الاثنين، 5 سبتمبر 2022

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد {من اول كتاب الطلاق الي حديث323}

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد {من اول كتاب الطلاق الي حديث323}


كتاب الطلاق 

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ ، فَتَطْهُرَ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } . وَفِي لَفْظٍ { حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً ، سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا } . وَفِي لَفْظٍ { فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .

 

الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ لِلْحَدِيثِ وَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ لِيُعَرِّفَهُ الْحُكْمَ " وَتَغَيُّظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إمَّا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي الْمَنْعَ كَانَ ظَاهِرًا ، وَكَانَ يَقْتَضِي الْحَالُ التَّثَبُّتَ فِي الْأَمْرِ ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي الْأَمْرُ الْمُشَاوِرَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لِيُرَاجِعْهَا " صِيغَةُ أَمْرٍ ، مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَعِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْوُجُوبِ وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى الرَّجْعَةِ إذَا طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ عِنْدَهُ وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الْمَنْعِ لِلطَّلَاقِ إلَى أَنْ تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ " حَتَّى " لِلْغَايَةِ وَقَدْ عُلِّلَ تَوَقُّفُ الْأَمْرِ إلَى الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضَةِ الْأُولَى ، لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْضُوعَهَا إنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الطُّهْرِ : اسْتَمَرَّتْ الْإِبَاحَةُ فِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ دَوَامُ مُدَّةِ الِاسْتِبَاحَةِ مَعَ الْمُعَاشَرَةِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ فَيَمْتَنِعُ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ، لِأَجْلِ الْوَطْءِ فِيهِ وَفِي الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِدَوَامِ الْعِشْرَةِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَلَّلَ امْتِنَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ . فَإِنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ لَا تُحْسَبُ مِنْ الْعِدَّةِ فَيَطُولَ زَمَانُ التَّرَبُّصِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَلِّلْ بِذَلِكَ ، وَرَأَى الْحُكْمَ مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْحَيْضِ وَصُورَتِهِ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا مَا إذَا قُلْنَا : إنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ ، فَطَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ الْوَاقِعِ فِي الْحَمْلِ فَمَنْ عَلَّلَ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ : لَمْ يُحَرِّمْ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ هَهُنَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَمَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى صُورَةِ الْحَيْضِ : مَنَعَ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ : تَرْجِيحُ الْمَنْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْزَمَ الْمُرَاجَعَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ ، وَلَا سُؤَالٍ عَنْ حَالِ الْمَرْأَةِ : هَلْ هِيَ حَامِلٌ ، أَوْ حَائِلٌ ؟ وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مِثْلِ هَذَا : يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْمَقَالِ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأُصُولِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُضَعَّفُ هَهُنَا هَذَا الْمَأْخَذُ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ لِنُدْرَةِ الْحَيْضِ فِي الْحَمْلِ . وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ : مَا إذَا سَأَلَتْ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ : هَلْ يَحْرُمُ طَلَاقُهَا فِيهِ ؟ فَمَنْ مَالَ إلَى التَّعْلِيلِ بِطُولِ الْمُدَّةِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمَرْأَةِ : لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الضَّرَرِ . وَمَنْ أَدَارَ الْحُكْمَ عَلَى صُورَةِ الْحَيْضِ : مَنَعَ . وَالْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى . وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا مَا قِيلَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ فِيهِمَا بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سُؤَالِ الطَّلَاقِ وَعَدَمُ الْحَمْلِ . وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ ، هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ " مُرْهُ فَأَمَرَهُ بِأَمْرِهِ " وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الطَّلَبِ . وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ لَوَازِمَ صِيغَةِ الْأَمْرِ : هَلْ هِيَ لَوَازِمُ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُمَا : هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، أَمْ لَا ؟ . وَفِي قَوْلِهِ " قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا " دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ . فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي الْإِذْنِ عَدَمَ الْمَسِيسِ لَهَا . وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الثَّانِي لِكَوْنِ الطَّلَاقِ بِدْعِيًّا وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ النَّدَمِ . فَإِنَّ الْمَسِيسَ سَبَبُ الْحَمْلِ وَحُدُوثِ الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِنَدَامَةِ الطَّلَاقِ . وَقَوْلُهُ " فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا " هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْأُمَّةِ . أَعْنِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ وَالِاعْتِدَادِ بِهِ .

 

319 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ " أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ ، وَهُوَ غَائِبٌ - وَفِي رِوَايَةٍ : { طَلَّقَهَا ثَلَاثًا - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ ، فَسَخِطَتْهُ . فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ : فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ } - وَفِي لَفْظٍ : { وَلَا سُكْنَى - فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ، ثُمَّ قَالَ : تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي ، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ . فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى ، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي . قَالَتْ : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ : أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ : فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ . وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ : فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ : انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ، فَنَكَحَتْهُ . فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا ، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ } .

 

قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِلَّفْظِ أَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ . وَقَوْلُهُ " طَلَّقَهَا ثَلَاثًا " تَعْبِيرٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ " أَلْبَتَّةَ " . وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ " أَلْبَتَّةَ " لِلثَّلَاثِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ هُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَيَكُونُ قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ " تَعْبِيرًا عَمَّا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ " الطَّلَاقُ ثَلَاثًا " وَهَذَا يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " طَلَّقَهَا ثَلَاثًا " أَيْ أَوْقَعَ طَلْقَةً تَتِمُّ بِهَا الثَّلَاثُ . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ " .

 

وَقَوْلُهُ " وَهُوَ غَائِبٌ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ " فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ هُوَ الْمُرْسِلُ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ هُوَ الْمُرْسَلُ . وَقَدْ عَيَّنَ بَعْضُهُمْ لِلرِّوَايَةِ : الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " وَكِيلَهُ " يَعُودُ عَلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ . وَقِيلَ : اسْمُهُ كُنْيَتُهُ . وَقِيلَ : اسْمُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ . وَقِيلَ اسْمُهُ أَحْمَدُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَبُو حَفْصِ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ : أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ . وَمَنْ قَالَ " أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ " أَكْثَرُ .

 

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ " هَذَا مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ ، إذَا كَانَتْ الْبَائِنُ حَائِلًا وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَوْلُهُ " وَلَا سُكْنَى " هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ السُّكْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } وَأَمَّا سُقُوطُ النَّفَقَةِ : فَأَخَذُوهُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } فَمَفْهُومُهُ : إذَا لَمْ يَكُنَّ حَوَامِلَ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِنَّ . وَقَدْ نُوزِعُوا فِي تَنَاوُلِ الْآيَةِ لِلْبَائِنِ . أَعْنِي قَوْلَهُ " أَسْكِنُوهُنَّ " وَمَنْ قَالَ : لَهَا السُّكْنَى فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ . فَقِيلَ فِي الْعُذْرِ : مَا حَكَوْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً لَسِنَةً اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا ، فَأَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ " . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خَافَتْ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ . وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ { أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ } . وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ : أَنَّهَا اخْتَلَفَتْ مَعَ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ سَخَطِهَا الشَّعِيرَ ، وَأَنَّ الْوَكِيلَ ذَكَرَ : أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَأَنَّ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنْ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهَا بِمَا أَجَابَ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي : أَنَّ التَّعْلِيلَ بِسَبَبِ مَا جَرَى مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُودِ النَّفَقَةِ لَا بِسَبَبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذُكِرَتْ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ أَقْوَى وَأَرْجَحُ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ عُمِلَ بِهِ . وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ " قِيلَ : اسْمُهَا غَزِيَّةُ وَقِيلَ : غُزَيْلَةُ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ عَامِرِيَّةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ .

 

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي } قِيلَ : كَانُوا يَزُورُونَهَا ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَيْهَا لِصَلَاحِهَا . فَفِي الِاعْتِدَادِ عِنْدَهَا حَرَجٌ ، وَمَشَقَّةٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ الرُّؤْيَةِ : إمَّا رُؤْيَتِهِمْ لَهَا ، أَوْ رُؤْيَتِهَا لَهُمْ ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، أَوْ لَهُمَا مَعًا . وَقَوْلُهُ " اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ . فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى " قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرْوِي جَوَازَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنَّهُ عُلِّلَ بِالْعَمَى وَهُوَ مُقْتَضٍ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ ، لَا لِعَدَمِ رُؤْيَتِهَا . فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الِاعْتِدَادِ عِنْدَهُ : مُعَلَّلٌ بِالْعَمَى الْمُنَافِي لِرُؤْيَتِهِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا إذَا خَافَتْ الْفِتْنَةَ حَرُمَ عَلَيْهَا النَّظَرُ . فَإِذًا هَذِهِ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْغَضُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ حِينَئِذٍ عَلَى وُجُوبِ الْغَضِّ مُطْلَقًا ، أَوْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ اللَّفْظِ : فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ احْتِمَالًا جَيِّدًا ، يَتَوَقَّفُ مَعَهُ الِاسْتِدْلَال عَلَى مَحِلِّ الْخِلَافِ . وَقَالَ هَذَا الْمُتَأَخِّرُ : وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، مَعَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ : فَلَيْسَ فِيهِ إذْنٌ لَهَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِ ، بَلْ فِيهِ : أَنَّهَا تَأْمَنُ عِنْدَهُ مِنْ نَظَرِ غَيْرِهِ . وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ بَصَرِهَا ، فَيُمْكِنُهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّظَرِ بِلَا مَشَقَّةٍ ، بِخِلَافِ مُكْثِهَا فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ : إعْرَاضٌ عَنْ التَّعْلِيلِ بِعَمَاهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ : مَوْجُودٌ فِي نَظَرِهَا إلَيْهِ ، مَعَ مُخَالَطَتِهَا لَهُ فِي الْبَيْتِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا عَلَّلَ بِالْعَمَى لِكَوْنِهَا تَضَعُ ثِيَابَهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَتِهِ لَهَا فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ التَّعْلِيلُ عَنْ الْحُكْمِ بِاعْتِدَادِهَا عِنْدَهُ .

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي } مَمْدُودُ الْهَمْزِ ، أَيْ أَعْلِمِينِي وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْبَائِنِ ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَمَّا أَبُو جَهْمٍ : فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ كَثِيرُ الْأَسْفَارِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَثِيرُ الضَّرْبِ وَيَتَرَجَّحُ هَذَا الثَّانِي بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ { أَنَّهُ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ } .

" وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ عِنْدَ النَّصِيحَةِ . وَلَا يَكُونُ مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُبِيحَتْ فِيهَا الْغِيبَةُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ . وَ " الْعَاتِقُ " مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالْمَنْكِبِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ مَجَازِ الْمُبَالَغَةِ ، وَجَوَازِ إطْلَاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّ أَبَا جَهْمٍ : لَا بُدَّ وَأَنْ يَضَعَ عَصَاهُ حَالَةَ نَوْمِهِ وَأَكْلِهِ ، وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ مَثَلًا ، لَكِنْ اعْتَبَرَ حَالَ الْغَلَبَةِ ، وَأَهْدَرَ حَالَ النَّادِرِ وَالْيَسِيرِ . وَهَذَا الْمَجَازُ فِيمَا قِيلَ فِي أَبِي جَهْمٍ : أَظْهَرُ مِنْهُ فِيمَا قِيلَ فِي مُعَاوِيَةَ ؛ لِأَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ : إنَّ لَفْظَةَ " الْمَالِ " انْتَقَلَتْ فِي الْعُرْفِ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ إلَى مَا لَهُ قَدْرٌ مِنْ الْمَمْلُوكَاتِ ، أَوْ ذَلِكَ مَجَازٌ شَائِعٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّقْلِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ جِدًّا ، بِخِلَافِ مَا قِيلَ فِي أَبِي جَهْمٍ . وَقَوْلُهُ " انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فِيهِ جَوَازُ نِكَاحِ الْقُرَشِيَّةِ لِلْمَوْلَى . وَكَرَاهَتُهَا لَهُ : إمَّا لِكَوْنِهِ مَوْلًى ، أَوْ لِسَوَادِهِ ، وَ " اغْتَبَطَتْ " مَفْتُوحُ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَأَبُو جَهْمٍ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ : مَفْتُوحُ الْجِيمِ سَاكِنُ الْهَاءِ ، وَهُوَ غَيْرُ أَبِي الْجُهَيْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ .

 

كتاب الطلاق – باب العدة

 

320 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : { عَنْ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَهِيَ حَامِلٌ . فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا : تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا : مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً ؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . قَالَتْ سُبَيْعَةُ : فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ : جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي ، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي } .

 

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ . فِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ : إنَّ عِدَّتَهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ فَإِنْ تَقَدَّمَ وَضْعُ الْحَمْلِ عَلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ : انْتَظَرَتْ تَمَامَهَا . وَإِنْ تَقَدَّمَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ وَالْعَشْرُ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ : انْتَظَرَتْ وَضْعَ الْحَمْلِ . وَقِيلَ : إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : اخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَبَ ، وَهُوَ سَحْنُونٌ . وَسَبَبُ الْخِلَافِ : تَعَارُضُ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } مَعَ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ ، وَخَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ . فَالْآيَةُ الْأُولَى : عَامَّةٌ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ ، سَوَاءٌ كُنَّ حَوَامِلَ أَمْ لَا . وَالثَّانِيَةُ : عَامَّةٌ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ ، سَوَاءٌ كُنَّ مُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَمْ لَا . وَلَعَلَّ هَذَا التَّعَارُضَ هُوَ السَّبَبُ لِاخْتِيَارِ مَنْ اخْتَارَ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ لِعَدَمِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُرْفَعَ تَحْرِيمُ الْعِدَّةِ السَّابِقُ إلَّا بِيَقِينِ الْحِلِّ وَذَلِكَ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ . غَيْرَ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ اعْتَمَدُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } مَعَ ظُهُورِ الْمَعْنَى فِي حُصُولِ الْبَرَاءَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ " . وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ " بِفَتْحِ السِّينِ وَ " بَعْكَكٍ " بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ ، وَفَتْحِ الْكَافِ - وَهُوَ ابْنُ الْحَجَّاجِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ ، هَكَذَا نُسِبَ . وَقِيلَ فِي نَسَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ قِيلَ : اسْمُهُ عَمْرٌو . وَقِيلَ : حَبَّةُ - بِالْبَاءِ - وَقِيلَ : حَنَّةُ - بِالنُّونِ . وَقَوْلُهَا " فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي " يَقْتَضِي انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَإِنْ لَمْ تَطْهُرْ مِنْ النِّفَاسِ . كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزُّهْرِيُّ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ . وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ : لَا تَحِلُّ مِنْ الْعِدَّةِ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ . وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَشَارَ إلَى تَعَلُّقٍ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ " فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا " أَيْ طَهُرَتْ " قَالَ لَهَا : قَدْ حَلَلْت فَانْكِحِي مَنْ شِئْت " رَتَّبَ الْحِلَّ عَلَى التَّعَلِّي فَيَكُونُ عِلَّةً لَهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِتَصْرِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهُ أَفْتَاهَا بِالْحِلِّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ . وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ . يَعْنِي تَرْتِيبَ الْحِلِّ عَلَى التَّعَلِّي . وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً ، اسْتَبَانَ فِيهِ الْخَلْقُ أَمْ لَا - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَتَّبَ الْحِلَّ عَلَى وَضْعِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ . وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي قَضَايَا الْأَحْوَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَهَذَا هَهُنَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَمْلُ التَّامُّ الْمُتَخَلِّقُ ، وَوَضْعُ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ نَادِرٌ . وَحَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى الْغَالِبِ ظَاهِرٌ . وَإِنَّمَا تَقْوَى تِلْكَ الْقَاعِدَةُ حَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ بَعْضُ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِهَا . وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ : وَهُوَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ .

 

321 - الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ { تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ ، فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ ، فَمَسَحَتْ بِذِرَاعَيْهَا ، فَقَالَتْ : إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا ؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .

 

الْحَمِيمُ : الْقَرَابَةُ . " الْإِحْدَادُ " تَرْكُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ . وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ . وَقَوْلُهُ " إلَّا عَلَى زَوْجٍ " يَقْتَضِي الْإِحْدَادَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ وَقَوْلُهُ " لِامْرَأَةٍ " عَامٌّ فِي النِّسَاءِ . تَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ وَالْأَمَةُ . وَفِي دُخُولِ الصَّغِيرَةِ تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ نَظَرٌ . فَإِنْ وَجَبَ مِنْ غَيْرِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ فَبِدَلِيلٍ آخَرَ وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ : فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ اللَّفْظِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " فَمِنْ هَهُنَا خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ وَأَجَابَ غَيْرُهُ - مِمَّنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ - : بِأَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَهُ سَبَبٌ . وَالتَّخْصِيصُ إذَا كَانَ لِفَائِدَةٍ أَوْ سَبَبٍ - غَيْرِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ - لَمْ يَدُلَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْحُكْمِ . قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فِي السَّبَبِ فِي ذَلِكَ : إنَّ الْمُسْلِمَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَثْمِرُ خِطَابَ الشَّارِعِ ، وَتَنْتَفِعُ بِهِ ، وَتَنْقَادُ لَهُ فَلِهَذَا قَيَّدَ بِهِ . وَغَيْرُ هَذَا أَقْوَى مِنْهُ . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ ، لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُهُ وَمَفْهُومُهُ ، مِنْ أَنَّ خِلَافَهُ مُنَافٍ لِلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَأْكِيدَ أَمْرِ التَّوَكُّلِ بِرَبْطِهِ بِالْإِيمَانِ ، وَكَمَا يُقَالُ : إنْ كُنْتَ وَلَدِي فَافْعَلْ كَذَا . وَأَصْلُ لَفْظَةِ " الْإِحْدَادِ " مِنْ مَعْنَى الْمَنْعِ وَيُقَالُ : حَدَّتْ تُحِدُّ إحْدَادًا وَحَدَّتْ تَحَدُّ - بِفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْمَاضِي مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ - وَعَنْ الْأُصْبُعِيِّ : أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إلَّا " أَحَدَّتْ " رُبَاعِيًّا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَا إحْدَادَ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْتَوْلَدَةِ ، لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَتَخْصِيصِ مَنْعِ الْإِحْدَادِ بِمَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا . وَاقْتَضَى مَفْهُومُهُ : أَنْ لَا إحْدَادَ إلَّا لِمَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

322 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ : أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ . وَلَا تَكْتَحِلُ . وَلَا تَمَسُّ طِيبًا ، إلَّا إذَا طَهُرَتْ : نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ } .

 

" الْعَصْبُ " ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْمَرْأَةِ الْمُحِدِّ مِنْ الْكُحْلِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ إلَّا لَيْلًا عِنْدَ الْحَاجَةِ ، بِمَا لَا طِيبَ فِيهِ . وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ . وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ إذَا خَافَتْ عَلَى عَيْنِهَا بِكُحْلٍ لَا طِيبَ فِيهِ . وَاَلَّذِينَ أَجَازُوهُ : حَمَلُوا النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَلَى حَالَةِ عَدَمِ الْحَاجَةِ . وَالْجَوَازَ عَلَى حَالَةِ الْحَاجَةِ .

وَفِي الْحَدِيثِ : الْمَنْعُ مِنْ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ لِلزِّينَةِ ، إلَّا ثَوْبَ الْعَصْبِ . وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ الْمَصْبُوغِ الْأَسْوَدَ ؛ فَرَخَّصَ فِيهِ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : كَرَاهَةُ الْعَصْبِ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعُ . وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ جَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَصْبُوغٍ ، وَهِيَ الثِّيَابُ الْبِيضُ . وَمَنَعَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَرَفِّعَ مِنْهَا الَّذِي يُتَزَيَّنُ بِهِ وَكَذَلِكَ جَيِّدُ السَّوَادِ . " وَالنُّبْذَةُ " بِضَمِّ النُّونِ : الْقِطْعَةُ وَالشَّيْءُ الْيَسِيرُ وَ " الْقُسْطُ " بِضَمِّ الْقَافِ ، وَ " الْأَظْفَارُ " نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ . وَقَدْ رُخِّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ ، وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ .

 

323 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا ، وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنُكَحِّلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا - مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ . وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ . فَقَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا : دَخَلَتْ حِفْشًا ، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا ، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ - حِمَارٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ - فَتَفْتَضَّ بِهِ . فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ . ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً ، فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ } .

 

" الْحِفْشُ " الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْحَقِيرُ ، وَ " تَفْتَضُّ " تُدَلِّكُ بِهِ جَسَدَهَا . يَجُوزُ فِي قَوْلِهَا " اشْتَكَتْ عَيْنَهَا " وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ضَمُّ النُّونِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ هِيَ الْمُشْتَكِيَةُ . وَالثَّانِي : فَتْحُهَا وَيَكُونُ الْمُشْتَكِي مِنْ " اشْتَكَتْ " ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ . وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا . وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " عَيْنَاهَا " . وَقَوْلُهَا " أَفَنُكَحِّلُهَا " بِضَمِّ الْحَاءِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا " يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ ، وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي : أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَادَّةِ وَغَيْرِهَا ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا حَالَةَ الْحَادَّةِ . وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " تَجْعَلُهُ بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحُهُ بِالنَّهَارِ " فَحُمِلَ عَلَى حَالَةِ الْحَادَّةِ . وَقِيلَ : فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا " وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ " تَقْلِيلٌ لِلْمُدَّةِ ، وَتَهْوِينٌ لِلصَّبْرِ عَلَى مَا مُنِعَتْ مِنْهُ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ " قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ . وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْإِشَارَةِ ، فَقِيلَ : إنَّهَا رَمَتْ بِالْعِدَّةِ وَخَرَجَتْ مِنْهَا ، كَانْفِصَالِهَا مِنْ هَذِهِ الْبَعْرَةِ وَرَمْيِهَا بِهَا . وَقِيلَ : هُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الَّذِي فَعَلَتْهُ وَصَبَرَتْ عَلَيْهِ ، مِنْ الِاعْتِدَادِ سَنَةً ، وَلُبْسِهَا شَرَّ ثِيَابِهَا ، وَلُزُومِهَا بَيْتًا صَغِيرًا : هَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَقِّ الزَّوْجِ ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمُرَاعَاةِ ، كَمَا يَهُونُ الرَّمْيُ بِالْبَعْرَةِ . وَقَوْلُهَا " دَخَلَتْ حِفْشًا " بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ : أَيْ بَيْتًا صَغِيرًا حَقِيرًا قَرِيبَ السُّمْكِ . وَقَوْلُهَا " ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ : حِمَارٍ ، أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ " هُوَ بَدَلٌ مِنْ " دَابَّةٍ " وَقَوْلُهَا فَتَفْتَضَّ بِهِ " بِفَتْحِ ثَالِثِ الْحُرُوفِ وَسُكُونِ الْفَاءِ ، وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : سَأَلْتُ الْحِجَازِيِّينَ عَنْ مَعْنَى الِافْتِضَاضِ ؟ فَذَكَرُوا : أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ كَانَتْ لَا تَغْتَسِلُ ، وَلَا تَمَسُّ مَاءً ، وَلَا تُقَلِّمُ ظُفْرًا . ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِأَقْبَحِ مَنْظَرٍ ثُمَّ تَفْتَضُّ ، أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ ، تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ . وَقَالَ مَالِكٌ : مَعْنَاهُ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : تَمْسَحُ بِيَدِهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَمْسَحُ بِهِ ثُمَّ تَفْتَضُّ ، أَيْ تَغْتَسِلُ وَ " الِافْتِضَاضُ " الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ لِلْإِنْقَاءِ ، وَإِزَالَةِ الْوَسَخِ ، حَتَّى تَصِيرَ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، كَالْفِضَّةِ فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضِهَا . وَقَالَ الْأَخْفَشُ : مَعْنَاهُ تَتَنَظَّفُ وَتَتَنَقَّى مِنْ الدَّرَنِ ، تَشْبِيهًا لَهَا بِالْفِضَّةِ فِي نَقَائِهَا وَبَيَاضِهَا . وَقِيلَ : إنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِالْقَافِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَالْمَعْرُوفُ : هُوَ الْأَوَّلُ . 

- انتهى - 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق