الاثنين، 5 سبتمبر 2022

ج3.وج4.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد{من قبل171 الي338}

 

ج3.وج4.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد

كتاب الزكاة

 

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ - إنَّك سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ . فَإِذَا جِئْتَهُمْ : فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ . فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ . وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .

" الزَّكَاةُ " فِي اللُّغَةِ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّمَاءُ . وَالثَّانِي : الطَّهَارَةُ . فَمِنْ الْأَوَّلِ . قَوْلُهُمْ : زَكَاةُ الزَّرْعِ . وَمِنْ الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى { وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَسُمِّيَ هَذَا الْحَقُّ زَكَاةً بِالِاعْتِبَارَيْنِ . أَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ : فَبِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُهَا سَبَبًا لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ . كَمَا صَحَّ { مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ } وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّ النُّقْصَانَ مَحْسُوسٌ بِإِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ . فَلَا يَكُونُ غَيْرَ نَاقِصٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ تُبْلِغُهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا . أَعْنِي : الْمَعْنَوِيَّ وَالْحِسِّيَّ فِي الزِّيَادَةِ . أَوْ بِمَعْنَى : أَنَّ مُتَعَلَّقَهَا الْأَمْوَالُ ذَاتُ النَّمَاءِ . وَسُمِّيَتْ بِالنَّمَاءِ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ أَوْ بِمَعْنَى تَضْعِيفِ أُجُورِهَا . كَمَا جَاءَ { إنَّ اللَّهَ يُرْبِي الصَّدَقَةَ حَتَّى تَكُونَ كَالْجَبَلِ . } وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي : فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ ، أَوْ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مِنْ الذُّنُوبِ . وَهَذَا الْحَقُّ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ لِمَصْلَحَةِ الدَّافِعِ وَالْآخِذِ مَعًا . أَمَّا فِي حَقِّ الدَّافِعِ : فَتَطْهِيرُهُ وَتَضْعِيفُ أُجُورِهِ . وَأَمَّا فِي حَقِّ الْآخِذِ : فَلِسَدِّ خَلَّتِهِ . وَحَدِيثُ مُعَاذٍ : يَدُلُّ عَلَى فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ . هُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الشَّرِيعَةِ . وَمَنْ جَحَدَهُ كَفَرَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ } لَعَلَّهُ لِلتَّوْطِئَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْوَصِيَّةِ بِاسْتِجْمَاعِ هِمَّتِهِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ أَهْلُ عِلْمٍ ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ لَا تَكُونُ كَمُخَاطَبَةِ جُهَّالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْعِنَايَةِ بِهَا وَالْبُدَاءَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ : لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ فُرُوعِهِ إلَّا بِهِ . فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدٍ عَلَى التَّحْقِيقِ - كَالنَّصَارَى - فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ عَيْنًا . وَمِنْ كَانَ مُوَحِّدًا - كَالْيَهُودِ - فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ : بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ ، وَبَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ . وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ - الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ - عِنْدَهُمْ مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ ، وَلَوْ بِاللُّزُومِ يَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَافِرًا بِشَيْءٍ ، مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ : لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا كَفَرَ بِهِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ - فِي أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ . وَجَعَلَ الدُّعَاءَ إلَى الْفُرُوعِ بَعْدَ إجَابَتِهِمْ الْإِيمَانَ . وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُجُوبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ ؟ وَقَدْ قُدِّمَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمُطَالَبَةِ عَلَى الزَّكَاةِ . وَأَخَّرَ الْإِخْبَارَ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْ الطَّاعَةِ بِالصَّلَاةِ ، مَعَ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي خِطَابِ الْوُجُوبِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَك بِذَلِكَ } طَاعَتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ . وَأَمَّا طَاعَتُهُمْ فِي الصَّلَاةِ : فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إقْرَارُهُمْ بِوُجُوبِهَا وَفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِمْ ، وَالْتِزَامُهُمْ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةُ بِالْفِعْلِ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ . وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ . فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَيْهَا . وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ لَوْ أَخْبَرُوا بِالْوُجُوبِ . فَبَادَرُوا بِالِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى . وَلَمْ يُشْتَرَطْ تَلَفُّظُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ . وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ : لَوْ امْتَثَلُوا بِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِالْإِقْرَارِ لَكَفَى . فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ ، وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ ، لَا التَّلَفُّظُ بِالْإِقْرَارِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَقْلِ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ . وَفِيهِ عِنْدِي ضَعِيفٌ . لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ الْمُرَادَ : يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا . وَيُقَوِّيهِ : أَنَّ أَعْيَانَ الْأَشْخَاصِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكُلِّيَّةِ لَا تُعْتَبَرُ . وَقَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِخِطَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَلَا يَخْتَصُّ بِهِمْ قَطْعًا - أَعْنِي الْحُكْمَ - وَإِنْ اخْتَصَّ بِهِمْ خِطَابُ الْمُوَاجَهَةِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ النِّصَابَ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيًّا . وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ . وَمَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَالزَّكَاةُ مِنْهُ ، فَهُوَ غَنِيٌّ ، وَالْغَنِيُّ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ . وَلَيْسَ بِالشَّدِيدِ الْقُوَّةِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى إخْرَاجَ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ . لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ إلَّا الْفُقَرَاءَ . وَفِيهِ بَحْثٌ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْإِمَامِ . لِأَنَّهُ وَصَفَ الزَّكَاةَ بِكَوْنِهَا " مَأْخُوذَةً مِنْ الْأَغْنِيَاءِ " فَكُلُّ مَا اقْتَضَى خِلَافَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَالْحَدِيثُ يَنْفِيهِ . وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَرَائِمَ الْأَمْوَالِ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّدَقَةِ ، كَالْأَكُولَةِ وَالرُّبَّى وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا . وَالْمَاخِضُ ، وَهِيَ الْحَامِلِ . وَفَحْلِ الْغَنَمِ ، وَحَزَرَاتِ الْمَالِ . وَهِيَ الَّتِي تُحْرَزُ بِالْعَيْنِ وَتُرْمَقُ ، لِشَرَفِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا . وَالْحِكْمَةُ فِيهِ : أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ . وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ . فَسَامَحَ الشَّرْعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِمَا يَضَنُّونَ بِهِ . وَنَهَى الْمُصَدِّقِينَ عَنْ أَخْذِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ أَمْرِ الظُّلْمِ ، وَاسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَقِيبَ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ . لِأَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ .

 

171 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ . وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ . وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } .

يُقَالُ " أَوَاقِيٌّ " بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ ، وَتُحْذَفُ الْيَاءُ . وَيُقَالُ : أُوقِيَّةٌ - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - وَوُقِيَّةٌ . وَأَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ " وَالْأُوقِيَّةُ " أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، فَالنِّصَابُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَالدِّرْهَمُ : يَنْطَلِقُ عَلَى الْخَالِصِ حَقِيقَةً . فَإِنْ كَانَ مَغْشُوشًا لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْ الْخَالِصِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَ " الذَّوْدُ " قِيلَ : إنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ . وَقِيلَ : إنَّهَا كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الزَّكَاةِ فِيمَا دُونَ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي زَكَاةِ الْحَرْثِ . وَيُعَلِّقُ الزَّكَاةَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْهُ . وَيُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَهَذَا عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ . وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَدِيثِ بَيَانُ قَدْرِ الْمُخْرَجِ ، لَا بَيَانُ الْمُخْرَجِ مِنْهُ . وَهَذَا فِيهِ قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ . وَهُوَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَامَّةَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ . أَحَدُهَا : مَا ظَهَرَ فِيهِ عَدَمُ قَصْدِ التَّعْمِيمِ ، وَمُثِّلَ بِهَذَا الْحَدِيثُ . وَالثَّانِيَةُ : مَا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ بِأَنْ أُورِدَ مُبْتَدَأً لَا عَلَى سَبَبٍ ، لِقَصْدِ تَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ . وَالثَّالِثَةُ : مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَرِينَةٌ زَائِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ . وَلَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْمِيمِ . وَقَدْ وَقَعَ تَنَازُعٌ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَدَمُ التَّعْمِيمِ . فَطَالَبَ بَعْضُهُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا الطَّرِيقُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ ، وَدَلَالَةُ السِّيَاقِ لَا يُقَامُ عَلَيْهَا دَلِيلٌ ، وَذَلِكَ لَوْ فُهِمَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ لِعُسْرٍ . فَالنَّاظِرُ يَرْجِعُ إلَى ذَوْقِهِ ، وَالْمَنَاظِرُ يَرْجِعُ إلَى دِينِهِ وَإِنْصَافِهِ . وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ النُّقْصَانَ الْيَسِيرَ فِي الْوَزْنِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ . وَمَالِكٌ يُسَامِحُ بِالنَّقْصِ الْيَسِيرِ جِدًّا ، الَّذِي تَرُوجُ مَعَهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ رَوَاجَ الْكَامِلِ . وَأَمَّا " الْأَوْسُقُ " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْمِقْدَارَ فِيهَا تَقْرِيبٌ أَوْ تَحْدِيدٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ تَقْرِيبٌ يُسَامِحُ بِالْيَسِيرِ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ : يَقْتَضِي أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يُؤَثِّرُ . وَالْأَظْهَرُ : أَنَّ النُّقْصَانَ الْيَسِيرَ جِدًّا الَّذِي لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ الِاسْمِ فِي الْعُرْفِ ، وَلَا يَعْبَأُ بِهِ أَهْلُ الْعَرَبِ : أَنَّهُ يُغْتَفَرُ .

 

 

172 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ . وَفِي لَفْظٍ إلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ } .

الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْخَيْلِ . وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا " فِي عَيْنِ الْخَيْلِ " عَنْ وُجُوبِهَا فِي قِيمَتِهَا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ . وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْخَيْلِ الزَّكَاةَ . وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِ : أَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا . وَإِنْ انْفَرَدَتْ الذُّكُورُ أَوْ الْإِنَاثُ : فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّمَاءَ بِالنَّسْلِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ . وَإِذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا ، أَوْ يُقَوَّمَ وَيُخْرِجَ عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي فَرَسِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْعَبِيدِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ . وَقِيلَ : إنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ وَالْعَبِيدِ مُطْلَقًا ، وَيُجِيبُ الْجُمْهُورُ . اسْتِدْلَالَهُمْ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فَإِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ مُتَعَلِّقُهَا الْقِيمَةُ لَا الْعَيْنُ . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالْعَيْنِ . فَإِنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْعَيْنِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ : لَثَبَتَتْ مَا بَقِيَتْ الْعَيْنُ . وَلَيْسَ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى الْقَنِيَّةَ لَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ . وَإِنَّمَا الزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقِيمَةِ بِشَرْطِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَدِيثَ عَامٌّ فِي الْعَبِيدِ وَالْخَيْلِ . فَإِذَا أَقَامُوا الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ . فَإِنْ كَانَ خُرِّجَ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَامَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، إنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ النُّصُوصِ . نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى تَحْقِيقِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هَهُنَا : بَيَانُ كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبِيدِ . وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ - أَعْنِي قَوْلَهُ { إلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ } لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِيمَا أَعْلَمُ .

 

 

173 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ . وَالْبِئْرُ جُبَارٌ . وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ . وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ . } .

الْجُبَارُ " الْهَدَرُ وَمَا لَا يُضْمَنُ وَ " الْعَجْمَاءُ " الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ . وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ " وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي : أَنَّ جُرْحَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ بِنَصِّهِ . فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ : جِنَايَاتُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ : الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ فَقَطْ . وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى حَقِيقَةِ الْجُرْحِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْعُمُومِ ، أَمَّا جِنَايَاتُهَا عَلَى الْأَمْوَالِ : فَقَدْ فُصِّلَ فِي الْمَزَارِعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْمَالِكِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَتْهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ ، وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَأَمَّا جِنَايَاتُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ : فَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهَا إذَا كَانَ مَعَهَا الرَّاكِبُ وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ ، وَفَصَّلُوا فِيهِ الْقَوْلَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ . فَلَمْ يَقُولُوا بِالْعُمُومِ فِي إهْدَارِ جِنَايَاتِهَا ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ جِنَايَتَهَا هَدَرٌ ، إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ تَقْصِيرٌ مِنْ الْمَالِ ، أَوْ مِمَّنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ ، وَيُنْزَلُ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ .

 

وَأَمَّا الرِّكَازُ : فَالْمَعْرُوفُ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : أَنَّهُ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ : الْخُمْسُ بِنَصِّهِ . وَفِي مَصْرِفِهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ : أَحَدُهُمَا : إلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ . وَالثَّانِي : إلَى أَهْلِ الْفَيْءِ . وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالرِّكَازِ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ الْحَدِيثِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرِّكَازَ هَلْ يَخْتَصُّ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، أَوْ يَجْرِي فِي غَيْرِهِمَا ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَنْ يُجْرِيهِ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ . وَجَدِيدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَخْتَصُّ . الثَّانِيَةُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الرِّكَازِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ . الثَّالِثَةُ : يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَوْلُ فِي إخْرَاجِ زَكَاةِ الرِّكَازِ . وَلَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، كَالْغَنِيمَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ . وَلَهُ فِي الْمَعْدِنِ اخْتِلَافُ قَوْلٍ فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ . وَالْفَرْقُ : أَنَّ الرِّكَازَ يَحْصُلُ جُمْلَةً ، مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ . وَالنَّمَاءُ فِيهِ مُتَكَامِلٌ . وَمَا تَكَامَلَ فِيهِ النَّمَاءُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ . فَإِنَّ الْحَوْلَ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَحْصِيلِ النَّمَاءِ . وَفَائِدَةُ الْمَعْدِنِ تَحْصُلُ بِكَدٍّ وَتَعَبٍ شَيْئًا فَشَيْئًا . فَيُشْبِهُ أَرْبَاحَ التِّجَارَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ . الرَّابِعَةُ : تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا الرِّكَازُ . وَجُعِلَ الْحُكْمُ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِهَا . وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : بِأَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمْسَ ، إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ . فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ الْأَرْضَ إنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكٍ مُحْتَرَمٍ ، مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، فَلَيْسَ بِرِكَازٍ ، فَإِنْ ادَّعَاهُ فَهُوَ لَهُ . وَإِنْ نَازَعَهُ مُنَازِعٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ . وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ لِنَفْسِهِ عُرِضَ عَلَى الْبَائِعِ ، ثُمَّ عَلَى بَائِعِ الْبَائِعِ ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ عَمَرَ الْمَوْضِعَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ : أَنَّهُ يُجْعَلُ لُقَطَةً وَقِيلَ : لَيْسَ بِلُقَطَةٍ ، وَلَكِنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ ، يُسَلَّمُ إلَى الْإِمَامِ ، وَيَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَإِنْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ عَامِرَةٍ لِحَرْبِيٍّ فَهُوَ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّ إذَا حُصِّلَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا وُجِدَ فِي مَوَاتِ دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَمَوْتِ دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ . لِلْوَاجِدِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ .

 

 

174 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّدَقَةِ . فَقِيلَ : مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ ، إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا : فَأَغْنَاهُ اللَّهُ ؟ وَأَمَّا خَالِدٌ : فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا . وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا الْعَبَّاسُ : فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا . ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ؟ } .

الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : قَوْلُهُ { بَعَثَ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ } الْأَظْهَرُ : أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ : أَنْ تَكُونَ التَّطَوُّعَ ، احْتِمَالًا أَوْ قَوْلًا . " وَإِنَّمَا كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَةُ . فَتُصْرَفُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْبَعْثَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ . وَالثَّانِي : يُقَالُ : نَقَمَ يَنْقِمُ - بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَبِالْعَكْسِ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ - وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي : أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ . فَإِنَّ " نَقَمَ " بِمَعْنَى أَنْكَرَ ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مُوجِبٌ لِلْمَنْعِ ، إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا ، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ . فَلَا مُوجِبَ لِلْمَنْعِ . وَهَذَا مِمَّا تَقْصِدُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ النَّفْيَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ بِالْإِثْبَاتِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَيْبٌ إلَّا هَذَا - وَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فَلَا عَيْبَ فِيهِمْ ، فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا لَمْ يُنْكِرْ إلَّا كَوْنَ اللَّهِ أَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا أَصْلًا . الثَّالِثُ : " الْعَتَادُ " مَا أَعَدَّ الرَّجُلُ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَآلَاتِ الْحَرْبِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " أَعْتَادَهُ " وَفِي أُخْرَى " أَعْتُدَهُ " وَاخْتُلِفَ فِيهَا . فَقِيلَ " أَعْتُدَهُ " بِالتَّاءِ : وَقِيلَ " أَعْبُدَهُ " بِالْبَاءِ ثَانِي الْحُرُوفِ . وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فَالظَّاهِرُ : أَنَّ " أَعْبُدَهُ " جَمْعُ عَبْدٍ . وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْعَاقِلُ الْمَمْلُوكُ . وَقِيلَ : إنَّهُ جَمْعُ صِفَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ " فَرَسٌ عَبْدٌ " وَهُوَ الصُّلْبُ . وَقِيلَ : الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ . وَقِيلَ : السَّرِيعُ الْوَثْبِ . وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِتَحْبِيسِ الْعَبِيدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ . الرَّابِعُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْبِيسِ الْمَنْقُولَاتِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ . الْخَامِسُ : نَشَأَ إشْكَالٌ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ ، وَانْتِزَاعِهَا عِنْدَ مَنْعِهِ . فَقِيلَ : فِي جَوَابِهِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَازَ لِخَالِدٍ أَنْ يُحْتَسَبَ مَا حَبَسَهُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ . لِأَنَّهُ فِي . سَبِيلِ اللَّهِ . حَكَاهُ الْقَاضِي قَالَ : وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي جَوَازِ دَفْعِهَا لِصِنْفٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ قِسْمَتِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ . قَالَ : وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ . وَقَدْ أَدْخَلَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " بَابِ أَخْذِ الْعَرَضِ فِي الزَّكَاةِ " فَيَدُلُّ : أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ . وَأَقُولُ : هَذَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ . لِأَنَّ مَا حُبِسَ عَلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ تَعَيَّنَ صَرْفُهُ إلَيْهَا ، وَاسْتَحَقَّهُ أَهْلُ تِلْكَ الْجِهَةِ مُضَافًا إلَى جِهَةِ الْحَبْسِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْ خَالِدٍ زَكَاةَ مَا حَبَسَهُ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ تَعَيُّنِ مَا حَبَسَهُ لِمَصْرِفِهِ ؟ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَبَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ - مِنْ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَكَيْفَ يُحَاسَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ صَرْفُ ذَلِكَ الْمُحْبَسِ إلَى جِهَتِهِ ؟ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ مِنْ الثَّمَانِيَةِ جَائِزٌ ، وَأَنَّ أَخْذَ الْقِيَمِ جَائِزٌ : فَضَعِيفٌ جِدًّا . لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَوْجِيهُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ لَكَانَ الْإِجْزَاءُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَأْخُوذًا عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ . وَمَا ثَبَتَ عَلَى تَقْدِيرٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا إلَّا إذَا ثَبَتَ وُقُوعُ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ . وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَّا مُجَرَّدَ الْجَوَازِ . وَالْجَوَازُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ . إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقَاضِي : أَنَّهُ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّقْدِيرِ . فَقَرِيبٌ ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ التَّنْبِيهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَأَنَا أَقُولُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحْبِيسُ خَالِدٍ لِأَدْرَاعِهِ وَأَعْتَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : إرْصَادَهُ إيَّاهُ لِذَلِكَ ، وَعَدَمَ تَصَرُّفِهِ بِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا النَّوْعُ حَبْسٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْبِيسًا . وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِثْلُ ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ . وَيَكُونُ قَوْلُهُ " إنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا " مَصْرُوفًا إلَى قَوْلِهِمْ " مَنَعَ خَالِدٌ " أَيْ تَظْلِمُونَهُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى مَنْعِ الْوَاجِبِ ، مَعَ كَوْنِهِ صَرَفَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَيَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ الْوَاجِبِ ، وَيُحْمَلُ مَنْعُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ . السَّادِسُ : أَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا : وُجُوبَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ . وَأَنَّ خَالِدًا طُولِبَ بِأَثْمَانِ الْأَرْبَعِ وَالْأَعْتُدِ . قَالُوا : وَلَا زَكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ . وَقَدْ اُسْتُضْعِفَ هَذَا الِاسْتِدْلَال ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ لِمَا ادَّعَى . السَّابِعُ : مَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ كَانَتْ تَطَوُّعًا . ارْتَفَعَ عَنْهُ هَذَا الْإِشْكَالُ . وَيَكُونُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَفَى بِمَا حَبَسَهُ خَالِدٌ عَلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ . وَيَكُونُ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ - مَعَ مَا حَبَسَهُ مِنْ مَالِهِ وَأَعْتُدِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - ظَالِمًا لَهُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ ، وَعَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الظُّلْمِ . الثَّامِنُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا } فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ صِيغَةَ إنْشَاءٍ لِالْتِزَامِ مَا لَزِمَ الْعَبَّاسَ . وَيُرَجِّحُهُ قَوْلُهُ " إنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ " فَإِنَّ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ إشْعَارًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ صِنْوَ الْأَبِ : يُنَاسِبُ تَحَمُّلَ مَا عَلَيْهِ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ وَمَضَى . وَهُوَ تَسَلُّفُ صَدَقَةِ عَامَيْنِ مِنْ الْعَبَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَنْصُوصٌ " إنَّا تَعَجَّلْنَا مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ " يَجْمَعَ النَّخْلَتَيْنِ أَصْلٌ وَاحِدٌ .

 

 

175 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ { لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ : قَسَمَ فِي النَّاسِ ، وَفِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا . فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ . فَخَطَبَهُمْ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهُدَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ . قَالَ : مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ قَالَ : لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ : جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا . أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا . الْأَنْصَارُ شِعَارٌ ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ . إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ . }

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الزَّكَاةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَابِهَا ، إلَّا بِطَرِيقِ أَنْ يُقَاسَ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى إعْطَائِهِمْ مِنْ الْفَيْءِ وَالْخُمْسِ . وَقَوْلُهُ " فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ " تَعْبِيرٌ حَسَنٌ كُسِيَ حُسْنَ الْأَدَبِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إقَامَةِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا عَلَى الْخَصْمِ . وَهَذَا " الضَّلَالُ " الْمُشَارُ إلَيْهِ ضَلَالُ الْإِشْرَاكِ وَالْكُفْرِ . وَالْهِدَايَةُ بِالْإِيمَانِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ النِّعَمِ ، بِحَيْثُ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا . ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ الْأُلْفَةِ ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْأَمْوَالِ . إذْ تُبْذَلُ الْأَمْوَالُ فِي تَحْصِيلِهَا وَقَدْ كَانَتْ الْأَنْصَارُ فِي غَايَةِ التَّبَاعُدِ وَالتَّنَافُرِ ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ قَبْلَ الْمَبْعَثِ . مِنْهَا : يَوْمُ بُعَاثٍ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ الْغِنَى وَالْمَالِ . وَفِي جَوَابِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا أَجَابُوهُ : اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ ، وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ الَّذِي كَنَى عَنْهُ بِقَوْلِ الرَّاوِي " كَذَا وَكَذَا " وَقَدْ تَبَيَّنَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى . فَتَأَدُّبُ الرَّاوِي بِالْكِنَايَةِ ، فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ : جَبْرٌ لِلْأَنْصَارِ ، وَتَوَاضُعٌ وَحُسْنُ مُخَاطَبَةٍ وَمُعَاشَرَةٍ . وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا تَرْضَوْنَ - إلَى آخِرِهَا } إثَارَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا وَقَعَتْ الْغَفْلَةُ عَنْهُ مِنْ عِظَمِ مَا أَصَابَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا . وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَوْلَا الْهِجْرَةُ " وَمَا بَعْدَهُ : إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِفَضِيلَةِ الْأَنْصَارِ . وَقَوْلُهُ " لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ " أَيْ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعِدَادِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : النَّسَبُ قَطْعًا . وَقَوْلُهُ { الْأَنْصَارُ شِعَارٌ ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ } الشِّعَارُ " الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ ، وَ " الدِّثَارُ " الثَّوْبُ الَّذِي فَوْقَهُ ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ مَجَازٌ عَنْ قُرْبِهِمْ وَاخْتِصَاصِهِمْ ، وَتَمْيِيزِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً } عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ وَقَعَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرَةِ : اسْتِئْثَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِالدُّنْيَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

 

 

باب صدقة الفطر

 

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ - أَوْ قَالَ رَمَضَانَ - عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ : صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ . قَالَ : فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ . وَفِي لَفْظٍ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ } .

الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ : وُجُوبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ ، لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَوْلِهِ " فَرَضَ " . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ، وَحَمَلُوا " فَرَضَ " عَلَى مَعْنَى قَدَّرَ ، وَهُوَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ ، لَكِنَّهُ نُقِلَ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى الْوُجُوبِ ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى . لِأَنَّهُ مَا اُشْتُهِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَالْقَصْدُ إلَيْهِ هُوَ الْغَالِبُ . وَقَوْلُهُ " رَمَضَانَ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " مِنْ رَمَضَانَ " قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى : أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ : طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ ، وَكِلَا الِاسْتِدْلَالَيْنِ ضَعِيفٌ . لِأَنَّ إضَافَتَهُمَا إلَى الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ ، بَلْ يَقْتَضِي إضَافَةَ هَذِهِ الزَّكَاةِ إلَى الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، فَيُقَالُ حِينَئِذٍ بِالْوُجُوبِ ، لِظَاهِرِ لَفْظَةِ " فَرَضَ " وَيُؤْخَذُ وَقْتُ الْوُجُوبِ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ . وَقَوْلُهُ { عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرِّ ، وَالْمَمْلُوكِ } يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِخْرَاجِ عَنْ هَؤُلَاءِ . وَإِنْ كَانَتْ لَفْظَةُ " عَلَى " تَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ ظَاهِرًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْهُمْ : هَلْ بَاشَرَهُمْ الْوُجُوبُ أَوْ لَا ؟ وَالْمَخْرَجُ يَتَحَمَّلُهُ أَمْ الْوُجُوبُ يُلَاقِي الْمَخْرَجَ أَوْ لَا ؟ فَقَدْ يَتَمَسَّكُ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ " عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ " فَإِنَّ ظَاهِرَهُ : يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِهِمْ . كَمَا ذَكَرْنَا . وَشَرْطُ هَذَا التَّمَسُّكِ : إمْكَانُ مُلَاقَاةِ الْوُجُوبِ لِلْأَصْلِ . وَ " الصَّاعُ " أَرْبَعُ أَمْدَادٍ . وَالْمُدُّ : رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَجَعَلَ الصَّاعَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ . وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ . بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ . وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ قَوِيٌّ فِي مِثْلِ هَذَا . وَلَمَّا نَاظَرَ أَبَا يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فِي الْمَسْأَلَةِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ ، لَمَّا اسْتَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَقَوْلُهُ " صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " بَيَانٌ لِجِنْسِ الْمُخْرَجِ فِي هَذِهِ الزَّكَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ تَعْيِينُ أَجْنَاسٍ لَهَا فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ أَزْيَدَ مِمَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ . فَمِنْ النَّاسِ : مَنْ أَجَازَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُخْرِجُ إلَّا غَالِبَ قُوتِ الْبَلَدِ . وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهَا كُلُّهَا كَانَتْ مُقْتَاتَةً بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُ بِأَرْضِ مِصْرَ إلَّا إخْرَاجُ الْبُرِّ . لِأَنَّهُ غَالِبُ الْقُوتِ . وَقَوْلُهُ " فَعَدَلَ النَّاسُ - إلَى آخِرِهِ " هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبُرِّ . فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ نِصْفَ صَاعٍ . وَقِيلَ : إنَّ الَّذِي عَدَلَ ذَلِكَ : مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ : أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ " فَعَدَلَ النَّاسُ " وَيَجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ، وَيُقَدِّمَهُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ . لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ " أَمَّا أَنَا : فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ " وَلَا يَخْلُو هَذَا مِنْ نَظَرٍ . وَالسُّنَّةُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ : أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ ، لِيَحْصُلَ غِنَى الْفَقِيرِ . وَيَنْقَطِعُ تَشَوُّفُهُ عَنْ الطَّلَبِ فِي حَالَةِ الْعِبَادَةِ .

 

 

177 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ . فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ ، قَالَ : أَرَى مُدًّا مِنْ هَذِهِ يَعْدِلُ مُدَّيْنِ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا أَنَا : فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }

وَقَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ " صَاعًا مِنْ طَعَامٍ " يُرِيدُ بِهِ الْبُرَّ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فِي أَنَّ الْبُرَّ يَخْرُجُ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ . وَهَذَا أَصَرْحُ فِي الْمُرَادِ ، وَأَبْعَدُ عَنْ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْوِيمِ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ نَصًّا عَلَى التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . فَتَقْدِيرُ الصَّاعِ مِنْهُمَا بِنَصِّ الصَّاعِ مِنْ الْبُرِّ : لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهُ . وَقَدْ كَانَتْ لَفْظَةُ " الطَّعَامِ " تُسْتَعْمَلُ فِي " الْبُرِّ " عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، حَتَّى إذَا قِيلَ : اذْهَبْ إلَى سُوقِ الطَّعَامِ ، فُهِمَ مِنْهُ سُوقُ الْبُرِّ ، وَإِذَا غَلَبَ الْعُرْفُ بِذَلِكَ نَزَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ . لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْأَلْفَاظِ : عَلَى حَسَبِ مَا يَخْطِرُ فِي الْبَالِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْمَدْلُولَاتِ . وَمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَخُطُورُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَقْرَبُ . فَيُنْزَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعُرْفُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَتَرَدَّدَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إخْرَاجِ " الْأَقِطِ " وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِهِ . وَقَدْ ذُكِرَ " الزَّبِيبُ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ . وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ قَدْ مَرَّ . وَهَلْ تَتَعَيَّنُ هَذِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَقْوَاتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، أَوْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا مُطْلَقًا ؟ و " السَّمْرَاءُ " يُرَادُ بِهَا الْحِنْطَةُ الْمَحْمُولَةُ مِنْ الشَّامِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى مَا قِيلَ : مِنْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ هُوَ الَّذِي عَدَلَ الصَّاعَ مِنْ غَيْرِ " الْبُرِّ " بِنِصْفِ الصَّاعِ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالِاجْتِهَادِ بِالنَّظَرِ ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْمَعَانِي فِي الْجُمْلَةِ . وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ - مَرْجُوحًا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

تَمَّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ شَرْحِ عُمْدَةِ الْأَحْكَامِ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي وَأَوَّلُهُ ( كِتَابُ الصِّيَامِ ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ عَلَى الْإِتْمَامِ . وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِهِ الْكَرِيمِ وَرَسُولِهِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ .==

.4.بسم الله الرحمن الرحيم

ج4.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد

كتاب الرضاع 

332 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ لَا تَحِلُّ لِي ، يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ } ( 1 )

 

صَرِيحُهُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِنْتَ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرَامٌ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " الْحَرَامُ مِنْ النَّسَبِ سَبْعٌ : الْأُمَّهَاتُ ، وَالْبَنَاتُ ، وَالْأَخَوَاتُ ، وَالْعَمَّاتُ ، وَالْخَالَاتُ ، وَبَنَاتُ الْأَخِ ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ فَيَحْرُمْنَ بِالرَّضَاعِ كَمَا يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ ، فَأُمُّك كُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْك ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ أَرْضَعَتْك ، أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ وَلَدَتْك بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ الْمُرْضِعَةَ وَالْفَحْلَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِك ، أَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ وَلَدَتْهَا ، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ مَنْ وَلَدَتْهُ فَهِيَ بِنْتُك . وَكَذَلِكَ بَنَاتُهَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أُمُّك ، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أَبِيك فَهِيَ أُخْتُك ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَتْهَا الْمُرْضِعَةُ أَوْ الْفَحْلُ ، فَأَخَوَاتُ الْفَحْلِ وَالْمُرْضِعَةِ ، وَأَخَوَاتُ مَنْ وَلَدَتْهُمَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ عَمَّاتُك وَخَالَاتُك ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا وَاحِدَةٌ مِنْ جَدَّاتِك ، أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ وَاحِدٍ مِنْ أَجْدَادِك مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ . وَبَنَاتُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ ، وَالْفَحْلِ فِي الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ : بَنَاتُ أَخِيك وَأُخْتِك ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أُنْثَى أَرْضَعَتْهَا أُخْتُك أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أُخْتِك . وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ : بَنَاتُ أُخْتِك ، وَبَنَاتُ كُلِّ ذَكَرٍ أَرْضَعَتْهُ أُمُّك أَوْ أُرْضِعَ بِلَبَنِ أَخِيك ، أَوْ أُخْتِك ، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِنَّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ : بَنَاتُ أَخِيك وَبَنَاتُ كُلِّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أُمُّك أَوْ أُرْضِعَتْ بِلَبَنِ أَبِيك ، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهَا مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَوْ أُخْتُك . وَقَدْ اسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ - أَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } - أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ وَلَا يَحْرُمْنَ مِنْ الرَّضَاعِ الْأُولَى : أُمُّ أَخِيك ، وَأُمُّ أُخْتِك مِنْ النَّسَبِ : هِيَ أُمُّك ، أَوْ زَوْجَةُ أَبِيك ، وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ وَلَوْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ أَخَاك أَوْ أُخْتَك : لَمْ تَحْرُمْ . الثَّانِيَةُ : أُمُّ نَافِلَتِك : أُمُّ بِنْتِك ، أَوْ زَوْجَةُ ابْنِك . وَهُمَا حَرَامٌ ، وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا تَكُونُ بِنْتًا وَلَا زَوْجَةَ ابْنٍ ، بِأَنْ تُرْضِعَ أَجْنَبِيَّةٌ نَافِلَتَك . الثَّالِثَةُ : جَدَّةُ وَلَدِك مِنْ النَّسَبِ : إمَّا أُمُّك ، أَوْ أُمُّ زَوْجَتِك ، وَفِي الرَّضَاعَةِ قَدْ لَا تَكُونُ أُمًّا وَلَا أُمَّ زَوْجَةٍ ، كَمَا إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَك فَأُمُّهَا جَدَّةُ وَلَدِك ، وَلَيْسَتْ بِأُمِّك ، وَلَا أُمِّ زَوْجَتِك . الرَّابِعَةُ : أُخْتُ وَلَدِك مِنْ النَّسَبِ : حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهَا إمَّا بِنْتُك أَوْ رَبِيبَتُك ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَك ، فَبِنْتُهَا أُخْتُ وَلَدِك ، وَلَيْسَتْ بِبِنْتٍ وَلَا رَبِيبَةٍ . فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِنَا { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } . وَأَمَّا أُخْتُ الْأَخِ : فَلَا تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ، وَلَا مِنْ الرَّضَاعِ ، وَصُورَتُهُ : أَنْ يَكُونَ لَك أَخٌ مِنْ أَبٍ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ ، فَيَجُوزُ لِأَخِيك مِنْ الْأَبِ نِكَاحُ أُخْتِك مِنْ الْأُمِّ ، وَهِيَ أُخْتُ أَخِيهِ . وَصُورَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ : امْرَأَةٌ أَرْضَعَتْك وَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً أَجْنَبِيَّةً مِنْك ، يَجُوزُ لِأَخِيك نِكَاحُهَا ، وَهِيَ أُخْتُك وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ : حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } وَهُوَ .

 

333 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } 334 - وَعَنْهَا قَالَتْ { إنَّ أَفْلَحَ - أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ - اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ؟ فَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا آذَنُ لَهُ ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ : لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي ، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي ، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ . فَقَالَ : ائْذَنِي لَهُ ، فَإِنَّهُ عَمُّك ، تَرِبَتْ يَمِينُك } . قَالَ عُرْوَةُ " فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ : حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ " 335 - وَفِي لَفْظٍ { اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ . فَقَالَ : أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي ، وَأَنَا عَمُّك ؟ فَقُلْت : كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي ، قَالَتْ : فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَدَقَ أَفْلَحُ ، ائْذَنِي لَهُ ، تَرِبَتْ يَمِينُك } أَيْ افْتَقَرَتْ ، وَالْعَرَبُ تَدْعُوَا عَلَى الرَّجُلِ ، وَلَا تُرِيدُ وُقُوعَ الْأَمْرِ بِهِ . 336 - وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، مَنْ هَذَا قُلْت : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ : اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ ؟ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } .

 

اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ " نَوْعٌ مِنْ التَّعْرِيضِ ، لِخَشْيَةِ أَنْ تَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَقَعَتْ فِي حَالِ الْكِبَرِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ الرَّضَاعَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْمَجَاعَةِ ، لَا مُجَرَّدُ إثْبَاتِ الرَّضَاعَةِ فِي زَمَنِ الْمَجَاعَةِ .

 

337 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : { عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ ، فَقَالَتْ : قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنِّي . قَالَ : فَتَنَحَّيْت ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ . قَالَ : كَيْفَ ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا } .

 

مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا فِي الرَّضَاعِ ، أَخْذًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا - إذَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ - مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَمَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ ، وَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْوَرَعِ وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ ؟ " وَالْوَرَعُ فِي مِثْلِ هَذَا مُتَأَكِّدٌ . " وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ " هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ - بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

338 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ - فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ ، تُنَادِي : يَا عَمُّ ، فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ : دُونَك ابْنَةَ عَمِّك ، فَاحْتَمَلْتُهَا . فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا ، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي ، وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ : ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا ، وَقَالَ : الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : أَنْتَ مِنِّي ، وَأَنَا مِنْك وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : أَشْبَهَتْ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ : أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا } 

الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ ، وَصَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَالَةَ فِيهَا كَالْأُمِّ ، عِنْدَ عَدَمِ الْأُمِّ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ } سِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِإِطْلَاقِهِ أَصْحَابُ التَّنْزِيلِ عَلَى تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى . فَإِنَّ السِّيَاقَ طَرِيقٌ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ ، وَتَعْيِينُ الْمُحْتَمَلَاتِ وَتَنْزِيلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَفَهْمُ ذَلِكَ - قَاعِدَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِالْكَلَامِ عَلَيْهَا وَتَقْرِيرِ قَاعِدَتِهَا مُطَوَّلَةً إلَّا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا أَصْحَابَهُمْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ مُتَعَيَّنَةٌ عَلَى النَّاظِرِ ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ شَغَبٍ عَلَى الْمُنَاظِرِ . وَاَلَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُطَيِّبِ لِقُلُوبِهِمْ : مِنْ حُسْنِ أَخْلَاقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّك تَقُولُ : أَمَّا مَا ذَكَرَهُ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ : فَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَتُهُ ؛ لِأَنَّ حِرْمَانَهُمَا مِنْ مُرَادِهِمَا مُنَاسِبٌ لِجَبْرِهِمَا بِذِكْرِ مَا يُطَيِّبُ قُلُوبَهُمْ وَأَمَّا جَعْفَرٌ : فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ مِنْ أَخْذِ الصَّبِيَّةِ ، فَكَيْفَ نَاسَبَ ذَلِكَ جَبْرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ ؟ فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ : بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ اسْتَحَقَّتْهَا الْخَالَةُ وَالْحُكْمُ بِهَا لِجَعْفَرٍ بِسَبَبِ الْخَالَةِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِصِفَتِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ جَبْرَهُ بِمَا قِيلَ لَهُ . 

----- أنتهى ----

مكتبة مشكاة الإسلامية