإليهما دعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم من أولهم إلى آخرهم . أحدهما التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن

 

ص -36- إثبات صفات الكمال لله تعالى وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص.
والتوحيد الثاني عبادته وحده لا شريك له وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضا به ربا وإلها ووليا، وأن لا يجعل له عدلا في شيء من الأشياء. وقد جمع سبحانه وتعالى هذين النوعين من التوحيد في سورتي الإخلاص وهما سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} المتضمنة للتوحيد العملي الإداري وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} المتضمنة للتوحيد العلمي الخبري. فسورة قل هو الله أحد فيها بيان ما يجب لله تعالى من صفات الكمال، وبيان ما يجب تنزيهه من النقائص والأمثال. وسورة قل يا أيها الكافرون فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كل ما سواه، ولا يتم أحد التوحيدين إلا بالآخر، ولهذا كان النبي يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر والمغرب والوتر اللتين هما فاتحة العمل وخاتمته، ليكون مبدأ النهار توحيدا وخاتمته توحيدا، فالتوحيد العلمي الخبري له ضدان: التعطيل والتشبيه والتمثيل، فمن نفى صفات الرب عز وجل وعطلها، كذب تعطيله توحيده. ومن شبّهه بخلقه ومثله بهم كذب تشبيهه وتمثيله توحيده. والتوحيد الإرادي العملي له ضدان: الإعراض عن محبته والإنابة إليه والتوكل عليه والإشراك به في ذلك واتخاذ أوليائه شفعاء من دونه.
وقد جمع سبحانه وتعالى بين التوحيدين في غير موضع من القرآن، فمنها قوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ومنها قوله تعالى { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

 

ص -37- ومنها قوله تعالى { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
وتأمل ما في هذه الآيات من الرد على طوائف المعطلين والمشركين، فقوله { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام} يتضمن إبطال قول الملاحدة القائلين بقدم العالم وأنه لم يزل، وإن الله سبحانه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب جعله لازما لذاته أزلا وأبدا غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا والنصير الطوسي وأتباعهما من الملاحدة الجاحدين لما اتفقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب، وشهدت به العقول والفطر. وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يتضمن إبطال قول المعطلة والجهمية الذين يقولون: ليس على العرش شيء سوى العدم، وأن الله ليس مستويا على عرشه ولا ترفع إليه الأيدي ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا رفع المسيح عليه الصلاة والسلام إليه. ولا عرج برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا ينزل من عنده جبريل عليه الصلاة والسلام ولا غيره، ولا ينزل هو كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخافه عباده من الملائكة وغيرهم من فوقهم. ولا يراه المؤمنون في الدار الآخرة عيانا بأبصارهم من فوقهم ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم مجامعه في حجة الوداع وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: اللهم اشهد.
قال شيخ الإسلام: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوء مما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وإنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه مثل قوله تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقوله تعالى { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله تعالى { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله تعالى { ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وقوله تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} وقوله تعالى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ

 

ص -38- سَمَاوَاتٍ} وقوله تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقوله تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} وقوله تعالى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته،   وقوله تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} وقوله تعالى { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقوله تعالى { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقوله تعالى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}.
قال أبو الحسن الأشعري: وقد احتج بهذه الآية على الجهمية فكذب فرعون موسى عليه السلام في قوله إن الله فوق السماوات، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكاية كلامه بحروفه.
وأما الأحاديث فمنها قصة المعراج، وهي متواترة، وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات سماء سماء حتى انتهى إلى ربه تعالى فقربه وأدناه وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل بين موسى عليه السلام وبين ربه تبارك وتعالى وينزل من عند ربه تعالى إلى عند موسى

 

ص -39- فيسأله كم فرض عليك فيخبره، فيقول ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي لفظ آخر كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده: "إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي لفظ وهو وضع عنده على العرش؛ وفي لفظ وهو مكتوب عنده فوق العرش، وهذه الألفاظ كلها في صحيح مسلم.
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"؛ وذكر البخاري في كتاب التوحيد في صحيحه حديث أنس رضي الله عنه حديث الإسراء وقال فيه: ثم علا به ( يعني جبرائيل) فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاوز سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى إليه خمسين صلاة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه وقال يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، قال إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبرائيل " كأنه يستشيره في ذلك " فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا. وذكر الحديث.
وفي الصحيحين عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم، كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون"، ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وتغنم أموالهم. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة"، وفي لفظ "من فوق سبع سموات" وأصل القصة في الصحيحين، وهذا السياق لمحمد بن إسحاق في المغازي.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال بعث علي بن أبي طالب إلى

 

ص -40- النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها قال فقسمها بين أربعة بين عيينة بن بدر والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه " كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء " فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء مساء وصباحا " وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال "لطمت جارية لي فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليّ فقلت يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال بلى ائتني بها. قال فجئت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها أين الله؟ قالت في السماء، قال فمن أنا؟ قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة".
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت زينب رضي الله عنها تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوّجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال استسق ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله سبحان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه فقال: ويحك أتدري ما الله إن شأنه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه إنه لفوق سمائه على عرشه، وإنه لهكذا وإنه لينط به أطيط الرحل بالراكب". وفي سنن أبي داود أيضا ومسند الإمام أحمد من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت في البطحاء في عصابة وفيهم رسول الله فمرت سحابة فنظر إليها وقال: "ما تسمون هذه؟ قالوا السحاب، قال والمزن، قالوا والمزن، قال والعنان، قالوا والعنان، قال هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض. قالوا لا ندري. قال إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهم العرش أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله عز وجل فوق ذلك، زاد أحمد وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم".
وفي سنن أبي داود أيضا عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت

 

ص -41- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ".
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله إن عليّ رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله وإلى السماء؛ أي أنت رسول الله، فقال أعتقها".
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وفي جامع الترمذي أيضا عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حصين كم تعبد اليوم إلها. قال أبي سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك، قال الذي في السماء". قال "يا حصين أما أنك لو أسلمت لعلمتك كلمتين ينفعانك"، قال فلما أسلم حصين قال يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني. قال " قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها. وروى الشافعي في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال، أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي " ما هذه يا جبريل " قال هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم تبع. اليهود والنصارى ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل وما يوم المزيد، فقال إن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح فيه كثب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها

 

ص -42- مقاعد النبيين وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم، فيقولون ربنا نسألك رضوانك، فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير وهو اليوم الذي استوى فيه ربك سبحانه وتعالى على العرش، وفيه تقوم الساعة".
ولهذا الحديث عدة طرق جمعها أبو بكر بن أبي داود في جزء، وفي سنن ابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة، قال وذلك قوله تعالى { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.
وفي الصحيحين من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوة حتى تكون مثل الجبل ـ الفلوة المهر ـ بلغ السنة.
وفي صحيح ابن حبان عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا"، وروي ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن زهرة بن معبد عن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم رفع نظره إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء".
وفي حديث الشفاعة الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فأدخل على ربي تبارك وتعالى وهو على عرشه " وذكر الحديث. وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثلاث يريد مواضع الشفعات التي يسجد فيها ثم

 

ص -43- يرفع رأسه.
وروي يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه من طريق محمد بن إسحق قال خرج عبد أسود لبعض أهل خيبر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذا؟ قالوا رسول الله، قال الذي في السماء، قالوا نعم، قال أنت رسول الله، قال نعم، قال الذي في السماء، قال نعم؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة فتشهد فقاتل حتى استشهد، وروى عدي بن عميرة الكندي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عن ربه عز وجل قال " وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي فتحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش وأبو أحمد العسال في كتاب المعرفة، وصح عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سيارة يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم". وأصل الحديث في صحيح مسلم ولفظه " فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم " الحديث. وذكر الدارقطني في كتاب نزول الرب عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له، ألا ظالم لنفسه يدعوني فأفكه، فيكون كذلك إلى مطلع الصبح ويعلو على كرسيه، وعن جابر بن سليم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته فأمر الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها ".
رواه الدارمي عن سهل بن بكار أحد شيوخ البخاري وله شاهد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا بشرتنا فأعطنا قال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا قد بشرتنا فاقض لنا على هذا الأمر كيف كان، فقال كان الله عز وجل على العرش وكان قبل كل شيء وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء يكون " حديث صحيح أصله في البخاري.
وروى الخلال في كتاب السنة بإسناد صحيح على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان

 

ص -44- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه "، وفي قصة وفاة النبي من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "إذا أنا مت فاغسلني أنت وابن عباس يصب الماء وجبرائيل ثالثكما، وكفني في ثلاثة أثواب بيض جدد وضعوني في المسجد، فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه"،   وقد روي في حديث خطبة علي رضي الله عنه لفاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنها قالت يا أبت كأنك إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال: "والذي بعثني بالحق نبيا ما تكلمت بهذا حتى أذن الله فيه من السماء"، فقالت رضيت بالله وبما رضي الله لي وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قصة الشفاعة، الحديث بطوله مرفوعا وفيه: "فآتي ربي عز وجل فأجده على كرسيه أو سريره جالسا" وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتوني فأمشي بين أيديهم حتى آتي باب الجنة،  وللجنة مصراعان من ذهب مسيرة ما بينهما خمسمائة عام، قال معبد: فكأني أنظر إلى أصابع أنس حين فتحها يقول مسيرة ما بينهما خمسمائة عام، فأستفتح فيؤذن لي فأدخل على ربي فأجده قاعدا على كرسي العز فأخر له ساجدا " رواه خشيش بن أصرم النسائي في كتاب السنة له وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا وله في كل سماء كرسي، فإذا نزل إلى سماء الدنيا جلس على كرسيه ثم يقول: من ذا الذي يقرض غير عديم ولا ظلوم، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يتوب فأتوب عليه، فإذا كان عند الصبح ارتفع فجلس على كرسيه". رواه أبو عبد الله في مسنده وروي عن سعيد مرسلا وموصولا قال الشافعي رحمه الله تعالى: مرسل سعيد عندنا حسن.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الخلائق حاسبهم فيميز بين أهل الجنة وأهل النار وهو في جنته على عرشه" قال محمد بن عثمان الحافظ: هذا حديث صحيح وعن جابر بن سليم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته فأمر الأرض فأخذته". حديث صحيح.
وروى عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوسا ذات يوم بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

ص -45- إذ مرت بنا امرأة من بنات رسول الله، فقال رجل من القوم هذه ابنة رسول الله، فقال أبو سفيان: ما مثل محمد في بني هاشم إلا كمثل ريحانة في وسط الزبل، فسمعته تلك المرأة فأبلغته رسول الله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسبه قال مغضبا؛ فصعد على منبره وقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله خلق سمواته سبعا فاختار العليا فسكنها وأسكن سمواته من شاء من خلقه. وخلق أرضين سبعا فاختار العليا فأسكن فيها من خلقه واختار خلقه، فاختار بني آدم، ثم اختار بني آدم فاختار العرب ثم اختار مضر فاختار قريشا ثم اختار قريشا فاختار بني هاشم ثم اختار بني هاشم فاختاروني فلم أزل من خيار، إلا من أحب قريشا فبحبي أحبهم، ومن أبغض قريشا فببغضي أبغضهم".
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن أبي ذئب عن محمد ابن عمرو عن عطاء عن سعيد بن يسار رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان؛ فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى، وإذا كان الرجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقال فلان، فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء ثم نصبر إلى القبر ".
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار وانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به الأرض؛ فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر (مرتين أو ثلاثا) ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر؛ ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها: فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن؛ وفي ذلك الحنوط،

 

ص -46- ويخرج منها كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض؛ قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا حتى ينتهوا إلى سماء الدنيا، فيستفتحون له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول هو رسول الله، فيقولان له وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره قال ويأتيه رجل من أحسن الناس وجها، حسن الثياب طيب الرائحة فيقول أبشر بالذي يسرك فهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له من أنت فوجهك وجه الذي يأتي بالخير، فيقول أنا عملك الصالح، فيقول رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي"، وذكر الحديث وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي الإمام الحافظ أحد أئمة الإسلام: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد وهو ابن سلمة حدثنا عطاء بن السائب عن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما أسري بي مررت برائحة طيبة، فقلت يا جبرائيل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها كانت تمشطها فوقع المشط من يدها فقالت بسم الله تعالى، فقالت ابنته أبي، قالت لا ولكن ربي ورب أبيك الله، فقالت أخبر بذلك أبي، قالت نعم، فأخبرته فدعا بها فقال من ربك، هل لك رب غيري؟ قالت ربي وربك الله الذي في السماء، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم دعا بها وبولدها فألقاهما فيها " وساق الحديث بطوله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان ملك الموت يأتي الناس عيانا فأتى موسى فلطمه فذهب بعينه فعرج إلى ربه فقال بعثتني إلى موسى فلطمني فذهب بعيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه، فقال ارجع إلى عبدي فقل له فليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة توارت بيده سنة يعيشها فأتى فبلغه ما أمره به، فقال ما بعد ذلك؟ قال

 

ص -47- الموت، قال الآن، فشمه شمة قبض روحه فيها ورد الله على ملك الموت بصره " هذا حديث صحيح أصله وشاهده في الصحيحين، وقال أيضا حدثنا ابن هشام الرفاعي حدثنا إسحاق بن سليمان حدثنا أبو جعفر الرازي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما ألقي إبراهيم في النار قال اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه، " عجبت من ملكين نزلا يلتمسان عبدا في مصلاه كان يصلي فيه فلم يجداه فعرجا إلى الله فقالا يا ربنا عبدك فلان كنا نكتب له من العمل فوجدناه قد حبسته في حبالك، فقال اكتبوا لعبدي عمله الذي كان يعمل " رواه ابن أبي الدنيا وله شاهد في البخاري، وفي حديث عبد الله بن أنيس الأنصاري الذي رحل إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه من المدينة إلى مصر حتى سمع منه وقال له بلغني أنك تحدث بحديث في القصاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده، وليس أحد أحفظ له منك، قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يبعثكم يوم القيامة حفاة عراة غر لا بهما ثم يجمعهم ثم ينادي وهو قائم على عرشه " وذكر الحديث احتج به أئمة أهل السنة أحمد بن حنبل وغيره.
وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض " ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه في حديث الرؤيا " أصبت بعضا وأخطأت بعضا " لوجهين (أحدهما) أن الله سبحانه وتعالى يكره تخطئة غيره من آحاد الأمة لا تخطئة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر ما؛ فإن الحق والصواب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا بخلاف غيره من الأمة، فإنه إذا أخطأ الصديق رضي الله عنه لم يتحقق أن الصواب معه، بل ما تنازع الصديق وغيره في أمر ما إلا وكان الصواب مع الصديق رضي الله عنه (الثاني) أن التخطئة هنا نسبة إلى الخطأ العمد الذي هو الإثم كما قال تعالى { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} لا من الخطأ الذي هو ضد العلم والتعمد والله أعلم.
وروى أبو نعيم من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما

 

ص -48- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا فيذكره الله من فوق سبع سموات فيقول: ملائكتي إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حاجات الدنيا فإن فتحتها له فتحت له بابا من أبواب النار. ولكن أزوها عنه فيصبح العبد عاضا على أنامله فيقول من دهاني، من سبقني، وما هي إلا رحمه رحمه الله بها"، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قلت: " يا رسول الله ما أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم " وفي الثقفيات من حديث جابر بن سليم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فيهما فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته فأمر الأرض فأخذته فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا معاصي الله " وأصله في الصحيح.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن أبي حيان عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت رضي الله عنه أنشد النبي صلى الله عليه وسلم.

شهدت بإذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل

وإن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يقول بذات الله فيهم ويعدل

وإن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل

وقال شيخ الإسلام أخبرنا علي بن بشر أخبرنا ابن مندة أخبرنا خيثمة بن سليمان حدثنا السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن اليهود أتو النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن خلق السماوات والأرض فذكر حديثا طويلا قال ثم ماذا يا محمد قال: "ثم استوى على العرش، قال أصبت يا محمد لو أتممت ثم استراح فغضب غضبا شديدا فأنزل الله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ".

 

ص -49- فصل فيما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من ذلك
(قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن نافع عن ابن عمر قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدونه فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الله الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} حتى ختم الآية.
وقال البخاري في تاريخه قال محمد بن فضيل عن فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل أبو بكر رضي الله عنه عليه فأكب عليه وقبل جبهته وقال " بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا "، وقال: " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت ". وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله ذهب إلى بني عمرو بن عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه، فذكر الحديث وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلى أبي بكر أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله ثم استأخر، فذكره.
(قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه) قال إسماعيل عن قيس قال لما قدم عمر رضي الله عنه الشام استقبله الناس وهو على بعيره فقالوا يا أمير المؤمنين لو ركبت برذونا ليلقاك عظماء الناس ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه " ألا أراكم ها هنا إن الأمر من ههنا " وأشار بيده إلى السماء.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا جرير بن حازم قال سمعت أبا يزيد المزني قال لقيت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال لها خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل يا أمير المؤمنين حبست رجالا من قريش على هذه العجوز قال: ويلك تدري من هذه؟ قال لا، قال هذه امرأة سمع الله

 

ص -50- شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها.
وقال خليد بن دعلج عن قتادة قال " خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المسجد ومعه جارود العبدي فإذا بامرأة بارزة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر رضي الله عنه فردت عليه السلام وقالت إيها يا عمر، عهدتك يا عمر وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ تزع الصبيان بعصاك فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود فقد اجترأت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه دعها أما تعرفها، هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، فعمر أحق أن يستمع لها قال ابن عبد البر قال وحدثنا من وجوه عن عمر بن الخطاب أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز فاستوقفته فوقف لها وجعل يحدثها وتحدثه، فقال رجل يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز، قال ويحك تدري من هذه. هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات " الحديث.
(قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه) قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتاب الاستيعاب. روينا من وجوه صحاح أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مشي إلى أمة له فنالها. فرأته امرأته فلامته فجحدها فقالت له: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فإن الجنب لا يقرأ القرآن فقال:

شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرين

وأن العرش فوق الماء طاف  وفوق العرش رب العالمين

وتحمله ملائكة شداد  ملائكة الإله مسوّمينا

فقالت آمنت بالله وكذبت عيني. وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه.
(قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه) قال الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال " ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله تعالى

 

ص -51- فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه " وروى الأعمش عن خيثمة عنه " أن العبد ليهم بالأمر من التجارة أو الإشارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملك اصرفه عنه فيصرفه عنه ".
(قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما) ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة من حديث سعيد بن جبير رضي الله عنه قال " تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك ".
وفي مسند الحسن بن سفيان وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي من حديث عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان قال: استأذن ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها وهي تموت فقال " كنت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن رسول الله يحب إلا طيبا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيها ألا وهو يتلى فيها آناء الليل وآناء النهار ".
وذكر الطبراني في شرح السنة من حديث سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد قال قيل لابن عباس إن ناسا يكذبون بالقدر. قال " يكذبون بالكتاب لئن أخذت شعر أحدهم لا ينبتونه إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه ".
وقال إسحق بن راهويه أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما " لم يستطع أن يقول من فوقهم علم أن الله من فوقهم ".
(قول عائشة رضي الله عنها) قال الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت نافعا يقول: " قالت عائشة رضي الله عنها: وأيم الله إني لأخشى لو كنت أحب قتله لقتلته ـ تعني عثمان ـ ولكن علم الله من فوق عرشه إني لم أحب قتله ".
(قول زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها) ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: " زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات: وفي لفظ غيرهما كانت تقول " زوجنيك الرحمن

 

ص -52- من فوق عرشه، كان جبريل السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك " رواه العسال.
(قول أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه) قال " لما لعن الله إبليس وأخرجه من سمواته وأخزاه قال: رب أخزيتني ولعنتني وطردتني عن سمواتك وجوارك فوعزتك لأغوين خلقت ما دامت الأرواح في أجسادهم، فأجابه الرب تبارك وتعالى فقال: وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي لو أن عبدي أذنب حتى ملأ السماوات والأرض خطايا ثم لم يبق من عمره إلا نفس واحد فندم على ذنوبه لغفرتها وبدلت سيئاته كلها حسنات " وقد روى هذا المتن مرفوعا، ولفظه " وعزتي وجلالي وارتفاعي لو أن عبدي " ـ وذكره. رواه ابن لهيعة عن بني الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان قال: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر ما استغفروني ".
(قول الصحابة كلهم رضي الله عنهم) قال يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه حدثنا البكائي عن ابن إسحق قال: حدثني يزيد بن سنان عن سعيد بن الأجود الكندي عن العرس بن قيس الكندي عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال " خرجت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة طويلة وقال فيها: فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء فأسلمت وتبعته ".
(ذكر أقوال التابعين رحمهم الله تعالى) قال مسروق رحمه الله: قال علي بن الأقمر: " كان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال حدثتني الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات ".
(قول عكرمة رحمه الله) قال سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم قال: حدثني أبي عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: " بينما رجل مستلق على مننه في الجنة فقال في نفسه لم يحرك شفتيه لو أن الله يأذن لي لزرعت في الجنة فلم يعلم إلا والملائكة على أبواب جنته قابضين على أكفهم فيقولون سلام عليك، فاستوى قاعدا، فقالوا له يقول لك ربك تمنيت شيئا في نفسك قد علمته، وقد بعث معنا هذا البذر يقول لك ابذر، فألقى يمينا وشمالا وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال على ما كان تمنى وزاد، فقال له الرب من فوق عرشه: كل يا ابن آدم؛ فإن ابن آدم لا يشبع ".

 

ص -53- (قول قتادة رحمه الله تعالى) قال الدارمي: أخبرنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو هلال حدثنا قتادة قال: " قالت بنو إسرائيل يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف لنا أن نعرف رضاك وغضبك؟ قال إذا رضيت استعملت عليكم خياركم وإذا غضبت استعملت عليكم شراركم ".
(قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى) قال ابن أبي خيثمة في تاريخه حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ابن ضمرة عن صدقة التيمي عن سليمان التيمي قال: " لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ".
(قول كعب الأحبار رحمه الله تعالى) قال الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن يزيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال " أتى رجل كعبا وهو في نفر فقال: يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار، فأعظم القوم قوله: فقال كعب دعوا الرجل، فإن كان جاهلا تعلم، وإن كان عالما ازداد علما، ثم قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن، ثم جعل ما بين كل سمائين كما بين سماء الدنيا والأرض، وكثفهن مثل ذلك، ثم رفع العرش فاستوى عليه فوقه، وقال نعيم بن حماد أخبرنا أبو صفوان الأموي عن يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن كعب قال: " قال الله في التوراة: أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي؛ لا يخفى عليّ شيء من أمر عبادي في سمائي ولا أرضي وإليّ مرجع خلقي فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي وأعاقب من شئت بعقابي ".
(قول مقاتل رحمه الله تعالى) ذكر البيهقي في الأسماء والصفات عن بكر بن معروف عن مقاتل " بلغنا والله أعلم في قوله عز وجل { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه وهو بكل شيء عليم، وبهذا الإسناد عنه في قوله تعالى { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يقول بعلمه وذلك قوله { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم نجواهم ويسمع كلامهم ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم ".
(قول الضحاك رحمه الله تعالى) روى بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان عنه { مَا

 

ص -54- يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} " قال هو الله على العرش وعلمه معهم ".
(قول التابعين جملة) روى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته.
قال شيخ الإسلام: وإنما قال الأوزاعي ذلك بعد ظهور جهم المنكر لكون الله سبحانه فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف قوله، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وعلماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم أحد في ذلك يحتج به.
(قول الحسن رحمه الله تعالى) روى أبو بكر الهذيلي عن الحسن رحمه الله قال: " ليس شيء عند ربك من الخلق أقرب إليه من إسرافيل وبينه وبين ربه سبعة حجب، كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، وإسرافيل دون هؤلاء، ورأسه تحت العرش ورجلاه في تخوم السابعة ".
(قول مالك بن دينار رحمه الله تعالى) ذكر أبو العباس السراج أخبرنا عبد الله بن أبي زياد وهارون قالا: حدثنا سيار قال حدثنا جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: " إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة، ثم يقول: خذوا فيقرءون، ويقول اسمعوا إلى قوله الصادق من فوق عرشه " وكان مالك بن دينار وغيره من السلف يذكرون هذا الأثر: " ابن آدم خيري إليك نازل وشرك إليّ صاعد، وأتحبب إليك بالنعم وتتبغض إلي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم قد عرج إليّ منك بعمل قبيح ".
(قول ربيعة بن عبد الرحمن رحمه الله شيخ مالك بن أنس رحمة الله عليه) قال يحيى بن آدم عن أبيه عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة عن قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ومن الله تعالى الرسالة وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التصديق ".
(قول عبد الله بن الكوا رحمه الله تعالى) ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله

 

ص -55- في تاريخه عن هشام بن سعد قال: قدم عبد الله بن الكوا على معاوية فقال له " أخبرني عن أهل البصرة؟ قال يقاتلون معا ويدبرون شتى، قال فأخبرني عن أهل الكوفة؟ قال أنظر الناس في صغيرة وأوقعهم في كبيرة، قال فأخبرني عن أهل المدينة؟ قال أحرص الناس على الفتنة وأعجزهم عنها، قال فأخبرني عن أهل الموصل؟ قال قلادة وليدة فيها من كل شيء خرزة، قال فأخبرني عن أهل مصر؟ قال لقمة أكل. قال فأخبرني عن أهل الجزيرة؟ قال كناسة بين مدينتين. قال فأخبرني عن أهل الشام؟ قال جند أمير المؤمنين لا أقول فيهم شيئا، قال لتقولن قال أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق ولا يحسبون للسماء ساكنا ".

قول تابع التابعين جملة رحمهم الله تعالى
(ذكر قول عبد الله بن المبارك رحمه الله) روى الدارمي والحاكم والبيهقي وغيرهم بأصح إسناد إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سموات على العرش استوى بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية " وفي لفظ آخر قلت: كيف نعرف ربنا؟ " قال في السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما قالت الجهمية ".
وقال الدارمي حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك قال: قيل له كيف نعرف ربنا؟ " قال بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه ".
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: ومما يحقق قول ابن المبارك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية " أين الله" ؟ يمتحن بذلك إيمانها، فلما قالت في السماء قال " أعتقها فإنها مؤمنة " والآثار في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة والحجج متظاهرة والحمد لله على ذلك، ثم ساقها الدارمي رحمه الله تعالى، وذكر ابن خزيمة عن ابن المبارك أنه قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن قد خفت من كثرة ما أدعوا على الجهمية، قال " لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء ". وصح عن ابن المبارك أنه قال: " إنا نستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى

 

ص -56- ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ".
(قول الأوزاعي رحمه الله تعالى) قال أبو عبد الله الحاكم: أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: " كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة " وهذا الأثر يدخل في حكاية مذهبه ومذهب التابعين، فلذلك ذكرناه في الموضعين.
(قول حماد بن زيد رحمه الله تعالى) قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا أحمد بن إبراهيم قال حدثنا سليمان بن حرب قال سمعت حماد بن زيد يقول " الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء " قال شيخ الإسلام: وهذا الذي كانت الجهمية يحاولونه قد صرح به المتأخرون منهم، وكان ظهور السنة وكثرة الأئمة في عصر أولئك يحول بينهم وبين التصريح به، فلما بعد العهد وخفيت السنة وانقرضت الأئمة صرحت الجهمية النفاة بما كان سلفهم يحاولونه ولا يتمكنون من إظهاره.
(قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى) قال معدان: سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قال " علمه " ذكره أبو عمر.
(قول وهب بن جرير رحمه الله تعالى) قال الأثرم حدثنا أبو عبد الله الأوسي قال سمعت وهب بن جرير يقول " إنما تريد الجهمية أنه ليس في السماء شيء " قال وقلت لسليمان بن حرب: أي شيء كان يقول حماد بن زيد في الجهمية؟ فقال كان يقول إنما يريدون أنه ليس في السماء شيء.

ذكر أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى
(قول الإمام أبي حنيفة قدس الله روحه) قال البيهقي: حدثنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال حدثنا أبو محمد بن حيان أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر قال حدثنا يحيى بن يعلى قال: سمعت نعيم بن حماد يقول، سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: " كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما، فدخلت الكوفة فقيل لها أن ها هنا رجلا قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة فأتيه، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث

 

ص -57- سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا: أن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض؛ فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى { وَهُوَ مَعَكُم} قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت عنه غائب ". قال البيهقي لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى عن الله تعالى وتقدس من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله سبحانه في السماء. قال شيخ الإسلام وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رواه بإسناد عن أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله قال " سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر قال لا تكفر أحدا بذنب ولا تنفي أحدا من الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توالي أحدا دون أحد وأن ترد أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما إلى الله تعالى ".
وقال أبو حنيفة رحمه الله " الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه سبحانه خير من أن يجمع العلم الكثير " قال أبو مطيع قلت " فأخبرني عن أفضل الفقه، قال يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة " وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، ثم قال فقلت " فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج عن الجماعة؟ هل ترى ذلك؟ قال لا: قلت ولم وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ فقال كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام. وذكر الكلام في قتال الخوارج والبغاة " (إلى أن قال).
قال أبو حنيفة: " ومن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن الله تعالى يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال إنه على العرش ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل ".
وفي لفظ " سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال فقد كفر، لأن الله يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سموات، قال

 

ص -58- فإنه يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولكنه لا يدري العرش في الأرض أو في السماء، قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ". وروي هذا عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناده.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد رحمه الله تعالى، ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة رحمه الله عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بين في أن الله سبحانه فوق السماوات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش، ثم أردف ذلك بكفر من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض قال " لأنه أنكر أن يكون في السماء، وأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل " وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية؛ فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله سبحانه في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف وهشام بن عبيد الله الرازي كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بأسانيدهما " أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة فامتحنه هشام فقال أشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب " وسيأتي قول الطحاوي عند أقوال أهل الحديث.
(قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى) ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن حدثنا أحمد بن جعفر بن أحمد أن ابن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس " الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان " قال وقيل لمالك { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى فقال مالك رحمه الله تعالى استواؤه معقول وكيفيته مجهولة وسؤالك عن هذا بدعة وأراك رجل سوء " وكذلك أئمة أصحاب مالك من بعده، قال يحيى بن إبراهيم الطليطلي في كتاب سير الفقهاء ـ وهو كتاب جليل غزير العلم ـ حدثني عبد الملك بن حبيب عن عبد الله بن المغيرة

 

ص -59- عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون قول الرجل يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون الله هو الدهر، وكانوا يكرهون قول الرجل رغم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل لا والذي خاتمه على فمي، وإنما يختم على فم الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل والله حيث كان أو أن الله بكل مكان، قال أصبغ وهو مستو على عرشه وبكل مكان علمه وإحاطته، وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم.
(ذكر قول أبي عمر والطلمنكي) قال في كتابه في الأصول " أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وقال في هذا الكتاب أيضا أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء " وهذه القصة في كتابه.
(قول الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر إمام السنة في زمانه ـ رحمه الله تعالى) قال في كتاب التمهيد في شرح الحديث الثامن لابن شهاب عن ابن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له " هذا الحديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله سبحانه في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان وليس على العرش.
والدليل على صحة ما قال أهل الحق في ذلك قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وقوله تعالى { إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وقوله تبارك اسمه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقوله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} وقوله تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} وقوله تعالى { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وهذا من العلو.

 

ص -60- وكذلك قوله { الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ والْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. ورَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْش ويَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} والجهمي يقول إنه أسفل وقوله تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} وقوله { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} والعروج هو الصعود، وقوله تعالى { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله تعالى { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله تعالى { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه} وقوله تعالى { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} والعروج هو الصعود وأما قوله { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} فمعناه من على السماء يعني على العرش. وقد يكون في بمعنى على، ألا ترى إلى قوله تعالى { فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} أي على الأرض.
وكذلك قوله تعالى { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} وهذا كله يعضده قوله تعالى { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وما كانا مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب.
وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل { اسْتَوَى} استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله تعالى على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات؛ وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة مفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه.
قال أبو عبيدة في قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال علا؛ قال وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره استوى أي استقر واحتج بقوله تعالى { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد. قال ابن عبد البر: الاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه} وقال تعالى

 

ص -61- { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وقال تعالى { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْك} وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة  وقد حلق النجم اليماني فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى؛ لأن النجم لا يستولي؛ وقد ذكر النضر بن شميل، وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة. قال حدثني الخليل وحسبك بالخليل، قال أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم ما رأيت فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال (استووا) فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال فقال لنا أعرابي إلى جانبه إنه أمركم أن ترفعوا، فقال الخليل هو من قول الله { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فصعدنا إليه.
قال وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي عن إبراهيم ابن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان، فالجواب إن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا. أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. وقال الشاعر:

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحد

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وفيه يقول في وصف الملائكة:

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد

قال فإن احتجوا بقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} وبقوله

 

ص -62- تعالى { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} وبقوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى جده، قيل لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض. وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر وأما قوله في الآية الأخرى { وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضا في أنه سبحانه وتعالى على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى. وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته لأنه اضطراري لم يخالفهم فيه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله بأن قال لها: " أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها من أنا، قالت أنت رسول الله، قال اعتقها فإنها مؤمنة " فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.
قال وأما احتجاجهم بقوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قال هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا. قال وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سنيد حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش وعلمه في كل مكان لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ثم ساق من طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: " ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام وما بين السماء

 

ص -63- السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله على العرش ويعلم أعمالكم " وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب الاستذكار.
(ذكر قول الإمام مالك الصغير أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني) قال في خطبته برسالته المشهورة " باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات " ومن ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، وهو العليم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير. وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو بكل مكان بعلمه وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه، وذكر في كتابه المفرد في السنة تقرير العلو واستواء الرب تعالى على عرشه بذاته أتم تقرير فقال:
فصل فيما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة " أن الله سبحانه وتعالى اسمه؛ له الأسماء الحسنى والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته وهو سبحانه موصوف بأن له علما وقدرة وإرادة ومشيئة أحاط علما بجميع ما بدا قبل كونه وفطر الأشياء بإرادته، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وأن كلامه صفة من صفاته ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفذ، وأن الله سبحانه كلم موسى عليه الصلاة والسلام بذاته وأسمعه كلامه لا كلاما قام في غيره، وأنه يسمع ويرى ويقبض ويبسط، وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأن يديه غير نعمته في ذلك وفي قوله سبحانه { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}.
وأنه يجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائيا والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأنه يرضى ويحب التوابين ويسخط على من كفر به ويغضب، فلا يقوم شيء لغضبه، وأنه فوق سمواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وأن لله سبحانه كرسيا كما قال جل جلاله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ

 

ص -64- وَالْأَرْضَ} وكما جاءت به الأحاديث أن الله سبحانه يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء ".
قال مجاهد: كانوا يقولون ما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وأن الله سبحانه يراه أولياؤه في المعاد بأبصارهم لا يضاهون في رؤيته كما قال سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} هو النظر إلى وجهه الكريم وأنه يكلم عبادة يوم القيامة، ليس بينه وبينهم واسطة ولا ترجمان، وأن الجنة والنار داران قد خلقتا، أعدت الجنة للمؤمنين المتقين، والنار للكافرين الجاحدين، ولا يفنيان، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكل ذلك قد قدره ربنا سبحانه وتعالى وأحصاه علمه، وأن مقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، تفضل على من أطاعه فوفقه وحبب الإيمان إليه وزينه في قلبه فيسره له وشرح له صدره ونوّر له قلبه فهداه، ومن يهد الله فما له من مضل وخذل من عصاه وكفر به فأسلمه ويسره فحجبه وأضله، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا وكل ينتهي إلى سابق عمله لا محيص لأحد عنه، وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصا عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول إلا بعمل ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيرا، ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله تعالى كما قال سبحانه { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.
وقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم كما قال تعالى { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وقال تعالى { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وأن ملك الموت يقبض الأرواح كلها بإذن الله تعالى متى شاء كما قال تعالى { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وأن الخلق ميتون بآجالهم، فأرواح أهل السعادة باقية منعمة إلى يوم القيامة، وأرواح أهل الشقاء في سجين معذبة إلى يوم القيامة: وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن عذاب القبر حق وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويضغطون ويسئلون، ويثبت الله منطق من أحب تثبيته، وأنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون،

 

ص -65- كما بدأهم يعودون حفاة عراة غرلا، وأن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد عليه منهم.
وتنصب الموازين لوزن أعمال العباد فأفلح من ثقلت موازينه، وخاب وخسر من خفت موازينه، ويؤتون صحائفهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا، ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا وأن الصراط جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبقتهم أعمالهم فيها يتساقطون، وأنه يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان، وأن الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين، ويخرج من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من أمته بعد أن صاروا فيها حمما يطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من غير وبدل، والإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات على ما صحت به الروايات، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الكبرى، وبما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حكما عدلا يقتل الدجال، وبالآيات التي بين يدي الساعة من طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة، وغير ذلك مما صحت به الروايات.
ونصدق بما جاءنا عن الله تعالى في كتابه وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخباره ونوجب العمل بمحكمه، ونؤمن ونقر بمشكله ومتشابهه، ونكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره إلى الله تعالى، والله يعلم تأويل المتشابه من كتابه والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره كل من عند ربنا، وقال بعض الناس الراسخون في العلم يعلمون مشكله، ولكن الأول قول أهل المدينة وعليه تدل الكتب، وأن أفضل القرون قرن الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم علي، وقيل ثم عثمان وعلي، ويكف عن التفضيل بينهما، روي ذلك عن مالك وقال: ما أدركت أحدا اقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه فرأى الكف عنهما. وروي عنه القول الأول وهو قول أهل الحديث، ثم بقية العشرة ثم أهل بدر من المهاجرين ومن الأنصار. ومن جميع الصحابة على قدر الهجرة والسابقة والفضيلة، وكل

 

ص -66- من صحبه ولو ساعة أو رآه ولو مرة فهو بذلك أفضل من التابعين، والكف عن ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير ما يذكرون به، وأنهم أحق أن ننشر محاسنهم ونلتمس لهم أفضل مخارجهم، ونظن بهم أحسن المذاهب، قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تؤذوني في أصحابي فوالله الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه ".
قال صلى الله عليه وسلم " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " قال أهل العلم لا يذكرون إلا بأحسن ذكر والسمع والطاعة لأئمة المسلمين وكل من ولي أمر المسلمين عن رضى أو عن غلبة واشتدت وطأته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه، جار أو عدل، ونغزو معه العدو ونحج معه البيت ودفع الصدقات إليهم مجزية إذا طلبوها، ونصلي خلفهم الجمعة والعيدين قاله غير واحد من العلماء. وقال مالك لا نصلي خلف المبتدع منهم إلا أن نخافه فنصلي، واختلف في الإعادة، ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من المسلمين وأهل الذمة عن نفسك ومالك والتسليم للمسلمين لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه وما عملوا به عملناه وما تركوه تركناه ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث، ولا نخرج من جماعتهم فيما اختلفوا فيه وفي تأويله، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك، فمنه منصوص من قوله، ومنه معلوم من مذهبه.
قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله تعالى واستكمال لطاعته وقوة على دين الله تعالى ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها هدى، ومن استنصر بها نصر، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا؛ قال مالك وأعجبني عزم عمر رضي الله عنه في ذلك. وقال في مختصر المدونة وأنه تعالى فوق عرشه بذاته فوق سبع سمواته دون أرضه. رضي الله عنه ما كان أصلبه في السنة وأقومه بها.
(قول الإمام أبي بكر محمد بن وهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد من المشهورين بالفقه والسنة رحمه الله تعالى) قال في شرحه للرسالة ومعنى فوق وعلا واحد بين جميع العرب في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديق ذلك قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى

 

ص -67- الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وقال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال تعالى في وصف خوف الملائكة { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ونحو ذلك كثير. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعجمية أين الله؟ فأشارت إلى السماء. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء ثم من سماء إلى سماء إلى سدرة المنتهى ثم إلى ما فوقها حتى لقد قال سمعت صريف الأقلام ولما فرضت الصلوات جعل كلما هبط من مكانه تلقاه موسى عليه السلام في بعض السماوات وأمره بسؤال التخفيف عن أمته، فرجع صاعدا مرتفعا إلى الله سبحانه وتعالى يسأله حتى انتهت إلى خمس صلوات. وسنذكر تمام كلامه قريبا إن شاء الله تعالى.
(قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي رحمه الله) قال في الجزء الأول من كتاب الاهتداء لأهل الحق والاقتداء من تصنيفه من شرح المخلص للشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله تعالى عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغر. وعن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له " في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف كما قال أهل العلم. ودليل قولهم أيضا من القرآن قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} وقوله تعالى { إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وقوله تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} وقوله تعالى { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وقوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} وقوله تعالى { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} والعروج هو الصعود وقال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان، يريد والله أعلم بقوله في السماء على السماء كما قال تعالى { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وكما قال { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي من على السماء يعني على العرش، وكما قال تعالى { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} أي على الأرض، وقيل لمالك الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ قال مالك رحمه الله تعالى لقائله استواؤه معقول

 

ص -68- وكيفيته مجهولة وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء،   قال أبو عبيدة في قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي علا، قال وتقول العرب استويت فوق الدابة وفي البيت وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء وإن استوى بمعنى استولى لأن الاستيلاء في اللغة " المغالبة " وأنه لا يغالبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله تعالى على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع ذلك ما يوجب له التسليم ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله تعالى أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة وهو العلو والارتفاع والتمكن.
ومن الحجة أيضا في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السماوات السبع أن الموجودين أجمعين إذا كربهم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم وقوله للأمة التي أراد مولاها أن يعتقها أين الله، فأشارت إلى السماء ثم قال لها من أنا، قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، ودل على ما قدمناه أنه على العرش؛ العرش فوق السماوات السبع، ودليل قولنا أيضا قول أمية بن أبي الصلت في وصف الملائكة.

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحد

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقوله تعالى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا، فإن احتج أحد علينا فيما قدمناه وقال لو كان كذلك لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق فشيء لا يلزم ولا معنى له لأنه تعالى ليس كمثله شيء من خلقه ولا يقاس بشيء من بريته ولا يدرك بقياس ولا

 

ص -69- يقاس بالناس، كان قبل الأمكنة ثم يكون بعدها لا إله إلا هو خالق كل شيء لا شريك له، وقد اتفق المسلمون وكل ذي لب أنه لا يعقل كائن إلا في مكان ما، وما ليس في مكان فهو عدم. وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان وليس بمعدوم؛ فكيف يقاس على شيء من خلقه أو يجري بينهم وبينه تمثيل أو تشبيه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(فإن قال قائل) إذا وصفنا ربنا أنه كان في الأزل لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان، ففي ذلك إقرار منا فيه بالتغيير والانتقال إذا زال عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان، قيل له وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فنقل صفته من الكون لا في مكان إلى صفة هي الكون في كل مكان فقد تغير عندك معبود وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، فإن قال إنه كان في الأزل في كل مكان لما هو الآن فقد أوجب الأماكن والأشياء معه في أزليته. وهذا فاسد.
(فإن قال) فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان قيل له، أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا، وكذلك نقلته لا توجب مكانا، وليس في ذلك كالخلق لأن كونه يوجب مكانا من الخلق ونقلته توجب مكانا ويصير منتقلا من مكان إلى مكان والله تعالى ليس كذلك، ولكنا نقول استوى من لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدا، كما نقول له عرش ولا نقول له سرير، ونقول هو الحكيم ولا نقول هو العاقل، ونقول خليل إبراهيم ولا نقول صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك واحدا لأنا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمي به نفسه على ما تقدم، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن، وقد قال الله تعالى { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّا} وليس مجيئه حركة ولا زوالا ولا ابتدالا، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلا، ولو اعتبرت ذلك بقولهم: جاءت فلانا قيامته وجاءه الموت وجاءه المرض وشبه ذلك مما هو وجود نازل به لا مجيء لبان لك وبالله العصمة والتوفيق.
فإن قال: إنه لا يكون مستويا على مكان إلا مقرونا بالكيف، قيل له قد يكون

 

ص -70- الاستواء واجبا والتكييف مرتفعا، وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل، ولا يكون كائنا في مكان ولا مقرونا بالتكييف.
فإن قال: إنه كان ولا مكان وهو غير مقرون بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحا في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أن ليس على عرشه، وقد روي عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء.
قال أبو القاسم: العماء ممدود وهو السحاب، والعمى مقصور الظلمة، وقد روي الحديث بالمد والقصر؛ فمن رواه بالمد فمعناه عنده كان في عماء سحاب ما تحته وما فوقه هواء، والهاء راجعة على العماء، ومن رواه بالقصر فمعناه عنده كان في عمى عن خلقه، لأنه من عمي عن شيء فقد أظلم عنه، قال سنيد بسنده عن مجاهد قال: إن بين العرش وبين الملائكة لسبعين حجابا من نور وحجابا من ظلمة وروى أيضا سنيد بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام؛ وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء والله سبحانه وتعالى على العرش ويعلم أعمالكم وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضا: أنه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. قال أبو القاسم يريد فوق العرش؛ لأن العرش آخر المخلوقات ليس فوقه مخلوق، فالله تعالى أعلى المخلوقات دون تكييف ولا مماسة، ولا أعلم في هذا الباب حديثا مرفوعا إلا حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى سحابة فقال: "ما تسمون هذه؟ قالوا السحاب قال والمزن؛ قالوا والمزن، قال والعنان قالوا نعم، قال كم ترون بينكم وبين السماء قالوا لا يدري، قال بينكم وبينه إما واحد أو إثنان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء فوقها كذلك بينهما مثل ذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة بحر أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك". هذا حديث حسن صحيح أخرجه أبو داود.

 

ص -71- (قول الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي نعيس المالكي المشهور بابن أبي زمنين رحمه الله تعالى) قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة (باب الإيمان بالعرش) ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله عز وجل { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وفي قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} وذكر حديث أبي رزين العقيلي. قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء، ثم ذكر الآثار في ذلك (إلى أن قال) باب الإيمان بالحجب.
قال: ومن قول أهل السنة أن الله تعالى بائن من خلقه محتجب عنهم بالحجب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} إلى أن قال (باب الإيمان بالنزول) قال ومن قول أهل السنة أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا، وذكر حديث النزول ثم قال: وهذا الحديث يبين أن الله تعالى على عرشه في السماء دون الأرض، وهو أيضا بيّن في كتاب الله تعالى، وفي غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} وساق الآيات في العلو وذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه وسلم أين الله ثم قال: والحديث في مثل هذا كثير.
(قول القاضي عبد الوهاب إمام المالكية بالعراق) من كبار أهل السنة رحمهم الله، صرح بأن الله سبحانه استوى على عرشه بذاته. نقله شيخ الإسلام عنه في غير موضع من كتبه. ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى.
(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي) رحمه الله تعالى وقدس روحه ونوّر ضريحه. قال الإمام بن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي حدثنا أبو شعيب وأبو ثور عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه

 

ص -72- يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء.
قال عبد الرحمن وحدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به فقال: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل. لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، وتثبت هذه الصفات وينفي عنها التشبيه فما نفى التشبيه عن نفسه فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وصح عن الشافعي أنه قال، خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق قضاها الله في سمائه وجمع عليها قلوب عباده، ومعلوم أن المقضي في الأرض، والقضاء فعله سبحانه وتعالى المتضمن لمشيئته وقدرته، وقال في خطبة رسالته " الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه " فجعل صفاته سبحانه إنما تتلقى بالسمع. وقال يونس بن عبد الأعلى، قال لي محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر الفرد. والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره فهو أولاها به.
قال الخطيب في الكفاية؛ أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب حدثنا أبو حاتم الرازي حدثني يونس بن عبد الأعلى فذكره.
(قول صاحبه إمام الشافعية في وقته أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني) في رسالته في السنة التي رواها أبو طاهر السلفي عنه بإسناده؛ ونحن نسوقها كلها بلفظها.
بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإياكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم لموافقة الهدى، أما بعد فإنك سألتني أن أوضح لك من السنة أمرا تبصر نفسك على التمسك به، وتدرأ به عنك شبه الأقاويل، وزيغ محدثات الضالين فقد شرحت لك منهاجا موضحا لم آل نفسي وإياك فيه نصحا؛ بدأت فيه بحمد الله ذي الرشد والتسديد، الحمد لله أحق ما بدأ وأولى من شكر

 

ص -73- وعليه أثني الواحد الصمد، ليس له صاحبة ولا ولد، جل عن المثل ولا شبيه له ولا عديل، السميع البصير، العليم الخبير المنيع الرفيع عال على عرشه، وهو دان بعلمه من خلقه أحاط علمه بالأمور ونفذ في خلقه سابق المقدور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ فالخلق عاملون بسابق علمه ونافذون لما خلقهم له من خير وشر، لا يملكون لأنفسهم نفعا من الطاعة ولا يجدون إلى صرف المعصية عنها دفعا، خلق الخلق بمشيئته من غير حاجة كانت به فخلق الملائكة جميعا لطاعته وجبلهم على عبادته، فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون، وطائفة منهم حول عرشه يسبحون، وآخرون بحمده يقدسون واصطفى منهم رسلا إلى رسله وبعض مدبرون لأمره، ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته، وقبل ذلك للأرض خلقه، ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها ثم ابتلاه بها نهاه عنه منها، ثم سلط عليه عدوه فأغواه عليها، وجعل أكله إلى الهبوط إلى الأرض سببا، فما وجد إلى ترك أكلها سبيلا، ولا عنه لها مذهبا، ثم خلق للجنة من ذريته أهلا، فهم بأعمالها بمشيئته عاملون، وبقدرته وبإرادته ينفذون. وخلق من ذريته للنار أهلا، فخلق لهم أعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفقهون بها، فهم بذلك عن الهدى محجوبون، وهم بأعمال أهل النار بسابق قدره يعملون، والإيمان قول وعمل، وهما شيئان ونظامان وقرينان لا يفرق بينهما، لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان، والمؤمنون في الإيمان متفاضلون، وبصالح الأعمال هم متزايدون، ولا يخرجون من الإيمان بالذنوب ولا يكفرون بركوب كبيرة ولا عصيان ولا يوجب لمحسنهم غير ما أوجب له النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشهد على مسيئهم بالنار، والقرآن كلام الله عز وجل ومن الله وليس بمخلوق فيبيد. وقدرة الله ونعمته وصفاته كلها غير مخلوقات دائمات أزلية ليست بمحدثات فتبيد، ولا كان ربنا ناقصا فيزيد، جلت صفاته عن شبه المخلوقين وقصرت عنه نظر الواصفين، قريب بالإجابة عند السؤال، بعيد بالبعد لا ينال، عال على عرشه بائن من خلقه موجود، ليس بمعدوم ولا مفقود، والخلق ميتون بآجالهم عند نفاد أرزاقهم وانقطاع آثارهم. ثم هم بعد الضغط في القبور مسؤلون، وبعد البلى منشورون، ويوم القيامة إلى ربهم محشورون، وعند العرض عليه محاسبون بحضرة الموازين ونشر صحف الدواوين { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لو كان غير الله عز وجل الحاكم بين خلقه؛ فالله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا، وهو أسرع الحاسبين، كما بدا لهم

 

ص -74- شقاوة وسعادة يومئذ تعودون، فريق في الجنة وفريق في السعير، وأهل الجنة يومئذ يتنعمون وبأفضل الكرامة يحبرون فهم حينئذ إلى ربهم ينظرون، لا يمارون في النظر إليه ولا يشكون، فوجوههم بكرامته ناضرة، وأعينهم بفضله إليه ناظرة، في نعيم مقيم لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار، وأهل الجحد عن ربهم يومئذ لمحجوبون، وفي النار لمسجرون لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها إلا من شاء الله إخراجه من الموحدين منها، والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله سبحانه مرضيا، واجتناب ما كان مسخطا، وترك الخروج عند تعديهم وجورهم. والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيتهم، والإمساك عن تكفير أهل القبلة والبراءة منهم فيما أحدثوا ما لم يبتدعوا ضلالة، فمن ابتدع منهم ضلالة كان على أهل القبلة خارجا، ومن الدين مارقا، ويتقرب إلى الله بالبراءة منه، ويهجر ويتجنب عدته فهي أعدى من عدة الحرب. ويقال بفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر فهما وزيرا رسول الله وضجيعاه، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة، ويخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم التفضيل لسائر أصحابه من بعده رضي الله عنهم أجمعين، ويقال بفضلهم ويذكرون بمحاسن أفعالهم، ويمسك عن الخوض فيما شجر بينهم، وهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم، اختارهم الله سبحانه وجعلهم أنصارا لدينه فهم أئمة الدين وأعلام المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، ولا تترك حضور صلاة الجمعة وصلاة مع بر هذه الأمة وفاجرها ما كان من البدعة بريا، والجهاد مع كل إمام عدل أو جائر. والحج وقصر الصلاة في الأسفار والتخيير فيه بين الصيام والإفطار.
هذه مقالات اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضا وجانبوا التكلف فيما كفوا فسددوا بعون الله ووفقوا، لم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا ولم يجاوزوا فيعتدوا، فنحن بالله واثقون وعليه متوكلون، وإليه في اتباع آثارهم راغبون، فهذا شرح السنة تحريت كشفها وأوضحته. فمن وفقه الله للقيام بما أبنته مع معونته له بالقيام على أداء فرائضه بالاحتياط في النجاسات وإسباغ الطهارات على الطاعات، وأداء الصلوات على الاستطاعات، وإيتاء الزكاة على أهل الجدات، والحج على

 

ص -75- أهل الجدة والاستطاعات وصيام شهر رمضان لأهل الصحات وخمس صلوات سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم والوتر في كل ليلة وركعتا الفجر وصلاة الفطر والنحر وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، واجتناب المحارم، والاحتراز من النميمة والكذب والغيبة والبغي بغير الحق وأن يقول على الله ما لا يعلم، كل هذه كبائر محرمات والتحري في المكاسب والمطاعم والمحارم والمشارب والملابس واجتناب الشهوات فإنها داعية لركوب المحرمات، فمن رعى حول الحمى فإنه يوشك أن يقع في الحمى فمن يسر لهذا فإنه من الدين على الهدى، ومن الرحمن على رجا، وفقنا الله وإياك إلى سبيله الأقوم، بمنه الجزيل الأقدم، وجلاله العلي الأكرم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى من قرأ علينا السلام، ولا ينال سلام الله الضالون والحمد لله رب العالمين.
(قول إمام الشافعية في وقته أبي العباس بن سريج رحمه الله تعالى).
ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة فقال: الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وصلى الله على محمد المصطفى وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل.
سألت ـ أيدك الله بتوفيقه ـ بيان ما صح لديّ وتأدى حقيقته إلى من سلك مذهب السلف وصالحي الخلف في الصفات الواردة في الكتاب المنزل والسنة المنقولة بالطرق الصحيحة برواية الثقات الأثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجيز من القول؛ واختصار في الجواب. فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء، وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج رحمه الله تعالى، وقد سئل عن مثل هذا السؤال فقال أقول وبالله التوفيق.
حرام على العقول أن تمثل الله سبحانه وتعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقع. وعلى الضمائر أن تعمق وعلى النفوس أن تفكر وعلى الأفكار أن تحيط. وعلى الألباب أن تصف، إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة والسنة والجماعة من السلف الماضين. والصحابة والتابعين من الأئمة المهتدين الراشدين المشهورين إلى زماننا هذا أن جميع الآي الواردة عن الله تعالى في ذاته وصفاته والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله وفي صفاته التي صححها أهل النقل. وقبلها النقاد الأثبات، يجب على المرء المسلم المؤمن الموفق الإيمان بكل

 

ص -76- واحد منه كما ورد. وتسليم أمره إلى الله سبحانه وتعالى كما أمر. وذلك مثل قوله تعالى { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} وقوله تعالى { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس واليدين والسمع والبصر والكلام والعين والنظر والإرادة، والرضى والغضب، والمحبة والكراهة والعناية والقرب والبعد والسخط والاستحياء، والدنو كقاب قوسين أو أدنى، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وقوله للملائكة وقبضه وبسطه وعلمه ووحدانيته وقدرته ومشيئته وصمدانيته وفردانيته، وأوليته وآخريته. وظاهريته وباطنيته وحياته وبقائه وأزليته وأبديته ونوره وتجليه، والوجه. وخلق آدم عليه السلام بيده. ونحو قوله تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض} وقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} وسماعه من غيره وسماع غيره منه وغير ذلك من صفاته المتعلقة به المذكورة في الكتاب المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم. وجميع ما لفظ به المصطفى صلى الله عليه وسلم، من صفاته كغرسه جنته الفردوس بيده وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده والضحك والتعجب ووضعه القدم على النار فتقول قط قط. وذكر الأصابع والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وليلة الجمعة وليلة النصف من شعبان وليلة القدر. وكغيرته وفرحه بتوبة العبد، واحتجابه بالنور وبرداء الكبرياء، وأنه ليس بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، واختيار آدم قبضة اليمنى، وحديث القبضة وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من جهنم فيدخلهم الجنة، ولما خلق آدم عليه الصلاة والسلام مسح ظهره بيمينه فقبض قبضة فقال هؤلاء للجنة ولا أبالي أصحاب اليمين، وقبض قبضة أخرى وقال هذه للنار ولا أبالي أصحاب الشمال، ثم ردهم في صلب آدم، وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قوما لم يعملوا خيرا قط عادوا حمما فيلقون في نهر من الجنة يقال له نهر الحياة. وحديث خلق آدم على صورته، وقوله لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن. وإثبات الكلام بالحرف والصوت وباللغات وبالكلمات وبالسور.
وكلامه تعالى لجبريل والملائكة ولملك الأرحام وللرحم ولملك الموت ولرضوان ولمالك

 

ص -77- ولآدم ولموسى ولمحمد صلى الله عليه وسلم وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب وفي الجنة ونزول القرآن إلى سماء الدنيا وكون القرآن في المصاحف وما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن، وقوله الله أشد أذنا لقارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته، وأن الله سبحانه يحب العطاس ويكره التثاؤب، وفرغ الله من الرزق والأجل: وحديث ذبح الموت، ومباهات الله تعالى، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه.
وحديث معراج الرسول صلى الله عليه وسلم ببدنه وبيان نفسه ونظره إلى الجنة والنار وبلوغه إلى العرش إلى أن لم يكن بينه وبين الله إلا حجاب العزة وعرض الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام وعرض أعمال الأمة عليه، وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا مما صح عنه، اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولا نفسرها ولا نكفيها، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية ولا نشير إليها بخواطر القلوب ولا بحركات الجوارح بل نطلق ما أطلقه الله عز وجل، ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون والأئمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة ونجمع على ما أجمعوا عليه ونمسك عن ما أمسكوا عنه ونسلم الخبر الظاهر والآية الظاهرة تنزيلها لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة. بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول الإيمان بها واجب والقول بها سنة، وابتغاء تأويلها بدعة.
آخر كلام أبي العباس بن سريج الذي حكاه أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني في أجوبته ثم ذكر باقي المسائل وأجوبتها.
(قول الإمام حجة الإسلام أبي أحمد) ابن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد رحمه الله تعالى قال:
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما، أما بعد فإنك وفقك الله تعالى لقول السداد، وهداك إلى سبيل الرشاد، سألتني عن الاعتقاد الحق والمنهج الصدق الذي يجب على العبد المكلف اعتقاده ويعتمده فأقول والله الموفق للخير والصواب.

 

ص -78- الذي يجب على العبد اعتقاده، ويلزمه في ظاهره وباطنه اعتماده ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصدر الأول من علماء السلف وأئمتهم الذين هم أعلام الدين وقدوة من بعدهم من المسلمين. وذلك أن يعتقد العبد ويقر ويعترف بقلبه ولسانه أن الله واحد أحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، لا إله سواه ولا معبود إلا إياه ولا شريك له، ولا نظير له ولا وزير له ولا ظهير له ولا سمي له، ولا صاحبة له ولا ولد له، قديم أبدي أزلي، أول من غير بداية وآخر من غير نهاية، موصوف بصفات الكمال من الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والبقاء والبهاء والجمال والعظمة والجلال والمن والإفضال. لا يعجزه شيء ولا يشبهه شيء، ولا يعزب عن علمه شيء. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. منزه عن كل نقص وآفة، مقدس عن كل عاهة و عيب. الخالق الرازق المحيي المميت، الباعث الوارث، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الطالب الغالب المثيب المعاقب الغفور الشكور، قدر كل شيء وقضاه وأبرمه وأمضاه من خير وشر ونفع وضر وطاعة وعصيان وعمد ونسيان وعطاء وحرمان لا يجري في ملكه مالا يريد، عدل في أقضيته، غير ظالم لبريته، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، رب العالمين، إله الأولين والآخرين مالك يوم الدين. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، نصفه بما وصف به نفسه في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الكريم، لا نجاوز ذلك ولا نزيد، بل نقف عنده وننتهي إليه ولا ندخل فيه برأي ولا قياس لبعده عن الأشكال والأجناس، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، وأنه سبحانه مستو على عرشه وفوق جميع خلقه، كما أخبر في كتابه وعلى ألسنة رسله صلوات الله عليهم من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تأويل. وكذلك كل ما جاء من الصفات نمره كما جاء من غير مزيد عليه. ونقتدي في ذلك بعلماء السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ونسكت عما سكتوا عنه ونتأول ما تأولوا، وهم القدوة في هذا الباب، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. ونؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره أنه من الله عز وجل لا معقب لما حكم ولا ناقض لما أبرم، وأن أعمال العباد حسنها وسيئها خلق الله سبحانه ومقدورة منه عليهم، لا خالق لها سواه ولا مقدر لها إلا إياه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، وأنه عدل في ذلك غير جائر لا يظلمهم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما.

 

ص -79- وكذلك الأرزاق والآجال مقدرة لا تزيد ولا تنقص. ونؤمن ونقر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من أنبيائه، وأنه خاتم النبيين وسيد المرسلين. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
ونؤمن أن كل كتاب أنزله الله تعالى حق، وأن كل رسول أرسله الله تعالى حق وأن الملائكة حق وأن جبرائيل حق وميكائيل حق وإسرافيل حق وعزرائيل وحملة العرش والكرام الكاتبين من الملائكة حق، وأن الشياطين والجن حق، وأن كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء حق والعين حق والسحر له حقيقة وتأثير في الأجسام ومسألة منكر ونكير حق، وفتنة القبر ونعيمه حق، وعذابه حق والبعث بعد الموت حق، وقيام الساعة والوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة للحساب والقصاص والميزان حق، والصراط حق، والحوض والشفاعة التي خص بها نبينا يوم القيامة حق، والشفاعة من الملائكة والنبيين والمؤمنين حق، والجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان لا يبيدان ولا يفنيان، وخروج المؤمنين من النار بعد دخولها حق، ولا يخلد فيها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأهل الكبائر في مشيئة الله تعالى لا نقطع عليهم بالنار، بل نخاف عليهم ولا نقطع للطائعين بالجنة بل نرجو لهم، وأن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح وأنه يزيد وينقص، وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل في الآخرة من غير حجاب، وأن الكفار عن رؤية ربهم عز وجل محجوبون، وأن القرآن كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا، وأنه غير مخلوق، وأن السور والآيات والحروف المسموعات والكلمات التامات التي أعجزت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ليس بمخلوق كما قال المعتزلي ولا عبارة كما قال الكلابي وأنه المتلو بالألسنة المحفوظ في الصدور، المكتوب في المصاحف، المسموع لفظه المفهوم معناه، لا يتعدد بتعدد الصدور والمصاحف والآيات، لا يختلف باختلاف الحناجر والنغمات أنزله إذا شاء. وهذا معنى قول السلف: " منه بدأ واليه يعود " واللفظية الذين يقولون " ألفاظنا بالقرآن مخلوقة " مبتدعة جهمية عند الإمام أحمد والشافعي أخبرنا به الحسين بن الحسين بن أحمد بن إبراهيم الطبري قال: سمعت أحمد بن يوسف الشالنجي يقول: سمعت أبا عبد الله الحسين بن علي القطان يقول: سمعت علي النجي يقول: سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول: " من قال لفظي بالقرآن أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي ".

 

ص -80- وحكي بهذا اللفظ عن أبي زرعة وعلي بن خشرم وغيرهم من أئمة السلف. وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة من الدجال ونزول عيسى عليه السلام والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق. وأن خير هذه الأمة القرن الأول وهم الصحابة رضي الله عنهم وخيرهم العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وخير هؤلاء العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
ونعتقد حب آل محمد صلى الله عليه وسلم وأزواجه وسائر أصحابه رضوان الله عليهم، ونذكر محاسنهم وننشر فضائلهم ونمسك ألسنتنا وقلوبنا عن التطلع فيما شجر بينهم ونستغفر الله لهم، ونتوسل إلى الله تعالى باتباعهم ونرى الجهاد والجماعة ماضيا إلى يوم القيامة والسمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين واجبا في طاعة الله تعالى دون معصيته، لا يجوز الخروج عليهم ولا المفارقة لهم، ولا نكفر أحدا من المسلمين بذنب عمله ولو كبر ولا ندع الصلاة عليهم بل نحكم فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونترحم على معاوية ونكل سريرة يزيد إلى الله تعالى، وقد روي عنه أنه لما رأى رأس الحسين رضوان الله عليه قال: " لقد قتلك من كانت الرحم بينك وبينه قاطعة ونبرأ ممن قتل الحسين رضوان الله عليه وأعان عليه وأشار به ظاهرا وباطنا ".
هذا اعتقادنا ونكل سريرته إلى الله تعالى.
والعبارة الجامعة في باب التوحيد أن يقال " إثبات من غير تشبيه ونفي من غير تعطيل " قال الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والعبارة الجامعة في المتشابه من آيات الصفات أن يقال: " آمنت بما قال الله تعالى على ما أراده، وآمنت بما قال رسول الله على ما أراده. فهذا اعتقادنا الذي نتمسك به وننتهي إليه. ونسأل الله تعالى أن يحيينا عليه ويميتنا عليه، ويجعله وسيلتنا يوم الوقوف بين يديه إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين ".
(قول الإمام إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي) صاحب كتاب الترغيب والترهيب وكتاب الحجة في بيان المحجه ومذهب أهل السنة وكان إماما للشافعية في وقته رحمه الله تعالى وجمع له أبو موسى المديني مناقب لجلالته. قال في كتاب الحجة باب (في بيان استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه) قال الله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال في آية أخرى { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقال { الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وقال { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال أهل السنة " الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه ".

 

ص -81- ومن الدليل على ذلك أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم ويدعونه ويرفعون إليه رؤوسهم وأبصارهم وقال عز وجل { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقال تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} والدليل على ذلك من النصوص التي فيها نزول الرحمن.
(فصل): في بيان أن العرش فوق السماوات وأن الله سبحانه فوق العرش، ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي في البخاري " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي " وبسط الاستدلال على ذلك بالسنة ثم قال: قال علماء السنة " إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه " وقالت المعتزلة " هو بذاته في كل مكان " وقالت الأشعرية " الاستواء عائد إلى العرش " قال ولو كان كما قالوا كانت القراءة برفع العرش، فلما كانت بخفض العرش دل على أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى، قال: وقال بعضهم استوى بمعنى استولى.
قال الشاعر:

قد استوى بشر على العرق  من غير سيف ودم مهراق

والاستيلاء لا يوصف به إلا من قدر على الشيء بعد العجز عنه والله تعالى لم يزل قادرا على الأشياء ومستوليا عليها، ألا ترى أنه لا يوصف بشر بالاستيلاء على العراق إلا وهو عاجز عنه قبل ذلك.
ثم حكى أبو القاسم عن ذي النون المصري أنه قيل له: " ما أراد الله سبحانه بخلق العرش؟ قال أراد أن لا يتوه قلوب العارفين " قال وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} " قال هو على عرشه وعلمه في كل مكان " ثم ساق الاحتجاج بالآثار إلى أن قال: " وزعم هؤلاء أن معنى الرحمن على العرش استوى، أي ملكه، وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة، وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه ".
وقال أهل السنة: " خلق الله تعالى السماوات وكان عرشه مخلوقا قبل خلق السماوات

 

ص -82- والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض، على ما ورد به النص، وليس معناه المماسة، بل هو مستو على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه ".
قال وزعم هؤلاء أنه لا يجوز الإشارة إلى الله سبحانه بالرؤوس والأصابع إلى فوق فإن ذلك يوجب التحديد، وقد أجمع المسلمون أن الله سبحانه العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء أن ذلك بمعنى علو الغلبة لا علو الذات، وعند المسلمين أن لله عز وجل علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو، لأن العلو صفة مدح فنثبت أن لله تعالى علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة، وفي منعهم الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق خلاف منهم لسائر الملل، لأن جماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة، ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق، وقال تعالى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقال تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال تعالى { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وأخبر تعالى عن فرعون أنه قال { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} فكأن فرعون قد فهم من موسى عليه الصلاة والسلام أنه يثبت إلها فوق السماء حتى رام بصرحه أن يطلع إليه، واتهم موسى عليه الصلاة والسلام بالكذب في ذلك، والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته، فهم أعجز فهما من فرعون بل وأضل.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الجارية التي أراد مولاها عتقها أين الله؟ قالت في السماء وأشارت برأسها إلى السماء، وقال: من أنا؟ فقالت أنت رسول الله، فقال أعتقها فإنها مؤمنة، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانها حين قالت إن الله في السماء، وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك.
هذا كله كلام أبي القاسم التيمي رحمه الله تعالى.
(قول الإمام أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي) الفقيه المحدث من أئمة أصحاب الشافعي من أقران البيهقي وأبي عثمان الصابوني وطبقتهما له كتاب في أصول الدين قال في أوله:
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام على الأديان، وزين أهله بزينة الإيمان، وجعل السنة عصمة أهل الهداية، ومجانبتها إمارة أهل الغواية، وأعز أهلها بالاستقامة ووصل عزهم بالقيامة.

 

ص -83- وصلى الله على محمد وسلم وعلى آله أجمعين.
وبعد فإن الله تعالى لما جعل الإسلام ركن الهدى، والسنة سبب النجاة من الردى ولم يجعل من ابتغى غير الإسلام دينا هاديا ولا من انتحل غير الإسلام نحلة ناجيا، جمعت أصول السنة الناجي أهلها التي لا يسع الجاهل نكرها، ولا العالم جهلها، ومن سلك غيرها من المسالك فهو في أودية البدع هالك إلى أن قال: ودعاني إلى جمع هذا المختصر في اعتقاد السنة على مذهب الشافعي وأصحاب الحديث إذ هم أمراء العلم وأئمة الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم " تكون البدع في آخر الزمان محنة فإذا كان كذلك فمن كان عنده علم فليظهره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ثم ساق الكلام في الصفات إلى أن قال:
فصل: ومن صفاته تبارك وتعالى فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، ودليله قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وقوله في خمس مواضع { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقوله في قصة عيسى عليه السلام { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وساق آيات العلو ثم قال: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا في أن الله سبحانه مستو على عرشه، وعرشه فوق سبع سمواته، ثم ذكر كلام عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على عرشه بائن من خلقه وساق قول ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله تعالى فوق عرشه قد استوى فوق سبع سمواته فهو كافر، بإسناده من كتاب معرفة علوم الحديث، ومن كتاب تاريخ نيسابور للحاكم، ثم قال:
وإمامنا في الأصول والفروع أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى ورضى عنه احتج في كتابه المبسوط على المخالف في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال لها: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء إذ كانت أعجمية: فقال لها: من أنا فأشارت إليه وإلى السماء، تعني إنك رسول الله الذي في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية، هذا لفظه.

 

ص -84- (قول إمام الشافعية في وقته) الإمام أبي بكر محمد بن محمود بن سورة التميمي فقيه نيسابور رحمه الله تعالى.
قال الحافظ عبد القادر الرهاوي، أخبرنا أبو العلاء الحسن بن الحسين أحمد الحافظ قال سمعت الشيخ الفقيه أبا بكر محمد بن محمود بن سورة التميمي النيسابوري يقول: لا أصلي خلف من ينكر الصفات ولا خلف من يقول بقول أهل الفساد ولا خلف من لم يثبت القرآن في المصحف ولا يثبت النبوة قبل الماء والطين إلى يوم الدين، ولا يقر بأن الله تعالى فوق عرشه بائن من خلقه.
قال أبو جعفر وسمعته يقول للشيخ أبي المظفر السمعاني بنيسابور إن أردت أن يكون لك درجة الأئمة في الدنيا والآخرة فعليك بمذهب السلف الصالح وإياك أن تداهن في ثلاث مسائل: مسألة القرآن ومسألة النبوة ومسألة استواء الرحمن على العرش باستدلال النص من القرآن والسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. حكاه الحافظ أبو منصور عبد الله بن محمد بن الوليد في كتاب إثبات العلو له.
قلت: ونظير هذه المسائل الثلاث ما حكاه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي قال سمعت أحمد بن أميرجه القلانسي خادم شيخ الإسلام الأنصاري يقول حضرت مع شيخ الإسلام على الوزير أبي على الحسن بن علي الطوسي نظام الملك وكان أصحابه كلفوه بالخروج إليه، ذلك بعد المحنة ورجوعه من بلخ، فلما دخل عليه أكرمه وبجله وكان في العسكر أئمة من الفريقين فاتفقوا جميعا على أن يسألوه عن مسألة بين يدي الوزير يعنتونه بها فإن أجاب بما يجيب بهراة سقط من عين الوزير، وإن لم يجب سقط من عين أصحابه وأهل مذهبه، فلما دخل واستقر به المجلس انتدب له رجل من الجماعة فقال: يأذن الشيخ الإمام في أن أسأل مسألة، فقال سل، فقال لم تلعن أبا الحسن الأشعري؟ فسكت، وأطرق الوزير لما علم من جوابه فلما كان بعد ساعة قال له الوزير أجبه، فقال لا ألعن الأشعري وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء، وأن القرآن في المصحف وأن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم نبي ثم قام وانصرف، فلم يكن أحد أن يتكلم بكلمة من هيبته وصولته وصلابته، فقال الوزير للسائل ومن معه: هذا أردتم كنا نسمع أنه يذكر هذا بهراة فأجهدتم حتى سمعناه بآذاننا، وما عسى أن أفعل به. ثم بعث خلفه خلعا وصلة فلم يقبلها وخرج من فوره إلى هراة.

 

ص -85- وهذا القول في النبوة بناء على أصل الجهمية وأفراخهم أن الروح عرض من أعراض البدن كالحياة، وصفات الحي مشروطة بها، فإذا زالت بالموت تبعتها صفاته فزالت بزوالها، ونجا متأخروهم من هذا الإلزام وفروا إلى القول بحياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم، فجعلوا لهم معادا يختص بهم قبل المعاد الأكبر إذ لم يمكنهم التصريح بأنهم لم يذوقوا الموت.
وقد أشبعنا الكلام على هذه المسالة واستيفاء الحجج لهم وبيان ما في ذلك في كتاب الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية.
(قول أبي الحسين العمراني صاحب البيان) فقيه الشافعية ببلاد اليمن رحمه الله تعالى، له كتاب لطيف في السنة على مذهب أهل الحديث صرح فيه بمسألة الفوقية والعلو والاستواء حقيقة وتكلم الله سبحانه بهذا القرآن العربي المسموع بالآذان حقيقة، وأن جبرائيل عليه الصلاة والسلام سمعه من الله سبحانه حقيقة؛ وصرح فيه بإثبات الصفات الخبرية، واحتج بذلك ونصره وصرح بمخالفة الجهمية والنفاة.

ذكر أقوال جماعة من أتباع الأئمة الأربعة ممن يقتدى بأقوالهم سوى ما تقدم
(قول أبي بكر بن وهب المالكي) شارح رسالة ابن أبي زيد رحمة الله عليهما، وقد تقدم ذكره عند ذكر أصحاب مالك رحمه الله وحكينا بعض كلامه في شرحه، ونحن نسوقه بعبارته قال:
وأما قوله أنه فوق عرشه المجيد بذاته، فإن معنى فوق وعلا عند جميع العرب واحد وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك ثم ساق الآيات في إثبات العلو وحديث الجارية، إلى أن قال: وقد تأتي (في) في لغة العرب بمعنى فوق، وعلى ذلك قوله تعالى { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} يريد فوقها وعليها، وكذلك قوله سبحانه { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يريد عليها، وقال تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} الآيات.
قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة

 

ص -86- ممن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة رضي الله عنهم مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها فلذلك قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه المجيد بذاته، ثم بين أن علوه على عرشه إنما هو بذاته لأنه بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها، وقد كان ولا مكان ولم يحل بصفاته عما كان، إذ لا تجري عليه الأحوال؛ لكن علوه في استوائه على عرشه هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وثم أبدا لا يكون إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، إلى أن قال: وقوله { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنته المعتزلة ومن قال بقولهم إنه بمعنى الاستيلاء، وبعضهم يقول إنه على المجاز دون الحقيقة، قال ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره ما قد علمه أهل العقول أنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها، وكان العرش وغيره في ذلك سواء، فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة.
قال وكذلك بين أيضا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} فلما رأى المنصفون أفراد ذكره بالاستواء على عرشه بعد خلق سمواته وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء، علموا أن الاستواء هنا غير الاستيلاء ونحوه فأقروا بصفة الاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز، لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله، إذ ليس كمثله شيء من الأشياء، وقد تقدم قول القاضي عبد الوهاب إمام المالكية بالعراق أن الاستواء استواء الذات على العرش وأنه قول أبي الطيب الأشعري حكاه عنه عبد الوهاب نصا، وأنه قول الأشعري بنفسه صرح به في بعض كتبه، وأنه قول الخطابي وغيره من الفقهاء والمحدثين، ذكر ذلك كله الإمام أبو بكر الحضرمي في رسالته التي سماها بالإيماء إلى مسألة الاستواء، فمن أراد الوقوف عليها فليقرأها.
وقد تقدم قول أبي عمر بن عبد البر، وعلماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أنه على العرش، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا

 

ص -87- أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة.
قول شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد المقدسي) الذي اتفقت الطوائف على قبوله وتعظيمه وإمامته. خلا جهمي أو معطل، قال في كتاب " إثبات صفة العلو ":
أما بعد: فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عز وجل عليه قلوب المسلمين وجعله مغرورا في طبائع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون عندها للدعاء أيديهم وينتظرون مجيء الفرج من ربهم سبحانه وينطقون بذلك بألسنتهم لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته وقال في عقيدته ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " وقوله صلى الله عليه وسلم " لله أفرح بتوبة عبده " وقوله صلى الله عليه وسلم يعجب ربك (إلى أن قال) فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت روايته نؤمن به ولا نرده ولا نجحده ولا نعتقد فيه تشبيهه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل نؤمن بلفظه ونترك التعرض لمعناه، قراءته تفسيره، ومن ذلك قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ربنا الله الذي في السماء " وقوله للجارية: أين الله قالت في السماء قال اعتقها إنها مؤمنة رواه مالك بن أنس وغيره من الأئمة، وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا " وذكر الحديث (إلى أن قال) وفوق ذلك العرش والله تعالى فوق ذلك نؤمن بذلك ونتلقاه بالقبول من غير رد ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تأويل، ولا نتعرض له بكيف.
ولما سئل مالك بن أنس رضي الله عنه فقيل له يا أبا عبد الله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به

 

ص -88- واجب والسؤال عنه بدعة ثم أمر بالرجل فأخرج.
(قول إمام الشافعية في وقته) بل هو الشافعي الثاني أبي أحمد الاسفراييني رحمه الله تعالى: كان من كبار أئمة السنة المثبتين للصفات قال: مذهبي ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى وجميع علماء الأمصار أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وأن جبرائيل عليه السلام سمعه من الله عز وجل وحمله إلى محمد صلى الله عليه وسلم وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبرائيل عليه السلام وسمعه الصحابة رضي الله عنهم من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل حرف منه كالباء والتاء كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، ذكره في كتابه في أصول الفقه، ذكره عنه شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية.
قال شيخنا رحمه الله: وكان الشيخ أبو حامد يصرح بمخالفة القاضي أبي بكر بن الطيب في مسألة القرآن، قال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام السنة قال الشيخ الأنصاري سمعت يحيى بن عمار يقول: أنبأنا محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حدثنا جدي إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: نحن نؤمن بخبر الله سبحانه أن خالقنا مستو على عرشه، لا نبدل كلام الله ولا نقول غير الذي قيل لنا كما قالت الجهمية المعطلة أنه استولى على عرشه لا استوى فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم.
وقال في كتاب التوحيد (باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه وكان فوقه فوق كل شيء عاليا) ثم ساق الأدلة على ذلك من القرآن والسنة ثم قال (باب الدليل على أن الإقرار بأن الله فوق السماء من الإيمان) ثم ساق حديث الجارية ثم قال (باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة) ثم قال نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب تبارك وتعالى من غير أن نصف الكيفية، ثم ساق الأحاديث ثم قال (باب كلام الله تعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام) ثم ساق الأدلة على ذلك ثم قال (باب صفة تكلم الله تعالى بالوحي وشدة خوف السماوات منه) وذكر صعقة أهل السماوات وسجودهم ثم قال (باب بيان أن الله سبحانه يكلم عباده يوم القيامة من غير ترجمان يكون بين الله تعالى وبين عباده) ثم ذكر الأحاديث في ذلك ثم قال (باب ذكر بيان الفرق بين كلام الله تعالى الذي به يكون خلقه وبين خلقه

 

ص -89- الذي يكون بكلامه) ثم قال (باب ذكر بيان أن الله تعالى ينظر إليه جميع المؤمنين يوم القيامة برهم وفاجرهم وإن رغمت أنوف الجهمية المعطلة المنكرة لصفات الله سبحانه وتعالى) وكتابه في السنة كتاب جليل.
قال أبو عبد الله الحاكم في علوم الحديث له وفي كتاب تاريخ نيسابور سمعت محمد بن صالح بن هانيء يقول: سمعت إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سمواته وأنه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة، توفي الإمام ابن خزيمة سنة اثني عشر وثلاثمائة، ذكره الشيخ أبو إسحق الشيرازي في طبقات الفقهاء، أخذ الفقه عن المزني، قال المزني: ابن خزيمة هو أعلم بالحديث مني ولم يكن في وقته مثله في العلم بالحديث والفقه جميعا وقال في كتابه: فمن ينكر رؤية الله تعالى في الآخرة فهو عند المؤمنين شر من اليهود والنصارى والمجوس وليسوا بمؤمنين عند جميع المؤمنين.
(قول إمام الشافعية في وقته سعد بن علي الزنجاني) صرح بالفوقية بالذات فقال: وهو فوق عرشه بوجود ذاته، هذا لفظه، وهو إمام في السنة له قصيدة فيها معروفة أولها:

تمسك بحبل الله واتبع الأثر   ودع عنك رأيا لا يلايمه خبر

وقال في شرح هذه القصيدة: والصواب عند أهل الحق أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وكان عرشه على الماء مخلوقا قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض على ما ورد به النص ونطق به القرآن وليس معنى استوائه أنه ملكه واستولى عليه، لأنه كان مستوليا عليه قبل ذلك وهو أحدثه لأنه مالك جميع الخلائق ومستول عليها. وليس معنى الاستواء أيضا أنه ماس العرش أو اعتمد عليه أو طابقه، فإن كل ذلك ممتنع في وصفه جل ذكره، ولكنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه.
وقد أجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن بقوله تعالى { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وأن لله علو الغلبة والعلو الأعلى من سائر وجوه العلو، لأن العلو صفة مدح عند كل عاقل، فثبت بذلك أن لله علو الذات وعلو الصفات وعلو القهر والغلبة، وجماهير المسلمين وسائر الملل قد وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله جل ثناؤه

 

ص -90- من جهة الفوق في الدعاء والسؤال، فاتفاقهم بأجمعهم على الإشارة إلى الله سبحانه من جهة الفوق حجة؛ ولم يستجز أحد الإشارة إليه من جهة الأسفل ولا من سائر الجهات سوى جهة الفوق، وقال تعالى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقال تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وقال تعالى { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وأخبر عن فرعون أنه قال { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} وكان فرعون قد فهم عن موسى أنه يثبت إلها فوق السماء حتى رام بصرحه أن يطلع إليه، واتهم موسى بالكذب في ذلك. ومخالفنا ليس يعلم أن الله فوقه بوجود ذاته، فهو أعجز فهما من فرعون.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل الجارية التي أراد مولاها عتقها: "أين الله؟ قالت في السماء، وأشارت برأسها. وقال من أنا؟ قالت أنت رسول الله، فقال أعتقها فإنها مؤمنة"، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانها حين قالت: إن الله في السماء.
وقال الله عز وجل { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال تعالى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين كل سماء إلى سماء وما بين السماء السابعة وبين العرش ثم قال (الله فوق ذلك) وله أجوبة سئل عنها في السنة فأجاب عنها بأجوبة أئمة السنة وصدرها بجواب إمام وقته أبي العباس بن سريج.
(قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري) الإمام في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ واللغة والنحو والقرآن، قال في كتاب صريح السنة.
وحسب امرىء أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر، وقال في تفسيره الكبير في قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} قال علا وارتفع، وقال في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} عن الربيع بن أنس أنه يعني ارتفع. وقال في قوله تعالى { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال يجلسه معه على العرش وقال في قوله عز وجل { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} يقول وإني لأظن موسى

 

ص -91- كاذبا فيما يقول ويدعي أن له ربا في السماء أرسله إلينا.
وقال في كتاب التبصير في معالم الدين القول فيما أدركه بيان وعلمه خبر من الصفات وذلك نحو أخباره أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وأن له وجها بقوله تعالى { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} وأن له قدما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى يضع رب العزة فيها قدمه " وأنه يضحك لقوله " لقي الله وهو يضحك إليه " وأنه يهبط إلى سماء الدنيا بخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له أصبعا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن " فإن هذه المعاني التي وضعت ونظائرها ما وصف الله به نفسه ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالذكر والرؤية لا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهائها إليه ـ ذكر هذا الكلام عنه أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل.
قال الخطيب: كان ابن جرير أحد العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان عارفا بالقرآن بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين في الأحكام والحلال والحرام.
قال أبو حامد الاسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا. وقال ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، وقال الخطيب: سمعت علي بن عبد الله اللغوي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
قلت: وكان له مذهب مستقل له أصحاب، عده أبو الفرج المعافا بن زكريا، ومن أراد معرفة أقوال الصحابة والتابعين في هذا الباب فليطالع ما قاله عنهم في تفسير قوله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} وقوله { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ} وقوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ليتبين له أي الفريقين أولى بالله ورسوله الجهمية المعطلة أو أهل السنة والإثبات، والله المستعان.
(قول الإمام أبي القاسم الطبري اللالكائي) أحد أئمة أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه " في السنة " وهو من أجلّ الكتب، سياق ما جاء في قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن الله عز وجل على عرشه في السماء، ثم ذكر قول من هذا قوله من

 

ص -92- الصحابة والتابعين والأئمة. قال هو قول عمر وعبد الله ابن مسعود وأحمد بن حنبل؛ وعد جماعة بطول ذكرهم، ثم ساق الآثار في ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم.
(قول الإمام محي السنة الحسين بن مسعود البغوي قدس الله روحه) قال في تفسيره الذي هو شجي في حلوق الجهمية والمعطلة في سورة الأعراف في قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} قال الكلبي ومقاتل استقر، وقال أبو عبيدة صعد، قال وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء. قال وأما أهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل أن يؤمن بذلك، ويكل العلم فيه إلى الله تعالى، ثم حكى قول مالك الاستواء غير مجهول.
ومراد السلف بقولهم بلا كيف هو نفي التأويل، فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنهم هم الذين يثبتون كيفية تخالف الحقيقة فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرب سبحانه عن صفته التي أثبتها لنفسه، وأما أهل الإثبات فليس أحد منهم يكيف ما أثبته الله تعالى لنفسه، ويقول كيفية كذا وكذا حتى يكون قول السلف بلا كيف ردا عليه، وإنما ردوا على أهل التأويل الذي يتضمن التحريف والتعطيل، تحريف اللفظ وتعطيل معناه.

فصل في ذكر قول الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه رحمه الله تعالى
قال الخلال في كتاب السنة حدثنا يوسف بن موسى قال أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قيل لأبي: ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان، قال: نعم لا يخلو شيء من علمه. قال الخلال: وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: سألت أبا عبد الله أحمد عمن قال إن الله تعالى ليس على العرش، فقال: كلامهم كله يدور على الكفر.
وروى الطبري الشافعي في كتاب السنة له بإسناده عن حنبل قال: قيل لأبي عبد الله: ما معنى قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} وقوله { وَهُوَ مَعَكُمْ} قال: علمه محيط بالكل وربنا على العرش بلا حد ولا صفة وسع كرسيه

 

ص -93- السماوات والأرض. وقال أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال " أن الله معنا " وتلا قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قال يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، هلا قرأت عليه { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} بالعلم معهم، وقال في قوله { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله أن رجلا قال: أقول كما قال الله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره فقال أبو عبد الله هذا كلام الجهمية؛ فقلت له فكيف نقول { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم} قال: علمه في كل مكان وعلمه معهم قال أول الآية يدل على أنه علمه. وقال في موضع آخر: وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة يعلم ما تحت الأرض السفلى وأنه غير مماس لشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه وخلقه بائنون منه، وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه عنه الخلال من طريق ابنه عبد الله قال (باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله تعالى على العرش) وقال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قلنا لهم ما أنكرتم أن يكون الله تعالى على العرش، وقد قال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقالوا هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش وفي السماوات والأرض وفي كل مكان وتلا { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْض} قال أحمد فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء، أجسامكم وأجوافكم والحشوش والأماكن القذرة ليست فيها من عظمة الرب شيء وقد أخبرنا الله سبحانه أنه في السماء فقال { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم}.
ذكر هذا الكتاب كله أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، وعلى منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه جامع النصوص من كلام الشافعي، وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم. وخطبة كتاب أحمد بن حنبل:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل عليهم الصلاة والسلام بقايا من أهل

 

ص -94- العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد أهدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب. يقولون على الله تعالى وفي الله تعالى وفي كتاب الله تعالى بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
ثم قال (باب بيان ما ضلت فيه الجهمية الزنادقة من متشابه القرآن) ثم تكلم على قوله تعالى { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا}.
قال: قالت الزنادقة فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم الله جلودا غيرها، فلا نرى أن الله عز وجل يعذب جلودا بلا ذنب حين يقول جلودا غيرها؛ فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض، فقلنا إن قول الله عز وجل: بدلناهم جلودا غيرها، ليس يعني جلودا أخرى غير جلودهم، وإنما يعني بتبديلها تجديدها، لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله، ثم تكلم على آيات من مشكل القرآن، ثم قال:
وإن مما أنكرت الجهمية الضلال أن الله عز وجل على العرش استوى، وقد قال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ثم ساق أدلة القرآن ثم قال:
ووجدنا كل شيء أسفل مذموما، قال الله تعالى { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وقال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} ثم قال: ومعنى قوله تعالى { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} يقول هو إله من في السماوات وإله من في الأرض وهو على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علمه مكان، ولا يكون علم الله تعالى في مكان دون مكان. وذلك من قوله { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.

 

ص -95- قال الامام أحمد: ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير وفيه شيء كان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق، قال وخصلة أخرى لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره؛ وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو وما هو، وله المثل الأعلى وليس هو في شيء مما خلق.
قال الإمام: ومما تأولت الجهمية من قول الله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} فقالوا إن الله معنا وفينا، فقلنا لهم: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله تعالى يقول { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} يعني علمه فيهم أينما كانوا { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ففتح الخبر بعلمه وختمه بعلمه.
قال الإمام أحمد: وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول نعم. فقل له فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل: إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه. وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كفر أيضا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحشّ وقذر، وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة.
قال أحمد: بيان ما ذكر في القرآن ـ وهو معكم ـ على وجوه. قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} يقول في الدفع عنكما وقال { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يعني في الدفع عنا، وقال تعالى { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني في النصرة لهم على عدوهم. وقوله تعالى { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُم} يعني في النصرة لكم على عدوكم. وقال سبحانه { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ

 

ص -96- يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} يعني يقول بعلمه فيهم وقوله تعالى { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يقول بالعون على فرعون، فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله سبحانه أنه مع خلقه؛ قال هو في كل شيء غير مماس لشيء وما مباينا له، فقلنا له فإذا كان غير مبائن للشيء أهو مماس له، قال لا، قلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباينا لشيء، فلم يحسن الجواب، فقال: بلا كيف ليخدع الجهال بهذه الكلمة ويموه عليهم، ثم قلنا لهم إذا كان يوم القيامة أليس إنما تكون الجنة والنار والعرش والهوى فقال بلى، فقلنا وأين يكون ربنا؟ قال يكون في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا قلنا ففي مذهبكم أن ما كان من الله تعالى على العرش فهو على العرش وما كان من الله تعالى في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله تعالى في النار فهو في النار، وما كان منه في الهوى فهو في الهوى، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله.
قال أحمد: وقلنا للجهمية حين زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، قلنا أخبرونا عن قول الله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} كان في الجبل بزعمكم، فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى له، بل كان سبحانه على العرش، فتجلى الشيء لم يكن فيه ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قط قبل ذلك.
قال أحمد: وقلنا للجهمية الله نور، فقالوا هو نور كله، فقلنا لهم: قال الله عز وجل { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا وقلنا لهم أخبرونا حين زعمتم أن الله سبحانه في كل مكان وهو نور فلم لم يضيء البيت المظلم بلا سراج، وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى.
قال الإمام أحمد رحمه الله: كان جهم وشيعته كذلك دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم كثيرا، وكان فيما بلغنا عن الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان؛ وكان صاحب خصومات وشر وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسا من الكفار يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكانوا مما كلموا به جهما قالوا ألست تزعم أن لك إلها، قال الجهم نعم، قالوا له فهل رأيت عينك إلهك، قال لا، قالوا فهل شممت له رائحة قال لا، قالوا فهل وجدت له حسا، قال لا، قالوا فهل وجدت له

 

ص -97- مجلسا، قال لا، قالوا فهل يدريك أنه إله، قال فتحير الجهم ولم يدر أربعين يوما.
ثم إنه استدرك حجة من جنس حجة زنادقة النصارى لعنهم الله، وذلك أن زنادقة النصارى لعنهم الله زعموا أن الروح التي في عيسى بن مريم روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسانه فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال نعم، قال فهل رأيت روحك، قال لا، قال فهل سمعت كلامه، قال لا، قال فهل وجدت له مجلسا أو حسا، قال لا، قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجدت ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله تعالى بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرا أو كان من المشبهة، فأضل بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب فلان، ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان، ولا هو في مكان دون مكان، ولا يتكلم ولا يكلم، ولا ينظر إليه أحد؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يعقل، ولا له غاية ولا منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله وهو قدرة كله، لا يوصف بوصفين مختلفين، وليس بمعلوم ولا معقول، وكل ما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه، فقلنا لهم فمن تعبدون، قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق؛ قلنا: فالذي يدبر أمر هذا الخلق مجهول لا يعرف بصفته، قالوا نعم، قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون.
ثم قلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى، قالوا لم يتكلم ولا يتكلم، لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح منفية عن الله سبحانه وتعالى فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله سبحانه ويعلم أن كلامهم إنما يعود إلى ضلالة وكفر.

 

ص -98- قال الخلال كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله وكتبه عبد الله من خط أبيه واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويل بما نقله منه عن أحمد، وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد ونقله عن أصحابه قديما وحديثا. ونقل منهم البيهقي وعزاه إلى أحمد وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد، ولم يسمع عن أحد من متقدمي أصحابه ولا متأخريهم طعن فيه.
فإن قيل هذا الكتاب يرويه أبو بكر عبد العزيز غلام الخلال عن الخلال عن الخضر بن المثنى عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. وهؤلاء كلهم أئمة معروفون إلا الخضر بن المثنى فإنه مجهول. فكيف تثبتون هذا الكتاب عن أحمد برواية مجهولة فالجواب من وجوه.
(أحدها) أن الخضر هذا قد عرفه الخلال وروى عنه كما روى كلام أبي عبد الله عن أصحابه وأصحاب أصحابه ولا يضر جهالة غير له. (الثاني) أن الخلال قد قال كتبته من خط عبد الله بن أحمد وكتبه عبد الله من خط أبيه، والظاهر أن الخلال إنما رواه عن الخضر لأنه أحب أن يكون متصل السند على طريق أهل النقل، وضم ذلك إلى الوجادة. والخضر كان صغيرا حين سمعه من عبد الله، ولم يكن من المعمرين المشهورين بالعلم ولا هو من الشيوخ. وقد روى الخلال عنه غير هذا في جامعه فقال في كتاب الأدب من الجامع فقال " دفع إلي الخضر بن المثنى بخط عبد الله بن أحمد أجاز لي أن أرويه عنه ".
قال الخضر حدثنا مهنا قال سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يبزق عن يمينه في الصلاة وفي غير الصلاة. فقال يكره أن يبزق الرجل عن يمينه في الصلاة وفي غير الصلاة. فقلت له لم يكره أن يبزق الرجل عن يمينه في غير الصلاة. قال أليس عن يمينه الملك فقلت وعن يساره أيضا ملك، فقال الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات.
قال الخلال: وأخبرنا الخضر بن المثنى الكندي قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال: قال أبي لا بأس بأكل ذبيحة المرتد إذا كان ارتداده إلى يهودية أو نصرانية ولم يكن إلى مجوسية، قلت والمشهور في مذهبه خلاف هذه الرواية وأن ذبيحة المرتد حرام، رواها أصحابه ولم يذكر أكثر أصحابه غيرها.
ومما يدل على صحة هذا الكتاب ما ذكره القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى فقال

 

ص -99- (قرأت في كتاب جعفر محمد بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل قال قرأت على أبي صالح بن أحمد هذا الكتاب فقال هذا كتاب عمله أبي في مجلسه ردا على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يلزم اتباعه).
وقال الخلال في كتاب السنة: أخبرني عبيد الله بن حنبل أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي (يعني أحمد بن حنبل) نحن نؤمن أن الله تعالى على العرش استوى كيف شاء وكما يشاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصفون أو يحدها أحد وصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب.
قال الخلال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف نفسه قد أجمل الله الصفة فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه ولا نتعدى ذلك ولا يبلغ صفته الواصفون، نؤمن بالقرآن كله: محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كفنه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم فيه بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه، سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا، عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة إليه، ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير

 

ص -100-   لا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة. قلت له، والمشبه ما يقول؟ قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي، فقد شبه الله سبحانه بخلقه، وكلام أحمد في هذا كثير فإنه امتحن بالجهمية، وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه في ذلك، وإن كان بعض المتأخرين منهم من يدخل في نوع من البدعة التي أنكرها الإمام أحمد، ولكن الرعيل الأول من أصحابه كلهم وجميع أئمة الحديث قولهم قوله.

أقوال أئمة أهل الحديث الذي رفع الله منازلهم في العالمين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين
(ذكر قول إمامهم وشيخهم) الذي روى له كل محدث، أبو هريرة رضي الله عنه روى الدارمي عنه في كتاب النقض بإسناد جيد قال: لما ألقي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك.
(ذكر قول إمام الشام في وقته) أحد أئمة الدنيا الأربعة أبي عمرو الأوزاعي رحمه الله تعالى، روى البيهقي عنه في الصفات أنه قال: كنا والتابعون متوافرين نقول أن الله عز وجل فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته وقد تقدم حكاية ذلك عنه.
(قول إمام أهل الدنيا في وقته) عبد الله بن المبارك رحمه الله، وقد صح عنه صحة قريبة من التواتر أنه قيل له بماذا نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ذكره البيهقي وقبله الحاكم وقبله الدارمي عثمان وقد تقدم.
(قول حماد بن زيد إمام وقته) رحمه الله تعالى نقدم عنه قول الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وكان من أشد الناس على الجهمية.
(قول يزيد بن هارون) رحمه الله تعالى: قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة حدثنا عباس حدثنا شداد بن يحيى قال سمعت يزيد بن هارون يقول من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي، قال شيخ الإسلام والذي تقرر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجهها إلى ربها تعالى عند النوازل والشدائد والدعاء والرغبات إليه تعالى نحو العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة من غير موقف وقفهم عليه، ولكن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما من مولود إلا وهو يولد

ص -101-   على هذه الفطرة حتى يجهمه وينقله إلى التعطيل من يقيض له.
(قول عبد الرحمن بن مهدي) رحمه الله روى عنه غير واحد بإسناد صحيح أنه قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلم موسى وأن يكون على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، قال علي بن المديني " لو حلفت لحلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت أعلم من عبد الرحمن بن مهدي ".
(قول سعيد بن عامر الضبعي) إمام أهل البصرة على رأس المائتين رحمه الله تعالى. روى ابن أبي حاتم عنه في كتاب السنة أنه ذكر عنده الجهمية فقال " هم شر قولا من اليهود والنصارى " وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم ليس على العرش شيء.
(قول عباد بن العوام) أحد أئمة الحديث بواسط، رحمه الله تعالى قال كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم يقولون ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.
(قول عبد الله بن مسلمة القعنبي) شيخ البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى قال بيان بن أحمد كنا عند القعنبي فسمع رجلا من الجهمية يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استولى، فقال القعنبي " من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي " قال البخاري محمد بن إسماعيل رحمه الله تعالى في كتاب خلق أفعال العباد عن يزيد بن هارون مثله سواء وقد تقدم.
(قول علي بن عاصم شيخ الإمام أحمد رحمهما الله تعالى) صح عنه أنه قال " ما الذين قالوا إن لله سبحانه ولدا أكفر من الذين قالوا أن الله سبحانه لم يتكلم " وقال احذروا من المريسي وأصحابه فإن كلامهم الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إلها، حكاه عنه غير واحد ممن صنف في السنة.
وقال يحيى بن عاصم كنت عند أبي فاستأذن عليه المريسي فقلت له يا أبت مثل هذا يدخل عليك، فقال وما له، فقلت إنه يقول إن القرآن مخلوق ويزعم أن الله معه في الأرض، وكلاما ذكرته؛ فما رأيته اشتد عليه مثل ما اشتد عليه قوله أن القرآن مخلوق،

 

ص -102-   وقوله أن الله معه في الأرض، ذكر هذين الأثرين عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية.
(قول وهب بن جرير رحمه الله تعالى) صح عنه أنه قال: إياكم ورأي جهم فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء وما هو إلا من وحي إبليس وما هو إلا الكفر، حكاه محمد بن عثمان الحافظ في رسالته في السنة، وقال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب خلق الأفعال: وقال وهب بن جرير الجهمية الزنادقة إنما يريدون أن ليس على العرش استوى.
(قول عاصم بن علي أحد شيوخ النبل) شيخ البخاري وغيره أحد الأئمة الحفاظ الثقات حدث عن شعبة، وابن أبي ذئب، والليث رحمهم الله تعالى، قال الخطيب وجه المعتصم من يحرز مجلسه في جامع الرصافة، وكان عاصم يجلس على سطح الرحبة ويجلس الناس في الرحبة وما يليها فعظم الجمع مرة جدا حتى قال أربع عشرة مرة حدثنا الليث بن سعد والناس لا يسمعون لكثرتهم فحزر المجلس فكان عشرين ومائة ألف رجل، قال يحيى بن معين فيه: هو سيد المسلمين، قال عاصم ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه اعتقد أن ليس في السماء رب، قال شيخ الإسلام: كان الجهمية يدورون على ذلك ولم يكونوا يصرحون به لوفور السلف والأئمة وكثرة أهل السنة فلما بعد العهد وانقرض الأئمة صرح أتباعهم بما كان أولئك يشيرون إليه ويدورون حوله، قال وهكذا ظهرت البدع كلما طال الأمر وبعد العهد اشتد أمرها وتغلظت، قال وأول بدعة ظهرت في الإسلام بدعة القدر والإرجاء، ثم بدعة التشيع إلى أن انتهى الأمر إلى الاتحاد والحلول وأمثالهما.
(قول الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني) صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى له كتاب في الرد على الجهمية قال فيه (باب قول الجهمي في قوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} زعمت الجهمية أن معنى استوى (استولى) من قول العرب استوى قاطن على مصر يريدون استولى عليها، قال فيقال له هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه فإذا قال لا، قيل له فمن زعم ذلك فهو كافر فيقال له يلزمك أن تقول أن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل السماوات والأرض ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول، المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله تعالى بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو والاحتجاج عليه.

 

ص -103-   (ذكر قول جرير بن عبد الحميد) شيخ إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة رحمهم الله قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله، رواه ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية.
(ذكر قول عبد الله بن الزبير الحميدي) أحد شيوخ النبل شيخ البخاري إمام أهل الحديث والفقه في وقته، وهو أول رجل افتتح به البخاري صحيحه قال وما نطق به القرآن والحديث مثل قوله تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ومثل قوله تعالى { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: الرحمن على العرش استوى، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي، وليس مقصود السلف بأن من أنكر لفظ القرآن يكون جهميا مبتدعا فإنه يكون كافرا زنديقا، وإنما مقصودهم من أنكر معناه وحقيقته.
(قول نعيم بن حماد الخزاعي) أحد شيوخ النبل شيخ البخاري رحمهما الله تعالى قال في قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ} معناه لا يخفى عليه خافية بعلمه. ألا ترى إلى قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} أراد أن لا يخفى عليه خافية.
قال البخاري: سمعته يقول من شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيها.
(قول عبد الله بن أبي جعفر الرازي) رحمه الله قال صالح بن الضريس جعل عبد الله بن أبي جعفر الرزاي يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم ويقول لا حتى يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بائن من خلقه، ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية.
(قول الحافظ أبي معمر القطيعي) رحمه الله، ذكر ابن أبي حاتم عنه أنه قال: آخر كلام الجهمي أنه ليس في السماء إله.
(قول بشر بن الوليد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى) وروى ابن أبي حاتم قال: جاء بشر بن الوليد إلى أبي يوسف فقال له: تنهاني عن كلام بشر المريسي، وعلي الأحول وفلان

 

ص -104-   يتكلمون، فقال وما يقولون؟ قال يقولون إن الله في كل مكان، فبعث أبو يوسف وقال علي بهم فانتهوا إليهم وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول والشيخ الآخر فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك وأمر به إلى الحبس، وضرب علي الأحول وطيف به، وقد استتاب أبو يوسف بشر المريسي لما أنكر أن الله فوق عرشه، وهي قصة مشهورة ذكرها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره؛ وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا.
قول محمد بن الحسن رحمه الله اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء. وقال محمد رحمه الله تعالى أيضا في الأحاديث التي جاءت أن الله يهبط إلى سماء الدنيا ونحو هذا: هذه الأحاديث قد رواها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها؛ ذكر ذلك عنه أبو القاسم اللالكائي وهذا تصريح منه بأن من قال بقول جهم فقد فارق جماعة المسلمين، وقد ذكر الطحاوي في اعتقاد أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى ما يوافق هذا وأنهم أبرأ الناس من التعطيل والتجهم، وقال في عقيدته المعروفة: وأنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
(قول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى) ذكر الثعلبي عنه في تفسيره. قال ابن عيينة { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} صعد.
(قول خالد بن سليمان أبي معاذ البلخي أحد الأئمة رحمه الله تعالى) روى عبد الرحمن ابن أبي حاتم عنه بإسناده قال: كان جهم على معبر ترمذ؛ وكان فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم، فكلمه السمنية فقالوا: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج، ثم خرج إليه بعد أيام فقال: هو هذا الهوى مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء.
قال أبو معاذ: كذب عدو الله، إن الله في السماء على العرش كما وصف نفسه وهذا صحيح عنه، وأول من عرف عنه في هذه الأمة أنه نفى أن يكون الله في سمواته على عرشه

 

ص -105-   هو جهم بن صفوان، وقبله الجعد بن درهم، ولكن الجهم هو الذي دعا إلى هذه المقالة وقررها وعنه أخذت، فروى ابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد في كتابيهما في السنة عن شجاع بن أبي نصر أبي نعيم البلخي، وكان قد أدرك جهما قال: كان لجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره، فإذا هو قد وقع به، فصيح به وبدر به وقيل له لقد كان يكرمك فقال إنه قد جاء منه ما لا يحتمل، بينما هو يقرأ طه والمصحف في حجره، فلما أتى على هذه الآية { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت، فاحتملت هذه؛ ثم أنه بينما هو يقرأ آية إذ قال: ما أظرف محمدا حين قالها، ثم بينما هو يقرأ { طسم} القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسى عليه الصلاة والسلام، فدفع المصحف بيديه ورجليه وقال: أي شيء هذا ذكره ههنا، فلم يتم ذكره فهذا شيخ النافين لعلو الرب على عرشه ومباينته من خلقه.
وذكر ابن أبي حاتم عنه بإسناده عن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت محدود على محدود. فقال الأصمعي هي كافرة بهذه المقالة، أما هذا الرجل وامرأته فما أولاه بأن سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب.
(قول إسحاق بن راهويه إمام أهل المشرق نظير أحمد رحمهما الله تعالى) قال حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد، قلت لإسحاق بن راهويه قول الله عز وجل { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} كيف تقول فيه؟ قال حيث ما كنت فهو أقرب اليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه، ثم قال وأعلى كل شيء من ذلك وأثبته قول الله عز وجل { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
وقال الخلال في كتاب السنة: أخبرنا أبو بكر المروزي حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا سليمان بن داود الخفاف قال: قال إسحاق بن راهويه قال الله عز وجل { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء أسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤوس الجبال وبطون الأودية وفي كل موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما، ولا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، لا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره.

 

ص -106-   وقال السراج: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: دخلت يوما على طاهر بن عبد الله وعنده منصور بن طلحة، فقال لي منصور: يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل كل ليلة؛ قلت له ونؤمن به، إذ أنت لا تؤمن أن الله في السماء لا تحتاج أن تسألني، فقال طاهر: ألم أنهك عن هذا الشيخ.
(ذكر قول حافظ الإسلام يحيى بن معين رحمه الله تعالى) روى ابن بطة عنه في الإبانة باسناده قال: إذا قال لك الجهمي كيف ينزل فقل كيف يصعد.
(قول الإمام حافظ أهل المشرق وشيخ الأئمة عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله) قال فيه أبو الفضل الفرات: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن البويطي، والحديث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني، وأثنى عليه أهل العلم، صاحب كتاب " الرد على الجهمية " والنقض على بشر المريسي، وقال في كتابه النقض على بشر، وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل الملائكة تنزيلا ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو أمره وعذابه، فقوله { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} إنما هو أمره وعذابه.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وقد ذكر الحلول: ويحك هذا المذهب أنزه لله تعالى من السوء أم مذهب من يقول هو بكماله وجماله وعظمته وبهائه فوق عرشه فوق سمواته فوق جميع الخلائق في أعلى مكان وأظهر مكان حيث لا خلق هناك ولا إنس ولا جان أي الحزبين أعلم بالله وبمكانه، وأشد تعظيما وإجلالا له وقال في هذا الكتاب، علمه بهم محيط وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه والسماوات ومسافة بينهن وبينه وبين خلقه في الأرض؛ فهو كذلك معهم خامسهم وسادسهم، وإنما يعرف فضل الربوبية وعظم القدرة بأن الله من فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض.
وقال في موضع آخر من الكتاب: والقرآن كلام الله وصفة من صفاته، خرج منه كما

 

ص -107-   شاء أن يخرج، والله بكلامه وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته غير مخلوق؛ وهو بكماله على عرشه.
وقال في موضع آخر وقد ذكر حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل في شأن الروح وقبضها ونعيمها وعذابها، وفيه فيصعد بروحه حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة وأعيدوه إلى الأرض، وذكر الحديث ثم قال.
وفي قوله { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} دلالة ظاهرة أن الله تعالى فوق السماوات لأنه لو لم يكن فوق السماء لما عرج بالأرواح والأعمال إلى السماء ولما غلقت أبواب السماء عن قوم وفتحت لآخرين.
وقال في موضع آخر وقد بلغنا أن حملة العرش حين حملوا العرش وفوقه الجبار جل جلاله في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله، فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته، ثم ساق بإسناده عن معاوية بن صالح أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة العرش فقالوا ربنا لم خلقتنا؟ فقال خلقتكم لحمل عرشي، فقالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه جلالك وعظمتك ووقارك، فقال لهم إني خلقتكم لذلك. قال فيقول ذلك مرارا، قال فقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال في موضع آخر: ولكنا نقول رب عظيم وملك كبير، نور السماوات والأرض، وإله السماوات والأرض على عرش عظيم مخلوق فوق السماء السابعة دون ما سواها من الأماكن، من لم يعرفه بذلك كان كافرا به وبعرشه.
وقال في موضع آخر في حديث حصين كم تعبد، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على حصين إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحصين رضي الله عنه قبل إسلامه كان أعلم بالله الجليل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض. قال وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله سبحانه في السماء وعرفوه بذلك إلا المريسي وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث؛ وقال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة أين الله، تكذيب لمن يقول هو في كل مكان، وأن الله لا يوصف بأين، بل يستحيل أن يقال أين هو، والله

 

ص -108-   فوق سمواته بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبده.
وكتاباه من أجلّ الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدا وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما.
(قول قتيبة بن سعيد) الإمام الحافظ أحد أئمة الإسلام وحفاظ الحديث من شيوخ الأئمة الذين تجملوا بالحديث عنه.
قال أبو العباس السراج: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة، نعرف ربنا سبحانه بأنه في السماء السابعة على عرشه كما قال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال موسى بن هارون حدثنا قتيبة بن سعيد قال نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
(قول عبد الوهاب الوراق) أحد الأئمة الحفاظ، أثنى عليه الأئمة، وقيل للإمام أحمد رحمه الله: من نسأل بعدك، فقال عبد الوهاب، وهو من شيوخ النبل، قال عبد الوهاب. وقد روى حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك، ومن زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه حكاه عنه محمد بن عثمان في رسالته في الفوقية، وقال ثقة حافظ روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي، مات سنة خمس ومائتين.
(قول خارجة بن مصعب رحمه الله تعالى) قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة: حدثني أحمد بن سعيد الدارمي أبو جعفر قال: سمعت أبي يقول: سمعت خارجة بن مصعب يقول: الجهمية كفار أبلغ نساءهم أنهن طوالق لا يحللن لهم لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم؛ ثم تلا طه إلى قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
(قول إمامي أهل الحديث) أبي زرعة وأبي حاتم رحمهما الله تعالى. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه أئمة العلم في ذلك فقالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا، فكان من

 

ص -109-   مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله عز وجل، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علما، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأنه سبحانه يرى في الآخرة يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء، والجنة حق والنار حق وهما مخلوقتان لا يفنيان أبدا، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقله عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهله فهو كافر، ومن وقف في القرآن فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
قال أبو حاتم: والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه ليس بمخلوق بجهة من الجهات؛ ونقول إن الله على عرشه بائن من خلقه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ثم ذكر عن أبي زرعة رحمه الله تعالى أنه سئل عن تفسير قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فغضب وقال تفسيرها كما تقرأ هو على العرش استوى وعلمه في كل مكان، من قال غير ذلك فعليه لعنة الله. وهذان الإمامان إماما أهل الدين وهما من نظراء الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله تعالى.
(قول حرب الكرماني) صاحب أحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى وله مسائل جليلة عنهما، قال يحيى بن عمار أخبرنا أبو عصمة قال حدثنا إسماعيل بن الوليد حدثنا حرب بن إسماعيل قال: والماء فوق السماء السابعة والعرش على الماء والله على العرش، قلت هذا لفظه في مسائله وحكاه إجماعا لأهل السنة من سائر أهل الأمصار.
(قول إمام أهل الحديث علي بن المديني) شيخ البخاري بل شيخ الإسلام رحمه الله، قال البخاري علي بن المديني سيد المسلمين قيل له ما قول الجماعة في الاعتقاد، قال يثبتون الكلام والرؤية ويقولون إن الله تعالى على العرش استوى فقيل له ما تقول في قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم} فقال اقرءوا أول الآية، يعني بالعلم: لأن أول الآية { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} قال البخاري في كتاب خلق الأفعال. وقال ابن المديني: القرآن كلام الله غير مخلوق من قال أنه مخلوق فهو كافر لا

 

ص -110-   يصلى خلفه، قال البخاري ما استصغرت نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن المديني.
وقال الحسن بن محمد بن الحارث سمعت علي بن المديني يقول: أهل الجماعة يؤمنون بالرؤية وبالكلام وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، وسئل عن قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية، فقال اقرأ ما قبله، يعني علم الله تعالى.
(قول سنيد بن داود) شيخ البخاري رحمهما الله تعالى، قال أبو حاتم الرازي حدثنا أبو عمران موسى الطرطوسي قال: قلت لسنيد بن داود هو على عرشه بائن من خلقه قال نعم، ألم تسمع قوله تعالى { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}.
(قول إمام أهل الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى).
قال في كتاب التوحيد من صحيحه (باب قول الله عز وجل وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم) قال أبو العالية: استوى إلى السماء ارتفع " فسواهن " خلقهن، وقال مجاهد " استوى " علا على العرش، ثم ساق البخاري حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها كانت تفتخر على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وذكر تراجم أبواب هذا الكتاب الذي ترجمه كتاب التوحيد والرد على الجهمية ردا على أقوال الجهمية التي خالفوا بها الأمة، فمن تراجم أبواب هذا الكتاب " باب قول الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ومن أبوابه أيضا " باب قول الله عز وجل { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وذكر أحاديث ثم قال " باب قوله تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} {  أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}.
ثم ساق أحاديث مستدلا بها على إثبات صفة العلم ثم قال " باب قول الله عز وجل: { السَّلامُ الْمُؤْمِن} ثم ساق حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله تعالى هو السلام، ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول الله أنا الملك ثم قال " باب قول الله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} وذكر أحاديث في ذلك ثم قال " باب قول الله { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَق}.

 

ص -111-   ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض إلى آخره، ثم قال " باب قول الله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ثم ساق أحاديث منها حديث أبي موسى رضي الله عنه "أن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"، ثم قال " باب قوله تعالى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ}.
ثم ساق أحاديث في إثبات القدر ثم قال " باب مقلب القلوب " وقول الله عز وجل { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حلفه لا ومقلب القلوب " ثم قال " باب إن لله مائة إسم إلا واحدا " ثم قال " باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها " ومقصوده بذلك أنها غير مخلوقة فإنه لا يستعاذ بمخلوق ولا يسأل به، ثم قال " باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله تعالى " ثم قال " باب قول الله عز وجل: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
ثم ساق أحاديث ثم قال " باب قول الله عز وجل: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه أعوذ بوجهك " ثم قال " باب قول الله عز وجل { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وقوله { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ثم ذكر حديث الدجال إن ربكم ليس بأعور ثم قال " باب قول الله عز وجل: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ثم قال " باب قول الله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}.
ثم ذكر أحاديث في إثبات اليدين، ثم قال " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغير من الله " ثم قال " باب قول الله تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} فسمى الله نفسه شيئا ثم قال " باب قول الله تعالى: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ثم ذكر بعض أحاديث الفوقية، ثم قررها بترجمة أخرى فقال " باب قول الله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} وقوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}.
ثم ساق في ذلك أحاديث في إثبات صفة الفوقية، ثم قال " باب قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ثم ذكر الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية في الآخرة، ثم قال " باب ما جاء في قوله: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ثم ذكر أحاديث في إثبات صفة الرحمة، ثم قال " باب قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}.

 

ص -112-   ثم ساق في هذا الباب حديث الخبر الذي فيه أن الله يمسك السماوات على إصبع. الحديث، ثم قال " باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق وهو فعل الرب عز وجل وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون، غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون، وهذه الترجمة من أدل شيء على دقة علمه ورسوخه في معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وهذه الترجمة فصل في مسألة الفعل والمفعول، وقيام أفعال الرب عز وجل به وأنها غير مخلوقة، وأن المخلوق هو المنفصل عنه الكائن بفعله وأمره وتكوينه ففصل النزاع بهذه الترجمة أحسن فصل وأبينه وأوضحه، إذ فرق بين الفعل والمفعول، وما يقوم بالرب سبحانه وما لا يقوم به، وبين أن أفعاله تعالى كصفاته داخلة في مسمى اسمه ليست منفصلة خارجة مكونة بل بها يقع التكوين، فجزاه الله سبحانه عن الإسلام والسنة، بل جزاهما عنه أفضل الجزاء، وهذا الذي ذكره في هذه الترجمة هو قول أهل السنة، وهو المأثور عن سلف الأمة، وصرح به في كتاب، " خلق افعال العباد " وجعله قول العلماء مطلقا، ولم يذكر فيه نزاعا إلا عن الجهمية، وذكره البغوي إجماعا من أهل السنة.
وصرح البخاري في هذه الترجمة بأن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن أفعاله وصفاته غير مخلوقة، ثم قال " باب قول الله عز وجل: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ثم ساق أحاديث في القدر وإثباته، ثم قال " باب قول الله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
ثم ساق أحاديث في إثبات تكلم الرب جل جلاله ثم قال " باب قول الله عز وجل: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وقوله تعالى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} وقوله تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
ومقصوده إثبات صفة الكلام والفرق بينها وبين صفة الخلق، ثم قال " باب في المشيئة والإرادة " ثم ساق آيات وأحاديث في ذلك ثم قال " باب قوله تعالى: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قال

 

ص -113-   البخاري رحمه الله ولم يقولوا ماذا خلق ربكم، ثم ذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه فينادي بصوت، وحديث عبد الله بن أنيس وعلقمة "فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ومقصوده أن هذا النداء يستحيل أن يكون مخلوقا، فإن المخلوق لا يقول أنا الملك أنا الديان" فالمنادي بذلك هو الله عز وجل القائل أنا الملك أنا الديان، ثم قال " باب كلام الرب تعالى مع جبرائيل عليه الصلاة والسلام ونداء الله تعالى الملائكة " ثم ذكر حديث إذا أحب الله عبدا نادى جبرائيل، ثم قال " باب قوله عز وجل: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ثم ساق أحاديث في نزول القرآن من السماء مما يدل على أصلين فوقية الرب تعالى وتكلمه بالقرآن، ثم قال " باب قول الله عز وجل: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ثم ذكر أحاديث في تكلم الرب تعالى ثم قال " باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم " ثم ساق حديث الشفاعة، وحديث ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وحديث يدنو المؤمن من ربه، ثم قال " باب قوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ثم ذكر أحاديث في تكليم الله لموسى، ثم قال " باب كلام الرب تعالى مع أهل الجنة " ثم ذكر حديثين في ذلك، ثم قال " باب قول الله عز وجل: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وذكر آيات في ذلك وذكر حديث ابن مسعود في ذلك أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وغرضه بهذا التبويب الرد على القدرية والجبرية فأضاف الجعل إليهم فهو كسبهم وفعلهم، ولهذا قال في هذا الباب نفسه: " وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم لقوله { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فأثبت خلق أفعال العباد وأنها أفعالهم وأكسابهم فتضمنت ترجمته مخالفته للقدرية والجبرية، ثم قال " باب قول الله عز وجل: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} وقصد بهذا أن يبين أن الصوت والحركة التي يؤدى بها الكلام كسب العبد وفعله وعمله؛ ثم ذكر أبوابا في إثبات خلق أفعال العباد، ثم ختم الكتاب بإثبات الميزان.
(قول مسلم بن الحجاج) يعرف قوله في السنة من سياق الأحاديث التي ذكرها ولم يتأولها، ولم يذكر لها تراجم كما فعل البخاري ولكن سردها بلا أبواب، ولكن تعرف التراجم من ذكره للشيء مع نظيره فذكر في كتاب الإيمان كثيرا من أحاديث الصفات كحديث الإتيان يوم القيامة وما فيه من التجلي، وكلام الرب لعباده ورؤيتهم إياه،

 

ص -114-   وذكر حديث الجارية وأحاديث النزول، وذكر حديث إن الله يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع، وحديث يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده، وأحاديث الرؤية، وحديث حتى وضع الجبار فيها قدمه وحديث المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وحديث ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، وغيرها من أحاديث الصفات محتجا بها وغير مؤول لها، ولو لم يكن معتقدا لمضمونها لفعل بها ما فعل المتأولون حين ذكرها.
(قول حماد بن هناد البوشنجي) الحافظ أحد أئمة الحديث في وقته، ذكر شيخ الإسلام الأنصاري فقال: قرأت على أحمد بن محمد بن منصور أخبركم جدكم منصور بن الحسين حدثني أحمد بن الأشرف قال حدثنا حماد بن هناد البوشنجي قال: هذا ما رأينا عليه أهل الأمصار وما دلت عليه مذاهبهم فيه وإيضاح منهاج العلماء وطرق الفقهاء، وصفة السنة وأهلها أن الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وعلمه وقدرته وسلطانه بكل مكان، فقال نعم.
(قول أبي عيسى الترمذي) رحمه الله تعالى قال في جامعه لما ذكر حديث أبي هريرة " لو أدلي أحدكم بحبل لهبط على الله " قال معناه لهبط على علم الله، قال وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه، وقال في حديث أبي هريرة إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه.
قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم ولا نقول كيف، هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمرّوها بلا كيف، قال وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا هذا تشبيه، وقد ذكر الله تعالى في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وإنما معنى اليد ههنا القوة فقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيدي أو مثل يدي أو سمع كسمعي فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله يد وسمع وبصر فلا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها عنده قال الله تعالى

 

ص -115-   { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا كله كلامه، وقد ذكره عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناده وكذلك من تأمل تبويب ابن ماجه في السنة والرد على الجهمية في أول كتابه، وتبويب أبي داود فيما ذكر في الجهمية والقدرية، وسائر أئمة أهل الحديث علم مضمون قولهم، وأنهم كلهم على طريقة واحدة وقول واحد، ولكن بعضهم بوب وترجم ولم يزد على الحديث غير التراجم والأبواب، وبعضهم زاد التقرير وإبطال قول المخالف وبعضهم سرد الأحاديث ولم يترجم لها، وليس فيهم من أبطل حقائقها وحرفها عن مواضعها، وسمى تحريفها تأويلا كما فعلته الجهمية، بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين الكفر وعسكر الإسلام، وابن ماجه قال في أول سننه: باب ما أنكرت الجهمية، ثم روى أحاديث الرؤية وحديث أين كان ربنا، وحديث جابر بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرق عليهم من فوقهم، وحديث الأوعال الذي فيه والعرش فوق ذلك والله فوق العرش، وحديث إن الله ليضحك إلى ثلاثة وغيرها من الأحاديث.
(قول الحافظ أبي بكر الآجري إمام عصره في الحديث والفقه) قال في كتابه الشريف (باب التحذير من مذهب الحلولية) الذي يذهب اليه أهل العلم: أن الله على عرشه فوق سمواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السماوات العلا وبجميع ما خلق في سبع أرضين، ترفع إليه أعمال العباد، فإن قال قائل فما معنى قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُم} قيل له علمه معهم، والله عز وجل على عرشه وعلمه محيط بهم، كذا فسره أهل العلم، والآية تدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، هذا قول المسلمين.
(قول الحافظ أبي الشيخ عبيد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني) قال في كتاب العظمة ذكر عرش الرب تبارك وتعالى وكرسيه وعظمة خلقهما وعلو الرب جل جلاله فوق عرشه، ثم ساق كثيرا من أحاديث هذه الباب بإسناده.
(قول الحافظ زكريا بن يحيى الساجي إمام أهل البصرة)قال أبو عبد الله بن بطة حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال قال أبي: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه

 

ص -116-   كيف شاء، ثم ذكر بقية الاعتقاد، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء وقال أخذ عن الربيع والمزني، وله كتاب اختلاف الفقهاء وكتاب علل الحديث، وهو شيخ أبي الحسن الأشعري في الفقه والحديث، وذكر ما حكاه أبو نصر السجزي عن أهل الحديث قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان.
(قول الإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني) إمام أهل الحديث والفقه والتصوف في وقته، قال في رسالته المشهورة في السنة: وأن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ثم ساق بإسناده عن ابن المبارك أنه قال: نعرف ربنا تبارك وتعالى بأنه فوق سبع سمواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية أنه ههنا في الأرض ثم قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ عن محمد بن صالح عن ابن خزيمة قال من لم يقر بأن الله على عرشه فوق سبع سمواته فهو كافر بربه حلال الدم يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى به المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئا ولا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، ولا الكافر يرث المسلم.
(قول أبي جعفر الطحاوي إمام الحنفية) في وقته في الحديث والفقه ومعرفة أقوال السلف، قال في العقيدة التي له وهي معروفة عند الحنفية ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن نقول في توحيد الله معتقدين أن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا. ونزل على نبيه وحيا وصدقه المؤمنون على ذلك حقا. وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر. والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال. ومعناه كما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حظر عنه علمه. ولا يقنع بالتسليم فهمه حجب مرامه عن خالص التوحيد وصحيح الإيمان ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه، إلى أن قال: والعرش والكرسي حق كما بيّن في كتابه؛ وهو مستغن عن العرش

 

ص -117-   وما دونه، محيط بكل شيء. وفوق كل شيء وذكر سائر الاعتقاد.
(قول أئمة التفسير) وهذا باب لا يمكن استيعابه لكثرة ما يوجد من كلام أهل السنة في التفسير، وهو بحر لا ساحل له، وإنما نذكر طرفا منه يسيرا يكون منبها على ما وراءه، فمن أراد الوقوف عليه فهذه تفاسير السلف وأهل السنة موجودة، فمن طلبها وجدها.
(قول إمامهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما) ذكر البيهقي عنه في قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال استقر. وقد تقدم قوله في تفسير قوله تعالى عن إبليس { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} قال لم يستطع أن يقول من فوقهم علم أن الله من فوقهم. وتقدم حكاية قوله أن الله كان على عرشه وكتب ما هو كائن وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. رواه سفيان الثوري عن أبي هاشم عن مجاهد عنه، وذكر البخاري عنه في صحيحه أن سائلا سأله فقال: إني أجد أشياء تختلف عليّ أسمع الله يقول { أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إلى قوله { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال في آية أخرى { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْن} إلى أن قال { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فذكر هنا خلق الأرض قبل السماء. فقال ابن عباس: أما قوله { أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} فإنه خلق الأرض قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم نزل إلى الأرض فدحاها، وهذه الزيادة وهي قوله " ثم نزل إلى الأرض " ليست عند البخاري وهي صحيحة.
قال محمد بن عثمان في رسالته في العلو عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قالت امرأة العزيز ليوسف: إني كثيرة الدر والياقوت فأعطيك ذلك حتى تنفق في مرضاة سيدك الذي في السماء.
وعن ذكوان حاجب عائشة أن ابن عباس دخل على عائشة وهي تموت فقال لها: كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها جبرائيل، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيه

 

ص -118-   الله إلا وهي تتلى آناء الليل وآناء النهار، وأصل القصة في صحيح البخاري.
وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني محمد بن سعيد حدثني عمي حدثني أبي عن ابن عباس في قوله تعالى { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِن} قال يعني من ثقل الرحمن وعظمته جل جلاله. وهذا التفسير تلقاه عن ابن عباس الضحاك والسدي وقتادة، فقال سعيد عن قتادة: يتفطرن من فوقهن. قال من عظمة الله وجلاله. وقال السدي تشقق بالله. وذكر شيخ الإسلام من رواية الضحاك بن مزاحم عنه قال: إن الله خلق العرش أول ما خلق فاستوى عليه.
قلت: وهذا تفسير الضحاك، وفي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال قعد.
(قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه) روى أبو الشيخ في كتاب العظمة عن ابن مسعود قال، قال رجل يا رسول الله: ما الحاقة؟ قال يوم ينزل الرب تبارك وتعالى على عرشه.
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد. قال ابن مسعود في قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال العرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه. وقال ابن مسعود: من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تلقاهن ملك فعرج بهن إلى الله فلا يمر بملأ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن. أخرجه العسال في كتاب المعرفة بإسناد كلهم ثقات.
وقال الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك، فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة، وهو في معجم الطبراني أطول من هذا.

 

ص -119-   وصح عن السدي عن مرة عن ابن مسعود. وعن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ولا يناقض أن الله عز وجل كان على عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، لحديث وفيه: "فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش".
ولا يناقض هذا الحديث " أول ما خلق الله القلم " لوجهين: أحدهما أن الأولية راجعة إلى كتابته لا إلى خلقه فان الحديث "أول ما خلق الله القلم قال له اكتب؛ قال ما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة". والثاني أن المراد أول ما خلقه الله من هذا العالم بعد خلق العرش، فإن العرش مخلوق قبله في أصح قولي السلف. حكاهما الحافظ عبد القادر الرهاوي.
ويدل على سبق خلق العرش قوله في الحديث الثابت " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " وقد أخبر أنه حين خلق القلم قدر به المقادير كما في اللفظ الآخر " قال اكتب، قال ما أكتب؟ قال اكتب القدر " فهذا هو التقدير الموقت قبل خلق العالم بخمسين ألف سنة، فثبت أن العرش سابق على القلم والعرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فأقوال الصحابة لا تناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو القاسم اللالكائي باسناد صحيح عن خيثمة عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن العبد ليهم بالتجارة والامارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملائكة: اصرفوه عنه فإنه أن يسرته له أدخلته النار. وقد سبق نحوه عن ابن عباس مرفوعا موقوفا. وذكر سنيد ابن داود بإسناد صحيح عنه أنه قال: بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام والعرش على الماء، والله تعالى على العرش ويعلم أعمالكم.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي اسحق عن أبي عبيدة قال، قال عبد الله: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وقال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال: إن الله ملأ العرش حتى أن للعرش أطيطا كأطيط الرحل. رواه حرب عن إسحاق عن آدم بن أبي إياس عن حماد.
(قول مجاهد وأبي العالية) روى البيهقي من طريق شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في

 

ص -120-   قوله عز وجل { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، فما زال يقرب موسى حتى صار بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم قال: رب أرني أنظر إليك. وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد استوى علا على العرش. وقال مجاهد في قوله تعالى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} قال هم في هذه الأمة يتراكبون كما تتراكب الحمر والأنعام في الطرق ولا يستحيون الناس في الأرض ولا يخافون الله في السماء، رواه ابن الهيثم بن خلف الدوري في كتاب تحريم اللواط.
(قول قتادة) قد تقدم ما رواه عثمان الدارمي عنه في كتاب النقض قال: قالت بنو إسرائيل: يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك وغضبك؟ قال: إذا رضيت عليكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت عليكم استعملت عليكم شراركم. وفي تفسير ابن أبي حاتم عن قتادة قال: ثم استوى على العرش في يوم الجمعة.
(قول عكرمة) صح عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: بينما رجل في الجنة فقال في نفسه: لو أن الله يأذن لي لزرعت، فلا يعلم إلا والملائكة على أبوابه فيقولون: سلام عليك يقول لك ربك تمنيت شيئا فقد علمته، وقد بعث معنا البذر فيقول لك ابذر فيخرج أمثال الجبال، فيقول له الرب من فوق عرشه " كل يا ابن آدم فإن ابن آدم لا يشبع " وله شاهد مرفوع في صحيح البخاري.
(قول سعيد بن جبير) روي عنه من طرق قال: قحط الناس في زمن ملك من ملوك بني إسرائيل، فقال الملك ليرسلن الله علينا السماء أو لنؤذينه، فقال جلساؤه فكيف تقدر وهو في السماء؟ فقال أقتل أولياءه، فأرسل الله عليهم السماء.
(قول محمد بن كعب القرظي) قال عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح حدثني حرملة بن عمران عن سليمان بن حميل قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز قال " إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل الله في ظلل من الغمام والملائكة فسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام " قال القرظي فهذا في القرآن { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فيقول سلوني يفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي على عرشه، ثم يأتيهم التحف من الله تحمله الملائكة إليهم.
(قول الضحاك) قد تقدم عنه في قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ

 

ص -121-   رَابِعُهُمْ} قال هو على عرشه وعلمه معهم. ذكره ابن بطة وابن عبد البر والعسال في كتاب المعرفة ولفظه قال هو فوق عرشه وعلمه معهم أينما كانوا. ورواه أحمد عن نوح بن ميمون عن بكر بن معروف عن مقاتل عنه، ولفظه هو على العرش وعلمهم معهم، ونقل ابن عبد البر إجماع الصحابة والتابعين على ذلك.
(قول الحسن البصري) ذكر الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي في كتابه (إثبات صفة العلو) عنه بإسناد صحيح قال " سمع يونس عليه السلام تسبيح الحصا والحيتان فجعل يسبح، وكان يقول في دعائه يا سيدي في السماء مسكنك وفي الأرض قدرتك وعجائبك، إلهي في الظلمات الثلاث حبستني " فلما كان تمام الأربعين وأصابه الغم فنادى في الظلمات { أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
وقال الحسن البصري: ليس شيء عند ربك أقرب إليه من إسرافيل وذكر ابن منده أخبرنا أحمد بن محمد الوراق حدثنا إسماعيل بن أبي كثير حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام عن الحسن قال: قال الله عز وجل لما خلقت خلقي واستويت على عرشي كتبت ان رحمتي سبقت غضبي، ولولا ذلك لهلكوا.
(قول مسروق) صح عنه أنه كان إذا حدث عن عائشة قال حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات.
(قول مقاتل) قد تقدم قوله في تفسير قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُم} قال هو على العرش وهو معهم بعلمه. ذكره أبي حاتم في تفسيره.
(قول عبيد بن عمير) ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة من رواية حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى السماء فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى إذا كان الفجر صعد الرب عز وجل.
(قول كعب الأحبار) روى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة عنه بإسناد صحيح أنه أتاه رجل فقال: يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار جل جلاله. فأعظم القوم ذلك؛ فقال كعب: دعوا الرجل فإنه إن كان جاهلا تعلم، وإن كان عالما إزداد علما، ثم قال كعب

 

ص -122-   أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سمائين كما بين سماء الدنيا والأرض وجعل كثفها مثل ذلك. ثم رفع العرش فاستوى عليه فما من سماء من السماوات إلا لها أطيط كأطيط الرحل في أول ما يرتحل من ثقل الجبار فوقهن. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن كعب قال؛ قال الله في التوراة أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي. وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، ولا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض رواه أبو الشيخ وابن بطة وغيرهما بإسناد صحيح عنه.
(قول بشر بن عمر شيخ إسحاق) عن جماعة ممن لقيهم من المفسرين، قال إسحاق بن راهويه أخبرنا بشر بن عمر قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ارتفع.
(قول نوف البكالي) روى عنه عبد الله بن عمرو أنه قال: ذكر لنا أن الله قال للملائكة ادعو إلىّ عبادي، فقالوا يا رب فكيف والسماوات السبع دونهم والعرش فوق ذلك؟ قال إنهم إذا قالوا لا إله إلا الله فقد استجابوا رواه الدارمي عنه.
(قول ابن رافع) قال أبو الشيخ في كتاب العظمة: حدثنا الوليد بن أبان حدثنا أبو حاتم حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن المبارك حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عيسى أن ملكا لما استوى الرب على عرشه سجد فلم يرفع رأسه ولا يرفعه حتى تقوم الساعة فتقول الملائكة سبحانك لم نعبدك حق عبادتك، وهذا الإسناد كلهم أئمة ثقات، ورواه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة، وأبو عيسى هو يحيى بن رافع من قدماء التابعين ذكرناه هنا وإن لم يكن مشهورا بالتفسير.
(قول عباس القمي) وإن لم يكن من المشهورين بالتفسير، روى ابن أبي شيبة في كتاب العرش باسناد صحيح عنه قال، بلغني أن داود كان يقول في دعائه " اللهم أنت ربي تعاليت فوق عرشك وجعلت خشيتك على من في السماوات والأرض".
(قول محمد بن إسحاق الإمام في الحديث والتفسير والمغازي) قال بعث الله ملكا من الملائكة إلى بختنصر قال هل تعلم يا عدو الله كم بين السماء والأرض؟ قال لا قال بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة وغلظها مثل ذلك، وذكر الحديث إلى أن ذكر حملة العرش قال وفوقهم العرش عليه ملك الملوك تبارك وتعالى، أي عدو الله فأنت تطلع إلى ذلك، ثم

 

ص -123-   بعث الله عليه البعوضة فقتلته. رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة باسناد جيد إلى ابن إسحاق.
(قول الإمام محمد بن جرير الطبري) قد تقدم من قوله ما فيه كفاية، وقد قال في تفسيره في قوله عز وجل { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} أي علا وارتفع.
(قول الحسين بن مسعود البغوي) محي السنة الذي اجتمعت الأمة على تلقي تفسيره بالقبول وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير، وقد أسلفنا قوله عند ذكر أصحاب الشافعي وإنكاره على من يقول { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بمعنى استولى وأن هذا مذهب الجهمية والمعتزلة.
قول أبي عبد الله القرطبي المالكي صاحب التفسير المشهور
قال في قوله تعالى {  الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وذكر قول المتكلمين الذين يقولون إذا وجب تنزيه الباري عن الحيز فمن ضرورة ذلك تنزيهه عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لما يلزم عن الحيز والمكان من الحركة والسكون والتغيير والحدوث، قال هذا قول المتكلمين ثم قال وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والعامة بإثباتها لله كما نطق كتابه وأخبرت به رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال مالك الاستواء معلوم " يعني في اللغة " والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة. هذا لفظه في تفسيره وهو من فقهاء المالكية ومن علمائهم.

أقوال أئمة اللغة العربية الذين يحتج بقولهم فيها
(ذكر قول أبي عبيدة معمر بن المثنى) ذكر البغوي عنه في معالم التنزيل في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} قال أبو عبيدة صعد وحكاه عنه ابن جرير عند قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}.
(قول يحيى بن زياد الفراء) إمام أهل الكوفة، قال في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي صعد، قاله ابن عباس، قال فهو كقول الرجل كان قاعدا فاستوى

 

ص -124-   قائما و كان قائما فاستوى قاعدا. ذكره البيهقي عنه في الأسماء والصفات قلت مراد الفراء اعتدال القائم والقاعد في صعوده على الأرض.
(قول أبي العباس ثعلب) روى الدارقطني عن إسحاق الكلابي قال سمعت أبا العباس ثعلبا يقول: استوى على العرش علا، واستوى الوجه اتصل، واستوى القمر امتلأ، واستوى زيد وعمرو تشابها، واستوى إلى السماء أقبل، هذا الذي نعرف من كلام العرب.
(قول أبي عبد الله محمد بن الأعرابي) قال ابن عرفة في كتاب " الرد على الجهمية " حدثنا داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله تعالى {  الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال هو على عرشه كما أخبر، فقال يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء ويكون له مصادقا إذا غلب أحدهما قيل استولى كما قال النابغة:

ألا لمثلك أو من أنت سابقه  سبق الجواد إذا استولى على الأمد

قال محمد بن النضر: سمعت ابن الأعرابي صاحب اللغة يقول: أرادني ابن أبي داود أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} استوى بمعنى استولى فقلت له والله ما يكون هذا ولا وجدته.
(قول الخليل بن أحمد شيخ سيبويه) ذكر أبو عمر بن عبد البر عنه في التمهيد قال الخليل بن أحمد استوى إلى السماء ارتفع إلى السماء.
(قول إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه) له كتاب في الرد على الجهمية أنكر فيه أن يكون استوى بمعنى استولى. وحكى فيه عن ابن الأعرابي ما قدمنا حكايته عنه ثم قال: وسمعت داود بن علي يقول، كان المريسي يقول: سبحان ربي الأسفل. وهذا جهل من قائله ورد لنص الكتاب إذ يقول الله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ورحمه الله لقد لين القول في المريسي صاحب هذا التسبيح، ولقد كان جديرا بما هو أليق به من الجهم.
(قول الأخفش) قال الأزهري في كتاب التهذيب له في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال الأخفش استوى أي علا، يقال استويت فوق الدابة وعلى ظهر البيت أي علوته.

 

ص -125-   أقوال الزهاد والصوفية أهل الاتباع وسلفهم
(قول ثابت البناني شيخ الزهاد) قال محمد بن عثمان في رسالته: صح عنه أنه قال كان داود يطيل الصلاة ثم يركع ثم يرفع رأسه إلى السماء ثم يقول " إليك رفعت رأسي نظر العبيد إلى أربابها يا ساكن السماء " ورواه اللالكائي بإسناد صحيح عنه، ورواه الإمام أحمد أيضا في كتاب الزهد، فهذا الرفع إن كان في الصلاة فهو منسوخ في شرعنا، وإن كان بعد الصلاة فهو جائز كرفع اليدين في الدعاء إلى الله تعالى.
(قول مالك بن دينار) قد أسلفنا عنه أنه كان يقول خذوا فيقرأ ثم يقول اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه. رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح، عنه وروى ابن أبي الدنيا عنه قال قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول " يا ابن آدم خيري إليك ينزل وشرك يصعد إليّ وأتحبب إليك بالنعم وتتبغض إلي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح ".
(قول سليمان التيمي) قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد قال ضمرة بن ربيعة عن صدقة عن سليمان سمعته يقول " لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ولو سئلت أين كان العرش قبل السماء؟ لقلت على الماء، ولو سئلت أين كان قبل الماء لقلت لا أدري ".
(قول شريح بن عبيد) روى عنه أبو الشيخ بإسناد صحيح أنه كان يقول ارتفع إليك ثناء التسبيح وصعد إليك. وقال في التقديس: سبحانك ذا الجبروت بيدك الملك والملكوت والمفاتيح والمقادير.
(قول عبيد بن عمير) روى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة له من حديث حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير أنه قال: ينزل الرب عز وجل شطر الليل إلى سماء الدنيا ويقول " من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " حتى إذا كان الفجر صعد الرب عز وجل.
(قول الفضيل بن عياض) قال الأثرم في كتاب السنة: حدثنا إبراهيم بن الحارث، يعني العبادي، حدثنا الليث بن يحيى قال سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر صاحب

 

ص -126-   الفضيل سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه، وكذا النزول والضحك والمباهات والاطلاع، كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف.
وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب ينزل عن مكانه، فقلت أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء، وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل البخاري في كتاب خلق الأفعال فقال: وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي، فذكر قول يحيى بن معاذ الرازي قال: الله تعالى على العرش بائن من الخلق قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا، ولا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب، يقول يمزج الله بخلقه، ويخلط الذات بالأقذار والأنتان.
(قول عطاء السلمي) ثبت أنه كان لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عز وجل، ومن هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي عن رفع بصره إلى السماء تأدبا مع الله وإطراقا بين يديه وإجلالا له كما يقف العبيد بين يدي الملوك، ولا يرفعون رؤوسهم إليهم إجلالا لهم، وإذا ضم هذا إلى رفع الأيدي في الرغبات والرهبات وتوجه القلوب إلى العلو دون اليمنة واليسرة والخلف والأمام، أفاد العلم بأن هذا فطرة الله التي فطر الناس عليها.
(قول أبي عبيدة الخواص) ذكر أبو نعيم وابن الجوزي عنه أنه مكث كذا وكذا سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله.
(قول بشر الحافي) صح عنه أنه قال: إني لأرفع يدي إلى الله ثم أردهما وأقول إنما يفعل هذا من له جاه عند الله.
(قول ذي النون المصري) روى أبو الشيخ في كتاب العظمة بإسناده عنه قال أشرقت لنوره السماوات وأنار بوجهه الظلمات وحجب جلاله عن العيون وناجاه على عرشه ألسنة الصدور.
فإن قيل: قد نقل القشيري عن ذي النون أنه سئل عن قوله تعالى {  الرَّحْمَنُ عَلَى

 

ص -127-   الْعَرْشِ اسْتَوَى } فقال أثبت ذاته ونفى مكانه وهو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمته كما شاء.
قيل القشيري لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا؛ وما ذكرناه مسند عنه، وفي كتب التصوف من الحكايات المكذوبة ما الله به علي. قال شيخ الإسلام وهذا النقل باطل، فإن هذا الكلام ليس فيه مناسبة للآية بل هو مناقض لها، فإن هذه الآية لم تتضمن إثبات ذاته ونفي مكانه بوجه من الوجوه فكيف يفسر ذلك، قال وأما قوله هو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمته فحق ولكن ليس هو معنى الآية.
(قول الحارث بن أسد المحاسبي) قال وأما قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } {  إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } فهذه وغيرها مثل قوله {  تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وهذه توجب أنه فوق العرش فوق الأشياء كلها، متنزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد به بنفسه فوق عباده لأنه قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض} يعني فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من كان فوق كل شيء على السماء في السماء، وقد قال {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله {يَتِيهُونَ فِي الأَرْض} يعني على الأرض. وكذلك قوله تعالى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يعني فوقها عليها. وقال في موضع آخر فبيّن عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف وقت عروجها بالارتفاع صاعدة إليه فقال {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه } فذكر صعودها إليه ووصولها بقوله { إِلَيْه} كقول القائل اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم. وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل. وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو الذي الله تعالى فوقه. وقال تعالى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ولم يقل عنده، وقال فرعون {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ثم استأنف وقال {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } يعني فيما قال أن إلهه فوق السماوات، فبين الله عز وجل أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال له وعمد إلى طلبه حيث قال له مع الظن بموسى أنه كاذب. ولو أن موسى قال إنه في كل مكان بذاته لطلبه في نفسه

 

ص -128-   فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(قول إمام الصوفية في وقته) الإمام العارف أبو عبد الله محمد بن عثمان المكي قال في كتابه " آداب المريدين " والتعرف لأحوال العبادة في باب ما يجيء به الشياطين للتائبين من الوسوسة.
وأما الوجه الثالث الذي يأتي به الناس إذا هم امتنعوا عليه واعتصموا بالله فإنه يوسوس لهم في أمر الخالق ليفسد عليهم أصول التوحيد. وذكر كلاما طويلا إلى أن قال: فهذا من أعظم ما يوسوس به في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتشبيه والتمثيل، أو بالجحد لها والتعطيل، وأن يدخل عليهم مقاييس عظمة الرب بقدر عقولهم فيهلكوا أو يضعضع أركانهم إلا أن يلجأوا في ذلك إلى العلم وتحقيق المعرفة بالله سبحانه من حيث أخبر عن نفسه ووصف به نفسه ووصفه به رسوله، فهو تعالى القائل: أنا الله ـ لا الشجرة ـ الجائي هو لا أمره. المستوي على عرشه بعظمته وجلاله دون كل مكان. الذي كلم موسى تكليما وأراه من آياته عظيما، فسمع موسى كلام الله الوارث لخلقه، السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته وقدرته، وخلق آدم بيده.
ثم ساق كلاما طويلا في السنة، وهو رحمه الله من نظراء الجنيد وأعيان مشايخ القوم توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد.
(قول أبي جعفر الهمداني الصوفي) ذكر محمد بن طاهر المقدسي محدث الصوفية في كتابه عنه أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني وهو يقول: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان عليه. وكلاما من هذا المعنى، فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط ياالله إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسره، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني.
(قول الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني) شيخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة قال في رسالته: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف

 

ص -129-   مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه، والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأن الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق، وأن الله سميع بصير عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال.
(قول الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين الشيخ عبد القادر الجيلاني) قدس الله روحه قال في كتابه " تحفة المتقين وسبيل العارفين " في باب " اختلاف المذاهب في صفات الله عز وجل " وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله {  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّللَّهُ } قال إسحاق في العلم ـ إلى أن قال ـ والله تعالى بذاته على العرش علمه محيط بكل مكان، والوقف عند أهل الحق على قوله " إلا الله " وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش، ويعلم ما في السماوات والأرض ـ إلى أن قال ـ ووقف جماعة من منكري استواء الرب عز وجل على قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وابتدأوا بقوله {اسْتَوَى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه. وهذا خطأ منهم لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته. وقال في كتابه الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد، إلى أن قال، وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش استوى، قال الله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وساق آيات وأحاديث ثم قال وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، ثم قال وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف، هذا نص كلامه في الغنية.
(قول أبي عبد الله بن خفيف الشيرازي) إمام الصوفية في وقته قال في كتابه الذي سماه " اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات " قال في آخر خطبته " فاتفقت أقوال المهاجرين

 

ص -130-   والأنصار في توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه وقدره قولا واحدا وشرطا ظاهرا وهم الذين نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال " عليكم بسنتي " فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذا لم يختلفوا بحمد الله في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر الاختلاف، ثم ذكر حديث يلقى في النار وتقول هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها رجله، وحديث الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، ثم ذكر حديث الصور ـ إلى أن قال ـ ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ـ إلى أن قال ـ ومما نعتقد أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيبسط يديه ويقول: هل من سائل، الحديث، وليلة النصف من شعبان وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك، ونعتقد أن الله يتولى حساب الخلق بنفسه، ونعتقد أن الله خص محمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية واتخذه خليلا.
(قول شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله الأنصاري) صاحب كتاب منازل السائرين والفاروق وذم الكلام وغيره، صرح في كتابه بلفظ الذات في العلو، وأنه استوى بذاته على عرشه، قال ولم تزل أئمة السلف تصرح بذلك، ومن أراد معرفة صلابته في السنة والإثبات فليطالع كتابيه " الفاروق وذم الكلام ".
(قول شيخ الصوفية والمحدثين أبي نعيم صاحب كتاب حلية الأولياء) قال في عقيدته " وإن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء فيقول هل من داع فأستجيب له؛ هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر، ونزول الرب تعالى إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة العارفين على هذا، ثم قال وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فالاستواء معقول والكيف مجهول، وأنه سبحانه بائن من خلقه وخلقه بائنون منه، بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه البائن الفرد من الخلق والواحد الغني عن الخلق. وقال أيضا: طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. وساق ذكر اعتقادهم ثم قال: ومما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه وساق بقيته.

 

ص -131-   (قول الإمام يحيى بن عمار السجزي) شيخ أبي إسماعيل الأنصاري إمام الصوفية في وقته قال في رسالته في السنة بعد كلام: بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قول الله تعالى {  وَهُوَ مَعَكُمْ } ورسالته موجودة مشهورة.

أقوال الشارحين لأسماء الله الحسنى
(قول القرطبي في شرحه) قال: وقد كان الصدر الأول لا ينفون الجهة بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة؛ وخص العرش بذلك دون غيره لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن الكيف بدعة. وكذلك قالت أم سلمة ثم ذكر كلام أبي بكر الحضرمي في رسالته التي سماها " بالإيمان إلى مسألة الاستواء " وحكايته عن القاضي عبد الوهاب أنه استواء الذات على العرش، وذكر أن ذلك قول القاضي أبي بكر بن الطيب الأشعري كبير الطائفة وأن القاضي عبد الوهاب نقله عنه نصا، وأنه قول الأشعري وابن فورك في بعض كتبه. وقول الخطابي وغيره من الفقهاء والمحدثين.
قال القرطبي وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولا، وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار. وقال جميع الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه. هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات.

أقوال أئمة الكلام من أهل الإثبات المخالفين للجهمية والمعتزلة والمعطلة
(قول الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب) إمام الطائفة الكلابية، كان من أعظم أهل الإثبات للصفات والفوقية وعلو الله على عرشه، ومنكرا لقول الجهمية، وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب تعالى وأن القرآن معنى قائم بالذات، وهو أربع معان، ونصر طريقته أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وخالفه في بعض الأشياء، ولكنه على طريقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه، كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه.

 

ص -132-   قال ابن كلاب في بعض كتبه، وأخرج من الأثر والنظر من قال أن الله سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه، حكاه عنه شيخ الإسلام في عامة كتبه الكلامية. وحكى عنه أبو الحسن الأشعري أنه كان يقول أن الله مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء؛ هذا لفظ حكاية الأشعري عنه، وحكى عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من مقالاته في كتاب المجرد، وأخرج من النظر والخبر قول من قال لا هو في العالم ولا خارجه، فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له صفه بالعدم ما قدر أن يقول أكثر من هذا، ورد أخبار الله نصا. وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص والنفي الخالص عندهم هو الاثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون.
قال وإن قالوا هذا انفصاح منكم بخلو الأماكن منه وانفراد العرش به. قيل إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه غير عالم بها فلا، وإن كنتم تريدون خلوه من استوائه عليها كما استوى على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول استوى على العرش ونحتشم أن نقول استوى على الأرض واستوى على الجدار وفي صدر البيت. قال ابن كلاب يقال لهم أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا نعم، قيل لهم ما تعنون بقولكم فوق ما خلق؟ فإن قالوا بالقدرة والعزة، قيل لهم ليس هذا سؤالنا، وإن قالوا المسألة خطأ، قيل لهم أفليس هو فوق؟ فإن قالوا نعم ليس هو فوق، قيل لهم وليس هو تحت، فإن قالوا لا فوق ولا تحت أعدموه، لأن ما كان لا تحت ولا فوق عدم، وإن قالوا هو تحت وهو فوق، قيل لهم فيلزم أن يكون تحت وفوق.
ثم بسط الكلام في استحالة نفي المباينة والمماسة عنه بالعقل، وأن ذلك يلحقه بالعدم المحض. ثم قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته أعلمهم بالأين، واستصوب قول القائل أنه في السماء وشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين بزعمهم ويحيلون القول به، قال ولو كان خطأ لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فتوهمي أنه محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي إنه في كل مكان، لأنه هو الصواب دون ما قلت، كلا فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه من الإيمان، بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق بذلك وشاهد له، ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا خاصة إلا ما ذكرناه من هذه

 

ص -133-   الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في نيته الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدا من الناس، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول أين ربك إلا قال في السماء، أفصح أو أومأ بيده أو أشار بيده أو أشار بطرفه إن كان لا يفصح، ولا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا إذا عنّ له دعاء إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول في كل مكان كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وخمسون رجلا معهم: نعوذ بالله من مضلات الفتن. هذا آخر كلامه.
(قال شيخ الإسلام ابن تيمية) قدس الله روحه: ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب، ومال في أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها، وكان القدماء من أصحاب أحمد، كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون رده على المعتزلة، وأبدى تناقضهم ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لا سيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل بن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري.
قال وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد لما ذكر عقيدة أحمد قال:
وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال والأشعري وأئمة أصحابه كابن الحسن الطبري أبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها.
وليس للأشعري في ذلك قولان أصلا، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين: ولكن لأتباعه قولان في ذلك؛ ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولها في الإرشاد، ورجع عن التأويل في رسالته النظامية وحرمه، ونقل إجماع السلف على تحريمه، وأنه ليس بواجب ولا جائز.

 

ص -134-   (قول أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري) إمام الطائفة الأشعرية، نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات، وما نقله عنه أعظم الناس انتصارا له الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكتاب الذي سماه (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري) ذكر قوله في كتاب الإبانة ذكر في أصول الديانة.
قال أبو القاسم ابن عساكر: إذا كان أبو الحسن مستصوب المذهب عند أهل العلم والمعرفة والانتقاد فوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال:
الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد، وهو المبديء المعيد جل عن اتخاذ الصاحبة والأبناء، وتقدس عن ملامسة النساء، فليس له عزة تنال ولا حد تضرب فيه الأمثال؛ لم يزل بصفاته أولا قديرا ولا يزال عالما خبيرا، سبق الأشياء علمه ونفذت فيها إرادته فلم تعزب عنه خفيات الأمور، ولم يغيره سوالف صروف الدهور، ولم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب ولا مسه لغوب ولا نصب خلق الأشياء بقدرته ودبرها بمشيئته وقهرها بجبروته وذللها بعزته، فذل لعظمته المتكبرون؛ واستكان لعظم ربوبيته المتعظمون. وانقطع دون الرسوخ في علمه الممترون وذلت له الرقاب وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب وقامت بكلمته السماوات السبع واستقرت الأرض المهاد وثبتت الجبال الرواسي وجرت الرياح اللواقح وسار في جو السماء السحاب وقامت على حدودها البحار، وهو إله قاهر يخضع له المتعززون، ويخشع له المترفعون، ويدين طوعا وكرها له العالمون.
نحمده كما حمد نفسه وكما هو أهله ومستحقه؛ ونستعينه استعانة من فوض إليه أمره وأقر أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه. ونستغفره استغفار مقر بذنبه معترف بخطيئته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بوحدانيته وإخلاصا لربوبيته. وأنه العالم بما تبطنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر وما تخفيه النفوس وما تخزن البحار وما تواري الأسراب، وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار.

 

ص -135-   وساق خطبة طويلة بين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ـ إلى أن قال فيها ـ ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله {  تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وكقوله {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ونفوا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا " الخ، وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله تعالى بابا بابا وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد.
(فإن قال لنا قائل) قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون. وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون. لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال. وأوضح به المنهاج. وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين. فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم. وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله. وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا نرد من ذلك شيئا. وإن الله سبحانه وتعالى إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى استوى على عرشه كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن له وجها كما قال تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } وأن له يدين، كما قال تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وكما قال تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى {  تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال تعالى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وكما قال تعالى {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}.
ونثبت لله قوة، كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية.

 

ص -136-   ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فيكون؛ وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله، وأن لا يستغني عن الله ولا نقدر عن الخروج من علم الله؛ وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له، كما قال تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون، كما قال تعالى {  هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } وكما قال تعالى {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وكما قال تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ } وكما قال تعالى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} وهذا في كتاب الله كثير.
وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يلطف بهم ولم يهدهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تعالى { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم؛ وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وإنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، وإنا لتلجيء أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه.
ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين بأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقول أن الكافرين ـ إذا رآهم المؤمنون ـ محجوبون كما قال تعالى {كَلاَِّنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا. وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا. وأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا. ونرى أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه. كالزنا والسرقة وشرب الخمر. كما دانت بذلك الخوارج. وزعموا أنهم بذلك كافرون.

 

ص -137-   ونقول إن من عمل كبيرة من الكبائر وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا إذا كان غير معتقد لتحريمها. ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا. وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه. وأنه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين. ونخاف عليهم أن يكونوا من أهل النار معذبين. ونقول أن الله يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر.
ونقول: إن الحوض والميزان حق. والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين. وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وندين بحب السلف الذي اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم.
ونقول أن الإمام بعد رسول الله أبو بكر وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه. قتله قاتلوه ظلما وعدوانا. ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافتهم خلافة النبوة. ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم، وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون فضلاء مهديون لا يوازيهم غيرهم في الفضل، ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب تعالى يقول: هل من سائل هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتعطيل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، فلا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } وإن الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وكما قال تعالى { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وغيرهما خلف كل بر وفاجر، وكذلك سائر الصلوات الخمس سنة بالجماعات، كما

 

ص -138-   روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأن المسح على الخفين في الحضر والسفر خلافا لمن أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذ ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام، وأن لذلك تأثيرا، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين المؤمنين والدعاء لهم، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك. ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا، وأن السحر كائن موجود في الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم ونوارثهم.
ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل، وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها الله عباده حلالا وحراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } وكما قال تعالى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها عليهم، وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول لهم اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك، وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين. ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا مما بقي منه مما لم نذكره بابا بابا.
قلت ثم ذكر الأبواب إلى أن قال (باب الاستواء) وإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له نقول إن الله مستو على عرشه كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وقال تعالى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } وقال تعالى حكاية عن فرعون {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} كذّب موسى في قوله أن الله فوق السماوات. وقال الله عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السماوات وكان كل ما علا فهو

 

ص -139-   سماء وليس إذا قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات. ألا ترى أنه ذكر السماوات فقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} ولم يرد أنه يملأهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات.
فلولا أن الله تعالى على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. ثم قال ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله تعالى يقولون: يا ساكن العرش. ومن خلفهم يقولون لا والذي احتجب بسبع. وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى {اسْتَوَى} استولى وملك وقهر. وأن الله في كل مكان. وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق. وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض شيء فالله قادر عليها وعلى الحشوش. فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال إن الله مستو على الأشياء كلها. ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال إن الله مستو على الحشوش والأخلية، فبطل أن يكون الاستواء على العرش (استيلاء) ثم بسط الأدلة على هذه المسألة من الكتاب والسنة والعقل، ولولا خشية الإطالة لسقناها بألفاظها.
وقال الأشعري في كتاب الأمالي (باب القول في الأماكن) زعمت البحاومة أن الله بكل مكان على معنى الصنع والتدبير، واختلف أصحاب الصفات في ذلك فقال أبو محمد عبد الله بن كلاب: إن الله لم يزل لا في مكان، وهو اليوم لا في مكان.
وقال آخرون منهم إنه مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه كما قال تعالى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه } وقال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فامتدح نفسه بأنه على العرش استوى، بمعنى أنه علا عليه، وعلمنا أنه لم يزل عاليا رفيعا قبل خلق الأشياء وقبل خلق العرش الذي هو عال عليه سبحانه وبحمده. ذكر كلامه في كتابه الكبير في إثبات الصفات. وقد ذكر ترجمة هذا الكتاب في كتابه الذي سماه العمدة في الرؤية فقال: وألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا على أصناف المعتزلة والجهمية المخالفين لنا في تفيهم علم الله تعالى وقدرته وسائر صفاته، وعلى أبي الهذيل ومعمر النظام وفي فنون كثيرة من فنون الصفات في إثبات الوجه واليدين، وفي إثبات استواء الرب سبحانه على العرش، ثم ساق مضمونه.

 

ص -140-   ذكر كلامه في كتاب جمل المقالات قال: الحمد لله ذي العزة والإفضال والجود والنوال أحمده على ما خص وعم من نعمه وأستعينه على أداء فرائضه، وأسأله الصلاة على خاتم رسله، أما بعد فإنه لا بد لمن أراد معرفة الديانات والتميز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات ويصنعون في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفه، ومن بين متعمد الكذب في الحكاية إذا أراد التشنيع على من يخالفه ومن بين تارك لنقص في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به، وليس هذا سبيل الربانيين ولا سبيل الفطنة المميزين فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما ألتمس شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار، وإنا نبديء شرح ذلك بعون الله وقوته، وساق حكاية مذاهب الناس ـ إلى أن قال ـ هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة.
جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله. وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن الله له يدين بلا كيف كما قال تعالى {لِمَا خَلَقْتُ} وقال تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وأن له وجها كما قال تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} إلى أن قال: وأن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ، من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق، ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا، وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلمه بذلك أن الله لا يرى في الدنيا. ثم ساق بقية قولهم.
وقال في هذا الكتاب. قال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء. وأنه على العرش كما قال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولا نتقدم بين

 

ص -141-   يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف، وأنه نور كما قال تعالى {  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وأن له وجها كما قال تعالى {  وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } وأن له يدين كما قال تعالى {  لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } وأن له عينين كما قال تعالى {  تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى {  وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث. ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى. هذا نص كلامه.
وقال أيضا في الكتاب: وقالت المعتزلة في قول الله عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} يعني استولى، قال وتأولت اليد بمعنى النعمة، وقوله {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بعلمنا.
قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين. قال بعضهم وهو أبو الهذيل (وجه الله) هو الله. وقال غيره: معنى قوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجها. يقال إنه هو الله ولا يقال ذلك فيه. فالأشعري إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية وصرح بخلافه. وأنه خلاف أهل السنة. وكذلك قال محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره تابعا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.
(قول القاضي أبي بكر الطيب الباقلاني الأشعري) قال في كتاب التمهيد في أصول الدين، وهو من أشهر كتبه: فإن قال قائل: فهل تقولون أن الله في كل مكان. قيل معاذ الله بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه فقال عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْض} ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفي فمه وفي الحشوش وفي المواضع التي يرغب عن ذكرها، تعالى الله عن ذلك، ولو كان في كل مكان لوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه. وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان واضحا، وأن يرغب إليه نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
ثم قال في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} المراد أنه إله

 

ص -142-   عند أهل السماء وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب: فلان نبيل مطاع في المصرين، أي عند أهلهما. وليس يعنون أن ذات المذكور بالحجاز والعراق موجودة. وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } يعني بالحفظ والنصر والتأييد ولم يرد أن ذاته معهم تعالى. وقوله تعالى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} محمول على هذا التأويل، وقوله تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} يعني أنه عالم بهم وبما خفي من سرهم ونجواهم.
وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن فلذلك لا يجوز أن يقال قياسا على هذا أن الله بالبردان ومدينة السلام ودمشق، وأنه مع الثور والحمار، وأنه مع الفساق والمهان ومع المصعدين إلى الحلوان قياسا على قوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} فوجب أن يكون التأويل على ما وصفناه، ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشاعر:قد استوى بشر على العراق.
لأن الاستيلاء والقدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا، وقوله { ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه ثم قال (باب) فإن قال قائل: ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله لأعرف ذلك، قيل له: صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والارادة والبقاء والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا؛ وصفات فعله هي الخلق والرزق والعدل والإحسان والتفضل والإنعام والثواب والعقاب والحشر والنشر، وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها.ثم ساق الكلام في الصفات:
ذكر قوله في كتاب الإبانة له.
ذكر صفة الوجه واليدين والعينين وأثبتها كما ذكر في التمهيد. ثم قال: فإن قال قائل فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، ثم ذكر الأدلة على ذلك نقلا وعقلا قريبا مما ذكر في التمهيد، وقال في هذا الكتاب أيضا: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا.

 

ص -143-   ذكر قوله في رسالة الحيرة، قال في كلام ذكره في الصفات: وأن له وجها ويدين، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ثم قال: وإنه استوى على عرشه فاستولى على خلقه، ففرق بين الاستواء الخاص والاستيلاء العام.
(قول الحسين بن أحمد الأشعري) المتكلم من متكلمي أهل الحديث صاحب جامع الكبير والصغير في أصول الدين. قال في جامعه الصغير:
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى على العرش بذاته؟ قلنا قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}فإن قالوا فإن العرب يقولون استوى فلان على بلد كذا وكذا استولى عليه وقهر، قلنا لأصحابنا عن هذا أجوبة:
أحدها: أنه لو كان استوى بمعنى استولى لم يكن لتخصيصه العرش بالاستواء معنى لأنه مستول على كل شيء غيره، فكان يجوز أن يقال الرحمن على الجبل استوى، وهذا باطل.
الثاني: إن العرب لا تدخل ثم إلا لمستقبل سيكون، والله تعالى لم يزل قاهرا قادرا مستوليا على الأشياء، فلم يكن بزعمهم لقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} معنى.
الثالث: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء لا يكون عند العرب إلا بعد أن يكون ثم مغالب يغالبه، فإذا غلبه وقهره قيل قد استولى عليه؛ فلما لم يكن مع الله مغالب لم يكن معنى استوائه على عرشه استيلاء وغلبة وصح أن استواءه عليه هو علوه وارتفاعه عليه بلا حد ولا كيف ولا تشبيه، ثم ذكر قول الخليل بن أحمد وابن الأعرابي أن الاستواء في اللغة هو العلو والرفعة لأنهم يقولون استوت الشمس إذا تعالت. واستوى الرجل على ظهر دابته إذا علاها وقوله تعالى {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أي ارتفعت عليه، وقوله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ارتفع عن حال النقصان إلى حال الكمال. وقوله استوى أمر فلان أي ارتفع وعلا عن الحال التي كان عليها من الضعف وسوء الحال. وساق الكلام.
(ذكر قول الإمام فخر الدين الرازي) في آخر كتابه، وهو كتاب أقسام اللذات الذي صنفه في آخر عمره، وهو كتاب مفيد ذكر فيه أقسام اللذات وبين أنها ثلاثة أقسام: كالأكل والشرب والنكاح واللباس، واللذة الخيالية الوهمية. كلذة الرياسة والأمر والنهي والترفع ونحوها، واللذة العقلية، كلذة العلوم والمعارف، وتكلم على كل واحد من هذه الأقسام إلى أن قال:

 

ص -144-   وأما اللذة العقلية فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها، فلهذا السبب نقول ياليتنا بقينا على العدم الأول وياليتنا ما شهدنا هذا العالم، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن. وفي هذا المعنى قلت:

نهاية أقدام العقول عقال  وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا  سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وكم قد رأينا من رجال ودولة  فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها    رجال فزالوا والجبال جبال

واعلم أن بعد التوغل في هذه المضايق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل فاقرأ في التنزيه قوله تعالى {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } وقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} واقرأ في الإثبات قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وقوله تعالى {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه } وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الآية. وعلى هذا القانون فقس. وختم الكتاب.
(قول متكلم السنة إمام الصوفية في وقته أبي العباس أحمد بن محمد المظفري) المختار الرازي صاحب كتاب (فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات) وهو على صغر حجمه كتاب جليل غزير العلم، قال فيه بعد حكاية مذاهب الناس: وقالت الحنابلة وأصحاب الظواهر والسلف من أهل الحديث: إن الله على العرش ثم قال: أما حجة المثبتين فمن حيث الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول، ثم ذكر حجج القرآن والسنة ثم حكى كلام الصحابة إلى أن قال:
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا؛ واختلافهم في الرؤية تلك الليلة اتفاق منهم على أن الله على العرش، لأن المخالفين لا

 

ص -145-   يفرقون بين الأرض والسماء بالنسبة إلى ذاته، وهم فرقوا حيث اختلفوا في أحدهما دون الآخر.
قلت: مراده أنهم إنما اختلفوا في رؤيته لربه ليلة أسري به إلى عنده فجاوز السبع الطباق، ولولا أنه على العرش لكان لا فرق في الرؤية نفيا ولا إثباتا في تلك الليلة وغيرها. ثم قال: وأما المعقول فمن وجوه خمسة: أحدهما: إطباق الناس كافة وإجماع الخلق عامة من الماضين والغابرين والمؤمنين والكافرين على رفع الأيدي إلى السماء عند السؤال والدعاء بخلاف السجود، فإنه تواضع متعارف بخلاف التوجه إلى الكعبة، فإنه تعبد غير معقول، أما رفع الأيدي بالسؤال نحو المسؤول فأمر معقول متعارف. قال ومن نظر في قصص الأنبياء وأخبار الأوائل القدماء وأنباء الأمم الماضية والقرون الحالية اتضحت له هذه المعاني واستحكمت له هذه المباني، ثم قرر العلو وساق شبه النفاة ونقضها نقض من يقلع غروسها كل القلع؛ رحمه الله تعالى.

قول شعراء الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم
(قول حسان بن ثابت) شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن عثمان الحافظ بن حبيب بن أبي ثابت عن حسان أنه أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعرا:

شهدت بإذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يقول بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أشهد" وقال حسان أيضا في قصيدته الدالية في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرا:

ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله   فذو العرش محمود وهذا محمد

أغر عليه للنبوة خاتم  من الله ميمون يلوح ويشهد

(قول عبد الله بن رواحه) قال أبو عمر بن عبد البر: صح عن عبد الله بن رواحه أن

 

ص -146-   امرأته رأته مع جاريته فذهبت لتأخذ سكينا فقال ما فعلت؟ فقالت بلى قد رأيتك، قالت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قراءة القرآن، قالت فاقرأ فقال شعرا:

شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف  وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة كرام    ملائكة الإله مسومينا

فقالت: صدق الله وكذب بصري، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فضحك حتى بدت نواجذه. قال محمد بن عثمان الحافظ: رويت هذه القصة من وجوه صحاح عن ابن رواحة.
(قول العباس بن مرداس السلمي، قال عوانة بن الحكم: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك مر بهم عدي بن أرطاة فدخل على عمر فقال: الشعراء ببابك يا أمير المؤمنين، فقال ويحك مالي وللشعراء؟ قال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد امتدح فامتدحه العباس بن مرداس الأسلمي فأعطاه حلة. قال أو تروي من شعره شيئا؟ قال نعم. فأنشده عدي بن أرطأة قوله للنبي صلى الله عليه وسلم:

رأيتك يا خير البرية كلها   نشرت كتابا جاء بالحق معلما

شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا    عن الحق لما أصبح الحق مظلما

تعالى علوا فوق سبع إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما

(قول لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك العامري الشاعر) أحد شعراء الجاهلية والإسلام، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن شعره:

لله نافلة الأجل الأفضل   وله العلى وأثبت كل مؤثل

لا يستطيع الناس محو كتابه  إني وليس قضاؤه بمبدل

سوى بحكمته السماء وعرشه  سبعا طباقا دون فرع المعقل

والأرض تحتهم مهادا راسيا ثبتت جوانبها بصم الجندل

ذكر ما أنشد النبي من شعر أمية بن أبي الصلت الذي شهد لشعره بالايمان ولقلبه بالكفر.

مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا

 

 

ص -147-   بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق  وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا ما يناله بصر العين ترى دونه الملائك صورا

شرجعا أي طويلا، وصورا جمع أصور وهو المائل العنق، ومن شعره قوله في داليته المشهورة. ذكر ابن عبد البر وغيره شعره:

لك الحمد والنعماء والملك ربنا  فلا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

عليه حجاب النور والنور حوله وأنهار نور حوله تتوقد

فلا بشر يسمو إليه بطرفه ودون حجاب النور خلق مؤيد

وفيها وصف الملائكة:

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد

ذكر القصة التي أنشدها إسماعيل بن فلان الترمذي للإمام أحمد في محبسه. قال إبراهيم ابن إسحاق العلي: أخذت هذه القصة من أبي بكر المروزي. وذكر أن إسماعيل بن فلان الترمذي قالها وأنشدها أحمد بن حنبل رحمه الله وهو في السجن:

تبارك من لا يعلم الغيب غيره ومن لم يزل يثنى عليه ويذكر

علا في السماوات العلى فوق عرشه  إلى خلقه في البر والبحر ينظر

سميع بصير لا نشك مدبر ومن دونه عبد ذليل مدبر

يدا ربنا مبسوطتان كلاهما تسحان والأيدي من الخلق تقتر

وساق القصيدة وهي من أحسن القصائد لم ينكرها أحد من أهل الحديث. بل أثنوا على قائلها ومدحوه.
(قول حسان السنة في وقته) المتفق على قبوله الذي سار شعرة مسيرة الشمس في الآفاق واتفق على قبوله الخاص والعام أي اتفاق، ولم يزل ينشد في المجامع العظام ولا ينكر عليه أحد من أهل الإسلام يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور الصرصري الأنصاري الإمام في اللغة والفقة والسنة والزهد والتصوف، قال في العينية التي أولها شعرا:

تواضع لرب العرش علك ترفع فقد فاز عبد للمهيمن يخضع

 

ص -148-   وداو بذكر الله قلبك إنه  لأعلى دواء للقلوب وأنفع

وخذ من تقى الرحمن أمنا وعدة   ليوم به غير التقى مروع

إلى أن قال:

سميع بصير ما له في صفاته شبيه يرى من فوق سبع ويسمع

قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه    ومن علمه لم يخل في الأرض موضع

وقال في لاميته التي أولها:

ويوم ينادى العالمين فيسمع    الأقصى كدان في المقال المطول

أنا الملك الديان والنقل ثابت  فهل ههنا ينساغ تأويل جهل

وينظره أهل البصائر في غد   بأبصارهم لا ريب فيه لمجتلي

كما ينظرون الشمس ما حال دونها   سحاب ألا بعدا لأهل التعزل

توحد فوق العرش والخلق دونه   واحكم ما سواه أحكام مكمل

وقال في قصيدته التي أولها:

أسير وقلبي في هواك أسير   فهل لي من جور الفراق مجير

وأستجلب السلوى وفي القلب حسرة   فيرتد عند الطرف وهو حسير

وما ذاك إلا أن فيك لناظري مدا غصن غض النبات نضير

إذا ما تجلى سافرا فجماله   إلى القلب من جيش الغرام سفير

إذا ما اجتمعنا فالتقى الشمل فالتقى   رقيب علينا والعقاب غفور

توكد عقد الود بيني وبينه اعتقاد عليه للهداية نور

كلانا محب للإمام ابن حنبل  لأسيافنا في شانئيه هبير

إلى أن قال:

نقر بأن الله جل جلاله    سميع لأقوال العباد بصير

ويطوي السماوات العلى بيمينه وذلك في وصف القوى يسير

وخاطب موسى بالكلام مكلما فخر صريعا إذ تقطع طور

وخط له التوراة فيها مواعظ  فلاحت على الألواح منه زبور

 

ص -149-   وإن قلوب الخلق بين أصابع   الاله فمنها ثابت ونفور

ونثبت في الأخرى لرؤية ربنا حديثا رواه في الصحيح جرير

وأي نعيم في الجنان لأهلها وأنى لهم لو لم يروه سرور

إلى أن قال:

ونؤمن أن العرش من فوق سبعة تطوف به أملاكه وتدور

قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه    تقدس كرسي له وسرير

هو الله ربي في السماء محجب وليس كمخلوق حوته قصور

إليه تعالى طيب القول صاعد وينزل منه بالقضاء أمور

لقد صح إسلام الجويرية التي  بأصبعها نحو السماء تشير

وقال رحمه الله في قصيدته المنامية التي يقول فيها:

رأيت رسول الله في النوم مرة فقبلته من فيه تقبيل مشتاق

ولو أنني أوتيت رشدي نائما   لقبلت ممشاه الكريم بإماقي

فبشرني منه بأزكى شهادة بها جبر كسري يوم فقري وإملاقي

بموت سعيد في كتاب وسنة  وأنى لبشراه شراسة أخلاقي

وها أنا ذا والحمد لله وحده    مقر لبشراه بأثبت مصداق

بأني على حسن اعتقاد ابن حنبل مقيم وإن قام العدى لي على ساق

أقر بأن الله من فوق عرشه  يقدر آجالا ويقضي بأرزاق

سميع بصير ليس شيء كمثله   قديم الصفات الواحد الأحد الباقي

أمر أحاديث الصفات كما أتت    أتابع فيها كل أزهر سباق

ولست إلى التشبيه يوما بجانح ولا قائل تأويل أشد مهاق

وقال رحمه الله في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي رضي الله عنه أولها:

أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل  بأني حرب للعدى غير أفكل

تشن عليهم غيرتي وحميتي لدين الهدى غارات أشوس مقبل

فوقع قريضي في صميم قلوبهم   أشد عليهم من سنان ومنصل

أفوق عليهم حين أنظر نحوهم  مقاتل تصمي منهم كل مقتل

 

ص -150-   هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي مهالك من تحريفهم والتأول

لقد بريء الحبر ابن إدريس منهم  براءة موسى من يهود محول

ويعقد عند الشافعي يمين من  غدا حالفا بالمصحف المتقبل

فهذا دليل منه إذ كان لا يرى انعقادا بمخلوق لخلق مؤبل

ومذهبه في الاستواء كمالك   وكالسلف الأبرار أهل التفضل

ومستويا بالذات من فوق عرشه ولا تقل استولى فمن قال يبطل

فذلك زنديق يقابل قسوة لذي خطل راوي لعيب ومعطل

وقد بان منه خلقه وهو بائن  من الخلق محض للخفي مع الجلي

وأقرب من حبل الوريد مفسرا   وما كان معناه به العلم فاعقل

علا في السماء الله فوق عباده دليلك في القرآن غير مقلل

وإثبات إيمان الجويرية اتخذ دليلا عليه مسند غير مرسل

وقال رحمه الله في قصيدته اللامية يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث أولها:

أطع الهدى لا ما يقول العذل فالحب ذو مر يجور ويعدل

واتبع لسلمى ما استطعت مسلما  فالحسن ينصرها وصبرك يخذل

بيضاء دون مرامها لمحبها   بيض الصوارم والرماح الذبل

تخفى فيعرفها الوشاة بعرفها وتضيء والأظلام ستر مسبل

تضحى الدماء بحورها هدرا وهل يخفى قصاص القتل طرف أكحل

كيف البقاء لعاشق أودى به  سهم اللحاظ وقد أصيب المقتل

نبذ الكتاب وراء ظهر واقتدى   شيخ الضلالة للصفات يعطل

وعقيدة الملعون أن المصحف  المكنون منبوذ تطؤه الأرجل

ما قالت الكفار مثل مقاله وكذا النصارى واليهود الضلل

آل الجحود به إلى واد لظى   للغاية السفلى فبئس الموئل

وزعمت أن الحنبلي مجسم حاشا لمثل الحنبلي يمثل

بل يورد الأخبار إذ كانت تصححها الرواة عن الثقات وتنقل

إن المهيمن ليس تمضي ليلة إلا وفي الأسحار فيها ينزل

قد قالها خير الورى في صحبه لم ينكروا هذا ولم يتأولوا

 

ص -151-   وتقبلوها مع غزارة علمهم  أفأنت أم تلك العصابة أعقل

وقال رحمه الله في داليته التي أولها:

واها لفرط حرارة لا تبرد  ولواعج بين الحشا تتوقد

في كل يوم سنة مدروسة بين الأنام وبدعة تتجدد

صدق النبي ولم يزل متسربلا بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد

إذ قال يفترق الضلال ثلاثة   زيدت على السبعين قولا يسند

وقضى بأسباب النجاة لفرقة   تسعى بسنة مهتدين وتحفد

فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة فاقبل مقالة ناصح يتقلد

إياك والبدع المضلة إنها   تهدي إلى نار الجحيم وتورد

وعليك بالسنن المنيرة فاقفها   فهي المحجة والطريق الأقصد

فالأكثرون بمبدعات عقولهم نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا

منهم أناس في الضلال تجمعوا وبسب أصحاب النبي تفردوا

قد فارقوا جمع الهدى وجماعة  الإسلام واجتنبوا الهدى وتمردوا

بالله يا أنصار دين محمد نوحوا على الدين الحنيف وعددوا

لعبت بدينكم الروافض جهرة  وتألبوا في دحضه وتحشدوا

نصبوا حبائلهم بكل بلية   وتغلظوا في المعضلات وشددوا

ورموا خيار الخلق بالكذب الذي هم أهله لا من رموه وأفسدوا

عابوا الصحاب وهم أجل مراتبا   في الفخر من أفق السماء وأمجد

ولرتبة الصديق جف لسانهم  يبغون وهي من التناول أبعد

أو ما هو السباق في عرف العلى ولقد زكى من قبل منه المحتد

ولقد أشار بذكره رب العلى   فثناؤه في المكرمات مسدد

نطق الكتاب بمجده الأعلى ففي   آي الحديد مناقب لا تنفد

 

ص -152-   لا يستوي منكم وفيها مقنع والليل يثبت فضله ويؤكد

وبراءة تثنى بصحبته وهل يزري على الصديق إلا ملحد

أو ما هو الأتقى الذي استولى   على الاخلاص طارف ماله والمتلد

لما مضى لسبيله خير الورى   وحوى شمائله صفيح ملحد

منع الأعاريب الزكاة لفقده وارتد منهم حائر متردد

وتوقدت نار الضلال وخالطت   إبليس أطماع كوامن رصد

فرمى أبو بكر بصدق عزيمة   وثبات إيمان ورأي يحمد

فتمزقت عصب الضلال وأشرقت شمس الهدى وتقوم المتأود

وهو الموفق للصواب كأنما  ملك يصوب قوله ويسدد

بوفاقه آي الكتاب تنزلنا   وبفضله نطق المشفع أحمد

لو كان من بعدي نبيا كنته    خبرا صحيحا في الرواية يسند

وبعدله الأمثال تضرب في الورى  وفتوحه في كل قطر توجد

وتمام فضلها جوار المصطفى   في تربة فيها الملائك تحشد

وتعمقوا في سب عثمان الذي  ألفاه كفوا لابنتيه محمد

ولبيعة الرضوان مد شماله  عوض اليمين وهي منه أوكد

وحباه في بدر بسهم مجاهد    إذ فاته بالعذر ذاك المشهد

من هذه من بعض غر صفاته ما ضره ما قال فيه الحسد

ثم ادعوا حب الإمام المرتضى هيهات مطلبهم عليهم يبعد

إني وقد جحدوا الذين بفضلهم  أثني أبو الحسن الإمام السيد

ما في علاه مقالة لمخالف   فمسائل الاجماع فيه تعقد

ولنحن أولى بالإمام وحبه عقد ندين به الاله مؤكد

وولاؤه لا يستقيم ببغضهم واضرب لهم مثلا يغيظ ويكمد

 

ص -153-   مثل الذي جحد ابن مريم وادعى  حب الكليم وتلك دعوى تفسد

ويقذف عائشة الطهور تجشموا   أمرا تظل له الفرائض ترعد

تنزيهها في سبع عشرة آية  والرافضي بضد ذلك يشهد

لو أن أمر المسلمين إليهم  لم يبق في هذي البسيطة مسجد

ولو استطاعوا لا سعت بمرامهم   قدم ولا امتدت بكفهم يد

لم يبق للإسلام ما بين الورى علم يسود ولا لواء يعقد

علقوا بحبل الكفر واعتصموا به   والعالقون بحبله لم يسعدوا

وأشدهم كفرا جهول يدعي علم الأصول وفاسق متزهد

فهموا وإن وهنوا أشد مضرة  في الدين من فأر السفين وأفسد

وإذا سألت فقيههم عن مذهب    قال اعتزال في الشريعة يلحد

كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى منها ففر إلى جحيم يوقد

إن المقال بالاعتزال لخط   عمياء حل بها الغواة المرد

هجموا على سبل الهدى بعقولهم   ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا

صم إذا ذكر الحديث لديهم نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا

واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت  أسدالعرين فهن منهم شردوا

إلى أن قال

والجاحد الجهمي أسوا منهما حالا وأخبث في القياس وأفسد

أمسى لرب العرش قال منزها من أن يكون عليه رب يعبد

ونفي القرآن برأيه والمصحف  الأعلى المطهر عنده يتوسد

وإذا ذكرت له على العرش استوى    قال هو استولى يحيل ويخلد

فإلى من الأيدي تمد تضرعا   وبأي شيء في الدجى يتهجد

ومن الذي هو للقضاء منزل   وإليه أعمال البرية تصعد

وبما ينزل جبرئيل مصدقا  ولأي معجزة الخصوم تبلد

ومن الذي استولى عليه بقهره إن كان فوق العرش ضد أيد

جلت صفات الحق عن تأويلهم   وتقدست عما يقول الملحد

لما نفوا تنزيهه بقياسهم  ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد

 

ص -154-   ويقول لا سمع ولا بصر ولا    وجه لربك ذي الجلال ولا يد

من كان هذا وصفه لإلهه  فأراه للأصنام سرا يسجد

الحق أثبتها بنص كتابه ورسوله وغدا المنافق يجحد

فمن الذي أولى بأخذ كلامه   جهم أم الله العلي الأمجد

والصحب لم يتأولوا لسماعها   فهم إلى التأويل أم هو أرشد

هو مشرك ويظن جهلا أنه في نفي أوصاف الاله موحد

يدعو من اتبع الحديث مشبها هيهات ليس مشبها من يسند

لكنه يروي الحديث كما أتى   من غير تأويل ولا يتردد

وإذا العقائد بالضلال تخالفت فعقيدة المهدي أحمد أحمد

هي حجة الله المنيرة فاعتصم   بحبالها لا يلهينك مفسد

إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى  ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا

ما زال يقفو راشدا أثر الهدى ويروم أسباب النجاة ويجهد

حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة ما فوقها لمن ابتغاها مصعد

نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل  في فتنة نيرانها تتوقد

ما صده ضرب السياط ولا ثنى  عزماته ماضي الغرار مهند

فهناه حب ليس فيه تعصب  لكن محبة مخلص يتودد

وودادنا للشافعي ومالك  وأبي حنيفة ليس فيه تردد

وهذا باب واسع جدا لا يتسع لذكره مجلد كبير، ويكفي أن شعراء الجاهلية مقرة به على فطرتهم الأولى كما قال عنترة في قصيدته:

يا عبل أين من المنية مهربي  إذ كان ربي في السماء قضاها

(ذكر أقوال الفلاسفة المتقدمين والحكماء الأولين) فإنهم كانوا مثبتين لمسألة العلو والفوقية مخالفين لأرسطو وشيعته، وقد نقل ذلك أعلم الناس بكلامهم وأشهرهم اعتناء بمقالاتهم ابن رشد الحفيد. قال في كتابه مناهج الأدلة (القول في الجهة) وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله. فظواهر الشرع كلها تقتضي إثباتها لله تعالى مثل قوله سبحانه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ

 

ص -155-   وَالأَرْضَ} وقوله تعالى {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقوله تعالى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } وقوله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} وقوله { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله متأولا.
فإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى.
قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله وملائكته في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفسها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة توجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية.
قال ونحن نقول أن هذا كله غير لازم، فالجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إما سطوح نفس الجسم المحيط به هيئة، وبهذا نقول أن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا.
وأما سطوح جسم آخر يحيط بالجسم من الجهات الست، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم أصلا. وأما سطوح الجسم المحيط به فهي له مكان مثل سطوح الهوى المحيط بالإنسان وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهوى هي أيضا مكان الهوى. وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
وأما سطح الفلك الخارج فقد برهن أنه ليس بخارجة جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج فلك الجسم أيضا جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية. فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم يمتنع وجوده، فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو ما ظنه القوم، وهو موجود وهو جسم لا موجود ليس بجسم، وليس لهم أن يقولوا أن خارج العالم خلاء، وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيء أكثر من الأبعاد، ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن رفعت الأبعاد عنه عاد عدما؛ وإن أنزل الخلاء لخلاء موجود لزم أن تكون

 

ص -156-   أعراض موجودة في غير جسم، وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك هو مسكن الروحانيين ويريدون الله والملائكة. وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يجوز أن يحويه زمان. وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ذلك غير فاسد ولا كائن.
وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله. وذلك أنه إذا لم يكن ها هنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو المعدوم وكان من المعروف بنفسه أن الموجود بنفسه إنما ينسب إلى الوجود إلى الجزء الأشرف، وأشرف هذا الجزء قول الله تعالى {  لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم قال فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وأثنى عليه، فإن إبطال هذه القواعد إبطال للشرائع، ثم ساق تقرير ذلك إلى آخره، فهذا كلام فيلسوف الإسلام الذي هو أخبر بمقالات الفلاسفة والحكماء وأكثر إطلاعا عليها من ابن سينا ونقلا لمذاهب الحكماء، وكان لا يرضى بنقل ابن سينا ويخالفه نقلا وبحثا.
(ذكر قول الجن المؤمنين المثبتين) قال الله تعالى {  قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } وقال في آية أخرى حكاية عنهم لما ولوا إلى قومهم منذرين {  قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } فأخبروا أنه يهدي إلى الرشد وإلى الحق. وأعظم الرشد والحق الذي يهدي إليه معرفة الله سبحانه وتعالى وإثبات صفاته وعلوه على خلقه ومباينته لهم، إذ بذلك يتم الاعتراف له وإثباته. ونفي ذلك نفي له ولصفاته، وكذلك سمعه المؤمنون الصادقون منهم كما قال أبو بكر الخطيب في تاريخه: حدثني عبد الله بن علي بن محمد القرشي حدثني عبد الله بن إبراهيم بن أيوب حدثنا أبو محمد بن ماسي قال حدثني أبو مسلم الكجي قال: خرجت يوما فإذا الحمام قد فتح سحرا فقلت للحمامي أدخل أحد الحمام؟ قال لا فدخلت فساعة فتحت الباب قال لي قائل: يا أبا مسلم أسلم تسلم ثم أنشأ يقول:

لك الحمد إما على نعمة  إما على نقمة تدفع

 

ص -157-   تشاء وتفعل ما شئته  وتسمع من حيث لا يسمع

فبادرت فخرجت وأنا جزع وقلت للحمامي: أليس زعمت أنه ليس في الحمام أحد؟ قال لي هل سمعت شيئا؟ قال فأخبرته بما كان، فقال إن ذلك جني يقرئنا في كل حين وينشدنا الشعر، فقلت هل عندك من شعره شيء؟ قال نعم فأنشدني:

أيها المذنب المفرط مهلا   كم تمادى وتكسب الذنب جهلا

كم وكم تسخط الجليل بفعل سمج وهو يحسن الصنع فضلا

كيف تهدأ جفون من ليس يدري أرضي عنه من على العرش أم لا

وروينا في الغيلانيات عن ابن عبد الله بن الحسن المصيصي قال: دخلت طرطوس فقيل لي: ههنا امرأة رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتها فإذا امرأة مستلقية على ظهرها، فقلت: رأيت أحدا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم. حدثني عبد الله بن سمح قال قلت يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال كان في نور.
(ذكر قول النمل) قال الله تعالى {  وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ } إلى قوله {  فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا } فأخبر الله سبحانه عن النمل أنه ركب فيه مثل هذا الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في هذا الخطاب بين النداء والتعيين والتنبيه والتخصيص والأمر وإضافة المساكن إلى أربابها والتجائهم إلى مساكنهم فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب وأعذب لفظ، ولذلك حمل سليمان عليه السلام التعجب من قولها على التبسم، وأحرى بهذه النملة وأخواتها من النمل أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية، وقد دل هذا على ما رواه الطبراني في معجمه قال:
حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن سليمان عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة أحد قوائمها تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع قال حدثنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي

ص -158-   قال خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي بالناس فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة أحد قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا أو تهلكنا، قال سليمان عليه السلام للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. ورواه الطحاوي والطبراني أيضا من حديث أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك. اللهم فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. هذا لفظ رواية الطبراني ولفظ الطحاوي: فإذا هو بنملة قائمة على رجلها رافعة يديها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم. فقال سليمان لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ورواه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:خرج نبي من الأنبياء يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة يديها إلى السماء تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم.
وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد أنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه، فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد، فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت. وذكر شيخ الإسلام الهروي بإسناده عن عبد الله بن وهب قال: أكرموا البقر فإنها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عبد العجل حياء من الله عز وجل. وقد روي مرفوعا عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن أبي هند عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكرموا البقر فإنها سيدة البهائم، ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من الله عز وجل منذ عبد العجل ".
قلت ولا يثبت رفعه فإن أبا هند مجهول.
والمقصود أن هذه فطرة الله التي فطر عليها الحيوان حتى أبلد الحيوان الذي نضرب ببلادته المثل وهو البقر.

 

ص -159-   فصل
ولعل قائلا يقول: كيف يحتج علينا في هذه المسألة بأقوال من حكيت قوله ممن ليس قوله حجة فاجلب بها، ثم لم تقنع بذلك حتى حكيت أقوال الشعراء ثم لم يكفك ذلك حتى جئت بأقوال الجن، ثم لم تقتصر حتى استشهدت بالنمل وحمر الوحش، فأين الحجة في ذلك كله؟
وجواب هذا القائل أن نقول: قد علم أن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وسائر أنبيائه عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم ليس حجة عندكم في هذه المسألة، إذ غاية أقوالهم أن تكون ظواهر سمعية، وأدلة لفظية معزولة عن الثقة، متواترها يدفع بالتأويل، وآحادها يقابل بالتكذيب، فنحن لم نحتج عليكم بما حكيناه وإنما كتبناه لأمور منها: أن يعلم بعض ما في الوجود ويعلم الحال من هو بها جاهل ومنها: أن نعلم أن أهل الإثبات أولى بالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الإسلام وطبقات أهل العلم والدين من الجهمية والمعطلة ومنها: أن نعرف الجهمي النافي لمن خالف من طوائف المسلمين وعلى من شهد بالتشبيه والتمثيل، وعلى من استحل بالتكفير وعرض يفترق من الأمة.
ومنها أن نعرف عساكر الإسلام والسنة وأمراءها، وعساكر البدع والتجهم ليتحيز المقاتل إلى إحدى الفئتين على بصيرة من أمره، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، وأن الله لسميع عليم.
ومنها أن نعرف الجهمي النافي لمن قد بارز بالعداوة وبغي الغوائل وأسعر نار الحرب، ونصب القتال، أفيظن أفراج المعتزلة ومخانيث الجهمية ومقلدو اليونان أن يضعوا لواء رفعه الله تعالى. وينكسوا علما نصبه الله ويهدموا بناءا شاده الله ورفعه، ويقلقلوا جبالا راسيات شادها وأرساها، ويطمسوا كواكب نيرات أنارها وأعلاها. هيهات هيهات بئسما منتهم أنفسهم لو كانوا يعقلون. ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعملون.يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ولو شئنا لأتينا على هذه المسألة بألف دليل. ولكن هذه نبذة يسيرة وجزء قليل من كثير لا يقال له قليل. ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له سبيلا.
تم بعون الله و توفيقه 

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق