إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد
كتاب الحج
باب المواقيت
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ : ذَا الْحُلَيْفَةِ . وَلِأَهْلِ الشَّامِ : الْجُحْفَةَ . وَلِأَهْلِ نَجْدٍ : قَرْنَ الْمَنَازِلِ . وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ : يَلَمْلَمَ . هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ . وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ : فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ . }
" الْحَجُّ " بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا : الْقَصْدُ فِي اللُّغَةِ . وَفِي الشَّرْعِ : قَصْدٌ مَخْصُوصٌ إلَى مَحِلٍّ مَخْصُوصٍ ، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ . وَقَوْلُهُ " وَقَّتَ " قِيلَ : إنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْأَصْلِ ذِكْرُ الْوَقْتِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ : تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْوَقْتِ ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّحْدِيدِ لِلشَّيْءِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ تَحْدِيدٌ بِالْوَقْتِ ، فَيَصِيرُ التَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ التَّوْقِيتِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ التَّوْقِيتُ . وَقَوْلُهُ هَهُنَا " وَقَّتَ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : التَّحْدِيدُ . أَيْ حَدُّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِحْرَامِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ : تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ . وَمَعْنَى تَوْقِيتِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ لِلْإِحْرَامِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهَا لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظَةُ " وَقَّتَ " مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ تَصْرِيحٌ بِالْوُجُوبِ . فَقَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ " يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ " وَهِيَ صِيغَةُ خَبَرٍ ، يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ . وَوَرَدَ أَيْضًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَفْظَةُ الْأَمْرِ ، وَفِي ذِكْرِهِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ مَسَائِلُ . الْأُولَى : أَنَّ تَوْقِيتَهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَرْبَابِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَأَمَّا إيجَابُ الدَّمِ لِمُجَاوَزَتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : فَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّ مُجَاوِزَهَا لَا يَصِحُّ حَجُّهُ ، وَلَهُ إلْمَامٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ . وَكَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدَّمَةٍ أُخْرَى مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِهِ . الثَّانِيَةُ : " ذُو الْحُلَيْفَةِ " بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفَتْحِ اللَّامِ . أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ عَلَى عَشْرِ مَرَاحِلَ أَوْ تِسْعٍ مِنْهَا . وَ " الْجُحْفَةُ " بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ . قِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ اجْتَحَفَهَا فِي بَعْضِ الزَّمَانِ . وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ ، وَيُقَالُ لَهَا " مَهْيَعَةُ " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ ، وَقِيلَ : بِكَسْرِ الْهَاءِ وَ " قَرْنُ الْمَنَازِلِ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ، وَصَاحِبُ الصِّحَاحِ ذَكَرَ فَتْحَ الرَّاءِ ، وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ ، كَمَا غَلِطَ فِي أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ " مَنْسُوبٌ إلَيْهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى " قَرَنٍ " بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ طَلَبِ عُمَرَ لَهُ . وَ " يَلَمْلَمُ " بِفَتْحِ الْيَاءِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا . وَيُقَالُ فِيهِ " أَلَمْلَمُ " قِيلَ : هِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ " قَرْنٌ " عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَيْضًا . الثَّالِثَةُ : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " هُنَّ " لِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ . " لَهُنَّ " أَيْ لِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ : الْمَدِينَةِ ، وَالشَّامِ ، وَنَجْدٍ وَالْيَمَنِ . وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لَهَا ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا . وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ " هُنَّ لَهُمْ " ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَهْلُ ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى الْأَصْلِ . الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " يَقْتَضِي : أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمِيقَاتِهِ : أَحْرَمَ مِنْهُنَّ ، وَلَمْ يُجَاوِزْهُنَّ غَيْرَ مُحْرِمٍ . وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الشَّامِ ، يَمُرُّ أَحَدُهُمْ بِذِي الْحُلَيْفَةِ . فَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا ، وَلَا يَتَجَاوَزُهَا إلَى الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ إلَى الْجُحْفَةِ . قَالُوا : وَالْأَفْضَلُ إحْرَامُهُ مِنْهَا - أَيْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ - وَلَعَلَّهُ أَنْ يَحْمِلَ الْكَلَامَ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ الْحُكْمَ ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَذْهَبِ أَحَدٍ . وَحَكَى أَنْ لَا خِلَافَ ، وَهَذَا أَيْضًا مَحِلُّ نَظَرٍ . فَإِنَّ قَوْلَهُ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " عَامٌّ فِيمَنْ أَتَى ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ : مَنْ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي مَرَّ بِهَا ، وَمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهَا . وَقَوْلُهُ " وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ " عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتٍ آخَرَ أَوَّلًا ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْعُمُومِ الْأَوَّلِ : دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الشَّامِيُّ الَّذِي مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا . وَإِذَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ - دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الْمَارُّ أَيْضًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، فَيَكُونُ لَهُ التَّجَاوُزُ إلَيْهَا ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ . فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ " وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ " مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ " وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ " مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ . الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ " مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ " يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُرِيدِ لِأَحَدِهِمَا ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ إذَا مَرَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ ، وَلَهُ تَجَاوُزُهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ . السَّادِسَةُ : اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ " مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ " عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ مَكَّةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ مَفْهُومَهُ : أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدْ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ . وَهَذَا أَوَّلًا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُ عُمُومٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَفْهُومَهُ : أَنَّ مَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ : لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَوَاقِيتِ ، وَهُوَ عَامٌّ يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَلَا دُخُولَ مَكَّةَ ، وَمَنْ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَيُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ . وَفِي عُمُومِ الْمَفْهُومِ نَظَرٌ فِي الْأُصُولِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عُمُومٌ ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْرَامِ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَكَانَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ لَفْظًا : قُدِّمَ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ : حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ بَيَانَ حُكْمِ الدَّاخِلِ إلَى مَكَّةَ . وَالْعُمُومُ إذَا لَمْ يُقْصَدْ : فَدَلَالَتُهُ لَيْسَتْ بِتِلْكَ الْقَوِيَّةِ إذَا ظَهَرَ مِنْ السِّيَاقِ الْمَقْصُودُ مِنْ اللَّفْظِ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ، عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْعُمُومِ وَتَنَاوُلِهِ لِمَنْ يُرِيدُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمَوَاقِيتِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الْوُجُوبِ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِحْرَامِ لِدُخُولِ مَكَّةَ . السَّابِعَةُ : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَرَّ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ ، فَيَقْتَضِي اللَّفْظُ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ . فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ لَلَزِمَهُ ، أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ . وَفِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا . الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ " وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ " يَقْتَضِي : أَنَّ مَنْ مَنْزِلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ ، فَمِيقَاتُهُ مَنْزِلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَسِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ . التَّاسِعَةُ : يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُحْرِمُونَ مِنْهَا ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ، فَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِمَّنْ هُوَ فِي مَكَّةَ : يُحْرِمُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ : وَيَقْتَضِي الْحَدِيثُ : أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ مَكَّةَ نَفْسِهَا . وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْحَرَمِ لَهُ جَائِزٌ . وَالْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِهِ ظَاهِرًا . وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ مَنْ بِمَكَّةَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا .
213 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ . قَالَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ } .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " يُهِلُّ " فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِهْلَالِ ، خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ . وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عُمَرَ سَمَاعَهُ لِمِيقَاتِ الْيَمَنِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . فَلِذَلِكَ حَسَنٌ أَنْ يُقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . .
214 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ ، وَلَا الْعَمَائِمَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ ، وَلَا الْبَرَانِسَ ، وَلَا الْخِفَافَ ، إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ } . وَلِلْبُخَارِيِّ { وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ . وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ } .
فِيهِ مَسَائِلُ . الْأُولَى : أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ . فَأُجِيبَ بِمَا لَا يَلْبَسُ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَلْبَسُ مَحْصُورٌ . وَمَا يَلْبَسُ غَيْرُ مَحْصُورٍ . إذْ الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي وَضْعُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَلْبَسُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجَوَابِ : مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَيْفَ كَانَ . وَلَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ . وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُطَابَقَةُ . الثَّانِيَةُ : اتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ . وَالْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ عَدَّوْهُ إلَى مَا رَأَوْهُ فِي مَعْنَاهُ . فَالْعَمَائِمُ وَالْبَرَانِسُ : تُعَدَّى إلَى كُلِّ مَا يُغَطِّي الرَّأْسَ ، مَخِيطًا أَوْ غَيْرَهُ . وَلَعَلَّ " الْعَمَائِمَ " تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُغَطِّيهَا مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ ، وَ " الْبَرَانِسَ " تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُغَطِّيهَا مِنْ الْمَخِيطِ . فَإِنَّهُ قِيلَ : إنَّهَا قَلَانِسُ طِوَالٌ كَانَ يَلْبَسُهَا الزُّهَّادُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ . وَالتَّنْبِيهُ بِالْقُمُصِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُحِيطِ بِالْبَدَنِ ، وَمَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْمَنْسُوجِ . وَالتَّنْبِيهُ بِالْخِفَافِ وَالْقُفَّازَيْنِ - وَهُوَ مَا كَانَتْ النِّسَاءُ تَلْبَسُهُ فِي أَيْدِيهِنَّ - وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ يُحْشَى بِقُطْنٍ وَيُزَرُّ بِأَزْرَارٍ . فَنَبَّهَ بِهِمَا عَلَى كُلِّ مَا يُحِيطُ بِالْعُضْوِ الْخَاصِّ إحَاطَةَ مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ . وَمِنْهُ السَّرَاوِيلَاتُ ، لِإِحَاطَتِهَا بِالْوَسَطِ إحَاطَةَ الْمُحِيطِ . .
الثَّالِثَةُ : إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ مِنْ أَسْفَلِ الْكَعْبَيْنِ . وَعِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ لَا يَقْطَعُهُمَا . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ . فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ هَهُنَا مَعَ إتْلَافِهِ الْمَالِيَّةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ .
الرَّابِعَةُ : اللُّبْسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : مَحْمُولٌ عَلَى اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ . فَلَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ الْمُعْتَادَ فِي الْقَمِيصِ غَيْرُ الِارْتِدَاءِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَبَاءِ إذَا لُبِسَ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ . وَمَنْ أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ : جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَادِ فِيهِ أَحْيَانًا . وَاكْتَفَى فِي التَّحْرِيمِ فِيهِ بِذَلِكَ . .
الْخَامِسَةُ : لَفْظُ " الْمُحْرِمِ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا . وَ " الْإِحْرَامُ " الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، وَالتَّشَاغُلُ بِأَعْمَالِهِمَا . وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ " الْإِحْرَامِ " جِدًّا . وَيَبْحَثُ فِيهِ كَثِيرًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُ : إنَّهُ النِّيَّةُ ، اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ . وَيَعْتَرِضُ عَلَى أَنَّهُ " التَّلْبِيَةُ " بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ . وَالْإِحْرَامُ رُكْنٌ . هَذَا أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ . وَكَانَ يُحْرِمُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ . .
السَّادِسَةُ : الْمَنْعُ مِنْ " الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ " وَهُوَ نَبْتٌ يَكُونُ بِالْيَمَنِ يُصْبَغُ بِهِ : دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ . وَعَدَّاهُ الْقَائِسُونَ إلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْمُطَيِّبَاتِ . وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَاخْتِلَافُهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ الطِّيبِ أَمْ لَا ؟ .
السَّابِعَةُ : نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْ التَّنَقُّبِ وَالْقُفَّازَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ إحْرَامِ الْمَرْأَةِ يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا . وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ ، وَفِي تَحْرِيمِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَأْلُوفِ لِإِشْعَارِ النَّفْسِ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْخُرُوجُ عَنْ الدُّنْيَا ، وَالتَّذَكُّرُ لِلُبْسِ الْأَكْفَانِ عِنْدَ نَزْعِ الْمَخِيطِ . وَالثَّانِي : تَنْبِيهُ النَّفْسِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ بِالْخُرُوجِ عَنْ مُعْتَادِهَا وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهَا ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى قَوَانِينِهَا وَأَرْكَانِهَا ، وَشُرُوطِهَا وَآدَابِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
215 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ : لِلْمُحْرِمِ } . .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ . إحْدَاهُمَا : قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الْقَطْعَ فِي الْخُفَّيْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّعْلَيْنِ . فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِهِ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ هَهُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ جَيِّدٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قُيِّدَ فِيهِ الْقَطْعُ : قَدْ وَرَدَتْ فِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ . وَذَلِكَ زَائِدٌ عَلَى الصِّيغَةِ الْمُطْلَقَةِ . فَإِنْ لَمْ نَعْمَلْ بِهَا ، وَأَجَزْنَا مُطْلَقَ الْخُفَّيْنِ . تَرَكْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْقَطْعِ . وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي جَانِبِ الْإِبَاحَةِ . فَإِنَّ إبَاحَةَ الْمُطْلَقِ حِينَئِذٍ تَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ إبَاحَةُ الْمُقَيَّدِ فَإِنْ أُخِذَ بِالزَّائِدِ كَانَ أَوْلَى . إذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ إبَاحَةِ الْمُقَيَّدِ وَإِبَاحَةِ مَا زَادَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَانِبِ النَّهْيِ : لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُطْلَقَ دَالٌّ عَلَى النَّهْيِ فِيمَا زَادَ عَلَى صُورَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِيهِ . وَهَذَا يَتَوَجَّهُ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ - مَثَلًا - مُخْتَلِفَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَخْرَجِهِمَا . أَمَّا إذَا كَانَ الْمَخْرَجُ لِلْحَدِيثِ وَاحِدًا ، وَوَقَعَ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ الرِّوَايَاتُ ، فَهَهُنَا نَقُولُ : إنَّ الْآتِيَ بِالْقَيْدِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ . فَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إلَّا مُقَيَّدًا . فَيَتَقَيَّدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ : مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ، مِنْ أَنَّ الْعَامَّ فِي الذَّوَاتِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ . وَأَمَّا عَلَى مِثْلِ مَا نَخْتَارُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ ؛ تَبَعًا لِلْعُمُومِ فِي الذَّوَاتِ : فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ . .
الثَّانِيَةُ : لُبْسُ السَّرَاوِيلِ إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا ، يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ . وَهُوَ قَوِيٌّ هَهُنَا . إذْ لَمْ يُرِدْ بِقَطْعِهِ مَا وَرَدَ فِي الْخُفَّيْنِ . وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُبِيحُ السَّرَاوِيلَ عَلَى هَيْئَتِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ . .
216 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ } . قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ، وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ " .
" التَّلْبِيَةُ " الْإِجَابَةُ . وَقِيلَ فِي مَعْنَى " لَبَّيْكَ " إجَابَةٌ بَعْدَ إجَابَةٍ ، وَلُزُومًا لِطَاعَتِكَ . فَثَنَّى لِلتَّوْكِيدِ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي أَنَّهُ تَثْنِيَةٌ أَمْ لَا . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُثَنَّى . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُثَنَّى . وَقِيلَ : إنَّ " لَبَّيْكَ " مَأْخُوذٌ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ وَلَبَّ : إذَا أَقَامَ بِهِ . أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ . وَقِيلَ : إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لُبَابِ الشَّيْءِ ، وَهُوَ خَالِصُهُ ، أَيْ إخْلَاصِي لَكَ . وَقَوْلُهُ " إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك " يُرْوَى فِيهِ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَكَسْرُهَا . وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ . فَإِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ . وَالْفَتْحُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ . كَأَنَّهُ يَقُولُ : أُجِيبُكَ لِهَذَا السَّبَبِ . وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ . وَقَوْلُهُ " وَالنِّعْمَةَ لَكَ " الْأَشْهَرُ فِيهِ : الْفَتْحُ . وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، وَخَبَرُ " إنَّ " مَحْذُوفٌ وَ " سَعْدَيْكَ " كَلَبَّيْكَ قِيلَ : مَعْنَاهُ مُسَاعَدَةٌ لِطَاعَتِكَ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ . وَ " الرَّغْبَاءُ إلَيْكَ " بِسُكُونِ الْغَيْنِ ، فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : ضَمُّ الرَّاءِ ، وَالثَّانِي : فَتْحُهَا . فَإِنْ ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وَإِنْ فَتَحْتَ مَدَدْتَ . وَهَذَا كَالنَّعْمَاءِ وَالنُّعْمَى . وَقَوْلُهُ " وَالْعَمَلُ " فِيهِ حَذْفٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ نُقَدِّرَهُ كَالْأَوَّلِ ، أَيْ وَالْعَمَلُ إلَيْكَ ، أَيْ إلَيْكَ الْقَصْدُ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ بِهِ إلَيْكَ ، لِتُجَازِيَ عَلَيْهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ : وَالْعَمَلُ لَكَ . وَقَوْلُهُ " وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ " مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الْمُخَاطَبَةِ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } . .
217 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ } . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ " لَا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ " .
فِيهِ مَسَائِلُ . الْأُولَى : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ أَمْ لَا ؟ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ ، إلَّا بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ . وَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ : اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَإِنَّ سَفَرَهَا لِلْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْفَارِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْحَدِيثِ . فَيَمْتَنِعُ إلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ قَالُوا : يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ رُفْقَةٍ مَأْمُونِينَ إلَى الْحَجِّ ، رِجَالًا أَوْ نِسَاءً . وَفِي سَفَرِهَا مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ : خِلَافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالنَّصَّيْنِ إذَا تَعَارَضَا ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ ، خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ . بَيَانُهُ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } يَدْخُلُ تَحْتَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا : أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ - الْحَدِيثَ " خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ ، عَامٌّ فِي الْأَسْفَارِ . فَإِذَا قِيلَ بِهِ وَأُخْرِجَ عَنْهُ سَفَرُ الْحَجِّ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } قَالَ الْمُخَالِفُ : نَعْمَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِيهِ . وَيَخْرُجُ سَفَرُ الْحَجِّ عَنْ النَّهْيِ . فَيَقُومُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ . وَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ مِنْ خَارِجٍ . وَذَكَرَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ . أَنَّهُ يَذْهَبُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ . وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } . وَلَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْمَسَاجِدِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى السَّفَرِ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِ بِحَدِيثِ النَّهْيِ . .
الثَّانِيَةُ : لَفْظُ " الْمَرْأَةِ " عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ النِّسَاءِ . وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : هَذَا عِنْدِي فِي الشَّابَّةِ . وَأَمَّا الْكَبِيرَةُ غَيْرُ الْمُشْتَهَاةِ : فَتُسَافِرُ حَيْثُ شَاءَتْ فِي كُلِّ الْأَسْفَارِ ، بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ . وَخَالَفَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَرْأَةَ مَظِنَّةُ الطَّمَعِ فِيهَا ، وَمَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً . وَقَدْ قَالُوا : لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ . وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمَالِكِيُّ : تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى . وَقَدْ اخْتَارَ هَذَا الشَّافِعِيُّ : أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَافِرُ فِي الْأَمْنِ . وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ ، بَلْ تَسِيرُ وَحْدَهَا فِي جُمْلَةِ الْقَافِلَةِ ، فَتَكُونُ آمِنَةً . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ " مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ " اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَدَدِ فِي الْأَحَادِيثِ . فَرُوِيَ " فَوْقَ ثَلَاثٍ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ " وَرُوِيَ " لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ يَوْمَيْنِ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ " وَرُوِيَ " مَسِيرَةَ يَوْمٍ " وَرُوِيَ " يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَرُوِيَ بَرِيدًا " وَهُوَ أَرْبَعُ فَرَاسِخَ . وَقَدْ حَمَلُوا هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ ، وَاخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ .
الرَّابِعَةُ " ذُو الْمَحْرَمِ " عَامٌّ فِي مَحْرَمِ النَّسَبِ ، كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ أُخْتهَا وَخَالِهَا وَعَمِّهَا ، وَمَحْرَمِ الرَّضَاعِ ، وَمَحْرَمِ الْمُصَاهَرَةِ ، كَأَبِي زَوْجِهَا وَابْنِ زَوْجِهَا . وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ ابْنَ زَوْجِهَا . فَقَالَ : يُكْرَهُ سَفَرُهَا مَعَهُ ، لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي النَّاسِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ . ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يُنَزِّلُ زَوْجَةَ الْأَبِ فِي النَّفْرَةِ عَنْهَا مَنْزِلَةَ مَحَارِمِ النَّسَبِ . وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إلَّا فِيمَا جَبَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّفُوسَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفْرَةِ عَنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ لِلتَّحْرِيمِ - مَعَ مَحْرَمِيَّةِ ابْنِ الزَّوْجِ - فَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَعِيدٌ . وَإِنْ كَانَتْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَهُوَ أَقْرَبُ تَشَوُّفًا إلَى الْمَعْنَى . وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَا يُقَوِّي هَهُنَا : أَنَّ قَوْلَهُ " لَا يَحِلُّ " اسْتَثْنَى مِنْهُ السَّفَرَ مَعَ الْمَحْرَمِ . فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ : إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَيَحِلُّ . وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِنَا " يَحِلُّ " هَلْ يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ " يَحِلُّ " تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ الْمُتَسَاوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ ، فَالْأَمْرُ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ ، إلَّا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَتَنَاوَلُ ، فَهُوَ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُنَافِيًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ . وَ " الْمَحْرَمُ " الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ السَّفَرُ وَالْخَلْوَةُ : كُلُّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ لِحُرْمَتِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ ، فَقَوْلُنَا " عَلَى التَّأْبِيدِ " احْتِرَازًا مِنْ أُخْتِ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا ، وَقَوْلُنَا " بِسَبَبٍ مُبَاحٍ " احْتِرَازًا مِنْ أُمِّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحْرَمًا بِهَذَا التَّفْسِيرِ ، فَإِنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ ، وَقَوْلُنَا " لِحُرْمَتِهَا " احْتِرَازًا مِنْ الْمُلَاعَنَةِ ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ لِحُرْمَتِهَا ، بَلْ تَغْلِيظًا ، هَذَا ضَابِطُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ . الْخَامِسَةُ : لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ لِلزَّوْجِ . وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَلَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْحُكْمِ بِالْمَحْرَمِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ مَعَهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَسْتَعْمِلُوا لَفْظَةَ " الْحُرْمَةِ " فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَعْنَى الْمَحْرَمِيَّةِ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا فِيمَا يَقْتَضِي الِاحْتِرَامَ . فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوَاجُ لَفْظًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
باب الفدية :
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ : { جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . فَسَأَلَتْهُ عَنْ الْفِدْيَةِ ؟ فَقَالَ : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً . حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي . فَقَالَ : مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لَا . فَقَالَ : صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً ، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } .
الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : " مَعْقِلٌ " وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ - هَذَا - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ . وَعَبْدُ اللَّهِ - هَذَا - هُوَ ابْنُ مَعْقِلِ بْنُ مُقَرِّنٍ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُهْمَلَةِ - مُزَنِيٌّ كُوفِيٌّ ، يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِيهِ : كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ ، مِنْ خِيَارِ التَّابِعِينَ . وَ " عُجْرَةُ " بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ . " وَكَعْبٌ " وَلَدُهُ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ . وَقِيلَ ، مِنْ بَلِيٍّ . وَقِيلَ : هُوَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَدِيٍّ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ . وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . الثَّانِي فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِأَذَى الْقَمْلِ . وَقَاسُوا عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْمَرَضِ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " نَزَلَتْ فِي " يَعْنِي آيَةَ الْفِدْيَةِ . قَوْلُهُ " خَاصَّةً " يُرِيدُ اخْتِصَاصَ سَبَبِ النُّزُولِ بِهِ . فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌ فِي الْآيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } وَهَذِهِ صِيغَةُ عُمُومٍ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " مَا كُنْتُ أُرَى " بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ، أَيْ أَظُنُّ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " بَلَغَ بِك مَا أَرَى " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ . يَعْنِي أُشَاهِدُ . وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ . وَ " الْجَهْدُ " بِفَتْحِ الْجِيمِ : هُوَ الْمَشَقَّةُ . وَأَمَّا الْجُهْدُ - بِضَمِّ الْجِيمِ - فَهُوَ الطَّاقَةُ . وَلَا مَعْنَى لَهَا هَهُنَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . الْخَامِسُ : قَوْلُهُ " أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ " تَبْيِينٌ لِعَدَدِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ تُصْرَفُ إلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ عَدَدِهِمْ . وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ : إنَّهُ يُطْعِمُ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ، لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ ، وَكَأَنَّهُ قَاسَهُ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ . السَّادِسُ : قَوْلُهُ " لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ " بَيَانٌ لِمِقْدَارِ الْإِطْعَامِ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ : إنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَةِ . فَأَمَّا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا : فَيَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ : أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّ حِنْطَةٍ ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَعْيِينُ نِصْفِ الصَّاعِ مِنْ تَمْرٍ . السَّابِعُ : " الْفَرَقُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَقَدْ تُسَكَّنُ . وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ . مُفَسَّرٌ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ . وَهِيَ تَقْسِيمُ الْفَرَقِ عَلَى ثَلَاثَةِ آصُعٍ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى : هُوَ تَعْيِينُ نِصْفِ الصَّاعِ مِنْ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ . الثَّامِنُ : قَوْلُهُ " أَوْ تُهْدِيَ شَاةً " هُوَ النُّسُكُ الْمُجْمَلُ فِي الْآيَةِ . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هِيَ الشَّاةُ الَّتِي تُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ . وَقَوْلُهُ " أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْمُجْمَلِ فِي الْآيَةِ . وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ : إنَّ الصَّوْمَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ ، لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مَعًا يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ - أَعْنِي الصِّيَامَ وَالصَّدَقَةَ وَالنُّسُكَ - ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " أَوْ " تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ . وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ " أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لَا " فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ : أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِي إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْهَدْيِ ، قِيلَ : بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ النُّسُكِ ؟ فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ . وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ . بَابُ حُرْمَةِ مَكَّةَ
219 - الْحَدِيثُ الثاني : عَنْ { أَبِي شُرَيْحٍ - خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو - الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ . فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ . وَوَعَاهُ قَلْبِي . وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ : أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ . فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ : أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً . فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ . وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ . وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ . فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ . فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ : مَا قَالَ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ } .
. " الْخَرْبَةُ " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ : هِيَ الْخِيَانَةُ . وَقِيلَ : الْبَلِيَّةُ وَقِيلَ : التُّهْمَةُ . وَأَصْلُهَا فِي سَرِقَةِ الْإِبِلِ . قَالَ الشَّاعِرُ : وَتِلْكَ قُرْبَى مِثْلَ أَنْ تُنَاسِبَا أَنْ تُشْبِهُ الضَّرَائِبُ الضَّرَائِبَا وَالْخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الْخَارِبَا . الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : " أَبُو شُرَيْحٍ " الْخُزَاعِيُّ ، وَيُقَالُ فِيهِ : الْعَدَوِيُّ وَيُقَالُ : الْكَعْبِيُّ ، اسْمُهُ : خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو - وَقِيلَ : عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ وَقِيلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو . وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو - أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ . وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ . الثَّانِي : قَوْلُ " ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ فِي أَنْ أُحَدِّثَكَ " فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ لِلْأَكَابِرِ - لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ - لَا سِيَّمَا فِيمَا يُخَالِفُ مَقْصُودَهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَدْعَى لِلْقَبُولِ ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ يُعْرَفُ مِنْهُ ارْتِكَابُ غَرَضِهِ ، فَإِنَّ الْغِلْظَةَ عَلَيْهِ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِإِثَارَةِ نَفْسِهِ ، وَمُعَانِدَةِ مَنْ يُخَاطِبُهُ . وَقَوْلُهُ " أُحَدِّثَكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ . وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ . وَقَوْلُهُ " سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ " نَفْيٌ لِوَهْمِ أَنْ يَكُونَ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ " وَوَعَاهُ قَلْبِي " تَحْقِيقٌ لِفَهْمِهِ ، وَالتَّثَبُّتُ فِي تَعَقُّلِ مَعْنَاهُ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ : أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا " يُؤْخَذُ مِنْهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : تَحْرِيمُ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ . وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ . وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ . قَالَ الْقَفَّالُ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ، فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ ، فِي ذِكْرِ الْخَصَائِصِ : لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ . قَالَ : حَتَّى لَوْ تَحَصَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ فِيهَا وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا : أَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْحَرَمِ : أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إنْ بَغَوْا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ . فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ ، بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إلَى الطَّاعَةِ ، وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، قَالَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : يُقَاتَلُونَ عَلَى الْبَغْيِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنْ الْبَغْيِ إلَّا بِالْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَجُوزُ إضَاعَتُهَا ، فَحِفْظُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْلَى مِنْ إضَاعَتِهَا . وَقِيلَ : إنَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسِيَرِ الْوَاقِدِيِّ . وَقِيلَ : إنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيثِ : بِأَنَّ مَعْنَاهَا تَحْرِيمُ نَصْبِ الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ بِمَا يَعُمُّ ، كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ إصْلَاحُ الْحَالِ بِدُونِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْحَصَرَ الْكُفَّارُ فِي بَلَدٍ آخَرَ . فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَقُولُ : هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا } وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ خُصُوصِيَّتَهُ لِإِحْلَالِهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَالَ " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ " فَأَبَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ : أَنَّ الْمَأْذُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ لِغَيْرِهِ . وَاَلَّذِي أُذِنَ لِلرَّسُولِ فِيهِ : إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الْقِتَالِ ، وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِمَنْجَنِيقٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعُمُّ ، كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لِإِظْهَارِ حُرْمَةِ الْبُقْعَةِ بِتَحْرِيمِ مُطْلَقِ الْقِتَالِ فِيهَا وَسَفْكِ الدَّمِ . وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَأْصَلُ . وَأَيْضًا فَتَخْصِيصُ الْحَدِيثِ بِمَا يُسْتَأْصَلُ لَيْسَ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا الْوَجْهِ بِعَيْنِهِ لَأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . فَلَوْ أَنَّ قَائِلًا أَبْدَى مَعْنًى آخَرَ ، وَخَصَّ بِهِ الْحَدِيثَ : لَمْ يَكُنْ بِأَوْلَى مِنْ هَذَا . وَالْأَمْرُ الثَّانِي : يَسْتَدِلُّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُلْتَجِئَ إلَى الْحَرَمِ لَا يُقْتَلُ بِهِ . لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا } وَهَذَا عَامٌّ تَدْخُلُ فِيهِ صُورَةُ النِّزَاعِ قَالَ : بَلْ يُلْجَأُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ ، فَيُقْتَلَ خَارِجَهُ ، وَذَلِكَ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ . الرَّابِعُ " الْعَضْدُ " الْقَطْعُ ، عَضَدَ - بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْمَاضِي يَعْضِدُ - بِكَسْرِ الضَّادِ : يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَسْتَنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ فِي الْعَادَةِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَسْتَنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ . وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي عَضْدِ مَا يُسَمَّى شَجَرًا . الْخَامِسُ : قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ : أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا التَّوَهُّمِ : لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَنْقَادُ لِأَحْكَامِنَا ، وَيَنْزَجِرُ عَنْ مُحَرَّمَاتِ شَرْعِنَا ، وَيَسْتَثْمِرُ أَحْكَامَهُ . فَجُعِلَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ : أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْفُرُوعِ . وَأَقُولُ : الَّذِي أُرَاهُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّهْيِيجِ ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ : أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ ، بَلْ يُنَافِيهِ : هَذَا هُوَ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ . وَلَوْ قِيلَ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مُطْلَقًا ، لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْغَرَضُ . وَخِطَابُ التَّهْيِيجِ مَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . السَّادِسُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ : إنَّ الْقِتَالَ كَانَ جَائِزًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ فَلَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ لَفَعَلَهُ . وَلَكِنْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ : يُضَعِّفُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُودَ قِتَالٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرًا . وَأَيْضًا السِّيَرُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ الْقِتَالِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ } إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَمَانِ الْمُعَلَّقِ عَلَى أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ ، تُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَيْضًا . السَّابِعُ قَوْلُهُ " فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " فِيهِ تَصْرِيحٌ بِنَقْلِ الْعِلْمِ ، وَإِشَاعَةِ السُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ . وَقَوْلُ عَمْرٍو " أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ - إلَى آخِرِهِ " هُوَ كَلَامُهُ . وَلَمْ يَسْنُدْهُ إلَى رِوَايَةٍ . وَقَوْلُهُ " لَا يُعِيذُ عَاصِيًا " أَيْ لَا يَعْصِمُهُ . وَقَوْلُهُ " وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ " قَدْ فَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ ، وَيُقَالُ فِيهَا : بِضَمِّ الْخَاءِ وَأَصْلُهَا : سَرِقَةُ الْإِبِلِ ، كَمَا قَالَ . وَتُطْلَقُ عَلَى كُلِّ خِيَانَةٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهَا الْبَلِيَّةُ " وَعَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : هِيَ الْفَسَادُ فِي الدِّينِ ، مِنْ الْخَارِبِ وَهُوَ اللِّصُّ الْمُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ ، وَقِيلَ : هِيَ الْعَيْبُ .
220 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - { لَا هِجْرَةَ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ، وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا . وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ . فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا الْإِذْخِرَ . فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ : إلَّا الْإِذْخِرَ } .
" الْقَيْنَ " الْحَدَّادُ . قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا هِجْرَةَ " نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَإِنَّ " الْهِجْرَةَ " تَجِبُ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إسْلَامٍ بِالْفَتْحِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . فَيَكُونُ حُكْمًا وَرَدَ لِرَفْعِ وُجُوبِ هِجْرَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَجِبُ الْهِجْرَةُ الْيَوْمَ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَفِي ضِمْنِ الْحَدِيثِ : الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ أَبَدًا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، " وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " أَيْ إذَا طُلِبْتُمْ لِلْجِهَادِ فَأَجِيبُوا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ وَالْمُبَادَرَةُ إلَى الْجِهَادِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، فَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ بَعْضَ النَّاسِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ ، فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ مَنْ عُيِّنَ لِلْجِهَادِ . وَيُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جِهَادًا مَعَ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ إذْ غَيْرُ الْخَالِصَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ . فَهِيَ كَالْعَدَمِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ : وَلَكِنْ جِهَادٌ بِالْفِعْلِ ، أَوْ نِيَّةُ الْجِهَادِ لِمَنْ يَفْعَلُ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ . مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } تَكَلَّمُوا فِيهِ ، مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ } فَقِيلَ بِظَاهِرِ هَذَا ، وَأَنَّ إبْرَاهِيمَ أَظْهَرَ حُرْمَتُهَا بَعْدَ مَا نُسِيَتْ . وَالْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَقِيلَ : إنَّ التَّحْرِيمَ فِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ ، وَحُرْمَتُهَا يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ : كِتَابَتُهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، أَوْ غَيْرِهِ : حَرَامًا . وَأَمَّا الظُّهُورُ لِلنَّاسِ : فَفِي زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَقَوْلُهُ " فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ الْقِتَالُ " يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ يَتَنَاوَلُ الْقِتَالَ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ لَا يُنْسَخُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ أَوْ إبَاحَتِهِ . وَقَوْلُهُ " لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الشَّوْكِ مُمْتَنِعٌ كَغَيْرِهِ . وَذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ . وَالْحَدِيثُ مَعَهُ . وَأَبَاحَهُ غَيْرُهُ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّوْكَ مُؤْذٍ . وَقَوْلُهُ " وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ " أَيْ يُزْعَجُ مِنْ مَكَانِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَرِيقِ فَحْوَى الْخِطَابِ : أَنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ إذَا حَرَّمَ تَنْفِيرَهُ ، بِأَنْ يُزْعَجَ مِنْ مَكَانِهِ ، فَقَتْلُهُ أَوْلَى . وَقَوْلُهُ " وَلَا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا " اللُّقْطَةُ - بِإِسْكَانِ الْقَافِ ، وَقَدْ يُقَالُ بِفَتْحِهَا - الشَّيْءُ الْمُلْتَقَطُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ لُقْطَةَ الْحَرَمِ لَا تُؤْخَذُ لِلتَّمَلُّكِ . وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ لِتُعَرَّفَ لَا غَيْرُ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهَا كَغَيْرِهَا فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّمَلُّكِ . وَيُسْتَدَلُّ لِلشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَ " الْخَلَى " بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْقَصْرِ : الْحَشِيشُ إذَا كَانَ رَطْبًا ، وَاخْتِلَاؤُهُ : قَطْعُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَ " الْإِذْخِرَ " نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ . وَقَوْلُهُ " فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ " الْقَيْنُ : الْحَدَّادُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِ النَّارِ ، وَ " بُيُوتِهِمْ " تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّسْقِيفِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إلَّا الْإِذْخِرَ " عَلَى الْفَوْرِ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرْوِي اجْتِهَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ تَفْوِيضَ الْحُكْمِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُوحَى إلَيْهِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ . فَإِنَّ الْوَحْي إلْقَاءٌ فِي خُفْيَةٍ . وَقَدْ تَظْهَرُ أَمَارَاتُهُ وَقَدْ لَا تَظْهَرُ .
باب ما يجوز قتله في الحرم :
221 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ : الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَلِمُسْلِمٍ { يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ }
. فِيهِ مَبَاحِثُ ، الْأَوَّلُ : الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ " خَمْسٌ " بِالتَّنْوِينِ " فَوَاسِقُ " وَيَجُوزُ خَمْسُ فَوَاسِقَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَشْهُورِ . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ " خَمْسٌ " بِقَوْلِهِ " كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُنَوَّنَ " خَمْسٌ " فَيَكُونُ " فَوَاسِقُ " خَبَرًا . وَبَيْنَ التَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ فِي هَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ فِي الْمَعْنَى . وَذَلِكَ : أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْفَوَاسِقِ بِالْقَتْلِ . وَرُبَّمَا أَشْعَرَ التَّخْصِيصُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهَا وَبِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ . وَأَمَّا مَعَ التَّنْوِينِ : فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ الْقَتْلُ - مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا ، وَهُوَ الْفِسْقُ . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ التَّعْمِيمَ لِكُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الدَّوَابِّ ، وَهُوَ ضِدُّ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَفْهُومِ . وَهُوَ التَّخْصِيصُ . الثَّانِي : الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّ الْغُرَابَ يُرْمَى وَلَا يُقْتَلُ . الثَّالِثُ : اخْتَلَفُوا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ ، أَوْ التَّعْدِيَةِ لِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا بِالْمَعْنَى . فَقِيلَ : بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا . وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ . وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ الْمُخَالِفِينَ لِأَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْحَقَ الذِّئْبَ بِهَا . وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُنَاقَضَاتِهِ ، وَاَلَّذِي قَالُوا بِالتَّعْدِيَةِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ التَّعْدِيَةُ . فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّارِحِينَ : أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : الْمَعْنَى فِي جَوَازِ قَتْلِهِنَّ : كَوْنُهُنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ ، فَكُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ قَتْلُهُ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُنَّ مُؤْذِيَاتٍ ، فَكُلُّ مُؤْذٍ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ ، وَمَا لَا فَلَا . وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ جَوَازَ الْقَتْلِ غَيْرُ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ ، وَإِنَّمَا يَرَى الشَّافِعِيُّ جَوَازَ الِاصْطِيَادِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْقَتْلِ لِغَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَأَمَّا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ : فَغَيْرُ هَذَا ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اصْطِيَادُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرُدُّونَ هَذَا بِظُهُورِ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْسِ ، وَهُوَ الْأَذَى الطَّبِيعِيُّ ، وَالْعُدْوَانُ الْمُرَكَّبُ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَالْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَدَّى الْقَائِسُونَ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى ذَلِكَ الْحُكْمَ ، كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي فِي بَابِ الرِّبَا ، وَقَدْ وَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى التَّعْدِيَةِ فِيهَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُعَدَّى بِهِ . وَأَقُولُ : الْمَذْكُورُ ثَمَّ : هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَلْقَابِ ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، فَالتَّعْدِيَةُ لَا تُنَافِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مَفْهُومُ عَدَدٍ ، وَقَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ لِلتَّخْصِيصِ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَوَّلَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ بِالْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ - أَعْنِي مَفْهُومَ الْعَدَدِ - وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ هَذَا أَيْضًا . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى الْأَذَى إلَى كُلِّ مُؤْذٍ : قَوِيٌّ ، بِالْإِضَافَةِ إلَى تَصَرُّفِ الْقَائِسِينَ ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْإِيمَاءِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِحُرْمَةِ الْأَكْلِ : فَفِيهِ إبْطَالُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إيمَاءُ النَّصِّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ : أَنْ يَتَقَيَّدَ الْحُكْمُ بِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ ، وَثَبَتَ الْحُكْمُ حَيْثُ تُعْدَمُ : بَطَلَ تَأْثِيرُهَا بِخُصُوصِهَا فِي الْحُكْمِ ، حَيْثُ ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَ انْتِفَائِهَا ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِهَا . الْبَحْثُ الرَّابِعُ : الْقَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ بِالْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا جَاءَ مَعَهَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ - مِنْ ذِكْرِ الْحَيَّةِ - وَفُوا بِمُقْتَضَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ ، وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْدِيَةِ إلَى غَيْرِهَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ فِي تَخْصِيصِ الْمَذْكُورَاتِ بِالذِّكْرِ ، وَقَالَ مَنْ عَلَّلَ بِالْأَذَى : إنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيُنَبِّهَ بِهَا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا ، وَأَنْوَاعُ الْأَذَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَيَكُونُ ذِكْرُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مُنَبِّهًا عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا فِيهِ ذَلِكَ النَّوْعُ ، فَنَبَّهَ بِالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ عَلَى مَا يُشَارِكُهُمَا فِي الْأَذَى بِاللَّسْعِ ، كَالْبُرْغُوثِ مَثَلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَنَبَّهَ بِالْفَأْرَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ بِالنَّقْبِ وَالتَّقْرِيضِ ، كَابْنِ عِرْسٍ ، وَنَبَّهَ بِالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ بِالِاخْتِطَافِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِ ، وَنَبَّهَ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى كُلِّ عَادٍ بِالْعَقْرِ وَالِافْتِرَاسِ بِطَبْعِهِ ، كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّعْدِيَةِ إلَى كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ : فَقَدْ أَحَالُوا التَّخْصِيصَ فِي الذِّكْرِ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْغَالِبِ ، فَإِنَّهَا الْمُلَابِسَاتُ لِلنَّاسِ وَالْمُخَالِطَاتُ فِي الدُّورِ ، بِحَيْثُ يَعُمُّ أَذَاهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّخْصِيصِ ، وَالتَّخْصِيصُ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، إلَّا أَنَّ خُصُومَهُمْ جَعَلُوا هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَرَضًا عَلَيْهِمْ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْمُؤْذِيَةِ . وَتَقْرِيرُهُ : أَنَّ إلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ قِيَاسًا شَرْطُهُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ أَوْ رُجْحَانُهُ . أَمَّا إذَا انْفَرَدَ الْأَصْلُ بِزِيَادَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُعْتَبَرَ ، فَلَا إلْحَاقَ . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَامَّةَ الْأَذَى - كَمَا ذَكَرْتُمْ - نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ قَتْلِهَا ، لِعُمُومِ ضَرَرِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا لَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ مِمَّا لَا يُخَالِطُ فِي الْمَنَازِلِ ، فَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ ، كَمَا دَعَتْ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِ مَا يُخَالِطُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ . وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ نَادِرٌ ، وَقَدْ أُبِيحَ قَتْلُهُ . وَالثَّانِي : مُعَارَضَةُ النُّدْرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الضَّرَرِ . أَلَا تَرَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْفَأْرَةِ بِالنَّقْبِ - مَثَلًا - وَالْحِدَأَةِ بِخَطْفِ شَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يُسَاوِي مَا فِي الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ مِنْ إتْلَافِ الْأَنْفُسِ ؟ فَكَانَ إبَاحَةُ الْقَتْلِ أَوْلَى . الْبَحْثُ الْخَامِسُ : اخْتَلَفُوا فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ . فَقِيلَ : هُوَ الْإِنْسِيُّ الْمُتَّخَذُ . وَقِيلَ : هُوَ كُلُّ مَا يَعْدُو ، كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ . وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ " بِأَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ . افْتَرَسَهُ السَّبُعُ " فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ . وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلُونَ قَوْلَهُمْ : بِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكَلْبِ عَلَى غَيْرِ الْإِنْسِيِّ الْمُتَّخَذِ : خِلَافُ الْعُرْفِ . وَاللَّفْظَةُ إذَا نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى مَعْنًى ، كَانَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . الْبَحْثُ السَّادِسُ : اخْتَلَفُوا فِي صِغَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ . وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مُنْقَسِمَةٌ . فَأَمَّا صِغَارُ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ : فَفِي قَتْلِهِمَا قَوْلَانِ لَهُمْ . وَالْمَشْهُورُ : الْقَتْلُ . وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ " الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ " وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْقَتْلَ لِلصِّغَارِ : فَاعْتَبَرَ الصِّفَةَ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا الْقَتْلَ ، وَهِيَ " الْفِسْقُ " عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ إيمَاءُ اللَّفْظِ . وَهَذَا الْفِسْقُ مَعْدُومٌ فِي الصِّغَارِ حَقِيقَةً . وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ . وَأَمَّا صِغَارُ الْكِلَابِ فَفِيهَا قَوْلَانِ لَهُمْ أَيْضًا . وَأَمَّا صِغَارُ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ : فَتُقْتَلُ . وَظَاهِرُ اللَّفْظِ وَالْإِطْلَاقِ : يَقْتَضِي أَنْ تَدْخُلَ الصِّغَارُ لِانْطِلَاقِ لَفْظِ " الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ " وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهَا . وَأَمَّا الْكَلْبُ الْعَقُورُ : فَإِنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَيَّدُ الْإِبَاحَةُ بِهَا . لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الصَّغِيرِ ، وَلَا هِيَ مَعْلُومَةُ الْوُجُودِ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَقَاءِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ . فَإِنَّهُ عِنْدَ الْكِبَرِ يَنْتَهِي بِطَبْعِهِ إلَى الْأَذَى قَطْعًا . الْبَحْثُ السَّابِعُ : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ مَثَلًا ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرَمِ : مُعَلَّلٌ بِالْفِسْقِ وَالْعُدْوَانِ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ . وَالْقَاتِلُ عُدْوَانًا فَاسِقٌ بِعُدْوَانِهِ . فَتُوجَدُ الْعِلَّةُ فِي قَتْلِهِ ، فَيُقْتَلُ بِالْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ . وَهَذِهِ الْفَوَاسِقُ فِسْقُهَا طَبْعِيٌّ . وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا . وَالْمُكَلَّفُ إذَا ارْتَكَبَ الْفِسْقَ هَاتِكٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ . فَهُوَ أَوْلَى بِإِقَامَةِ مُقْتَضَى الْفِسْقِ عَلَيْهِ . وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِالْهَيِّنِ . وَفِيهِ غَوْرٌ ، فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
باب دخول مكة وغيره :
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ } .
ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ذَلِكَ الْيَوْمَ " وَظَاهِرُ كَوْنِ " الْمِغْفَرُ " عَلَى رَأْسِهِ . يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ . وَأُخِذَ مِنْ هَذَا : أَنَّ الْمُرِيدَ لِدُخُولِ مَكَّةَ إذَا كَانَ مُحَارَبًا يُبَاحُ لَهُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، لِحَاجَةِ الْمُحَارَبِ إلَى التَّسَتُّرِ بِمَا يَقِيهِ وَقْعَ السِّلَاحِ . " وَابْنُ خَطَلٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى . وَإِبَاحَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلِهِ قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ إبَاحَةِ قَتْلِ الْمُلْتَجِئِ إلَى الْحَرَمِ . وَيُجَابُ عَنْهُ . بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامِ { وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي . وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي . وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
223 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ ، مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ ، وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى } .
كَدَاءٌ " بِفَتْحِ الْكَافِّ وَالْمَدِّ . وَ " الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى " الْمَعْرُوفُ فِيهَا " كُدَا " بِضَمِّ الْكَافِّ وَالْقَصْرِ . وَثَمَّ مَوْضِعٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ " كُدَيٌّ " بِضَمِّ الْكَافِّ وَفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَلَيْسَ هُوَ السُّفْلَى عَلَى الْمَعْرُوفِ . وَ " الثَّنِيَّةُ " طَرِيقٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ . وَالْمَشْهُورُ : اسْتِحْبَابُ الدُّخُولِ مِنْ كَدَاءَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَرِيقَ الدَّاخِلِ إلَى مَكَّةَ ، فَيَعْرُجُ إلَيْهَا . وَقِيلَ : إنَّمَا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا عَلَى طَرِيقِهِ . فَلَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَيْسَتْ عَلَى طَرِيقِهِ . وَفِيهِ نَظَرٌ .
224 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمَّا فَتَحُوا : كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ . فَلَقِيتُ بِلَالًا ، فَسَأَلَتْهُ : هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ } .
فِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادٍ لَا تُحْصَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ . وَمَالِكٌ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ . فَكَرِهَ الْفَرْضَ أَوْ مَنَعَهُ . وَخَفَّفَ فِي النَّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ فِي الشُّرُوطِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ وَالْأَعْمِدَةِ ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي الْجِهَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُسَامَتَتِهِمَا حَقِيقَةٌ . وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا قُدِّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ " بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ " وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا : أُوِّلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ : أَنَّهُ صَلَّى فِي سَمْتٍ مَا بَيْنَهُمَا . وَإِنْ كَانَتْ آثَارًا فَقَطْ : قُدِّمَ الْمُسْنَدُ عَلَيْهَا .
225 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، فَقَبَّلَهُ . وَقَالَ : إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَقَوْلُ عُمَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي ابْتِدَاءِ تَقْبِيلِهِ : لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا وَلِيُزِيلَ بِذَلِكَ الْوَهْمَ الَّذِي كَانَ تَرَتَّبَ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُحَقِّقُ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَحْجَارِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ فِي الْأَصْنَامِ .
226 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ . فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ . فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا : إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ }
قِيلَ : إنَّ هَذَا الْقُدُومَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَجَّةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فَأُخِذَ مِنْ هَذَا : أَنَّهُ نُسِخَ مِنْهُ عَدَمُ الرَّمَلِ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ . فَإِنَّهُ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ } وَذَكَرَ : أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَجِّ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ . وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ مُطْلَقًا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ . وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ زَالَتْ . فَيَكُونُ اسْتِحْبَابُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ تَأَسِّيًا وَاقْتِدَاءً بِمَا فُعِلَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ : تَذَكُّرُ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ لِلسَّلَفِ الْكِرَامِ ، وَفِي طَيِّ تَذَكُّرِهَا : مَصَالِحُ دِينِيَّةٌ . إذْ يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ كَثِيرٍ مِنْهَا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهِ ، وَبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ . وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْحَجِّ ، وَيُقَالُ فِيهَا " إنَّهَا تَعَبُّدٌ " لَيْسَتْ كَمَا قِيلَ . أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا فَعَلْنَاهَا وَتَذَكَّرْنَا أَسْبَابَهَا : حَصَلَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْأَوَّلِينَ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ احْتِمَالِ الْمَشَاقِّ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ ، فَكَانَ هَذَا التَّذَكُّرُ بَاعِثًا لَنَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَمُقَرِّرًا فِي أَنْفُسِنَا تَعْظِيمَ الْأَوَّلِينَ . وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْقُولٌ . مِثَالُهُ : السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . إذَا فَعَلْنَاهُ وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ سَبَبَهُ : قِصَّةُ هَاجَرَ مَعَ ابْنِهَا ، وَتَرْكُ الْخَلِيلِ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُوحِشِ مُنْفَرِدَيْنِ مُنْقَطِعَيْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، مَعَ مَا أَظْهَرهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا مِنْ الْكَرَامَةِ ، وَالْآيَةِ فِي إخْرَاجِ الْمَاءِ لَهُمَا - كَانَ فِي ذَلِكَ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ . أَيْ فِي التَّذَكُّرِ لِتِلْكَ الْحَالِ . وَكَذَلِكَ " رَمْيُ الْجِمَارِ " إذَا فَعَلْنَاهُ ، وَتَذَكَّرْنَا أَنَّ سَبَبَهُ : رَمْيُ إبْلِيسٍ بِالْجِمَارِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخَلِيلِ ذَبْحَ وَلَدِهِ : حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَصَالِحُ عَظِيمَةُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : جَوَازُ تَسْمِيَةِ الطَّوَّافَات بِالْأَشْوَاطِ . لِقَوْلِهِ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ " وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمَا كَرِهَا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ . وَالْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِهِ . وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " أَنَّهُمْ لَمْ يَرْمُلُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ " لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا فِي هَذَا الْمَكَانِ .
الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ - أَوَّلَ مَا يَطُوفُ - يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِلَامِ لِلرُّكْنِ . وَذَكَرَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ اسْتِلَامَ الرُّكْنِ يُسْتَحَبُّ مَعَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ أَيْضًا ، وَلَهُ مُتَمَسَّكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " اسْتَلَمَ الْحَجَرَ . وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " عَنْ كَوْنِهِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ، فَإِنَّ الْحَجَرَ بَعْضُ الرُّكْنِ . كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ " اسْتَلَمَ الرُّكْنَ " إنَّمَا يُرِيدُ بَعْضَهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى " الْخَبَبِ " فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الطَّوَافِ فِي ابْتِدَاءِ قُدُومِ مَكَّةَ .
228 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ }
الْمِحْجَنُ : عَصًا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ رَاكِبًا . وَقِيلَ : إنَّ الْأَفْضَلَ : الْمَشْيُ . وَإِنَّمَا طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا لِتَظْهَرَ أَفْعَالُهُ ، فَيُقْتَدَى بِهَا وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ . وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ رَاجِحًا بِالنَّظَرِ إلَى مَحِلِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ . فَإِذَا عَارَضَهُ أَمْرٌ آخَرُ أَرْجَحُ مِنْهُ : قُدِّمَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ الْفَضِيلَةُ الْأُولَى ، حَتَّى إذَا زَالَ ذَلِكَ الْمُعَارَض الرَّاجِحُ : عَادَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ . وَهَذَا إنَّمَا يَقْوَى إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِقَرَائِنَ وَمُنَاسَبَاتٍ . وَقَدْ يَضْعُفُ ، وَقَدْ يَقْوَى بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ . وَهَهُنَا يَصْطَدِمُ الظَّاهِرُ مَعَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْمَعَانِي .
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُؤْمَنُ بَوْلُ الْبَعِيرِ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ . وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُعَرِّضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ لِلنَّجَاسَةِ . وَقَدْ مُنِعَ لِتَعْظِيمِ الْمَسَاجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا .
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِلَامِ بِالْمِحْجَنِ ، إذَا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِتَقْبِيلِهِ .
229 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ } .
اخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ تُعِمُّ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا بِالِاسْتِلَامِ ، أَمْ لَا ؟ وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ . وَهُوَ اخْتِصَاصُ الِاسْتِلَامِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ . وَعِلَّتُهُ : أَنَّهُمَا عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ فَاسْتَقْصَرَا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ . كَذَا ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ . وَهُوَ تَعْلِيلٌ مُنَاسِبٌ . وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا ، وَيَقُولُ " لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا " وَاتِّبَاعُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَوْلَى . فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعِبَادَاتِ : الِاتِّبَاعُ ، لَا سِيَّمَا إذَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ مَعَ تَوَهُّمِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ . وَهُنَا أَمْرٌ زَائِدٌ . وَهُوَ إظْهَارُ مَعْنًى لِلتَّخْصِيصِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا تُرِكَ فِيهِ الِاسْتِلَامُ .
باب التمتع :
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ - قَالَ { سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ ؟ فَأَمَرَنِي بِهَا ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ الْهَدْيِ ؟ فَقَالَ : فِيهِ جَزُورٌ ، أَوْ بَقَرَةٌ ، أَوْ شَاةٌ ، أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ : وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا ، فَنِمْتُ . فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ : كَأَنَّ إنْسَانًا يُنَادِي : حَجٌّ مَبْرُورٌ ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ . فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثَتْهُ . فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
" أَبُو جَمْرَةَ " بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ " نَصْرٌ " بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ، الضُّبَعِيُّ : بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ " سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ " الظَّاهِرُ : أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ . وَقَوْلُهُ " أَمَرَنِي بِهَا " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ . وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ " وَكَانَ نَاسٌ كَرِهُوهَا " وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَرِهَهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ : هَلْ هِيَ الْمُتْعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ؟ وَالْأَقْرَبُ : أَنَّهَا هَذِهِ . فَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَالنَّهْيَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْأَوْلَى ، وَالْمَشُورَةُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ . وَقَوْلُهُ " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُنَادِي . .. إلَخْ فِيهِ : اسْتِئْنَاسٌ بِالرُّؤْيَا فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ ، لِمَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ مِنْ عِظَمِ قَدْرِهَا ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ . وَهَذَا الِاسْتِئْنَاسُ وَالتَّرْجِيحُ لَا يُنَافِي الْأُصُولَ . وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " اللَّهُ أَكْبَرُ . سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَأَيَّدَ بِالرُّؤْيَا وَاسْتَبْشَرَ بِهَا . وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ .
الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى . فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ . وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ الْحُلَيْفَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ . وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ ، وَمَشَى أَرْبَعَةً ، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا ، وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ . وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ } .
قَوْلُهُ " تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قِيلَ " : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّمَتُّعِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ . وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا عِنْدَ قَوْمٍ ، وَالْقِرَانُ فِيهِ تَمَتُّعٌ وَزِيَادَةٌ - إذْ فِيهِ إسْقَاطُ أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ ، وَأَحَدُ الْمِيقَاتَيْنِ - سُمِّيَ تَمَتُّعًا عَلَى هَذَا ، بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ . وَقَدْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " تَمَتَّعَ " عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ ، كَمَا قِيلَ بِمِثْلِ هَذَا فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ ، وَأُرِيدَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْمُحْتَمَلِ : مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ - هُوَ الَّذِي رَوَى " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ " . وَقَوْلُهُ " وَسَاقَ الْهَدْيَ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَوْقِ الْهَدْيِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ . وَقَوْلُهُ " فَبَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " نَصٌّ فِي الْإِهْلَالِ بِهِمَا . وَلَمَّا ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارَنَ - بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا - احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ " أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ اخْتِيَارِهِ . فَيَجْعَلُ الْإِهْلَالَ فِي قَوْلِهِ : أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ " عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَيَكُونُ قَدْ قَدَّمَ فِيهَا لَفْظَ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ عَلَى لَفْظِهِ بِالْحَجِّ . وَلَا يُرَادُ بِهِ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا رَوَاهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا نَحْتَاجُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ إلَى ارْتِكَابِ كَوْنِ " الْقِرَانِ " بِمَعْنَى : تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ . فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا . فَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ : غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ . وَقَوْلُهُ " فَتَمَتَّعَ النَّاسُ إلَى آخِرِهِ " حَمْلٌ عَلَى التَّمَتُّعِ اللُّغَوِيِّ . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَتِّعِينَ بِمَعْنَى التَّمَتُّعِ الْمَشْهُورِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُحْرِمُوا بِالْعُمْرَةِ ابْتِدَاءً . وَإِنَّمَا تَمَتَّعُوا بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ . فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ " التَّمَتُّعُ " فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ ، أَوْ يَكُونُونَ تَمَتَّعُوا بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ابْتِدَاءً . نَظَرًا إلَى الْمَآلِ . ثُمَّ إنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَكَانُوا مُتَمَتِّعِينَ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ أَهْدَى - إلَى آخِرِهِ " مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } . وَقَوْلُهُ " فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ هَذَا الطَّوَافِ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَقَوْلُهُ " فَلْيُقَصِّرْ " أَيْ مِنْ شَعْرِهِ . وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا . قِيلَ : وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْحَلْقِ حَتَّى يَبْقَى عَلَى الرَّأْسِ مَا يَحْلِقُهُ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْحِلَاقَ فِي الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ الْحِلَاقِ فِي الْعُمْرَةِ . كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ . وَاسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ " فَلْيَحْلِقْ " عَلَى أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ . وَقِيلَ : فِي قَوْلِهِ " فَلْيَحْلِلْ " إنَّ الْمُرَادَ بِهِ : يَصِيرُ حَلَالًا . إذْ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَ فِعْلِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، وَالْحِلَاقِ فِيهَا : إلَى تَجْدِيدِ فِعْلٍ آخَرَ . وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْإِحْلَالِ : هُوَ فِعْلُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ .
وَقَوْلُهُ " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ " يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الرُّجُوعِ إلَى الصَّوْمِ عَنْ الْهَدْيِ بِعَدَمِ وِجْدَانِهِ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ صِيَامَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ إذَا عَدَمَ الْهَدْيُ يَقْتَضِي الِاكْتِفَاءَ بِهَذَا الْبَدَلِ فِي الْحَالِ ، لِقَوْلِهِ " ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ " وَأَيَّامُ الْحَجِّ مَحْصُورَةٌ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ فِي الْحَجِّ إلَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الصَّوْمِ فِي الْحَالِ ، عَاجِزًا عَنْ الْهَدْيِ فِي الْحَالِ ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَاهُ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فِي الْحَجِّ " هُوَ نَصُّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُتَمَتِّعِ الصِّيَامُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْحَجِّ ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ فَقَطْ ، بَلْ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ فِي الْحَجِّ . وَأَمَّا الْهَدْيُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْحَجِّ : فَقِيلَ لَا يَجُوزُ . وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ : جَوَازُ الْهَدْيِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا : مَنْ أَجَازَ الْهَدْيَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ لِلْمُتَمَتِّعِ صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ إثْبَاتِ مَقْدَمِهِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ الْحَجِّ ، أَوْ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الْبَاقِيَةَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا : أَنَّهَا مِنْ الْحَجِّ ، أَوْ وَقْتَهَا مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ . وَقَوْلُهُ " إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ " دَلِيلٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّجُوعِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إذَا رَجَعْتُمْ } هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَهْلِ ، لَا الرُّجُوعُ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ . وَقَوْلُهُ " وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ بِذَلِكَ
ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخَبَبِ وَهُوَ الرَّمَلُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ . وَقَوْلُهُ " ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ " يَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخَبَبِ ، عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ .
وَقَوْلُهُ " عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ " دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عِنْدَ الْمَقَامِ . وَ " طَوَافُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ : دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَاسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّعْيِ : أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ طَوَافٍ كَيْفَ كَانَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَقِيبَ طَوَافٍ وَاجِبٍ . وَهَذَا الْقَائِلُ يَرَى أَنْ طَوَافَ الْقُدُومِ وَاجِبٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا . وَقَوْلُهُ " ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ . .. إلَخْ " امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْقَارِنِ . وَقَوْلُهُ " وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ " يُبَيِّنُ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بِأَنْ " لَا يَحِلُّ مِنْهَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا " .
232 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : { عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ : إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي ، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّلْبِيدِ لِشَعْرِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ . وَ " التَّلْبِيدُ " أَنْ يَجْعَلَ فِي الشَّعْرِ مَا يُسَكِّنُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاشِ ، كَالصَّبِرِ أَوْ الصَّمْغِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلتَّلْبِيدِ أَثَرًا فِي تَأْخِيرِ الْإِحْلَالِ إلَى النَّحْرِ . وَفِيهِ : أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَوْمَ النَّحْرِ . وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } . وَقَوْلِهَا " مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ ؟ " هَذَا الْإِحْلَالُ : هُوَ الَّذِي وَقَعَ لِلصَّحَابَةِ فِي فَسْخِهِمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ، لَيَحِلُّوا بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ . وَلَمْ يَحِلَّ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ . وَقَوْلُهَا " مِنْ عُمْرَتِكَ " يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا . وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهَا " مِنْ عُمْرَتِكَ " أَيْ مِنْ عُمْرَتِكَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِكَ وَقِيلَ " مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ لَمْ تَحِلَّ بِعُمْرَتِكَ ، أَيْ الْعُمْرَةِ الَّتِي تَحَلَّلَ بِهَا النَّاسُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَوْنُ " مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاءِ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهَا " عُمْرَتِكَ " تَقْتَضِي الْإِضَافَةُ فِيهِ تَقَرُّرَ عُمْرَةٍ لَهُ تُضَافُ إلَيْهِ . وَالْعُمْرَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّحَلُّلُ لَمْ تَكُنْ مُتَقَرِّرَةً وَلَا مَوْجُودَةً وَقِيلَ : يُرَادُ بِالْعُمْرَةِ الْحَجُّ بِنَاءً عَلَى النَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ . وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ الزِّيَارَةُ . وَالزِّيَارَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَجِّ ، أَيْ مَوْجُودَةُ الْمَعْنَى فِيهِ . وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ إذَا انْتَقَلَ إلَى حَقِيقَةٍ عُرْفِيَّةٍ كَانَتْ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ .
233 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ { أُنْزِلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهَا ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ . قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ } قَالَ الْبُخَارِيُّ " يُقَالُ : إنَّهُ عُمَرُ " . وَلِمُسْلِمٍ { نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ } وَلَهُمَا بِمَعْنَاهُ .
يُرَادُ بِآيَةِ الْمُتْعَةِ : قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا " نَفْيٌ مِنْهُ لِمَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ الثَّابِتِ بِالْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّفْعُ مُمْكِنًا لَمَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ " وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا " وَمُرَادُهُ بِنَفْيِ نَسْخِ الْقُرْآنِ : الْجَوَازُ ، وَيَنْفِي وُرُودَ السُّنَّةِ بِالنَّهْيِ : تَقَرُّرُ الْحُكْمِ وَدَوَامُهُ . إذْ لَا طَرِيقَ لِرَفْعِهِ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ . إذْ لَوْ نُسِخَ بِهِ لَقَالَ : وَلَمْ يُتَّفَقْ عَلَى الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ حِينَئِذٍ يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِ الْحُكْمِ . فَكَانَ يُحْتَاجُ إلَى نَفْيِهِ ، كَمَا نُفِيَ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِالنَّسْخِ . وَوُرُودُ السَّنَةِ بِالنَّهْيِ
وَقَوْلُهُ " قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ " هُوَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْبُخَارِيِّ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ عُمَرُ : هُوَ مُتْعَةُ الْحَجِّ الْمَشْهُورَةِ . وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ الْحَجُّ فِي عَامِهِ ، خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : الْمُتْعَةُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، أَوْ لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ هَاتَيْنِ الْمُتْعَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِجَوَازِهِ . وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورُ قَدْ قِيلَ فِيهِ : إنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ . وَحُمِلَ عَلَى الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ . وَحَذَرًا أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ الْأَفْضَلَ ، وَيَتَتَابَعُوا عَلَى غَيْرِهِ ، طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
باب الهدي :
234 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا - أَوْ قَلَّدْتُهَا - ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ . وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ مِنْ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ لِمَنْ لَا يُسَافِرُ مَعَهُ . وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِهِ لِلْهَدْيِ ، وَإِشْعَارِهِ مِنْ بَلَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَارَ مَعَ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الْإِشْعَارَ إلَى حِينِ الْإِحْرَامِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِشْعَارِ فِي الْجُمْلَةِ ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ . وَهُوَ شَقُّ صَفْحَةِ السَّنَامِ طُولًا وَسَلْتُ الدَّمِ عَنْهُ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ يَكُونُ فِي الْأَيْمَنِ ، أَوْ فِي الْأَيْسَرِ ؟ وَمَنْ أَنْكَرَهُ قَالَ : إنَّهُ مُثْلَةٌ . وَالْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ بَعَثَ بِهَدْيِهِ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ ، وَنُقِلَ فِيهِ الْخِلَافُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ فَتْلِ الْقَلَائِدِ .
235 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا } .
فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إهْدَاءِ الْغَنَمِ .
236 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً ، فَقَالَ : ارْكَبْهَا . قَالَ : إنَّهَا بَدَنَةٌ . قَالَ ارْكَبْهَا . فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا ، يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَفِي لَفْظٍ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ ، أَوْ الثَّالِثَةِ : ارْكَبْهَا . وَيْلَكَ ، أَوْ وَيْحَكَ " .
اخْتَلَفُوا فِي رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ عَلَى مَذَاهِبَ . فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَرَدَتْ بِهِ ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ سِيرَةِ الْجَاهِلِيَّةِ ، مِنْ مُجَانَبَةِ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَتَوَقِّيهَا . وَرُدَّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَبْ هَدْيَهُ ، وَلَا أَمَرَ النَّاسَ بِرُكُوبِ الْهَدَايَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَرْكَبُهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ ، تَمَسُّكًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَرْكَبُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَيَرْكَبُهَا مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ . وَهَذَا الْمَنْقُولُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " ارْكَبْهَا إذَا احْتَجْتَ إلَيْهَا " فَحُمِلَ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ رُكُوبِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ . وَقَوْلُهُ " وَيْلَكَ " كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُخَاطَبِ . وَفِيهَا هَهُنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ صَاحِبُ الْبَدَنَةِ ذَلِكَ لِمُرَاجَعَتِهِ وَتَأَخُّرِ امْتِثَالِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لِقَوْلِ الرَّاوِي " فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ " وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُرَادَ بِهَا مَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ . وَيَكُونُ مِمَّا جَرَى عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمُخَاطَبَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمَوْضُوعِهِ . كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " تَرِبَتْ يَدَاكَ " وَ " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ " وَكَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ " وَيْلَهُ " وَنَحْوِهِ . وَمَنْ يَمْنَعُ رُكُوبَ الْبَدَنَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : يَحْمِلُ هَذِهِ الصُّورَةَ عَلَى ظُهُورِ الْحَاجَةِ إلَى رُكُوبِهَا فِي الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ .
237 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ ، وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا ، وَأَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا . وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الْقِيَامِ عَلَى الْهَدْيِ وَذَبْحِهِ ، وَالتَّصَدُّقِ بِهِ . وَقَوْلُهُ " وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا " يَدُلُّ عَلَى التَّصَدُّقِ بِالْجَمِيعِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ، وَوَاجِبٌ فِي بَعْضِ الدِّمَاءِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُلُودَ تَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ فِي التَّصَدُّقِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ . فَحُكْمُهَا حُكْمُهُ . وَقَوْلُهُ " أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا " ظَاهِرُهُ : عَدَمُ الْإِعْطَاءِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَجْهٍ . وَلَا شَكَّ فِي امْتِنَاعِهِ إذَا كَانَ الْمُعْطَى أُجْرَةَ الذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِبَعْضِ الْهَدْيِ وَالْمُعَاوَضَةُ فِي الْأُخْرَى كَالْبَيْعِ . وَأَمَّا إذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ خَارِجًا عَنْ اللَّحْمِ الْمُعْطَى ، وَكَانَ اللَّحْمُ زَائِدًا عَلَى الْأُجْرَةِ ، فَالْقِيَاسُ : أَنْ يَجُوزَ . وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا " وَأَطْلَقَ الْمَنْعَ مِنْ إعْطَائِهِ مِنْهَا . وَلَمْ يُقَيِّدْ الْمَنْعَ بِالْأُجْرَةِ . وَاَلَّذِي يُخْشَى مِنْهُ فِي هَذَا : أَنْ تَقَعَ مُسَامَحَةٌ فِي الْأُجْرَةِ لِأَجْلِ مَا يَأْخُذُهُ الْجَازِرُ مِنْ اللَّحْمِ . فَيَعُودُ إلَى الْمُعَاوَضَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَمَنْ يَمِيلُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ الذَّرَائِعِ يَخْشَى مِنْ مِثْلِ هَذَا .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : { رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ ، فَنَحَرَهَا . فَقَالَ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَحْرِ الْإِبِلِ مِنْ قِيَامٍ . وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أَيْ سَقَطَتْ وَهُوَ يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَائِمَةً . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ تَكُونَ مَعْقُولَةً . وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى وَبَعْضُهُمْ سَوَّى بَيْنَ نَحْرِهَا بَارِكَةً وَقَائِمَةً . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : تُنْحَرُ بَارِكَةً . وَالسُّنَّةُ أَوْلَى .
239 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ . وَقَالَ الْمِسْوَرُ : لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ . قَالَ : فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ ، وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ . فَسَلَّمْت عَلَيْهِ . فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْت : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ ، أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، يَسْأَلُكَ : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ ، فَطَأْطَأَهُ ، حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ . ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ : اُصْبُبْ ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ . ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ . ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ } . وَفِي رِوَايَةٍ " فَقَالَ الْمِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا " .
" الْقَرْنَانِ " الْعَمُودَانِ اللَّذَانِ تُشَدُّ فِيهِمَا الْخَشَبَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ " الْأَبْوَاءُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ : مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهَا حُكْمٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ سَائِغٌ شَائِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ عِلْمَ الْمَسْأَلَةِ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ : قَبُولُ خَبَرِهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ فِيمَا أُرْسِلَ فِيهِ . وَ " الْقَرْنَانِ " فَسَّرَهُمَا الْمُصَنِّفُ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّسَتُّرِ عِنْدَ الْغُسْلِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ فِي الطَّهَارَةِ . لِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ " اُصْبُبْ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاسْتِعَانَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَوَرَدَ فِي تَرْكِهَا شَيْءٌ لَا يُقَابِلُهَا فِي الصِّحَّةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّلَامِ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ فِي حَالِ طَهَارَتِهِ ، بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى الْحَدَثِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكَلَامِ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيكِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ فِي غُسْلِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى نَتْفِ الشَّعْرِ . وَقَوْلُهُ " أَرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ ؟ " يُشْعِرُ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَصْلِ الْغُسْلِ . فَإِنَّ السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الشَّيْءِ : إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَصْلِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ كَانَ عِنْدَهُ مُتَقَرِّرُ الْجَوَازِ ، إذْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا سَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ غُسْلِ الرَّأْسِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ . إذْ الشَّعْرُ عَلَيْهِ ، وَتَحْرِيكُ الْيَدِ فِيهِ يُخَافُ مِنْهُ نَتْفُ الشَّعْرِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ غُسْلِ الْمُحْرِمِ ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ جُنُبًا ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَائِضًا ، فَطَهُرَتْ . وَبِالْجُمْلَةِ الْأَغْسَالُ الْوَاجِبَةُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ تَبَرُّدًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَالشَّافِعِيُّ يُجِيزُهُ . وَزَادَ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا : لَهُ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ . وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ . أَعْنِي غَسْلَ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ . فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَلَا يَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ حِكَايَةُ حَالٍ ، لَا عُمُومُ لَفْظٍ . وَحِكَايَةُ الْحَالِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا . وَتَحْتَمِلُ أَنْ لَا . وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا تَقُومُ حُجَّةٌ .
باب فسخ الحج إلى العمرة :
240 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ ، وَقَدِمَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْيَمَنِ . فَقَالَ : أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ : أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً ، فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا ، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا : نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ . وَحَاضَتْ عَائِشَةُ . فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ . فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ : أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } .
قَوْلُهُ " أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْإِهْلَالُ : أَصْلُهُ رَفْعُ الصَّوْتِ . ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّلْبِيَةِ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا . وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ . وَقَوْلُهُ " بِالْحَجِّ " ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِفْرَادِ . وَهُوَ رِوَايَةُ جَابِرٍ . وَقَوْلُهُ " وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ " كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ هَدْيٌ . وَقَوْلُهُ " أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قِيلَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ وَانْعِقَادِ إحْرَامِ الْمُعَلِّقِ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ الْغَيْرُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَدَّى هَذَا إلَى صُوَرٍ أُخْرَى أَجَازَ فِيهَا التَّعْلِيقَ ، وَمَنَعَهُ غَيْرُهُ وَمَنْ أَبَى ذَلِكَ يَقُولُ : الْحَجُّ مَخْصُوصٌ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ . وَيُجْعَلُ مَحَلَّ النَّصِّ مِنْهَا . وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً " فِيهِ عُمُومٌ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ . وَفَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ : كَانَ جَائِزًا بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقِيلَ : إنَّ عِلَّتَهُ حَسْمُ مَادَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ : هَلْ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، كَمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى جَوَازِهِ . وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ إلَى مَنْعِهِ وَقِيلَ : إنَّ هَذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِالصَّحَابَةِ . وَفِي هَذَا حَدِيثٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا . أَعْنِي فِي كَوْنِهِ مَخْصُوصًا . وَقَوْلُهُ " فَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا " يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ " فَيَطُوفُوا " وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَادَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ . وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ ، أَيْ يَطُوفُوا وَيَسْعَوْا . فَإِنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ السَّعْيِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتَعْمَلَ الطَّوَافَ فِي الطَّوْفِ بِالْبَيْتِ ، وَفِي السَّعْيِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى طَوَافًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
وَقَوْلُهُ " فَقَالُوا : نَنْطَلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَلَامِ . فَإِنَّهُمْ إذَا حَلُّوا مِنْ الْعُمْرَةِ وَوَاقَعُوا النِّسَاءَ ، كَانَ إحْرَامُهُمْ لِلْحَجِّ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ الْمُوَاقَعَةِ ، وَالْإِنْزَالِ . فَحَصَلَتْ الْمُبَالَغَةُ فِي قُرْبِ الزَّمَانِ بِأَنْ قِيلَ " وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ " وَكَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي الْحَجِّ . وَهُوَ الشَّعَثُ وَعَدَمُ التَّرَفُّهِ . فَإِذَا طَالَ الزَّمَنُ فِي الْإِحْرَامِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ . وَإِذَا قَرُبَ زَمَنُ الْإِحْرَامِ مِنْ زَمَنِ التَّحَلُّلِ : ضَعُفَ هَذَا الْمَقْصُودُ ، أَوْ عَدِمَ وَكَأَنَّهُمْ اسْتَنْكَرُوا زَوَالَ هَذَا الْمَقْصُودِ أَوْ ضَعْفَهُ ، لِقُرْبِ إحْرَامِهِمْ مِنْ تَحَلُّلِهِمْ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ } فِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : جَوَازُ اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ " لَوْ " فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ . وَهُوَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : إنَّ كَرَاهَتَهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي التَّلَهُّفِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا ، إمَّا طَلَبًا كَمَا يُقَالُ : لَوْ فَعَلْتُ كَذَا حَصَلَ لِي كَذَا . وَإِمَّا هَرَبًا كَقَوْلِهِ : لَوْ كَانَ كَذَا لَمَا وَقَعَ لِي كَذَا وَكَذَا . لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صُورَةِ عَدَمِ التَّوَكُّلِ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ وَأَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي تَمَنِّي الْقُرُبَاتِ - كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - فَلَا كَرَاهَةَ هَذَا أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْهُ . الثَّانِي : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَنَّى مَا يَكُونُ بِهِ مُتَمَتِّعًا لَوْ وَقَعَ . وَإِنَّمَا يَتَمَنَّى الْأَفْضَلَ مِمَّا حَصَلَ . وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ ، بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْآخَرِ . ثُمَّ يَقْتَرِنُ بِالْمَفْضُولِ فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ . وَهَهُنَا كَذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا التَّلَهُّفَ اُقْتُرِنَ بِهِ قَصْدُ مُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ ، لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ . وَهَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ . وَقَدْ يَكُونُ التَّمَتُّعُ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَفْضَلَ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ التَّمَتُّعُ بِمُجَرَّدِهِ أَفْضَلَ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " مُعَلَّلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَفَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ : يَقْتَضِي التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ . وَلَوْ تَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ : لَحَصَلَ الْحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ . فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ التَّقْصِيرِ بِالْحَلْقِ فِي مَنْعِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْحَلْقِ . فَلَوْ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّصِّ ، لَمْ يَمْتَنِعْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ . فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ يُمْكِنُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالتَّقْصِيرِ . وَيَبْقَى النَّصُّ مَعْمُولًا بِهِ فِي مَنْعِ الْحَلْقِ ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَحَيْثُ حَكَمَ بِامْتِنَاعِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، وَعَلَّلَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَى التَّقْصِيرَ مَجْرَى الْحَلْقِ فِي امْتِنَاعِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ ، مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِهِ بِالْمَعْنَى .
وَقَوْلُهُ " وَحَاضَتْ عَائِشَةُ - إلَى آخِرِهِ " يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّوَافِ عَلَى الْحَائِضِ إمَّا لِنَفْسِهِ ، وَإِمَّا لِمُلَازَمَتِهِ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ . وَيَدُلُّ عَلَى فِعْلِهَا لِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ إلَّا ذَلِكَ . وَعَلَى أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ . وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ " فِيهِ حَذْفٌ ، تَقْدِيرُهُ : وَلَمْ تَسْعَ . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى صَحِيحَةٌ ، ذَكَرَ فِيهَا " أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ " .
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا : أَنَّ السَّعْيَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ . فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا لَزِمَ مِنْ تَأْخِيرِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ تَأْخِيرُ السَّعْيِ ، إذْ هِيَ قَدْ فَعَلَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَى السَّعْيِ لَفَعَلَتْ فِي السَّعْيِ مَا فَعَلَتْ فِي غَيْرِهِ . وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلًا آخَرَ : أَنَّ السَّعْيَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافٍ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا صَحَّ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - لِاعْتِقَادِ هَذَا الْقَائِلِ وُجُوبَ طَوَافِ الْقُدُومِ . وَقَوْلُهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ " تُرِيدُ الْعُمْرَةَ الَّتِي فَسَخُوا الْحَجَّ إلَيْهَا ، وَالْحَجُّ الَّذِي أَنْشَئُوهُ مِنْ مَكَّةَ . وَقَوْلُهَا " وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ ؟ " يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ لَهَا الْعُمْرَةُ ، وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ الْأَوَّلِ إلَى الْعُمْرَةِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا إلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى اقْتَضَتْ : أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهَا بِتَرْكِ عُمْرَتِهَا ، وَنَقْضِ رَأْسِهَا ، وَامْتِشَاطِهَا ، وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ لَمَّا حَاضَتْ لِامْتِنَاعِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ ، وَمُزَاحَمَتِهِ وَقْتَ الْحَجِّ وَحَمَلُوا أَمْرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَرْكِ الْعُمْرَةِ عَلَى تَرْكِ الْمُضِيِّ فِي أَعْمَالِهَا . لَا عَلَى رَفْضِهَا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا . وَأَهَلَّتْ بِالْحَجِّ ، مَعَ بَقَاءِ الْعُمْرَةِ . فَكَانَتْ قَارِنَةً - اقْتَضَى ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهَا عُمْرَةٌ . فَأَشْكَلَ حِينَئِذٍ قَوْلُهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ " إذْ هِيَ أَيْضًا قَدْ حَصَلَ لَهَا حَجٌّ وَعُمْرَةٌ ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ كَوْنِهَا صَارَتْ قَارِنَةً . فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ . فَأَوَّلُوا قَوْلَهَا " يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : يَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ ، وَعُمْرَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ حَجٍّ . وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ غَيْرِ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ . فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ ، لِيَحْصُلَ لَهَا قَصْدُهَا فِي عُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ عَنْ حَجٍّ ، وَحَجٍّ مُفْرَدٍ عَنْ عُمْرَةٍ . هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي هَذَا . مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ ، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَلْجَأَهُمْ إلَى مِثْلِ هَذَا .
وَقَوْلُهُ " فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ - إلَى آخِرِهِ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ . وَقَوْلُهُ " أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ لَا يُحْرِمُ بِهَا مِنْ جَوْفِهَا . بَلْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ . فَإِنَّ " التَّنْعِيمَ " أَدْنَى الْحِلِّ . وَهَذَا مُعَلَّلٌ بِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فِي الْعُمْرَةِ ، كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ . فَإِنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ . فَإِنَّ " عَرَفَةَ " مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ . وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحِلِّ : هَلْ يَكُونُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ صَحِيحًا وَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، أَوْ يَكُونُ بَاطِلًا ؟ وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافٌ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ . وَجَمَدَ بَعْضُ النَّاسِ فَشَرْطُ الْخُرُوجِ إلَى التَّنْعِيمِ بِعَيْنِهِ . وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْخُرُوجِ إلَى مُطْلَقِ الْحِلِّ . وَمَنْ عَلَّلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَفَهِمَ الْمَعْنَى - وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ - اكْتَفَى بِالْخُرُوجِ إلَى مُطْلَقِ الْحِلِّ .
241 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ : لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ . فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً } .
حَدِيثُ جَابِرٍ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ . وَرَدُّوهُ إلَى الْعُمْرَةِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيَّةِ جَوَازُهُ مُطْلَقًا . وَهُوَ الْمَحْكِيُّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ . وَقَوْلُهُ فِيهِ " وَنَحْنُ نَقُولُ لِبَيْتٍ بِالْحَجِّ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا عَلَى بَعْضِهِمْ ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ { فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ . وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ } .
242 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ . فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ } .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ . وَفِيهِ زِيَادَةٌ : أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ كَامِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا قَالُوا " أَيُّ الْحِلِّ ؟ " قَالَ " الْحِلُّ كُلُّهُ " وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهُ لِاسْتِبْعَادِهِمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْحِلِّ . وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْإِحْرَامِ . فَأُجِيبُوا بِمَا يَقْتَضِي التَّحَلُّلَ الْمُطْلَقَ . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا : قَوْلُهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { يَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ } وَهَذَا يُشْعِرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِبْعَادِ التَّحَلُّلِ الْمُبِيحِ لِلْجِمَاعِ
243 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ { سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - وَأَنَا جَالِسٌ - كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ ؟ قَالَ : كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ . فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ } .
" الْعَنَقَ " انْبِسَاطُ السَّيْرِ . وَ " النَّصُّ " فَوْقَ ذَلِكَ . حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أُسَامَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَقَدْ أَدْخَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ . وَ " الْعَنَقَ " بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ . وَ " النَّصُّ " بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - ضَرْبَانِ مِنْ السَّيْرِ . وَالنَّصُّ : أَرْفَعُهُمَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِازْدِحَامِ : كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَخَفَّ . وَعِنْدَ وُجُودِ الْفَجْوَةِ - وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُنْفَسِحُ - يَسْتَعْمِلُ السَّيْرَ الْأَشَدَّ . وَذَلِكَ بِاقْتِصَادٍ ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ } .
244 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ . فَقَالَ : رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ؟ قَالَ . اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ . وَجَاءَ آخَرُ ، فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ . فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } .
" الشُّعُورُ " الْعِلْمُ . وَأَصْلُهُ : مِنْ الْمَشَاعِرِ . وَهِيَ الْحَوَاسُّ . فَكَأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى الْحَوَاسِّ ، وَ " النَّحْرُ " مَا يَكُونُ فِي اللَّبَّةِ ، وَ " الذَّبْحُ " مَا يَكُونُ فِي الْحَلْقِ . وَالْوَظَائِفُ يَوْمَ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ : الرَّمْيُ . ثُمَّ نَحْرُ الْهَدْيِ أَوْ ذَبْحُهُ . ثُمَّ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ . ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ . هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمَشْرُوعُ فِيهَا . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي طَلَبِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَجَوَازِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، إلَّا أَنَّ ابْنَ الْجَهْمِ - مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - يَرَى أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْقَارِنَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ قَدْ تَدَاخَلَا . فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّهِ . وَالْعُمْرَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْحَلْقُ قَبْلَ الطَّوَافِ . وَقَدْ يَشْهَدُ لِهَذَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقَارِنِ " حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِحْلَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . فَإِذَا حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ : فَالْعُمْرَةُ قَائِمَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَيَقَعُ الْحَلْقُ فِيهِمَا قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَفِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ نَظَرٌ . وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ . وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ : مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فِي آخِرِ الْأَمْرِ " وَأَنَّهُ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ . وَهَذَا إنَّمَا ثَبَتَ بِأَمْرٍ اسْتِدْلَالِيٍّ ، لَا نَصِّيٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، أَوْ كَثِيرٍ ، أَعْنِي : كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَارِنًا . وَابْنُ الْجَهْمِ بَنَى عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَبَعِيدُ الثُّبُوتِ ، إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِجْمَاعَ النَّقْلِيَّ الْقَوْلِيَّ . وَإِنْ أَرَادَ السُّكُوتِيَّ : فَفِيهِ نَظَرٌ . وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ أَيْضًا . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَظَائِفَ أَرْبَعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ . فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ : وَجَعَلَ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَبًّا ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعَانِ تَقْدِيمَ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حَلْقًا قَبْلَ وُجُودِ التَّحَلُّلَيْنِ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ مِثْلُهُ . وَقَدْ بُنِيَ الْقَوْلَانِ لَهُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ ، أَوْ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ . فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ نُسُكٌ ، جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ . وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ : لَمْ يَجُزْ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْحَلْقِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ . وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ . وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ . وَيَرَى - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الرَّمْيِ . إذْ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ نُسُكًا : أَنَّهُ مَطْلُوبٌ ، مُثَابٌ عَلَيْهِ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلتَّحَلُّلِ وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ إنْ قُدِّمَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، إنْ كَانَ جَاهِلًا . وَإِنْ كَانَ عَالِمًا : فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي ، دُونَ الْعَامِدِ : قَوِيٌّ ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَفْعَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ ، بِقَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرَخَّصَةُ فِي التَّقْدِيمِ لَمَّا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ : إنَّمَا قُرِنَتْ بِقَوْلِ السَّائِلِ " لَمْ أَشْعُرْ " فَيُخَصَّصُ الْحُكْمُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ . وَتَبْقَى حَالَةُ الْعَمْدِ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِ الْحَجِّ . وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الدَّمِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ ، عِنْدَ تَقَدُّمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ : فَإِنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ فِي التَّقْدِيمِ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِثْمِ نَفْيُ وُجُوبِ الدَّمِ . وَادَّعَى بَعْضُ الشَّارِحِينَ : أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا حَرَجَ " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَعَنَى بِذَلِكَ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا . وَفِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الظُّهُورِ نَظَرٌ . وَقَدْ يُنَازِعُهُ خُصُومُهُ فِيهِ ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ . فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ " لَا حَرَجَ " كَثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِثْمِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ يَقْتَضِي نَفْيَ الضِّيقِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا السُّؤَالُ عَنْ تَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ . وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ : فَلَا تَعُمُّ مَنْ أَوْجَبَ الدَّمَ ، وَحَمَلَ نَفْيَ الْحَرَجِ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ ، فَيَشْكُلُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ بَيَانِ وُجُوبِ الدَّمِ . فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى تِبْيَانِ هَذَا الْحُكْمِ . فَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهَا بَيَانُهُ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَرْكَ ذِكْرِهِ فِي الرِّوَايَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ : فَإِنَّهُ يَحْمِلُ " لَا حَرَجَ " عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا . فَلَا يَلْزَمُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ . وَيُبْنَى أَيْضًا عَلَى الْقَاعِدَةِ : فِي أَنَّ الْحُكْمَ إذَا رُتِّبَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لَمْ يَجُزْ اطِّرَاحُهُ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُسَاوِيه بِهِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الشُّعُورِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ . وَالْحُكْمُ عَلِقَ بِهِ . فَلَا يُمْكِنُ اطِّرَاحُهُ بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهِ . إذْ لَا يُسَاوِيهِ . فَإِنْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِ الرَّاوِي " فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ ، وَلَا حَرَجَ " فَإِنَّهُ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَاعًى فِي الْوُجُوبِ . فَجَوَابُهُ : أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْكِ لَفْظًا عَامًا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مُطْلَقًا . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " لَا حَرَجَ " بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حِينَئِذٍ . وَهَذَا الْإِخْبَارُ مِنْ الرَّاوِي : إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ . وَذَلِكَ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ السُّؤَالِ ، وَكَوْنِهِ وَقَعَ عَنْ الْعَمْدِ أَوْ عَدَمِهِ ، وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصِّينَ بِعَيْنِهِ . فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي حَالِ الْعَمْدِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
245 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ { أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَرَآهُ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ . ثُمَّ قَالَ : هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى بِسَبْعٍ كَغَيْرِهَا ، وَدَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي الْوُقُوفِ لِرَمْيِهَا ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَمْرَةَ تُرْمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَدَلِيلٌ عَلَى مُرَاعَاةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَيْئَاتِ الْحَجِّ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ " هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ " قَاصِدًا بِذَلِكَ الْإِعْلَامَ بِهِ ، لِيُفْعَلَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِنَا " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ . وَأَمَرَ أَنْ يُقَالَ " السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ " فَرَدَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ
246 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ } .
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مَعًا . وَعَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ ، وَاقْتَصَرَ فِي الدُّعَاءِ لِلْمُقَصِّرِينَ عَلَى مَرَّةٍ . وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ . وَلَعَلَّهُ وَقَعَ فِيهِمَا مَعًا . وَهُوَ الْأَقْرَبُ . وَقَدْ كَانَ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ تَوَقُّفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلْقِ . أَمَّا فِي الْحُدَيْبِيَةِ : فَلِأَنَّهُمْ عَظُمَ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَمَامِ مَقْصُودِهِمْ ، مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ وَكَمَالِ نُسُكِهِمْ . وَأَمَّا فِي الْحَجِّ . فَلِأَنَّهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ . وَكَانَ مَنْ قَصَّرَ مِنْهُمْ شَعْرَهُ اعْتَقَدَ : أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْحَلْقِ . إذْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ . فَكَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لِلْمُحَلِّقَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ بَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ ، وَأَتَمُّوا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ . فَقِيلَ " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا " .
247 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ . عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ . فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ . فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّهَا حَائِضٌ . قَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ : اُخْرُجُوا } . وَفِي لَفْظٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَقْرَى ، حَلْقَى . أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا تَنْفِرُ حَتَّى تَطُوفَ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " فَقِيلَ : " إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ - إلَى آخِرِهِ " فَإِنَّ سِيَاقَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مُوجِبٌ لِلْحَبْسِ . وَثَانِيهِمَا : أَنَّ الْحَائِضَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ . لَا تَقْعُدُ لِأَجْلِهِ . لِقَوْلِهِ " فَانْفِرِي " . وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ " عَقْرَى " مَفْتُوحُ الْعَيْنِ ، سَاكِنُ الْقَافِ ، وَ " حَلْقَى " مَفْتُوحُ الْحَاءِ ، سَاكِنُ اللَّامِ . وَالْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : ضَبْطُهُمَا . فَالْمَشْهُورُ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ - حَتَّى لَا يَكَادَ يُعْرَفُ غَيْرُهُ - أَنَّ آخِرَ اللَّفْظَتَيْنِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ " عَقْرًا حَلْقًا " بِالتَّنْوِينِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ دُعَاءٍ . فَأَجْرَاهُ مَجْرَى كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الدُّعَاءِ بِأَلْفَاظِ الْمَصَادِرِ . فَإِنَّهَا مُنَوَّنَةٌ . كَقَوْلِهِمْ سَقْيًا وَرَعْيًا ، وَجَدْعًا ، وَكَيًّا " وَرَأْيٌ أَنَّ " عَقْرَى " بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ نَعْتٌ لَا دُعَاءٌ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُونَ صَحِيحٌ أَيْضًا . وَمِنْهَا : مَا تَقْتَضِيهِ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ . فَقِيلَ " عَقْرَى " بِمَعْنَى : عَقَرَهَا اللَّهُ . وَقِيلَ : عَقَرَ قَوْمَهَا . وَقِيلَ : جَعَلَهَا عَاقِرًا ، لَا تَلِدُ . وَأَمَّا " حَلْقَى " فَإِمَّا بِمَعْنَى حَلَقَ شَعْرَهَا ، أَوْ بِمَعْنَى أَصَابَهَا وَجَعٌ فِي حَلْقِهَا ، أَوْ بِمَعْنَى تَحْلِقُ قَوْمَهَا بِشُؤْمِهَا . وَمِنْهَا : أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي كَثُرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، حَتَّى لَا يُرَادَ بِهِ أَصْلُ مَوْضُوعِهِ . كَقَوْلِهِمْ : تَرِبَتْ يَدَاكَ . وَمَا أَشْعَرَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ . وَأَفْلَحَ وَأَبِيهِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ أَصْلُ مَوْضُوعِهَا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا .
248 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ . وَهَذَا بَعْدُ تَقْرِيرٌ أَنَّ إخْبَارَ الصَّحَابِيِّ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ كَحِكَايَتِهِ لَهَا . وَلَا دَمَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ . وَلَا وُجُوبَ لَهُ عِنْدَهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْ الْحَائِضِ . وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ، أَعْنِي ابْنَ عُمَرَ ، أَوْ مَا يُقَرِّبُ - أَيْ مِنْ الْخِلَافِ - مِنْهُ .
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى ، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ } .
أُخِذَ مِنْهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُ الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ : وَهَذَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُهُ " أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِذْنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَأَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِذْنُ . الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَبِيتُ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ . وَمَدْلُولُ الْحَدِيثِ : تَعْلِيقُ هَذَا الْحُكْمِ بِوَصْفِ السِّقَايَةِ ، وَبِاسْمِ الْعَبَّاسِ : فَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ . فَأَمَّا غَيْرُ الْعَبَّاسِ : فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحُكْمُ اتِّفَاقًا ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِآلِ الْعَبَّاسِ . وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّهُ فِي بَنِي هَاشِمٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّ ، وَقَالَ : كُلُّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْمَبِيتِ لِلسِّقَايَةِ فَلَهُ ذَلِكَ . وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ : فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ بِهَا ، حَتَّى لَوْ عُمِلَتْ سِقَايَةٌ أُخْرَى لَمْ يُرَخَّصْ فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِهَا . وَالْأَقْرَبُ : اتِّبَاعُ الْمَعْنَى ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ : الْحَاجَةُ إلَى إعْدَادِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ
250 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ { جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ . وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا } .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَمْعِ التَّأْخِيرِ بِمُزْدَلِفَةَ . وَهِيَ " جَمْعٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقْتَ الْغُرُوبِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ إلَّا وَقَدْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ . وَهَذَا الْجَمْعُ لَا خِلَافَ فِيهِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا : هَلْ هُوَ بِعُذْرِ النُّسُكِ ، أَوْ بِعُذْرِ السَّفَرِ ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ : أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ سَفَرًا يَجْمَعُ فِيهِ ، هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَمْ لَا ؟ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْجَمْعَ بِعُذْرِ النُّسُكِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ . وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ : أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ . وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ : أَنَّهُ بِعُذْرِ النُّسُكِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي طُولِ سَفَرِهِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَيَقْوَى أَنْ يَكُونَ لِلنُّسُكِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَجَدِّدَ عَنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي إضَافَةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ : إمَّا بِأَنْ يَرِدَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ خَاصٌّ ، أَوْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } فَقَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْجَمْعِ سَبَبَانِ : السَّفَرُ ، وَالنُّسُكُ . فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى أَحَدِهِمَا ، عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ نَظَرًا . مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّيْرَ لَمْ يَكُنْ مُجِدًّا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، وَأَنْشَأَ الْحَرَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَالْجِدُّ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ . أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ : فَلَا ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تُقَامَ الْمَغْرِبُ بِعَرَفَةَ . وَلَا يَحْصُلُ جِدُّ السَّيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا . وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ : مَا إذَا كَانَ الْجِدُّ وَالسَّيْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا : فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْجَمْعَ بِغَيْرِ جَمْعٍ ، كَمَا لَوْ جَمَعَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِعَرَفَةَ عَلَى التَّقْدِيمِ ، هَلْ يَجْمَعُ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِينَ عَلَّلُوا الْجَمْعَ بِالسَّفَرِ : يُجِيزُونَ الْجَمْعَ مُطْلَقًا . وَاَلَّذِينَ يُعَلِّلُونَهُ بِالنُّسُكِ : نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ إلَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ ، إقَامَةً لِوَظِيفَةِ النُّسُكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ : الْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاتَيْ الْجَمْعِ . وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ : أَنَّهُ جَمَعَ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ . وَلَمْ يُذْكَرْ الْأَذَانُ . وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْجَمْعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ : أَذَّنَ لِلْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ لِلثَّانِيَةِ ، إلَّا عَلَى وَجْهٍ غَرِيبٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ . وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ - كَمَا فِي هَذَا الْجَمْعِ - صَلَّاهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ ، كَمَا فِي ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ . وَأَجْرَوْا فِي الْأَذَانِ لِلْأُولَى الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْأَذَانِ لِلْفَائِتَةِ . وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْأَذَانِ دَلَالَةُ سُكُوتٍ ، أَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا : عَدَمُ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ لِقَوْلِهِ " وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا " وَ " السُّبْحَةُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْمَسْأَلَةُ مُعَبَّرٌ عَنْهَا : بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِلَ . أَعْنِي لِلْجَامِعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ شَرْطٌ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَفِيهَا فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ خِلَافٌ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ . فَجَازَ تَأْخِيرُهَا . وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا قَدْرَ الْإِقَامَةِ ، وَلَا قَدْرَ التَّيَمُّمِ لِمَنْ يَتَيَمَّمُ ، وَلَا قَدْرَ الْأَذَانِ لِمَنْ يَقُولُ بِالْأَذَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَقَدْ حَكَيْنَاهُ وَجْهًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ ؟ فَلِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ : هُوَ فِعْلٌ ، وَالْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَيَحْتَاجُ إلَى ضَمِيمَةِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ . وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ - أَعْنِي كَلَامَ الْمُخَالِفِ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَنَفَّلْ بَعْدَهُمَا ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ . فَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنَفُّلِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ " أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِحَطِّ الرِّحَالِ " وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى مَسَافَةٍ فِي الْوَقْتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ . وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْ الْمُصَنِّفِ إيرَادُ أَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُنَاسِبُ تَرْجَمَتَهُ .
باب المحرم يأكل من صيد الحلال
251 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حَاجًّا . فَخَرَجُوا مَعَهُ . فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ : خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ ، حَتَّى نَلْتَقِيَ . فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ ، إلَّا أَبَا قَتَادَةَ ، فَلَمْ يُحْرِمْ . فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ . فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ . فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا . فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا . ثُمَّ قُلْنَا : أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ " قَالَ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ . فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ ، فَأَكَلَ مِنْهَا " .
تَكَلَّمُوا فِي كَوْنِ أَبِي قَتَادَةَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا
، مَعَ كَوْنِهِمْ خَرَجُوا لِلْحَجِّ ، وَمَرُّوا بِالْمِيقَاتِ . وَمَنْ كَانَ
كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ . وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ :
مِنْهَا : مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ ، مِنْ أَنَّهُ أُرْسِلَ
إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لِكَشْفِهَا . وَكَانَ الِالْتِقَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ مَكَانِ
الْمِيقَاتِ . وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَبْلَ تَوْقِيتِ الْمَوَاقِيتِ . وَ "
الْأَتَانُ " الْأُنْثَى مِنْ الْحُمُرِ . وَقَوْلُهُمْ " نَأْكُلُ مِنْ
لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ " وَرُجُوعُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ : دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَإِنَّهُمْ أَكَلُوهُ بِاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي : وُجُوبُ الرُّجُوعِ إلَى
النُّصُوصِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ . { وَقَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ
عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا
ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ "
فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ
الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ دَلَالَةٌ وَلَا إشَارَةٌ
. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ عَلَى
مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا ، صِيدَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا
. وَهَذَا مَذْكُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَدَلِيلُهُ : حَدِيثُ الصَّعْبِ ،
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مَمْنُوعٌ إنْ صَادَهُ أَوْ صِيدَ
لِأَجْلِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِاصْطِيَادِهِ ،
أَوْ بِإِذْنِهِ ، أَوْ بِدَلَالَتِهِ حَرُمَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ
: لَمْ يَحْرُمْ . وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - هَذَا - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
أَكْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ . وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْأَوَّلِ . وَيَدُلُّ
ظَاهِرُهُ : عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشِرْ الْمُحْرِمُ إلَيْهِ ، وَلَا دَلَّ
عَلَيْهِ : يَجُوزُ أَكْلُهُ . فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمَوَانِعَ الْمَانِعَةَ مِنْ
أَكْلِهِ . وَالظَّاهِرُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهَا مَانِعًا لَذُكِرَ .
وَإِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ مُطْلَقًا
، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِدَلَالَتِهِ وَإِذْنِهِ : بِأُمُورٍ أُخْرَى . مِنْهَا :
حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَحْمُ
الصَّيْدِ لَكُمْ حَلَالٌ ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } .
وَاَلَّذِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
" هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ " فِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا :
تَبَسُّطُ الْإِنْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ فِي طَلَبِ مِثْلِ هَذَا . وَالثَّانِي :
زِيَادَةُ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ فِي مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ . وَقَدْ
تَقَدَّمَ لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي
مَا اسْتَدْبَرْتُ ، لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ } وَالْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ
لِطَلَبِ مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ كَانَ أَطْيَبَ لِقُلُوبِهِمْ .
252 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا ، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ . فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي ، قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " رِجْلَ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " شِقَّ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " عَجُزَ حِمَارٍ " .
وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَالْمُحْرِمُ لَا يَأْكُلُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ " الصَّعْبُ " بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَ " جَثَّامَةَ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ . وَقَوْلُهُ " أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْأَصْلُ : أَنْ يَتَعَدَّى " أَهْدَى " بِإِلَى ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ ، وَيَكُونُ بِمَعْنَاهُ . وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى " أَجْلِ " وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَقَوْلُهُ حِمَارًا وَحْشِيًّا " ظَاهِرُهُ : أَنَّهُ أَهْدَاهُ بِجُمْلَتِهِ وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا . وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ : إنَّهُ تَأْوِيلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى مُقْتَضَاهُ : يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ وَضْعِ الْمُحْرِمِ يَدَهُ عَلَى الصَّيْدِ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالْهَدِيَّةِ ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا : مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، إلَّا أَنَّهُ رُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسْلِمٍ ، مِنْ قَوْلِهِ " عَجُزَ حِمَارٍ ، أَوْ شِقَّ حِمَارٍ ، أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ " فَإِنَّهَا قَوِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُهْدَى بَعْضًا وَغَيْرَ حَيٍّ . فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ " حِمَارًا وَحْشِيًّا " الْمَجَازَ . وَتَسْمِيَةَ الْبَعْضِ بِاسْمِ الْكُلِّ ، أَوْ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ، وَلَا تَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِالْهِبَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ " . " إنَّا " الْأُولَى مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ ؛ لِأَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ . وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ . وَأَصْلُهُ : إلَّا لِأَنَّا . وَقَوْلُهُ " لَمْ نَرُدَّهُ " الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ : فِيهِ فَتْحُ الدَّالِ . وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ . وَهُمْ ضَمُّ الدَّالِ . وَذَلِكَ فِي كُلِّ مُضَاعَفٍ مَجْزُومٍ ، أَوْ مَوْقُوفٍ ، اتَّصَلَ بِهِ هَاءُ ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ . وَذَلِكَ مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْهَاءَ حَرْفٌ خَفِيٌّ ، فَكَأَنَّ الْوَاوَ تَالِيَةٌ لِلدَّالِ ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْهَاءِ ، وَمَا قَبْلَ الْوَاوِ : يُضَمُّ . وَعَبَّرُوا عَنْ ضَمَّتِهَا بِالِاتِّبَاعِ لِمَا بَعْدَهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُضَاعَفِ الْمُشَدَّدِ . فَإِنَّهُ يُفْتَحُ بِاتِّفَاقٍ . وَحُكِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَوَّلِ الْمَوْقُوفِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ . إحْدَاهُمَا : الْفَتْحُ ، كَمَا يَقُولُ الْمُحَدِّثُونَ . وَالثَّانِيَةُ : الْكَسْرُ . وَأُنْشِدَ فِيهِ : قَالَ أَبُو لَيْلَى لِحُبْلَى مُدِّهِ حَتَّى إذَا مَدَدْتِهِ فَشُدِّهْ إنَّ أَبَا لَيْلَى نَسِيجُ وَحْدِهِ
انتهى كتاب الجنائز ويليه كتاب البيوع ...