الاثنين، 5 سبتمبر 2022

ج1.وج2.إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد

 


ج1. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد  

كتاب الصيام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 178 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقَدِّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : فِيهِ صَرِيحُ الرَّدِّ عَلَى الرَّوَافِضِ ، الَّذِينَ يَرَوْنَ تَقْدِيمَ الصَّوْمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ " رَمَضَانَ " اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ . فَإِذَا صَامَ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ . الثَّانِي : فِيهِ تَبْيِينٌ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، الَّذِي فِي { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } وَبَيَانُ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّأْقِيتِ ، لَا لِلتَّعْلِيلِ ، كَمَا زَعَمَتْ الرَّوَافِضُ . وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَيْضًا ، كَمَا تَقُولُ : أَكْرِمْ زَيْدًا لِدُخُولِهِ . فَلَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْإِكْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَحَمْلُهُ عَلَى التَّأْقِيتِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ تَجَوُّزٍ ، وَخُرُوجٍ عَنْ الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ - وَهُوَ اللَّيْلُ - لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ .

الثَّالِثُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمُعْتَادَ إذَا وَافَقَتْ الْعَادَةُ فِيهِ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ : أَنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ . وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَادَةُ بِنَذْرٍ أَوْ بِسَرْدٍ عَنْ غَيْرِ نَذْرٍ فَإِنَّهُمَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ قَوْلِهِ { إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ } .

الرَّابِعُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهِيَةِ إنْشَاءِ الصَّوْمِ قَبْلَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِالتَّطَوُّعِ . فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا رَخَّصَ فِيهِ . وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ النَّذْرُ الْمَخْصُوصُ بِالْيَوْمِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ . وَلَكِنَّهُ تُعَارِضُهُ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ .

 

179 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا . وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا . فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالرُّؤْيَةِ . وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ : رُؤْيَةُ كُلِّ فَرْدٍ ، بَلْ مُطْلَقُ الرُّؤْيَةِ . وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ الَّذِي يَرَاهُ الْمُنَجِّمُونَ . وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ رَأَى الْعَمَلَ بِهِ . وَرَكَنَ إلَيْهِ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الْحِسَابِ . وَقَدْ اُسْتُشْنِعَ هَذَا ، لِمَا حُكِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْتَهُ لَمْ يَقُلْهُ . وَاَلَّذِي أَقُولُ بِهِ : إنَّ الْحِسَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ ، لِمُفَارَقَةِ الْقَمَرِ لِلشَّمْسِ ، عَلَى مَا يَرَاهُ الْمُنَجِّمُونَ ، مِنْ تَقَدُّمِ الشَّهْرِ بِالْحِسَابِ عَلَى الشَّهْرِ بِالرُّؤْيَةِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ . فَإِنَّ ذَلِكَ إحْدَاثٌ لِسَبَبٍ لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا إذَا دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ طَلَعَ مِنْ الْأُفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى ، لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ - كَالْغَيْمِ مِثْلًا فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ . وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ بِشَرْطٍ مِنْ اللُّزُومِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إذَا عُلِمَ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ ، أَوْ بِالِاجْتِهَادِ بِالْأَمَارَاتِ : أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ . وَلَا أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ .

الثَّانِي : يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ ، وَعَلَى الْإِفْطَارِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ : بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ إذَا انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ . وَلَكِنْ قَالُوا : يُفْطِرُ سِرًّا .

الثَّالِثُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ الرُّؤْيَةِ بِبَلَدٍ : هَلْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُرَ فِيهِ ؟ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ تَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى الْبَلَدِ الْآخَرِ . كَمَا إذَا فَرَضْنَا : أَنَّهُ رُئِيَ الْهِلَالُ بِبَلَدٍ فِي لَيْلَةٍ ، وَلَمْ يُرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِآخَرَ . فَتَكَمَّلَتْ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالرُّؤْيَةِ الْأُولَى . وَلَمْ يُرَ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ : هَلْ يُفْطِرُونَ أَمْ لَا فَمَنْ قَالَ بِتَعَدِّي الْحُكْمِ ، قَالَ بِالْإِفْطَارِ . وَقَدْ وَقَعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ { لَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ ، أَوْ نَرَاهُ وَقَالَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَامَّ ، لَا حَدِيثًا خَاصًّا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . الرَّابِعُ : اُسْتُدِلَّ لِمَنْ قَالَ بِالْعَمَلِ بِالْحِسَابِ فِي الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ " فَاقْدُرُوا لَهُ " فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ . وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ : إكْمَالُ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ . وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " فَاقْدُرُوا لَهُ " عَلَى هَذَا الْمَعْنَى - أَعْنِي إكْمَالَ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ - مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مُبَيَّنًا فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " . وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " غُمَّ عَلَيْكُمْ " اسْتَتَرَ أَمْرُ الْهِلَالِ وَغُمَّ أَمْرُهُ . وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّيغَةِ .

 

180 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ السُّحُورِ لِلصَّائِمِ . وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ بَرَكَةً . وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ : يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ . فَإِنَّ إقَامَةَ السُّنَّةِ تُوجِبُ الْأَجْرَ وَزِيَادَتَهُ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، لِقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصَّوْمِ ، وَتَيْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِ إجْحَافٍ بِهِ . وَ " السَّحُورُ " بِفَتْحِ السِّينِ : مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ . وَبِضَمِّهَا الْفِعْلُ . هَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ . وَ " الْبَرَكَةُ " مُحْتَمَلَةٌ لَأَنْ تُضَافَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمُتَسَحَّرِ بِهِ مَعًا . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . بَلْ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي لَفْظِ " فِي " وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : فَإِنَّ فِي السَّحُورِ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الْأَكْثَرُ . وَفِي السُّحُورِ بِضَمِّهَا . وَمِمَّا عُلِّلَ بِهِ اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ : الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ السُّحُورُ . وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ .

 

181 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ . قَالَ أَنَسٌ : قُلْت لِزَيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ ؟ قَالَ : قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً } .

فِيهِ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ السَّحُورِ ، وَتَقْرِيبِهِ مِنْ الْفَجْرِ . وَالظَّاهِرُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَذَانِ هَهُنَا : الْأَذَانُ الثَّانِي . وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الْقُوَى ، وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ وَأَرْبَابِ الْبَاطِنِ فِي هَذَا كَلَامٌ تَشَوَّفُوا فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّوْمِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ كَسْرُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ ، وَقَالُوا : إنَّ مَنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ عَادَتُهُ فِي مِقْدَارِ أَكْلِهِ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّوْمِ ، وَهُوَ كَسْرُ الشَّهْوَتَيْنِ . وَالصَّوَابُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّ مَا زَادَ فِي الْمِقْدَارِ ، حَتَّى تُعْدَمَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يُسْتَحَبُّ ، كَعَادَةِ الْمُتْرَفِينَ فِي التَّأَنُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ . وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا ، وَمَا لَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ . وَقَدْ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ هَذَا الِاسْتِحْبَابِ بِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ ، وَاخْتِلَافِ مِقْدَارِ مَا يَسْتَعْمِلُونَ .

 

182 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ } .

كَانَ قَدْ وَقَعَ خِلَافٌ فِي هَذَا . فَرَوَى فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثًا { مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ } إلَى أَنْ رُوجِعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا ثُمَّ يَصُومُ } وَصَحَّ أَيْضًا " أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ " وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَحَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا أَوْ كَالْإِجْمَاعِ . وَقَوْلُهَا " مِنْ أَهْلِهِ " فِيهِ إزَالَةٌ لِاحْتِمَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ فَإِنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الْمَنَامِ آتٍ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْجُنُبِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ . فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ لِيَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ . وَلَمْ يَقَعْ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ فِي مِثْلِ هَذَا ، إلَّا فِي الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَطَلَعَ عَلَيْهَا الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ . فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ - أَعْنِي فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ - وَقَدْ يَدُلُّ كِتَابُ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا . فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى ( ) { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ فِي لَيْلَةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا . وَمِنْ جُمْلَتِهِ . الْوَقْتُ الْمُقَارِبُ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُ الْغُسْلَ . فَتَقْتَضِي الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَمِنْ ضَرُورَتِهِ : الْإِصْبَاحُ جُنُبًا . وَالْإِبَاحَةُ لِسَبَبِ الشَّيْءِ إبَاحَةٌ لِلشَّيْءِ . وَقَوْلُهَا " مِنْ أَهْلِهِ " فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ، أَيْ مِنْ جِمَاعِ أَهْلِهِ .

 

183 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ . فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ . فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } .

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْلِ النَّاسِي لِلصَّوْمِ ، هَلْ يُوجِبُ الْفَسَادَ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ . وَهُوَ الْقِيَاسُ . فَإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَاتَ رُكْنُهُ . وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَأْمُورَاتِ . وَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي : أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَلَبِ الْمَأْمُورَاتِ . وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْقَضَاءَ : هَذَا الْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ . فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ . وَسُمِّيَ الَّذِي يُتِمُّ " صَوْمًا " وَظَاهِرُهُ : حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَإِذَا كَانَ صَوْمًا وَقَعَ مُجْزِئًا . وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ : عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ . وَالْمُخَالِفُ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : إتْمَامُ صُورَةِ الصَّوْمِ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَيُجَابُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَمْلِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ . كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ أَوْلَى . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ يُقَوِّي بِهِ هَذَا التَّأْوِيلَ الْمَرْجُوحَ فَيُعْمَلُ بِهِ . وَقَوْلُهُ { فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ } يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ . فَإِنَّ فِيهِ إشْعَارًا بِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ مَسْلُوبُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ . وَالْحُكْمُ بِالْفِطْرِ يَلْزَمُهُ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْإِفْطَارِ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُ ، وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ . وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَالَفَةٌ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِاللَّقَبِ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَالِبِ . فَإِنَّ نِسْيَانَ الْجِمَاعِ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ . وَالتَّخْصِيصُ بِالْغَالِبِ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِمَاعِ النَّاسِي ، هَلْ يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى قَوْلِنَا : إنْ أَكَلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُهُ ؟ وَاخْتَلَفَ أَيْضًا الْقَائِلُونَ بِالْفَسَادِ : هَلْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي لَا يُوجِبُهَا ، وَمَدَارُ الْكُلِّ عَلَى قُصُورِ حَالَةِ الْمُجَامِعِ نَاسِيًا عَنْ حَالَةِ الْأَكْلِ نَاسِيًا ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُذْرِ وَالنِّسْيَانِ . وَمَنْ أَرَادَ إلْحَاقَ الْجِمَاعِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّمَا طَرِيقُهُ الْقِيَاسُ ، وَالْقِيَاسُ مَعَ الْفَارِقِ مُتَعَذَّرٌ ، إلَّا إذَا بَيَّنَ الْقَائِسُ أَنَّ الْوَصْفَ الْفَارِقَ مُلْغًى .

 

184 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكْتُ . قَالَ : مَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي ، وَأَنَا صَائِمٌ - وَفِي رِوَايَةٍ : أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ : الْمِكْتَلُ - قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالَ : أَنَا . قَالَ : خُذْ هَذَا ، فَتَصَدَّقَ بِهِ . فَقَالَ الرَّجُلُ : عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ . ثُمَّ قَالَ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ } .

" الْحَرَّةُ " أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ . يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مَسَائِلُ . الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا . وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا : أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ ، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالْمَعْصِيَةِ . وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : أَنَّ مَجِيئَهُ مُسْتَفْتِيًا يَقْتَضِي النَّدَمَ وَالتَّوْبَةَ ، وَالتَّعْزِيرُ اسْتِصْلَاحٌ . وَلَا اسْتِصْلَاحَ مَعَ الصَّلَاحِ ، وَلِأَنَّ مُعَاقَبَةَ الْمُسْتَفْتِي تَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ الِاسْتِفْتَاءِ مِنْ النَّاسِ عِنْدَ وُقُوعِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَجِبُ دَفْعُهَا .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِإِفْطَارِ الْمُجَامِعِ عَامِدًا ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ : أَنَّهَا لَا تَجِبُ ، وَهُوَ شَاذٌّ جِدًّا . وَتَقْرِيرُهُ - عَلَى شُذُوذِهِ - أَنْ يُقَالَ : لَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ ، لِمَا سَقَطَتْ عِنْدَ مُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ لَهُ ، لَكِنْ سَقَطَتْ . فَلَا تَجِبُ . أَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ : فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ وَالْأَصْلَ : أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَالِ إذَا وُجِدَ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ . فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تَعْمَلُ إلَّا مَعَ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا . وَالْإِعْسَارُ إنَّمَا يُعَارِضُ وُجُوبَ الْإِخْرَاجِ فِي الْحَالِ ؛ لِاسْتِحَالَتِهِ ، أَوْ مَشَقَّتِهِ فَيُقَدَّمُ عَلَى السَّبَبِ فِي وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ فِي الْحَالِ . أَمَّا تَرَتُّبُهُ فِي الذِّمَّةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ : فَلَا يُعَارِضُهُ الْإِعْسَارُ فِي وَقْتِ السَّبَبِ . فَالْقَوْلُ بِرَفْعِ مُقْتَضَى السَّبَبِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ : غَيْرُ سَائِغٍ . وَأَمَّا أَنَّهَا سَقَطَتْ بِمُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ : فَلِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ ، وَلَا أَعْلَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي الذِّمَّةِ . وَلَوْ تَرَتَّبَتْ لَأَعْلَمَهُ . وَجَوَابُ هَذَا : إمَّا بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُقَارَنَةِ الْإِعْسَارِ . وَيُجِيبُ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ بِالْمُلَازَمَةِ ، وَيَمْنَعَ كَوْنَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تُؤَدَّ وَيُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " كُلْهُ وَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدَّ ، وَيُعْتَذَرَ عَنْ السُّكُوتِ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ . وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الِاعْتِذَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفُوا فِي جِمَاعِ النَّاسِي ، هَلْ يَقْتَضِي الْكَفَّارَةَ ؟ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ قَوْلَانِ . وَيَحْتَجُّ مَنْ يُوجِبُهَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَهَا عِنْدَ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ بَيْنَ كَوْنِ الْجِمَاعِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ أَوْ النِّسْيَانِ ، وَالْحُكْمُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَقِيبَ ذِكْرِ وَاقِعَةٍ مُحْتَمِلَةٍ لِأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُكْمِ ، مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ : يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ . وَجَوَابُهُ : أَنَّ حَالَةَ النِّسْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِمَاعِ ، وَمُحَاوَلَةِ مُقَدِّمَاتِهِ ، وَطُولِ زَمَانِهِ ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ : مِمَّا يَبْعُدُ جَرَيَانُهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْصَالِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ " هَلَكْتُ " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِتَعَمُّدِهِ ظَاهِرًا ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالتَّحْرِيمِ .

 

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَرَيَانِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ . أَعْنِي : الْعِتْقَ ، وَالصَّوْمَ ، وَالْإِطْعَامَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ غَيْرَ الْإِطْعَامِ " فَإِنْ أُخِذَ عَلَى ظَاهِرِهِ - مِنْ عَدَمِ جَرَيَانِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْمُفْطِرِ - فَهِيَ مُعْضِلَةٌ زَبَّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ . لَا يُهْتَدَى إلَى تَوْجِيهِهَا ، مَعَ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ . وَتَأَوَّلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فِي تَقْدِيمِ الْإِطْعَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْخِصَالِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا فِي تَرْجِيحِ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِهِ : مِنْهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ رُخْصَةً لِلْقَادِرِ . وَنَسْخُ هَذَا الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْفَضِيلَةِ بِالذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِلْإِطْعَامِ ؛ لِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي حَقِّ الْمُفْطِرِ : وَمِنْهَا : بَقَاءُ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُفْطِرِ لِلْعُذْرِ ، كَالْكِبَرِ وَالْحَمْلِ وَالْإِرْضَاعِ : وَمِنْهَا : جَرَيَانُ حُكْمِهِ فِي حَقِّ مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ ، حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ ثَانٍ . وَمِنْهَا : مُنَاسَبَةُ إيجَابِ الْإِطْعَامِ لِجَبْرِ فَوَاتِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَا تُقَاوِمُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْعِتْقِ ، ثُمَّ بِالصَّوْمِ ، ثُمَّ بِالْإِطْعَامِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْبُدَاءَةَ إنْ لَمْ تَقْتَضِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَقْتَضِيَ اسْتِحْبَابَهُ . وَقَدْ وَافَقَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْتِيبِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ . فَفِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ تَكُونُ بِالْإِطْعَامِ . وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ ، وَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِهِ . وَجَعَلَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ : يُكَفَّرُ بِالْإِطْعَامِ لَا غَيْرُ . وَهَذَا أَقْرَبُ فِي مُخَالَفَةِ النَّصِّ مِنْ الْأَوَّلِ .

 

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ جَرَيَانُ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ - أَعْنِي الْعِتْقَ وَالصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ - فَهَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ . وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَاسْتُدِلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُوبِ بِالتَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ ، وَقَوْلُهُ أَوَّلًا " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ " ثُمَّ رَتَّبَ الصَّوْمَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، ثُمَّ الْإِطْعَامَ بَعْدَ الصَّوْمِ ، وَنَازَعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ظُهُورِ دَلَالَةِ التَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ ، هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ وَجَعَلَهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ مَعَ التَّخْيِيرِ . وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي : مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقَالَ : لَا . قَالَ : فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ } وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الشَّاةِ وَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْفِدْيَةِ ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ .

 

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ؟ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ إعْتَاقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ، لِأَجْلِ الْإِطْلَاقِ . وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِيمَانَ : يُقَيِّدُ الْإِطْلَاقَ هَهُنَا بِالتَّقْيِيدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ السَّبَبَ إذَا اخْتَلَفَ وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ ، هَلْ يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُيِّدَ ، فَهَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا ؟ وَالْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . وَالْأَقْرَبُ : أَنَّهُ إنْ قُيِّدَ فَبِالْقِيَاسِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ : لَا " لَا إشْكَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ نَفَى الِاسْتِطَاعَةَ . وَعِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ يُنْتَقَلُ إلَى الصَّوْمِ . لَكِنْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ " وَهَلْ أَتَيْتُ إلَّا مِنْ الصَّوْمِ ؟ " فَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ ، بِسَبَبِ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ فِي الصَّوْمِ عَنْ الْوِقَاعِ : فَنَشَأَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نَظَرٌ فِي أَنَّ هَذَا : هَلْ يَكُونُ عُذْرًا مُرَخِّصًا فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ، أَعْنِي شَدِيدَ الشَّبَقِ ؟ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ " فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ " يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إطْعَامِ هَذَا الْعَدَدِ . وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَضَافَ " الْإِطْعَامَ " الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ " أَطْعَمَ " إلَى سِتِّينَ . وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ مَنْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ . الثَّانِي : أَنَّ الْقَوْلَ بِإِجْزَاءِ ذَلِكَ عَمَلٌ بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ تَعُودُ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ وَقَدْ عُرِفَ مَا فِي ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

 

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : " الْعَرَقُ " بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مَعًا : الْمِكْتَلُ مِنْ الْخُوصِ . وَاحِدُهُ " عَرَقَةٌ " وَهِيَ ضَفِيرَةٌ تُجْمَعُ إلَى غَيْرِهَا . فَيَكُونُ مِكْتَلًا . وَقَدْ رُوِيَ " عَرْقٌ " بِإِسْكَانِ الرَّاءِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَأُخِذَ مِنْ ذَلِكَ : أَنَّ إطْعَامَ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ . وَقَدْ صُرِفَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَشَرَ صَاعًا إلَى سِتِّينَ مُدًّا . وَقِسْمَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى سِتِّينَ بِرُبْعٍ . فَلِكُلِّ مِسْكِينٍ رُبْعُ صَاعٍ . وَهُوَ مُدٌّ .

 

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : " اللَّابَةُ " الْحَرَّةُ . وَالْمَدِينَةُ تَكْتَنِفُهَا حَرَّتَانِ . وَالْحَرَّةُ حِجَارَةٌ سُودٌ . وَقِيلَ فِي ضَحِكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَبَايُنِ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ ، حَيْثُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مُتَحَرِّقًا مُتَلَهِّفًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ . ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى طَلَبِ الطَّعَامِ لِنَفْسِهِ . وَقِيلَ : وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَوْسِعَتِهِ عَلَيْهِ ، وَإِطْعَامِهِ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ ، وَإِحْلَالِهِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ إخْرَاجَهُ . .

 

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " تَبَايَنَتْ الْمَذَاهِبُ فِيهِ . فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ : هُوَ دَلِيلٌ عَلَى إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْرِفَ كَفَّارَتَهُ إلَى أَهْلِهِ وَنَفْسِهِ . وَإِذَا تَعَذَّرَ أَنْ تَقَعَ كَفَّارَةٌ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ اسْتِقْرَارَ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ إلَى حِينِ الْيَسَارِ : لَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ لِسَبَبِ وُجُوبِهَا وَرُبَّمَا قُرِّرَ ذَلِكَ بِالِاسْتِشْهَادِ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، حَيْثُ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ لِاسْتِهْلَالِ الْهِلَالِ . وَهَذَا قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، أَعْنِي سُقُوطَ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا الْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ . وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ : لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِعْسَارِ الْمُقَارِنِ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا . وَبَعْدَ الْقَوْلِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ فَهَهُنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْعُ أَنْ لَا تَكُونَ الْكَفَّارَةُ أُخْرِجَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " فَفِيهِ وُجُوهٌ : مِنْهَا : ادِّعَاءُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ ، أَيْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ صَدَقَةِ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ . فَسَوَّغَهَا لَهُ النَّبِيُّ . وَمِنْهَا : ادِّعَاءُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ . وَهَذَانِ ضَعِيفَانِ . إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَلَا عَلَى النَّسْخِ . وَمِنْهَا : أَنْ تَكُونَ صُرِفَتْ إلَى أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ عَاجِزٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لِعُسْرِهِ . وَهُمْ فُقَرَاءُ أَيْضًا . فَجَازَ إعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَهُمْ . وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِمَنْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ الْفَقْرِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ . وَهَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " كُلْهُ وَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ " . وَمِنْهَا : مَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيلَ : لَمَّا مَلَّكَهُ إيَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ جَازَ لَهُ أَكْلُهَا وَإِطْعَامُهَا أَهْلَهُ لِلْحَاجَةِ . وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ عَامًّا فَلَيْسَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ . وَإِنْ جُعِلَ خَاصًّا فَهُوَ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ أَوَّلًا . الطَّرِيقُ الثَّانِي : وَهُوَ - الْأَقْرَبُ - أَنْ يُجْعَلَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهَا لَا عَنْ جِهَةِ الْكَفَّارَةِ . وَتَكُونُ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةً فِي الذِّمَّةِ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ . وَالسُّكُوتُ لِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ . فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مَعَ اسْتِقْرَارِ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ يَتَأَخَّرُ لِلْإِعْسَارِ ، وَلَا يَسْقُطُ ، لِلْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالنَّظَائِرِ ، أَوْ يُؤْخَذُ الِاسْتِقْرَارُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ السُّكُوتِ . .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَ : جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مُفْسِدِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ ، لِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذِكْرِهِ . وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ أَجْزَأَهُ الشَّهْرَانِ . وَإِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِهِ قَضَى يَوْمًا . وَالصَّحِيحُ : وُجُوبُ الْقَضَاءِ . وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لِتَقَرُّرِهِ وَظُهُورِهِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ . وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - أَعْنِي الْقَضَاءَ - وَالْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَلِأَصْحَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . وَهِيَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي حَكَيْنَاهَا . وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الرَّجُلِ . فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ ، إذْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا مَكَّنَتْ طَائِعَةً فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ : هَلْ تَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْوُجُوبُ . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . الثَّانِي : عَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا . وَاخْتِصَاصُ الزَّوْجِ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ . وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَوْلَيْهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا : هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ لَا تُلَاقِي الْمَرْأَةَ ، أَوْ هِيَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ تَقُومُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ . وَاحْتَجَّ الَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ بِأُمُورٍ : مِنْهَا : مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ . فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذِكْرِهِ . وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مِنْ اسْتِدْلَالِهِمْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْلِمْ الْمَرْأَةَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا ، مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِعْلَامِ . وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ . { وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الْعَسِيفِ . فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا } . فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَأَعْلَمَهَا النَّبِيُّ بِذَلِكَ ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُنَيْسٍ . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ أَجَابُوا بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْحَاجَةَ إلَى إعْلَامِهَا . فَإِنَّهَا لَمْ تَعْتَرِفْ بِسَبَبِ الْكَفَّارَةِ . وَإِقْرَارُ الرَّجُلِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حُكْمًا . وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِهَا إذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ . وَثَانِيهَا : أَنَّهَا قَضِيَّةُ حَالٍ . يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ . وَلَا عُمُومَ لَهَا . وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ بِهَذَا الْوَطْءِ : إمَّا لِصِغَرِهَا ، أَوْ جُنُونِهَا ، أَوْ كُفْرِهَا ، أَوْ حَيْضِهَا ، أَوْ طَهَارَتِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ . وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ عِلْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيْضِ امْرَأَةِ أَعْرَابِيٍّ لَمْ يَعْلَمْ عُسْرَهُ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهِ مُسْتَحِيلٌ . وَأَمَّا الْعُذْرُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْكُفْرِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ : فَكُلُّهَا أَعْذَارٌ تُنَافِي التَّحْرِيمَ عَلَى الْمَرْأَةِ . وَيُنَافِيهَا قَوْلُهُ فِيمَا رَوَوْهُ " هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ " وَجَوْدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ . وَثَالِثُهَا : لَا نُسَلِّمُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْحُكْمِ . فَإِنَّ بَيَانَهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ بَيَانٌ لَهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ . لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الْفِطْرِ ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ سَبَبَ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هُوَ ذَاكَ . وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ : كَافٍ عَنْ ذِكْرِهِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَذْكُرْ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ غَيْرَ الْأَعْرَابِيِّ ، لِعِلْمِهِمْ بِالِاسْتِوَاءِ فِي الْحُكْمِ . وَهَذَا وَجْهٌ قَوِيٌّ . وَإِنَّمَا حَاوَلُوا التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ بِأَنْ بَيَّنُوا فِي الْمَرْأَةِ مَعْنًى يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافُ حُكْمِهَا مَعَ حُكْمِ الرَّجُلِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ النَّاسِ . فَإِنَّهُ لَا مَعْنًى يُوجِبُ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمْ مَعَ حُكْمِهِ . وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدُوهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ : هُوَ أَنَّ مُؤَنَ النِّكَاحِ لَازِمَةٌ لِلزَّوْجِ ، كَالْمَهْرِ وَثَمَنِ مَاءِ الْغُسْلِ عَنْ جِمَاعِهِ . فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ . وَأَيْضًا : فَجَعَلُوا الزَّوْجَ فِي الْوَطْءِ هُوَ الْفَاعِلُ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ . وَالْمَرْأَةُ مَحِلٌّ . فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ . فَيُقَالُ وَاطِئٌ وَمُوَاقِعٌ . وَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ هَذَانِ بِقَوِيَّيْنِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ ، وَتَأْثَمُ بِهِ إثْمَ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ ، كَمَا فِي الرَّجُلِ . وَقَدْ أُضِيفَ اسْمُ الزِّنَا إلَيْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَمَدَارُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .

 

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : دَلَّ الْحَدِيثُ بِنَصِّهِ عَلَى إيجَابِ التَّتَابُعِ فِي صِيَامِ الشَّهْرَيْنِ . وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ خَالَفَ فِيهِ .

 

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْخِصَالِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ . وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ أَدْخَلَ الْبَدَنَةَ فِيهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّقَبَةِ وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدٍ . وَقِيلَ : إنَّ سَعِيدًا أَنْكَرَ رِوَايَتَهُ عَنْهُ . بَابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ .

 

185 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ - وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ - فَقَالَ : إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ } .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ . وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَوْمُ رَمَضَانَ . وَرُبَّمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَمَنَعُوا الدَّلَالَةَ مِنْ حَيْثُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، مِنْ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَوْمَ رَمَضَانَ .

 

186 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ . وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ } .

وَهَذَا أَقْرَبُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ بِعَرْضِ كَوْنِهِ يُعَابُ عَلَى عَدَمِهِ ، بِقَوْلِهِ " فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ " وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ . وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمُرْسَلُ : فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَابَ . وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ هَذَا الْوَهْمِ فِيهِ .

 

 

187 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ . وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } .

وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا الصَّوْمَ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ . وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : صِحَّةُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ . وَالظَّاهِرِيَّةُ خَالَفَتْ فِيهِ - أَوْ بَعْضُهُمْ - بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِهِمْ لِلْإِضْمَارِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ .

 

188 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ . فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : صَائِمٌ . قَالَ : لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ } .

أُخِذَ مِنْ هَذَا : أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، مِمَّنْ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ، أَوْ يُؤَدِّي بِهِ إلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقُرُبَاتِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ " لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " مُنَزَّلًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالظَّاهِرِيَّةُ الْمَانِعُونَ مِنْ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ . وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ . وَيَجِبُ أَنْ تَتَنَبَّهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ ، وَعَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَبَيْنَ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ ، وَلَا تُجْرِيهِمَا مَجْرًى وَاحِدًا . فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُرُودِ الْعَامِّ عَلَى السَّبَبِ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } بِسَبَبِ سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ . وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِهِ بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ . أَمَّا السِّيَاقُ وَالْقَرَائِنُ : فَإِنَّهَا الدَّالَّةُ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ . وَهِيَ الْمُرْشِدَةُ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ ، وَتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلَاتِ . فَاضْبُطْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ . فَإِنَّهَا مُفِيدَةٌ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى . وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } مَعَ حِكَايَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَتَيْنِ هُوَ ؟ فَنَزِّلْهُ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ { عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّمَسُّكُ بِالرُّخْصَةِ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا . وَلَا تُتْرَكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّعَمُّقِ .

 

 

الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ قَالَ : فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ ، وَأَكْثَرُنَا ظِلًّا : صَاحِبُ الْكِسَاءِ . وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ . قَالَ : فَسَقَطَ الصُّوَّامُ ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ . وَسَقَوْا الرِّكَابَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ . }

أَمَّا قَوْلُهُ " فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ " فَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ : تَقْرِيرُ النَّبِيِّ لِلصَّائِمِينَ عَلَى صَوْمِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ " فَفِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ . قُدِّمَ أَوْلَاهَا وَأَقْوَاهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ " فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَادَ بِالْأَجْرِ أَجْرُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلُوهَا ، وَالْمَصَالِحُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ . وَلَا يُرَادُ مُطْلَقُ الْأَجْرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُمْ قَدْ بَلَغَ فِي الْكَثْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَجْرِ الصَّوْمِ مَبْلَغًا يَنْغَمِرُ فِيهِ أَجْرُ الصَّوْمِ فَتَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ . وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَجْرَ كُلَّهُ لِلْمُفْطِرِ . وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي إحْبَاطِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِبَعْضِ الْكَبَائِرِ ، وَأَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ صَارَ مَغْمُورًا جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ ، فَكَأَنَّهُ كَالْمَعْدُومِ الْمُحْبَطِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ الْمُحْبِطَاتِ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ : التَّشْبِيهُ فِي أَنَّ مَا قَلَّ جِدًّا قَدْ يُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ مُبَالَغَةً . وَهَذَا قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ ، وَأَعْمَالُ النَّاسِ فِي مُقَابَلَتِهِمْ حَسَنَاتُ مَنْ يَفْعَلُ مَعَهُمْ مِنْهَا شَيْئًا بِسَيِّئَاتِهِ ، وَيُجْعَلُ الْيَسِيرُ مِنْهَا جِدًّا كَالْمَعْدُومِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ ، كَحِجَامَةِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ فِي دَفْعِ الْمَرَضِ الْأَعْظَمِ عَنْهُ . فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُحْسِنًا مُطْلَقًا . وَلَا يُعَدُّ مُسِيئًا بِالنِّسْبَةِ إلَى إيلَامِهِ بِالْحِجَامَةِ ، لِيَسَارَةِ ذَلِكَ الْأَلَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ .

 

 

190 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إلَّا فِي شَعْبَانَ " .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْجُمْلَةِ ، وَأَنَّهُ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ : أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ عَنْ شَعْبَانَ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ ثَانٍ . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ ثَانٍ : فَمِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ كَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

 

191 الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ " هَذَا فِي النَّذْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ " .

لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إخْرَاجِهِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَصُومُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ ، وَذَهَبَ إلَيْهِ قَوْمٌ وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ . وَالْجَدِيدُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ : عَدَمُ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ . وَالْحَدِيثُ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالنَّذْرِ ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . نَعَمْ قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : مَا يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي الصَّوْمِ عَنْ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ بِصَوْمٍ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ لِلتَّخْصِيصِ بِصُورَةِ النَّذْرِ . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُعْتَبَرِ فِي الْوِلَايَةِ ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ ، أَهُوَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ ، أَوْ بِشَرْطِ الْعُصُوبَةِ ، أَوْ الْإِرْثِ ؟ وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ . وَقَالَ : لَا نَقْلَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ . وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَأَنْتَ إذَا فَحَصْتَ عَنْ نَظَائِرِهِ ، وَجَدْتَ الْأَشْبَهَ : اعْتِبَارَ الْإِرْثِ . وَقَوْلُهُ " صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " قِيلَ : لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إنْ أَرَادَ . هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنْ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ . وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ . وَفِي هَذَا بَحْثٌ . وَهُوَ أَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ خَبَرٍ ، أَعْنِي " صَامَ " وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِهِ . فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَمْرِ . وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنَةِ . وَفِي " افْعَلْ " مَثَلًا ، أَوْ يَعُمُّهَا مَعَ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَا يَصُومُ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ ، إمَّا لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ ، مَعَ مُنَاسَبَةِ الْوِلَايَةِ لِذَلِكَ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ : عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ . فَلَا تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ . وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ النِّيَابَةِ : وَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ . وَيَجْرِي فِي الْبَاقِي عَلَى الْقِيَاسِ .

 

وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَوْ أَمَرَ الْوَلِيُّ أَجْنَبِيًّا أَنْ يَصُومَ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ جَازَ ، كَمَا فِي الْحَجِّ . فَلَوْ اسْتَقَلَّ بِهِ الْأَجْنَبِيُّ ، فَفِي إجْزَائِهِ وَجْهَانِ . أَظْهَرُهُمَا : الْمَنْعُ . وَأَمَّا إلْحَاقُ غَيْرِ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ : فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ . وَلَيْسَ أَخْذُ الْحُكْمِ عَنْهُ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ .

 

 

192 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ . أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى . } وَفِي رِوَايَةٍ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ . أَفَأَصُومُ عَنْهَا ؟ فَقَالَ : أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ } .

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَقَدْ أَطْلَقَ فِيهِ الْقَوْلَ بِأَنَّ أُمَّ الرَّجُلِ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ . وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالنَّذْرِ . وَهُوَ يَقْتَضِي : أَنْ لَا يُتَخَصَّصَ جَوَازُ النِّيَابَةِ بِصَوْمِ النَّذْرِ . وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ ، تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ أَحْمَدُ . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ ، بَعْدَ سُؤَالِ السَّائِلِ مُطْلَقًا عَنْ وَاقِعَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِيهَا عَنْ نَذْرٍ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِهِ . فَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا أَجَابَ بِلَفْظٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ عَنْ سُؤَالٍ وَقَعَ عَنْ صُورَةٍ مُحْتَمَلَةٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا مُخْتَلِفًا : أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ شَامِلًا لِلصُّوَرِ كُلِّهَا . وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ " تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ عَنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ ، مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ : مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ " وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ هَذَا وَجَعَلَهَا كَالْعُمُومِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ لِلنَّذْرِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَيْهَا . وَقَاسَهُ عَلَى الدَّيْنِ . وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالنَّذْرِ - أَعْنِي كَوْنَهَا حَقًّا وَاجِبًا - وَالْحُكْمُ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرِيعَةِ بِهَذَا ، مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ وُجُوبَ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ . وَجَعَلَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَحَقِّ . فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْقِيَاسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( ) { وَاتَّبِعُوهُ } لَا سِيَّمَا وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَرَأَيْتِ " إرْشَادٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَشَيْءٍ مُسْتَقِرٍّ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " دَلَالَةٌ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا ، عِنْدَ تَزَاحُمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ ، كَمَا إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ . وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ الْوَفَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ بِتَقْدِيمِ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " . وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِيهَا مَا فِي الْأُولَى مِنْ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ ، وَالْقِيَاسِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ التَّخْصِيصُ فِيهَا بِالنَّذْرِ . فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَرَى التَّخْصِيصَ بِصَوْمِ النَّذْرِ ، إمَّا بِأَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ . يُبَيَّنُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا وَاقِعَةُ نَذْرٍ . فَيَسْقُطُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ إذَا تَبَيَّنَ عَيْنُ الْوَاقِعَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَبْعُدُ لِتَبَايُنٍ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ . فَإِنَّ فِي إحْدَاهُمَا " أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ " وَفِي الثَّانِيَةِ " أَنَّهُ امْرَأَةٌ " وَقَدْ قَرَرْنَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ يُعْرَفُ كَوْنُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا بِاتِّحَادِ سَنَدِهِ وَمَخْرَجِهِ ، وَتَقَارُبِ أَلْفَاظِهِ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ . فَيَبْقَى الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِ الْعِلَّةِ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعَنَا عُمُومًا . وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } فَيَكُونُ التَّنْصِيصُ عَلَى مَسْأَلَةِ صَوْمِ النَّذْرِ ، مَعَ ذَلِكَ الْعُمُومِ رَاجِعًا إلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ . وَهُوَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى بَعْضِ صَوْمِ الْعَامِّ لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ . وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ . وَقَدْ تَشَبَّثَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنْ يَقِيسَ الِاعْتِكَافَ وَالصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ فِي النِّيَابَةِ ، وَرُبَّمَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَجْهًا فِي الصَّلَاةِ . فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِ هَذَا التَّعْلِيلِ .

 

 

193 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ . }

تَعْجِيلُ الْفِطْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْغُرُوبِ : مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقٍ . وَدَلِيلُهُ هَذَا الْحَدِيثُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُتَشَيِّعَةِ ، الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ إلَى ظُهُورِ النَّجْمِ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ النَّاسِ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَخَّرُوهُ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي فِعْلٍ خِلَافِ السُّنَّةِ . وَلَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا فَعَلُوا السُّنَّةَ .

 

194 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا . وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا : فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } .

الْإِقْبَالُ ، وَالْإِدْبَارُ " مُتَلَازِمَانِ . أَعْنِي : إقْبَالَ اللَّيْلِ وَإِدْبَارَ النَّهَارِ . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَظْهَرَ لِلْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْخَفِيِّ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مَا يَسْتُرُ الْبَصَرَ عَنْ إدْرَاكِ الْغُرُوبِ . وَكَانَ الْمَشْرِقُ بَارِزًا ظَاهِرًا فَيُسْتَدَلُّ بِطُلُوعِ اللَّيْلِ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ : فَقَدْ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ : فَقَدْ دَخَلَ فِي الْفِطْرِ . وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِيهِ : أَنَّ اللَّيْلَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ . وَأَنَّهُ بِنَفْسِ دُخُولِهِ خَرَجَ الصَّائِمُ مِنْ الصَّوْمِ . وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : ذَكَرَ الْعَلَامَةَ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ جَوَازُ الْإِفْطَارِ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : بَيَانُ امْتِنَاعِ الْوِصَالِ ، بِمَعْنَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ ، لَا بِمَعْنَى الْإِمْسَاكِ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ مَنْ أَمْسَكَ حِسًّا فَهُوَ مُفْطِرٌ شَرْعًا . وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ : إبْطَالُ فَائِدَةِ الْوِصَالِ شَرْعًا . إذْ لَا يَحْصُلُ بِهِ ثَوَابُ الصَّوْمِ .

 

 

195 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشْرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ . قَالُوا : إنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى } وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ . 196 - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ } . .

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ الْوِصَالِ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِعْلُهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَجَازَهُ إلَى السَّحَرِ ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الْوِصَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ : مَا اتَّصَلَ بِالْيَوْمِ الثَّانِي . فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْوِصَالُ إلَى السَّحَرِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ " يَقْتَضِي تَسْمِيَتَهُ وِصَالًا . وَالنَّهْيُ عَنْ الْوِصَالِ يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ بِالتَّعْرِيضِ بِصَوْمِ الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ بِمَثَابَةِ الْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَرَّضُ بِهِ الصَّوْمُ لِلْبُطْلَانِ وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ شَدِيدَةً . وَإِنْ كَانَ صَوْمَ نَفْلٍ : فَفِيهِ التَّعَرُّضُ لِإِبْطَالِ مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ . وَإِبْطَالُهَا : إمَّا مَمْنُوعٌ - عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ - وَإِمَّا مَكْرُوهٌ . وَكَيْفَمَا كَانَ : فَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَوْجُودَةٌ ، إلَّا أَنَّهَا تَخْتَلِفُ رُتْبَتُهَا . فَإِنْ أَجَزْنَا الْإِفْطَارَ : كَانَتْ رُتْبَةُ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ أَخَفَّ مِنْ رُتْبَةِ الْكَرَاهَةِ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ قَطْعًا . وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَهَلْ يَكُونُ كَالْكَرَاهَةِ فِي تَعْرِيضِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : يَسْتَوِيَانِ . لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُوبِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَسْتَوِيَانِ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، فَالْمَصَالِحُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ أَقْوَى وَأَرْجَحُ ؛ لِأَنَّهَا انْتَهَضَتْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ . وَأَمَّا مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالنَّذْرِ - وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ - فَلَا يُسَاوِيهِ فِي مِقْدَارِ الْمَصْلَحَةِ . فَإِنَّ الْوُجُوبَ هَهُنَا إنَّمَا هُوَ لِلْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ تَعَالَى . وَأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيمَنْ يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ . وَهَذَا بِمُفْرَدِهِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ فِي الْمَصَالِحِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ الثَّانِيَ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّذْرِ } مَعَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ . فَلَوْ كَانَ مُطْلَقُ الْوُجُوبِ مِمَّا يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمَنْذُورِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ : لَكَانَ فِعْلُ الطَّاعَةِ بَعْدَ النَّذْرِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهَا قَبْلَ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ { مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ } وَيُحْمَلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَحْثِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَكَانَ النَّذْرُ وَسِيلَةً إلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ . فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا ، وَهَذَا عَلَى إجْرَاءِ النَّهْيِ عَنْ النَّذْرِ عَلَى عُمُومِهِ .

 

 

بَابُ أَفْضَلِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهِ 197 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ : وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : قَدْ قُلْتُهُ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي . فَقَالَ : فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ . وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا . وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ . قُلْتُ : فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ . قُلْتُ : أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا . فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد . وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . فَقُلْتُ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . } وَفِي رِوَايَةٍ { لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد - شَطْرَ الدَّهْرِ - صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا } .

فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ الْأُولَى : " صَوْمُ الدَّهْرِ " ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى جَوَازِهِ . مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ . وَمَنَعَهُ الظَّاهِرِيَّةُ ، لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ } وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَتَأَوَّلَ مُخَالِفُوهُمْ هَذَا عَلَى مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ، وَأَدْخَلَ فِيهِ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْ صَوْمِهَا ، كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ . وَكَأَنَّ هَذَا مُحَافَظَةٌ عَلَى حَقِيقَةِ صَوْمِ الْأَبَدِ . فَإِنَّ مَنْ صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ ، مَعَ غَيْرِهَا : هُوَ الصَّائِمُ لِلْأَبَدِ . وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهَا لَمْ يَصُمْ الْأَبَدَ ، إلَّا أَنَّ فِي هَذَا خُرُوجًا عَنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَهُوَ مَدْلُولُ لَفْظَةِ " صَامَ " فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ شَرْعًا . إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا حَقِيقَةُ الصَّوْمِ ، فَلَا يَحْصُلُ حَقِيقَةُ " صَامَ " شَرْعًا لِمَنْ أَمْسَكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ . فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِ " الْأَبَدِ " فَقَدْ وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِحَقِيقَةِ لَفْظِ " صَامَ " شَرْعًا ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ . وَإِذَا تَعَارَضَ مَدْلُولُ اللُّغَةِ وَمَدْلُولُ الشَّرْعِ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِصَوْمِ الْأَبَدِ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ " أَنَّ الْأَبَدَ " مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ " أَبَدٌ " فَإِذَا وَقَعَ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ، فَعِلَّةُ الْحُكْمِ : وُقُوعُ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ . وَيَبْقَى تَرْتِيبُهُ عَلَى مُسَمَّى الْأَبَدِ غَيْرَ وَاقِعٍ . فَإِنَّهُ إذَا صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ تَعَلَّقَ بِهِ الذَّمُّ ، سَوَاءٌ صَامَ غَيْرَهَا أَوْ أَفْطَرَ وَلَا يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ عَلَيْهِ صَوْمُ الْأَبَدِ ، بَلْ هُوَ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَوْمُ الْأَبَدِ يَلْزَمُ مِنْهُ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ : تَعَلَّقَ بِهِ الذَّمُّ ، لِتَعَلُّقِهِ بِلَازِمِهِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ . فَمِنْ هَهُنَا نَظَرَ الْمُتَأَوِّلُونَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَتَرَكُوا التَّعْلِيلَ بِخُصُوصِ صَوْمِ الْأَبَدِ .

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَرِهَ جَمَاعَةٌ قِيَامَ كُلِّ اللَّيْلِ . لِرَدِّ النَّبِيِّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ ، وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْإِجْحَافِ بِوَظَائِفَ عَدِيدَةٍ وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَعَلَّهُمْ حَمَلُوا الرَّدَّ عَلَى طَلَبِ الرِّفْقِ بِالْمُكَلَّفِ . وَهَذَا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْكَرَاهَةِ بِالرَّدِّ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ سُؤَالٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الرَّدَّ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ صِيَامُ النَّهَارِ ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ فَلَا يَلْزَمُ تَرَتُّبُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " تُطْلِقُ عَدَمَ الِاسْتِطَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَعَذَّرِ مُطْلَقًا ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاقِّ عَلَى الْفَاعِلِ . وَعَلَيْهِمَا ذُكِرَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ ، حَتَّى أُخِذَ مِنْهُ جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ . وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا يَشُقُّ . وَهُوَ الْأَقْرَبُ . فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْكَ ، عَلَى الْأَقْرَبِ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ : إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ الْعُمْرِ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ ذَلِكَ . وَعَلِمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقٍ ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْتِزَامٌ لِأَوْقَاتٍ تَقْتَضِي الْعَادَةُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا ، مَعَ تَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ " مَعَ الْقِيَامِ بِبَقِيَّةِ الْمَصَالِحِ الْمَرْعِيَّةِ شَرْعًا .

 

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَعِلَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الْحَدِيثِ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهَا مِنْ الشَّهْرِ اخْتِلَافًا فِي تَعْيِينِ الْأَحَبِّ وَالْأَفْضَلِ لَا غَيْرُ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . فَأَضْرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ " مُؤَوَّلٌ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِثْلُ أَصْلِ صِيَامِ الدَّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ لِلْحَسَنَاتِ . فَإِنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ الْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ . وَالْحَامِلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ : أَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يَكُونُ كَالْمُحَقَّقِ ، وَأَنَّ الْأُجُورَ تَتَفَاوَتُ بِحَسْبِ تَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ ، أَوْ الْمَشَقَّةِ فِي الْفِعْلِ . فَكَيْفَ يَسْتَوِي مَنْ فَعَلَ الشَّيْءَ بِمَنْ قُدِّرَ فِعْلُهُ لَهُ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ أَصْلُ الْفِعْلِ فِي التَّقْدِيرِ ، لَا الْفِعْلُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّضْعِيفُ فِي التَّحْقِيقِ وَهَذَا الْبَحْثُ يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ . وَلَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ هَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَشِبْهِهِ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ الدَّهْرِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ هَذَا الصَّوْمِ . وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ : أَنَّهُ مَثَّلَ بِصَوْمِ الدَّهْرِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ التَّرْغِيبِ هِيَ جِهَةَ الذَّمِّ . وَسَبِيلُ الْجَوَابِ : أَنَّ الذَّمَّ - عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ - مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ ، وَوَجْهُ التَّرْغِيبِ هَهُنَا : حُصُولُ الثَّوَابِ عَلَى الْوَجْهِ التَّقْدِيرِيِّ . فَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ التَّرْغِيبِ وَجِهَةُ الذَّمِّ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ الَّذِي ذُكِرَ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَكِنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ أَقْوَى مِنْهُ دَلَالَةً . وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ ، وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا صَوْمَ الدَّهْرِ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى ذِي عَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ ، أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ ، مِنْ لُزُومِ تَعْطِيلِ مَصَالِحَ رَاجِحَةٍ عَلَى الصَّوْمِ ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ الْغَيْرِ كَالزَّوْجَةِ مَثَلًا . .

 

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَوْمِ دَاوُد " وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ " ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي تَفْضِيلِ هَذَا الصَّوْمِ عَلَى صَوْمِ الْأَبَدِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ : نَظَرُوا إلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَتَى كَانَ أَكْثَرَ كَانَ الْأَجْرُ أَوْفَرَ . هَذَا هُوَ الْأَصْلُ . فَاحْتَاجُوا إلَى تَأْوِيلِ هَذَا . وَقِيلَ فِيهِ : إنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ حَالُهُ مِثْلُ حَالِكَ ، أَيْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّوْمِ الْأَكْثَرِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ . وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي : أَنْ يُجْرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي تَفْضِيلِ صِيَامِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَالسَّبَبُ فِيهِ : أَنَّ الْأَفْعَالَ مُتَعَارِضَةُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ . وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَنَا وَلَا مُسْتَحْضَرًا ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ ، فَمِقْدَارُ تَأْثِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْحَثِّ وَالْمَنْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ لَنَا . فَالطَّرِيقُ حِينَئِذٍ أَنْ نُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ ، وَنَجْرِيَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مَعَ قُوَّةِ الظَّاهِرِ هَهُنَا . وَأَمَّا زِيَادَةُ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءُ الْقَاعِدَةِ لِزِيَادَةِ الْأَجْرِ بِسَبَبِهِ : فَيُعَارِضُهُ اقْتِضَاءُ الْعَادَةِ وَالْجِبِلَّةِ لِلتَّقْصِيرِ فِي حُقُوقٍ يُعَارِضُهَا الصَّوْمُ الدَّائِمُ ، وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ الْفَائِتِ مَعَ مَقَادِيرِ ذَلِكَ الْحَاصِلِ مِنْ الصَّوْمِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَنَا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُد " يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَوْقَهُ فِي الْفَضِيلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا .

 

 

198 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد . وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد . كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ . وَيَنَامُ سُدُسَهُ . وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا . }

وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ . وَتَقْدِيرُهُ بِمَا ذَكَرَ . وَنَوْمُ سُدُسِهِ الْأَخِيرِ : فِيهِ مَصْلَحَةُ الْإِبْقَاءِ عَلَى النَّفْسِ ، وَاسْتِقْبَالُ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَأَذْكَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ بِالنَّشَاطِ . وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فِي الصَّوْمِ مِنْ الْمُعَارِضِ : وَارِدٌ هُنَا . وَهُوَ أَنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْفَضِيلَةِ وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّوْمِ مِنْ تَفْوِيضِ مَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ . وَمِنْ مَصَالِحِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقِيَامِ أَيْضًا : أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى عَدَمِ الرِّيَاءِ فِي الْأَعْمَالِ . فَإِنَّ مَنْ نَامَ السُّدُسَ الْأَخِيرَ : أَصْبَحَ جَامًّا غَيْرَ مَنْهُوكِ الْقُوَى . فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُخْفِيَ أَثَرَ عَمَلِهِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ ، وَمَنْ يُخَالِفُ هَذَا يَجْعَلُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " أَحَبَّ الصِّيَامِ " مَخْصُوصًا بِحَالَةٍ ، أَوْ بِفَاعِلٍ ، وَعُمْدَتُهُمْ : النَّظَرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

 

 

199 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْقَصْدِ إلَى الْوَصِيَّةِ بِهَا ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَدْ وَرَدَتْ عِلَّتُهُ فِي الْحَدِيثِ ، وَهُوَ تَحْصِيلُ أَجْرِ الشَّهْرِ ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ ، وَرَأَى مَنْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ أَجْرٌ بِلَا تَضْعِيفٍ ، لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَوْمِ الشَّهْرِ تَقْدِيرًا ، وَبَيْنَ صَوْمِهِ تَحْقِيقًا . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى ، وَأَنَّهَا رَكْعَتَانِ ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْأَقَلَّ الَّذِي تَوَجَّهَ التَّأْكِيدُ لِفِعْلِهِ ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ يَقُومُ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحُكْمِ : أَنْ تَتَضَافَرَ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ ، نَعَمْ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَرَجَّحُ مَرْتَبَتُهُ عَلَى هَذَا ظَاهِرًا . وَأَمَّا النَّوْمُ عَنْ الْوِتْرِ : فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا كَلَامٌ فِي تَأْخِيرِ الْوِتْرِ وَتَقْدِيمِهِ ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ مَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَثِقْ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ مَخْصُوصَةً بِحَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي حَالِهِ .

 

 

200 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : { سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } وَزَادَ مُسْلِمٌ " وَرَبِّ الْكَعْبَةِ " .

النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِهِ مُفْرَدًا ، كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَعَلَّ سَبَبَهُ : أَنْ لَا يُخَصَّ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ بِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، لِمَا فِي التَّخْصِيصِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي تَخْصِيصِ السَّبْتِ بِالتَّجَرُّدِ عَنْ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَخُصُّونَ يَوْمَ السَّبْتِ بِخُصُوصِ الصَّوْمِ ، فَلَا يَقْوَى التَّشَبُّهُ بِهِمْ ، بَلْ تَرْكُ الْأَعْمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَقْرَبُ إلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ النَّهْيُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ كَرَاهَتُهُ مِنْ قَاعِدَةِ كَرَاهَةِ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ ، وَمَنْ قَالَ : بِأَنَّهُ يُكْرَهُ التَّخْصِيصُ لِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَدْ أَبْطَلَ تَخْصِيصَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَلَعَلَّهُ يَنْضَمُّ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى : أَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ فَضِيلًا جِدًّا عَلَى الْأَيَّامِ ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدِ هَذِهِ الْمِلَّةِ ، كَانَ الدَّاعِي إلَى صَوْمِهِ قَوِيًّا ، فَنَهَى عَنْهُ ، حِمَايَةً أَنْ يَتَتَابَعَ النَّاسُ فِي صَوْمِهِ ، فَيَحْصُلُ فِيهِ التَّشَبُّهُ أَوْ مَحْذُورُ إلْحَاقِ الْعَوَامّ إيَّاهُ بِالْوَاجِبَاتِ إذَا أُدِيمَ ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ عَلَى صَوْمِهِ ، فَيُلْحِقُونَ بِالشَّرْعِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَجَازَ مَالِكٌ صَوْمَهُ مُفْرَدًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ ، أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ .

 

 

201 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ } .

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُبَيِّنُ الْمُطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، وَيُوَضِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ ، وَيَظْهَرُ مِنْهُ : أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْإِفْرَادُ بِالصَّوْمِ وَيَبْقَى النَّظَرُ : هَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهَذَا الْيَوْمِ ، أَمْ نُعَدِّيهِ إلَى قَصْدِ غَيْرِهِ بِالتَّخْصِيصِ بِالصَّوْمِ ؟ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَخْصِيصِهِ وَتَخْصِيصِ غَيْرِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ هَهُنَا إلَى تَخْصِيصِهِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأُمَّةِ . فَالدَّاعِي إلَى حِمَايَةِ الذَّرِيعَةِ فِيهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ . فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ : يُمْكِنُ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِهِ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ تَقْتَضِي عُمُومَ النَّهْيِ عَنْ التَّخْصِيصِ بِصَوْمِ غَيْرِهِ ، وَوَرَدَتْ دَلَائِلُ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْمِهِ بِعَيْنِهِ : لَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ قَدْ اُعْتُبِرَ فِيهَا وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ مَحِلِّ النَّهْيِ . وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ احْتِمَالُ الرَّفْعِ . فَلَا يُعَارِضُهُ مَا يُحْتَمَلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْمَحَالِّ .

 

 

202 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ - قَالَ { : شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِهِمَا : يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ ، وَالْيَوْمُ الْآخَرُ : تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ . }

مَدْلُولُهُ : الْمَنْعُ مِنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدِ . وَيَقْتَضِي ذَلِكَ عَدَمَ صِحَّةِ صَوْمِهِمَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الصِّحَّةِ مُخَالَفَةٌ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَقَالُوا : إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ : صَحَّ نَذْرُهُ . وَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِصَوْمِ ذَلِكَ . وَطَرِيقُهُمْ فِيهِ : أَنَّ الصَّوْمَ لَهُ جِهَةُ عُمُومٍ وَجِهَةُ خُصُوصٍ . فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمٌ : يَقَعُ الِامْتِثَالُ بِهِ . وَمَنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمُ عِيدٍ : يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ : يَحْصُلُ بِالْجِهَةِ الْأُولَى ، أَعْنِي كَوْنَهُ صَوْمًا . وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ : خِلَافُ ذَلِكَ . وَبُطْلَانُ النَّذْرِ ، وَعَدَمُ صِحَّةِ الصَّوْمِ : وَاَلَّذِي يُدَّعَى مِنْ الْجِهَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازَمَ هَهُنَا . وَلَا انْفِكَاكَ . فَيَتَمَكَّنُ النَّهْيُ مِنْ هَذَا الصَّوْمِ . فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً . فَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ . بَيَانُهُ : أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ . وَالنَّاذِرُ لَهُ مُعَلِّقٌ لِنَذْرِهِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّتِهَا . فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ التَّلَازُمُ بَيْنَ جِهَةِ الْعُمُومِ ، أَعْنِي كَوْنَهَا صَلَاةً وَبَيْنَ جِهَةِ الْخُصُوصِ أَعْنِي كَوْنَهَا حُصُولًا فِي مَكَان مَغْصُوبٍ ، وَأَعْنِي بِعَدَمِ التَّلَازُمِ هَهُنَا : عَدَمَهُ فِي الشَّرِيعَةِ . فَإِنَّ الشَّرْعَ وَجَّهَ الْأَمْرَ إلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، وَالنَّهْيَ إلَى مُطْلَقِ الْغَصْبِ . وَتَلَازُمُهُمَا وَاجْتِمَاعُهُمَا إنَّمَا هُوَ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ ، لَا فِي الشَّرِيعَةِ . فَلَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ شَرْعًا بِهَذَا الْخُصُوصِ ، بِخِلَافِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ خُصُوصِهِ . فَتَلَازَمَتْ جِهَةُ الْعُمُومِ وَجِهَةُ الْخُصُوصِ فِي الشَّرِيعَةِ . وَتَعَلَّقَ النَّهْيُ بِعَيْنِ مَا وَقَعَ فِي النَّذْرِ . فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً . وَتَكَلَّمَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي قَاعِدَةٍ تَقْتَضِي النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْكَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : إذْ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى : لَا تُبْصِرْ ، وَلِلْإِنْسَانِ : لَا تَطِرْ ، فَإِذًا هَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ - أَعْنِي صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ - مُمْكِنٌ ، وَإِذَا أَمْكَنَ ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ إنَّمَا تَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ ، وَالْإِمْكَانَ الْعَقْلِيَّ أَوْ الْعَادِيَّ ، وَالنَّهْيُ يَمْنَعُ التَّصَوُّرَ الشَّرْعِيَّ ، فَلَا يَتَعَارَضَانِ ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَصْرِفُ اللَّفْظَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَطِيبَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْتِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، كَذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ إشْعَارٌ وَتَلْوِيحٌ بِأَنَّ عِلَّةَ الْإِفْطَارِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى : الْأَكْلُ مِنْ النُّسُكِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ النُّسُكِ ، وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالنُّسُكِ . وَأَجَازَ الْأَكْلَ إلَّا مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى ، وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ ، وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحِلِّهِ . وَجَعَلَ الْهَدْيَ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ . وَمَا وَجَبَ لِنَقْصٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .

 

 

203 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ : الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ . وَعَنْ الصَّمَّاءِ ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، وَعَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ الصَّوْمَ فَقَطْ .

أَمَّا " صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ " فَقَدْ تَقَدَّمَ . وَأَمَّا " اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ " فَقَالَ عَبْدُ الْغَفَّارِ الْفَارِسِيُّ فِي مَجْمَعِهِ تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهُ يَشْتَمِلُ بِثَوْبٍ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ ، فَيَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّكَشُّفِ ، وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ . قَالَ : وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ " الصَّمَّاءِ " وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ فَيَسْتُرُ بِهِ جَمِيعَ جَسَدِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ فُرْجَةً ، يُخْرِجُ مِنْهَا يَدَهُ ، وَاللَّفْظُ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَالنَّهْيُ عَنْهُ : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَخَافُ مَعَهُ أَنْ يُدْفَعَ إلَى حَالَةٍ سَادَّةٍ لِمُتَنَفَّسِهِ . فَيَهْلِكُ غَمًّا تَحْتَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ فُرْجَةٌ . وَالْآخَرُ : أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ بِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاحْتِرَاسِ وَالِاحْتِرَازِ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ ، أَوْ نَابَهُ مُؤْذٍ . وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّقِيَهُ بِيَدَيْهِ ، لِإِدْخَالِهِ إيَّاهُمَا تَحْتَ الثَّوْبِ الَّذِي اشْتَمَلَ بِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ . وَأَمَّا الِاحْتِبَاءُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ : فَيُخْشَى مِنْهُ تَكَشُّفُ الْعَوْرَةِ .

 

 

204 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا } .

قَوْلُهُ " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " الْعُرْفُ الْأَكْثَرُ فِيهِ : اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَيْهِ : كَانَتْ الْفَضِيلَةُ لِاجْتِمَاعِ الْعِبَادَتَيْنِ - أَعْنِي عِبَادَةَ الصَّوْمِ وَالْجِهَادِ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ : طَاعَتُهُ كَيْفَ كَانَتْ . وَيُعَبَّرُ بِذَلِكَ عَنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فِيهِ وَالْأَوَّلُ : أَقْرَبُ إلَى الْعُرْفِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : جَعْلُ الْحَجِّ أَوْ سَفَرِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ وَضْعِيٌّ . " وَالْخَرِيفُ " يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ السَّنَةِ ، فَمَعْنَى " سَبْعِينَ خَرِيفًا " سَبْعُونَ سَنَةً . وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْخَرِيفِ عَنْ السَّنَةِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّنَةَ لَا يَكُونُ فِيهَا إلَّا خَرِيفٌ وَاحِدٌ . فَإِذَا مَرَّ الْخَرِيفُ فَقَدْ مَضَتْ السَّنَةُ كُلُّهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَبَّرَ بِسَائِرِ الْفُصُولِ عَنْ الْعَامِ ، كَانَ سَائِغًا بِهَذَا الْمَعْنَى ، إذْ لَيْسَ فِي السَّنَةِ إلَّا رَبِيعٌ وَاحِدٌ وَصَيْفٌ وَاحِدٌ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَكِنَّ الْخَرِيفَ أَوْلَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْفَصْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ نِهَايَةُ مَا بَدَأَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ ؛ لِأَنَّ الْأَزْهَارَ تَبْدُو فِي الرَّبِيعِ ، وَالثِّمَارُ تَتَشَكَّلُ صُوَرُهَا فِي الصَّيْفِ وَفِيهِ يَبْدُو نُضْجُهَا ، وَوَقْتُ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَكْلًا وَتَحْصِيلًا وَادِّخَارًا فِي الْخَرِيفِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا ، فَكَانَ فَصْلُ الْخَرِيفِ أَوْلَى بِأَنْ يُعَبَّرَ بِهِ عَنْ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

باب ليلة القدر

 

205 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ . فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الرُّؤْيَا ، وَالِاسْتِنَادُ إلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّاتِ ، وَعَلَى مَا لَا يُخَالِفُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، وَأَمَرَهُ بِأَمْرٍ : هَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؟ وَقِيلَ فِيهِ : إنَّ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْيَقَظَةِ أَوْ لَا . فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا عَمِلَ بِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ ؛ لِأَنَّا - وَإِنْ قُلْنَا : بِأَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْقُولِ مِنْ صِفَتِهِ ، فَرُؤْيَاهُ حَقٌّ - فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ . وَالْعَمَلُ بِأَرْجَحِهِمَا . وَمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ فَهُوَ أَرْجَحُ . وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ : فَفِيهِ خِلَافٌ .

 

وَالِاسْتِنَادُ إلَى الرُّؤْيَا هَهُنَا : فِي أَمْرٍ ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ طَلَبُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ السَّبْعُ الْأَوَاخِرُ لِسَبَبِ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ ، إنَّهُ اسْتِحْبَابٌ شَرْعِيٌّ : مَخْصُوصٌ بِالتَّأْكِيدِ ، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ اللَّيَالِي ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ ، مِنْ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَقَدْ قَالُوا : يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ " لَيْلَةَ الْقَدْرِ " فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ . وَقَالُوا : لَوْ قَالَ فِي رَمَضَانَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَمْ تَطْلُقْ ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَخْصُوصَةً بِرَمَضَانَ مَظْنُونٌ . وَصِحَّةُ النِّكَاحِ مَعْلُومَةٌ ، فَلَا تُزَالُ إلَّا بِيَقِينٍ ، أَعْنِي بِيَقِينِ مُرُورِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، كَانَ إزَالَةُ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ . وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْأَحْكَامُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ يَجُوزُ أَنْ تُبْنَى عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَيُرْفَعُ بِهَا النِّكَاحُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ أَوْ أَحْكَامِهِ : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ ، أَوْ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ اتِّفَاقًا ، نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى دَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، وَمَرْتَبَتِهَا فِي الظُّهُورِ وَالِاحْتِمَالِ . فَإِنْ ضَعُفَتْ دَلَالَتُهَا ؛ فَلِمَا قِيلَ وَجْهٌ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَجَّحَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ غَيْرَ لَيْلَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ ، وَالثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ .

 

206 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ } .

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ قَبْلَهُ . مَعَ زِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِالْوِتْرِ مِنْ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ .

 

 

207 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ . فَاعْتَكَفَ عَامًا ، حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ . ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا . فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ . فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ . فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ، فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ } .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَجَّحَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي اللَّيَالِي ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ : كَانَتْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ تَتَرَجَّحَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ مُطْلَقًا ، وَالْقَوْلُ بِتَنَقُّلِهَا حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَحَثًّا عَلَى إحْيَاءِ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّيَالِي . وَقَوْلُهُ " يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ " الْأَقْوَى فِيهِ : أَنْ يُقَالَ : " الْوُسُطُ " وَ " الْوُسَطُ " بِضَمِّ السِّينِ أَوْ فَتْحِهَا ، وَأَمَّا " الْأَوْسَطُ " فَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ، وَإِنَّمَا رُجِّحَ الْأَوَّلُ : لِأَنَّ " الْعَشْرَ " اسْمٌ لِلَّيَالِيِ ، فَيَكُونُ وَصْفُهَا الصَّحِيحُ جَمْعًا لَائِقًا بِهَا ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْعَشْرِ كَانَ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . وَقَوْلُهُ " فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ " أَيْ قَطَرَ ، يُقَالُ : وَكَفَ الْبَيْتُ يَكِفُ وَكْفًا وَوُكُوفًا : إذَا قَطَرَ ، وَوَكَفَ الدَّمْعُ وَكِيفًا وَوَكَفَانًا : بِمَعْنَى قَطَرَ . وَقَدْ يَأْخُذُ مِنْ الْحَدِيثِ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْجِهَةِ بِالْمُصَلَّى فِي السُّجُودِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَهُوَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ - كَالطَّاقَةِ وَالطَّاقَتَيْنِ - صَحَّ ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّهُ إذَا سَجَدَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ فَفِي السُّجُودِ الْأَوَّلِ : يَعْلَقُ الطِّينُ بِالْجَبْهَةِ ، فَإِذَا سَجَدَ السُّجُودَ الثَّانِيَ : كَانَ الطِّينُ الَّذِي عَلِقَ بِالْجَبْهَةِ فِي السُّجُودِ الْأَوَّلِ حَائِلًا فِي السُّجُودِ الثَّانِي عَنْ مُبَاشَرَةِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ احْتِمَالٌ لَأَنْ يَكُونَ مَسَحَ مَا عَلِقَ بِالْجَبْهَةِ أَوَّلًا قَبْلَ السُّجُودِ الثَّانِي . وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ " وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ " وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ " يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ تَكَلَّمُوا فِيهَا ، وَهِيَ أَنَّ لَيْلَةَ الْيَوْمِ : هَلْ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَيْهِ ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ ، أَوْ الْآتِيَةُ بَعْدَهُ ، كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةُ ؟ .

 

باب الاعتكاف

208 الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ . } وَفِي لَفْظٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ . فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ } .

" الِاعْتِكَافُ " الِاحْتِبَاسُ وَاللُّزُومُ لِلشَّيْءِ كَيْفَ كَانَ وَفِي الشَّرْعِ : لُزُومُ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ : فِيهِ اسْتِحْبَابُ مُطْلَقِ الِاعْتِكَافِ ، وَاسْتِحْبَابُهُ فِي رَمَضَانَ بِخُصُوصِهِ ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِخُصُوصِهَا ، وَفِيهِ تَأْكِيدُ هَذَا الِاسْتِحْبَابِ بِمَا أَشْعَرَ بِهِ اللَّفْظُ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ ، وَبِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، مِنْ قَوْلِهَا " فِي كُلِّ رَمَضَانَ " وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ . وَقَوْلُهَا " فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ " الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ : دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَالدُّخُولُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَقْتَضِي الدُّخُولَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَغَيْرُهُ أَقْوَى مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ ، وَلَكِنَّهُ أُوِّلَ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ كَانَ مَوْجُودًا ، وَأَنَّ دُخُولَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِمُعْتَكَفِهِ ، لِلِانْفِرَادِ عَنْ النَّاسِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ بِهِمْ فِي الصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءَ دُخُولِ الْمُعْتَكَفِ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُعْتَكَفِ هَهُنَا : الْمَوْضِعُ الَّذِي خَصَّهُ بِهَذَا ، أَوْ أَعَدَّهُ لَهُ ، كَمَا جَاءَ " أَنَّهُ اعْتَكَفَ فِي قِبْلَةٍ " وَكَمَا جَاءَ " أَنَّ أَزْوَاجَهُ ضَرَبْنَ أَخْبِيَةً " وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ " دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ " بِلَفْظِ الْمَاضِي . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَصْدٌ لِذَلِكَ ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ الْعَادَةِ فِي الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ ، لَا سِيَّمَا النِّسَاءُ فَلَوْ جَازَ الِاعْتِكَافُ فِي الْبُيُوتِ : لِمَا خَالَفَ الْمُقْتَضَى ؛ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي الْخُرُوجِ لِعَوَارِضِ الْخِلْقَةِ ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّتْهُ لِلصَّلَاةِ ، وَهَيَّأَتْهُ لِذَلِكَ ، وَقِيلَ : إنَّ بَعْضَهُمْ أَلْحَقَ بِهَا الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ .

 

209 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِضٌ ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ . وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا : يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ . } وَفِي رِوَايَةٍ { وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ } . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " إنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ . فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ " .

" التَّرْجِيلُ " تَسْرِيحُ الشَّعْرِ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ رَأْسِ الْمُعْتَكِفِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ ، وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ الْبَدَنِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَلَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ لَا يُوجِبُ حِنْثَهُ ، وَكَذَلِكَ دُخُولُ بَعْضِ بَدَنِهِ ، إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ امْتِنَاعَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ يُوَازِنُ تَعَلُّقَ الْحِنْثِ بِالْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ فَخُرُوجُ بَعْضِ الْبَدَنِ : إنْ اقْتَضَى مُخَالَفَةَ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ ؛ اقْتَضَى مُخَالَفَتَهُ فِي الْآخَرِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَقْتَضِ فِي أَحَدِهِمَا ، لَمْ يَقْتَضِ فِي الْآخَرِ ، لِاتِّحَادِ الْمَأْخَذِ فِيهِمَا ، وَكَذَلِكَ تُنْقَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ فِي الدُّخُولِ أَيْضًا ، بِأَنْ تَقُولَ : لَوْ كَانَ دُخُولُ الْبَعْضِ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الْكُلِّ : لَكَانَ خُرُوجُ الْبَعْضِ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِخُرُوجِ الْجُمْلَةِ ، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ ثَمَّ ، فَلَا يَقْتَضِيهِ هُنَا . وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُعَلَّقٌ بِالْجُمْلَةِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ مُوجِبًا لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ لَا - إلَى آخِرِهِ . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ " كِنَايَةٌ عَمَّا يَضْطَرُّ إلَيْهِ مِنْ الْحَدَثِ . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ لَهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلِاعْتِكَافِ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَالْمَسْجِدُ مَانِعٌ مِنْهُ . وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَيْهِ ، أَوْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ إلَيْهِ - فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ إلَيْهِ لِعُمُومِهِ . فَإِذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ قَرِينَةُ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ لِكَثِيرٍ مِنْهُ ، أَوْ قِيَامِ الدَّاعِي الشَّرْعِيِّ فِي بَعْضِهِ ، كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ ، وَشَبَهِهِ . قَوِيَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَنْعِ . وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ : جَوَازُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى وَجْهِ الْمُرُورِ ، مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ . وَفِي لَفْظِهَا إشْعَارٌ بِعَدَمِ عِيَادَتِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ .

 

210 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً } - وَفِي رِوَايَةٍ : { يَوْمًا - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . قَالَ فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ } وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً .

فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ : أَحَدُهَا : لُزُومُ النَّذْرِ لِلْقُرْبَةِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِهِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَفَاءِ بِكُلِّ مَنْذُورٍ .

 

وَثَانِيهَا : يُسْتَدَلُّ بِهِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ النَّذْرِ مِنْ الْكَافِرِ . وَهُوَ قَوْلٌ - أَوْ وَجْهٌ - فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْأَشْهَرُ : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ . وَمَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَوِّلَ الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاعْتِكَافِ يَوْمٍ شَبِيهٍ بِمَا نَذَرَ ، لِئَلَّا يُخِلَّ بِعِبَادَةٍ نَوَى فِعْلَهَا . فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْذُورٌ لِشَبَهِهِ بِالْمَنْذُورِ ، وَقِيَامِهِ مَقَامَهُ فِي فِعْلِ مَا نَوَاهُ مِنْ الطَّاعَةِ . وَعَلَى هَذَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ ، أَوْ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ . ظَاهِرُ الْحَدِيثِ خِلَافُهُ . فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُ الْكَافِرِ الِاعْتِكَافَ : اُحْتِيجَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَإِلَّا فَلَا . وَثَالِثُهَا : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ ، وَقَدْ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ فِيهِ ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ : هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَاشْتِرَاطُهُ : مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَدْ أَوَّلَ مَنْ اشْتَرَطَ الصَّوْمَ قَوْلَهُ " لَيْلَةً " بِيَوْمٍ . فَإِنَّ اللَّيْلَةَ تَغْلِبُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى الْيَوْمِ . حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : صُمْنَا خَمْسًا . وَالْخَمْسُ يُطْلَقُ عَلَى اللَّيَالِي . فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَيَّامِ لَقِيلَ خَمْسَةٌ . وَأُطْلِقَتْ اللَّيَالِي وَأُرِيدَتْ الْأَيَّامُ . أَوْ يُقَالُ : الْمُرَادُ لَيْلَةٌ بِيَوْمِهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ وَرَدَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ " الْيَوْمِ " . .

 

 

211 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا . فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا . فَحَدَّثْتُهُ ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ ، فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى رِسْلِكُمَا . إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ . فَقَالَا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئًا } . وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً . ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ . فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ، حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ } ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ .

" صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ ، مِنْ شَعْبِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، مِنْ سِبْطِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . نُضَيْرِيَّةٌ . كَانَتْ عِنْدَ سَلَامٍ - بِتَخْفِيفِ اللَّامِ - ابْنِ مِشْكَمٍ . ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ . فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ . وَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَتُوُفِّيَتْ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَكِفَ . وَجَوَازِ التَّحَدُّثِ مَعَهُ . وَفِيهِ تَأْنِيسُ الزَّائِرِ بِالْمَشْيِ مَعَهُ ، لَا سِيَّمَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ كَاللَّيْلِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَى مَعَهَا إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَطْ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّحَرُّزِ مِمَّا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ نِسْبَةُ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ ، مِمَّا لَا يَنْبَغِي . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ لَوْ وَقَعَ بِبَالِهِمَا شَيْءٌ لَكَفَّرَا . وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ تَعْلِيمَ أُمَّتِهِ . وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ ، وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ ظَنَّ السُّوءِ بِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَسَبُّبٌ إلَى إبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ . وَقَدْ قَالُوا : إنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْحُكْمِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِ . وَهُوَ مِنْ بَابِ نَفْيِ التُّهْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ : عَلَى هُجُومِ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّفْسِ ؛ وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى دَفْعِهِ : لَا يُؤَاخَذُ بِهِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( ) { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَسْوَسَةِ الَّتِي يَتَعَاظَمُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا " ذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ " وَقَدْ فَسَّرُوهُ : بِأَنَّ التَّعَاظُمَ لِذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ . لَا الْوَسْوَسَةَ . كَيْفَمَا كَانَ ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا . نَعَمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا يُؤَاخَذُ بِهَا ، وَبَيْنَ مَا يَقَعُ شَكًّا : إشْكَالٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

انتهى كتاب الصيام ويليه كتاب الحج==

ج2. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام  لابن دقيق العيد

كتاب الصلاة

باب المواقيت :

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ إيَاسٍ - قَالَ : حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ { سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا . قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي } .

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخٍ هُذَلِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ . شَهِدَ بَدْرًا . يُعْرَفُ بِابْنِ أُمِّ عَبْدٍ . تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ . وَصَلَّى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ . وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ . وَكَانَ لَهُ يَوْمَ مَاتَ نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً ، مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ . قَوْلُهُ " حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ يُكْتَفَى بِهَا عَنْ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ ، وَتَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ إذَا كَانَتْ مُعِينَةً لِلْمُشَارِ إلَيْهِ ، مُمَيَّزَةً عَنْ غَيْرِهِ . وَسُؤَالُهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ : طَلَبًا لِمَعْرِفَةِ مَا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مِنْهَا ، وَحِرْصًا عَلَى عِلْمِ الْأَصْلِ ، لِيَتَأَكَّدَ الْقَصْدُ إلَيْهِ ، وَتَشْتَدُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ . وَ " الْأَعْمَالُ " هَاهُنَا لَعَلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ . وَاحْتَرَزُوا بِذَلِكَ عَنْ عِبَادَةِ الْمَالِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا كَلَامٌ فِي الْعَمَلِ : هَلْ يَتَنَاوَلُ عَمَلَ الْقَلْبِ ، أَمْ لَا ؟ فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مَخْصُوصًا بِأَعْمَالِ الْبَدَنِ ، تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ . فَإِنَّ مِنْ عَمَلِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ ، كَالْإِيمَانِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ ذِكْرُهُ مُصَرَّحًا بِهِ أَعْنِي الْإِيمَانَ - فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ : أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَعْمَالِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ ، وَأُرِيدَ بِهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ : مَا يَخْتَصُّ بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ . وَقَوْلُهُ " الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا " لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ . وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ : الِاحْتِرَازُ عَمَّا إذَا وَقَعَتْ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءً . وَأَنَّهَا لَا تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا " وَهُوَ أَقْرَبُ لَأَنْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ ، وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ . وَاَلَّذِي قِيلَ فِي هَذَا : إنَّهَا أَجْوِبَةٌ مَخْصُوصَةٌ لِسَائِلٍ مَخْصُوصٍ ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ . أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُرْشِدُ الْقَرَائِنُ إلَى أَنَّهَا الْمُرَادُ . وَمِثَالُ ذَلِكَ : أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِكُمْ ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ؟ } وَفَسَّرَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى - عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي صِفَاتِهِمْ . وَلَوْ خُوطِبَ بِذَلِكَ الشُّجَاعُ الْبَاسِلُ الْمُتَأَهِّلُ لِلنَّفْعِ الْأَكْبَرِ فِي الْقِتَالِ لَقِيلَ لَهُ " الْجِهَادُ " وَلَوْ خُوطِبَ بِهِ مَنْ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِتَالِ وَلَا يَتَمَحَّضُ حَالُهُ لِصَلَاحِيَّةِ التَّبَتُّلِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَانَ غَنِيًّا يَنْتَفِعُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ لَقِيلَ لَهُ " الصَّدَقَةُ " وَهَكَذَا فِي بَقِيَّةِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، قَدْ يَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَفْضَلِ فِي حَقِّ ذَاكَ ، بِحَسَبِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ .

وَأَمَّا " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " فَقَدْ قُدِّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْجِهَادِ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَعْظِيمِهِ . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ أَذَاهُمَا بِغَيْرِ مَا يَجِبُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ . وَأَمَّا مَا يَجِبُ مِنْ الْبِرِّ فِي غَيْرِ هَذَا : فَفِي ضَبْطِهِ إشْكَالٌ كَبِيرٌ .

وَأَمَّا " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى " فَمَرْتَبَتُهُ فِي الدِّينِ عَظِيمَةٌ . وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ وَسَائِلٌ . فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ . مِنْهَا مَا هُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى غَيْرِهِ . وَفَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ فَضِيلَةِ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ . فَحَيْثُ تُعَظَّمُ فَضِيلَةُ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ تُعَظَّمُ فَضِيلَةُ الْوَسِيلَةِ . وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسِيلَةً إلَى إعْلَانِ الْإِيمَانِ وَنَشْرِهِ ، وَإِخْمَالِ الْكُفْرِ وَدَحْضِهِ كَانَتْ فَضِيلَةُ الْجِهَادِ بِحَسَبِ فَضِيلَةِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

45 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ ، مِنْ الْغَلَسِ } .

" الْمُرُوطُ " أَكْسِيَةٌ مُعْلَمَةٌ ، تَكُونُ مِنْ خَزٍّ . وَتَكُونُ مِنْ صُوفٍ وَ " مُتَلَفِّعَاتٍ " مُلْتَحِفَاتٍ ، و " الْغَلَسُ " اخْتِلَاطُ ضِيَاءِ الصُّبْحِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَرَى التَّغْلِيسَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَتَقْدِيمَهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، لَا سِيَّمَا مَعَ مَا رُوِيَ مِنْ طُولِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . وَهَذَا . مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَرَأَى أَنَّ الْإِسْفَارَ بِهَا أَفْضَلُ ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شُهُودِ النِّسَاءِ الْجَمَاعَةَ بِالْمَسْجِدِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِنَّ عُجُزًا أَوْ شَوَابَّ . وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الْخُرُوجَ لِلشَّوَابِّ . وَقَوْلُهَا " مُتَلَفِّعَاتٍ " بِالْعَيْنِ ، وَيُرْوَى " مُتَلَفِّفَاتٍ " بِالْفَاءِ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ : إلَّا أَنَّ " التَّلَفُّعَ " يُسْتَعْمَلُ مَعَ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَكُونُ الِالْتِفَاعُ إلَّا بِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ : كَيْفَ تَرْجُونَ سُقُوطِي بَعْدَمَا لَفَعَ الرَّأْسَ بَيَاضٌ وَصَلَعٌ ؟ وَاللِّفَاعُ : مَا اُلْتُفِعَ بِهِ . وَاللِّحَافُ : مَا اُلْتُحِفَ بِهِ . وَقَدْ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ " الْمُرُوطَ " بِكَوْنِهَا أَكْسِيَةً مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ . وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي صِفَتِهَا : أَنْ تَكُونَ مُرَبَّعَةً . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ سَدَاهَا مِنْ شَعْرٍ . وَقِيلَ : إنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا . وَقَالُوا : إنَّ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ : عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلُ مِرْطٍ مُرَجَّلِ قَالُوا " الْمِرْطُ " هَاهُنَا مِنْ خَزٍّ . وَفَسَّرَ " الْغَلَسَ " بِأَنَّهُ اخْتِلَاطُ ضِيَاءِ الصُّبْحِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ . وَ " الْغَلَسُ " وَالْغَبَشُ مُتَقَارِبَانِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْغَلَسَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ . وَقَدْ يَكُونُ الْغَبَشُ فِي آخِرِهِ وَأَوَّلِهِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ " الْغَبْسُ " بَالِغَيْنِ وَالْبَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - فَغَلَطٌ عِنْدَهُمْ .

 

46 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ . وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ، وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ } .

الْهَاجِرَةُ : هِيَ شِدَّةُ الْحَرِّ بَعْدَ الزَّوَالِ . الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْفَضِيلَةِ فِي أَوْقَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ . فَأَمَّا الظُّهْرُ : فَقَوْلُهُ " يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ " يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي الْهَاجِرَةِ وَالْهَجِيرِ : إنَّهُمَا شِدَّةُ الْحَرِّ وَقُوَّتُهُ . وَيُعَارِضُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا } وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ اسْمَ الْهَاجِرَةِ " عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي بَعْدَ الزَّوَالِ مُطْلَقًا . فَإِنَّهُ قَدْ تَكُونُ فِيهِ الْهَاجِرَةُ فِي وَقْتٍ ، فَيُطْلَقُ عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ . وَفِيهِ بُعْدٌ . وَقَدْ يُقَرَّبُ بِمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ : أَنَّ الْهَجِيرَ وَالْهَاجِرَةَ نِصْفُ النَّهَارِ . فَإِذَا أُخِذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ : كَانَ مُطْلَقًا عَلَى الْوَقْتِ .

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ أَوْ سُنَّةٌ وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ رُخْصَةٌ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبْرِدُوا " أَمْرُ إبَاحَةٍ ، وَيَكُونُ تَعْجِيلُهُ لَهَا فِي الْهَاجِرَةِ أَخْذًا بِالْأَشَقِّ وَالْأَوْلَى . أَوْ يَقُولُ مَنْ يَرَى أَنَّ الْإِبْرَادَ سُنَّةٌ : إنَّ التَّهْجِيرَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ . وَفِي هَذَا بُعْدٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " كَانَ " يُشْعِرُ بِالْكَثْرَةِ وَالْمُلَازَمَةِ عُرْفًا .

وَقَوْلُهُ وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ يَدُلُّ عَلَى تَعْجِيلِهَا أَيْضًا ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا مَا بَعْدَ الْقَامَتَيْنِ . وَقَوْلُهُ " وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ أَيْ الشَّمْسُ " . الْوُجُوبُ : السُّقُوطُ . وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ قُرْصِهَا يَدْخُلُ بِهِ الْوَقْتُ . وَالْأَمَاكِنُ تَخْتَلِفُ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا فِيهِ حَائِلٌ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَ قُرْصِ الشَّمْسِ ، لَمْ يَكْتَفِ بِغَيْبُوبَةِ الْقُرْصِ عَنْ الْأَعْيُنِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى غُرُوبِهَا بِطُلُوعِ اللَّيْلِ مِنْ الْمَشْرِقِ . قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا ، وَطَلَعَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا . فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ } أَوْ كَمَا قَالَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَائِلٌ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ : إنَّ الْوَقْتَ يَدْخُلُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ وَإِشْعَاعِهَا الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا . وَقَدْ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَقِيبَ الْغُرُوبِ . وَأُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ وَقْتَهَا وَاحِدٌ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنَّ الْوَقْتَ مُسْتَمِرٌّ إلَى غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ .

وَأَمَّا الْعِشَاءُ : فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا . فَقَالَ قَوْمٌ : تَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ قَوْمٌ : تَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ ، لِأَحَادِيثَ سَتَرِدُ فِي الْكِتَابِ . وَقَالَ قَوْمٌ : إنْ اجْتَمَعَتْ الْجَمَاعَةُ فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ . وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ . وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَمُسْتَنِدُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ . وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ . فَفِي الشِّتَاءِ وَفِي رَمَضَانَ : تُؤَخَّرُ . وَفِي غَيْرِهِمَا : تُقَدَّمُ . وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ فِي الشِّتَاءِ لِطُولِ اللَّيْلِ ، وَكَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا . .

وَهَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ تَكَلَّفُوا فِيهَا . وَهُوَ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ حَتَّى إنَّهُ إذَا تَعَارَضَ فِي حَقِّ شَخْصٍ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا ، أَوْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ أَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي : أَنَّ التَّأْخِيرَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِهِ " وَإِذَا أَبْطَئُوا أَخَّرَ " فَأَخَّرَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ إمْكَانِ التَّقْدِيمِ ؛ وَلِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، وَالتَّرْغِيبَ فِي فِعْلِهَا : مَوْجُودٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَرَدَتْ عَلَى جِهَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْفَضِيلَةِ ، وَأَمَّا جَانِبُ التَّشْدِيدِ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ : فَلَمْ يَرِدْ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الرُّجْحَانِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . نَعَمْ إذَا صَحَّ لَفْظٌ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَانَ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ يَرَى عَلَى خِلَافِ هَذَا الْمَذْهَبِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ قَوْلَهُ " عَلَى وَقْتِهَا " لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا " لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ قَوِيَّةُ الظُّهُورِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ . .

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ " الْغَلَسِ " وَأَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّغْلِيسَ بِالصُّبْحِ أَفْضَلُ . وَالْحَدِيثُ الْمُعَارِضُ لَهُ - وَهُوَ قَوْلُهُ { أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ . فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ } - قِيلَ فِيهِ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْفَارِ : تَبَيُّنُ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَوُضُوحِهِ لِلرَّائِي يَقِينًا . وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ . فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّبْيِينِ وَالتَّيَقُّنِ فِي حَالَةِ الشَّكِّ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ . فَلَا أَجْرَ فِيهَا . وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي بِلَفْظَةِ " أَفْعَلَ " فِيهِ : أَنَّ ثَمَّ أَجْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْمَلُ مِنْ الْآخَرِ . فَإِنَّ صِيغَةَ " أَفْعَلَ " تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَصْلِ ، مَعَ الرُّجْحَانِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حَقِيقَةً . وَقَدْ تَرِدُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي الْأَصْلِ قَلِيلًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ . فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَيُرَجَّحُ ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلًا بِالْعَمَلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ . .

 

47 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ قَالَ { دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ؟ فَقَالَ : كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ - الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى - حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ . وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ . وَكَانَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ . وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا ، وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا . وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلَ جَلِيسَهُ . وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ } .

" أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ " اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ . وَالْأَشْهَرُ الْأَصَحُّ : نَضْلَةُ بْنُ عُبَيْدٍ أَوْ نَضْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ . وَيُقَالُ : نَضْلَةُ بْنُ عَائِذٍ - بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ - مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِ وَسِتِّينَ . وَقِيلَ : مَاتَ بَعْدَ وِلَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ ، قَبْلَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ ، سَنَةَ سِتِّينَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْبَصْرَةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لَفْظَةَ " كَانَ " تُشْعِرُ عُرْفًا بِالدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ ، كَمَا يُقَالُ : كَانَ فُلَانٌ يُكْرِمُ الضُّيُوفَ . وَكَانَ فُلَانٌ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ ، إذَا كَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَعَادَتَهُ . وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " الْمَكْتُوبَةِ " لِلِاسْتِغْرَاقِ . وَلِهَذَا أَجَابَ بِذِكْرِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ السَّائِلِ الْعُمُومَ . وَقَوْلُهُ " كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ " فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ ، تَقْدِيرُهُ : كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْهَجِيرِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا قَبْلَ أَنَّ " الْهَجِيرَ وَالْهَاجِرَةَ " شِدَّةُ الْحَرِّ وَقُوَّتِهِ . وَإِنَّمَا قِيلَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ " الْأُولَى " ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ أَقَامَهَا جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَقَوْلُهُ " حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ . وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا : زَوَالُهَا . وَاللَّفْظَةُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا . وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي وُقُوعَ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ . وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا تَحْصُلُ بِأَنْ يَقَعَ أَوَّلُ الصَّلَاةِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، بِحَيْثُ تَكُونُ شُرُوطُ الصَّلَاةِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ . وَتَكُونُ الصَّلَاةُ وَاقِعَةً فِي أَوَّلِهِ . وَقَدْ يَتَمَسَّكُ هَذَا الْقَائِلُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ . فَإِنَّهُ قَالَ " يُصَلِّي حِينَ تَزُولُ " فَظَاهِرُهُ : وُقُوعُ أَوَّلِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ عِنْدَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " يُصَلِّيَ " يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى " يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ " فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تُمَدُّ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى نِصْفِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ . فَإِنَّ النِّصْفَ السَّابِقَ مِنْ الشَّيْءِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَأَخِّرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وَهُوَ الْأَعْدَلُ - إنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الصَّلَاةِ عَقِيبَ دُخُولِ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، وَسَعَى إلَى الْمَسْجِدِ ، وَانْتَظَرَ الْجَمَاعَةَ - وَبِالْجُمْلَةِ : لَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ إلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ - فَهُوَ مُدْرِكٌ لِفَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا : فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي هَذَا ، حَتَّى يُوقِعَ أَوَّلَ تَكْبِيرَةٍ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ . وَقَوْلُهُ " وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ " مَجَازٌ عَنْ بَقَاءِ بَيَاضِهَا ، وَعَدَمِ مُخَالَطَةِ الصُّفْرَةِ لَهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنْ تَقْدِيمِهَا . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنْ الْعِشَاءِ " يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ قَلِيلًا لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظَةُ " مِنْ " مِنْ التَّبْعِيضِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْوَقْتِ ، أَوْ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْوَقْتِ . وَقَوْلُهُ " الَّتِي تَدْعُونَهَا : الْعَتَمَةَ " اخْتِيَارٌ لِتَسْمِيَتِهَا بِالْعِشَاءِ ، كَمَا فِي لَفْظِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْعَتَمَةِ مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَوَرَدَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَتَمَةِ . وَلَعَلَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، أَوْ لَعَلَّ الْمَكْرُوهَ : أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهَا اسْمُ " الْعَتَمَةِ " بِحَيْثُ يَكُونُ اسْمُ " الْعِشَاءِ " لَهَا مَهْجُورًا ، أَوْ كَالْمَهْجُورِ . " وَكَرَاهِيَةُ النَّوْمِ قَبْلَهَا " لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنِسْيَانِهَا ، أَوْ لِتَأْخِيرِهَا إلَى خُرُوجِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ . " وَكَرَاهَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا " إمَّا : لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَهَرٍ يُفْضِي إلَى النَّوْمِ عَنْ الصُّبْحِ ، أَوْ إلَى إيقَاعِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ . أَوْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ مِنْ اللَّغَطِ وَاللَّغْوِ مَا لَا يَنْبَغِي خَتْمُ الْيَقِظَةِ بِهِ ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَدِيثُ هَاهُنَا : قَدْ يَخُصُّ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمُصْلِحَةِ الدِّينِ ، أَوْ إصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ . فَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ " وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ " بَابُ السَّمَرِ بِالْعِلْمِ " وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ أَيْضًا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْحَدِيثِ فِيهِ مِنْ الْأَشْغَالِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ يَنْفَتِلُ . .. إلَخْ " دَلِيلٌ عَلَى التَّغْلِيسِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ : فَإِنَّ ابْتِدَاءَ مَعْرِفَةِ الْإِنْسَانِ لِجَلِيسِهِ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ الْغَبَشِ . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ " أَيْ بِالسِّتِّينَ مِنْ الْآيَاتِ إلَى الْمِائَةِ مِنْهَا . وَفِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّقَدُّمِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ . لَا سِيَّمَا مَعَ تَرْتِيلِ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

48 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا ، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى - صَلَاةِ الْعَصْرِ - ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . 49 - وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعَصْرِ ، حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى - صَلَاةِ الْعَصْرِ - مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا ، أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا } .

فِيهِ بَحْثَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهَا الْعَصْرُ . وَدَلِيلُهُمَا هَذَا الْحَدِيثُ ، مَعَ غَيْرِهِ . وَهُوَ قَوِيٌّ فِي الْمَقْصُودِ . وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ . وَمِيلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلَى اخْتِيَارِ " صَلَاةِ الصُّبْحِ " وَاَلَّذِينَ اخْتَارُوا ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ . فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْمُعَارَضَةِ . وَعُورِضَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَالَ { أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ : أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا ، ثُمَّ قَالَتْ : إذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا ، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، صَلَاةِ الْعَصْرِ . وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ . ثُمَّ قَالَتْ : سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ قَالَ { كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَتْ : إذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا . فَأَمْلَتْ عَلَيَّ : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ مِنْهُ : أَنَّهُ عَطَفَ " صَلَاةَ الْعَصْرِ " عَلَى " الصَّلَاةِ الْوُسْطَى " وَالْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَغَايِرَانِ .

وَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ . وَهُوَ أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ - إذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا - فَهَلْ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَخْبَارِ فِي الْعَمَلِ بِهِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأَخْبَارِ فِي الْعَمَلِ بِهِ . وَلِهَذَا أَوْجَبَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ لِلْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ : خِلَافَ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ قُرْآنًا بِطَرِيقِ الْآحَادِ ، وَلَا إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ خَبَرًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ . الثَّانِي : احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِلتَّأْوِيلِ ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَالْعَطْفِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : إلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ، وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ فَقَدْ وُجِدَ الْعَطْفُ هَاهُنَا مَعَ اتِّحَادِ الشَّخْص . وَعَطْفُ الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ . وَرُبَّمَا سَلَكَ بَعْضُ مَنْ رَجَّحَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الصُّبْحِ : طَرِيقَةً أُخْرَى وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ قَرِينَةُ قَوْله تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } مِنْ كَوْنِهَا " الصُّبْحُ " الَّذِي فِيهِ الْقُنُوتُ . وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ " الْقُنُوتَ " لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ . يُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامِ ، وَعَلَى السُّكُوتِ ، وَعَلَى الدُّعَاءِ ، وَعَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى " الْقُنُوتِ " الَّذِي فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يُعْطَفُ حُكْمٌ عَلَى حُكْمٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا مَعًا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُخْتَصِمِينَ بِهِ . فَالْقَرِينَةُ ضَعِيفَةٌ . وَرُبَّمَا سَلَكُوا طَرِيقًا أُخْرَى . وَهُوَ إيرَادُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ أَمْرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ بِتَأَخُّرِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ . وَهَذَا مُعَارَضٌ بِالتَّأْكِيدَاتِ الْوَارِدَةِ فِي " صَلَاةِ الْعَصْرِ " كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَكَقَوْلِهِ { فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ . بَلْ نَزِيدُ ، فَنَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَا نَعْلَمُهُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } . وَرُبَّمَا سَلَكَ مَنْ رَجَّحَ الصُّبْحَ طَرِيقَ الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى بِالْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ . وَأَشَقُّ الصَّلَوَاتِ : صَلَاةُ الصُّبْحِ ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَلَذَّ النَّوْمِ إغْفَاءَةُ الْفَجْرِ . فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَحْثُوثُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا . وَهَذَا قَدْ يُعَارَضُ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ بِمَشَقَّةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّهَا وَقْتُ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْمَعَاشِ وَالتَّكَسُّبِ ، وَلَوْ لَمْ يُعَارَضْ بِذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ ، مَعَ النَّصِّ عَلَى أَنَّهَا الْعَصْرُ . وَلِلْفَضَائِلِ وَالْمَصَالِحِ مَرَاتِبُ لَا يُحِيطُ بِهَا الْبَشَرُ . فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ النَّصِّ فِيهَا . وَرُبَّمَا سَلَكَ الْمُخَالِفُ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مَسْلَكَ النَّظَرِ فِي كَوْنِهَا " وُسْطَى " مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ . وَهَذَا عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ " الْوُسْطَى " لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ . فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ ، كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أَيْ عُدُولًا . الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ ابْتِدَاءً فِي الْعَدَدِ يَقَعُ بِسَبَبِهِ مَعْرِفَةَ الْوَسَطِ . وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ التَّعَارُضُ . فَمَنْ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا " الصُّبْحُ " يَقُولُ : سَبَقَهَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لَيْلًا . وَبَعْدَهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ نَهَارًا . فَكَانَتْ هِيَ الْوُسْطَى . وَمَنْ يَقُولُ " هِيَ الْمَغْرِبُ " يَقُولُ : سَبَقَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَتَأَخَّرَ الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ ، فَكَانَتْ الْمَغْرِبُ هِيَ وُسْطَى . وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ قَدْ سُمِّيَتْ الْأُولَى . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ : حَدِيثُ الْعَطْفِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ . وَمَعَ ذَلِكَ : فَدَلَالَتُهُ قَاصِرَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ الَّذِي اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهَا " الْعَصْرُ " وَالِاعْتِقَادُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : أَقْوَى مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَدِيثِ الْعَطْفِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاظِرِ الْمُحَقِّقِ : أَنْ يَزِنَ الظُّنُونَ ، وَيَعْمَلَ بِالْأَرْجَحِ مِنْهَا .

الْبَحْثُ الثَّانِي : قَوْلُهُ " ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ : فَصَلَّاهَا بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَوَقْتِ الْعِشَاءِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ : فَصَلَّاهَا بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : يَكُونُ الْحَدِيثُ دَالًا عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْفَوَائِتِ غَيْرُ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ صَلَّاهَا - أَعْنِي الْعَصْرَ الْفَائِتَةَ - بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ الْحَاضِرَةِ . وَذَلِكَ لَا يَرَاهُ مَنْ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يَتَوَقَّفُ عَلَى دَلِيلٍ يُرَجِّحُ هَذَا التَّقْدِيرَ - أَعْنِي قَوْلَنَا : بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ - عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ - أَعْنِي قَوْلَنَا : بَيْنَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَوَقْتِ الْعِشَاءِ - فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ تَمَّ الِاسْتِدْلَال ، وَإِلَّا وَقَعَ الْإِجْمَالُ . وَفِي هَذَا التَّرْجِيحِ - الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ - مَجَالٌ لِلنَّظَرِ عَلَى حَسِبَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْبَيَانِ . وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِمَا يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ لِلتَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْعَصْرِ وَصَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ وَالتَّرْجِيحَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . . وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ " الصَّلَاةَ الْوُسْطَى : صَلَاةُ الْعَصْرِ " أَيْضًا ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ . وَقَوْلُهُ فِيهِ " حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ ، أَوْ اصْفَرَّتْ " وَقْتُ الِاصْفِرَارِ : وَقْتُ الْكَرَاهَةِ . وَيَكُونُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ خَارِجًا . وَلَا تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ . فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ لَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ . وَقَوْلُهُ " حَتَّى اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ " قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، مِنْ صَلَاتِهَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْحَبْسُ انْتَهَى إلَى هَذَا الْوَقْتِ . وَلَمْ تَقَعْ الصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ . وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الِاشْتِغَالُ بِأَسْبَابِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْتَضٍ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ . .

وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ بِمِثْلِ هَذَا . وَلَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ : فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِعَدَمِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى . فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ قَوْلِهِ " مَلَأَ اللَّهُ " أَوْ " حَشَا اللَّهُ " وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ ، مَعَ تَقَارُبِهِمَا فِي الْمَعْنَى . وَجَوَابُهُ : أَنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا . فَإِنَّ قَوْلَهُ " حَشَا اللَّهُ " يَقْتَضِي مِنْ التَّرَاكُمِ وَكَثْرَةِ أَجْزَاءِ الْمَحْشُوِّ مَا لَا يَقْتَضِيه " مَلَأَ " وَقَدْ قِيلَ : إنَّ شَرْطَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظَانِ مُتَرَادِفِينَ ، لَا يَنْقُصُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخِرِ . عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ جَوَّزْنَا بِالْمَعْنَى ، فَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ اللَّفْظِ أَوْلَى . فَقَدْ يَكُونُ ابْنُ مَسْعُودٍ تَحَرَّى لِطَلَبِ الْأَفْضَلِ . .

 

50 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِشَاءِ . فَخَرَجَ عُمَرُ ، فَقَالَ : الصَّلَاةُ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ . رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ . فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ يَقُولُ : لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي - أَوْ عَلَى النَّاسِ - لَأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةِ . } .

" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو الْعَبَّاسِ ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهِمْ . كَانَ يُقَالُ لَهُ " الْبَحْرُ " لَسِعَةِ عِلْمِهِ . مَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ . وَوُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ . وَفِي الْحَدِيثِ مَبَاحِثُ : الْأَوَّلُ : يُقَالُ " عَتَمَ اللَّيْلُ " يَعْتِمُ - بِكَسْرِ التَّاءِ - إذَا أَظْلَمَ ، وَالْعَتَمَةُ : الظُّلْمَةُ وَقِيلَ : إنَّهَا اسْمٌ لِثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ . نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْخَلِيلِ . وَقَوْلُهُ " أَعْتَمَ " أَيْ دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ ، كَمَا يُقَالُ : أَصْبَحَ ، وَأَمْسَى ، وَأَظْهَرَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } . الثَّانِي : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَرَاهِيَةِ تَسْمِيَةِ " الْعِشَاءِ " بِالْعَتَمَةِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ . فَإِنَّ قَوْلَهُ " أَعْتَمَ " أَيْ دَخَلَ فِي وَقْتِ الْعَتَمَةِ . وَالْمُرَادُ : صَلَّى فِيهِ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْعِشَاءَ " عَتَمَةً " وَأَصَحُّ مِنْهُ : الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ } وَمِنْهُمْ مِنْ كَرِهَ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأُحِبُّ أَنْ لَا تُسَمَّى صَلَاةُ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ . وَمُسْتَنَدُهُ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ ، أَلَا وَإِنَّهَا الْعِشَاءُ . وَلَكِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ } أَيْ يُؤَخِّرُونَ حَلْبَهَا إلَى أَنْ يُظْلِمَ الظَّلَامُ . وَعَتَمَةُ اللَّيْلِ : ظُلْمَتُهُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : صِيغَةُ النَّهْيِ . وَالثَّانِي : مَا فِي قَوْلِهِ " تَغْلِبَنَّكُمْ " فَإِنَّ فِيهِ تَنْفِيرًا عَنْ هَذِهِ التَّمْسِيَةِ . فَإِنَّ النُّفُوسَ تَأْنَفُ مِنْ الْغَلَبَةِ . وَالثَّالِثُ : إضَافَةُ الصَّلَاةِ إلَيْهِمْ ، فِي قَوْلِهِ " عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ " فَإِنَّ فِيهِ زِيَادَةً . أَلَا تَرَى أَنَّا لَوْ قُلْنَا : لَا تُغْلَبَنَّ عَلَى مَالِكَ : كَانَ أَشَدَّ تَنْفِيرًا مِنْ قَوْلِنَا : لَا تُغْلَبَنَّ عَلَى مَالٍ ، أَوْ عَلَى الْمَالِ ؟ لِدَلَالَةِ الْإِضَافَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ . وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ : أَنْ تَجُوزَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ ، وَيَكُونُ الْأَوْلَى تَرْكُهَا . وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَوْلَى تَرْكَ الشَّيْءِ ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا . أَمَّا الْجَوَازُ : فَلَفْظُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا عَدَمُ الْأَوْلَوِيَّةِ : فَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ . وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ - وَهُوَ قَوْلُهُ " لَا أُحِبُّ " - أَقْرَبُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ " وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهَا الْعَتَمَةُ " . أَوْ يَقُولُ : الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الِاسْمِ . وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ دَائِمًا ، أَوْ أَكْثَرِيًّا . وَلَا يُنَاقِضُهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ قَلِيلًا . فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِهِ قَلِيلًا . أَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ } وَيَكُونُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ تُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ غَالِبًا أَوْ دَائِمًا . .

الثَّالِثُ : فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى : تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي } ، أَوْ عَلَى النَّاسِ . .. إلَخْ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ تَأْخِيرُهَا لَوْلَا الْمَشَقَّةُ .

الرَّابِعُ : قَدْ حَكَيْنَا أَنَّ " الْعَتَمَةَ " اسْمٌ لِثُلُثِ اللَّيْلِ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ " أَعْتَمَ " عَلَى أَوَّلِ أَجْزَاءِ هَذَا الْوَقْتِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَجْزَائِهِ : بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آخِرِهِ ، أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ . فَيَكُونُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ ، وَسَبَبًا لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ " .

الْخَامِسُ : قَدْ كُنَّا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } أَنَّهُ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ . فَلَكَ أَنْ تَنْظُرَ : هَلْ يَتَسَاوَى هَذَا اللَّفْظُ مَعَ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ ، أَمْ لَا ؟ فَأَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَتَسَاوَى مُطْلَقًا . فَإِنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ ثَمَّ : أَنَّ كَلِمَةَ " لَوْلَا " تَدُلُّ عَلَى انْتِمَاءِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْأَمْرِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ . وَالْأَمْرُ الْمُنْتَفَى لَيْسَ أَمْرَ الِاسْتِحْبَابِ ، لِثُبُوتِ الِاسْتِحْبَابِ فَيَكُونُ الْمُنْتَفِي ، هُوَ أَمْرُ الْوُجُوبِ . فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ . فَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا هَذَا الدَّلِيلَ فِي هَذَا الْمَكَانِ ، وَقُلْنَا : إنَّ الْأَمْرَ الْمُنْتَفَى لَيْسَ أَمْرَ الِاسْتِحْبَابِ - لِثُبُوتِ الِاسْتِحْبَابِ - تَوَجَّهَ الْمَنْعُ هَاهُنَا ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِشَاءِ أَفْضَلُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُضَمَّ إلَى الِاسْتِدْلَالِ : الدَّلَائِلُ الْخَارِجَةُ ، الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّقْدِيمِ . وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً . وَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ . فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الضَّمِيمَةِ . السَّادِسُ : فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَنْبِيهِ الْأَكَابِرِ : إمَّا لِاحْتِمَالِ غَفْلَةٍ ، أَوْ لِاسْتِثَارَةِ فَائِدَةٍ مِنْهُمْ فِي التَّنْبِيهِ . لِقَوْلِ عُمَرَ " رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ " . السَّابِعُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ " رَاجَعَا إلَى مَنْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ مِنْهُمْ ، لِقِلَّةِ احْتِمَالِهِمْ الْمَشَقَّةَ فِي السَّهَرِ . فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجَعَا إلَى مَنْ خَلَفَهُ الْمُصَلُّونَ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَيَكُونُ قَوْلُهُ " رَقَدَ النِّسَاءُ " إشْفَاقًا عَلَيْهِنَّ مِنْ طُولِ الِانْتِظَارِ .

 

51 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، وَحَضَرَ الْعَشَاءُ ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ } . 52 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ .

لَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ " فِي الصَّلَاةِ " عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ، وَلَا عَلَى تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ . بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْمَغْرِبِ . لِقَوْلِهِ { فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ } وَذَلِكَ يُخْرِجُ صَلَاةَ النَّهَارِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ . وَيَبْقَى التَّرَدُّدُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . فَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَغْرِبِ ، لِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { إذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا } وَهُوَ صَحِيحٌ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا صَحَّ { فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ } وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَالظَّاهِرِيَّةُ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ عَلَى الصَّلَاةِ . وَزَادُوا - فِيمَا نُقِلَ عَنْهُمْ - فَقَالُوا : إنْ صَلَّى فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ . وَأَمَّا أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ : فَإِنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى الْمَعْنَى ، وَفَهِمُوا : أَنَّ الْعِلَّةَ التَّشْوِيشُ ، لِأَجْلِ التَّشَوُّفِ إلَى الطَّعَامِ . وَقَدْ أَوْضَحَتْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا . وَهِيَ قَوْلُهُ " وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ " فَتَتَبَّعُوا هَذَا الْمَعْنَى . فَحَيْثُ حَصَلَ التَّشَوُّفُ الْمُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ قَدَّمُوا الطَّعَامَ . وَاقْتَصَرُوا أَيْضًا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَكْسِرُ سُورَةَ الْجُوعِ . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ : يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَعَامًا خَفِيفًا . وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُوَسَّعٌ . فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ التَّوْسِعَةِ فَصَحِيحٌ ، لَكِنْ لَيْسَ بِمَحِلِّ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ . وَإِنْ أُرِيدَ التَّوْسِعَةُ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ . فَفِي الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ ضَيَّقَ وَقْتَ الْمَغْرِبِ جَعَلَهُ مُقَدَّرًا بِزَمَانٍ يَدْخُلُ فِي مِقْدَارِ مَا يَتَنَاوَلُ لُقَيْمَاتٍ يَكْسِرُ بِهَا سُورَةَ الْجُوعِ . فَعَلَى هَذَا : لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ مُوَسَّعًا إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ . عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ : أَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ . وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وَجْهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فِي كُلِّ حَالٍ . وَهَذَا صَحِيحٌ ، إنْ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّ حُضُورَ الطَّعَامِ - مَعَ التَّشَوُّفِ إلَيْهِ - عُذْرُ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ . لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ تَقْدِيمِ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ . فَإِنَّهُمَا لَمَّا تَزَاحَمَا قَدَّمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوَسِيلَةَ إلَى حُضُورِ الْقَلْبِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ . وَالْمُتَشَوِّقُونَ إلَى الْمَعْنَى أَيْضًا قَدْ لَا يَقْصِرُونَ الْحُكْمَ عَلَى حُضُورِ الطَّعَامِ . بَلْ يَقُولُونَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَعْنَى . وَهُوَ التَّشَوُّفُ إلَى الطَّعَامِ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا : أَنَّ الطَّعَام إذَا لَمْ يَحْضُرْ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَيَسِّرَ الْحُضُورِ عَنْ قَرِيبٍ ، حَتَّى يَكُونَ كَالْحَاضِرِ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَاضِرِ . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ، وَهُوَ مَا يَتَرَاخَى حُضُورُهُ : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْحَاضِرِ . فَإِنَّ حُضُورَ الطَّعَامِ يُوجِبُ زِيَادَةَ تَشَوُّفٍ وَتَطَلُّعٍ إلَيْهِ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ اعْتَبَرَهَا فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ عَلَى الصَّلَاةِ . فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهَا مَا لَا يُسَاوِيهَا ، لِلْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ " إنَّ مَحَلَّ النَّصِّ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى وَصْفٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا لَمْ يُلْغَ " .

 

53 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ } .

هَذَا الْحَدِيثُ أَدْخَلُ فِي الْعُمُومِ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ . أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى لَفْظِ " الصَّلَاةِ " وَالنَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُضُورِ الطَّعَامِ . " وَالْأَخْبَثَانِ " الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ . وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ . وَ " مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ " إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ إلَى الْإِخْلَالِ بِرُكْنٍ ، أَوْ شَرْطٍ ، أَوْ لَا . فَإِنْ أَدَّى إلَى ذَلِكَ ، امْتَنَعَ دُخُولُ الصَّلَاةِ مَعَهُ . وَإِنْ دَخَلَ وَاخْتَلَّ الرُّكْنُ أَوْ الشَّرْطُ : فَسَدَتْ بِذَلِكَ الِاخْتِلَالِ . وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ إلَى ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ ذَلِكَ مُؤَثِّرٌ فِي الصَّلَاةِ بِشَرْطِ شُغْلِهِ عَنْهُ ، وَقَالَ : يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدِهِ . وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ شَغَلَهُ ، حَتَّى إنَّهُ لَا يَدْرِي كَيْفَ صَلَّى . فَهُوَ الَّذِي يُعِيدُ قَبْلُ وَبَعْدُ ، وَأَمَّا إنْ شَغَلَهُ شُغْلًا خَفِيفًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إقَامَةِ حُدُودِهَا ، وَصَلَّى ضَامًّا بَيْنَ وِرْكَيْهِ ، فَهُوَ الَّذِي يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ بَلَغَ بِهِ مَا لَا يَعْقِلُ بِهِ صَلَاتَهُ وَلَا يَضْبِطُ حُدُودَهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ كَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ إنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ فِيهَا . وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ ، وَكَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ : فِيهِ بَعْضُ إجْمَالٍ . وَالتَّحْقِيقُ : مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوَّلًا ، أَنَّهُ إنْ مُنِعَ مِنْ رُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ : امْتَنَعَ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ . وَفَسَدَتْ الصَّلَاةُ بِاخْتِلَالِ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، إنْ نُظِرَ إلَى الْمَعْنَى ، أَوْ مُمْتَنِعٌ إنْ نُظِرَ إلَى ظَاهِرِ النَّهْيِ . وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْإِعَادَةَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ " لَا يَدْرِي كَيْفَ صَلَّى " أَوْ مَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ " إنَّ مَنْ بَلَغَ بِهِ مَا لَا يَعْقِلُ صَلَاتَهُ " فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ : الشَّكُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَرْكَانِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ . وَهُوَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ بِالْكُلِّيَّةِ : فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُشُوعٍ . وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَقَوْلُ الْقَاضِي " وَلَا يَضْبِطُ حُدُودَهَا " إنْ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ : فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مُبَيِّنًا . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يَسْتَحْضِرُهَا ، فَإِنْ أَوْقَعَ ذَلِكَ شَكًّا فِي فِعْلِهَا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّاكِّ فِي الْإِتْيَانِ بِالرُّكْنِ ، أَوْ الْإِخْلَالِ بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، مِنْ ذَهَابِ الْخُشُوعِ : فَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَيْضًا . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى إعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ الدُّخُولِ فِيهَا ، فَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي صَلَاةٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ تَذَكُّرِ إقَامَةِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا . وَأَمَّا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، مِنْ امْتِنَاعِ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ عَنْ مَقَرِّهَا يَجْعَلُهَا كَالْبَارِزَةِ ، وَيُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ ، وَتَحْرِيمَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ، مِنْ غَيْرِ التَّأْوِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ : فَهُوَ عِنْدِي بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثُ سَبَبٍ آخَرَ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، صَرِيحٍ فِيهِ . فَإِنْ أَسْنَدَهُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي أَنَّ السَّبَبَ مَا ذَكَرَهُ . وَإِنَّمَا غَايَتُهُ : أَنَّهُ مُنَاسِبٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

54 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي : عُمَرُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ } . الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ } .

فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ : رَدٌّ عَلَى الرَّوَافِضِ فِيمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمُبَايَنَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَوْلُهُ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ } أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ " وَبَعْدَ الْعَصْرِ " أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَإِنَّ الْأَوْقَاتَ الْمَكْرُوهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا : مَا تَتَعَلَّقُ الْكَرَاهَةُ فِيهِ بِالْفِعْلِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إنْ تَأَخَّرَ الْفِعْلُ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ قَبْلَهُ . وَإِنْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كُرِهَتْ . وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ . وَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ . وَمِنْهَا : مَا تَتَعَلَّقُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ بِالْوَقْتِ ، كَطُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الِارْتِفَاعِ ، وَوَقْتِ الِاسْتِوَاءِ . وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَلَّقًا بِالْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ . فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالظَّاهِرِيَّةِ : فِيهِ خِلَافٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَصِيغَةُ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فِي أَلْفَاظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، فَالْأَوْلَى : حَمْلُهَا عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ . لَا عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ الْوُجُودِيِّ . فَيَكُونُ قَوْلُهُ " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ " نَفْيًا لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ ، لَا الْحِسِّيَّةِ . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّ الشَّارِعَ يُطْلِقُ أَلْفَاظَهُ عَلَى عُرْفِهِ . وَهُوَ الشَّرْعِيُّ . وَأَيْضًا ، فَإِنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ - وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَفٍ - احْتَجْنَا إلَى إضْمَارٍ لِتَصْحِيحِ اللَّفْظِ . وَهُوَ الْمُسَمَّى بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ . وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ عَامًّا أَوْ مُجْمَلًا ، أَوْ ظَاهِرًا فِي بَعْضِ الْمَحَامِلِ . أَمَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ نَحْتَجْ إلَى إضْمَارٍ . فَكَانَ أَوْلَى . وَمِنْ هَذَا الْبَحْثِ يُطَّلَعُ عَلَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } فَإِنَّك إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، لَمْ تَحْتَجْ إلَى إضْمَارٍ . فَإِنَّهُ يَكُونُ نَفْيًا لِلنِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ . وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْحِسِّيَّةِ - وَهِيَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ حِسًّا - احْتَجْتَ إلَى إضْمَارٍ . فَحِينَئِذٍ يُضْمِرُ بَعْضُهُمْ " الصِّحَّةَ " وَبَعْضُهُمْ " الْكَمَالَ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ . وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ سِنَانٍ . و " خُدْرَةُ " مِنْ الْأَنْصَارِ . فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ . فَإِنَّهُ مَدَّ الْكَرَاهَةَ إلَى ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الِارْتِفَاعِ عَنْ الْأُفُقِ ، بَلْ الِارْتِفَاعُ الَّذِي تَزُولُ عِنْدَهُ صُفْرَةُ الشَّمْسِ ، أَوْ حُمْرَتُهَا . وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ . وَقَوْلُهُ " لَا صَلَاةَ " فِي الْحَدِيثَيْنِ ، عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ . وَخَصَّهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ بِالنَّوَافِلِ ، وَلَمْ يَقُولَا بِهِ فِي الْفَرَائِضِ الْفَوَائِتِ . وَأَبَاحَاهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالِامْتِنَاعِ . وَهُوَ أَدْخَلُ فِي الْعُمُومِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَكَوْنُهُ جَعَلَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهَا . وَفِي رِوَايَةٍ " لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ " إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ . فَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ : خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ ، عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ . وَحَدِيثُ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ : خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ ، عَامٌّ فِي الْوَقْتِ . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ ، وَخَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ . فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ ، وَكَعْبِ بْنِ مُرَّةَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، وَعَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالصُّنَابِحِيِّ . وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَّا " عَلِيٌّ فَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، أَبُو الْحَسَنِ وَاسْمُ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ : عَبْدُ مَنَافٍ . وَقِيلَ اسْمُهُ : كُنْيَتُهُ . وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذُو الْفَضَائِلِ الْجَمَّةِ الَّتِي لَا تَخْفَى . قِيلَ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، أَوْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ ، أَوْ عَشْرٍ ، أَوْ ثَمَانٍ . أَقْوَالٌ . وَقُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي رَمَضَانَ . وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ شَمْخٍ ، فَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَحَدُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ . مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ . وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَهُوَ : أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ الْعَدَوِيُّ . وَرِيَاحٌ فِي نَسَبِهِ : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ آخِرُ الْحُرُوفِ . وَرَزَاحُ : بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ، بَعْدَهَا زَايٌ مَفْتُوحَةٌ . وَتُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ . وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : فَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ - وَقِيلَ : أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَقِيلَ : أَبُو نُصَيْرٍ ، بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الصَّادِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدٍ - بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ - ابْنِ سَهْمٍ ، السَّهْمِيُّ . أَحَدُ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ . وَالْمُكْثِرِينَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ لَيَالِيَ الْحَرَّةِ ، وَكَانَتْ الْحَرَّةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ . وَقِيلَ : مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَقِيلَ : غَيْرُهُ . وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ : فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا سَمُرَةُ : فَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَقِيلَ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، أَوْ أَبُو سُلَيْمَانَ ، أَوْ أَبُو سَعِيدٍ - : سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ - بِضَمِّ الدَّالِ ، وَقَدْ يُقَالُ بِفَتْحِهَا - ابْنِ هِلَالٍ . فَزَارِيٌّ ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ . قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ . تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ . وَأَمَّا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : فَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنُ الْأَكْوَعِ ، مَنْسُوبٌ إلَى جَدِّهِ الْأَكْوَعِ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَسَلَمَةُ أَسْلَمِيٌّ ، يُكَنَّى أَبَا مُسْلِمٍ . وَقِيلَ : أَبَا إيَاسٍ وَقِيلَ : أَبَا عَامِرٍ . أَحَدُ شُجْعَانِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ . مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ . وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً . وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : فَهُوَ أَبُو خَارِجَةَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بْنِ الضَّحَّاكِ بْنِ زَيْدِ أَنْصَارِيٌّ نَجَّارِيٌّ . وَقِيلَ : يُكَنَّى أَبَا سَعِيدٍ . وَقِيلَ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ . يُقَالُ : إنَّهُ كَانَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ : ابْنُ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً . وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ ، مُتَقَدِّمًا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ . وَقِيلَ : مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ . وَقِيلَ : اثْنَتَيْنِ . وَقِيلَ : ثَلَاثٍ . وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ وَأَمَّا مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ : فَهُوَ مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادٍ - فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنِ عَفْرَاءَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . وَأَمَّا كَعْبُ بْنُ مُرَّةَ : فَبَهْزِيٌّ ، سُلَمِيٌّ - فِيمَا قِيلَ - مَاتَ بِالشَّامِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَقِيلَ غَيْرُهُ . وَأَمَّا أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ : فَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ ، وَصُدَيُّ - بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ ، وَفَتْحِ الدَّالِ ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - مِنْ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ . مَاتَ بِالشَّامِّ سَنَةَ إحْدَى وَثَمَانِينَ . وَقِيلَ : سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ . وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالشَّامِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ . وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ : فَهُوَ أَبُو نَجِيحٍ . وَيُقَال : أَبُو شُعَيْبٍ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ - بِفَتْحِ الْعَيْن وَالْبَاءِ مَعًا ، وَالْبَاءُ تَلِي الْعَيْنَ - ابْنِ عَامِرِ بْنِ خَالِدٍ ، سُلَمِيٌّ . لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رُبْعُ الْإِسْلَامِ " ثُمَّ لَقِيَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَأَمَّا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَمْرِهَا . وَأَمَّا الصُّنَابِحِيُّ : فَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ ، مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةٍ مِنْ الْيَمَنِ ، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - كَانَ مُسْلِمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَدَهُ . فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْجُحْفَةِ لَقِيَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ فَاضِلًا .

 

56 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا . قَالَ : فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا ، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ . ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ } .

حَدِيثُ عُمَرَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ سَبِّ الْمُشْرِكِينَ لِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ . لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْحَدِيثِ لَفْظَ السَّبِّ . فَيَنْبَغِي - مَعَ إطْلَاقِهِ - أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا لَيْسَ بِفُحْشٍ .

 

وَقَوْلُهُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ " يَقْتَضِي أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إذَا دَخَلَ عَلَى " كَادَ " تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي الْأَكْثَرِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَاَللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا " قِيلَ : فِي هَذَا الْقَسَمِ إشْفَاقٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا ، وَتَحْقِيقُ هَذَا : أَنَّ الْقَسَمَ تَأْكِيدٌ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ . وَفِي هَذَا الْقَسَمِ إشْعَارٌ بِبُعْدِ وُقُوعِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْتَقَدُ وُقُوعُهُ . فَأَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِهِ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْظِيمَ هَذَا التَّرْكِ . وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلْإِشْفَاقِ مِنْهُ ، أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهِيَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ " مَا صَلَّيْنَا " خِلَافَ مَا يَتَوَهَّمُهُ قَوْمٌ مِنْ النَّاسِ . وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاةَ لِشُغْلِهِ بِالْقِتَالِ ، كَمَا وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ . وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَتَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ . وَالْفُقَهَاءُ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ - فِيمَا قِيلَ : شُرِعَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ . وَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ . وَهُوَ أَنَّ الشُّغْلَ إنْ أَوْجَبَ النِّسْيَانَ ، فَالتَّرْكُ لِلنِّسْيَانِ . وَرُبَّمَا اُدُّعِيَ الظُّهُورُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى النِّسْيَانِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الظَّاهِرُ : تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَذْكُورِ لَفْظًا وَهُوَ الشُّغْلُ . وَقَوْلُهُ " فَقُمْنَا إلَى بَطْحَانَ " اسْمُ مَوْضِعٍ ، يَقُولُهُ الْمُحَدِّثُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَذَكَرَ غَيْرُهُمْ فِيهِ الْفَتْحَ فِي الْبَاءِ وَالْكَسْرَ فِي الطَّاءِ دُونَ الضَّمِّ .

وَقَوْلُهُ " فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا " قَدْ يُشْعِرُ بِصَلَاتِهِمْ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صَلَاةِ الْفَوَائِتِ جَمَاعَةً . وَقَوْلُهُ " فَصَلَّى الْعَصْرَ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ فِي الْقَضَاءِ . وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْفَوَائِتِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَهِيَ مَا دُونَ الْخَمْسِ ، وَفِي الْخَمْسِ خِلَافٌ . وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُطْلَقًا . فَإِذَا ضُمَّ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلِيلُ عَلَى اتِّسَاعِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ : لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ . وَإِنْ ضُمَّ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلِيلُ عَلَى تَضْيِيقِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ : كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَمْ تَخْرُجْ الْحَاضِرَةُ عَنْ وَقْتِهَا ، لِفِعْلِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ . فَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حُكْمِ التَّرْتِيبِ : تَنْبَنِي عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفِعْلَ لِلْوُجُوبِ .

 

باب فضل الجماعة ووجوبها

57 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً . } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْفَذِّ ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّ لَفْظَةَ " أَفْعَلُ " تَقْتَضِي وُجُودَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَصْلِ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ فَضِيلَةٍ فِي صَلَاةِ الْفَذِّ وَمَا لَا يَصِحُّ فَلَا فَضِيلَةَ فِيهِ . وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ " أَفْعَلْ " مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا التَّفَاضُلُ بِزِيَادَةِ عَدَدٍ فَيَقْتَضِي بَيَانًا . وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ جُزْءٌ مَعْدُودٌ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَجْزَاءٌ أُخَرُ . كَمَا إذَا قُلْنَا : هَذَا الْعَدَدُ يَزِيدُ عَلَى ذَاكَ بِكَذَا وَكَذَا مِنْ الْآحَادِ . فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَصْلِ الْعَدَدِ ، وَجُزْءٍ مَعْلُومٍ فِي الْآخَرِ ، وَمِثْلُ هَذَا . وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ مِنْهُ : مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ تُضَاعَفُ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ شَيْءٍ يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَعَدَدٍ يُضَاعَفُ . نَعَمْ يُمْكِنُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْفَذِّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا تَصِحُّ - وَهُوَ دَاوُد عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ - أَنْ يَقُولَ : التَّفَاضُلُ يَقَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَعْذُورِ فَذًّا وَالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ . وَلَيْسَ يَلْزَمُ إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا صَحِيحًا لِلْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ " الْفَذَّ " مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ . فَإِذَا قُلْنَا بِالْعُمُومِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضِيلَةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ كُلِّ فَذٍّ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْفَذُّ الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ . .

الثَّانِي : قَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّفْضِيلُ " بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً " وَفِي غَيْرِهِ التَّفْضِيلُ " بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا " فَقِيلَ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ : إنَّ الدَّرَجَةَ أَقَلُّ مِنْ الْجُزْءِ ، فَتَكُونُ الْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ جُزْءًا سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجَمَاعَاتِ ، وَأَوْصَافِ الصَّلَاةِ . فَمَا كَثُرَتْ فَضِيلَتُهُ عَظُمَ أَجْرُهُ . وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الصَّلَوَاتِ . فَمَا عَظُمَ فَضْلُهُ مِنْهَا عَظُمَ أَجْرُهُ . وَمَا نَقَصَ عَنْ غَيْرِهِ نَقَصَ أَجْرُهُ . ثُمَّ قِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ : الزِّيَادَةُ لِلصُّبْحِ وَالْعَصْرِ . وَقِيلَ : لِلصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ . وَقِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ كَالْمَسْجِدِ مَعَ غَيْرِهِ . الثَّالِثُ : قَدْ وَقَعَ بَحْثٌ فِي أَنَّ هَذِهِ " الدَّرَجَاتِ " هَلْ هِيَ بِمَعْنَى الصَّلَوَاتِ ؟ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ بِمَثَابَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، أَوْ يُقَالُ : إنَّ لَفْظَ " الدَّرَجَةِ " وَ " الْجُزْءِ " لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ ؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ مَبْنِيًّا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَكَذَلِكَ لَفْظَةُ " تُضَاعَفُ " مُشْعِرَةٌ بِذَلِكَ .

الرَّابِعُ : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَسَاوِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْفَضْلِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ . قِيلَ : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ : أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْفَضْلِ . وَتَقْرِيرُهُ : أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا دَلَّ عَلَى الْفَضْلِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ، مَعَ امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ ، اقْتَضَى ذَلِكَ الِاسْتِوَاءَ فِي الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ . وَلَوْ قُرِّرَ هَذَا بِأَنْ يُقَالُ : دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى فَضِيلَةِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِالْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ ، فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ جَمَاعَةٍ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا : الْجَمَاعَةُ الْكُبْرَى وَالْجَمَاعَةُ الصُّغْرَى . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِمَا وَاحِدٌ بِمُقْتَضَى الْعُمُومِ - كَانَ لَهُ وَجْهٌ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : زِيَادَةُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الْجَمَاعَةِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد { صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ . وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ } الْحَدِيثُ . فَإِنْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ فَهُوَ مُعْتَمَدٌ .

 

58 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا ، وَذَلِكَ : أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ . ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ . فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ ، مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الثَّوَابُ الْمُقَدَّرُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ . وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثِ قَوَاعِدَ . الْأُولَى : أَنَّ اللَّفْظَ - أَعْنِي قَوْلَهُ " وَذَلِكَ " - أَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيلَ الْحُكْمِ السَّابِقِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ : وَذَلِكَ لِأَنَّهُ . وَهُوَ مُقْتَضٍ لِلتَّعْلِيلِ . وَسِيَاقُ هَذَا اللَّفْظِ فِي نَظَائِرِ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي ذَلِكَ . الثَّانِيَةُ : أَنَّ مَحِلَّ الْحُكْمِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَوْجُودَةٌ فِيهِ . وَهَذَا أَيْضًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا . لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ لَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ . فَلَا يَحْصُلُ التَّعْلِيلُ بِهَا . الثَّالِثَةُ : أَنَّ مَا رُتِّبَ عَلَى مَجْمُوعٍ لَمْ يَلْزَمْ حُصُولُهُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إلْغَاءِ بَعْضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ . فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مُعْتَبَرًا . لَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى بَعْضِهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ : فَاللَّفْظُ يَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمُضَاعَفَةِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ . وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ أُمُورٍ : مِنْهَا : الْوُضُوءُ فِي الْبَيْتِ ، وَالْإِحْسَانُ فِيهِ ، وَالْمَشْيُ إلَى الصَّلَاةِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ . وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ . وَإِذَا عُلِّلَ هَذَا الْحُكْمُ بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْجُودًا فِي مَحِلِّ الْحُكْمِ . وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مِنْهَا ، فَالْأَصْلُ : أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ بِدُونِهِ . فَمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَحْصُلْ فِي صَلَاتِهِ بَعْضُ هَذَا الْمَجْمُوعِ ، وَهُوَ الْمَشْيُ الَّذِي بِهِ تُرْفَعُ لَهُ الدَّرَجَاتُ وَتُحَطُّ عَنْهُ الْخَطِيئَاتُ . فَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ : أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمُضَاعَفَةِ لَهُ . لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ - أَعْنِي الْمَشْيَ إلَى الْمَسْجِدِ ، مَعَ كَوْنِهِ رَافِعًا لِلدَّرَجَاتِ ، حَاطًّا لِلْخَطِيئَاتِ - لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ . وَهَذَا مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي هَذَا اللَّفْظِ ، إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ - وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِي تَرْتِيبَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى مُطْلَقِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ - : يَقْتَضِي خِلَافَ مَا قُلْنَاهُ ، وَهُوَ حُصُولُ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الثَّوَابِ لِمَنْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي بَيْتِهِ . فَيَتَصَدَّى النَّظَرُ فِي مَدْلُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَيْسَ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ فِي الْجَمَاعَةِ بِإِقَامَتِهَا فِي الْبُيُوتِ ، أَوْ مَعْنَى ذَلِكَ . وَلَعَلَّ هَذَا نَظَرًا إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .

الْبَحْثُ الثَّانِي : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالِانْفِرَادِ . وَهَلْ يَحْصُلُ لِلْمُصَلِّي فِي الْبُيُوتِ جَمَاعَةً هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ الْمُضَاعَفَةِ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِهِمْ : حُصُولُهُ . وَلَسْت أَعْنِي أَنَّهُ لَا تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ عَلَى الِانْفِرَادِ فِيهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا شَكَّ فِيهِ . إنَّمَا النَّظَرُ : فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَفَاضَلُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ أَمْ لَا ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الْفَضِيلَةِ : عَدَمُ حُصُولِ مُطْلَقِ الْفَضِيلَةِ . وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ إقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ : هَلْ يَتَأَدَّى بِهَا الْمَطْلُوبُ ؟ فَعَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ لَا يَكْفِي إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْبُيُوتِ فِي إقَامَةِ الْفَرْضِ ، أَعْنِي إذَا قُلْنَا : إنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَكْفِي إذَا اشْتَهَرَ ، كَمَا إذَا صَلَّى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي السُّوقِ مَثَلًا . وَالْأَوَّلُ عِنْدِي : أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَشْرُوعِيَّةِ إنَّمَا كَانَ فِي جَمَاعَةِ الْمَسَاجِدِ . هَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ لَا يَتَأَتَّى إلْغَاؤُهُ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي صَدَّرْنَا بِهَا هَذَا الْبَحْثَ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ نَظَرٌ فِي أَنَّ إقَامَةَ الشِّعَارِ هَلْ تَتَأَدَّى بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْبُيُوتِ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي بَحَثْنَاهُ أَوَّلًا : هُوَ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ هَلْ تَتَضَاعَفُ بِالْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ أَمْ لَا ؟

الْبَحْثُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ } يَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا : هَلْ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ جَمَاعَةً ، أَوْ تَفْضُلُ عَلَيْهَا مُنْفَرِدًا ؟ أَمَّا الْحَدِيثُ : فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً تَفْضُلُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى بِهَذَا الْقَدْرِ . لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ } مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ . لِأَنَّهُ قُوبِلَ بِالصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ . وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ : لَمْ تَحْصُلْ الْمُقَابَلَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قِسْمُ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ . وَهُوَ بَاطِلٌ . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَاتُهُ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ " عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْأَفْرَادَ وَالْجَمَاعَةَ . وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْفِرَادِ فِي الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ " الْأَسْوَاقَ مَوْضِعُ الشَّيَاطِينِ " فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهَا نَاقِصَةُ الرُّتْبَةِ ، كَالصَّلَاةِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَكْرُوهَةِ لِأَجْلِ الشَّيَاطِينِ ، كَالْحَمَّامِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - وَإِنْ أَمْكَنَ فِي السُّوقِ - لَيْسَ يُطَّرَدُ فِي الْبَيْتِ . فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَاوَى فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ جَمَاعَةً مَعَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي السُّوقِ جَمَاعَةً ، فِي مِقْدَارِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ . فَإِنَّ الْأَصْلَ : أَنْ لَا يَتَسَاوَى مَا وُجِدَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَعَ مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ . هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ . وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِمَّا يَقْتَضِيه السِّيَاقُ : أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَسُوقِهِ مُنْفَرِدًا : فَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى مُنْفَرِدًا . وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ اسْتِبْعَادِ تَسَاوِي صَلَاتِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ صَلَاتِهِ فِي السُّوقِ جَمَاعَةً فِيهِمَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ مَعْنَى السُّوقِ ، مَعَ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ . وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِنُقْصَانِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ . يَلْزَمُهُ تَسَاوِي مَا وُجِدَتْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ مُعْتَبَرَةٌ مَعَ مَا لَمْ تُوجَدْ فِيهِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ فِي مِقْدَارِ التَّفَاضُلِ . أَمَّا إذَا جَعَلْنَا التَّفَاضُلَ بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاتِهَا فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ مُنْفَرِدًا ، فَوَصْفُ " السُّوقِ " هَاهُنَا مُلْغَى ، غَيْرُ مُعْتَبَرٍ . فَلَا يَلْزَمُ تَسَاوِي مَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مَعَ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ فِي مِقْدَارِ التَّفَاضُلِ . وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا السُّوقَ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَكْرُوهَةِ لِلصَّلَاةِ . وَبِهَذَا فَارَقَ الْحَمَّامَ الْمُسْتَشْهَدَ بِهَا .

الْبَحْثُ الرَّابِعُ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لَا تُلْغَى . فَلْيُنْظَرْ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ ، وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعْتَبَرًا مِنْهَا وَمَا لَا . أَمَّا وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ : فَحَيْثُ يُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ إلَى الْمَسْجِدِ ، يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَاوَى مَعَ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ وَصْفَ الرُّجُولِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَوَابِ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا . وَأَمَّا الْوُضُوءُ فِي الْبَيْتِ : فَوَصْفُ كَوْنِهِ فِي الْبَيْتِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّعْلِيلِ . وَأَمَّا الْوُضُوءُ : فَمُعْتَبَرٌ لِلْمُنَاسِبَةِ ، لَكِنْ : هَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ طَاهِرًا ، أَوْ فِعْلُ الطَّهَارَةِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ . وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ ، لَكِنْ الْأَظْهَرُ : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا تَوَضَّأَ " لَا يَتَقَيَّدُ بِالْفِعْلِ . وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَلَبَةِ ، أَوْ ضَرْبَ الْمِثَالِ . وَأَمَّا إحْسَانُ الْوُضُوءِ : فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ . وَبِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُ الطَّهَارَةِ . لَكِنْ يَبْقَى مَا قُلْنَاهُ : مِنْ خُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، أَوْ ضَرْبَ الْمِثَالِ وَأَمَّا خُرُوجُهُ إلَى الصَّلَاةِ : فَيُشْعِرُ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِأَجْلِهَا . وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { لَا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ } وَهَذَا وَصْفٌ مُعْتَبَرٌ . وَأَمَّا صَلَاتُهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ : فَبِالضَّرُورَةِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا . فَإِنَّهَا مَحِلُّ الْحُكْمِ . الْبَحْثُ الْخَامِسُ : الْخُطْوَةُ - بِضَمِّ الْخَاءِ - مَا بَيْنَ قَدَمَيْ الْمَاشِي ، وَبِفَتْحِهَا : الْفَعْلَةُ . وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ مَفْتُوحَةٌ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُ الْمَاشِي .

 

59 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : صَلَاةُ الْعِشَاءِ ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ . وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا . وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ ، ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ ، فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَثْقَلُ الصَّلَاةِ " مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ . لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا " وَقَوْلُهُ " وَلَقَدْ هَمَمْتُ - إلَى قَوْلِهِ - لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ " كُلُّ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ : حُضُورُهُمْ إلَى جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ . الثَّانِي : إنَّمَا كَانَتْ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ . لِقُوَّةِ الدَّاعِي إلَى تَرْكِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِيهِمَا ، وَقُوَّةِ الصَّارِفِ عَنْ الْحُضُورِ ، أَمَّا الْعِشَاءُ : فَلِأَنَّهَا وَقْتُ الْإِيوَاءِ إلَى الْبُيُوتِ وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ الْأَهْلِ ، وَاجْتِمَاعِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ، وَطَلَبِ الرَّاحَةِ مِنْ مَتَاعِبِ السَّعْيِ بِالنَّهَارِ . وَأَمَّا الصُّبْحُ : فَإِنَّهَا فِي وَقْتِ لَذَّةِ النَّوْمِ . فَإِنْ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ فَفِي وَقْتِ شِدَّتِهِ ، لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالشَّمْسِ ، لِطُولِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي زَمَنِ الْحَرِّ : فَهُوَ وَقْتُ الْبَرْدِ وَالرَّاحَةِ مِنْ أَثَرِ حَرِّ الشَّمْسِ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِهَا . فَلَمَّا قَوِيَ الصَّارِفُ عَنْ الْفِعْلِ ثَقُلَتْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ : فَهُوَ عَالِمٌ بِزِيَادَةِ الْأَجْرِ لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأُمُورُ دَاعِيَةً لَهُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ ، كَمَا كَانَتْ صَارِفَةً لِلْمُنَافِقِينَ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا " أَيْ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ " لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا " وَهَذَا كَمَا قُلْنَا : إنَّ هَذِهِ الْمَشَقَّاتِ تَكُونُ دَاعِيَةً لِلْمُؤْمِنِ إلَى الْفِعْلِ

الثَّالِثُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ فَقِيلَ : سُنَّةٌ . وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَقِيلَ : فَرْضُ كِفَايَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ . وَقِيلَ : فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ . قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ . فَقِيلَ : شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ . وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ دَاوُد . وَقِيلَ : إنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ : أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ . فَمَنْ قَالَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ : قَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، فَقَدْ كَانَ هَذَا الْفَرْضُ قَائِمًا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا سُنَّةٌ ، فَلَا يُقْتَلُ تَارِكُ السُّنَنِ . فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا عَلَى وُجُوهٍ ، فَقِيلَ : إنَّ هَذَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَجِدَ عَظْمًا سَمِينًا ، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ } وَهَذِهِ لَيْسَتْ صِفَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَا سِيَّمَا أَكَابِرُهُمْ وَهُمْ الصَّحَابَةُ . وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ : كَانَ التَّحْرِيقُ لِلنِّفَاقِ ، لَا لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ قِيلَ : إنَّ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ : فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ ؛ عَالِمًا بِطَوِيَّاتِهِمْ . كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِضْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ ، وَلَا عَاتَبَهُمْ مُعَاتَبَةَ كَعْبٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ تَرْكُ مُعَاقَبَةِ الْمُنَافِقِينَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِهَذَا التَّحْرِيقِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ : إنَّ تَرْكَ عِقَابِ الْمُنَافِقِينَ وَعِقَابُهُمْ كَانَ مُبَاحًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِيهِ . فَعَلَى هَذَا : لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُنَافِقِينَ ، لِجَوَازِ مُعَاقَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ ، وَلَيْسَ فِي إعْرَاضِهِ عَنْهُمْ بِمُجَرَّدِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَلَعَلَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا طُلِبَ مِنْهُ قَتْلُ بَعْضِهِمْ - " لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ " يُشْعِرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّخْيِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ قَتْلِهِمْ لَكَانَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ . وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ " إنَّ ذَلِكَ فِي الْمُنَافِقِينَ " عِنْدِي : سِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ . وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ " . وَجْهٌ آخَرُ فِي تَقْدِيرِ كَوْنِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ : أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : هَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ ، وَتَرْكُهُ التَّحْرِيقَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هَذَا التَّرْكِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ جَوَازُ التَّحْرِيقِ وَجَوَازُ تَرْكِهِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ . وَهَذَا الْمَجْمُوعُ لَا يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى . وَمِمَّا أُجِيبَ بِهِ عَنْ حُجَّةِ أَصْحَابِ الْوُجُوبِ عَلَى الْأَعْيَانِ : مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى دَاوُد ، لَا لَهُ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ ، وَلَمْ يَفْعَلْ . وَلِأَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَصَلَاتُهُ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ . وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيَانِ . وَأَقُولُ : أَمَّا الْأَوَّلُ : فَضَعِيفٌ جِدًّا ، إنْ سَلَّمَ الْقَاضِي أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَهُمُّ إلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ . وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُهُ " وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَصَلَاتُهُ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ " وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيَانِ - فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْبَيَانُ قَدْ يَكُونُ بِالتَّنْصِيصِ وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ ، وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَقَدْ هَمَمْتُ " إلَى آخِرِهِ : دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ عَلَيْهِمْ لِلْجَمَاعَةِ . فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا غَالِبًا . كَانَ ذِكْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا الْهَمِّ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْحُضُورِ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ . فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الْهَمِّ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ . وَهُوَ وُجُوبُ الْحُضُورِ . وَوُجُوبُ الْحُضُورِ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْحُضُورِ . فَذِكْرُ هَذَا الْهَمِّ بَيَانٌ لِلِاشْتِرَاطِ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا ، كَمَا قُلْنَا . إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ الْغَالِبُ . وَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ الشَّرْطِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ - فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ - إنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ، غَيْرُ شَرْطٍ . وَمِمَّا أُجِيبَ بِهِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْمُوجِبِينَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ : أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهَا . فَقِيلَ : الْعِشَاءُ . وَقِيلَ : الْجُمُعَةُ . وَقَدْ وَرَدَتْ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفَسَّرَةً فِي الْحَدِيثِ . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " الْعِشَاءُ ، أَوْ الْفَجْرُ " فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الْجُمُعَةُ - وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ فِيهَا - لَمْ يَتِمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي بُيِّنَتْ فِيهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ : أَهِيَ الْجُمُعَةُ ، أَوْ الْعِشَاءُ ، أَوْ الْفَجْرُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً ، قِيلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا . وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الطُّرُقُ ، فَقَدْ يَتِمُّ هَذَا الْجَوَابُ ، إنْ عُدِمَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ بَعْضِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَبَعْضٍ ، وَعُدِمَ إمْكَانُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مَذْكُورًا . فَتَرْكُ بَعْضِ الرُّوَاةِ بَعْضَهُ ظَاهِرًا ، بِأَنْ يُقَالُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ . أَعْنِي الْجُمُعَةَ ، أَوْ الْعِشَاءَ - مَثَلًا - فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْجُمُعَةُ : لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ . وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعِشَاءُ : يَتِمُّ . وَإِذَا تَرَدَّدَ الْحَالُ وَقَفَ الِاسْتِدْلَال . وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ هُنَا : أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ بِالتَّحْرِيقِ إذَا وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ - وَهِيَ الْعِشَاءُ ، أَوْ الْجُمُعَةُ ، أَوْ الْفَجْرُ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ . فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ : أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ ، عَمَلًا بِالظَّاهِرِ ، وَتَرْكِ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامُ } عَلَى عُمُومِ الصَّلَاةِ . فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ لَفْظِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقِهِ ، وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ . فَيُحْمَلُ لَفْظُ " الصَّلَاةِ " عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ التَّحْقِيقُ وَطَلَبُ الْحَقِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَلَقَدْ هَمَمْتُ . .. " إلَخْ . أُخِذَ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ . وَسِرُّهُ : أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ بِالْأَهْوَنِ مِنْ الزَّوَاجِرِ اُكْتُفِيَ بِهِ مِنْ الْأَعْلَى .

60 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعُهَا . قَالَ : فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ . قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا ، مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ ، وَقَالَ : أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ : وَاَللَّهُ لَنَمْنَعَهُنَّ ؟ } وَفِي لَفْظٍ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } .

الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ لِلنِّسَاءِ عَنْ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ } يُشْعِرُ أَيْضًا بِطَلَبِهِنَّ لِلْخُرُوجِ فَإِنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْمُقْتَضَى . وَيَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إبَاحَتُهُ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا لَمْ يَنْهَ الرِّجَالَ عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْهُ . وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي النِّسَاءِ ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ خَصُّوهُ بِشُرُوطٍ وَحَالَاتٍ : مِنْهَا : أَنْ لَا يَتَطَيَّبْنَ . وَهَذَا الشَّرْطُ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ . فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ } وَفِي بَعْضِهَا { إذَا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا } وَفِي بَعْضِهَا { إذَا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ } فَأَلْحَقَ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ . فَإِنَّ الطِّيبَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ دَاعِيَةِ الرِّجَالِ وَشَهْوَتِهِمْ . وَرُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَحْرِيكِ شَهْوَةِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا . فَمَا أَوْجَبَ هَذَا الْمَعْنَى الْتَحَقَ بِهِ . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } وَيَلْحَقُ بِهِ أَيْضًا : حُسْنُ الْمَلَابِسِ ، وَلُبْسُ الْحُلِيِّ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الزِّينَةِ . وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ " لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ : لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ " عَلَى هَذَا ، تَعْنِي إحْدَاثَ حُسْنِ الْمَلَابِسِ وَالطِّيبِ وَالزِّينَةِ . وَمِمَّا خَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ : أَنَّ مَنْعَ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ الْمَشْهُورَةِ . وَمِمَّا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ : أَنْ يَكُونَ بِاللَّيْلِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى . فَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ { لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ } فَالتَّقْيِيدُ بِاللَّيْلِ قَدْ يُشْعِرُ بِمَا قَالَ . وَمِمَّا قِيلَ أَيْضًا فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنْ لَا يُزَاحِمْنَ الرِّجَالَ . وَبِالْجُمْلَةِ : فَمَدَارُ هَذَا كُلِّهِ النَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى . فَمَا اقْتَضَاهُ الْمَعْنَى مِنْ الْمَنْعِ جُعِلَ خَارِجًا عَنْ الْحَدِيثِ . وَخُصَّ الْعُمُومُ بِهِ . وَفِي هَذَا زِيَادَةٌ . وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ وَقَعَ عَلَى بَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ التَّخْصِيصُ ، وَهُوَ عَدَمُ الطِّيبِ . وَقِيلَ : إنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ امْرَأَتَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ . وَهَذَا إنْ أُخِذَ مِنْ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ جَوَازَ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ ، فَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ : بِأَنَّ هَذَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِاللَّقَبِ . وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا : إنَّ مَنْعَ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ مَشْهُورٌ مُعْتَادٌ . وَقَدْ قُرِّرُوا عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْمَسَاجِدِ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْجَوَازِ ، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ الْمَعْلُومِ . فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْمَنْعِ . وَعَلَى هَذَا : فَلَا يَكُونُ مَنْعُ الرَّجُلِ لِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ لِغَيْرِ الْمَسْجِدِ مَأْخُوذًا مِنْ تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِالْمَسْجِدِ فَقَطْ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } مُنَاسَبَةً تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ . أَعْنِي كَوْنَهُنَّ " إمَاءَ اللَّهِ " بِالنِّسْبَةِ إلَى خُرُوجِهِنَّ إلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ . وَلِهَذَا كَانَ التَّعْبِيرُ بِإِمَاءِ اللَّهِ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالنِّسَاءِ لَوْ قِيلَ . وَإِذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْجَوَازِ ، وَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ . وَالْمُرَادُ بِالِانْتِفَاءِ هَا هَاهُنَا : انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ ، أَيْ لِلصَّلَاةِ . وَأُخِذَ مِنْ إنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى وَلَدِهِ وَسَبِّهِ إيَّاهُ : تَأْدِيبُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى السُّنَنِ بِرَأْيِهِ . الْعَامِلِ بِهَوَاهُ ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ ، وَتَأْدِيبُ الْعَالِمِ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ إذَا تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي . وَقَوْلُهُ " فَقَالَ بِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَفِي رِوَايَةِ وَرْقَاءَ بْنِ عُمَرَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ ابْنٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ : وَاقِدٌ " وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَبْنَاءٌ . مِنْهُمْ بِلَالٌ . وَمِنْهُمْ وَاقِدٌ .

 

61 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ . } وَفِي لَفْظِ " فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ : فَفِي بَيْتِهِ " . وَفِي لَفْظٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ " حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ . وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا } .

هَذَا الْحَدِيثُ : يَتَعَلَّقُ بِالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعَدَدُ مِنْهَا . وَفِي تَقْدِيمِ السُّنَنِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا : مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ . أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ : فَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا . فَتَتَكَيَّفُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ بِحَالَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْخُشُوعِ فِيهَا ، الَّذِي هُوَ رُوحُهَا . فَإِذَا قُدِّمَتْ السُّنَنُ عَلَى الْفَرِيضَةِ تَأَنَّسَتْ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تَقْرُبُ مِنْ الْخُشُوعِ . فَيَدْخُلُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ لَمْ تَكُنْ تَحْصُلُ لَهُ لَوْ لَمْ تُقَدَّمْ السُّنَّةُ . فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّكَيُّفِ بِمَا هِيَ فِيهِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَ أَوْ طَالَ . وَوُرُودُ الْحَالَةِ الْمُنَافِيَةِ لِمَا قَبْلَهَا قَدْ يَمْحُو أَثَرَ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ أَوْ يُضْعِفُهُ . وَأَمَّا السُّنَنُ الْمُتَأَخِّرَةُ : فَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ . فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ خَلَلًا فِيهِ إنْ وَقَعَ .

وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ الرَّوَاتِبِ فِعْلًا وَقَوْلًا . وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الِاخْتِيَارِ لِتِلْكَ الْأَعْدَادِ وَالرَّوَاتِبِ . وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ : وَإِنَّمَا يُوَقِّتُ فِي هَذَا أَهْلُ الْعِرَاقِ . وَالْحَقُّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي هَذَا الْبَابِ - أَعْنِي مَا وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوَافِلِ الْمُرْسَلَةِ - أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ عَدَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ ، أَوْ هَيْئَةٍ مِنْ الْهَيْئَاتِ ، أَوْ نَافِلَةٍ مِنْ النَّوَافِلِ : يُعْمَلُ بِهِ فِي اسْتِحْبَابِهِ ثُمَّ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ . فَمَا كَانَ الدَّلِيلُ دَالًّا عَلَى تَأَكُّدِهِ - إمَّا بِمُلَازَمَتِهِ فِعْلًا ، أَوْ بِكَثْرَةِ فِعْلِهِ ، وَإِمَّا بِقُوَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى تَأَكُّدِ حُكْمِهِ ، وَإِمَّا بِمُعَاضَدَةِ حَدِيثٍ آخَرَ لَهُ ، أَوْ أَحَادِيثَ فِيهِ - تَعْلُو مَرْتَبَتُهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ . وَمَا يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَنْتَهِي إلَى الصِّحَّةِ ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا عُمِلَ بِهِ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ صَحِيحٌ أَقْوَى مِنْهُ . وَكَانَتْ مَرْتَبَتُهُ نَاقِصَةً عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ، أَعْنِي الصَّحِيحَ الَّذِي لَمْ يَدُمْ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يُؤَكَّدْ اللَّفْظُ فِي طَلَبِهِ . وَمَا كَانَ ضَعِيفًا لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَوْضُوعِ ، فَإِنْ أَحْدَثَ شِعَارًا فِي الدِّينِ : مُنِعَ مِنْهُ . وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ . يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِفِعْلِ الْخَيْرِ ، وَاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ بِالْوَقْتِ أَوْ بِالْحَالِ وَالْهَيْئَةِ ، وَالْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ : يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ بِخُصُوصِهِ . وَهَذَا أَقْرَبُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ . الْأُولَى : أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ ، فَشَرْطُهُ : أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مِثَالُهُ : الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ : لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ ، وَلَا حَسُنَ . فَمَنْ أَرَادَ فِعْلَهَا - إدْرَاجًا لَهَا تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ - لَمْ يَسْتَقِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى أَنْ تُخَصَّ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ " وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ الْعُمُومِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي قُلْنَاهُ - مِنْ جَوَازِ إدْرَاجِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ - نُرِيدُ بِهِ فِي الْفِعْلِ ، لَا فِي الْحُكْمِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ بِهَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِاسْتِحْبَابِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْخَاصَّةِ : يَحْتَاجُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَا بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَا بِاحْتِمَالِهِ . الثَّالِثُ : قَدْ مَنَعْنَا إحْدَاثَ مَا هُوَ شِعَارٌ فِي الدِّينِ . وَمِثَالُهُ : مَا أَحْدَثَتْهُ الرَّوَافِضُ مِنْ عِيدٍ ثَالِثٍ ، سَمَّوْهُ عِيدَ الْغَدِيرِ . وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ وَإِقَامَةُ شِعَارِهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ ، لَمْ يَثْبُتْ شَرْعًا . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ مُرَتَّبَةً عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ . فَيُرِيدُ بَعْضُ النَّاسِ : أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا أَمْرًا آخَرَ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، زَاعِمًا أَنَّهُ يُدْرِجُهُ تَحْتَ عُمُومٍ . فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعِبَادَاتِ التَّعَبُّدُ ، وَمَأْخَذُهَا التَّوْقِيفُ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ : حَيْثُ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ أَوْ مَنْعِهِ . فَأَمَّا إذَا دَلَّ فَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَنْعِ وَأَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ . وَلَعَلَّ مِثَالَ ذَلِكَ ، مَا وَرَدَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ . فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ رَفْعُ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ مُطْلَقًا . فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : يَرْفَعُ الْيَدَ فِي الْقُنُوتِ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ . فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى هَيْئَةِ الْعِبَادَةِ التَّعَبُّدُ وَالتَّوْقِيفُ . وَالصَّلَاةُ تُصَانُ عَنْ زِيَادَةِ عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِيهَا . فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ فِي رَفْعِ الْيَدِ فِي الْقُنُوتِ : كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى صِيَانَةِ الصَّلَاةِ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَمْ يُشَرَّعْ : أَخَصَّ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفْعِ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ . الرَّابِعُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَنْعِ : فَتَارَةً يَكُونُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ ، وَتَارَةً مَنْعَ كَرَاهَةٍ . وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الشَّرْعِ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي الِابْتِدَاعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ التَّخْفِيفِ . أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا : لَمْ تُسَاوِ الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأُمُورِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ . وَلَعَلَّهَا - أَعْنِي الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا - لَا تُكْرَهُ أَصْلًا . بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ . وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ : لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لِلْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ . فَهَذَا مَا أَمْكَنَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ الْقَوِيَّةِ ، لِعَدَمِ الضَّبْطِ فِيهِ بِقَوَانِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لِلسَّابِقِينَ . وَقَدْ تَبَايَنَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ تَبَايُنًا شَدِيدًا ، حَتَّى بَلَغَنِي : أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ مَرَّ فِي لَيْلَةٍ مِنْ إحْدَى لَيْلَتَيْ الرَّغَائِبِ - أَعْنِي الَّتِي فِي رَجَبٍ ، أَوْ الَّتِي فِي شَعْبَانَ - بِقَوْمٍ يُصَلُّونَهَا ، وَقَوْمٍ عَاكِفِينَ عَلَى مُحَرَّمٍ ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ . فَحَسَّنَ حَالَ الْعَاكِفِينَ عَلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى حَالِ الْمُصَلِّينَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ . وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَاكِفِينَ عَلَى الْمُحَرَّمِ عَالِمُونَ بِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ ، فَيُرْجَى لَهُمْ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ ، وَالْمُصَلُّونَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ - مَعَ امْتِنَاعِهَا عِنْدَهُ - مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ . فَلَا يَتُوبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ . وَالتَّبَايُنُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْحَرْفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَهُوَ إدْرَاجُ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ ، أَوْ طَلَبُ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ . وَمَيْلُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى هَذَا الثَّانِي . وَقَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَا يُؤَيِّدُهُ فِي مَوَاضِعَ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى " إنَّهَا بِدْعَةٌ " ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهَا دَلِيلٌ . وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهَا تَحْتَ عُمُومَاتِ الصَّلَاةِ لِتَخْصِيصِهَا بِالْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْقُنُوتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي عَصْرِهِ " إنَّهُ بِدْعَةٌ " وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهُ تَحْتَ عُمُومَاتِ الدُّعَاءِ . وَكَذَلِكَ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ لِابْنِهِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ " إيَّاكَ وَالْحَدَثَ " وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهُ تَحْتَ دَلِيلٍ عَامٍّ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ " ذُكِرَ لِابْنِ مَسْعُودٍ قَاصٌّ يَجْلِسُ بِاللَّيْلِ ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ : قُولُوا كَذَا ، وَقُولُوا كَذَا . فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي . قَالَ : فَأَخْبَرُوهُ . فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مُتَقَنِّعًا . فَقَالَ : مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي . وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، يَعْنِي أَوْ إنَّكُمْ لَمُتَعَلِّقُونَ بِذَنْبٍ ضَلَالَةً " وَفِي رِوَايَةٍ " لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظَلْمَاءَ ، أَوْ لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا " فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ هَذَا الْفِعْلَ ، مَعَ إمْكَانِ إدْرَاجِهِ تَحْتَ عُمُومِ فَضِيلَةِ الذِّكْرِ . عَلَى أَنَّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي الْقُنُوتِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَاتِ . الْخَامِسُ : ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ . وَلَا تَظْهَرُ لَهُ مُنَاسَبَةٌ ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ : أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَعْنَاهُ : أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ . فَلَيْسَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوِيَّةً . فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ الْمَعِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ . وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا . وَمِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ : أَنَّهُ أَوْرَدَ عَقِيبَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّهَا قَالَتْ { لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَهَذَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ .

 

62 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُقَدَّمُ الذِّكْرَ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَأَكُّدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمَا فِي الْفَضِيلَةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِك . أَعْنِي فِي قَوْلِهِ " إنَّهُمَا سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ " بَعْدَ اصْطِلَاحِهِمْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْفَضِيلَةِ . وَذَكَرَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ قَانُونًا فِي ذَلِكَ . وَهُوَ أَنَّ مَا وَاظَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، مُظْهِرًا لَهُ فِي جَمَاعَةٍ ، فَهُوَ سُنَّةٌ . وَمَا لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ ، وَعَدَّهُ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرِ ، فَهُوَ فَضِيلَةٌ . وَمَا وَاظَبَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ - وَهَذَا مِثْلُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ - فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سُنَّةٌ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَضِيلَةٌ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ رَاجَعَا إلَى الِاصْطِلَاحِ : فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ . فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ فِي التَّسْمِيَاتِ عَلَى وَضْعٍ يَرَاهُ . وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى اخْتِلَافٍ فِي مَعْنًى . فَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأَكُّدُ أَمْرِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِمَا . وَمُقْتَضَاهُ : تَأَكُّدُ اسْتِحْبَابِهِمَا . فَلْيَقُلْ بِهِ . وَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ يُسَمِّيهَا سُنَّةً ، وَإِنْ أُرِيدَ : أَنَّهُمَا مَعَ تَأَكُّدِهِمَا أَخْفَضُ رُتْبَةً مِمَّا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُظْهِرًا لَهُ فِي الْجَمَاعَةِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ رُتَبَ الْفَضَائِلِ تَخْتَلِفُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا سُمِّيَ بِالسُّنَّةِ أَعْلَاهَا رُتْبَةً : رَجَعَ ذَلِكَ إلَى الِاصْطِلَاحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

باب الأذان :

63 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } .

الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ : أَنَّ قَوْلَهُ " أُمِرَ " رَاجِعٌ إلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَا " أُمِرْنَا " وَ " نُهِينَا " ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ : انْصِرَافُهُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ شَرْعًا . وَمَنْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا . وَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالتَّقْدِيرَاتِ فِيهَا : لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيتَارِ فِي لَفْظِ الْإِقَامَةِ . وَيَخْرُجُ عَنْهُ التَّكْبِيرُ الْأَوَّلُ ، فَإِنَّهُ مَثْنَى وَالتَّكْبِيرُ الْأَخِيرُ أَيْضًا . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : بِأَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ كَالْأَذَانِ مُثَنَّاةٌ . وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ لَفْظُ " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " فَقَالَ مَالِكٌ : يُفْرَدُ . وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ لَهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُثَنَّى ، لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . . وَهُوَ قَوْلُهُ { أُمِرَ بِلَالٌ بِأَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ، إلَّا الْإِقَامَةَ } أَيْ إلَّا لَفْظَ " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - مَعَ مَا مَرَّ مِنْ الْحَدِيثِ - قَدْ أُيِّدَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَنَقْلِهِمْ . وَفِعْلُهُمْ فِي هَذَا قَوِيٌّ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَةَ النَّقْلِ وَالْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ : تَقْتَضِي شُيُوعَ الْعَمَلِ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ تَغَيَّرَ لَعُلِمَ وَعُمِلَ بِهِ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . أَوْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ وَالِانْتِشَارُ ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالصَّاعِ وَالْمُدِّ ، وَالْأَوْقَاتِ ، وَعَدَمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ : وَالصَّحِيحُ التَّعْمِيمُ . وَمَا قَالَهُ : غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا جَزْمًا . وَلَا فَرْقَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عِصْمَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ . نَعَمْ مَا طَرِيقَةُ النَّقْلِ إذَا عُلِمَ اتِّصَالُهُ ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ ، وَاقْتَضَتْ الْعَادَةُ مَشْرُوعِيَّتَهُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، وَلَوْ بِالتَّقْرِيرِ عَلَيْهِ - فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيٌّ يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ عَادِيٍّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الْأَذَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إذَا أَمَرَ بِالْوَصْفِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مَأْمُورًا بِهِ . وَظَاهِرُ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ . وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا . وَالْمَشْهُورُ : أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ سُنَّتَانِ . وَقِيلَ : هُمَا فَرْضَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مُتَمَسِّكٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ كَمَا قُلْنَا .

 

 

64 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ قَالَ { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أُدْمٍ - قَالَ : فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوءٍ ، فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ ، قَالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ ، قَالَ : فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ ، قَالَ : فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا ، يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ؛ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ نَزَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ }

قَوْلُهُ " عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " هُوَ الْمَشْهُورُ . وَقِيلَ : وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ وَقِيلَ : وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ ، وَالسُّوَائِيُّ فِي نَسَبِهِ - مَضْمُومُ السِّينِ مَمْدُودٌ - نِسْبَةً إلَى سُوَاءَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . مَاتَ فِي إمَارَةِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْكُوفَةِ وَقِيلَ : سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ . وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ " فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوءٍ " بِفَتْحِ الْوَاوِ بِمَعْنَى الْمَاءِ ، وَهَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْمَاءِ ، أَوْ بِقَيْدِ الْإِضَافَةِ إلَى الْوُضُوءِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ ، قَدْ مَرَّ . وَقَوْلُهُ " فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ " النَّضْحُ : الرَّشُّ . قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَنَالُ مِنْهُ مَا لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَبَعْضَهُمْ كَانَ يَنَالُ مِنْهُ مَا يَنْضَحُهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَتَشْهَدُ لَهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " فَرَأَيْتُ بِلَالًا أَخْرَجَ وَضُوءًا . فَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ . فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ . وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ " . الثَّانِي : يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ الْتِمَاسُ الْبَرَكَةِ بِمَا لَابَسَهُ الصَّالِحُونَ بِمُلَابَسَتِهِ . فَإِنَّهُ وَرَدَ فِي الْوَضُوءِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيُعَدَّ بِالْمَعْنَى إلَى سَائِرِ مَا يُلَابِسُهُ الصَّالِحُونَ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا ، يُرِيدُ يَمِينًا وَشِمَالًا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْمُؤَذِّنِ لِلِاسْتِمَاعِ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى الصَّلَاةِ . وَهُوَ وَقْتُ التَّلَفُّظِ بِالْحَيْعَلَتَيْنِ . وَقَوْلُهُ " يَقُولُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " يُبَيِّنُ وَقْتَ الِاسْتِدَارَةِ . وَأَنَّهُ وَقْتُ الْحَيْعَلَتَيْنِ . وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ هَلْ تَكُونُ قَدَمَاهُ قَارَّتَيْنِ مُسْتَقْبِلَتَيْ الْقِبْلَةَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَّا بِوَجْهِهِ دُونَ بَدَنِهِ ، أَوْ يَسْتَدِيرُ كُلُّهُ ؟ الثَّانِي : هَلْ يَسْتَدِيرُ مَرَّتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " وَالْأُخْرَى عِنْدَ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " أَوْ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَيَقُولُ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " مَرَّةً ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ شِمَالًا فَيَقُولُ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " أُخْرَى . ثُمَّ يَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَيَقُولُ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " مَرَّةً ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ شِمَالًا فَيَقُولُ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " أُخْرَى ؟ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَدْ رُجِّحَ هَذَا الثَّانِي بِأَنَّهُ يَكُونُ لِكُلِّ جِهَةٍ نَصِيبٌ مِنْ كَلِمَةٍ وَقِيلَ : إنَّهُ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ . وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي إلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ : هُوَ الْأَوَّلُ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ رَكَزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ " أَيْ أَثْبَتَتْ فِي الْأَرْضِ . يُقَالُ : رَكَزْتُ الشَّيْءَ أَرْكُزُهُ - بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ - رَكْزًا : إذَا أَثْبَتَهُ وَ " الْعَنَزَةُ " قِيلَ : هِيَ عَصًا فِي طَرَفِهَا زُجٌّ . وَقِيلَ : الْحَرْبَةُ الصَّغِيرَةُ .

الْخَامِسُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ وَضْعِ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي ، حَيْثُ يُخْشَى الْمُرُورُ كَالصَّحْرَاءِ . وَدَلِيلٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِي السُّتْرَةِ بِمِثْلِ غِلَظِ الْعَنَزَةِ . وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرُورَ مِنْ وَرَاءِ السُّتْرَةِ غَيْرُ ضَارٍ .

السَّادِسُ : قَوْلُهُ " ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ " هُوَ إخْبَارٌ عَنْ قَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ ، وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ . وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهِ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ . السَّابِع : لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَوْضِعَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَهَا فِيهَا " أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ . وَهُوَ بِالْأَبْطُحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أُدْمٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُبَيِّنَةُ مُفِيدَةٌ لِفَائِدَةٍ زَائِدَةٍ . فَإِنَّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمُبْهَمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهَا . وَعَلَى هَذَا يُشْكِلُ قَوْلُهُ " فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ " عَلَى مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّفَرَ تَكُونُ لَهُ نِهَايَةٌ يُوصَلُ إلَيْهَا قَبْلَ الرُّجُوعِ . وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْقَصْرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . أَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ الِاجْتِمَاعُ بِالْأَبْطُحِ . فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الظُّهْرِ الَّتِي أَدْرَكَهَا ابْتِدَاءَ الرُّجُوعِ . وَيَكُونُ قَوْلُهُ " حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ " انْتِهَاءَ الرُّجُوعِ .

 

. 65 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ } .

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ . وَقَدْ اسْتَحَبَّهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ . فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ . وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُسْتَحَبًّا ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ مَكْرُوهًا ، كَمَا تَقَدَّمَ . أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى مُؤَذِّنَيْنِ : فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لَهُ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ . وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَعَدَّدَ الْمُؤَذِّنُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَتَّبُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِذَلِكَ ، كَمَا فِي أَذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُمَا وَقَعَا مُتَرَتِّبَيْنِ ؛ لَكِنْ فِي صَلَاةٍ يَتَّسِعُ وَقْتُ أَدَائِهَا ، كَصَلَاةِ الْفَجْرِ . وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ : فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهَا مُؤَذِّنَانِ . وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا : يَتَخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيُؤَذِّنُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا . ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ . وَالْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافُهُ ؛ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهِ ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَكُونُ فِي وَقْتِ السَّحَرِ بَيْنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ ، قَالَ : وَيُكْرَهُ التَّقْدِيمُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ مَا يُقَرِّبُ هَذَا . وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ " إخْبَارٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ لِلسَّامِعِينَ قَطْعًا . وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْأَذَانِ مُشْتَبَهًا ، مُحْتَمِلًا لَأَنْ يَكُونَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلَّا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ وَقْتِ أَذَانِ بِلَالٍ مِنْ الْفَجْرِ .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ أَعْمَى . فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ أَعْمَى . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَعْمَى لِلْبَصِيرِ فِي الْوَقْتِ ، أَوْ جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِ . فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَذَلِكَ إمَّا سَمَاعٌ مِنْ بَصِيرٍ ، أَوْ اجْتِهَادٌ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { وَكَانَ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لَهُ : أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْبَصِيرِ ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُجُوعِهِ إلَى الِاجْتِهَادِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُبْهَمًا لَا يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا . وَاسْمُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فِيمَا قِيلَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

66 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : إجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ مَطْلُوبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِجَابَةِ ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ بِحِكَايَةِ لَفْظِ الْمُؤَذِّنِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ سَامِعَ الْمُؤَذِّنِ يُبْدِلُ الْحَيْعَلَةَ بِالْحَوْلَقَةِ - وَيُقَالُ الْحَوْقَلَةُ - لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهَا ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ لِخُصُوصِهِ وَعُمُومِ هَذَا . وَذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى : أَنَّ الْأَذْكَارَ الْخَارِجَةَ عَنْ الْحَيْعَلَةِ يَحْصُلُ ثَوَابُهَا بِذِكْرِهَا ، فَيَشْتَرِكُ السَّامِعُ وَالْمُؤَذِّنُ فِي ثَوَابِهَا إذَا حَكَاهَا السَّامِعُ ، وَأَمَّا الْحَيْعَلَةُ : فَمَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ الْمُؤَذِّنِ وَحْدَهُ ، وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ السَّامِعِ ، فَعُوِّضَ عَنْ الثَّوَابِ الَّذِي يَفُوتُهُ بِالْحَيْعَلَةِ الثَّوَابَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِالْحَوْقَلَةِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَحْكِيهِ إلَى آخِرِ التَّشَهُّدَيْنِ فَقَطْ . الثَّانِي : الْمُخْتَارُ : أَنْ يَكُونَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ عَقِيبَ قَوْلِهِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ " إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ " مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُ . وَالْفَاءُ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ . فَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ : اقْتَضَى تَعْقِيبَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بِقَوْلِ الْحَاكِي . وَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ . الثَّالِثُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ إذَا سَمِعَهُ فِي حَالَ الصَّلَاةِ : هَلْ يُجِيبُهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُجِيبُ ، لِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالثَّانِي : لَا يُجِيبُ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا . كَمَا وَرَدَ . حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ دُونَ الْفَرِيضَةِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّافِلَةِ أَخَفُّ . وَذَكَرَ بَعْضُ مُصَنِّفِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ هَلْ يُكْرَهُ إجَابَتُهُ فِي الْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الْأَذَانِ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَجْهَانِ ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ . وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِمَا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . أَمَّا الْحَيْعَلَةُ : فَإِمَّا أَنْ يُجِيبَ بِلَفْظِهَا أَوْ لَا . فَإِنْ أَجَابَ بِالْحَوْقَلَةِ لَمْ تَبْطُلْ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ ، كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي فِي الْأَذَانِ . وَإِنْ أَجَابَ بِلَفْظِهَا بَطَلَتْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا ، أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلَيْنِ - أَعْنِي إذَا قَالَ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " فِي الصَّلَاةِ - هَلْ تَبْطُلُ ؟ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْبُطْلَانِ عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مُخَاطَبَةٌ لِلْآدَمِيِّينَ . فَأَبْطَلَ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ الَّتِي هِيَ ذِكْرٌ ، وَالصَّلَاةُ مَحِلُّ الذِّكْرِ . وَوَجْهُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ : ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَعُمُومُهُ ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى : أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِقَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " دُعَاءَ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ ، بَلْ حِكَايَةَ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ . الرَّابِعُ : فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ لَفْظَةَ " الْمِثْلِ " لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ " فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ " وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ فِي كُلِّ الْأَوْصَافِ ، حَتَّى رَفْعَ الصَّوْتِ . الْخَامِسُ : قِيلَ فِي مُنَاسَبَةِ جَوَابِ الْحَيْطَةِ بِالْحَوْقَلَةِ : إنَّهُ لَمَّا دَعَاهُمْ إلَى الْحُضُورِ أَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَيْ بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ . وَالْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ غَيْرُ مُتَرَادِفَتَيْنِ ، فَالْقُوَّةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ ، وَالْحَوْلُ : الِاحْتِيَالُ فِي تَحْصِيلِهِ وَالْمُحَاوَلَةُ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

 

67 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ ، حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ " كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ " وَلِمُسْلِمٍ " غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ " وَلِلْبُخَارِيِّ " إلَّا الْفَرَائِضَ " .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : " التَّسْبِيحُ " يُطْلَقُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْهُ . فَقَوْلُهُ " يُسَبِّحُ " أَيْ يُصَلِّي النَّافِلَةَ . وَرُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } بِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ . وَالتَّسْبِيحُ : حَقِيقَةٌ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ " سُبْحَانَ اللَّهِ " فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِمَّا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ ، كَمَا قَالُوا فِي الصَّلَاةِ : إنَّ أَصْلَهَا الدُّعَاءُ ، ثُمَّ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا بِذَلِكَ ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ ، وَإِمَّا ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُنَزِّهٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ ، وَ " التَّسْبِيحُ " التَّنْزِيهُ . فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ ؛ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ يَلْزَمُ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُخْلَصَةِ وَحْدَهُ . الثَّانِي : الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَجَوَازِ صَلَاتِهَا حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِالرَّاكِبِ رَاحِلَتُهُ . وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ : تَيْسِيرُ تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ عَلَى الْمُسَافِرِ وَتَكْثِيرِهَا . فَإِنَّ مَا ضُيِّقَ طَرِيقُهُ قَلَّ وَمَا اتَّسَعَ طَرِيقُهُ سَهُلَ . فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ أَنْ قَلَّلَ الْفَرَائِضَ عَلَيْهِمْ تَسْهِيلًا لِلْكُلْفَةِ . وَفَتَحَ لَهُمْ طَرِيقَةَ تَكْثِيرِ النَّوَافِلِ تَعْظِيمًا لِلْأُجُورِ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ " يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ مَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : إنَّ جِهَةَ الطَّرِيقِ تَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى لَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا لِغَيْرِ حَاجَةِ الْمَسِيرِ . الرَّابِعُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَاءِ . وَمُطْلَقُهُ : يَقْتَضِي الْإِيمَاءَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَالْفُقَهَاءُ قَالُوا : يَكُونُ الْإِيمَاءُ لِلسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الْإِيمَاءِ لِلرُّكُوعِ . لِيَكُونَ الْبَدَلُ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَا يَنْفِيهِ . وَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِحَقِيقَةِ السُّجُودِ ، إنْ حُمِلَ قَوْلُهُ " يُومِئُ " عَلَى الْإِيمَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعًا . الْخَامِسُ : اسْتَدَلَّ بِإِيتَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَعِيرِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى . وَهِيَ : أَنَّ الْفَرْضَ لَا يُقَامُ عَلَى الرَّاحِلَةِ . وَأَنَّ الْفَرْضَ مُرَادِفٌ لِلْوَاجِبِ . السَّادِسُ : قَوْلُهُ " غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ " قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ لَا تُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَوِيٍّ فِي الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَرْكُ الْفِعْلِ الْمَخْصُوصِ . وَلَيْسَ التَّرْكُ بِدَلِيلٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ . وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ " إلَّا الْفَرَائِضَ " فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ هَذَا الْفِعْلِ . وَتَرْكُ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ دُخُولَ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ مِمَّا يَكْثُرُ عَلَى الْمُسَافِرِينَ . فَتَرْكُ الصَّلَاةِ لَهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ دَائِمًا ، مَعَ فِعْلِ النَّوَافِلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، يُشْعِرُ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ ، مَعَ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى . وَهُوَ أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ : قَلِيلَةٌ مَحْصُورَةٌ ، لَا يُؤَدِّي النُّزُولُ لَهَا إلَى نُقْصَانِ الْمَطْلُوبِ . بِخِلَافِ النَّوَافِلِ الْمُرْسَلَةِ . فَإِنَّهَا لَا حَصْرَ لَهَا ، فَتَكَلُّفُ النُّزُولِ لَهَا يُؤَدِّي إلَى نُقْصَانِ الْمَطْلُوبِ مِنْ تَكْثِيرِهَا ، مَعَ اشْتِغَالِ الْمُسَافِرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

باب استقبال القبلة :

68 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذْ جَاءَهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ ، فَاسْتَقْبِلُوهَا . وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ ، فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ } .

يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَسَائِلُ أُصُولِيَّةٌ وَفُرُوعِيَّةٌ . نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَحْضُرُنَا الْآنَ . أَمَّا الْأُصُولِيَّةُ : فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْهَا : قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَعَادَةُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ : اعْتِدَادُ بَعْضِهِمْ بِنَقْلِ بَعْضٍ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا : أَنْ تُثْبِتَ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ . فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ : التَّنْبِيهُ عَلَى مِثَالٍ مِنْ أَمْثِلَةِ قَبُولِهِمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِيُضَمَّ إلَيْهِ أَمْثَالٌ لَا تُحْصَى . فَيَثْبُتُ بِالْمَجْمُوعِ الْقَطْعُ بِقَبُولِهِمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَدُّوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ . هَلْ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَمْ لَا ؟ مَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ لَا يُزَالُ بِالْمَظْنُونِ . وَنُقِلَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ جَوَازُهُ . وَاسْتَدَلُّوا لِلْجَوَازِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ : أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ . وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عِنْدِي مُنَاقَشَةٌ وَنَظَرٌ . فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . وَيَمْتَنِعُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ أَهْلُ قُبَاءَ - مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْثِيَالِهِمْ لَهُ ، وَتَيَسُّرِ مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ - أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ فِي الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَبَرًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ . وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ لِفِعْلِهِ ، أَوْ مُشَافَهَةٍ مِنْ قَوْلِهِ . وَلَوْ سَلَّمْت أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي الْعَادَةِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ مُشَاهَدَةَ فِعْلٍ ، أَوْ مُشَافَهَةَ قَوْلٍ . وَالْمُحْتَمَلُ الْأَمْرَيْنِ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا . فَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ اسْتِقْبَالِهِمْ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى خَبَرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُشَاهَدَةٍ . وَإِذَا جَازَ انْتِفَاءُ أَصْلِ الْخَبَرِ جَازَ انْتِفَاءُ خَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ قُيُودِهِ . فَإِذَا جَازَ انْتِفَاءُ خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مَنْصُوبًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَإِنْ قُلْتَ : الِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا ادَّعَيْتَ مِنْ امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ أَهْلِ قُبَاءَ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ - إنْ صَحَّ - إنَّمَا يَصِحُّ فِي جَمِيعِهِمْ . أَمَّا فِي بَعْضِهِمْ : فَلَا يَمْتَنِعُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ . الثَّانِي : أَنَّ مَا أَبْدَيْتَهُ مِنْ جَوَازِ اسْتِنَادِهِمْ إلَى الْمُشَاهَدَةِ : يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَزَالُوا الْمَقْطُوعَ بِالْمَظْنُونِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ طَرِيقُ قَطْعٍ . وَإِذَا جَازَ إزَالَةُ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ جَازَ زَوَالُ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . فَإِنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي زَوَالِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ . قُلْتُ : أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : فَإِنَّهُ إذَا سَلِمَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِمْ . فَقَدْ انْقَسَمُوا إذَنْ إلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ التَّوَاتُرَ ، وَمَنْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةَ . فَهَؤُلَاءِ الْمُسْتَدِيرُونَ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ اسْتَنَدَ إلَى التَّوَاتُرِ . فَلَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَيْهِمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَوْلُهُ " أَهْلُ قُبَاءَ " يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَنْ اسْتَدَارَ مُسْتَنَدُهُ التَّوَاتُرُ . فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ . قُلْتُ : لَا شَكَّ فِي إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مُسْتَنَدُهُمْ الْمُشَاهَدَةُ . وَمَعَ هَذَا التَّجْوِيزِ : لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ خَبَرُ التَّوَاتُرِ . وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ وَالْمُنَاقَشَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ . وَقَدْ تَمَّ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ : فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ جَوَازِ نَسْخِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مَقِيسًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مُشَاهَدَةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَظْنُونِ ، بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي زَوَالِ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ . لَكِنَّهُمْ نَصَبُوا الْخِلَافَ مَعَ الظَّاهِرِيَّةِ . وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ لَمْ يَقُلْ بِهِ . وَالظَّاهِرِيَّةُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ . فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْمُدَّعِي . وَهَذَا الْوَجْهُ مُخْتَصٌّ بِالظَّاهِرِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَجَعُوا إلَى الْحَدِيثِ أَيْضًا فِي أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ . وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْمُخْبِرَ لَهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ " أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ " فَأَحَالَ فِي النَّسْخِ عَلَى الْكِتَابِ . وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ . وَلَيْسَ التَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكِتَابِ . إذْ لَا نَصَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ . فَهُوَ بِالسُّنَّةِ وَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ : خِلَافُهُ . وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِوُجُوهٍ بَعِيدَةٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ : الْمَنْسُوخُ كَانَ ثَابِتًا بِكِتَابٍ نُسِخَ لَفْظُهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : النَّسْخُ كَانَ بِالسُّنَّةِ . وَنَزَلَ الْكِتَابُ عَلَى وَفْقِهَا . الثَّالِثُ : أَنْ يُجْعَلَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ . وقَوْله تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } مُجْمَلٌ ، فُسِّرَ بِأُمُورٍ : مِنْهَا : التَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . فَيَكُونُ كَالْمَأْمُورِ بِهِ لَفْظًا فِي الْكِتَابِ . وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي : بِأَنَّ مَسَاقَ هَذَا التَّجْوِيزِ : يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يُعْلَمَ نَاسِخٌ مِنْ مَنْسُوخٍ بِعَيْنِهِ أَصْلًا . فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ مُطَّرِدَانِ فِي كُلِّ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ . وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا التَّجْوِيزَ : يَنْفِي الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ ، إلَّا أَنْ تَحْتَفَّ الْقَرَائِنُ بِنَفْيِ هَذَا التَّجْوِيزِ ، كَمَا فِي كَوْنِ الْحُكْمِ بِالتَّحْوِيلِ إلَى الْقِبْلَةِ مُسْتَنِدًا إلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ . وَأُجِيبَ عَنْ الثَّالِثِ : بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّ الْبَيَانَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ لَهُ ؟ وَتَعَلَّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ . وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِمْ ، لَبَطَلَ مَا فَعَلُوهُ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى ، بَيْتِ الْمَقْدِسِ . فَيُفْقَدُ شَرْطُ الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِهَا فَتَبْطُلُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُطْلَقِ النَّسْخِ ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَخَصِّ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَعَمِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْطَعُوا الصَّلَاةَ وَأَنْ يَبْنُوا . فَرَجَّحُوا الْبِنَاءَ . وَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ . تَمَّتْ الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ .

وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ : فَالْأُولَى مِنْهَا : أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا عُزِلَ فَتَصَرَّفَ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِ : هَلْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ ؟ وَقَدْ نُوزِعَ فِي هَذَا الْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ . وَوَجْهُ قَوْلِ هَذَا الْمُنَازِعِ فِي هَذَا الْبِنَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ : أَنَّ النَّسْخَ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ ، إمَّا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ . وَلَا تَكْلِيفَ إلَّا مَعَ الْإِمْكَانِ ، وَلَا إمْكَانَ مَعَ الْجَهْلِ بِوُرُودِ النَّاسِخِ . وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ : فَمَعْنَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَزْلِ فِيهِ : أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي أَنْ يُعْلَمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بُطْلَانُهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ . وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الْبِنَاءِ : فَالْحُكْمُ هُنَاكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ يَكُونُ مَأْخُوذًا بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ .

الثَّانِيَةُ : إذَا صَلَّتْ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ ، ثُمَّ عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ : هَلْ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ أَمْ لَا ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إلَيْهَا قَالَ بِفَسَادِ مَا فَعَلَتْ فَأَلْزَمَهَا الْقَطْعَ . وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ لَمْ يُلْزِمْهَا الْقَطْعَ ، إلَّا أَنْ يَتَرَاخَى سِتْرُهَا لِرَأْسِهَا وَهَذَا أَيْضًا مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ بِالْقِيَاسِ .

الثَّالِثَةُ : قِيلَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَنْبِيهِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ هُوَ فِيهَا . وَأَنْ يَفْتَحَ عَلَيْهِ . كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ عَنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مُخْبِرٌ عَنْ وَاجِبٍ ، أَوْ آمِرٌ بِتَرْكِ مَمْنُوعٍ . وَمَنْ يَفْتَحُ عَلَى غَيْرِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا . فَلَا يُسَاوِيهِ ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ . هَذَا إذَا كَانَ الْفَتْحُ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ .

الرَّابِعَةُ : قِيلَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ ، وَمُرَاعَاةِ السَّمْتِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَدَارُوا إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ قَطْعِهِمْ عَلَى مَوْضِعِ عَيْنِهَا .

الْخَامِسَةُ : قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي ظَنِّهِ ، مَعَ مُخَالَفَةِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ فَعَلُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ظَنِّهِمْ بَقَاءَ الْأَمْرِ . وَلَمْ يَفْسُدْ فِعْلُهُمْ ، وَلَا أُمِرُوا بِالْإِعَادَةِ .

السَّادِسَةُ : قَالَ الطَّحَاوِيُّ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ، وَلَا أَمْكَنَهُ اسْتِعْلَامُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ . فَالْفَرْضُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ . وَالْحُجَّةُ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَيْهِ . وَرَكَّبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى هَذَا : مَسْأَلَةَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ أَطْرَافِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، حَيْثُ لَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَعْلِمُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَرَّ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ ، لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُمَا ؟ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إلْزَامُهُ ذَلِكَ - أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ - لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِعْلَامِ وَالْبَحْثِ ، وَالْخُرُوجِ لِذَلِكَ . وَهَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا " يُرْوَى بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى الْأَمْرِ ، وَيُرْوَى " فَاسْتَقْبَلُوهَا " بِفَتْحِهَا عَلَى الْخَبَرِ .

 

69 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ { اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الشَّأْمِ ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ ، وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ - يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ - فَقُلْتُ : رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ؟ فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ } .

الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا زِيَادَةُ أَنَّهُ " عَلَى حَمَارٍ " فَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ مُلَامَسَتَهُ مَعَ التَّحَرُّزِ عَنْهُ مُتَعَذَّرَةٌ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا طَالَ زَمَنُ رُكُوبِهِ . فَاحْتَمَلَ الْعَرَقَ . وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ . وَقَوْلُهُ " مِنْ الشَّأْمِ " هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَوَقَعَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ " حِينَ قَدِمَ الشَّامَ " وَقَالُوا : هُوَ وَهْمٌ ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا مِنْ الْبَصْرَةِ لِيَتَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّامِ . وَقَوْلُهُ { رَأَيْتُكَ تُصَلِّي إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ . فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ } إنَّمَا يَعُودُ إلَى الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقَطْ . وَهُوَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ ، لَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَيْئَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَرَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَبُو حَمْزَةَ أَنْسُ بْنُ سِيرِينَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكِ . وَيُقَالُ : إنَّهُ لَمَّا وُلِدَ ذُهِبَ بِهِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَسَمَّاهُ أَنَسًا ، وَكَنَّاهُ بِأَبِي حَمْزَةَ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ مَاتَ بَعْدَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ . وَكَانَتْ وَفَاةُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ .

 

باب الصفوف :

70 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } .

تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ : اعْتِدَالُ الْقَائِمِينَ بِهَا عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ . وَقَدْ تَدُلُّ تَسْوِيَتُهَا أَيْضًا عَلَى سَدِّ الْفُرَجِ فِيهَا ، بِنَاءً عَلَى التَّسْوِيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ . وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ تَسْوِيَتَهَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَمْرٌ مَطْلُوبٌ . وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، غَيْرُ وَاجِبٍ . لِقَوْلِهِ " مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ " وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا ، وَلَا وَاجِبَاتِهَا . وَتَمَامُ الشَّيْءِ : أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى وُجُودِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهَا فِي مَشْهُورِ الِاصْطِلَاحِ . وَقَدْ يَنْطَلِقُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ عَلَى بَعْضِ مَا لَا تَتِمُّ الْحَقِيقَةُ إلَّا بِهِ .

 

 

71 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ } . 72 - وَلِمُسْلِمٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا ، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ ، حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ ، فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ } .

" النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيُّ . وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَمَانِ - أَوْ سِتِّ سَنَوَاتٍ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قُتِلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ بِمَرْجِ رَاهِط . تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا . وَقَوْلُهُ " أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " مَعْنَاهُ : إنْ لَمْ تُسَوُّوا ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ وَبَيْنَهُ ، أَيْ الْوَاقِعُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا التَّسْوِيَةُ ، أَوْ الْمُخَالَفَةُ . وَكَانَ يَظْهَرُ لِي فِي قَوْلِهِ " أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ الْقُلُوبِ ، وَتَغَيُّرِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ تَقَدُّمَ إنْسَانٍ عَلَى الشَّخْصِ ، أَوْ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَتَخْلِيفَهُ إيَّاهُمْ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَامًا لِلْإِمَامَةِ بِهِمْ : قَدْ يُوغِرُ صُدُورَهُمْ . وَهُوَ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ . فَعَبَّرَ عَنْهُ بِمُخَالَفَةِ وُجُوهِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي التَّبَاعُدِ وَالتَّقَارُبِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ وَجْهِ الْآخَرِ . فَإِنْ شِئْتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ " الْوَجْهَ " بِمَعْنَى " الْجِهَةِ " وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَ " الْوَجْهَ " مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَتَبَايُنِ النُّفُوسِ . فَإِنَّ مَنْ تَبَاعَدَ عَنْ غَيْرِهِ وَتَنَافَرَ ، زَوَى وَجْهَهُ عَنْهُ . فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ : التَّحْذِيرَ مِنْ وُقُوعِ التَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ " أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ " يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِ " أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ " فَيُخَالِفُ بِصِفَتِهِمْ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمُسُوخِ ، أَوْ يُخَالِفُ بِوَجْهِ مَنْ لَمْ يُقِمْ صَفَّهُ وَيُغَيِّرُ صُورَتَهُ عَنْ وَجْهِ مَنْ أَقَامَهُ ، أَوْ يُخَالِفُ بِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا بِالْمَسْخِ وَالتَّغْيِيرِ . وَأَقُولُ : أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ قَوْلُهُ " فَيُخَالِفُ بِصِفَتِهِمْ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمُسُوخِ " فَلَيْسَ فِيهِ مُحَافَظَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مُقْتَضَى لَفْظَةِ " بَيْنَ " وَالْأَلْيَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ : يُخَالِفُ وُجُوهَكُمْ عَنْ كَذَا ، إلَّا أَنْ يُرَادَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ وُجُوهِ مَنْ مُسِخَ وَمَنْ لَمْ يُمْسَخْ ، فَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَخِيرِ : فَفِيهِ مُحَافَظَةٌ عَلَى مَعْنَى " بَيْنَ " إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُحَافَظَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَوْلِهِ " وُجُوهَكُمْ " فَإِنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ بَعْدَ الْمَسْخِ ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ صِفَةُ وُجُوهِهِمْ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ مُحْتَمَلٌ . وَقَوْلُهُ " الْقِدَاحُ " هِيَ خَشَبُ السِّهَامِ حِينَ تُبْرَى وَتُنْحَتُ وَتُهَيَّأُ لِلرَّمْيِ . وَهِيَ مِمَّا يُطْلَبُ فِيهَا التَّحْرِيرُ ، وَإِلَّا كَانَ السَّهْمُ طَائِشًا ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِغَرَضِ إصَابَةِ الْغَرَضِ . فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ لِتَحْرِيرِ التَّسْوِيَةِ لِغَيْرِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ وَظِيفَةِ الْإِمَامِ . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يُوَكِّلُ بِالنَّاسِ مَنْ يُسَوِّي صُفُوفَهُمْ . وَقَوْلُهُ " حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا " يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ : أَنَّهُ كَانَ يُرَاعِيهِمْ فِي التَّسْوِيَةِ وَيُرَاقِبُهُمْ ، إلَى أَنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ عَقَلُوا الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَامْتَثَلُوهُ . فَكَانَ ذَلِكَ غَايَةً لِمُرَاقَبَتِهِمْ ، وَتَكَلُّفَ مُرَاعَاةِ إقَامَتِهِمْ . وَقَوْلُهُ " حَتَّى إذَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ . فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ . .. إلَخْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ كَلَامِ الْإِمَامِ فِيمَا بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ لِمَا يَعْرِضُ مِنْ حَاجَةٍ . وَقِيلَ . إنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ .

 

73 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ ؟ قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ } . - وَلِمُسْلِمٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا } .

قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ : الْيَتِيمُ هُوَ : ضُمَيْرَةُ جَدُّ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ . مُلَيْكَةُ " بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ . وَبَعْضُ الرُّوَاةِ : رَوَاهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ . قِيلَ هِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ . وَقِيلَ : أُمُّ حَرَامٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلَا يَصِحُّ . وَهَذَا الْحَدِيثُ : رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَقِيلَ : الضَّمِيرُ فِي " جَدَّتِهِ " عَائِدٌ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَنَّهَا أُمُّ أَبِيهِ . قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ . فَعَلَى هَذَا : كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ إِسْحَاقَ . فَإِنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ ذِكْرَهُ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ جَدَّةَ أَنَسٍ . وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُمَرَ : إنَّهَا جَدَّةُ أَنَسٍ ، أُمُّ أُمِّهِ . فَعَلَى هَذَا : لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَالْأَحْسَنُ إثْبَاتُهُ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّوَاضُعِ ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الدَّاعِي . وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إجَابَةِ أُولِي الْفَضْلِ لِمَنْ دَعَاهُمْ لِغَيْرِ الْوَلِيمَةِ . وَفِيهِ أَيْضًا : جَوَازُ الصَّلَاةِ لِلتَّعْلِيمِ ، أَوْ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ بِالِاجْتِمَاعِ فِيهَا ، أَوْ بِإِقَامَتِهَا فِي الْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ . وَهُوَ الَّذِي قَدْ يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ " لَكُمْ " . وَقَوْلُهُ " إلَى حَصِيرٍ قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ " أُخِذَ مِنْهُ : أَنَّ الِافْتِرَاشَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لِبَاسٌ ، وَرُتِّبَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ . إحْدَاهُمَا : لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَافْتَرَشَهُ : أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ لِبَاسٌ لَهُ ، فَيَحْرُمُ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ - أَعْنِي افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ - قَدْ وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ يَخُصُّهُ . وَقَوْلُهُ " فَنَضَحْتُهُ " النَّضْحُ : يُطْلَقُ عَلَى الْغُسْلِ ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَهُ . وَهُوَ الْأَشْهَرُ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْغُسْلَ . فَيَكُونَ ذَلِكَ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إمَّا لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَهِيَ تَلْيِينُهُ وَتَهْيِئَتُهُ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ ، وَهِيَ طَلَبُ طَهَارَتِهِ ، وَزَوَالُ مَا يَعْرِضُ مِنْ الشَّكِّ فِي نَجَاسَتِهِ ، لِطُولِ لُبْسِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ مَا دُونَ الْغُسْلِ . وَهُوَ النَّضْحُ الَّذِي تَسْتَحِبُّهُ الْمَالِكِيَّةُ لِمَا يُشَكُّ فِي نَجَاسَتِهِ . وَقَدْ قَرَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا عُمَيْرٍ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْبَيْتِ ، وَاحْتِرَازُ الصِّبْيَانِ مِنْ النَّجَاسَةِ بَعِيدٌ . وَقَوْلُهُ " فَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ " حُجَّةٌ لِجُمْهُورِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ مَوْقِفَ الِاثْنَيْنِ وَرَاءَ الْإِمَامِ . وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ يَرَى أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ أَحَدِهِمَا عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْآخَرِ عَنْ يَسَارِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلصَّبِيِّ مَوْقِفًا فِي الصَّفِّ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْقِفَ الْمَرْأَةِ وَرَاءَ مَوْقِفِ الصَّبِيِّ . وَلَمْ يُحْسِنْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ صَحِيحَةٌ . فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ . وَأَبْعَدُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إمَامَتُهَا لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ تَأَخُّرُهَا فِي الصَّفِّ ، فَلَا تَتَقَدَّمُ إمَامًا . وَقَوْلُهُ " ثُمَّ انْصَرَفَ " الْأَقْرَبُ : أَنَّهُ أَرَادَ الِانْصِرَافَ عَنْ الْبَيْتِ . وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ الِانْصِرَافَ مِنْ الصَّلَاةِ . أَمَّا عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ : فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّلَامَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُسَمَّى الرَّكْعَتَيْنِ : وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِ : فَيَكُونُ الِانْصِرَافُ عِبَارَةً عَنْ التَّحَلُّلِ الَّذِي يَسْتَعْقِبُ السَّلَامَ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِمَاعِ فِي النَّوَافِلِ خَلْفَ إمَامٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

75 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ . فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ . فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ . فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ } .

خَالَتُهُ " مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ " أُخْتُ أُمِّهِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ . وَمَبِيتُهُ عِنْدَهَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ ، مِنْ الْمَبِيتِ عِنْدَ الْمَحَارِمِ مَعَ الزَّوْجِ . وَقِيلَ : إنَّهُ تَحَرَّى لِذَلِكَ وَقْتًا لَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَقْتُ الْحَيْضِ . وَقِيلَ : إنَّهُ بَاتَ عِنْدَهَا لِيَنْظُرَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلصَّبِيِّ مَوْقِفًا مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّفِّ ، وَإِذَا أُخِذَ بِمَا وَرَدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّهُ " دَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ بَعْدَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ " فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الشُّرُوعِ فِي الِائْتِمَامِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْقِفَ الْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ مِنْ الْإِمَامِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا .

 

 

باب الإمامة :

76 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ : أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ ؟ } .

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الرَّفْعِ . هَذَا مَنْصُوصُهُ ، فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَوَجْهُ الدَّلِيلِ : التَّوَعُّدُ عَلَى الْفِعْلِ . وَلَا يَكُونُ التَّوَعُّدُ إلَّا عَنْ مَمْنُوعٍ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ : السَّبْقُ فِي الْخَفْضِ ، كَالْهَوِيِّ إلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَفِي وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ " مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ : مُتَعَرِّضٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ . وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِهِ وَلَا بُدَّ . وَقَوْلُهُ " أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ ، أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ " يَقْتَضِي تَغْيِيرَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ مَجَازِيٍّ . فَإِنَّ الْحِمَارَ مَوْصُوفٌ بِالْبَلَادَةِ . وَيُسْتَعَارُ هَذَا الْمَعْنَى لِلْجَاهِلِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ . وَرُبَّمَا رُجِّحَ هَذَا الْمَجَازُ بِأَنَّ التَّحْوِيلَ فِي الظَّاهِرَةِ لَمْ يَقَعْ مَعَ كَثْرَةِ رَفْعِ الْمَأْمُومِينَ قَبْلَ الْإِمَامِ . وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ فَاعِلِهِ مُتَعَرِّضًا لِذَلِكَ ، وَكَوْنِ فِعْلِهِ صَالِحًا لَأَنْ يَقَعَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ . وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلشَّيْءِ وُقُوعُ ذَلِكَ الشَّيْءِ . وَأَيْضًا فَالْمُتَوَعَّدُ بِهِ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ . أَعْنِي عِنْدَ الْفِعْلِ ، وَالْجَهْلُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْفِعْلِ . وَلَسْتُ أَعْنِي بِالْجَهْلِ هَاهُنَا : عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ ، بَلْ إمَّا هَذَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ مَا لَا يُسَوَّغُ . وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ مَوْجُودًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّهُ جَهْلٌ . وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ جَاهِلٌ . وَالسَّبَبُ فِيهِ : أَنَّ الشَّيْءَ يُنْفَى لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ وَالْمَقْصُودِ مِنْهُ . فَيُقَالُ : فُلَانٌ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ ، إذَا لَمْ يَفْعَلْ الْأَفْعَالَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْإِنْسَانِيَّةِ . وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلَ بِهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ : إنَّهُ جَاهِلٌ غَيْرُ عَالِمٍ .

 

77 - الْحَدِيثُ الثَّانِي - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ . فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ . فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا . وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا . وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } . 78 - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ ، صَلَّى جَالِسًا ، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ : أَنْ اجْلِسُوا لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ .

الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ . فَمَنَعَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا . وَاسْتُدِلَّ لَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَجُعِلَ اخْتِلَافُ النِّيَّاتِ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ " فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ " وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ . وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ . الثَّانِي : الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا " إلَخْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَأْمُومِ تَكُونُ بَعْدَ أَفْعَالِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّبْقِ . وَقَالَ الْفُقَهَاءُ : الْمُسَاوَاةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ : مَكْرُوهَةٌ . الثَّالِثُ قَوْلُهُ " وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّ التَّسْمِيعَ مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ . فَإِنَّ قَوْلَهُ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " مُخْتَصٌّ بِالْمَأْمُومِ . وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ . الرَّابِعُ : اخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ الْوَاوِ وَإِسْقَاطِهَا مِنْ قَوْلِهِ " وَلَكَ الْحَمْدُ " بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الِاخْتِيَارِ ، لَا فِي الْجَوَازِ . وَيَرْجِعُ إثْبَاتُهَا بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ : رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا - أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ - وَلَكَ الْحَمْدُ . فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ . وَإِذَا قِيلَ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ دَلَّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ .

الْخَامِسُ : قَوْلُهُ " وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ " أَخَذَ بِهِ قَوْمٌ ، فَأَجَازُوا الْجُلُوسَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْقَاعِدِ لِلضَّرُورَةِ ، مَعَ قُدْرَةِ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْقِيَامِ . وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْقِيَامِ . وَمَنَعَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ . وَالْمَانِعُونَ اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى طُرُقٍ . الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ : ادِّعَاءُ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا ، وَنَاسِخُهُ : صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَاعِدًا . وَهُمْ قِيَامٌ ، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يُعْلِمُهُمْ بِأَفْعَالِ صَلَاتِهِ . وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْإِمَامَ ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَأْمُومًا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَمَوْضِعُ التَّرْجِيحِ : هُوَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، قَالُوا : ثُمَّ نُسِخَتْ إمَامَةُ الْقَاعِدِ جُمْلَةً بِقَوْلِهِ " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا " وَبِفِعْلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَؤُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ جَالِسًا ، وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمُثَابَرَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَهْيِهِ عَنْ إمَامَةِ الْقَاعِدِ بَعْدَهُ ، وَتُقَوِّي لِينَ هَذَا الْحَدِيثِ . وَأَقُولُ : هَذَا ضَعِيفٌ . أَمَّا الْحَدِيثُ فِي { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا } فَحَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الْجُعْفِيِّ - بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ - عَنْ الشَّعْبِيِّ - بِفَتْحِ الشِّينِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا } وَهَذَا مُرْسَلٌ . وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالُوا فِيهِ : مَتْرُوكٌ . وَرَوَاهُ مُجَالِدٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَقَدْ اُسْتُضْعِفَ مُجَالِدٌ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ الْخُلَفَاءِ الْإِمَامَةَ عَنْ قُعُودٍ : فَأَضْعَفُ . فَإِنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ . فَلَعَلَّهُمْ اكْتَفَوْا بِالِاسْتِنَابَةِ لِلْقَادِرِينَ ، وَإِنْ كَانَ الِاتِّفَاقُ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ بِالْقَائِمِ مَرْجُوحَةٌ ، وَأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا . فَذَلِكَ كَافٍ فِي بَيَانِ سَبَبِ تَرْكِهِمْ الْإِمَامَةَ مِنْ قُعُودٍ . وَقَوْلُهُمْ " إنَّهُ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ نَهْيِهِ عَنْ إمَامَةِ الْقَاعِدِ بَعْدَهُ " لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ التَّرْكَ لِلْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ . الطَّرِيقُ الثَّانِي : فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ : لِلْمَانِعِينَ ادِّعَاءَ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيل . الطَّرِيقُ الثَّالِثُ : التَّأْوِيلُ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ " وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا " عَلَى أَنَّهُ : إذَا كَانَ فِي حَالَةِ الْجُلُوسِ فَاجْلِسُوا ، وَلَا تُخَالِفُوهُ بِالْقِيَامِ . وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا . أَيْ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْقِيَامِ فَقُومُوا وَلَا تُخَالِفُوهُ بِالْقُعُودِ . وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ " إذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا " وَهَذَا بَعِيدٌ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ وَطُرُقِهَا : مَا يَنْفِيهِ ، مِثْلُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْآتِي " أَنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِمْ : أَنْ اجْلِسُوا " وَمِنْهُ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِمُوَافَقَةِ الْأَعَاجِمِ فِي الْقِيَامِ عَلَى مُلُوكِهِمْ . وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي الْجُمْلَةِ يَمْنَعُ مِنْ سَبْقِ الْفَهْمِ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ . وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ قَدْ حَصَلَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .

79 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ - وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ - قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ : لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا ، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ } .

" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخِطْمِيُّ " مَفْتُوحُ الْخَاءِ سَاكِنُ الطَّاءِ - مِنْ بَنِي خَطْمَةَ . وَخَطْمَةُ مِنْ الْأَوْسِ . كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ . وَاَلَّذِي رَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ : أَبُو إِسْحَاقَ . وَقَوْلُهُ " وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ " حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي وَصْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ ، لَا كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ فِي وَصْفِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ فِي وَصْفِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَلَوْ كَانَ ذَكَرَ أَبَا إِسْحَاقَ لَكَانَ أَحْسَنَ ، أَوْ مُتَعَيَّنًا ، لِاحْتِمَالِ الْكَلَامِ الْوَجْهَيْنِ مَعًا . وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ : فَلَا يُحْتَمَلُ إلَّا أَحَدُهُمَا . وَهُوَ الْبَرَاءُ . وَاَلَّذِينَ حَمَلُوا الْكَلَامَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : قَصَدُوا تَنْزِيهَ الْبَرَاءِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ التَّزْكِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الصُّحْبَةِ ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، أَنَّهُ قَالَ - يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ - إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ غَيْرُ كَذُوبٍ . وَلَا يُقَالُ لِلْبَرَاءِ : إنَّهُ غَيْرُ كَذُوبٍ . فَإِذَا قَصَدُوا ذَلِكَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَيْضًا قَدْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ . وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً . وَرَدَّ هَذَا بَعْضُهُمْ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يَخْطُبُ يَقُولُ : حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ ، وَكَانَ غَيْرَ كَذُوبٍ . وَإِنْ كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا أَيْضًا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الصَّحَابَةِ فِي الِاقْتِدَاءِ عَنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى يَتَلَبَّسَ بِالرُّكْنِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إلَيْهِ ، لَا حِينَ يَشْرَعُ فِي الْهَوِيِّ إلَيْهِ . وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى طُولِ الطُّمَأْنِينَةِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، أَعْنِي قَوْلَهُ " فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا . وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ مَا يُسَمَّى رُكُوعًا وَسُجُودًا .

 

80 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ : غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ }

الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُؤَمِّنُ . وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَاخْتِيَارُ مَالِكٍ : أَنَّ التَّأْمِينَ لِلْمَأْمُومِينَ . وَلَعَلَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَهْرُ الْإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ . فَإِنَّهُ عَلَّقَ تَأْمِينَهُمْ بِتَأْمِينِهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهِ . وَذَلِكَ بِالسَّمَاعِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا " لَا يُؤَمِّنُ الْإِمَامُ " أَوَّلُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ " عَلَى بُلُوغِهِ مَوْضِعَ التَّأْمِينِ . وَهُوَ خَاتِمَةُ الْفَاتِحَةِ ، كَمَا يُقَالُ " أَنْجَدَ " إذَا بَلَغَ نَجْدًا . وَ " أَتْهَمَ " إذَا بَلَغَ تِهَامَةً . و " أَحْرَمَ " إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ . وَهَذَا مَجَازٌ . فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يُرَجِّحُهُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ - وَهُوَ قَوْلُهُ " إذَا أَمَّنَ " فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّأْمِينِ - عُمِلَ بِهِ . وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ . وَلَعَلَّ مَالِكًا اعْتَمَدَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، إنْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ ، وَرَجَّحَ بِهِ مَذْهَبَهُ . وَأَمَّا دَلَالَةُ الْحَدِيثِ " عَلَى الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ فَأَضْعَفُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْسِ التَّأْمِينِ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْمِينِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ جَهْرٍ . وَمُوَافَقَةُ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ ظَاهِرُهُ : الْمُوَافَقَةُ فِي الزَّمَانِ . وَيُقَوِّيهِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ : آمِينَ ، وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ : آمِينَ . فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُوَافَقَةُ رَاجِعَةً إلَى صِفَةِ التَّأْمِينِ ، أَيْ يَكُونَ تَأْمِينُ الْمُصَلِّي كَصِفَةِ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْإِخْلَاصِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا كَلَامٌ فِي مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " وَهَلْ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالصَّغَائِرِ ؟ .

 

81 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ } . 82 - وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْحَدِيثُ السَّابِعُ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ }

حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ وَاسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو وَيُعْرَفُ بِالْبَدْرِيِّ . وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا . وَلَكِنَّهُ نَزَلَهَا ، فَنُسِبَ إلَيْهَا - يَدُلَّانِ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ . وَالْحُكْمُ فِيهَا مَذْكُورٌ مَعَ عِلَّتِهِ ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ اللَّاحِقَةُ لِلْمَأْمُومِينَ إذَا طَوَّلَ . وَفِيهِ - بَعْدَ ذَلِكَ - بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتْ الْعِلَّةُ وَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهَا الْحُكْمُ ، فَحَيْثُ يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ التَّطْوِيلُ ، وَيُرِيدُونَ التَّخْفِيفَ : يُؤْمَرُ بِالتَّخْفِيفِ . وَحَيْثُ لَا يَشُقُّ ، أَوْ لَا يُرِيدُونَ التَّخْفِيفَ : لَا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ . وَعَنْ هَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمَأْمُومِينَ : أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ طَوَّلَ ، كَمَا إذَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ . فَإِنَّ ذَلِكَ - وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ آثَرُوهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ . الثَّانِي : التَّطْوِيلُ وَالتَّخْفِيفُ : مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ . فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ طَوِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ قَوْمٍ . وَقَدْ يَكُونُ خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ آخَرِينَ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : إنَّهُ لَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَالْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، مَعَ أَمْرِهِ بِالتَّخْفِيفِ . فَكَأَنَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الصَّحَابَةِ لِأَجْلِ شِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا . هَذَا إذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَامًّا فِي صَلَوَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا . وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِبَعْضِهَا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَأْمُومِينَ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ تَطْوِيلًا بِسَبَبِ مَا يَقْتَضِيه حَالُ الصَّحَابَةِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَطْوِيلًا لَكِنَّهُ بِسَبَبِ إيثَارِ الْمَأْمُومِينَ . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ : لَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ بِبَعْضِ صَلَوَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَحَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ : يَدُلُّ عَلَى الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ . وَذَلِكَ يَكُونُ : إمَّا لِمُخَالَفَةِ الْمَوْعُوظِ لِمَا عَلِمَهُ ، أَوْ التَّقْصِيرُ فِي تَعَلُّمِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم :

83 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ : مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ . اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } .

تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ " كَانَ " تُشْعِرُ بِكَثْرَةِ الْفِعْلِ أَوْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ . وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مُجَرَّدِ وُقُوعِهِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذَا الذِّكْرِ . وَالدَّالُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ دَالٌّ عَلَى الْمُطْلَقِ ، فَيُنَافِي ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَالِكِيَّةِ الذِّكْرَ فِيمَا بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . وَلَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ ذِكْرٍ آخَرَ مُعَيَّنٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكْتَةِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . وَالْمُرَادُ بِالسَّكْتَةِ هَاهُنَا السُّكُوتُ عَنْ الْجَهْرِ ، لَا عَنْ مُطْلَقِ الْقَوْلِ ، أَوْ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، لَا عَنْ الذِّكْرِ . وَقَوْلُهُ " مَا تَقُولُ ؟ " يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا فَإِنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ " مَا تَقُولُ ؟ " وَلَمْ يَقَعْ بِقَوْلِهِ " هَلْ تَقُولُ ؟ " وَالسُّؤَالُ " بِهَلْ " مُقَدَّمٌ عَلَى السُّؤَالِ " بِمَا " هَاهُنَا . وَلَعَلَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَصْلِ الْقَوْلِ بِحَرَكَةِ الْفَمِ . كَمَا وَرَدَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ . وَقَوْلُهُ " اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " . عِبَارَةٌ : إمَّا عَنْ مَحْوِهَا وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا ، وَإِمَّا عَنْ الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِهَا وَالْعِصْمَةِ مِنْهَا وَفِيهِ مَجَازَانِ : أَحَدُهُمَا : اسْتِعْمَالُ الْمُبَاعَدَةِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ ، أَوْ فِي الْعِصْمَةِ مِنْهَا . وَالْمُبَاعَدَةُ فِي الزَّمَانِ أَوْ فِي الْمَكَانِ فِي الْأَصْلِ . وَالثَّانِي : اسْتِعْمَالُ الْمُبَاعَدَةِ فِي الْإِزَالَةِ الْكُلِّيَّةِ . فَإِنَّ أَصْلَهَا لَا يَقْتَضِي الزَّوَالَ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَهُنَا الْبَقَاءَ مَعَ الْبُعْدِ ، وَلَا مَا يُطَابِقُهُ مِنْ الْمَجَازِ . وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْإِزَالَةُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ بِالْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، الْمَقْصُودُ مِنْهَا : تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ أَوْ الْعِصْمَةُ . وَقَوْلُهُ " اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ - إلَى قَوْلِهِ - مِنْ الدَّنَسِ " مَجَازٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - عَنْ زَوَالِ الذُّنُوبِ وَأَثَرِهَا . وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهِ . وَقَوْلُهُ " اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي " إلَى آخِرِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَجَازًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ - أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّعْبِيرِ عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ ، أَعْنِي بِالْمَجْمُوعِ فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي تَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ التَّنْقِيَةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مُنَقِّيَةٍ ، يَكُونُ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازًا عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ بِهَا التَّكْفِيرُ وَالْمَحْوُ . وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْنِي : الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ ، وَالرَّحْمَةَ - لَهَا أَثَرٌ فِي مَحْوِ الذَّنْبِ . فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ : يُنْظَرُ إلَى الْأَفْرَادِ . وَيُجْعَلُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَقِيقَةِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى فَرْدٍ مَجَازِيٍّ . وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : لَا يُنْظَرُ إلَى أَفْرَادِ الْأَلْفَاظِ ، بَلْ تُجْعَلُ جُمْلَةُ اللَّفْظِ دَالَّةً عَلَى غَايَةِ الْمَحْوِ لِلذَّنْبِ .

 

84 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ ، وَالْقِرَاءَةَ بِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ : لَمْ يَسْجُدْ ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ : لَمْ يَسْجُدْ ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا ، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ } .

. هَذَا الْحَدِيثُ سَهَا الْمُصَنِّفُ فِي إيرَادِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ . فَإِنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ الْبُخَارِيِّ . فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَشَرْطُ الْكِتَابِ : تَخْرِيجُ الشَّيْخَيْنِ لِلْحَدِيثِ . قَوْلُهَا " كَانَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ " قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ " كَانَ " فَإِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي مُجَرَّدِ وُقُوعِ الْفِعْلِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ - مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - قَدْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّهَا قَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى غَيْرِ مَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْآخَرِ . فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ : إنْ اقْتَضَى الْمُدَاوَمَةَ أَوْ الْأَكْثَرِيَّةَ عَلَى السُّكُوتِ وَذَلِكَ الذِّكْرِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ - أَوْ الْأَكْثَرِيَّةَ - لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، تَعَارُضًا . وَهَذَا الْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْقِرَاءَةِ " مَجْرُورًا . فَإِنْ كَانَتْ لَفْظَةُ " كَانَ " لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى الْكَثْرَةِ . فَلَا تَعَارُضَ . إذْ قَدْ يَكْثُرَانِ جَمِيعًا . وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَذْكُرُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا عَلَى الْوُجُوبِ . لَا لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، بَلْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } خِطَابٌ مُجْمَلٌ ، مُبَيَّنٌ بِالْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ الْمُبَيِّنُ لِلْمُجْمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ : يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ . فَيَدُلُّ مَجْمُوعُ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ . وَإِذَا سَلَكْتَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَجَدْتَ أَفْعَالًا غَيْرَ وَاجِبَةٍ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَالَ ذَلِكَ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ . وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَحْثٌ . وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الْخِطَابُ الْمُجْمَلُ يَتَبَيَّنُ بِأَوَّلِ الْأَفْعَالِ وُقُوعًا . فَإِذَا تَبَيَّنَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ بَعْدَهُ بَيَانًا ، لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِالْأَوَّلِ . فَيَبْقَى فِعْلًا مُجَرَّدًا ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِ بَيَانًا . فَيَتَوَقَّفُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ، بَلْ قَدْ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ ، كَرِوَايَةِ مَنْ رَأَى فِعْلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَسَبَقَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةٌ يُقِيمُ الصَّلَاةَ فِيهَا . وَكَانَ هَذَا الرَّاوِي الرَّائِي مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ ، الَّذِينَ حَصَلَ تَمْيِيزُهُمْ وَرُؤْيَتُهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مُدَّةً . فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِتَأَخُّرِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ مُدَّةٍ إذَا أَخْبَرَ بِرُؤْيَتِهِ لِلْفِعْلِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّأْخِيرِ . وَهَذَا تَحْقِيقٌ بَالِغٌ . وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَمْرٍ جَدَلِيٍّ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ . وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : دَلَّ الْحَدِيثُ الْمُعَيَّنُ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ . وَالْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ وُقُوعًا ، بِدَلَالَةِ الْأَصْلِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ بَيَانًا . وَهَذَا قَدْ يَقْوَى إذَا وَجَدْنَا فِعْلًا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ . فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُبَيِّنًا بِدَلَالَةِ الْأَصْلِ عَلَى عَدَمِ غَيْرِهِ ، وَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ : لَزِمَ النَّسْخُ لِذَلِكَ الْوُجُوبِ الَّذِي ثَبَتَ أَوَّلًا فِيهِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَصْلِ أَقْرَبُ مِنْ الْتِزَامِ النَّسْخِ . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ " يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّحْرِيمِ ، أَعْنِي مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ التَّكْبِيرِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي الدُّخُولِ فِيهَا . فَإِنَّ التَّكْبِيرَ تَحْرِيمٌ مَخْصُوصٌ . وَالدَّالُ عَلَى وُجُودِ الْأَخَصِّ دَالٌّ عَلَى وُجُودِ الْأَعَمِّ . وَأَعْنِي بِالْأَعَمِّ هَاهُنَا : هُوَ الْمُطْلَقُ . وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافَهُ . وَرُبَّمَا تَأَوَّلَهُ . بَعْضُهُمْ عَلَى مَالِكٍ . وَالْمَعْرُوفُ خِلَافُهُ عَنْهُ . وَعَنْ غَيْرِهِ . الثَّانِي : أَنَّ التَّحْرِيمَ يَكُونُ بِالتَّكْبِيرِ خُصُوصًا . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِيهِ وَيَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ . كَقَوْلِهِ " اللَّهُ أَجَلُّ ، أَوْ أَعْظَمُ " وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوُجُوبِ بِهَذَا الْفِعْلِ ، إمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ مِنْ كَوْنِهِ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ . وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ . وَإِمَّا بِأَنْ يُضَمَّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُجُوبِ ، مَعَ هَذَا الْقَوْلِ . أَعْنِي قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَهَذَا إذَا أُخِذَ مُفْرَدًا عَنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ وَسِيَاقِهِ : أَشْعَرَ بِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِأَنْ يُصَلُّوا كَمَا صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْوَى الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ ثَبَتَ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا هَذَا الْكَلَامُ قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ - فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَحِيمًا رَفِيقًا . فَظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا . فَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ . فَقَالَ : ارْجِعُوا إلَى أَهْلِيكُمْ ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ ، وَمُرُوهُمْ . فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ . ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ زَادَ الْبُخَارِيُّ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَهَذَا خِطَابٌ لِمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بِأَنْ يُوقِعُوا الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي رَأَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَيُشَارِكُهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي أَنْ يُوقِعُوا الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ . فَمَا ثَبَتَ اسْتِمْرَارُ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ دَائِمًا : دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ ، وَكَانَ وَاجِبًا . وَبَعْضُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ ، أَيْ مَقْطُوعٌ بِاسْتِمْرَارِ فِعْلِهِ لَهُ . وَمَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى صِفَتِهَا - لَا يُجْزَمُ بِتَنَاوُلِ الْأَمْرِ لَهُ . وَهَذَا أَيْضًا يُقَالُ فِيهِ مِنْ الْجَدَلِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ . وَقَوْلُهَا " وَالْقِرَاءَةُ بِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . فَإِنَّهُ لَوْ تَخَلَّلَ ذِكْرٌ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِفْتَاحُ بِالْقِرَاءَةِ بِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا عَلَى أَنْ تَكُونَ " الْقِرَاءَةُ " مَجْرُورَةً لَا مَنْصُوبَةً وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ أَيْضًا عَلَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْفَاتِحَةِ . وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : يَفْتَتِحُ بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ . وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَجْرَى مَجْرَى الْحِكَايَةِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبُدَاءَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ . فَلَا يَكُونُ قَبْلَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَكُونُ هُوَ الْمُفْتَتَحُ بِهِ . وَإِنْ جُعِلَ اسْمًا فَسُورَةُ الْفَاتِحَةِ لَا تُسَمَّى بِهَذَا الْمَجْمُوعِ . أَعْنِي " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " بَلْ تُسَمَّى بِسُورَةِ الْحَمْدِ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ " كَانَ يَفْتَتِحُ بِالْحَمْدِ " لَقَوِيَ هَذَا الْمَعْنَى . فَإِنَّهُ يَدُلُّ حِينَئِذٍ عَلَى الِافْتِتَاحِ بِالسُّورَةِ الَّتِي الْبَسْمَلَةُ بَعْضُهَا عِنْدَ هَذَا الْمُتَأَوِّلِ لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَشْخَصُ رَأْسَهُ " أَيْ لَمْ يَرْفَعْهُ . وَمَادَّةُ اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلَى الِارْتِفَاعِ . وَمِنْهُ : أَشْخَصَ بَصَرَهُ ، إذَا رَفَعَهُ نَحْوَ جِهَةِ الْعُلُوِّ . وَمِنْهُ الشَّخْصُ لِارْتِفَاعِهِ لِلْأَبْصَارِ وَمِنْهُ : شَخَصَ الْمُسَافِرُ : إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَى غَيْرِهِ . وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ " فَشَخَصَ بِي " أَيْ أَتَانِي مَا يُقْلِقُنِي . كَأَنَّهُ رُفِعَ مِنْ الْأَرْضِ لِقَلَقِهِ . وَقَوْلُهَا " وَلَمْ يُصَوِّبْهُ " أَيْ لَمْ يُنَكِّسْهُ . وَمِنْهُ الصَّيِّبُ : الْمَطَرُ . صَابَ يَصُوبُ إذَا نَزَلَ . قَالَ الشَّاعِرُ : فَلَسْتِ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلَاكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ . وَمَنْ أَطْلَقَ " الصَّيِّبَ " عَلَى الْغَيْمِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الصَّيِّبِ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ .

وَقَوْلُهَا " وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ " إشَارَةٌ إلَى الْمَسْنُونِ فِي الرُّكُوعِ . وَهُوَ الِاعْتِدَالُ وَاسْتِوَاءُ الظَّهْرِ وَالْعُنُقِ .

وَقَوْلُهَا " وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا " دَلِيلٌ عَلَى الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ . وَالْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . الثَّالِثُ : يَجِبُ مَا هُوَ إلَى الِاعْتِدَالِ أَقْرَبُ . وَهَذَا عِنْدَنَا مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي ثَبَتَ اسْتِمْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، أَعْنِي الرَّفْعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَأَمَّا قَوْلُهَا " وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا " يَدُلُّ عَلَى الرَّفْعِ مِنْ السُّجُودِ ، وَعَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . فَأَمَّا الرَّفْعُ : فَلَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَعَدُّدُ السُّجُودِ إلَّا بِهِ ، بِخِلَافِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ . فَإِنَّ الرُّكُوعَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ . وَسَهَا بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَذَكَرَ مَا ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ . فَلَمَّا ذُكِرَ السُّجُودُ قَالَ : الرَّفْعُ مِنْ السُّجُودِ وَالِاعْتِدَالُ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةُ كَالرُّكُوعِ . فَاقْتَضَى ظَاهِرُ كَلَامِهِ : أَنَّ الْخِلَافَ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ جَارٍ فِي الرَّفْعِ مِنْ السُّجُودِ . وَهَذَا سَهْوٌ عَظِيمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خِلَافٌ فِي الرَّفْعِ مِنْ السُّجُودِ ، إذْ السُّجُودُ ، مُتَعَدِّدٌ شَرْعًا . وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَدُّدُهُ إلَّا بِالرَّفْعِ الْفَاصِلِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ " أَطْلَقَتْ لَفْظَ " التَّحِيَّةِ " عَلَى التَّشَهُّدِ كُلِّهِ ، مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا فَارَقَ فِيهِ الِاسْمُ الْمُسَمَّى . فَإِنَّ " التَّحِيَّةَ " الْمُلْكُ ، أَوْ الْبَقَاءُ ، أَوْ غَيْرُهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي . وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ قَوْلُهُ . وَإِنَّمَا يُقَالُ اسْمُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ . وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِنَا : أَكَلْت الْخُبْزَ وَشَرِبْتُ الْمَاءَ . فَإِنَّ الِاسْمَ هُنَاكَ أُرِيدَ بِهِ الْمُسَمَّى . وَأَمَّا لَفْظَةُ الِاسْمِ : فَقَدْ قِيلَ فِيهَا : إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . وَفِيهِ نَظَرٌ دَقِيقٌ . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى . وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى " يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِيَارِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ لِلْجُلُوسِ لِلرَّجُلِ . وَمَالِكٌ اخْتَارَ التَّوَرُّكَ وَهُوَ أَنْ يُفْضِيَ بِوَرِكِهِ إلَى الْأَرْضِ ، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى . وَالشَّافِعِيُّ فَرَّقَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ . فَفِي الْأَوَّلِ اخْتَارَ الِافْتِرَاشَ عَلَى التَّوَرُّكِ . وَفِي الثَّانِي اخْتَارَ التَّوَرُّكَ . وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا هَيْئَةُ التَّوَرُّكِ . فَجَمَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَحَمَلَ الِافْتِرَاشَ عَلَى الْأَوَّلِ . وَحَمَلَ التَّوَرُّكَ عَلَى الثَّانِي . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ . وَرُجِّحَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَمْرَيْنِ لَيْسَا بِالْقَوِيَّيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْهَيْئَةِ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّذَكُّرِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي كَوْنِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ، أَوْ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الِافْتِرَاشَ هَيْئَةُ اسْتِيفَازٍ . فَنَاسَبَ أَنْ تَكُونَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَوْفِزٌ لِلْقِيَامِ . وَالتَّوَرُّكُ هَيْئَةُ اطْمِئْنَانٍ . فَنَاسَبَ الْأَخِيرَ ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى النَّقْلِ أَوْلَى . وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ " وَيُرْوَى " عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ " وَفُسِّرَ بِأَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسَ بِأَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ أَيْضًا الْإِقْعَاءَ . وَقَوْلُهَا " وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ إلَى قَوْلِهَا - السَّبُعِ " وَهُوَ أَنْ يَضَعَ ذِرَاعَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ . وَالسُّنَّةُ : أَنْ يَرْفَعَهُمَا ، وَيَكُونُ الْمَوْضُوع عَلَى الْأَرْضِ كَفَّيْهِ فَقَطْ .

وَقَوْلُهَا " وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ " أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَعْيِينِ التَّسْلِيمِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ ، اتِّبَاعًا لِلْفِعْلِ الْمُوَاظَبِ عَلَيْهِ . وَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مُسَمَّى السَّلَام . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا : أَنَّ التَّسْلِيمَ : مِنْ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهَا " وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ " وَلَيْسَ بِالتَّشَهُّدِ الظُّهُورُ فِي ذَلِكَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِيهِ

 

85 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ ، وَقَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ . وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ } .

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَذَاهِبَ مُتَعَدِّدَةٍ . فَالشَّافِعِيُّ قَالَ بِالرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ . أَعْنِي فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ . وَحُجَّتُهُ : هَذَا الْحَدِيثُ . وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَحَادِيثِ سَنَدًا . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الرَّفْعَ فِي غَيْرِ الِافْتِتَاحِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَالْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ . وَاقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى الرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَدْ ثَبَتَ الرَّفْعُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ . وَقِيَاسُ نَظَرِهِ : أَنْ يُسَنَّ الرَّفْعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بِإِثْبَاتِ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ - لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى مَنْ رَوَى الرَّفْعَ عِنْدَ التَّكْبِيرَ فَقَطْ - وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يُثْبِتَ الرَّفْعَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ . فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الرَّفْعَ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثِ فَقَطْ . وَالْحُجَّةُ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : وَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مِنْ يَسِيرِهَا . وَالصَّوَابُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - اسْتِحْبَابُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ ، لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ - لِأَنَّهُ قَالَ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ - فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ . وَلَمَّا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ قُوَّةُ الرَّفْعِ فِي الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : اعْتَذَرَ عَنْ تَرْكِهِ فِي بِلَادِهِ فَقَالَ : وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ فِيهِمَا - أَيْ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ - ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ صِحَّةً ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّ فِي بِلَادِنَا هَذِهِ يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ تَرْكُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَهُ نُسِبَ إلَى الْبِدْعَةِ ، وَتَأَذَّى فِي عِرْضِهِ ، وَرُبَّمَا تَعَدَّتْ الْأَذِيَّةُ إلَى بَدَنِهِ . فَوِقَايَةُ الْعِرْضِ وَالْبَدَنِ بِتَرْكِ سُنَّةٍ : وَاجِبٌ فِي الدِّينِ . وَقَوْلُهُ " حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ " هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ فِي مُنْتَهَى الرَّفْعِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اخْتَارَ الرَّفْعَ إلَى حَذْوِ الْأُذُنَيْنِ وَفِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَرَجَحَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بِقُوَّةِ السَّنَدِ ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَبِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَرَوَى هَذَا الْخَبَرَ بِضْعَةَ عَشْرَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَرُبَّمَا سَلَكَ طَرِيقَ الْجَمْعِ . فَحُمِلَ خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى كَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ . وَالْخَبَرُ الْآخَرُ : عَلَى أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَتْ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أُذُنَيْهِ . وَقِيلَ : إنَّهُ رُوِيَتْ رِوَايَةٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفْعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، وَيُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ } . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيّ مَتَى يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَيُتِمُّ التَّكْبِيرَ مَعَ انْتِهَاءِ إرْسَالِ الْيَدَيْنِ . وَنُسِبَ هَذَا إلَى رِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ . وَقَدْ نُقِلَ فِي رِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ " اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبَّرَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا أُذُنَيْهِ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا نُسِبَ إلَى رِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد فِيهَا بَعْضُ مَجْهُولِينَ ، لَفْظُهَا أَنَّهُ { رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ } وَهَذَا أَقْرَبُ فِي الدَّلَالَةِ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَبِي دَاوُد - فِيهَا انْقِطَاعٌ - أَنَّهُ { أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ ، حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ ، وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ أُذُنَيْهِ . ثُمَّ كَبَّرَ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَجْوَدُ مِنْ هَاتَيْنِ { وَكَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ } وَهَذِهِ مُحْتَمَلَةٌ ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا : فُلَانٌ فَعَلَ : احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ شَرَعَ فِي الْفِعْلِ . وَيُحْتَمَلُ : أَنْ يُرَادَ فَرَغَ مِنْهُ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ : جُمْلَةُ الْفِعْلِ . وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ : يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ . ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ ، ثُمَّ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ مَعَ تَمَامِ الْإِرْسَالِ . وَيُنْسَبُ هَذَا إلَى رِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُرْسِلُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ . وَيُنْسَبُ هَذَا إلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ ظَاهِرُهَا عِنْدِي مُخَالِفٌ لِمَا نُسِبَ إلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ ظَرْفًا لِرَفْعِ الْيَدَيْنِ . فَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ الِافْتِتَاحَ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ التَّكْبِيرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ مَعَهُ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ . وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ الِافْتِتَاحَ عَلَى التَّكْبِيرِ كُلِّهِ . فَأَيْضًا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ الْيَدَيْنِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ . وَقَوْلُهُ { وَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ } يَقْتَضِي جَمْعَ الْإِمَامِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . فَإِنَّ الظَّاهِرَ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا حَكَى وَرَوَى عَنْ حَالَةِ الْإِمَامَةِ . فَإِنَّهَا الْحَالَةُ الْغَالِبَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهَا نَادِرٌ جِدًّا . وَإِنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْإِمَامُ . وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا . وَقَوْلُهُ " وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ " يَعْنِي الرَّفْعَ . وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السُّجُودِ ، أَوْ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ . وَحَمْلُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَقْرَبُ . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَأَنَّهُ لَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ السُّجُود . وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ : يَرْفَعُ ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ . وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْقَاعِدَةِ . وَهُوَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ نَفَاهَا أَوْ سَكَتَ عَنْهَا . وَاَلَّذِينَ تَرَكُوا الرَّفْعَ فِي السُّجُودِ سَلَكُوا مَسْلَكَ التَّرْجِيحِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي تَرْكِ الرَّفْعِ فِي السُّجُودِ ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ رِوَايَةِ مَنْ أَثْبَتَ الزِّيَادَةَ وَبَيْنَ مَنْ نَفَاهَا ، أَوْ سَكَتَ عَنْهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُنْحَصِرَيْنِ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ . فَإِنْ اُدُّعِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَثَبَتَ اتِّحَادُ الْوَقْتَيْنِ : فَذَاكَ

 

 

86 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ : عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ ، وَالرُّكْبَتَيْنِ ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَظْمًا بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ اشْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى عِظَامٍ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ بَعْضِهَا . الثَّانِي : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ . وَالْوَاجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا الْجَبْهَةُ ، لَمْ يَتَرَدَّدْ قَوْلُهُ فِيهِ . وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ لِلْوُجُوبِ . وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَدَمَ الْوُجُوبِ . وَلَمْ أَرَهُمْ عَارَضُوا هَذَا بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ { ثُمَّ يَسْجُدُ فَيُمَكِّنُ جَبْهَتَهُ } وَهَذَا غَايَتُهُ : أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ دَلَالَةَ مَفْهُومٍ وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ ، أَوْ غَايَةٍ . وَالْمَنْطُوقُ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ : مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ ، كَمَا مَرَّ لَنَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } مِنْ قَوْلِهِ { جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا } فَإِنَّهُ ثَمَّةَ يُعْمَلُ بِذَلِكَ الْعُمُومِ مِنْ وَجْهٍ ، إذَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ . وَهَهُنَا إذَا قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ : أَسْقَطْنَا الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ - أَعْنِي الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ - مَعَ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهَا بِخُصُوصِهَا . وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا : مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ } قَالُوا : فَأَضَافَ السُّجُودَ إلَى الْوَجْهِ . فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إضَافَةِ السُّجُودِ إلَى الْوَجْهِ انْحِصَارُ السُّجُودِ فِيهِ . وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا : الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّ مُسَمَّى السُّجُودِ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ زِيَادَةٍ عَلَى الْمُسَمَّى ، فَلَا تُتْرَكُ . وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا : الْمُعَارَضَةُ بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ ، لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : أَعْضَاءٌ لَا يَجِبُ كَشْفُهَا . فَلَا يَجِبُ وَضْعُهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْضَاءِ ، سِوَى الْجَبْهَةِ . وَقَدْ رَجَّحَ الْمَحَامِلِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ . وَهُوَ أَحْسَنُ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ رَجَّحَ عَدَمَ الْوُجُوبِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ كَفَاهُ ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مَعًا . وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا . وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا . فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ مَعًا } وَفِي هَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ { الْجَبْهَةُ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ } فَقِيلَ : مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّهُمَا جُعِلَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ وَيَكُونُ الْأَنْفُ كَالتَّبَعِ لِلْجَبْهَةِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَعُضْوٍ مُنْفَرِدٍ عَنْ الْجَبْهَةِ حُكْمًا ، لَكَانَتْ الْأَعْضَاءُ الْمَأْمُورُ بِالسُّجُودِ عَلَيْهَا ثَمَانِيَةً ، لَا سَبْعَةً . فَلَا يُطَابِقُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى الْأَنْفِ . فَإِذَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى أَحَدِهِمَا إشَارَةً إلَى الْآخَرِ . فَتُطَابِقُ الْإِشَارَةُ الْعِبَارَةَ وَرُبَّمَا اُسْتُنْتِجَ مِنْ هَذَا : أَنَّهُ إذَا سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ كَانَ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ كَالسُّجُودِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ فَيُجْزِئُ . وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ ، لِكَوْنِهِمَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ الْأَمْرِ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ . فَذَلِكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ ، لَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ لَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إلَيْهِ . فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ . فَإِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجِهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ يَقِينًا . وَأَمَّا اللَّفْظُ : فَإِنَّهُ مُعَيِّنٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ . فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى . الثَّالِثُ : الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ - هَاهُنَا - الْكَفَّانِ . وَقَدْ اعْتَقَدَ قَوْمٌ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ " الْيَدَيْنِ " يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَاسْتَنْتَجُوا مِنْ ذَلِكَ : أَنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ : فَسَوَاءٌ صَحَّ هَذَا أَمْ لَا ، فَالْمُرَادُ هَهُنَا الْكَفَّانِ ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى بَقِيَّةِ الذِّرَاعِ : لَدَخَلَ تَحْتَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ افْتِرَاشِ الْكَلْبِ أَوْ السَّبُعِ . ثُمَّ تَصَرَّفَ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ الْمُرَادَ الرَّاحَةُ ، أَوْ الْأَصَابِعُ . وَلَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، بَلْ يَكْفِي أَحَدُهُمَا . وَلَوْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَفِّ لَمْ يُجْزِهِ . هَذَا مَعْنَى مَا قَالَ .

الرَّابِعُ : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَشْفُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ . فَإِنَّ مُسَمَّى السُّجُودِ يَحْصُلُ بِالْوَضْعِ . فَمَنْ وَضَعَهَا فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ . فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ . وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى بَحْثٍ أُصُولِيٍّ . وَهُوَ أَنَّ الْإِجْزَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا هَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ ، أَمْ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ ، مَضْمُومًا إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ؟ . وَحَاصِلُهُ : أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ : هَلْ هُوَ عِلَّةُ الْإِجْزَاءِ ، أَوْ جُزْءُ عِلَّةِ الْإِجْزَاءِ ؟ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ كَشْفَ الرُّكْبَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ . وَكَذَلِكَ الْقَدَمَانِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلِمَا يُحْذَرُ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ . وَأَمَّا الثَّانِي : وَهُوَ عَدَمُ كَشْفِ الْقَدَمَيْنِ فَعَلَيْهِ دَلِيلٌ لَطِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَقَّتَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بِمُدَّةٍ تَقَعُ فِيهَا الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفِّ . فَلَوْ وَجَبَ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ لَوَجَبَ نَزْعُ الْخُفَّيْنِ . وَانْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ ، وَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ . وَهَذَا بَاطِلٌ . وَمَنْ نَازَعَ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِنَزْعِ الْخُفِّ ، فَيُدَلُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ الَّذِي فِيهِ { أُمِرْنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا } - إلَى آخِرِهِ " . فَتَقُولُ : لَوْ وَجَبَ كَشْفُ الْقَدَمَيْنِ لَنَاقَضَهُ إبَاحَةُ عَدَمِ النَّزْعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا لَفْظَةُ " أُمِرْنَا " الْمَحْمُولَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَأَمَّا الْيَدَانِ . فَلِلشَّافِعِيِّ تَرَدُّدٌ فِي وُجُوبِ كَشْفِهِمَا .

 

87 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَع رَأْسَهُ ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ كُلِّهَا ، حَتَّى يَقْضِيَهَا ، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إتْمَامِ التَّكْبِيرِ ، بِأَنْ يُوقَعَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ ، مَعَ التَّسْمِيعِ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا ، بَعْدَ أَنْ كَانَ وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَفِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ { : أَنَّهُ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ } . الثَّانِي قَوْلُهُ { يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ } يَقْتَضِي إيقَاعَ التَّكْبِيرِ فِي حَالِ الْقِيَامِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ لِلتَّكْبِيرِ ، وَقِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ - عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهَا - مَعَ الْقُدْرَةِ . فَكُلُّ انْحِنَاءٍ يَمْنَعُ اسْمَ الْقِيَامِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ : يُبْطِلُ التَّحْرِيمَ ، وَيَقْتَضِي عَدَمَ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ فَرْضًا . وَقَوْلُهُ { ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ } يَدُلُّ عَلَى جَمْعِ الْإِمَامِ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ ، لِمَا ذَكَرْنَا : أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْصُوفَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الْإِمَامَةِ لِلْغَلَبَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيعَ يَكُونُ حِينَ الرَّفْعِ ، وَالتَّحْمِيدَ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى ابْتِدَائِهِ وَعَلَى انْتِهَائِهِ وَعَلَى جُمْلَتِهِ حَالَ مُبَاشَرَتِهِ . وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ { يَقُولُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ } عَلَى حَرَكَتِهِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ . لِيَكُونَ الْفِعْلُ مُسْتَصْحِبًا فِي جَمِيعِهِ لِلذِّكْرِ . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ { يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ } - إلَى آخِرِهِ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ هَذَا التَّكْبِيرِ . فَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي النُّهُوضِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ قَائِمًا . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . فَإِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ " حِينَ يَرْفَعُ " عَلَى ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ ، وَجُعِلَ ظَاهِرًا فِيهِ : دَلَّ ذَلِكَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَيُرَجَّحُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِشَغْلِ زَمَنِ الْفِعْلِ بِالذِّكْرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

88 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ - عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . فَكَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ ، وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَخَذَ بِيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ، وَقَالَ : قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ : صَلَّى بِنَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .

" مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ - مَكْسُورُ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ، مُشَدَّدُ الْخَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ - أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ يُقَال : إنَّهُ مِنْ بَنِي الْحَرِيشِ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ - وَالْحَرِيشُ مِنْ بَنِي عَامِر بْنِ صَعْصَعَةَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ . مُتَّفَقٌ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى التَّكْبِيرِ فِي الْحَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَإِتْمَامُ التَّكْبِيرِ فِي حَالَاتِ الِانْتِقَالَاتِ . وَهُوَ الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ وَأَئِمَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ . وَقَدْ كَانَ فِيهِ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ خِلَافٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا . فَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إتْمَامٍ . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ : مَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا حُكْمُ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ ، وَهَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَمْ لَا ؟ فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْوُجُوبِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ رَجَعَ إلَى مَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ ، مِنْ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْ هَاهُنَا مَأْخَذُ مَنْ يَرَى الْوُجُوبَ - وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . وَإِذَا قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ : فَهَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ إذَا تَرَكَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَلَوْ وَاحِدَةً ، أَوْ لَا يَسْجُدُ وَلَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ ، أَوْ لَا يَسْجُدُ حَتَّى يَتْرُكَ مُتَعَدِّدًا مِنْهَا ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَلَيْسَ لَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَعَلُّقٌ ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مُقَدِّمَةً . فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَيَضُمُّ إلَيْهِ مُقَدِّمَةً أُخْرَى : أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ يَقْتَضِي السُّجُودَ ، إنْ ثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ . فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى السُّجُودِ . وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ : فَرَاجِعٌ إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَتَخْفِيفِ أَمْرِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ تَرْكَهَا لَا يُوجِبُ السُّجُودَ .

 

 

89 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ { الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : رَمَقْتُ الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ ، فَرَكْعَتَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ ، فَسَجْدَتَهُ ، فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، فَسَجْدَتَهُ فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ : قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ . } وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ } .

قَوْلُهُ " قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ " قَدْ يَقْتَضِي : إمَّا تَطْوِيلَ مَا الْعَادَةُ فِيهِ التَّخْفِيفُ ، أَوْ تَخْفِيفَ مَا الْعَادَةُ فِيهِ التَّطْوِيلُ ، إذَا كَانَ ثَمَّ عَادَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ . وَقَدْ وَرَدَ مَا يَقْتَضِي التَّطْوِيلَ فِي الْقِيَامِ ، كَقِرَاءَةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ . وَكَمَا وَرَدَ فِي التَّطْوِيلِ فِي قِرَاءَةِ الظُّهْرِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا . وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَرْكَانِ الطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ : هَلْ هُوَ رُكْنٌ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ ؟ وَرَجَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ رُكْنٌ قَصِيرٌ . وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيهِ : أَنَّ تَطْوِيلَهُ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الصَّلَاةِ . وَمِنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ إذَا طَوَّلَهُ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا تَبْطُلُ حَتَّى يَنْقِلَ إلَيْهِ رُكْنًا ، كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ التَّشَهُّدِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ مِنْ الرُّكُوعِ رُكْنٌ طَوِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ - فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا - بِمِقْدَارِ مَا إذَا فَعَلَ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ كَانَ قَصِيرًا . وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ - مِنْ اسْتِوَاءِ الصَّلَاةِ - ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ الْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّطْوِيلِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ { وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا } . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ " مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ - إلَى آخِرِهِ " وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى تَصْحِيحِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، دُونَ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِيَامُ . وَنَسَبَ رِوَايَةَ ذِكْرِ الْقِيَامِ إلَى الْوَهْمِ . وَهَذَا بَعِيدٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ تَوْهِيمَ الرَّاوِي الثِّقَةَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ - لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ قَوِيٌّ - لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ ، عَلَى كَوْنِهَا وَهْمًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، حَتَّى يُحْمَلَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ فِيمَا عَدَا الْقِيَام . فَإِنَّهُ قَدْ صُرِّحَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ بِذِكْرِ الْقِيَامِ . وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كَانَ مُخْتَلِفًا . فَتَارَةً يَسْتَوِي الْجَمِيعُ . وَتَارَةً يَسْتَوِي مَا عَدَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَلَيْسَ فِي هَذَا إلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا الْخُرُوجُ عَمَّا تَقْضِيهِ لَفْظَةُ " كَانَ " - إنْ كَانَتْ وَرَدَتْ - مِنْ الْمُدَاوَمَةِ ، أَوْ الْأَكْثَرِيَّةِ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : الْحَدِيثُ وَاحِدٌ ، اخْتَلَفَتْ رُوَاتُهُ عَنْ وَاحِدٍ . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ التَّعَارُضَ . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي دَعَا مَنْ ذَكَرْنَا عَنْهُ أَنَّهُ نَسَبَ تِلْكَ الرِّوَايَةَ إلَى الْوَهْمِ مِمَّنْ قَالَهُ . وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي : أَعْنِي اتِّحَادَ الرِّوَايَةِ - أَقْوَى مِنْ الْأُولَى فِي وُقُوعِ التَّعَارُضِ . وَإِنْ اُحْتُمِلَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفِقْهِيَّةِ . وَلَا يُقَالُ : إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَاَلَّذِي أَثْبَتَ التَّطْوِيلَ فِي الْقِيَامِ لَا يُعَارِضُهُ مَنْ نَفَاهُ . فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي . لِأَنَّا نَقُولُ ، الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَقْتَضِي بِنَصِّهَا عَدَمَ التَّطْوِيلِ فِي الْقِيَامِ ، وَخُرُوجُ تِلْكَ الْحَالَةِ - أَعْنِي حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ - عَنْ بَقِيَّةِ حَالَاتِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ . فَيَكُونُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَحْصُورَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ . وَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ إذَا انْحَصَرَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ تَعَارَضَا ، إلَّا أَنْ يُقَالَ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلَا يَبْقَى فِيهَا انْحِصَارٌ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ . وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا إلَّا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظَةِ " كَانَ " إنْ وُجِدَتْ فِي حَدِيثٍ أَوْ كَوْنُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا عَنْ مُخَرِّجٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَلْيُنْظَرْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَاتِ وَيُحَقَّقْ الِاتِّحَادُ أَوْ الِاخْتِلَافُ فِي مُخَرِّجِ الْحَدِيثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

91 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً . وَلَا أَتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . 92 - الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ : عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ الْبَصْرِيِّ - قَالَ { جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا ، فَقَالَ : إنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَقُلْتُ لِأَبِي قِلَابَةَ : كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي ؟ فَقَالَ : مِثْلَ صَلَاةِ شَيْخِنَا هَذَا ، وَكَانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ } .

أَرَادَ بِشَيْخِهِمْ : أَبَا بُرَيْدٍ - عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ الْجَرْمِيَّ وَيُقَالُ أَبُو يَزِيدَ . حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ أَمْرَيْنِ فِي الصَّلَاةِ : التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ ، مَعَ الْإِتْمَامِ وَعَدَمِ التَّقْصِيرِ . وَذَلِكَ هُوَ الْوَسَطُ الْعَدْلُ . وَالْمَيْلُ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ خُرُوجٌ عَنْهُ أَمَّا التَّطْوِيلُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ : فَإِضْرَارٌ بِالْمَأْمُومِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالتَّصْرِيحُ بِعِلَّتِهِ . وَأَمَّا التَّقْصِيرُ عَنْ الْإِتْمَامِ : فَبَخْسٌ لِحَقِّ الْعِبَادَةِ . وَلَا يُرَادُ بِالتَّقْصِيرِ هَاهُنَا : تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ . فَإِنَّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ مُوجِبٌ لِلنَّقْصِ الَّذِي يَرْفَعُ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا الْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّقْصِيرُ عَنْ الْمَسْنُونَاتِ ، وَالتَّمَامُ بِفِعْلِهَا . وَالْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ خَرَّجَهُ مِنْ طُرُقٍ : مِنْهَا رِوَايَةُ وُهَيْبٍ ، وَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هِيَ رِوَايَةُ وُهَيْبٍ . وَفِي آخِرِهَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ " وَإِذَا رَفَعَ - رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ - جَلَسَ ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَامَ " وَفِي رِوَايَةِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ { رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ : لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا } . الثَّانِي : مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، وَيُقَال : ابْنُ الْحَارِثِ ، وَيُقَالُ : حُوَيْرِثَةُ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ - أَحَدُ مَنْ سَكَنَ الْبَصْرَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ . وَيُكَنَّى أَبَا سُلَيْمَانَ . وَشَيْخُهُمْ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ أَبُو بُرَيْدٍ - بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ - عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ - بِكَسْرِ اللَّامِ - الْجَرْمِيُّ - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ . الثَّالِثُ : قَوْلُ " إنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ " أَيْ أُصَلِّي صَلَاةَ التَّعْلِيمِ ، لَا أُرِيدُ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ . فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّشْرِيكِ فِي الْعَمَلِ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ " أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي " . يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ . وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْبَيَانِ بِالْقَوْلِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى آحَادِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْقَوْلُ نَاصًّا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا .

الْخَامِسُ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ . فَقَالَ بِهَا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَأَبَاهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمَا . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَدِلُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِهَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ . وَعُذْرُ الْآخَرِينَ عَنْهُ : أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا بِسَبَبِ الضَّعْفِ لِلْكِبَرِ ، كَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ " إنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَرْجِعُ مِنْ سَجْدَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ . فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي أَشْتَكِي " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا فِي فِعْلٍ آخَرَ لِابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ " إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي " وَالْأَفْعَالُ إذَا كَانَتْ لِلْجِبِلَّةِ ؛ أَوْ ضَرُورَةِ الْخِلْقَةِ لَا تَدْخُلُ فِي أَنْوَاعِ الْقُرَبِ الْمَطْلُوبَةِ . فَإِنْ تَأَيَّدَ هَذَا التَّأْوِيلُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَفْعَالَهُ السَّابِقَةَ حَالَةَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ : لَمْ يَكُنْ فِيهَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ، أَوْ يَقْتَرِنْ فِعْلُهَا بِحَالَةِ الْكِبَرِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ . فَلَا بَأْسَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ . وَقَدْ تَرَجَّحَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ : أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا جَارِيًا مَجْرَى أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ ، وَلَا ظَهَرَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ ، وَلَا عُلِمَ صِفَتُهُ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ ظَهَرَ : فَمَنْدُوبٌ ، وَإِلَّا فَمُبَاحٌ . لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ هَيْئَتِهَا ، لَا سِيَّمَا الْفِعْلُ الزَّائِدُ الَّذِي تَقْتَضِي الصَّلَاةُ مَنْعَهُ . وَهَذَا قَوِيٌّ ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ بِسَبَبِ الْكِبَرِ أَوْ الضَّعْفِ يَظْهَرُ بِتِلْكَ الْقَرِينَةِ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ . فَإِنْ قَوِيَ ذَلِكَ بِاسْتِمْرَارِ عَمَلِ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْجُلُوسِ ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الرُّجْحَانِ .

93 - الْحَدِيثُ الْحَادِيَ عَشَرَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ بْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ } . `

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ . وَبُحَيْنَةُ أُمُّهُ - بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ، وَنُونٌ مَفْتُوحَةٌ - وَأَبُوهُ مَالِكُ بْنُ الْقِشْبِ - بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ، وَآخِرُهُ بَاءٌ - أَزْدِيُّ النَّسَبِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ . تُوُفِّيَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ . وَهُوَ أَحَدُ مَنْ نُسِبَ إلَى أُمِّهِ . فَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ عَبْدُ اللَّهِ " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ، وَجَبَ أَنْ يُنَوَّنَ " مَالِكٌ " أَبُوهُ ، وَيُرْفَعَ " ابْنٌ " لِأَنَّهُ لَيْسَ صِفَةً لِمَالِكٍ . فَيُتْرَكُ تَنْوِينُهُ وَيُجَرُّ . وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ . وَإِذَا وَقَعَ عَبْدُ اللَّهِ " فِي مَوْضِعِ جَرٍّ : نُوِّنَ مَالِكٌ وَجُرَّ " ابْنٌ " لِأَنَّهُ لَيْسَ " ابْنٌ " صِفَةً لِمَالِكٍ . وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فِيهَا صِفَةُ الْإِعْرَابِ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبَ اللُّغَوِيِّ " صَاحِبِ كِتَابِ " الْمُحَبَّرِ " فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ . فَإِنَّ حَبِيبَ " أُمُّهُ لَا أَبُوهُ ، فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ صَرْفُهُ ، وَيُقَالُ : مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبَ . وَقِيلَ : إنَّهُ أَبُوهُ . وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفَ الْقَيْرَوَانِيُّ " الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ الْمَجِيدُ : أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى أُمِّهِ " شَرَفَ " وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ لَوْ تُتُبِّعَتْ لَجُمِعَ مِنْهَا قَدْرٌ كَثِيرٌ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ بُحَيْنَةَ " أُمُّ أَبِيهِ مَالِكٍ . وَالْأَوَّلُ : أَصَحُّ . وَقَدْ اعْتَنَى بِجَمْعِهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ . الثَّانِي : فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَافِي فِي الْيَدَيْنِ عَنْ الْجَنْبَيْنِ فِي السُّجُودِ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى تَخْوِيَةً . وَفِيهِ أَيْضًا عَدَمُ بَسْطِ الذِّرَاعَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِنَّهُ لَا يُرَى بَيَاضُ الْإِبْطَيْنِ مَعَ بَسْطِهِمَا . وَالتَّخْوِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِلرِّجَالِ . لِأَنَّ فِيهَا إعْمَالُ الْيَدَيْنِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَإِخْرَاجُ هَيْئَتِهَا عَنْ صِفَةِ التَّكَاسُلِ وَالِاسْتِهَانَةِ إلَى صِفَةِ الِاجْتِهَادِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا - عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ - بَعْضُ الْحَمْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَأَثَّرُ بِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَهَذَا مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْحَمْلُ عَنْ الْوَجْهِ مُزِيلًا لِلتَّحَامُلِ عَلَى الْأَرْضِ . فَإِنَّهُ قَدْ اُشْتُرِطَ فِي السُّجُودِ ، وَالْفُقَهَاءُ خَصُّوا ذَلِكَ بِالرِّجَالِ ، وَقَالُوا : الْمَرْأَةُ تَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّصَوُّنُ وَالتَّجَمُّعُ وَالتَّسَتُّرُ . وَتِلْكَ الْحَالَةُ أَقْرَبُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ . .

 

94 - الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ : عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : { سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } .

سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَسْلَمَةَ أَبُو مُسْلَمَةَ أَزْدِيٌّ طَاحِيٌّ - بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا - مَنْسُوبٌ إلَى طَاحِيَةَ - بَطْنٌ مِنْ الْأَزْدِ - مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الِاسْتِحْبَابُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الصَّلَاةِ . فَإِنْ قُلْتَ : لَعَلَّهُ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ ، وَكَمَالِ الْهَيْئَةِ ، فَيَجْرِي مَجْرَى الْأَرْدِيَةِ وَالثِّيَابِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ . قُلْتُ : هُوَ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ - إلَّا أَنَّ مُلَابَسَتَهُ لِلْأَرْضِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا النَّجَاسَاتُ مِمَّا يَقْصُرُ بِهِ عَنْ هَذَا الْمَقْصُودِ ، وَلَكِنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْأَصْلِ ، إنْ انْتَهَضَ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ ، فَيُعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ . وَالْقُصُورُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ الثِّيَابِ الْمُتَجَمَّلِ بِهَا يَمْنَعُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْمُسْتَحَبَّاتِ إلَّا أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ بِإِلْحَاقِهِ بِمَا يُتَجَمَّلُ بِهِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَيُتْرَكُ هَذَا النَّظَرُ ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا النَّظَرَ - إنْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ - أَنَّ التَّزَيُّنَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَهِيَ رُتْبَةُ التَّزْيِينَاتِ وَالتَّحْسِينَاتِ ، وَمُرَاعَاةُ أَمْرِ النَّجَاسَةِ : مِنْ الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ ، أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْحَاجِيَّاتُ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ . فَيَكُونُ رِعَايَةُ الْأُولَى بِدَفْعِ مَا قَدْ يَكُونُ مُزِيلًا لَهَا أَرْجَحَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا . وَيُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي عَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ . وَبِالْحَدِيثِ فِي الْجَوَازِ ، وَتَرَتُّبِ كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ فِي حُكْمِ النَّجَاسَاتِ وَالطَّهَارَاتِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إذَا عَارَضَهُ الْغَالِبُ : أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ ؟ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إلَى النَّعْلَيْنِ ، وَدَلْكِهِمَا إنْ رَأَى فِيهِمَا أَذًى ، أَوْ كَمَا قَالَ فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ : فَالظَّاهِرُ رُؤْيَتُهَا لِأَمْرِهِ بِالنَّظَرِ ، فَإِذَا رَآهَا فَالظَّاهِرُ دَلْكُهُمَا لِأَمْرِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ . فَإِذَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ طَهُورًا لَهُمَا ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ ، بَلْ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ : مَا لَوْ صَلَّى فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قُلْتَ : الْأَصْلُ عَدَمُ دَلْكِهِ . قُلْتُ : لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا لَمْ يَتْرُكْهُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ . وَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ بِهَذَا رَاجِحٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُدَلِّكْهُ . .

 

 

95 - الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا } .

أَبُو قَتَادَةَ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ - بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - ابْنُ بُلْدُمَةَ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَالدَّالِ وَفَتْحِهِمَا - مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ . وَقِيلَ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ . وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً ، وَيُقَالُ : سَنَةَ أَرْبَعِينَ . وَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ بَدْرِيًّا . وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّظَرُ فِي هَذَا الْحَمْلِ وَوَجْهِ إبَاحَتِهِ . الثَّانِي : النَّظَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِطَهَارَةِ ثَوْبِ الصَّبِيَّةِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ . وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمُسَامَحَةَ فِي النَّافِلَةِ قَدْ تَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ ، كَانَ ذَلِكَ تَأْنِيسًا بِالْمُسَامَحَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ { بَيْنَمَا نَحْنُ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ - أَوْ الْعَصْرِ - خَرَجَ عَلَيْنَا حَامِلًا أُمَامَةَ } - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرِيضَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي نَافِلَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْفَرِيضَةِ . وَمِمَّا يُبْعِدُ هَذَا التَّأْوِيلَ : أَنَّ الْغَالِبَ فِي إمَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ . وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ قَائِمًا عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إمَامًا . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ إلَى { أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ . قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّ النَّاسَ ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ - وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَاتِقِهِ } الْحَدِيثَ " . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كَانَ لِلضَّرُورَةِ . وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَفَرَّقَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ شَدِيدَةً ، بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مَنْ يَكْفِيهِ أَمْرَ الصَّبِيِّ ، وَيَخْشَى عَلَيْهِ . فَهَذَا يَجُوزُ فِي النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ . وَإِنْ كَانَ حَمْلُ الصَّبِيِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَى الْكِفَايَةِ لِأُمِّهِ ، لِشُغْلِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ : لَمْ يَصْلُحْ إلَّا فِي النَّافِلَةِ . وَهَذَا أَيْضًا عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْكَالِ : أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ . وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَلَعَلَّ هَذَا نَسْخٌ بِتَحْرِيمِ الْعَمَلِ وَالِاشْتِغَالِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِهَا . وَقَدْ رُدَّ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ عِنْدَ قُدُومِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْحَبَشَةِ . فَإِنَّ قُدُومَ زَيْنَبَ وَابْنَتِهَا إلَى الْمَدِينَةِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ . وَقَدْ قِيلَ : هَذَا مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا يُؤْمَنُ مِنْ الطِّفْلِ الْبَوْلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى حَامِلِهِ . وَقَدْ يُعْصَمُ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعْلَمُ سَلَامَتُهُ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةَ حَمْلِهِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْخُصُوصِ فَبِالنِّسْبَةِ إلَى مُلَابَسَةِ الصَّبِيَّةِ ، مَعَ احْتِمَالِ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِأَمْرِ الْحَمْلِ بِخُصُوصِهِ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ . وَلَعَلَّ قَائِلَ هَذَا لَمَّا أَثْبَتَ الْخُصُوصِيَّةَ فِي الْحَمْلِ بِمَا ذَكَرَهُ - مِنْ اخْتِصَاصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ عِلْمِهِ بِعِصْمَةِ الصَّبِيَّةِ مِنْ الْبَوْلِ حَالَةَ الْحَمْلِ - تَأَنَّسَ بِذَلِكَ . فَجَعَلَهُ مَخْصُوصًا بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ أَيْضًا . فَقَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْأَبْوَابِ الَّتِي ظَهَرَتْ خُصُوصِيَّاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، وَيَقُولُونَ : خُصَّ بِكَذَا فِي هَذَا الْبَابِ . فَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا . إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ فِي أَمْرٍ : الِاخْتِصَاصُ فِي غَيْرِهِ بِلَا دَلِيلٍ . فَلَا يَدْخُلُ الْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّخْصِيصِ . الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي قَرَّبَ دَعْوَاهُ الِاخْتِصَاصَ لِجَوَازِ الْحَمْلِ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ اخْتِصَاصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْبَوْلِ . وَهَذَا مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِجَوَازِ مُلَابَسَتِهِ لِلصَّبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ . وَهُوَ مَعْدُومٌ فِيمَا نَتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحَمْلِ بِخُصُوصِهِ . فَالْقَوْلُ بِالِاخْتِصَاصِ فِيهِ قَوْلٌ بِلَا عِلَّةٍ تُنَاسِبُ الِاخْتِصَاصَ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : حَمْلُ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أُمَامَةُ فِي تَعَلُّقِهَا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَنُّسِهَا بِهِ ، كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِهِ بِنَفْسِهَا فَيَتْرُكُهَا فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ وَضَعَهَا : فَإِنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْهُ : إنَّمَا هُوَ الْوَضْعُ لَا الرَّفْعُ ، فَيَقِلُّ الْعَمَلُ الَّذِي تُوُهِّمَ مِنْ الْحَدِيثِ . وَلَقَدْ وَقَعَ لِي أَنَّ هَذَا حَسَنٌ . فَإِنَّ لَفْظَةَ " وَضْعٍ " لَا تُسَاوِي " حَمْلٍ " فِي قَضَاءِ فِعْلِ الْفَاعِلِ . فَإِنَّا نَقُولُ لِبَعْضِ الْحَوَامِلِ " حَمَلَ كَذَا " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِعْلُ الْحَمْلِ . وَلَا يُقَالُ " وَضَعَ " إلَّا بِفِعْلٍ حَتَّى نَظَرْتُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحَةِ . فَوَجَدْتُ فِيهِ " فَإِذَا قَامَ أَعَادَهَا " وَهَذَا يَقْتَضِي الْفِعْلَ ظَاهِرًا . الْوَجْهُ السَّادِسُ : وَهُوَ مُعْتَمَدُ بَعْضِ مُصَنِّفِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ إنَّمَا يَفْسُدُ إذَا وَقَعَ مُتَوَالِيًا ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ قَدْ لَا تَكُونُ مُتَوَالِيَةً . فَلَا تَكُونُ مُفْسِدَةً . وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْأَرْكَانِ - لَا سِيَّمَا فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكُونُ فَاصِلَةً . وَلَا شَكَّ أَنَّ مُدَّةَ الْقِيَامِ طَوِيلَةٌ فَاصِلَةٌ . وَهَذَا الْوَجْهُ إنَّمَا يَخْرُجُ بِهِ إشْكَالُ كَوْنِهِ عَمَلًا كَثِيرًا ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمُطْلَقِ الْحَمْلِ .

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ النَّظَرُ إلَى الْإِشْكَالِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةِ - فَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ فِي النَّجَاسَاتِ . وَرَجَّحَ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ وَصَحَّ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إشَارَةٌ إلَى هَذَا . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَثَوْبُ أُمَامَةَ ثَوْبُ صَبِيٍّ وَيُرَدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ فَرْدَةٌ . وَالثَّانِي يَعْتَادُونَ تَنْظِيفَ الصِّبْيَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَتَنْظِيفَ ثِيَابِهِمْ عَنْ الْأَقْذَارِ . وَحِكَايَاتُ الْأَحْوَالِ لَا عُمُومَ لَهَا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّنْظِيفُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ " وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ " هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي نَسَبِهِ عِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ جَدٌّ لَهُ . وَهُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَنُسِبَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ إلَى جَدِّهِ . وَهَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَحَارِمِ أَوْ مَنْ لَا يُشْتَهَى : غَيْرُ نَاقِضٍ لِلطَّهَارَةِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ ، وَهَذَا يُسْتَمَدُّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ حِكَايَاتِ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهَا .

 

 

96 - الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ } .

لَعَلَّ " الِاعْتِدَالَ " هَهُنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ . وَهُوَ وَضْعُ هَيْئَةِ السُّجُودِ مَوْضِعَ الشَّرْعِ . وَعَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ . فَإِنَّ الِاعْتِدَالَ الْخِلْقِيَّ الَّذِي طَلَبْنَاهُ فِي الرُّكُوعِ لَا يَتَأَدَّى فِي السُّجُودِ . فَإِنَّهُ ثَمَّ : اسْتِوَاءُ الظُّهْرِ وَالْعُنُقِ ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا : ارْتِفَاعُ الْأَسَافِلِ عَلَى الْأَعَالِي ، حَتَّى لَوْ تُسَاوَيَا فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ : أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ عَقِيبَ ذَلِكَ { وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ } أَنَّهُ كَالتَّتِمَّةِ لِلْأَوَّلِ . وَأَنَّ الْأَوَّلَ كَالْعِلَّةِ لَهُ . فَيَكُونُ الِاعْتِدَالُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الشَّيْءِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ عِلَّةً لِتَرْكِ الِانْبِسَاطِ انْبِسَاطِ الْكَلْبِ . فَإِنَّهُ مُنَافٍ لِوَضْعِ الشَّرْعِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحُكْمُ مَقْرُونًا بِعِلَّتِهِ . فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ مِمَّا يُنَاسَبُ تَرْكُهُ فِي الصَّلَاةِ . وَمِثْلُ هَذَا التَّشْبِيهِ { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَصَدَ التَّنْفِيرَ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَالَ مَثَلُ الرَّاجِعِ فِي هِبَتِهِ : كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } أَوْ كَمَا قَالَ . .

 

باب القراءة في الصلاة :

98 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } .

" عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ أَنْصَارِيٌّ سَالِمِيٌّ عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ يُكَنَّى أَبَا الْوَلِيدِ . تُوُفِّيَ بِالشَّامِ . وَقَبْرُهُ مَعْرُوفٌ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ . يُقَالُ : تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بِالرَّمْلَةِ . وَقِيلَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ ظَاهِرٌ ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ اعْتَقَدَ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ الْإِجْمَالَ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ . وَهِيَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ فَيُحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إضْمَارِ كُلِّ مُحْتَمَلٍ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْإِضْمَارَ إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ . وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِضْمَارِ فَرْدٍ . وَلَا حَاجَةَ لِإِضْمَارِ أَكْثَرَ مِنْهُ . وَثَانِيهِمَا : أَنَّ إضْمَارَ الْكُلِّ قَدْ يَتَنَاقَضُ . فَإِنَّ إضْمَارَ الْكَمَالِ يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَصْلِ الصِّحَّةِ . وَنَفْيُ الصِّحَّةِ يُعَارِضُهُ . وَإِذَا تَعَيَّنَ إضْمَارُ فَرْدٍ فَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ . فَتَعَيَّنَ الْإِجْمَالُ . وَجَوَابُ هَذَا : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ . وَإِنَّمَا تَكُونُ غَيْرَ مُنْتَفِيَةٍ لَوْ حُمِلَ لَفْظُ " الصَّلَاةِ " عَلَى غَيْرِ عُرْفِ الشَّرْعِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الصِّيَامِ " وَغَيْرِهِ أَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ ، فَيَكُونُ مُنْتَفِيًا حَقِيقَةً . وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِضْمَارِ الْمُؤَدِّي إلَى الْإِجْمَالِ ، وَلَكِنَّ أَلْفَاظَ الشَّارِعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى عُرْفِهِ . لِأَنَّهُ الْغَالِبُ . وَلِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ . فَإِنَّهُ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ ، لَا لِبَيَانِ مَوْضُوعَاتِ اللُّغَةِ . وَقَوْلُهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تُسَمَّى صَلَاةً . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى وُجُوبَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي حُصُولَ اسْمِ " الصَّلَاةِ " عِنْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . فَإِذَا حَصَلَ مُسَمَّى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ الصَّلَاةُ . وَالْمُسَمَّى يَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِحُصُولِ مُسَمَّى الصَّلَاةِ . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَدَّعِيهِ ؛ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مَجَازٌ . وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ اسْمَ " الصَّلَاةِ " حَقِيقَةٌ فِي مَجْمُوعِ الْأَفْعَالِ ، لَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَكَانَ الْمَكْتُوبُ عَلَى الْعِبَادِ : سَبْعَ عَشْرَةَ صَلَاةً . وَجَوَابُ هَذَا : أَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ . فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ مَنْطُوقٌ عَلَى وُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ . لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ صَلَاةٌ . فَتَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ قُدِّمَ عَلَى هَذَا . وَإِلَّا فَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِهِ .

 

99 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ . وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ } .

الْأُولَيَانِ " تَثْنِيَةُ الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ " الْأُخْرَيَانِ " وَأَمَّا مَا يُسْمَعُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ " الْأُولَةُ " وَتَثْنِيَتِهَا بِالْأُولَتَيْنِ فَمَرْجُوحٌ فِي اللُّغَةِ . وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ أُمُورٌ : أَحَدُهَا : يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْعَمَلُ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ الْأُمَّةِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ ذَلِكَ ، أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ . وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ الْفِعْلِ - كَمَا قُلْنَا - مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ ، وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ رَاجِحٌ عَلَى إسْقَاطِ الْوُجُوبِ . وَقَدْ اُدُّعِيَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي قُصِدَ إثْبَاتُ وُجُوبِهَا : أَنَّهَا بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي هَذَا بَحْثٌ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَحْتَاجُ مَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ إلَى إخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا ، أَوْ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اُدُّعِيَ فِيهِ كَوْنِهِ بَيَانًا مِنْ الْأَفْعَالِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ إلَّا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا .

الثَّانِي : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْقِرَاءَةِ بِالْأُولَيَيْنِ فَإِنَّهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ، حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ وَالْأُخْرَيَيْنِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ وَعَدَمِ قِرَاءَتِهَا ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ ، لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَأَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَخْصِيصَ الْأُولَيَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، أَعْنِي التَّطْوِيلَ فِي الْأُولَى وَالتَّقْصِيرَ فِي الثَّانِيَةِ .

الثَّالِثُ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ جَائِزٌ مُغْتَفَرٌ لَا يُوجِبُ سَهْوًا يَقْتَضِي السُّجُودَ .

الرَّابِعُ : يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِيَةِ ، فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ . وَأَمَّا تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِرَاءَةِ فِي الثَّانِيَةِ : فَفِيهِ نَظَرٌ . وَسُؤَالٌ عَلَى مَنْ رَأَى ذَلِكَ ، لَكِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ تَطْوِيلِهَا بِمَحْضِ الْقِرَاءَةِ ، وَبِمَجْمُوعٍ ، مِنْهُ الْقِرَاءَةُ . فَمَنْ لَمْ يَرَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقِرَاءَةِ غَيْرُهَا ، وَحَكَمَ بِاسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْأُولَى ، مُسْتَدِلًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ : لَمْ يَتِمَّ لَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقِرَاءَةِ غَيْرُهَا . وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْقِرَاءَةُ . وَالظَّاهِرُ : أَنَّ التَّطْوِيلَ وَالتَّقْصِيرَ رَاجِعَانِ إلَى مَا ذَكَرَ قَبْلَهُمَا وَهُوَ الْقِرَاءَةُ .

 

100 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : { عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ } الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ } .

" جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قُرَشِيٌّ نَوْفَلِيٌّ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ أَبُو عَدِيٍّ . كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ قُرَيْشٍ وِسَادَاتِهِمْ ، وَكَانَ يُؤْخَذُ عَنْهُ النَّسَبُ . أَسْلَمَ فِيمَا قِيلَ : يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَقِيلَ : عَامَ خَيْبَرَ . وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ ، وَقِيلَ : سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ . وَحَدِيثُهُ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الَّذِي بَعْدَهُ يَتَعَلَّقَانِ بِكَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَصَنَّفَ فِيهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ كِتَابًا مُفْرَدًا . وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْوِيلَ : فِي قِرَاءَةِ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ ، وَالتَّقْصِيرَ فِي الْمَغْرِبِ ، وَالتَّوَسُّطَ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ ، وَغَيْرُهُمْ يُوَافِقُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ ، وَيُخَالِفُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ . وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ مِنْ النَّاسِ عَلَى التَّطْوِيلِ فِي الصُّبْحِ ، وَالْقِصَرِ فِي الْمَغْرِبِ ، وَمَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ عِلَّةٌ فِي الْمُخَالَفَةِ فَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الْمَذْكُورِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ " أَنَّهُ فِي السَّفَرِ " فَمَنْ يَخْتَارُ أَوْسَاطَ الْمُفَصَّلِ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ : يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ مُنَاسِبٌ لِلتَّخْفِيفِ ، لِاشْتِغَالِ الْمُسَافِرِ وَتَعَبِهِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا : أَنَّ مَا صَحَّ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لَمْ يَكْثُرْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ، كَحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فِي قِرَاءَةِ الطُّورِ فِي الْمَغْرِبِ " وَكَحَدِيثِ قِرَاءَةِ " الْأَعْرَافِ " فِيهَا . وَمَا صَحَّتْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ فِي دَرَجَةِ الرُّجْحَانِ فِي الِاسْتِحْبَابِ إلَّا أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مُسْتَحَبًّا وَبَيْنَ كَوْنِ تَرْكِهِ مَكْرُوهًا . وَحَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الْمُتَقَدِّمُ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ إسْلَامِهِ ، لَمَّا قَدِمَ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى . وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَلِيلٌ - أَعْنِي : التَّحَمُّلَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْأَدَاءَ بَعْدَهُ .

 

102 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ ، فَيَخْتِمُ بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ صَنَعَ ذَلِكَ ؟ فَسَأَلُوهُ . فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوهُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ } .

قَوْلُهَا " فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِغَيْرِهَا . وَالظَّاهِرُ : أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعَ غَيْرِهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ . وَيَخْتِمُ بِهَا فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَخْتِمُ بِهَا فِي آخِرِ رَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا السُّورَةَ . وَعَلَى الْأَوَّلِ : يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، إلَّا أَنْ يَزِيدَ الْفَاتِحَةَ مَعَهَا . وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ صِفَةِ الرَّحْمَنِ ، كَمَا إذَا ذُكِرَ وَصْفٌ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ بِأَنَّهُ الْوَصْفُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذِّكْرُ نَفْسَ الْوَصْفِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . وَلَعَلَّهَا خُصَّتْ بِذَلِكَ لِاخْتِصَاصِهَا بِصِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهَا . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ } يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِمَحَبَّتِهِ : قِرَاءَةَ هَذِهِ السُّورَةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا شَهِدَ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِذِكْرِ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَصِحَّةِ اعْتِقَادِهِ .

 

الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ { فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ؟ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ } .

فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي أَيِّ صَلَاةٍ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ : طَوَّلَ فِيهَا مُعَاذٌ بِقَوْمِهِ . فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ هَذَا الْقَدْرِ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ . وَمِنْ الْحَسَنِ أَيْضًا : قِرَاءَةُ هَذِهِ السُّوَرِ بِعَيْنِهَا فِيهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُخْتَلِفَةِ . فَيَنْبَغِي أَنْ تُفْعَلَ . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ " اعْمَلْ بِالْحَدِيثِ وَلَوْ مَرَّةً ، تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ .

 

 

باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

 

104 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } } . وَفِي رِوَايَةٍ " صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " . وَلِمُسْلِمٍ { صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا } .

أَمَّا قَوْلُهُ { كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِهِ وَتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ بِالْفَاتِحَةِ قَبْلَ السُّورَةِ . وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَرَى عَدَمَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَالْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : تَرْكُهَا سِرًّا وَجَهْرًا . وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . الثَّانِي : قِرَاءَتُهَا سِرًّا لَا جَهْرًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ . الثَّالِثُ : الْجَهْرُ بِهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : عَدَمُ الْجَهْرِ . وَأَمَّا التَّرْكُ أَصْلًا : فَمُحْتَمَلٌ ، مَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " لَا يَذْكُرُونَ " . وَقَدْ جَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ بَابَ الْجَهْرِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَجْمَعُهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا - أَوْ الْأَكْثَرُ - مُعْتَلٌّ ، وَبَعْضُهَا جَيِّدُ الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُصَرَّحٍ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَرْضِ ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ . وَبَعْضُهَا فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِ التَّسْمِيَةِ . وَمِنْ صَحِيحِهَا : حَدِيثُ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ قَالَ { كُنْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ : آمِينَ . وَقَالَ النَّاسُ : آمِينَ ، وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الْجُلُوسِ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَقُولُ إذَا سَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي الدَّلَالَةِ وَالصِّحَّةِ : حَدِيثُ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ { وَكَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا ، وَيَقُولُ : مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَبِي . وَقَالَ أَبِي : مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَنَسٍ . وَقَالَ أَنَسٌ : مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ . وَإِذَا ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَطَرِيقُ أَصْحَابِ الْجَهْرِ : أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْإِثْبَاتَ عَلَى النَّفْيِ وَيَحْمِلُونَ حَدِيثَ أَنَسٍ عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ . وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ ، مَعَ طُولِ مُدَّةِ صُحْبَتِهِ . وَأَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ بِالْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ ذَلِكَ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ - تَرْكُ الْجَهْرِ ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى التَّرْكِ مُطْلَقًا .

باب سجود السهو

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ - قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ . وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا - قَالَ : فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ . فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ . وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا : قَصُرَتْ الصَّلَاةُ - وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ . وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ ، يُقَالُ لَهُ : ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَسِيت ، أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ ؟ قَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ . فَقَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ . ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ . فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ : ثُمَّ سَلَّمَ ؟ قَالَ : فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ } .

" الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثَ : بَحْثٌ يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ وَبَحْثٌ يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ . وَبَحْثٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفِقْهِ فَأَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : فَفِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّهْوِ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالنُّظَّارِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { بِأَنَّهُ يَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ } وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَوَغِّلِينَ ، فَقَالَتْ : لَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا يَنْسَى عَمْدًا . وَيَتَعَمَّدُ صُورَةَ النِّسْيَانِ لِيَسُنَّ . وَهَذَا قَطْعًا بَاطِلٌ ، لِإِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَنْسَى ؛ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْعَمْدِيَّةَ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، وَلِأَنَّ صُورَةَ الْفِعْلِ النِّسْيَانِيِّ كَصُورَةِ الْفِعْلِ الْعَمْدِيِّ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزَانِ لِلْغَيْرِ بِالْإِخْبَارِ وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا السَّهْوَ قَالُوا : لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ الْفِعْلِيُّ . وَاخْتَلَفُوا : هَلْ مِنْ شَرْطِ التَّنْبِيهِ الِاتِّصَالُ بِالْحَادِثَةِ ، أَوْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ذَلِكَ ؟ بَلْ يَجُوزُ التَّرَاخِي إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّةُ التَّبْلِيغِ ، وَهُوَ الْعُمْرُ . وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَدْ وَقَعَ الْبَيَانُ فِيهَا عَلَى الِاتِّصَالِ ، وَقَدْ قَسَّمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَفْعَالَ إلَى مَا هُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَلَاغِ ، وَإِلَى مَا لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَلَاغِ ، وَلَا بَيَانَ لِلْأَحْكَامِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْبَشَرِيَّةِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عَادَاتِهِ وَأَذْكَارِ قَلْبِهِ . وَأَبَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ زَمَنٍ . وَقَالَ : إنَّ أَقْوَالَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالَهُ وَإِقْرَارَهُ : كُلَّهُ بَلَاغٌ ، وَاسْتَنْتَجَ بِذَلِكَ الْعِصْمَةَ فِي الْكُلِّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الْعِصْمَةِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ . وَهَذِهِ كُلُّهَا بَلَاغٌ . فَهَذِهِ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْعِصْمَةُ - أَعْنِي : الْقَوْلَ ، وَالْفِعْلَ وَالتَّقْرِيرَ - وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي ذَلِكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ عَمْدٍ وَسَهْوٍ . وَأَخْذِ الْبَلَاغِ فِي الْأَفْعَالِ : مِنْ حَيْثُ التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ السَّهْوَ وَالْعَمْدَ سَوَاءٌ فِي الْأَفْعَالِ فَهَذَا الْحَدِيثُ يُرَدُّ عَلَيْهِ . الْمَوْضِعُ الثَّانِي : الْأَقْوَالُ . وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ . وَالسَّهْوُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ . وَنُقِلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ ، كَمَا يَمْتَنِعُ التَّعَمُّدُ قَطْعًا وَإِجْمَاعًا . وَأَمَّا طُرُقُ السَّهْوِ فِي الْأَقْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَفِيمَا لَيْسَ سَبِيلُهُ الْبَلَاغَ ، مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَسْتَنِدُ الْأَحْكَامُ إلَيْهَا ، لَا أَخْبَارُ الْمَعَادِ ، وَلَا مَا يُضَافُ إلَى وَحْيٍ . فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ قَوْمٍ : أَنَّهُمْ جَوَّزُوا السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَيْهِ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ الَّذِي يُتَطَرَّقُ بِهِ إلَى الْقَدَحِ فِي الشَّرِيعَةِ . قَالَ : وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ : تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي خَبَرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ ، كَمَا لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِمْ فِيهَا الْعَمْدَ . فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ خُلْفٌ مِنْ خَبَرٍ ، لَا عَنْ قَصْدٍ وَلَا سَهْوٍ ، وَلَا فِي صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ ، وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٍ . وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَذَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } وَاعْتُذِرَ عَنْ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُرَادَ لَمْ يَكُنْ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ مَعًا . وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَثَانِيهِمَا : أَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ اعْتِقَادِ قَلْبِهِ وَظَنِّهِ . وَكَأَنَّهُ مُقَدِّرٌ النُّطْقَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَقِيلَ : لَمْ يَكُنْ فِي ظَنِّي ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خِلَافَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ فِي ظَنِّهِ . فَإِذَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ - فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُقَدِّرًا مُرَادًا . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَخْتَصُّ أَوَّلُهُمَا بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى { كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } . وَأَمَّا مَنْ رَوَى { لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ } فَلَا يَصِحُّ فِيهِ هَذَا التَّأْوِيلُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ الْخَبَرِيِّ هُوَ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ - فَهُوَ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَيَصِيرُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ أَنْسَ } يُحْمَلُ عَلَى السَّلَامِ ، أَيْ : إنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا ، لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى ظَنِّ التَّمَامِ . وَلَمْ يَقَعْ سَهْوًا فِي نَفْسِهِ . وَإِنَّمَا وَقَعَ السَّهْوُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَهَذَا بَعِيدٌ . وَرَابِعُهَا : الْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو وَلَا يَنْسَى . وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ النِّسْيَانَ ؛ لِأَنَّهُ غَفْلَةٌ . وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا . وَكَانَ شُغْلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ وَمَا فِي الصَّلَاةِ : شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَةً عَنْهَا . ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ . وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْلِيصٌ لِلْعِبَادَةِ عَنْ حَقِيقَةِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ ، مَعَ بُعْدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ وَكَأَنَّهُ مُتَلَوِّحٌ فِي اللَّفْظِ : أَنَّ النِّسْيَانَ عَدَمُ الذِّكْرِ لِأَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ . وَالسَّهْوُ عَدَمُ الذِّكْرِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا . وَيَكُونُ النِّسْيَانُ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَفَقُّدِ أُمُورِهَا ، حَتَّى يَحْصُلَ عَدَمُ الذِّكْرِ ، وَالسَّهْوُ : عَدَمُ الذِّكْرِ ، لَا لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ . وَلَيْسَ فِي هَذَا - بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ - تَفْرِيقٌ كُلِّيٌّ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ . وَخَامِسُهَا : مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ : أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ وَجْهًا ، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسْبَةَ النِّسْيَانِ الْمُضَافِ إلَيْهِ . وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ { بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ : نَسِيتُ كَذَا وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ } وَقَدْ رُوِيَ { إنِّي لَا أَنْسَى } عَلَى النَّفْيِ { وَلَكِنِّي أُنَسَّى } عَلَى النَّفْيِ وَقَدْ شَكَّ الرَّاوِي - عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ - فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : هَلْ قَالَ " أَنْسِي " أَوْ " أُنَسَّى " وَأَنَّ " أَوْ " هُنَا لِلشَّكِّ . وَقِيلَ : بَلْ لِلتَّقْسِيمِ . وَأَنَّ هَذَا يَكُونُ مِنْهُ مَرَّةً مِنْ قِبَلِ شُغْلِهِ وَسَهْوِهِ ، وَمَرَّةً يُغْلَبُ عَلَى ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ، لِيَسُنَّ . فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِلُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ أَنْكَرَهُ وَقَالَ لَهُ " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ " أَمَّا الْقَصْرُ : فَبَيِّنٌ وَكَذَلِكَ " لَمْ أَنْسَ " حَقِيقَةً مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَغَفْلَتِي عَنْ الصَّلَاةِ . وَلَكِنَّ اللَّهَ نَسَّانِي لِأَسُنَّ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي } وَهَذَا يَعْتَرِضُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ نِسْبَةَ النِّسْيَانِ إلَيْهِ . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَسَبَ النِّسْيَانَ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرَّتَيْنِ . وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يُقَالَ : نَسِيتُ كَذَا } الَّذِي أَعْرِفُهُ فِيهِ { وَبِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ : نَسِيتُ آيَةَ كَذَا } وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ إضَافَةِ " نَسِيتُ " إلَى " الْآيَةِ " وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إضَافَةِ النِّسْيَانِ إلَى الْآيَةِ : النَّهْيُ عَنْ إضَافَتِهِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَظَّمِ ، وَيَقْبُحُ بِالْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُضِيفَ إلَى نَفْسِهِ نِسْيَانَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي كُلِّ مَا يُنْسَبُ إلَيْهِ النِّسْيَانُ ، فَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاةُ غَيْرِ الْآيَةِ لَهَا . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ : لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مُنَاسَبَةٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْخَاصِّ النَّهْيُ عَنْ الْعَامِّ . وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ " نَسِيت " - الَّذِي أَضَافَهُ إلَى عَدَدِ الرَّكَعَاتِ - دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ . فَيُنْكَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَلَمَّا تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ذَكَرَ : أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ : أَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ اللَّهِ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَةُ . وَأَمَّا إخْبَارُهُ عَنْ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ : فَيَجُوزُ عَلَيْهِ فِيهِ النِّسْيَانُ هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ .

 

وَأَمَّا الْبَحْثُ الْمُتَعَلِّقُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ : فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ إخْبَارَ الْقَوْمِ ، بَعْدَ إخْبَارِ ذِي الْيَدَيْنِ . وَفِي هَذَا بَحْثٌ .

وَأَمَّا الْبَحْثُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِقْهِ : فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَطْعِهَا ، إذَا كَانَتْ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ التَّمَامِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهَا . الثَّانِي : أَنَّ السَّلَامَ سَهْوٌ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . الثَّالِثُ : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِيهِ . الرَّابِعُ : الْكَلَامُ الْعَمْدُ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِلُ . وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . مِنْ الِاسْتِفْسَارِ وَالسُّؤَالِ عِنْدَ الشَّكِّ ، وَإِجَابَةِ الْمَأْمُومِ : أَنَّ صَلَاتَهُمْ تَامَّةٌ عَلَى مُقْتَضَى الْحَدِيثِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ . وَاَلَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ وُجُوهٌ : مِنْهَا : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ يَجُوزُ فِيهِ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ شَاهَدَ الْقِصَّةَ وَإِسْلَامُهُ عَامَ خَيْبَرَ ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِينَ - وَلَا يُنْسَخُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمُتَقَدِّمِ . وَمِنْهَا : التَّأْوِيلُ لِكَلَامِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَابِهِمْ : جَوَابُهُمْ بِالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ ، لَا بِالنُّطْقِ وَفِيهِ بُعْدٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ حِكَايَةِ الرَّاوِي لِقَوْلِهِمْ . وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ { فَأَوْمَئُوا إلَيْهِ } فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ إيمَاءً ، وَبَعْضُهُمْ كَلَامًا . أَوْ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي حَقِّ بَعْضِهِمْ . وَمِنْهَا : أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ إجَابَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَتُهُ وَاجِبَةٌ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ قَالَ : إنَّ الْإِجَابَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَوْلِ . فَيَكْفِي فِيهَا الْإِيمَاءُ . وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُجِيبَ الْقَوْمُ ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ، لِجَوَازِ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ ، وَيَلْزَمُهُمْ الِاسْتِئْنَافُ . وَمِنْهَا : أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا لِتَمَامِ الصَّلَاةِ ، وَالصَّحَابَةُ تَكَلَّمُوا مُجَاوِزِينَ لِلنَّسْخِ ، فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُبْطِلًا . وَهَذَا يُضَعِّفُهُ مَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ : { أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، فَقَالَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ . فَقَالَ : أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ قَوْلِهِ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ } يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ . فَقَدْ تَكَلَّمُوا بَعْدَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ النَّسْخِ . وَلْيُتَنَبَّهْ هَهُنَا لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ فِي قَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ " قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ " بَعْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " فَإِنَّ قَوْلَهُ " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ . وَهُوَ عَدَمُ الْقَصْرِ . وَالثَّانِي : الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ النِّسْيَانُ . وَأَحَدُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ . وَالْآخَرُ مُتَحَقِّقٌ عِنْدَ ذِي الْيَدَيْنِ . فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بَعْضَ ذَلِكَ ، كَمَا ذَكَرْنَا .

السَّادِسُ : فِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ ، بَعْدَ السَّلَامِ سَهْوًا ، وَالْجُمْهُورُ عَلَيْهِ . وَذَهَبَ سَحْنُونٌ - مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - إلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ الْبِنَاءَ بَعْدَ قَطْعِ الصَّلَاةِ وَنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، وَهُوَ السَّلَامُ مِنْ اثْنَتَيْنِ ، فَيَقْصُرُ عَلَى مَا وَرَدَ النَّصُّ وَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ . وَالْجَوَابُ عَنْهُ : أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِلْأَصْلِ أُلْحِقَ بِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ : وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَانِعَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ إنَّمَا كَانَ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالنِّيَّةِ وَالسَّلَامِ . وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ أُلْغِيَ عِنْدَ ظَنِّ التَّمَامِ بِالنَّصِّ . وَلَا فَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ ، أَوْ كَوْنِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ ، أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ . السَّابِعُ : إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْبِنَاءِ ، فَقَدْ خَصَّصُوهُ بِالْقُرْبِ فِي الزَّمَنِ . وَأَبَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ . فَقَالَ بِجَوَازِ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ طَالَ ، مَا لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ . وَقِيلَ : إنَّ نَحْوَهُ عَنْ مَالِكٍ . وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَشْهُورٍ عَنْهُ . وَاسْتُدِلَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الزَّمَنَ طَوِيلٌ ، لَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى مَنْزِلِهِ } . الثَّامِنُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يُبْنَى إلَّا فِي الْقُرْبِ . فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ عَلَى أَقْوَالٍ . مِنْهُمْ : مَنْ اعْتَبَرَهُ بِمِقْدَارِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . فَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّمَنِ فَهُوَ طَوِيلٌ . وَمَا كَانَ بِمِقْدَارِهِ أَوْ دُونِهِ فَقَرِيبٌ . وَلَمْ يَذْكُرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْخُرُوجَ إلَى الْمَنْزِلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ فِي الْقُرْبِ الْعُرْفَ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ رَكْعَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ . وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ .

التَّاسِعُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ السَّهْوِ . الْعَاشِرُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَجْدَتَانِ . الْحَادِيَ عَشَرَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا كَذَلِكَ وَقِيلَ : فِي حِكْمَتِهِ : إنَّهُ أُخِّرَ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ سَهْوٍ آخَرَ . فَيَكُونُ جَابِرًا لِلْكُلِّ . وَفَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا : أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ آخِرَ الصَّلَاةِ ، لَزِمَهُ إعَادَتُهُ فِي آخِرِهَا . وَصَوَّرُوا ذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فِي الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، وَهُوَ فِي السُّجُودِ الْأَخِيرِ ، فَيَلْزَمَهُ إتْمَامُ الظُّهْرِ ، وَيُعِيدَ السُّجُودَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ، وَتَصِلَ بِهِ السَّفِينَةُ إلَى الْوَطَنِ ، أَوْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ ، فَيُتِمُّ وَيُعِيدُ السُّجُودَ . الثَّانِي عَشَرَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَتَدَاخَلُ ، وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَلَّمَ ، وَتَكَلَّمَ ، وَمَشَى . وَهَذِهِ مُوجِبَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ . وَاكْتَفَى فِيهَا بِسَجْدَتَيْنِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَتَعَدَّدُ السُّجُودُ بِتَعَدُّدِ السَّهْوِ ، عَلَى مَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَّحِدَ الْجِنْسُ أَوْ يَتَعَدَّدَ . وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْمَذْهَبِ . فَإِنَّهُ قَدْ تَعَدَّدَ الْجِنْسُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ السُّجُودُ .

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : إذَا سَهَا الْإِمَامُ : تَعَلَّقَ حُكْمُ سَهْوِهِ بِالْمَأْمُومِينَ ، وَسَجَدُوا مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْهُوا . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهَا وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ لَمَّا سَجَدَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَمْشِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ، إنْ كَانَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّكْبِيرِ لِسُجُودِ السَّهْوِ . كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ . الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : الْقَائِلُ " فَنُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ " هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَانَ الصَّوَابُ لِلْمُصَنِّفِ : أَنْ يَذْكُرَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَائِلَ " فَنُبِّئْتُ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى السَّلَامِ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ . الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ : لَمْ يَذْكُرْ التَّشَهُّدَ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ . وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي السُّجُودِ الَّذِي بَعْدَ السَّلَامِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِتَرْكِهِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِهِ فِي الْحُكْمِ ، كَمَا فَعَلُوا فِي مِثْلِهِ كَثِيرًا ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ ظَاهِرًا .

 

106 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، وَلَمْ يَجْلِسْ . فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ ، حَتَّى إذَا قَضَى الصَّلَاةَ ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ : كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ . فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ . الْأَوَّلُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ النَّقْصِ . فَإِنَّهُ نَقَّصَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ : الْجُلُوسَ الْأَوْسَطَ وَتَشَهُّدَهُ . الثَّانِي : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجُلُوسَ غَيْرُ وَاجِبٍ - أَعْنِي الْأَوَّلَ - مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُبِرَ بِالسُّجُودِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْوَاجِبُ إلَّا بِتَدَارُكِهِ وَفِعْلِهِ . وَكَذَلِكَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ .

 

الثَّالِثُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَكْرَارِ السُّجُودِ عِنْدَ تَكْرَارِ السَّهْوِ . لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ وَالتَّشَهُّدَ مَعًا . وَاكْتَفَى لَهُمَا بِسَجْدَتَيْنِ . هَذَا إذَا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بِمُفْرَدِهِ مُوجِبٌ . الرَّابِعُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْقِيَامِ عَنْ هَذَا الْجُلُوسِ . وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ سُنَّةٌ ، فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لِلْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبِ ، وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ . الْخَامِسُ : إنْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بِمُفْرَدِهِ مُوجِبٌ لِسُجُودِ السَّهْوِ فِيهِ . فَفِيهِ نَظَرٌ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُتَيَقَّنَ السُّجُودُ عِنْدَ هَذَا الْقِيَامِ عَنْ الْجُلُوسِ . وَجَاءَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ : تَرْكُ التَّشَهُّدِ فِيهِ ، فَلَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَقَطْ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى تَرْكِ الْجُلُوسِ . وَجَاءَ هَذَا مِنْ الضَّرُورَةِ الْوُجُودِيَّةِ .

 

باب المرور بين يدي المصلي

107 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ ؟ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو النَّضْرِ : لَا أَدْرِي : قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً ؟ } .

" أَبُو جُهَيْمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُهَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ . سَمَّاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ ، وَالثَّوْرِيُّ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي إذَا كَانَ دُونَ سُتْرَةٍ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ سُتْرَةٌ فَمَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْحَدِيثِ " بِالْإِثْمِ " . وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ صُوَرٍ . الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَلِّي لِذَلِكَ ، فَيُخَصُّ الْمَارُّ بِالْإِثْمِ ، إنْ مَرَّ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : مُقَابِلَتُهَا . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي تَعَرَّضَ لِلْمُرُورِ ، وَالْمَارُّ لَيْسَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْمُرُورِ ، فَيَخْتَصُّ الْمُصَلِّي بِالْإِثْمِ دُونَ الْمَارِّ . الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَتَعَرَّضَ الْمُصَلِّي لِلْمُرُورِ ، وَيَكُونُ لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ ، فَيَأْثَمَانِ أَمَّا الْمُصَلِّي : فَلِتَعَرُّضِهِ . وَأَمَّا الْمَارُّ : فَلِمُرُورِهِ ، مَعَ إمْكَانِ أَنْ لَا يَفْعَلَ . الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ الْمُصَلِّي ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَارِّ مَنْدُوحَةٌ ، فَلَا يَأْثَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .

 

 

108 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ . فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ . فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } .

" أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ خُدْرِيٌّ . . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ . وَالْحَدِيثُ يَتَعَرَّضُ لِمَنْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ سُتْرَتِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ لِمَصْلَحَتِهَا . وَلَفْظَةُ " الْمُقَاتَلَةِ " مَحْمُولَةٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَنْعِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى الْأَعْمَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُصَنَّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِالْقِتَالِ . وَقَالَ " فَلْيُقَاتِلْهُ " عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ . وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَشْيُ مِنْ مَقَامِهِ إلَى رَدِّهِ ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي مُدَافَعَتِهِ . لِأَنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ أَشَدُّ مِنْ مُرُورِهِ عَلَيْهِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ سُتْرَةٌ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ ، وَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا أَوْ تَبَاعَدَ عَنْ السُّتْرَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ وَرَاءَ مَوْضِعِ السُّجُودِ : لَمْ يُكْرَهْ . وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ : كُرِهَ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُقَاتِلَهُ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِتَقْصِيرِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ السُّتْرَةِ ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ . وَلَوْ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ " إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ " جَوَازُ التَّسَتُّرِ بِالْأَشْيَاءِ عُمُومًا : لَكَانَ فِيهِ ضَعْفٌ . لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعُمُومِ جَوَازُ الْمُقَاتَلَةِ عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ سَاتِرٍ ، لَا جَوَازُ السِّتْرِ بِكُلِّ شَيْءٍ ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ السِّتْرُ عَلَى الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ ، لَا الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ . وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَرِهَ التَّسَتُّرَ بِآدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمُصَلَّى إلَيْهِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَفْظِ " الشَّيْطَانِ " فِي مِثْلِ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

 

109 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ . مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ ، فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ . وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ } .

قَوْلُهُ " حِمَارٍ أَتَانٍ " فِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الْحِمَارِ " فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، كَلَفْظِ " الشَّاةِ " وَلَفْظِ " الْإِنْسَانِ " وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { عَلَى أَتَانٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ " حِمَارٍ " . وَقَوْلُهُ : " نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ " أَيْ قَارَبْتُهُ . وَهُوَ يُؤْنِسُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَارِبُ الْبُلُوغَ . وَلَعَلَّ قَوْلَهُ " قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ " هَهُنَا تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْحُكْمِ . وَهُوَ عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِمُرُورِ الْحِمَارِ . لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ . وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا السِّنِّ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ . لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي سِنِّ الصِّغَرِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ - مَثَلًا - لَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِ بِسَبَبِ صِغَرِ سِنِّهِ وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِمْ لِلصَّلَاةِ . لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً . فَإِنَّهُ إذَا دَلَّ عَدَمُ إنْكَارِهِمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ فَاعِلِهِ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ إفْسَادِ الصَّلَاةِ ، إذْ لَوْ أَفْسَدَهَا لَامْتَنَعَ إفْسَادُ صَلَاةِ النَّاسِ عَلَى الْمَارِّ . وَلَا يَنْعَكِسُ هَذَا . وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمَارِّ ، لِجَوَازِ أَنْ لَا تَفْسُدَ الصَّلَاةُ وَيَمْتَنِعَ الْمُرُورُ ، كَمَا تَقُولُ فِي مُرُورِ الرَّجُلِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، حَيْثُ يَكُونُ لَهُ مَنْدُوحَةٌ : إنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ الْمُرُورُ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْ الصَّلَاةَ عَلَى الْمُصَلِّي . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ عَدَمَ الْإِنْكَارِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ . وَالْجَوَازُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْإِفْسَادِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْعَكِسُ . فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ أَكْثَرَ فَائِدَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِمْ الصَّلَاةَ . وَيُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ . وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ " بِغَيْرِ جِدَارٍ " وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْجِدَارِ عَدَمُ السُّتْرَةِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ سُتْرَةٌ غَيْرُ الْجِدَارِ فَالِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ . وَإِنْ كَانَ : وَقْفُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُرُورُ وَقَعَ دُونَ السُّتْرَةِ - أَعْنِي بَيْنَ السُّتْرَةِ وَالْإِمَامِ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال وَقَعَ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَأْمُومِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ ، لَكِنْ قَدْ قَالُوا : إنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ . فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال إلَّا بِتَحْقِيقِ إحْدَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ ، الَّتِي مِنْهَا : أَنَّ سُتْرَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ سُتْرَةً لِمَنْ خَلْفَهُ ، إنْ لَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا . وَعَلَى الْجُمْلَةِ : فَالْأَكْثَرُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِمُرُورِ شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي . وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُعَارِضَةٌ لِذَلِكَ فَمِنْهَا : مَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ الصَّلَاةِ بِمُرُورِ الْكَلْبِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ . وَمِنْهَا : مَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِهَا بِمُرُورِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ . وَهَذَانِ صَحِيحَانِ . وَمِنْهَا مَا دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِهَا بِمُرُورِ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْخِنْزِيرِ . وَهَذَا ضَعِيفٌ . فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى أَنَّ مُرُورَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ يَقْطَعُهَا . وَلَمْ نَجْدِ لِذَلِكَ مُعَارِضًا . قَالَ : وَفِي قَلْبِي مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ شَيْءٌ . وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَى هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ بِمَرَّةٍ . وَنَظَرَ إلَى الصَّحِيحِ . فَحَمَلَ مُطْلَقَ " الْكَلْبِ " فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْأَسْوَدِ ، فِي بَعْضِهَا . وَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مُعَارِضًا ، فَقَالَ بِهِ . وَنَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ . فَوَجَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ - الْآتِي - يُعَارِضُ أَمْرَ الْمَرْأَةِ . وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - هَذَا - يُعَارِضُ أَمْرَ الْحِمَارِ . فَتَوَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ - الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْهُ - أَجْوَدُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَثْرَمِ مِنْ جَزْمِ الْقَوْلِ . عَنْ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ : لِأَنَّ جَزْمَ الْقَوْلِ بِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَبَيَّنَ تَأَخُّرُ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْفَسَادِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ . وَفِي ذَلِكَ عُسْرٌ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْقِيقِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ مُسَاوٍ لِمَا حَكَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَهِيَ رَاقِدَةٌ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَنَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ أَنَّ الْبُيُوتَ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ فَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا الْحُكْمِ : عَدَمُ الْمُشَاهَدَةِ لَهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ قَائِلًا قَالَ : إنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ وَمَشْيَهَا لَا يُسَاوِيهِ فِي التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّي اعْتِرَاضُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ . فَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْحُكْمِ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالْمُمْتَنِعِ . وَلَيْسَ يَبْعُدُ مِنْ تَصَرُّفِ الظَّاهِرِيَّةِ مِثْلُ هَذَا . وَقَوْلُهُ . فَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ " أَيْ تَرْعَى .

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْإِنْكَارِ حُجَّةٌ عَلَى الْجَوَازِ . وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ تَنْتَفِيَ الْمَوَانِعُ مِنْ الْإِنْكَارِ . وَيُعْلَمُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْفِعْلِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ . وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ " وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ " وَلَمْ يَقُلْ : وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ذَلِكَ : أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ . وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّفُّ مُمْتَدًّا . فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ . لِفَقْدِ شَرْطِ الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَوَازِ . وَهُوَ الِاطِّلَاعُ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ . أَمَّا عَدَمُ الْإِنْكَارِ مِمَّنْ رَأَى هَذَا الْفِعْلَ : فَهُوَ مُتَيَقَّنٌ ، فَتَرَكَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَخَذَ الْمُتَيَقَّنَ ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ إنْكَارِ الرَّائِينَ لِلْوَاقِعَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ قَوْلَهُ . وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ " يَشْمَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُ ، لِعُمُومِ لَفْظَةِ " أَحَدٍ " إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَعْفًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ إنْكَارِ غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَتِهِ ، وَعَدَمِ إنْكَارِهِ إلَّا عَلَى بُعْدٍ .

 

110 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ - فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي ، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ . فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا . وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ } .

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - هَذَا - اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عَدَمِ إفْسَادِ مُرُورِ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْمُصَلِّي . وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ وَمَا يُعَارِضُهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ . وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ - إمَّا بِغَيْرِ لَذَّةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ - لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ . أَعْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ . وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ لَا يَنْقُضُ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهَا ذَكَرَتْ " أَنَّ الْبُيُوتَ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ " وَرُبَّمَا زَالَ السَّاتِرُ . فَيَكُونُ وَضْعُ الْيَدِ - مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْحَائِلِ - تَعْرِيضًا لِلصَّلَاةِ لِلْبُطْلَانِ . وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَرِّضَهَا لِذَلِكَ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ . وَقَوْلُهَا " وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ " إمَّا لِتَأْكِيدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ ، وَإِمَّا لِإِقَامَةِ الْعُذْرِ لِنَفْسِهَا حَيْثُ أَحْوَجَتْهُ إلَى أَنْ يَغْمِزَ رِجْلَهَا . إذْ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ مَصَابِيحُ لَعَلِمَتْ بِوَقْتِ سُجُودِهِ بِالرُّؤْيَةِ فَلَمْ تَكُنْ لِتَحَوُّجِهِ إلَى الْغَمْزِ . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَرَاهِيَةَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ سُتْرَةً لِلْمُصَلِّي عِنْدَ مَالِكٍ ، وَكَرَاهَةَ أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ آدَمِيًّا أَوْ حَيَوَانًا عِنْدَ بَعْضِ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ ، مَعَ تَجْوِيزِهِ لِلصَّلَاةِ إلَى الْمُضْطَجِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

باب جامع

111 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ " رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : فِي حُكْمِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لَهُمَا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا . فَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّهُمَا مِنْ النَّوَافِلِ . وَقِيلَ : إنَّهُمَا مِنْ السُّنَنِ . وَهَذَا عَلَى اصْطِلَاحِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ : أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ تَمَسُّكًا بِالنَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ قَبْلَ الرُّكُوعِ . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى - الَّتِي وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ - يَكُونُ التَّمَسُّكُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ . وَظَاهِرَ النَّهْيِ : التَّحْرِيمُ وَمَنْ أَزَالَهُمَا عَنْ الظَّاهِرِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الدَّلِيلِ . وَلَعَلَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي هَذَا مَا فَعَلُوا فِي مَسْأَلَةِ الْوِتْرِ ، حَيْثُ اسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ } وَقَوْلُ السَّائِلِ { هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ } فَحَمَلُوا لِذَلِكَ صِيغَةَ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ ، لِدَلَالَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَيْرِ الْخَمْسِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ بِإِيجَابِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ ، تَمَسُّكًا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، فَهَلْ يَرْكَعُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ . وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَرْكَعُ . لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ . وَلَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ النَّوَافِلِ إلَّا مَا لَا سَبَبَ لَهُ . وَحُكِيَ وَجْهٌ آخَرُ : أَنَّهُ يُكْرَهُ . وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى : أَنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ إذَا قَصَدَ الدُّخُولَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا . أَمَّا غَيْرُ هَذَا الْوَجْهِ : فَلَا . وَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ صَلَاتِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُسْفِرْ ، إذَا هِيَ عِنْدَهُ مِنْ النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ . وَإِنَّمَا يُمْنَعُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَا لَا سَبَبَ لَهُ ، وَيُقْصَدُ ابْتِدَاءً ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا } انْتَهَى كَلَامُهُ . هَذَا لَا نَعْرِفُهُ مِنْ نَقْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ . وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ : مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ . وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُشْكِلَةٍ ، وَهُوَ مَا إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ ، خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ . وَلَسْتُ أَعْنِي بِالنَّصَّيْنِ هَهُنَا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ . وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَوَّلًا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ . فَنَقُولُ : مَدْلُولُ أَحَدِ النَّصَّيْنِ : إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَدْلُولَ الْآخَرِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ ، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ ، كَلَفْظَةِ " الْمُشْرِكِينَ " وَ " الْمُؤْمِنِينَ " مَثَلًا ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَدْلُولِ الْآخَرِ . فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ ، كَلَفْظَةِ " الْإِنْسَانِ " وَ " الْبَشَرِ " مَثَلًا ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَدْلُولِ الْآخَرِ ، وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ . فَالْمُتَنَاوِلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ : عَامٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ ، وَالْآخَرُ خَاصٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُهُمَا يَجْتَمِعُ فِي صُورَةٍ ، وَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصُورَةٍ أَوْ صُوَرٍ . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ " إلَخْ مَعَ قَوْلِهِ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ } مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ . فَإِنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَةٍ . وَهُوَ مَا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ الصُّبْحِ ، أَوْ الْعَصْرِ وَيَنْفَرِدَانِ أَيْضًا ، بِأَنْ تُوجَدَ الصَّلَاةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ . فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فَالْإِشْكَالُ قَائِمٌ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ لَوْ قَالَ : لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ . لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى جَوَازِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ - وَهُوَ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ - فَأَخُصُّ قَوْلَهُ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ } بِقَوْلِهِ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ " فَلِخَصْمِهِ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ " عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوْقَاتِ . فَالْحَاصِلُ : أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ " خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ - أَعْنِي الصَّلَاةَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ - عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ . وَقَوْلُهُ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ } خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَوَاتِ . فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ هَهُنَا . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي هَذَا إلَى الْوَقْفِ ، حَتَّى يَأْتِيَ تَرْجِيحٌ خَارِجٌ بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا . فَمَنْ ادَّعَى أَحَدَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ أَعْنِي الْجَوَازَ أَوْ الْمَنْعَ - فَعَلَيْهِ إبْدَاءُ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَدِيثِ . .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ ، فَهَلْ يَرْكَعُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ . يَقْتَضِي الرُّكُوعَ . وَقِيلَ : إنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا مِنْ جِهَةٍ مُعَارَضَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ . لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى إثْبَاتِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى يَقَعَ التَّعَارُضُ فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى صَحِيحَانِ ، وَبَعْدَ التَّجَاوُزِ عَنْ هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ وَتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ : يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَارُضِ أَمْرَيْنِ ، يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : إذَا دَخَلَ مُجْتَازًا ، فَهَلْ يُؤْمَرُ بِالرُّكُوعِ ؟ خَفَّفَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَعِنْدِي : أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ . فَإِنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى صِيغَةِ النَّهْيِ ، فَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ جُلُوسًا قَبْلَ الرُّكُوعِ . فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْجُلُوسُ أَصْلًا لَمْ يُفْعَلْ الْمَنْهِيُّ . وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ ، فَالْأَمْرُ تَوَجَّهَ بِرُكُوعٍ قَبْلَ الْجُلُوسِ . فَإِذَا انْتَفَيَا مَعًا : لَمْ يُخَالِفْ الْأَمْرَ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : لَفْظَةُ " الْمَسْجِدِ " تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَسْجِدٍ ، وَقَدْ أَخْرَجُوا عَنْهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ . وَجَعَلُوا تَحِيَّتَهُ الطَّوَافَ . فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ ، فَلِمُخَالِفِهِمْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ : فَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْمَعْنَى . وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ : افْتِتَاحُ الدُّخُولِ فِي مَحِلِّ الْعِبَادَةِ بِعِبَادَةٍ ، وَعِبَادَةُ الطَّوَافِ . تُحَصِّلُ هَذَا الْمَقْصُودَ ، مِنْ أَنَّ غَيْرَ هَذَا الْمَسْجِدِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا . فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجَّتِهِ ، حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ . وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ . وَذَلِكَ أَخُصُّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ . وَأَيْضًا فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ طَافَ وَمَشَى عَلَى السُّنَّةِ فِي تَعْقِيبِ الطَّوَافِ بِرَكْعَتَيْهِ ، وَجَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي الْحَدِيثِ ، فَقَدْ وَفَيْنَا بِمُقْتَضَاهُ .

الْوَجْهُ السَّادِسُ : إذَا صَلَّى الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ . فَهَلْ يُصَلِّي التَّحِيَّةَ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهِ ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ . وَالظَّاهِرُ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ : أَنَّهُ يُصَلِّي . لَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا } أَعْنِي صَلَاةَ الْعِيدِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ . وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ . فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ ، وَيَفْهَمَ فَاهِمٌ : أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا مِنْ سُنَّةِ صَلَاةِ الْعِيدِ ، مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَلَيْسَ لِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الصَّحْرَاءِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ . فَحِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَارُضُ ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ ، وَقَرَائِنَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ . فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى اسْتِحْبَابًا . أَعْنِي فِي تَرْكِ الرُّكُوعِ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ ، لَا لِلْعِيدِ .

الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَنْ كَثُرَ تَرَدُّدُهُ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَتَكَرَّرَ : هَلْ يَتَكَرَّرُ لَهُ الرُّكُوعُ مَأْمُورًا بِهِ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا . وَقَاسَهُ عَلَى الْحَطَّابِينَ وَالْفَكَّاهِينَ الْمُتَرَدِّدِينَ إلَى مَكَّةَ فِي سُقُوطِ الْإِحْرَامِ عَنْهُمْ إذَا تَكَرَّرَ تَرَدُّدُهُمْ . وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الرُّكُوعِ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ . وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ . وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ ، وَلِلْأُصُولِيَّيْنِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ .

 

112 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ { كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ ، وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ ، حَتَّى نَزَلَتْ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : هَذَا اللَّفْظُ أَحَدُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ . وَهُوَ ذِكْرُ الرَّاوِي لِتَقَدُّمِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ . وَلَيْسَ كَقَوْلِهِ : هَذَا مَنْسُوخٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ التَّارِيخِ . فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرُوا فِيهِ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا . لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِالنَّسْخِ عَنْ طَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ مِنْهُ .

الثَّانِي " الْقُنُوتُ " يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الطَّاعَةِ ، وَفِي مَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ ، وَالْخُضُوعِ وَالدُّعَاءِ ، وَطُولِ الْقِيَامِ وَالسُّكُوتِ . وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمُشْتَرَكِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقِيلَ : أَصْلُهُ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ ، فَمُدِيمُ الطَّاعَةِ قَانِتٌ ، وَكَذَلِكَ الدَّاعِي وَالْقَائِمُ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْمُخْلِصُ فِيهَا ، وَالسَّاكِتُ فِيهَا كُلُّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْقُنُوتِ . وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَعْنًى مُشْتَرَكٍ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ وَمَا قَارَبَهُ ، يَقْصِدُونَ ب " هَا دَفْعَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَجَازِ عَنْ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ . وَلَا بَأْسَ بِهَا إنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنًى مُعَيَّنٍ أَوْ مَعَانٍ . وَيُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ . الثَّالِثُ : لَفْظُ الرَّاوِي يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُنُوتِ فِي الْآيَةِ : السُّكُوتُ ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ " حَتَّى " الَّتِي لِلْغَايَةِ . وَالْفَاءُ الَّتِي تُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ مَا سَبَقَ عَلَيْهَا لِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " الْقُنُوتَ " فِي الْآيَةِ الطَّاعَةُ . وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ : مَا يُشْعِرُ بِحَمْلِهِ عَلَى الدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ ، حَتَّى جُعِلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ ، مِنْ حَيْثُ قِرَانُهَا بِالْقُنُوتِ . وَالْأَرْجَحُ فِي هَذَا كُلِّهِ : حَمْلُهُ عَلَى مَا أَشْعَرَ بِهِ كَلَامُ الرَّاوِي . فَإِنَّ الْمُشَاهَدِينَ لِلْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ يَعْلَمُونَ ، بِسَبَبِ النُّزُولِ وَالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِهِ : مَا يُرْشِدُهُمْ إلَى تَعْيِينِ الْمُحْتَمَلَاتِ ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلَاتِ . فَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالنَّاقِلِينَ لِلَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ وَالتَّسْبِيبِ . .

وَقَدْ قَالُوا : إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي الْآيَةِ " نَزَلَتْ فِي كَذَا " يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُسْنَدِ .

الرَّابِعُ : قَوْلُهُ " فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ " يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا يُسَمَّى كَلَامًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَمَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ قَاصِرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَشْيَاءَ : هَلْ تُبْطِلُ الصَّلَاةُ أَمْ لَا ؟ كَالنَّفْخِ ، وَالتَّنَحْنُحِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ وَحَاجَةٍ ، وَالْبُكَاءِ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ : أَنَّ مَا سُمِّيَ كَلَامًا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّفْظِ . وَمَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا ، فَمَنْ أَرَادَ إلْحَاقَهُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَلْيُرَاعِ شَرْطَهُ فِي مُسَاوَاةِ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ ، أَوْ زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ ، وَاعْتَبَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ظُهُورَ حَرْفَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُفْهِمَيْنِ . فَإِنَّ أَقَلَّ الْكَلَامِ حَرْفَانِ . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْحَرْفَيْنِ يَتَأَلَّفُ مِنْهُمَا الْكَلَامُ : أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَرْفَيْنِ كَلَامًا . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا فَالْإِبْطَالُ بِهِ لَا يَكُونُ بِالنَّصِّ ، بَلْ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَلْيُرَاعِ شَرْطَهُ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْكَلَامِ كُلَّ مُرَكَّبٍ ، مُفْهِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُفْهِمٍ . فَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ تَحْتَ اللَّفْظِ ، إلَّا أَنَّ فِيهِ بَحْثًا . وَالْأَقْرَبُ : أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ ، حَيْثُ لَا يُسَمَّى الْمَلْفُوظُ بِهِ كَلَامًا . فَمَا أُجْمِعَ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالْكَلَامِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ ، وَمَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ - مَعَ كَوْنِهِ لَا يُسَمَّى كَلَامًا - فَيَقْوَى فِيهِ عَدَمُ الْإِبْطَالِ . وَمَنْ هَذَا اُسْتُبْعِدَ الْقَوْلُ بِإِلْحَاقِ النَّفْخِ بِالْكَلَامِ . وَمِنْ ضَعِيفِ التَّعْلِيلِ فِيهِ : قَوْلُ مَنْ عَلَّلَ الْبُطْلَانَ بِهِ بِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَلَامَ . وَهَذَا رَكِيكٌ . مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي سُجُودِهِ } وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ : فِي الِاسْتِدْلَالِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ .

 

113 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ . فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا " الْإِبْرَادُ " أَنْ تُؤَخَّرَ . الصَّلَاةُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا يَظْهَرُ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ فِي الشَّمْسِ . هَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يُؤَخَّرُ الظُّهْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْفَيْءُ أَكْثَرَ مِنْ ذِرَاعٍ . الثَّانِي : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ : هَلْ هُوَ سُنَّةٌ ، أَوْ رُخْصَةٌ ؛ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : هَلْ الْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ ، أَوْ الْإِبْرَادُ ؟ وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ ، أَوْ مَشَى فِي كِنٍّ إلَى الْمَسْجِدِ : هَلْ يُسَنُّ لَهُ الْإِبْرَادُ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ رُخْصَةٌ لَمْ يُسَنَّ ، إذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيلِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ سُنَّةٌ أَبْرَدَ . وَالْأَقْرَبُ : أَنَّهُ سُنَّةٌ ، لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ ، مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْعِلَّةِ . وَهُوَ أَنَّ " شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ " وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلتَّأْخِيرِ ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى فَضِيلَةِ التَّعْجِيلِ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ . وَهَذَا خَاصٌّ . وَلَا مُبَالَاةَ - مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ وَمُنَاسَبَةِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً . فَإِنَّ مَرَاتِبَ الثَّوَابِ إنَّمَا يُرْجَعُ فِيهَا إلَى النُّصُوصِ . وَقَدْ يَتَرَجَّحُ بَعْضُ الْعِبَادَةِ الْخَفِيفَةِ عَلَى مَا هُوَ أَشَقُّ مِنْهَا بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا .

 

الثَّالِثُ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِبْرَادِ بِالْجُمُعَةِ ، عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ الْإِبْرَادُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَفْظَةُ " الصَّلَاةِ " فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ . وَالثَّانِي : التَّعْلِيلُ . فَإِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ فِيهَا . وَقَدْ وُجِّهَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُبَرَّدُ بِهَا . لِأَنَّ التَّبْكِيرَ سُنَّةٌ فِيهَا . وَجَوَابُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ ، وَبِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ التَّأَذِّي بِحَرِّ الْمَسْجِدِ عِنْدَ انْتِظَارِ الْإِمَامِ . .

 

114 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا ، وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } . وَلِمُسْلِمٍ { مَنْ نَسِيَ صَلَاةً ، أَوْ نَامَ عَنْهَا . فَكَفَّارَتُهَا : أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا فَاتَتْ بِالنَّوْمِ أَوْ النِّسْيَانِ . وَهُوَ مَنْطُوقُهُ . وَلَا خِلَافَ فِيهِ . الثَّانِي : اللَّفْظُ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْأَمْرِ بِقَضَائِهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا . لِأَنَّهُ جَعَلَ الذِّكْرَ ظَرْفًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ . فَيَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ فِيهِ . وَقَدْ قَسَّمَ الْأَمْرَ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَا تَرَكَ عَمْدًا . فَيَجِبُ الْقَضَاءُ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ . وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُ مُصَنِّفِي الشَّافِعِيَّةِ ، وَبَيْنَ مَا تَرَكَ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ . فَيُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ . وَلَا يَجِبُ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ { بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَيْقَظَ - بَعْدَ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِالنَّوْمِ - أَخَّرَ قَضَاءَهَا . وَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ ، حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الْوَادِي } . وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ . وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنْ الْمُبَادَرَةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَانِعَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ طَالِعَةً . فَأَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى تَرْتَفِعَ ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الْوَقْتِ . وَرُدَّ بِذَلِكَ ( بِأَنَّهَا كَانَتْ صُبْحَ الْيَوْمِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَ ) بِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " فَمَا أَيْقَظَهُمْ إلَّا حَرُّ الشَّمْسِ " وَذَلِكَ يَكُونُ بِالِارْتِفَاعِ . وَقَدْ يُعْتَقَدُ مَانِعٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ، مِنْ أَنَّ الْوَادِيَ بِهِ شَيْطَانٌ ، وَأَخَّرَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ لِلتَّأْخِيرِ وَالْخُرُوجِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ، وَلَكِنْ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ الْمُبَادَرَةَ ؟ فِي هَذَا نَظَرٌ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ . .

الثَّالِثُ : قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً مَنْسِيَّةً - وَهُوَ فِي صَلَاةٍ - أَنْ يَقْطَعَهَا إذَا كَانَتْ وَاجِبَةَ التَّرْتِيبِ مَعَ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا . وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ مُطْلَقًا . بَلْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَذْهَبِيٌّ بَيْنَ الْفَذِّ وَالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ بَعْدَ رَكْعَةٍ أَوْ لَا . فَلَا يَسْتَمِرُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ مُطْلَقًا . وَحَيْثُ يُقَالُ بِالْقَطْعِ ، فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الذِّكْرِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ : قَطْعُ مَا هُوَ فِيهِ ، وَمَنْ أَرَادَ إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَانِعًا مِنْ إعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يُخْرِجُهَا ، وَلَا يَخْلُو هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ نَوْعِ جَدَلٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . الرَّابِعُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : نَفْيُ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ ، كَمَا وَقَعَ فِي أُمُورٍ أُخَرَ . فَإِنَّهُ لَا يَكْتَفِي فِيهَا إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِهَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : أَنَّهُ لَا بَدَلَ لِقَضَائِهَا ، كَمَا تَقَعُ الْأَبْدَالُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَا . .

الْخَامِسُ : وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْعَامِدِ بِالتَّرْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَقَعْ الْمُسَامَحَةُ - مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ - فَلَأَنْ لَا تَقَعُ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ أَوْلَى . وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ : أَنَّ قَضَاءَ الْعَامِدِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " لِأَنَّهُ بِغَفْلَتِهِ عَنْهَا وَعَمْدِهِ كَالنَّاسِي . وَمَتَى ذَكَرَ تَرْكَهُ لَهَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا . وَهَذَا ضَعِيفٌ . لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " كَلَامٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ . وَهُوَ قَوْلُهُ " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا " وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا " عَائِدٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَنْسِيَّةِ ، أَوْ الَّتِي يَقَعُ النَّوْمُ عَنْهَا . فَكَيْفَ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى ضِدِّ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ ، وَهُوَ الذِّكْرُ وَالْيَقَظَةُ ؟ نَعَمْ لَوْ كَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً : مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا . لَكَانَ مَا قِيلَ مُحْتَمَلًا ، عَلَى تَمَحُّلِ مَجَازٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ " كَالنَّاسِي " إنْ أَرَادَ بِهِ : أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ دَعْوَى ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ اللَّفْظِ ، بَلْ مِنْ الْقِيَاسِ ، أَوْ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِنَادِ إلَى قَوْلِهِ " لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ " وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَالنَّائِمُ وَالنَّاسِي لَا ذَنْبَ لَهُمَا . وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِلْعَامِدِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَسُوقٌ عَلَى قَوْلِهِ " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا " وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إلَيْهَا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْإِرَادَةِ . وَلَا أَنْ يُحَمِّلَ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ . وَتَأْوِيلُ لَفْظِ " الْكَفَّارَةِ " هُنَا أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْكَلَامَ الدَّالَّ عَلَى الشَّيْءِ مَدْلُولٌ بِهِ عَلَى ضِدِّهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . وَلَيْسَ ظُهُورُ لَفْظِ " الْكَفَّارَةِ " فِي الْإِشْعَارِ بِالذَّنْبِ بِالظُّهُورِ الْقَوِيِّ الَّذِي يُصَادَمُ بِهِ النَّصُّ الْجَلِيُّ ، فِي أَنَّ الْمُرَادَ : الصَّلَاةُ الْمَنْسِيَّةُ ، أَوْ الَّتِي وَقَعَ النَّوْمُ عَنْهَا ، وَقَدْ وَرَدَتْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ خَطَأً مَعَ عَدَمِ الذَّنْبِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الْحِنْثِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَجَوَازُ الْيَمِينِ ابْتِدَاءً وَلَا ذَنْبَ .

 

115 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ : كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ } .

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى مَذَاهِبَ . أَوْسَعُهَا : الْجَوَازُ مُطْلَقًا . فَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ وَعَكْسُهُ ، وَالْقَاضِي بِالْمُؤَدِّي وَعَكْسُهُ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الصَّلَاتَانِ أَمْ لَا ، إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ الْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . الثَّانِي : مُقَابِلُهُ ، وَهُوَ أَضْيَقُهَا . وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُ النِّيَّاتِ ، حَتَّى لَا يُصَلِّي الْمُتَنَفِّلُ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ وَالثَّالِثُ : أَوْسَطُهَا ، أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ ، لَا عَكْسُهُ . وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مِثْلَ الْمَذْهَبِ الثَّانِي فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ . فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ . وَحَدِيثُ مُعَاذٍ : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ . وَحَاصِلُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْإِنْكَارِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَشَرْطُهُ : عِلْمُهُ بِالْوَاقِعَةِ . وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلِمَ بِهَا ، وَأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَأَنْكَرَ . وَأُجِيبُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَبْعُدُ - أَوْ يَمْتَنِعُ - فِي الْعَادَةِ : أَنْ لَا يَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِنْ عَادَةِ مُعَاذٍ . وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ - أَعْنِي الْمَانِعِينَ - بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ : سُلَيْمٌ ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّا نَظَلُّ فِي أَعْمَالِنَا . فَنَأْتِي حِينَ نُمْسِي ، فَنُصَلِّي ، فَيَأْتِي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ . فَنَأْتِيهِ ، فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُعَاذُ ، لَا تَكُنْ أَوْ لَا تَكُونَنَّ - فَتَّانًا ، إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَنْ قَوْمِكَ } قَالَ : فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ يَفْعَلُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ، إمَّا الصَّلَاةُ مَعَهُ ، أَوْ بِقَوْمِهِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْمَعُهُمَا . لِأَنَّهُ قَالَ : " إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي " أَيْ وَلَا تُصَلِّ بِقَوْمِكَ " وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ " أَيْ وَلَا تُصَلِّ مَعِي . الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي الِاعْتِذَارِ : أَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْإِخْبَارِ مِنْ النَّاوِي . فَجَازَ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْضَ . وَجَازَ أَنْ تَكُونَ النَّفَلَ ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ مُعَاذٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ . وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهَا " فَهِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ ، وَلَهُ تَطَوُّعٌ . الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ فَضِيلَةَ فَرْضِهِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْتِي بِهَا مَعَ قَوْمِهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } فَكَيْفَ يُظَنُّ بِمُعَاذٍ - بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا - أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ مِنْ قِيَامِ الْمَكْتُوبَةِ ؟ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُسَاوِي أَنْ يُذْكَرَ ، لِشِدَّةِ ضَعْفِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ - أَعْنِي قَوْلَهُ " فَهِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ وَلَهُ تَطَوُّعٌ " - لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي ، بِنَاءً عَلَى ظَنٍّ أَوْ اجْتِهَادٍ ، وَلَا يُجْزَمُ بِهِ . وَذَكَرَ مَعْنَى هَذَا أَيْضًا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِمَّنْ لَهُ شِرْبٌ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَالَ مَا حَاصِلُهُ : إنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهَا . هُوَ ابْنُ جُرَيْجٍ . فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ ، أَوْ قَوْلِ مَنْ رَوَى عَنْهُ ، أَوْ قَوْلِ جَابِرٍ . وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي : فَفِيهِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ ، وَلَعَلَّ خُصُومَهُمْ يَقُولُونَ فِيهِ : إنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اعْتِقَادِهِ الْجَوَازَ لِذَلِكَ . فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُهُ ؟ وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّالِثُ : فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : إنَّ الْمَفْهُومَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ نَافِلَةً غَيْرَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُقَامُ ، لِأَنَّ الْمَحْذُورَ : وُقُوعُ الْخِلَافِ عَلَى الْأَئِمَّةِ ، وَهَذَا الْمَحْذُورُ مُنْتَفٍ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الصَّلَاةِ الْمُقَامَةِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا : الِاتِّفَاقُ مِنْ الْجُمْهُورِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ، وَلَوْ تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ النَّفْيِ : لَمَا جَازَ جَوَازًا مُطْلَقًا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِذَارِ : ادِّعَاءُ النَّسْخِ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِينَ كَانَتْ الْفَرَائِضُ تُقَامُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ ، حَتَّى نُهِيَ عَنْهُ . وَهَذَا الْوَجْهُ مَنْقُولُ الْمَعْنَى عَنْ الطَّحَاوِيِّ . وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا - أَعْنِي صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلٍ فِيهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلنَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ . الْوَجْهُ الثَّانِي مِمَّا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ . مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، دُونَ تَقْرِيرٍ حَسَنٍ لَهُ . وَوَجْهُ تَقْرِيرِهِ : أَنَّ إسْلَامَ مُعَاذٍ مُتَقَدِّمٌ ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ سَنَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ صَلَاةَ الْخَوْفِ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى وَجْهٍ وَقَعَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ . فَيُقَالُ : لَوْ جَازَ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ لَأَمْكَنَ إيقَاعُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ الْمُنَافَاةُ وَالْمُفْسِدَاتُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ . وَحَيْثُ صَلَّيْتُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، مَعَ إمْكَانِ دَفْعِ الْمُفْسِدَاتِ - عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ - دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ . وَبَعْدَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ : يَبْقَى النَّظَرُ فِي التَّارِيخِ وَقَدْ أُشِيرَ بِتَقَدُّمِ إسْلَامِ مُعَاذٍ إلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِذَارِ عَنْ الْحَدِيثِ : مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ ، مِنْ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ ، لِقِلَّةِ الْقُرَّاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غِنًى عَنْ مُعَاذٍ وَلَمْ يَكُنْ لِمُعَاذٍ غِنًى عَنْ صَلَاتِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَائِلُهُ مَعْنَى النَّسْخِ ، فَيَكُونُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ : أَنَّهُ مِمَّا أُبِيحَ بِحَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ بِزَوَالِهَا ، وَلَا يَكُونُ نَسْخًا . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ : فَهُوَ ضَعِيفٌ لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعَيُّنِ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عِلَّةً لِهَذَا الْفِعْلِ ، وَلِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُجْزِئَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ . لَيْسَ حَفَظَتُهُ بِقَلِيلٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْقِرَاءَةِ : فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِارْتِكَابِ مَمْنُوعٍ شَرْعًا ، كَمَا يَقُولُهُ هَذَا الْمَانِعُ . فَهَذَا مُجَامِعٌ مَا حَضَرَ مِنْ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ ، مَعَ تَقْرِيرٍ لِبَعْضِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ ، وَالنَّظَرِ فِي الْأَقْيِسَةِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْكِتَابِ .

 

116 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ . فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ : بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْحَرِّ ، وَيُعَارِضُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَمْرِ الْإِبْرَادِ عَلَى مَا قِيلَ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْإِبْرَادَ رُخْصَةٌ فَلَا إشْكَالَ عَلَيْهِ . لِأَنَّ التَّقْدِيمَ حِينَئِذٍ يَكُونُ سُنَّةً . وَالْإِبْرَادُ جَائِزٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْإِبْرَادَ سُنَّةٌ ، فَقَدْ رَدَّدَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا . أَعْنِي التَّقْدِيمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، أَوْ يَكُونَ عَلَى الرُّخْصَةِ . وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي : أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّةَ تَعَارُضٌ . لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا الْإِبْرَادَ إلَى حَيْثُ يَبْقَى ظِلٌّ يُمْشَى فِيهِ إلَى الْمَسْجِدِ ، أَوْ إلَى مَا زَادَ عَلَى الذِّرَاعِ . فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ حَرٌّ يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى بَسْطِ الثَّوْبِ . فَلَا تَعَارُضَ .

الثَّانِي : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِاتِّقَائِهِ بِذَلِكَ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا . الثَّالِثُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُبَاشَرَةَ مَا بَاشَرَ الْأَرْضَ بِالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ . فَإِنَّهُ عَلَّقَ بَسْطَ الثَّوْبِ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ . وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْمُعْتَادَ عَدَمُ بَسْطِهِ . الرَّابِعُ : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ أَجَازَ السُّجُودَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُصَلِّي . وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ لَفْظَةُ " ثَوْبِهِ " دَالَّةٌ عَلَى الْمُتَّصِلِ بِهِ ، إمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ ، أَوْ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ ( وَنَعْنِي بِالْأَمْرِ الْخَارِجِ قِلَّةَ الثِّيَابِ عِنْدَهُمْ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ : قَوْلُهُ " بَسَطَ ثَوْبَهُ . فَسَجَدَ عَلَيْهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْطَ مُعَقَّبٌ بِالسُّجُودِ ، لِدَلَالَةِ الْفَاءِ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرًا ) . وَالثَّانِي : أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَنَاوُلِهِ لِمَحِلِّ النِّزَاعِ . إذْ مَنْ مَنَعَ السُّجُودَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّصِلِ بِهِ : يَشْتَرِطُ فِي الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا بِحَرَكَةِ الْمُصَلِّي . وَهَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي سَهْلُ الْإِثْبَاتِ . لِأَنَّ طُولَ ثِيَابِهِمْ إلَى حَيْثُ لَا تَتَحَرَّكُ بِالْحَرَكَةِ بَعِيدٌ .

 

117 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ } .

هَذَا النَّهْيُ مُعَلَّلٌ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي ذَلِكَ تَعَرِّي أَعَالِي الْبَدَنِ ، وَمُخَالَفَةُ الزِّينَةِ الْمَسْنُونَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَشْغَلَ يَدَهُ بِإِمْسَاكِ الثَّوْبِ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَشْغَلْ خِيفَ سُقُوطُ الثَّوْبِ ، وَانْكِشَافُ الْعَوْرَةِ . وَإِنْ شُغِلَ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَتَانِ . إحْدَاهُمَا . أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى صَلَاتِهِ ، وَالِاشْتِغَالِ بِهَا . الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ إذَا شَغَلَ يَدَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يُؤْمَنُ مِنْ سُقُوطِ الثَّوْبِ ، وَانْكِشَافِ الْعَوْرَةِ . وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ . وَمَنْعُ الصَّلَاةِ فِي السَّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ وَحْدَهُ . لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ . وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ . وَالْأَشْهَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : خِلَافُ هَذَا الْمَذْهَبِ . وَجَوَازُ الصَّلَاةِ بِمَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ . وَعَارَضُوا هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرٍ فِي الثَّوْبِ " وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا : فَاتَّزِرْ بِهِ " وَيُحْمَلُ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

118 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا . فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا . وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ . وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ . فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا ، فَسَأَلَ ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ . فَقَالَ : قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أَصْحَابِي . فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا . قَالَ : كُلْ . فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ بِسَبَبِ أَكْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَاللَّازِمُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُبَاحًا ، وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ عَلَى الْأَعْيَانِ ، أَوْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَيَمْتَنِعُ أَكْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا آذَتْ ، إنْ حَمَلْنَا النَّهْيَ عَنْ الْقُرْبَانِ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ : عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِهَا . لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ } وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ بِشَيْءٍ يَخْتَصُّ بِهِ . وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي } وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا : أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ . وَتَقْرِيرُهُ : أَنْ يُقَالَ : أَكْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ جَائِزٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ لَوَازِمِهِ : تَرْكُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّ آكِلِهَا لِلْحَدِيثِ . وَلَازِمُ الْجَائِزِ جَائِزٌ . فَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّ آكِلِهَا جَائِزٌ . وَذَلِكَ يُنَافِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ - أَوْ بَعْضِهِمْ - تَحْرِيمُ أَكْلِ الثُّومِ ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَتَقْرِيرُ هَذَا ، أَنْ يُقَالَ : صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَلَا تَتِمُّ إلَّا بِتَرْكِ أَكْلِ الثُّومِ لِهَذَا الْحَدِيثِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . فَتَرْكُ أَكْلِ الثُّومِ وَاجِبٌ . الثَّانِي : قَوْلُهُ " مَسْجِدَنَا " تَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِمَسْجِدِ الرَّسُولِ . وَرُبَّمَا يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ مَهْبِطَ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ . وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ عَامٌّ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ . " مَسَاجِدَنَا " وَيَكُونُ " مَسْجِدَنَا " لِلْجِنْسِ ، أَوْ لِضَرْبِ الْمِثَالِ . فَإِنَّ هَذَا النَّهْيَ مُعَلَّلٌ : إمَّا بِتَأَذِّي الْآدَمِيِّينَ ، أَوْ بِتَأَذِّي الْمَلَائِكَةِ الْحَاضِرِينَ . وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا . الثَّالِثُ : قَوْلُهُ " وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ " قِيلَ إنَّ لَفْظَةَ " الْقِدْرِ " تَصْحِيفٌ . وَأَنَّ الصَّوَابَ " بِبَدْرٍ " بِالْبَاءِ . وَالْبَدْرُ الطَّبَقُ . وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَمِمَّا اُسْتُبْعِدَ بِهِ لَفْظَةُ " الْقِدْرِ " أَنَّهَا تُشْعِرُ بِالطَّبْخِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْإِذْنُ بِأَكْلِهَا مَطْبُوخَةً . وَأَمَّا " الْبَدْرُ " الَّذِي هُوَ الطَّبَقُ : فَلَا يُشْعِرُ كَوْنَهَا فِيهِ بِالطَّبْخِ . فَجَازَ أَنْ تَكُونَ نِيئَةً . فَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ الْإِذْنَ فِي أَكْلِهَا مَطْبُوخَةً . بَلْ رُبَّمَا يُدَّعَى . أَنَّ ظَاهِرَ كَوْنِهَا فِي الطَّبَقِ : أَنْ تَكُونَ نِيئَةً . الرَّابِعُ قَوْلُهُ " قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ " يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إبَاحَةِ أَكْلِهَا وَتَرْجِيحِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ . الْخَامِسُ : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَكْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي تَرْكِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ عَنْهَا ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، إلَّا أَنْ تَدْعُوَ إلَى أَكْلِهَا ضَرُورَةٌ ، وَيُبْعِدُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ تَقْرِيبُهُ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الزَّجْرَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَخِيرُ وَهُوَ : 119 - الْحَدِيثُ التَّاسِعُ : عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا . فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسَانُ } .

وَفِي رِوَايَةٍ " بَنُو آدَمَ " فَفِيهِ زِيَادَةُ " الْكُرَّاثِ " وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ . إذْ الْعِلَّةُ تَشْمَلُهُ . وَقَدْ تَوَسَّعَ الْقَائِسُونَ فِي هَذَا ، حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَنْ بِهِ بَخَرٌ ، أَوْ جُرْحٌ مِنْهُ رِيحٌ يُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى ، كَمَا أَنَّهُمْ تَوَسَّعُوا ، وَأَجْرَوْا حُكْمَ الْمَجَامِعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسَاجِدَ - كَمُصَلَّى الْعِيدِ ، وَمَجْمَعِ الْوَلَائِمِ - مَجْرَى الْمَسَاجِدِ لِمُشَارَكَتِهَا فِي تَأَذِّي النَّاسِ بِهَا . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى " إشَارَةٌ إلَى التَّعْلِيلِ بِهَذَا . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ " يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ : التَّعْلِيلَ بِتَأَذِّي بَنِي آدَمَ . وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا . وَالظَّاهِرُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ .

 

باب التشهد :

120 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّدَ - كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } وَفِي لَفْظٍ { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ - وَذَكَرَهُ - وَفِيهِ : فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ - وَفِيهِ - فَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ } .

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ التَّشَهُّدِ . فَقِيلَ : إنَّ الْأَخِيرَ وَاجِبٌ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّهُ سُنَّةٌ . وَاسْتَدَلَّ لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ " فَلْيَقُلْ " وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، إلَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ مَجْمُوعَ مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ ظَاهِرُ الْأَمْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ الْوَاجِبُ بَعْضُهُ . وَهُوَ " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ . سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " مِنْ غَيْرِ إيجَابِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ " الْمُبَارَكَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ " وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يُوجِبُ كُلَّ مَا بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْأَمْرُ بَلْ الْوَاجِبُ بَعْضُهُ . وَاخْتَلَفُوا فِيهِ . وَعُلِّلَ هَذَا الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ الْمُتَكَرِّرُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ . وَعَلَيْهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الزَّائِدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ مِنْ عَدْلٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا إذَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ إلَيْهَا . .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ . فَإِنَّ الرِّوَايَاتِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : بِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا . وَقِيلَ : إنَّهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي التَّشَهُّدِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ . وَرَجَّحَ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - بَعْدَ كَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ . فَتَكُونُ كُلُّ جُمْلَةٍ ثَنَاءً مُسْتَقِلًّا . وَإِذَا أُسْقِطَتْ وَاوُ الْعَطْفِ : كَانَ مَا عَدَا اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِفَةً لَهُ . فَيَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي الثَّنَاءِ . وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ . فَكَانَ أَوْلَى . وَزَادَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِأَنْ قَالَ : لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ ، وَالرَّحْمَنِ ، وَالرَّحِيمِ " لَكَانَتْ أَيْمَانًا مُتَعَدِّدَةً تَتَعَدَّدُ بِهَا الْكَفَّارَةُ . وَلَوْ قَالَ " وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لَكَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً . فِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . هَذَا أَوْ مَعْنَاهُ . وَرَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ رَجَّحَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - فِي اخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ : وَاوُ الْعَطْفِ . قَدْ تَسْقُطُ . وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ : كَيْفَ أَصْبَحْتُ كَيْفَ أَمْسَيْتُ مِمَّا وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ كَيْفَ أَصْبَحْتُ وَكَيْفَ أَمْسَيْتُ . وَهَذَا أَوَّلًا إسْقَاطٌ لِلْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ . وَمَسْأَلَتُنَا فِي إسْقَاطِهَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ إسْقَاطِهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ ضَعِيفٍ لَمْ يَمْتَنِعْ التَّرْجِيحُ بِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِمَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الثَّنَاءِ ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِيهِ . وَتَرْجِيحٌ آخَرُ لِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ : وَهُوَ أَنَّ " السَّلَامَ " مُعَرَّفٌ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، مُنَكَّرٌ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ . وَاخْتَارَ مَالِكٌ تَشَهُّدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَرَجَّحَهُ أَصْحَابُهُ بِشُهْرَةِ هَذَا التَّعْلِيمِ ، وَوُقُوعِهِ عَلَى رُءُوسِ الصَّحَابَةِ ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ . وَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَرَّحٌ بِهِ . وَرَفَعَ تَشَهُّدَ عُمَرَ بِطَرِيقٍ اسْتِدْلَالِيٍّ . وَقَدْ رُجِّحَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ لِتَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ : بِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ . وَهُوَ قَوْلُهُ " كَانَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ " وَهَذَا تَرْجِيحٌ مُشْتَرَكٌ . لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا وَرَدَ فِي تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ . وَرُجِّحَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً " الْمُبَارَكَات " وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } . " وَالتَّحِيَّاتُ " جَمْعُ التَّحِيَّةِ . وَهِيَ الْمُلْكُ . وَقِيلَ : السَّلَامُ . وَقِيلَ : الْعَظَمَةُ . وَقِيلَ : الْبَقَاءُ . فَإِذَا حُمِلَ عَلَى " السَّلَامِ " فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : التَّحِيَّاتُ الَّتِي تُعَظَّمُ بِهَا الْمُلُوكُ - مَثَلًا - مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى " الْبَقَاءِ " فَلَا شَكَّ فِي اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ . وَإِذَا حُمِلَ عَلَى " الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ " فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : الْمُلْكَ الْحَقِيقِيَّ التَّامَّ لِلَّهِ . وَالْعَظَمَةَ الْكَامِلَةَ لِلَّهِ . لِأَنَّ مَا سِوَى مُلْكِهِ وَعَظَمَتِهِ تَعَالَى فَهُوَ نَاقِصٌ . " وَالصَّلَوَاتُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ . وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى . لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا غَيْرُهُ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ إخْلَاصِنَا الصَّلَوَاتِ لَهُ ، أَيْ إنَّ صَلَوَاتِنَا مُخْلَصَةٌ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلَوَاتِ : الرَّحْمَةُ . وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " لِلَّهِ " أَيْ الْمُتَفَضِّلُ بِهَا وَالْمُعْطِي : هُوَ اللَّهُ . لِأَنَّ الرَّحْمَةَ التَّامَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا لِغَيْرِهِ . وَقَرَّرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا فَصْلًا . بِأَنْ قَالَ مَا مَعْنَاهُ إنَّ كُلَّ مَنْ رَحِمَ أَحَدًا فَرَحْمَتُهُ لَهُ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الرِّقَّةِ . فَهُوَ بِرَحْمَتِهِ دَافِعٌ لِأَلَمِ الرِّقَّةِ عَنْ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنَّهَا لِمُجَرَّدِ إيصَالِ النَّفْعِ إلَى الْعَبْدِ . وَأَمَّا " الطَّيِّبَاتُ " فَقَدْ فُسِّرَتْ بِالْأَقْوَالِ الطَّيِّبَاتِ . وَلَعَلَّ تَفْسِيرَهَا بِمَا هُوَ أَعَمُّ أَوْلَى . أَعْنِي : الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْأَفْعَالِ ، وَالْأَقْوَالِ ، وَالْأَوْصَافِ . وَطَيِّبُ الْأَوْصَافِ : بِكَوْنِهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَخُلُوصِهَا عَنْ شَوَائِبِ النَّقْصِ . وَقَوْلُهُ " السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ " قِيلَ : مَعْنَاهُ التَّعَوُّذُ بِاسْمِ اللَّهِ ، الَّذِي هُوَ " السَّلَامُ " كَمَا تَقُولُ : اللَّهُ مَعَكَ ، أَيْ اللَّهُ مُتَوَلِّيكَ ، وَكَفِيلٌ بِكَ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ السَّلَامُ وَالنَّجَاةُ لَكُمْ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } وَقِيل الِانْقِيَادِ لَكَ ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَلَيْسَ يَخْلُو بَعْضُ هَذَا مِنْ ضَعْفٍ . لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى " السَّلَامُ " بِبَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي بِكَلِمَةِ " عَلَى " . وَقَوْلُهُ " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " لَفْظُ عُمُومٍ . وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ : أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ " السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ . السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ " حَتَّى عُلِّمُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ قِبَلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ : أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً . وَأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْعُمُومِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ ، خِلَافًا لِمَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ . وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَتَصَرُّفَاتِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَنَا . وَمَنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَجَدَهُ . وَاسْتِدْلَالُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ لَا يُحْصِي الْجَمْعُ لِأَمْثَالِهَا ، لَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا خُصَّ " الْعِبَادُ الصَّالِحُونَ " لِأَنَّهُ كَلَامُ ثَنَاءٍ وَتَعْظِيمٍ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ " دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كُلِّ سُؤَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : اسْتَثْنَى بَعْضَ صُوَرٍ مِنْ الدُّعَاءِ تَقْبُحُ ، مَا لَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ أَعْطِنِي امْرَأَةً صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا . وَأَخَذَ يَذْكُرُ أَوْصَافَ أَعْضَائِهَا . وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْنًا فِي التَّشَهُّدِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ قَدْ عَلَّمَ التَّشَهُّدَ ، وَأَمَرَ عَقِيبَةَ : أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ . وَلَمْ يُعَلِّمْ ذَلِكَ . وَمَوْضِعُ التَّعْلِيمِ لَا يُؤَخَّرُ وَقْتُ بَيَانِ الْوَاجِبِ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

121 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : { لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ : فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : " كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ " مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ . وَقِيلَ : مِنْ بَنِي الْحَارِثِ مِنْ قُضَاعَةَ . شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ . وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ فِيمَا قِيلَ . رَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ . الثَّانِي : صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ " قُولُوا " ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ . وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقِيلَ : تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً . وَهُوَ الْأَكْثَرُ . وَقِيلَ : تَجِبُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ إنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ . وَتَابَعَهُ إِسْحَاقُ . وَقِيلَ : تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ . وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ . وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَخْصُوصٌ بِالصَّلَاةِ . وَقَدْ كَثُرَ الِاسْتِدْلَال عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الْمُتَفَقِّهَةِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ . فَتَعَيَّنَ أَنْ تَجِبَ فِي الصَّلَاةِ . وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا . لِأَنَّ قَوْلَهُ " لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ " إنْ أَرَادَ بِهِ : لَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ عَيْنًا ، فَهُوَ صَحِيحٌ . لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ : أَنْ تَجِبَ فِي الصَّلَاةِ عَيْنًا ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ . فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُعَيَّنَيْنِ - أَعْنِي خَارِجَ الصَّلَاةِ وَدَاخِلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ أَرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْوُجُوبُ الْمُطْلَقُ فَمَمْنُوعٌ .

الثَّالِثُ : فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ وَجْهَانِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَدْ يَتَمَسَّكُ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ . الرَّابِعُ : اخْتَلَفُوا فِي " الْآلِ " فَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ : أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : أَهْلُ دِينِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } الْخَامِسُ : اُشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ سُؤَالٌ . وَهُوَ : أَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ . فَكَيْفَ يَطْلُبُ صَلَاةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبُّهًا بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ ؟ وَاَلَّذِي يُقَالُ فِيهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ بِأَصْلِ الصَّلَاةِ ، لَا الْقَدْرِ بِالْقَدْرِ . وَهَذَا كَمَا اخْتَارُوا فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَنَّ الْمُرَادَ : أَصْلُ الصِّيَامِ ، لَا عَيْنُهُ وَوَقْتُهُ . وَلَيْسَ هَذَا بِالْقَوِيِّ . الثَّانِي . أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ ، لَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّ قَوْلَهُ " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ " مَقْطُوعًا عَنْ التَّشْبِيهِ . وَقَوْلُهُ " وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ " مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ " كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ " وَفِي هَذَا مِنْ السُّؤَالِ : أَنَّ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوِيهِمْ . فَكَيْفَ يُطْلَبُ وُقُوعُ مَا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ ؟ وَهَهُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يُرَدَّ مَا يُرَدَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُشَبَّهَ : الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِهِ ، أَيْ الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ . وَمُعْظَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ هُمْ آلُ إبْرَاهِيمَ فَإِذَا تَقَابَلَتْ الْجُمْلَةُ بِالْجُمْلَةِ ، وَتَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ لِآلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلُ مَا لِآلِ إبْرَاهِيمَ - الَّذِينَ هُمْ الْأَنْبِيَاءُ - كَانَ مَا تَوَفَّرَ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْحَاصِلِ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَاَلَّذِي يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ آثَارُ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ . فَمَنْ كَانَتْ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ كَانَ أَفْضَلَ . الرَّابِعُ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْأَمْرُ بِهَا لِلتَّكْرَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ صَلَاةٍ فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ . فَإِذَا اقْتَضَتْ فِي كُلِّ مُصَلٍّ حُصُولَ صَلَاةٍ مُسَاوِيَةٍ لِلصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْحَاصِلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ الصَّلَاةِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ، لَا يَنْتَهِي إلَيْهَا الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ . فَإِنْ قُلْتَ : التَّشْبِيهُ حَاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَالْفَرْدُ مِنْهَا . فَالْإِشْكَالُ وَارِدٌ . قُلْتُ : مَتَى يَرِدُ الْإِشْكَالُ : إذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ ؟ الْأَوَّلُ : مَمْنُوعٌ . وَالثَّانِي : مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ هَذَا الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِذَا كَانَ لِلتَّكْرَارِ ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَجْمُوعِ : حُصُولُ مِقْدَارٍ لَا يُحْصَى مِنْ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِقْدَارِ الْحَاصِلِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . الْخَامِسُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ السُّؤَالِ لِصَلَاةٍ مُسَاوِيَةٍ لِلصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُسَاوَاةُ ، أَوْ عَدَمُ الرُّجْحَانِ عِنْدَ السُّؤَالِ . وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً مُسَاوِيَةً لِصَلَاةِ إبْرَاهِيمَ ، أَوْ زَائِدَةً عَلَيْهَا . أَمَّا إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَسْئُولُ مِنْ الصَّلَاةِ إذَا انْضَمَّ إلَى الثَّابِتِ الْمُتَكَرِّرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ الْمَجْمُوعُ زَائِدًا فِي الْمِقْدَارِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَسْئُولِ . وَصَارَ هَذَا فِي الْمِثَالِ كَمَا إذَا مَلَكَ إنْسَانٌ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَمَلَكَ آخَرُ أَلْفَيْنِ . فَسَأَلْنَا أَنْ نُعْطِيَ صَاحِبَ الْأَرْبَعَةِ آلَافِ مِثْلَ مَا لِذَلِكَ الْآخَرِ ، وَهُوَ الْأَلْفَانِ . فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ انْضَمَّتْ الْأَلْفَانِ إلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ . فَالْمَجْمُوعُ سِتَّةُ آلَافٍ . وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى الْمَسْئُولِ الَّذِي هُوَ أَلْفَانِ . السَّادِسُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ : قَوْلُهُ " إنَّكَ حَمِيدٌ " بِمَعْنَى مَحْمُودٍ ، وَرَدَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ ، أَيْ مُسْتَحِقٌّ لِأَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ . وَ " مَجِيدٌ " مُبَالَغَةٌ مِنْ مَاجِدٍ وَالْمَجْدُ الشَّرَفُ . فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّعْلِيلِ لِاسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " حَمِيدٌ " مُبَالَغَةً مِنْ حَامِدٍ . وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّعْلِيلِ لِلصَّلَاةِ الْمَطْلُوبَةِ . فَإِنَّ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ مُتَقَارِبَانِ فَحَمِيدٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى شَكُورٍ . وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِزِيَادَةِ الْأَفْضَالِ وَالْإِعْطَاءِ لِمَا يُرَادُ مِنْ الْأُمُورِ الْعِظَامِ . وَذَلِكَ الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ مُنَاسَبَتُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرَةٌ . وَ " الْبَرَكَةُ " الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ مِنْ الْخَيْرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

122 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَعَذَابِ النَّارِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ } .

- ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ " فِي الْحَدِيثِ إثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ . وَهُوَ مُتَكَرِّرٌ مُسْتَفِيضٌ فِي الرِّوَايَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ . وَ " فِتْنَةِ الْمَحْيَا " مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْإِنْسَانُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ، مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ ، وَأَشَدُّهَا وَأَعْظَمُهَا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى : أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَ " فِتْنَةِ الْمَمَاتِ " يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ . أُضِيفَتْ إلَى الْمَوْتِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ . وَتَكُونُ فِتْنَةُ الْمَحْيَا - عَلَى هَذَا - مَا يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَتَصَرُّفِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَا قَارَبَ شَيْئًا يُعْطَى حُكْمَهُ . فَحَالَةُ الْمَوْتِ تَشَبُّهٌ بِالْمَوْتِ ، وَلَا تُعَدُّ مِنْ الدُّنْيَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفِتْنَةِ الْمَمَاتِ : فِتْنَةَ الْقَبْرِ ، كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِتْنَةِ الْقَبْرِ " كَمِثْلِ - أَوْ أَعْظَمِ - مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ " وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا مُتَكَرِّرًا مَعَ قَوْلِهِ " مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " لِأَنَّ الْعَذَابَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْفِتْنَةِ : وَالسَّبَبُ غَيْرُ الْمُسَبَّبِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ الْمَقْصُودَ زَوَالُ عَذَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ نَفْسَهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ شَدِيدٌ يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ مُسْلِمٍ فِيهِ زِيَادَةُ كَوْنِ الدَّعَوَاتِ مَأْمُورًا بِهَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ ، وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِنَايَةُ بِالدُّعَاءِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ، حَيْثُ أُمِرْنَا بِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ . وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِذَلِكَ ، لِعِظَمِ الْأَمْرِ فِيهَا ، وَشِدَّةِ الْبَلَاءِ فِي وُقُوعِهَا ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَهَا - أَوْ كُلَّهَا - أُمُورٌ إيمَانِيَّةٌ غَيْبِيَّةٌ . فَتَكَرُّرُهَا عَلَى الْأَنْفُسِ يَجْعَلُهَا مَلَكَةً لَهَا . وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ أَيْضًا فَائِدَةٌ أُخْرَى .

وَهِيَ : تَعْلِيمُ الِاسْتِعَاذَةِ ، وَصِيغَتِهَا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَلَوْ عَبَّرَ بِغَيْرِهِ لَحَصَّلَ الْمَقْصُودَ وَامْتَثَلَ الْأَمْرَ . وَلَكِنْ الْأَوْلَى قَوْلُ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ ذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى وُجُوبِ هَذَا الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ . وَلْيُعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ " عَامٌّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ مَعًا : وَقَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ اسْتِحْبَابُ التَّخْفِيفِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ . وَعَدَمُ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ بَعْدَهُ ، حَتَّى تَسَامَحَ بَعْضُهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ فِيهِ . ( وَمَنْ يَكُونُ إذَا وَرَدَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَخِيرِ مُتَمَسِّكًا لَهُمْ ، مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، أَوْ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ . وَفِيهِ بَحْثٌ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ) وَالْعُمُومُ الَّذِي ذَكَرْنَا يَقْتَضِي الطَّلَبَ بِهَذَا الدُّعَاءِ . فَمَنْ خَصَّهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ رَاجِحٍ . وَإِنْ كَانَ نَصًّا فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

123 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : { أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي . قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا . وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ . وَارْحَمْنِي ، إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .

هَذَا الْحَدِيثُ يَقْضِي الْأَمْرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَحِلِّهِ . وَلَوْ فَعَلَ فِيهَا - حَيْثُ لَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ فِي أَيِّ الْأَمَاكِنِ كَانَ - لَجَازَ . وَلَعَلَّ الْأَوْلَى : أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ مَوْطِنَيْنِ : إمَّا السُّجُودِ ، وَإِمَّا بَعْدَ التَّشَهُّدِ . فَإِنَّهُمَا الْمَوْضِعَانِ اللَّذَانِ أُمِرْنَا فِيهِمَا بِالدُّعَاءِ . قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " وَأَمَّا السُّجُودُ : فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ " وَقَالَ فِي التَّشَهُّدِ " وَلْيَتَخَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ " وَلَعَلَّهُ يَتَرَجَّحُ كَوْنُهُ فِيمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ : لِظُهُورِ الْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ فِي هَذَا الْمَحِلِّ . وَقَوْلُهُ " إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْرَى مِنْ ذَنْبٍ وَتَقْصِيرٍ ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " اسْتَقِيمُوا ، وَلَنْ تُحْصُوا " وَفِي الْحَدِيثِ " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ . وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " وَرُبَّمَا أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَتَخْصِيصٍ بِحَالَةٍ ، فَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ حَالَةٌ لَا يَكُونُ فِيهَا ظُلْمٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، لَمَا كَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ . فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ " إقْرَارٌ بِوَحْدَانِيَّةِ الْبَارِي تَعَالَى ، وَاسْتِجْلَابٌ لِمَغْفِرَتِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ } وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ امْتِثَالٌ لِمَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ . " كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } وَقَوْلُهُ { فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ } فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى التَّوْحِيدِ الْمَذْكُورِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَفْعَلُ هَذَا إلَّا أَنْتَ ، فَافْعَلْهُ أَنْتَ . وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَحْسَنُ : أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى طَلَبِ مَغْفِرَةٍ مُتَفَضَّلٍ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا يَقْتَضِيهَا سَبَبٌ مِنْ الْعَبْدِ ، مِنْ عَمَلٍ حَسَنٍ وَلَا غَيْرِهِ . فَهِيَ رَحْمَةٌ مِنْ عِنْدِهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ، لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا سَبَبٌ وَهَذَا تَبَرُّؤٌ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْإِدْلَالِ بِالْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادِ فِي كَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ وُجُوبًا عَقْلِيًّا . وَ " الْمَغْفِرَةُ " السَّتْرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ . وَ " الرَّحْمَةُ " مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُنَزِّهِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَنْ التَّشْبِيهِ - إمَّا نَفْسُ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُوصِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ إلَى الْعَبْدِ . وَإِمَّا إرَادَةُ إيصَالِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إلَى الْعَبْدِ . فَعَلَى الْأَوَّلِ : هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ . وَعَلَى الثَّانِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ . وَقَوْلُهُ " إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " صِفَتَانِ ذُكِرَتَا خَتْمًا لِلْكَلَامِ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ لِمَا قَبْلَهُ . فَالْغَفُورُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ " اغْفِرْ لِي " وَالرَّحِيمُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ ارْحَمْنِي " وَقَدْ وَقَعَتْ الْمُقَابَلَةُ هَهُنَا لِلْأَوَّلِ بِالْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي . وَقَدْ يَقَعُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، بِأَنْ يُرَاعَى الْقُرْبُ ، فَيُجْعَلُ الْأَوَّلُ لِلْأَخِيرِ . وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ ، وَطَلَبِ التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ . وَمِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ : مُنَاسَبَةُ مَقَاطِعِ الْآيِ لِمَا قَبْلَهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

124 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } - إلَّا يَقُولُ فِيهَا : سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَفِي لَفْظٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } .

حَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ مُبَادَرَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ . وَقَوْلُهُ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُسَبِّحَ بِنَفْسِ الْحَمْدِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الْحَمْدُ مِنْ مَعْنَى التَّسْبِيحِ ، الَّذِي هُوَ التَّنْزِيهُ ، لِاقْتِضَاءِ الْحَمْدِ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ . وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ الشَّرِكَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : فَسَبِّحْ مُتَلَبِّسًا بِالْحَمْدِ . فَتَكُونُ الْبَاءُ دَالَّةً عَلَى الْحَالِ . وَهَذَا يَتَرَجَّحُ . لِأَنَّ النَّبِيَّ قَدْ سَبَّحَ وَحَمَدَ بِقَوْلِهِ " سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ " وَعَلَى مُقْتَضَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ : يُكْتَفَى بِالْحَمْدِ فَقَطْ . وَكَأَنَّ تَسْبِيحَ الرَّسُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ الْمَعْنَى الثَّانِي . وَقَوْلُهُ " وَبِحَمْدِكَ " قِيلَ مَعْنَاهُ : وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُ . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَذْفٌ ، أَيْ بِسَبَبِ حَمْدِ اللَّهِ سَبَّحْتُ . وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّبَبِ هَهُنَا : التَّوْفِيقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى التَّسْبِيحِ ، وَاعْتِقَادَ مَعْنَاهُ . وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ " أَيْ وَقَعَ هَذَا بِسَبَبِ حَمْدِ اللَّهِ ، أَيْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ . فَإِنَّ الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ سَبَبٌ لِلْحَمْدِ ، فَيُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْحَمْدِ . وَقَوْلُهُ . " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " امْتِثَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَغْفِرْهُ } بَعْدَ امْتِثَالِ قَوْلِهِ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } وَأَمَّا اللَّفْظُ الْآخَرُ : فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الدُّعَاءَ فِي الرُّكُوعِ وَإِبَاحَتَهُ . وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَمَّا الرُّكُوعُ : فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا السُّجُودُ : فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ " فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْجَوَازُ . وَمِنْ ذَلِكَ الْأَوْلَوِيَّةُ بِتَخْصِيصِ الرُّكُوعِ بِالتَّعْظِيمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ قَدْ أُمِرَ فِيهِ بِتَكْثِيرِ الدُّعَاءِ لِإِشَارَةِ قَوْلِهِ ( فَاجْتَهِدُوا ) وَاحْتِمَالِهَا لِلْكَثْرَةِ . وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي الرُّكُوعِ مِنْ قَوْلِهِ " اغْفِرْ لِي " لَيْسَ كَثِيرًا . فَلَيْسَ فِيهِ مُعَارِضَةُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي السُّجُودِ . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَوَّلِ : سُؤَالٌ . وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ " إذَا " تَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ وَعَدَمَ حُصُولِ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ " مَا صَلَّى صَلَاةً . بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } يَقْتَضِي تَعْجِيلَ هَذَا الْقَوْلِ ، لِقُرْبِ الصَّلَاةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ عَقِيبَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ النُّزُولِ . وَ " الْفَتْحُ " أَيْ فَتْحُ مَكَّةَ . وَ " دُخُولُ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا " يَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ أَوْسَعَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَالصَّلَاةُ الْأُولَى بَعْدَهُ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ " قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهِ . فَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا حَاصِلًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ . فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهَا " إذَا جَاءَ " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقَوْلُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ الْوَارِدِ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْأَمْرِ بِهِ ؟ وَجَوَابُهُ : أَنْ نَخْتَارَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ . وَيَكُونُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَادَرَ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الزَّمَنِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ فِيهِ . إذْ ذَلِكَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ . فَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ كَانَ الْوَاقِعُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ - بَعْدَ وُقُوعِهِ - وَاقِعًا عَلَى حَسَبِ الِامْتِثَالِ ، وَقَبْلَ وُقُوعِ الشَّرْطِ ، وَاقِعًا عَلَى حَسَبِ التَّبَرُّعِ . وَلَيْسَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ " يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ " مَا يَقْتَضِي - وَلَا بُدَّ - أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِعًا عَلَى جِهَةِ الِامْتِثَالِ لِلْمَأْمُورِ ، حَتَّى يَكُونَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الشَّرْطِ ، بَلْ مُقْتَضَاهُ : أَنْ يَفْعَلَ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ فَقَطْ . وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذَا الْقَوْلِ فِعْلًا لِطَاعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ ، وَبَعْضُهُ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

 

باب الوتر

125 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ : مَثْنَى ، مَثْنَى . فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً . فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى . وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا } .

" الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " أَخَذَ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ لَا يُزَادُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ . وَهُوَ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ . وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ آخَرُ " صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى " وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ . لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْصُورٌ فِي الْخَبَرِ . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ حَصْرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِيمَا هُوَ مَثْنَى . وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ ، إذْ هُوَ يُنَافِي الزِّيَادَةَ . فَلَوْ جَازَتْ الزِّيَادَةُ لَمَا انْحَصَرَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فِي الْمَثْنَى . وَهَذَا يُعَارِضُهُ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي ، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي الْعَدَدِ ، وَذَكَرَ بَعْضُ مُصَنِّفِي أَصْحَابِهِ شَرْطَيْنِ فِي ذَلِكَ ، وَحَاصِلُ قَوْلِهِ : أَنَّهُ مَتَى تَنَفَّلَ بِأَزْيَدَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، شَفْعًا أَوْ وِتْرًا ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى تَشَهُّدَيْنِ .

ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُتَنَفَّلُ بِهِ شَفْعًا ، فَلَا يَزِيدُ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ . وَإِنْ كَانَ وِتْرًا ، فَلَا يَزِيدُ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ عَلَى رَكْعَةٍ . فَعَلَى هَذَا : إذَا تَنَفَّلَ بِعَشْرٍ ، جَلَسَ بَعْدَ الثَّامِنَةِ . وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَ السَّابِعَةِ ، وَلَا بَعْدَ مَا قَبْلَهَا مِنْ الرَّكَعَاتِ . لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ . فَإِذَا تَنَفَّلَ بِخَمْسٍ - مَثَلًا - جَلَسَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ ، وَبَعْدَ الْخَامِسَةِ إنْ شَاءَ ، أَوْ بِسَبْعٍ . فَبَعْدَ السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ . وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى جُلُوسٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ جَازَ . وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ : تَشْبِيهُ النَّوَافِلِ بِالْفَرَائِضِ . وَالْفَرِيضَةُ الْوِتْرُ : هِيَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ . وَلَيْسَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَةٍ . وَالْفَرَائِضُ الشَّفْعُ : لَيْسَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ . وَلَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ . الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ : أَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ النُّقْصَانِ مِنْهُمَا .

، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ فَرْدَةٍ . وَالْمَذْكُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : جَوَازُهُ . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : مَنْعُهُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ اسْتِدْلَالِ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الرَّكْعَةُ الْفَرْدَةُ صَلَاةً لَمَا امْتَنَعَ قَصْرُ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ . فَإِنَّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا . .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ : يَقْتَضِي الْحَدِيثُ تَقْدِيمَ الشَّفْعِ عَلَى الْوِتْرِ مِنْ قَوْلِهِ " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " وَقَوْلُهُ " تُوتِرُ لَهُ مَا صَلَّى " فَلَوْ أَوْتَرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ شَفْعٍ : لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالسُّنَّةِ ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يُوتَرُ بِرَكْعَةٍ فَرْدَةٍ هَكَذَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . .

الْوَجْهُ الرَّابِعُ : يُفْهَمُ مِنْهُ انْتِهَاءُ وَقْتِ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ قَوْلِهِ " فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ " وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَنْتَهِي بِطُلُوعِ الْفَجْرِ . وَالثَّانِي : يَنْتَهِي بِصَلَاةِ الصُّبْحِ .

الْوَجْهُ الْخَامِسُ : قَدْ يَسْتَدِلُّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْوِتْرِ . فَإِنْ كَانَ يَرَى بِوُجُوبِ كَوْنِهِ آخَرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ : فَاسْتِدْلَالٌ قَرِيبٌ ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَ الصِّيغَةَ عَلَى النَّدْبِ . وَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْوِتْرِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَإِلَّا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ . وَهِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : يَقْتَضِي الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرُ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ . فَلَوْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ التَّنَفُّلَ ، فَهَلْ يَشْفَعُ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يُصَلِّي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَشْفَعْهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ تَنَفَّلَ ، فَهَلْ يُعِيدُ الْوِتْرَ أَخِيرًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ . فَيُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ بَعْدَ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهَا . أَمَّا مَنْ قَالَ ، إنَّهُ يَشْفَعُ وِتْرَهُ فَيَقُولُ : الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا . وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ قَبْلَهُ وِتْرٌ ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " لَا وِتْرَانِ فِي اللَّيْلَةِ " فَلَزِمَ عَنْ ذَلِكَ : أَنْ يَشْفَعَ الْوِتْرَ الْأَوَّلَ . فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَشْفَعْهُ وَأَعَادَ الْوِتْرَ ، لَزِمَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ الْوِتْرَ ، لَمْ يَكُنْ آخِرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا يَشْفَعُ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ : فَلِأَنَّهُ مَنَعَ أَنْ يَنْعَطِفَ حُكْمُ صَلَاةٍ عَلَى أُخْرَى بَعْدَ السَّلَامِ وَالْحَدِيثِ ، وَطُولِ الْفَصْلِ ، إنْ وَقَعَ ذَلِكَ . فَإِذَا لَمْ يَجْتَمِعَا فَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُمَا وِتْرَانِ ، وَلَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ ، فَامْتَنَعَ الشَّفْعُ . وَامْتَنَعَ إعَادَةُ الْوِتْرِ أَخِيرًا ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُخَالِفَةُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا " وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ . وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِأَصْلِ الْوِتْرِ كَذَلِكَ ، وَتَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ أَوْلَى مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْإِعَادَةِ : فَهُوَ أَيْضًا مَانِعٌ مِنْ شَفْعِ الْوِتْرِ لِلْأَوَّلِ مُحَافَظَةً عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا " وَيَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ قَوْلِهِ " لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ " . وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى . وَهُوَ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِرَكْعَةٍ فَرْدَةٍ : هَلْ يُشْرَعُ ؟ فَعَلَيْكَ بِتَأَمُّلِهِ .

 

 

126 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَأَوْسَطِهِ ، وَآخِرِهِ . وَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ } .

اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ تَقْدِيمُ الْوِتْرِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ، أَوْ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ وَالْآخِرِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْحَالَاتِ وَطُرُوِّ الْحَاجَاتِ . وَقِيلَ : بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقُومَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ، وَبَيْنَ مَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يَقُومَ ، وَالْأَوَّلُ : تَأْخِيرُهُ أَفْضَلُ . وَالثَّانِي : تَقْدِيمُهُ أَفْضَلُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ أَوَّلِهِ ، لَكِنْ إذَا عَارَضَ ذَلِكَ احْتِمَالُ تَفْوِيتِ الْأَصْلِ قَدَّمْنَاهُ عَلَى فَوَاتِ الْفَضِيلَةِ . وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ قَدْ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ ، وَمِنْ جُمْلَةِ صُوَرِهَا : مَا إذَا كَانَ عَادِمُ الْمَاءِ يَرْجُو وُجُودَهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ . فَهَلْ يُقَدِّمُ التَّيَمُّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَةِ الْمُحَقَّقَةِ أَمْ يُؤَخِّرُهُ إحْرَازًا لِلْوُضُوءِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ . وَالْمُخْتَارُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ التَّقْدِيمَ أَفْضَلُ . فَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ فِي التَّنْظِيرِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ .

 

127 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ، لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا } .

هَذَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ - يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي النَّوَافِلِ . وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِتَأْوِيلٍ لَا يُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ . وَهُوَ أَنْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي مَحِلِّ الْقِيَامِ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِي آخِرِ رَكْعَةٍ ، كَأَنَّ الْأَرْبَعَ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا قِيَامًا ، وَالْأَخِيرَةُ كَانَتْ جُلُوسًا فِي مَحِلِّ الْقِيَامِ ، وَرُبَّمَا دَلَّ لَفْظُهُ عَلَى تَأْوِيلِ أَحَادِيثَ قَدَّمَهَا - هَذَا مِنْهَا - بِأَنَّ السَّلَامَ وَقَعَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَهَذَا مُخَالَفَةٌ لِلَّفْظِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ السَّلَامُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ إلَّا بَعْدَ الْجُلُوسِ ، وَذَلِكَ يُنَافِيهِ قَوْلُهَا " لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي آخِرِهَا " وَفِي هَذَا نَظَرٌ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَطَّ النَّظَرِ . هُوَ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الظَّاهِرِ . مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْحَصْرِ . وَبَيْنَ دَلَالَةِ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى الْجَوَازِ ، وَالْفِعْلُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْخُصُوصُ ، إلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ . فَتَبْقَى دَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْجَوَازِ مُعَارَضَةً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَصْرِ ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا أَقْوَى . نَعَمْ يَبْقَى نَظَرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ أَعْدَادٍ مَخْصُوصَةٍ . فَإِذَا جَمَعْنَاهَا وَنَظَرْنَا أَكْثَرَهَا ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ كَانَ قَوْلًا بِالْجَوَازِ مَعَ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ مَنْعَهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ الْفِعْلِ لَهُ . فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَنْعِ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ لَهُ مِنْ الْفِعْلِ ، إلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ، أَوْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْدَادَ الْمَخْصُوصَةَ مُلْغَاةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ . وَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ . فَهُنَا يُمْكِنُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ مَقَادِيرُ الْعِبَادَاتِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا التَّعَبُّدُ ، فَلَا يُجْزَمُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُطْلَقُ الزِّيَادَةِ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْمَانِعُ : الْمُخِلُّ : هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ الرَّكْعَتَيْنِ . وَقَدْ أُلْغِيَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ . وَلَا يَقْوَى كَثِيرًا . وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

 

باب الذكر عقيب الصلاة :

128 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ ، حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ ، إذَا سَمِعْتُهُ وَفِي لَفْظٍ مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ، وَالتَّكْبِيرُ بِخُصُوصِهِ مِنْ جُمْلَةِ الذِّكْرِ . قَالَ الطَّبَرِيُّ : فِيهِ الْإِبَانَةُ عَنْ صِحَّةِ فِعْلِ مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمَرَاءِ ، يُكَبِّرُ بَعْدَ صَلَاتِهِ ، وَيُكَبِّرُ مَنْ خَلْفَهُ . قَالَ غَيْرُهُ وَلَمْ أَجِدْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ هَذَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّكْبِيرَ فِي الْعَسَاكِرِ وَالْبُعُوثِ إثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ تَكْبِيرًا عَالِيًا ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَهُوَ قَدِيمٌ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مُحْدَثٌ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَوْقِفِ ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ " مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ " فَلَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَعَلِمَ انْقِضَاءَ الصَّلَاةِ بِسَمَاعِ التَّسْلِيمِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسْمِعٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ يُبَلِّغُ التَّسْلِيمَ بِجَهَارَةِ صَوْتِهِ .

 

129 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ { : أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْ كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ . اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ . وَفِي لَفْظٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذَا الذِّكْرِ الْمَخْصُوصِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي التَّوْحِيدِ ، وَنِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ ، وَتَمَامِ الْقُدْرَةِ . وَالثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْأَذْكَارِ : يَرِدُ كَثِيرًا مَعَ خِفَّةِ الْأَذْكَارِ عَلَى اللِّسَانِ وَقِلَّتِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولَاتِهَا ، وَأَنَّ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ ، " وَالْجَدُّ " الْحَظُّ . وَمَعْنَى " لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " لَا يَنْفَعُ ذَا الْحَظِّ حَظُّهُ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَ " الْجَدُّ " هَهُنَا - وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا - فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَظِّ الدُّنْيَا . وَقَوْلُهُ " مِنْكَ " مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ " يَنْفَعُ " مُتَضَمِّنًا مَعْنَى يَمْنَعُ " أَوْ مَا يُقَارِبُهُ وَلَا يَعُودُ " مِنْكَ " إلَى الْجَدِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : حَظِّي مِنْكَ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ ، بِمَعْنَى عِنَايَتُكَ بِي ، أَوْ رِعَايَتُكَ لِي . فَإِنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ . وَفِي أَمْرِ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ . الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ السُّنَنِ وَإِشَاعَتِهَا ، وَفِيهِ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْمُكَاتَبَةِ بِالْأَحَادِيثِ ، وَإِجْرَائِهَا مَجْرَى الْمَسْمُوعِ ، وَالْعَمَلِ بِالْخَطِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إذَا أُمِنَ تَغْيِيرُهُ . وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ . وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادٍ لَا تُحْصَى ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ . وَقَوْلُهُ " عَنْ قِيلَ وَقَالَ " الْأَشْهَرُ فِيهِ : بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ . وَهَذَا النَّهْيُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ مَعَهَا وُقُوعُ الْخَطَلِ وَالْخَطَأِ ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى وُقُوعِ الْمَفَاسِدِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَالْإِخْبَارُ بِالْأُمُورِ الْبَاطِلَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا : أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ " وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَا يَكُونُ إمَامًا مَنْ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ .

وَأَمَّا " إضَاعَةُ الْمَالِ " فَحَقِيقَتُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا : بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ . وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْأَمْوَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ . وَفِي تَبْذِيرِهَا تَفْوِيتٌ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ ، إمَّا فِي حَقِّ مُضَيِّعِهَا ، أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَأَمَّا بَذْلُهُ وَكَثْرَةُ إنْفَاقِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْأُخْرَى فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقَدْ قَالُوا : لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ . وَأَمَّا إنْفَاقُهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا ، وَمَلَاذِّ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ ، وَقَدْرِ مَالِهِ : فَفِي كَوْنِهِ سَفَهًا خِلَافٌ ، وَالْمَشْهُورُ : أَنَّهُ سَفَهٌ . وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَيْسَ بِسَفَهٍ . لِأَنَّهُ يُقَوِّمُ بِهِ مَصَالِحَ الْبَدَنِ وَمَلَاذِّهِ ، وَهُوَ غَرَضٌ صَحِيحٌ . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ . وَالْأَشْهَرُ فِي مِثْلِ هَذَا : أَنَّهُ مُبَاحٌ ، أَعْنِي إذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ . وَقَدْ نُوزِعَ فِيهِ . .

وَأَمَّا " كَثْرَةُ السُّؤَالِ " فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ . وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ تَكَلُّفَ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " وَفِي حَدِيثِ اللِّعَانِ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا . فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ نَهْيٌ عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ " وَهِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ وَصِعَابُهَا . وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا : لِمَا يَتَضَمَّنُ كَثِيرٌ مِنْهُ مِنْ التَّكَلُّفِ فِي الدِّينِ وَالتَّنَطُّعِ . وَالرَّجْمِ بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَيْهِ ، مَعَ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْعِثَارِ ، وَخَطَأِ الظَّنِّ ، وَالْأَصْلُ الْمَنْعُ مِنْ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ ، إلَّا حَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى سُؤَالِ الْمَالِ . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي تَعْظِيمِ مَسْأَلَةِ النَّاسِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ سُؤَالِ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ مَمْنُوعٌ . وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْإِعْطَاءُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَيَكُونُ الْبَاطِنُ خِلَافَهُ ، أَوْ يَكُونُ السَّائِلُ مُخْبِرًا عَنْ أَمْرٍ هُوَ كَاذِبٌ فِيهِ : قَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ فِي هَذَا ، وَهُوَ مَا رُوِيَ " أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيَّتَانِ " وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاءَ مُجَرَّدِينَ ، يَأْخُذُونَ وَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ ، بِنَاءً عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَدَمِ . وَظَهَرَ أَنَّ مَعَهُ هَذَيْنِ الدِّينَارَيْنِ ، عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ حَالِهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : جَوَازُ السُّؤَالِ . فَإِذَا قِيلَ بِذَلِكَ : فَيَنْبَغِي النَّظَرُ فِي تَخْصِيصِ الْمَنْعِ بِالْكَثْرَةِ . فَإِنَّهُ إنْ كَانَتْ الصُّورَةُ تَقْتَضِي الْمَنْعَ . فَالسُّؤَالُ مَمْنُوعٌ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ . وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِ الْمَنْعَ فَيَنْبَغِي حَمْلُ هَذَا النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِلْكَثِيرِ مِنْ السُّؤَالِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو السُّؤَالُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ عَنْ كَرَاهَةٍ . فَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ فِي الْكَثْرَةِ أَشَدَّ . وَتَكُونُ هِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالنَّهْيِ . وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا : أَنَّ مَنْ يَكْرَهُ السُّؤَالَ مُطْلَقًا - حَيْثُ لَا يُحَرَّمُ - يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ قَوْلَهُ " كَثْرَةُ السُّؤَالِ " عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ ، أَوْ يَجْعَلُ النَّهْيَ دَالًّا عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْأَشَدِّيَّةِ مِنْ الْكَرَاهَةِ .

وَتَخْصِيصُ الْعُقُوقِ بِالْأُمَّهَاتِ ، مَعَ امْتِنَاعِهِ فِي الْآبَاءِ أَيْضًا ، لِأَجْلِ شِدَّةِ حُقُوقِهِنَّ ، وَرُجْحَانِ الْأَمْرِ بِبِرِّهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ . وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لِإِظْهَارِ عِظَمِهِ فِي الْمَنْعِ ، إنْ كَانَ مَمْنُوعًا ، وَشَرَفِهِ إنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ . وَقَدْ يُرَاعَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ التَّنْبِيهُ بِذِكْرِ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى . فَيُخَصُّ الْأَدْنَى بِالذِّكْرِ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ .

وَ " وَأْدِ الْبَنَاتِ " عِبَارَةٌ عَنْ دَفْنِهِنَّ مَعَ الْحَيَاةِ . وَهَذَا التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِالْبَنَاتِ .

" وَمَنْعٍ وَهَاتِ " رَاجِعٌ إلَى السُّؤَالِ مَعَ ضَمِيمَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِالْإِعْطَاءِ ، وَعَنْ السُّؤَالِ حَيْثُ يُمْنَعُ مِنْهُ . فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مَخْصُوصًا بِصُورَةٍ غَيْرِ صُورَةِ الْآخَرِ . وَالثَّانِي أَنْ يَجْتَمِعَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ . وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا . فَيَكُونُ وَظِيفَةُ الطَّالِبِ : أَنْ لَا يَسْأَلَ ، وَوَظِيفَةُ الْمُعْطِي : أَنْ لَا يَمْنَعَ إنْ وَقَعَ السُّؤَالُ . وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مُحَرَّمًا عَلَى الطَّالِبِ . فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُعْطِي إعْطَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُعِينًا عَلَى الْإِثْمِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ السُّؤَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

130 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ . قَالَ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ . وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ . وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ ، إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى ، يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ : ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً . قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ، فَقَالُوا : سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا ، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } .

قَالَ : سُمَيٌّ : فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَقَالَ : وَهِمْتَ ، إنَّمَا قَالَ لَكَ : تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي صَالِحٍ ، فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ . فَقَالَ : قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ " . الْحَدِيثُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَالْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِيهَا الْخِلَافُ . وَالْفُقَرَاءُ ذَكَرُوا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْأَغْنِيَاءِ بِسَبَبِ الْقُرُبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ . وَأَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ . وَلَكِنْ عَلَّمَهُمْ مَا يَقُومُ مَقَامَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ . فَلَمَّا قَالَهَا الْأَغْنِيَاءُ سَاوُوهُمْ فِيهَا . وَبَقِيَ مَعَهُمْ رُجْحَانُ قُرُبَاتِ الْأَمْوَالِ . فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " فَظَاهِرُهُ الْقَرِيبُ مِنْ النَّصِّ : أَنَّهُ فَضَّلَ الْأَغْنِيَاءَ بِزِيَادَةِ الْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ . وَبَعْضُ النَّاسِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ " وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ " بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ ، وَيُخْرِجُهُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ . وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَنَّهُمَا إنْ تُسَاوَيَا وَحَصَلَ الرُّجْحَانُ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْغَنِيُّ أَفْضَلَ ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ .

وَإِنَّمَا النَّظَرُ إذَا تَسَاوَيَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَقَطْ . وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَصْلَحَةِ مَا هُوَ فِيهِ وَإِذَا كَانَتْ الْمَصَالِحُ مُتَقَابِلَةً فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ ، يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْأَفْضَلِ . فَإِنْ فُسِّرَ بِزِيَادَةِ الثَّوَابِ ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ . وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ بِمَعْنَى الْأَشْرَفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صِفَاتِ النَّفْسِ ، فَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ التَّطْهِيرِ لِلْأَخْلَاقِ ، وَالرِّيَاضَةِ لِسُوءِ الطِّبَاعِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ : أَشْرَفُ . فَيَتَرَجَّحُ الْفُقَرَاءُ . وَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ إلَى تَرْجِيحِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ ، لِأَنَّ مَدَارَ الطَّرِيقِ عَلَى تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا . وَذَلِكَ مَعَ الْفَقْرِ أَكْثَرُ مِنْهُ مَعَ الْغِنَى ، فَكَانَ أَفْضَلَ بِمَعْنَى الْأَشْرَفِ وَقَوْلُهُ " ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ " الدُّثُرُ : هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ . وَقَوْلُهُ " تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّبْقُ الْمَعْنَوِيُّ . وَهُوَ السَّبْقُ فِي الْفَضِيلَةِ . وَقَوْلُهُ " مَنْ بَعْدَكُمْ " أَيْ مَنْ بَعْدَكُمْ فِي الْفَضِيلَةِ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْقَبْلِيَّةُ الزَّمَانِيَّةُ ، وَالْبَعْدِيَّةُ الزَّمَانِيَّةُ . وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إلَى السِّيَاقِ . فَإِنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَنْ أَمْرِ الْفَضِيلَةِ ، وَتَقَدُّمِ الْأَغْنِيَاءِ فِيهَا . وَقَوْلُهُ " لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ " يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ هَذِهِ الْأَذْكَارِ عَلَى فَضِيلَةِ الْمَالِ ، وَعَلَى أَنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ لِلْأَغْنِيَاءِ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ لَا يَفْعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْفُقَرَاءُ . وَفِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَعْلِيمُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الذِّكْرِ . وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فُرَادَى - أَيْ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى حِدَةٍ - وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ ، وَحَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ . وَلَكِنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَكُونُ مَجْمُوعًا ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ لِلْجُمْلَةِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَحْصُلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ هَذَا الْعَدَدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

131 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ . فَنَظَرَ إلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً . فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلَى أَبِي جَهْمٍ ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ . فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي } .

" الْخَمِيصَةُ " كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ لَهُ أَعْلَامٌ وَ " الْأَنْبِجَانِيَّة " كِسَاءٌ غَلِيظٌ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ لِبَاسِ الثَّوْبِ ذِي الْعَلَمِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اشْتِغَالَ الْفِكْرِ يَسِيرًا غَيْرُ قَادِحٍ فِي الصَّلَاةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا ، وَنَفْيِ مَا يَقْتَضِي شَغْلَ الْخَاطِرِ بِغَيْرِهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُبَادَرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَصَالِحِ الصَّلَاةِ ، وَنَفْيِ مَا يَخْدِشُ فِيهَا ، حَيْثُ أَخْرَجَ الْخَمِيصَةَ ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا غَيْرَهَا مِمَّا لَا يُشْغِلُ . فَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ " فَنَظَرَ إلَيْهَا نَظْرَةً " . وَبَعْثُهُ إلَى أَبِي جَهْمٍ بِالْخَمِيصَةِ : لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي الصَّلَاةِ ، كَمَا جَاءَ فِي " حُلَّةِ عُطَارِدٍ " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ " إنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا " . وَقَدْ اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا : كَرَاهَةَ كُلِّ مَا يُشْغِلُ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَصْبَاغِ وَالنُّقُوشِ ، وَالصَّنَائِعِ الْمُسْتَطْرَفَةِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَعُمُّ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ ، وَالْعِلَّةُ : الِاشْتِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ . وَزَادَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا : كَرَاهَةَ غَرْسِ الْأَشْجَارِ فِي الْمَسَاجِدِ . وَ " الْأَنْبِجَانِيَّة " يُقَالُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاءِ ، وَكَذَلِكَ الْيَاءُ تُخَفَّفُ وَتُشَدَّدُ . وَقِيلَ : إنَّهَا الْكِسَاءُ مِنْ غَيْرِ عَلَمٍ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عَلَمٌ فَهُوَ خَمِيصَةٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَالْإِرْسَالِ إلَيْهِمْ وَالطَّلَبِ لَهَا مِمَّنْ يَظُنُّ بِهِ السُّرُورَ بِذَلِكَ أَوْ الْمُسَامَحَةَ .

 

باب الجميع بين الصلاتين في السفر :

132 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } .

هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ . وَإِنَّمَا هُوَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ . فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ لَفْظٍ بِعَيْنِهِ : فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَصِّصُهُ بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ ، وَتَكُونُ الْعِلَّةُ فِيهِ : النُّسُكَ ، لَا السَّفَرَ . وَلِهَذَا يُقَالُ : لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عِنْدَهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ ، وَأَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ : يُؤَوِّلُونَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ بِالْجَمْعِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا ، وَتَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا . وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْجَمْعَ إلَى جَمْعِ مُقَارَنَةٍ وَجَمْعِ مُوَاصَلَةٍ . وَأَرَادَ بِجَمْعِ الْمُقَارَنَةِ : أَنْ يَكُونَ الشَّيْئَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، كَالْأَكْلِ وَالْقِيَامِ مَثَلًا ، فَإِنَّهُمَا يَقَعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . وَأَرَادَ بِجَمْعِ الْمُوَاصَلَةِ : أَنْ يَقَعَ أَحَدُهُمَا عَقِيبَ الْآخَرِ ، وَقَصَدَ إبْطَالَ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّ جَمْعَ الْمُقَارَنَةِ لَا يُمْكِنُ فِي الصَّلَاتَيْنِ ، إذْ لَا يَقَعَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَبْطَلَ جَمْعَ الْمُوَاصَلَةِ أَيْضًا . وَقَصَدَ بِذَلِكَ إبْطَالَ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ إذْ لَمْ يَتَنَزَّلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ . وَعِنْدِي : أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَنَزَّلَ عَلَى الثَّانِي ، إذَا وَقَعَ التَّحَرِّي فِي الْوَقْتِ . أَوْ وَقَعَتْ الْمُسَامَحَةُ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إذَا وَقَعَ فَاصِلًا . لَكِنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي الْأَحَادِيثِ لَا يَحْتَمِلُ لَفْظُهَا هَذَا التَّأْوِيلَ ، إلَّا عَلَى بُعْدٍ كَبِيرٍ ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُ أَصْلًا . فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ ، فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فِي سَنَدِهِ ، فَيَقْطَعُ الْعُذْرَ . وَأَمَّا مَا يَبْعُدُ تَأْوِيلُهُ : فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ لَهُ أَقْوَى مِنْ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْكِتَابِ لَيْسَ يَبْعُدُ تَأْوِيلُهُ كُلَّ الْبَعْدِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ التَّأْوِيلِ . وَأَمَّا ظَاهِرُهُ : فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ حَقِيقَةً لَا يَتَنَاوَلُ صُورَةَ التَّأْوِيلِ ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِهِ ، حَتَّى يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ لَهُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ . وَلَوْلَا وُرُودُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْجَمْعِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَمْعِ فِي غَيْرِهَا . لِأَنَّ الْأَصْلَ : عَدَمُ جَوَازِ الْجَمْعِ ، وَوُجُوبُ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ : قَدْ عُلِّقَ بِصِفَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِلِاعْتِبَارِ . فَلَمْ يَكُنْ لِيَجُوزَ إلْغَاؤُهَا . لَكِنْ إذَا صَحَّ الْجَمْعُ فِي حَالَةِ النُّزُولِ فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى ، لِقِيَامِ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى الْجَوَازِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ، أَعْنِي السَّيْرَ ، وَقِيَامُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى إلْغَاءِ اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ . وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِالْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ . لِأَنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ الْمَنْطُوقِ عَلَى الْجَوَازِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِخُصُوصِهَا أَرْجَحُ . وَقَوْلُهُ " وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ " يُرِيدُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ ، وَظَاهِرُهُ : اعْتِبَارُ الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِمَا : وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ . وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَمْعَ مُمْتَنِعٌ بَيْنَ الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا ، وَبَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ ، كَمَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ . وَمَنْ هَهُنَا يَنْشَأُ نَظَرُ الْقَائِسِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَمْعِ . فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : يَقِيسُونَ الْجَمْعَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا وَيَحْتَاجُونَ إلَى إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْفَارِقِ بَيْنَ مَحِلِّ النِّزَاعِ وَمَحِلِّ الْإِجْمَاعِ . وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ، إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ . وَغَيْرُهُمْ يَقِيسُ الْجَوَازَ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ عَلَى الْجَوَازِ فِي مَحِلِّ الْإِجْمَاعِ . وَيَحْتَاجُ إلَى إلْغَاءِ الْوَصْفِ الْفَارِقِ ، وَهُوَ إقَامَةُ النُّسُكِ .

 

باب قصر الصلاة في السفر :

133 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ } .

هَذَا هُوَ لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي الْحَدِيثِ . وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ وَأَزْيَدُ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْقَصْرِ . وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ ذَلِكَ . وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَوْجَبَ الْقَصْرَ . وَالْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، لَكِنَّ الْمُتَحَقِّقَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : الرُّجْحَانُ . فَيُؤْخَذُ مِنْهُ . وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَيُتْرَكُ . وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ . وَالصَّحِيحُ : أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ ، أَمَّا أَوَّلًا : فَلِمُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا ثَانِيًا : فَلِقِيَامِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالصَّوْمِ . فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُبَرِّئُ الذِّمَّةَ مِنْ الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الثَّانِي . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَرَى التَّنَفُّلَ فِي السَّفَرِ . وَقَالَ " لَوْ كُنْتُ مُتَنَفِّلًا لَأَتْمَمْتُ " . فَقَوْلُهُ " لَا يَزِيدُ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ : لَا يَزِيدُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لَا يَزِيدُ نَفْلًا . وَحَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي أَوْلَى . لِأَنَّهُ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي سِيَاقُهَا : أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ الْعُمُومُ . فَيَدْخُلُ فِيهِ هَذَا أَعْنِي النَّافِلَةَ فِي السَّفَرِ تَبَعًا لَا قَصْدًا . وَذِكْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَائِمَةٌ بِفِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ ، لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ نَسْخٌ ، وَلَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ لِتَقْوِيَتِهِ بِالْعَمَلِ .

 

 

باب الجمعة :

134 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ . ثُمَّ رَفَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى ، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي وَفِي لَفْظٍ صَلَّى عَلَيْهَا . ثُمَّ كَبَّرَ عَلَيْهَا . ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا ، فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى } .

" أَبُو الْعَبَّاسِ " سَهْلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ . وَبَنُو سَاعِدَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ . مُتَّفَقٌ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِهِ . مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَتِسْعِينَ ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ . وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى أَرْفَعِ مِمَّا عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ لِقَصْدِ التَّعْلِيمِ . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ . فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَصْدِ : فَقَدْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهِ . وَزَادَ أَصْحَابُ مَالِكٍ - أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ - فَقَالُوا : إنْ قَصَدَ التَّكَبُّرَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُجِيزَ هَذَا الِارْتِفَاعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعْلِيمِ : فَاللَّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُهُ . وَالْقِيَاسُ لَا يَسْتَقِيمُ لِانْفِرَادِ الْأَصْلِ بِوَصْفٍ مُعْتَبَرٍ تَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةُ اعْتِبَارَهُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، لَكِنْ فِيهِ إشْكَالٌ عَلَى مَنْ حَدَّدَ الْكَثِيرَ مِنْ الْعَمَلِ بِثَلَاثِ خُطُوَاتٍ . فَإِنَّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ . وَالصَّلَاةُ كَانَتْ عَلَى الْعُلْيَا . وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ : أَنْ يَقَعَ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ الْفِعْلِ عَلَى الْأَرْضِ ، بَعْدَ ثَلَاثِ خُطُوَاتٍ فَأَكْثَرَ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ خُطُوَاتٍ وَاَلَّذِي يُعْتَذَرُ بِهِ عَنْ هَذَا : أَنْ يُدَّعَى عَدَمُ التَّوَالِي بَيْنَ الْخُطُوَاتِ . فَإِنَّ التَّوَالِيَ شَرْطٌ فِي الْإِبْطَالِ ، أَوْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِ قِيَامِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَوْقَ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوْ الْجَمَاعَةِ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ . وَالرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ : قَدْ تُوهِمُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الرُّكُوعِ . وَرُبَّمَا يَقْوَى هَذَا بِاقْتِضَاءِ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ ظَاهِرًا ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى تُبَيِّنُ أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرُّكُوعِ . وَالْمَصِيرُ إلَى الْأُولَى أَوْجَبُ . لِأَنَّهَا نَصٌّ . وَدَلَالَةُ الْفَاءِ عَلَى التَّعْقِيبِ ظَاهِرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

135 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } .

الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ . وَظَاهِرُ الْأَمْرِ : الْوُجُوبُ . وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ . فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِالْوُجُوبِ ، بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ . وَخَالَفَ الْأَكْثَرُونَ ، فَقَالُوا بِالِاسْتِحْبَابِ . وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ . فَأَوَّلُوا صِيغَةَ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ ، وَصِيغَةَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ ، كَمَا يُقَالُ : حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّانِي : أَضْعَفُ مِنْ الْأَوَّلِ . وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْمُعَارِضُ رَاجِحًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ . وَأَقْوَى مَا عَارَضُوا بِهِ حَدِيثُ " مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ . وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ " وَلَا يُقَاوِمُ سَنَدُهُ سَنَدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ سَنَدِهِ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَرُبَّمَا احْتَمَلَ أَيْضًا تَأْوِيلًا مُسْتَكْرَهًا بَعِيدًا ، كَبُعْدِ تَأْوِيلِ لَفْظِ " الْوُجُوبِ " عَلَى التَّأْكِيدِ . وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْمُعَارَضَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ : فَلَا تَقْوَى دَلَالَتُهُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ، لِقُوَّةِ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى الْوُجُوبِ . فَحَمَلَهُ الْمُخَالِفُونَ - مِمَّنْ لَمْ يُمَارِسْ مَذْهَبَهُ - عَلَى ظَاهِرِهِ . وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَرْوِي الْوُجُوبَ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ أَصْحَابَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ بِالْمَجِيءِ إلَى الْجُمُعَةِ . وَالْمُرَادُ إرَادَةُ الْمَجِيءِ ، وَقَصْدُ الشُّرُوعِ فِيهِ . وَقَالَ مَالِكٌ بِهِ . وَاشْتَرَطَ الِاتِّصَالَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالرَّوَاحِ ، وَغَيْرُهُ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ . وَلَقَدْ أَبْعَدَ الظَّاهِرِيُّ إبْعَادًا يَكَادُ يَكُونُ مَجْزُومًا بِبُطْلَانِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ تَقَدُّمَ الْغُسْلِ عَلَى إقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، حَتَّى اغْتَسَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ كَفَى عِنْدَهُ ، تَعَلُّقًا بِإِضَافَةِ الْغُسْلِ إلَى الْيَوْمِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ : أَنَّ الْغُسْلَ لِإِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ . وَيُفْهَمُ مِنْهُ : أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ . وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ . وَكَذَلِكَ أَقُولُ : لَوْ قَدَّمَهُ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ . وَالْمَعْنَى إذَا كَانَ مَعْلُومًا كَالنَّصِّ قَطْعًا ، أَوْ ظَنًّا مُقَارِبًا لِلْقَطْعِ : فَاتِّبَاعُهُ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ . وَقَدْ كُنَّا قَرَّرْنَا فِي مِثْلِ هَذَا قَاعِدَةً ، وَهِيَ انْقِسَامُ الْأَحْكَامِ إلَى أَقْسَامٍ : مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا ، وَتَفْصِيلُهُ يَحْتَمِلُ التَّعَبُّدَ . فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ مَحِلُّ نَظَرٍ . وَمِمَّا يُبْطِلُ مَذْهَبَ الظَّاهِرِيِّ : أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي عُلِّقَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ أَوْ الْمَجِيءِ قَدْ دَلَّتْ عَلَى تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ . وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْيَوْمِ لَا يَتَنَاوَلُ تَعْلِيقَهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ . فَهُوَ إذَا تَمَسَّكَ بِتِلْكَ أَبْطَلَ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ . وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا بِتَعْلِيقِهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ مِنْ غَيْرِ إبْطَالٍ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ .

 

136 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَقَالَ : صَلَّيْتَ يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ . وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ } .

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ : هَلْ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ حِينَئِذٍ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ يَرْكَعُ ، لِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ ، مِمَّا هُوَ أَصْرَحُ مِنْهُ . وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلِيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا " . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُهُمَا ، لِوُجُوبِ الِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِمَاعِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ } قَالُوا : فَإِذَا مُنِعَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - مَعَ كَوْنِهَا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ - فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ - مَعَ كَوْنِهِمَا مَسْنُونَتَيْنِ فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ - أَوْلَى . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ يَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ اعْتِذَارَاتٍ ، فِي بَعْضِهَا ضَعْفٌ . وَمِنْ مَشْهُورِهَا : أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِهَذَا الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ ، وَهُوَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ - عَلَى مَا وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارُوا إلَيْهِ - لِأَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا . فَأُرِيدَ قِيَامُهُ لِتَسْتَشْرِفَهُ الْعُيُونُ وَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ . وَرُبَّمَا يَتَأَيَّدُ هَذَا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَقُومَ لِلرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ جُلُوسِهِ . وَقَدْ قَالُوا : إنَّ رَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ تَفُوتُ بِالْجُلُوسِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ التَّخْصِيصَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ : ثُمَّ يَبْعُدُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ مَعَ صِيغَةِ الْعُمُومِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ } فَهَذَا تَعْمِيمٌ يُزِيلَ تَوَهُّمَ الْخُصُوصِ بِهَذَا الرَّجُلِ . وَقَدْ تَأَوَّلُوا هَذَا الْعُمُومَ أَيْضًا بِتَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ . وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الْعُذْرِ مَا وَرَدَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ " فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ عَدَمِ الرُّكُوعِ مُنْتَفِيًا . فَثَبَتَ الرُّكُوعُ . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا تُرَدُّ الصِّيغَةُ الَّتِي فِيهَا الْعُمُومُ .

 

137 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ } .

الْخُطْبَتَانِ وَاجِبَتَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ . فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِفِعْلِ الرَّسُولِ لَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إقَامَةُ الْخُطْبَتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ . فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ اسْتِدْلَالُهُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ . وَفِي الْحَدِيثِ : دَلِيلٌ عَلَى الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ . وَلَا خِلَافَ فِيهِ . وَقَدْ قِيلَ بِرُكْنِيَّتِهِ . وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَمَنْ أَرَادَ تَصْحِيحَهُ فَعَلَيْهِ إبْرَازُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

138 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ : أَنْصِتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ } .

يُقَالُ : لَغَا ، يَلْغُو ، وَلَغِيَ يَلْغَى ، وَاللَّغْوُ وَاللَّغْيِ قِيلَ : هُوَ رَدِيءُ الْكَلَامِ وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ . وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْبَةِ أَيْضًا . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ . وَالشَّافِعِيُّ يَرَى وُجُوبَهُ فِي حَقِّ الْأَرْبَعِينَ . وَفِيمَنْ عَدَاهُمْ قَوْلَانِ . هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الْمُخْتَارَةُ عِنْدَنَا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي إنْصَاتِ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إنْصَاتِهِ لِكَوْنِهِ عَلَّقَهُ . بِكَوْنِ الْإِمَامِ يَخْطُبُ . وَهَذَا عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَمَاعِهِ وَعَدَمِ سَمَاعِهِ . وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ - كَمَا قَدَّمْنَا - عَلَى عَدَمِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَأَصْلُهُ الْوُجُوبُ . فَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ - مَعَ قِلَّةِ زَمَانِهِ ، وَقِلَّةِ إشْغَالِهِ - فَلَأَنْ يَمْنَعَ الرَّكْعَتَيْنِ - مَعَ كَوْنِهِمَا سُنَّةٌ ، وَطُولُ الِاشْتِغَالِ ، وَطُولُ الزَّمَانِ بِهِمَا أَوْلَى . وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . 

139 - الْحَدِيثُ السَّادِسُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً . وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً . فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْمَعُونَ الذِّكْرَ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّبْكِيرُ إلَى الْجُمُعَةِ أَوْ التَّهْجِيرُ . وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ التَّبْكِيرَ . وَاخْتَارَ مَالِكٌ التَّهْجِيرَ وَاسْتَدَلَّ لِلتَّبْكِيرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَحَمْلُ السَّاعَاتِ فِيهِ عَلَى الْأَجْزَاءِ الزَّمَانِيَّةِ ، الَّتِي يَنْقَسِمُ النَّهَارُ فِيهَا إلَى اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا . وَاَلَّذِينَ اخْتَارُوا التَّهْجِيرَ يَحْتَاجُونَ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ . وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَدْ يُنَازَعُ فِي أَنَّ السَّاعَةَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْأَجْزَاءِ فِي وَضْعِ الْعَرَبِ ، وَاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحِسَابٍ وَمُرَاجَعَةِ آلَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ ، وَلَا أَحَالَ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِ مِثْلِهِ حَوَالَةً لَا شَكَّ فِيهَا . وَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ تَجَوَّزُوا فِي لَفْظِ " السَّاعَةِ " وَحَمَلُوهَا عَلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْمَرَاتِبُ . وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دَلِيلٍ مُؤَيِّدٍ لِلتَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ شَيْئًا . الْوَجْهُ الثَّانِي : مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اغْتَسَلَ ، ثُمَّ رَاحَ } وَالرَّوَاحُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ . فَحَافَظُوا عَلَى حَقِيقَةِ " رَاحَ " وَتَجَوَّزُوا فِي لَفْظِ " السَّاعَةِ " إنْ ثَبَتَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْجُزْءِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ . وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا بِأَنَّ لَفْظَةَ " رَاحَ " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مُجَرَّدُ السَّيْرِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ ، كَمَا أَوَّلَ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } عَلَى مُجَرَّدِ السَّيْرِ ، لَا عَلَى الشَّدِّ وَالسُّرْعَةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ . وَلَيْسَ هَذَا التَّأْوِيلُ بِبَعِيدٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { فَالْمُهَجِّرُ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً } وَالتَّهْجِيرُ : إنَّمَا يَكُونُ فِي الْهَاجِرَةِ . وَمَنْ خَرَجَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مَثَلًا ، أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، لَا يُقَالُ لَهُ مُهَجِّرٌ . وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُهَجِّرُ مَنْ هَجَرَ الْمَنْزِلَ وَتَرَكَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ وَهَذَا بَعِيدٌ الْوَجْهُ الرَّابِعُ : يَقْتَضِي الْحَدِيثُ : أَنَّهُ بَعْدَ السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ يَخْرُجُ الْإِمَامُ ، وَتَطْوِي الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ لِاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ . وَخُرُوجُ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ السَّادِسَةِ . وَهَذَا الْإِشْكَالُ إنَّمَا يَنْشَأُ إذَا جَعَلْنَا السَّاعَةَ هِيَ الزَّمَانِيَّةُ . أَمَّا إذَا جَعَلْنَا ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَرْتِيبِ مَنَازِلِ السَّابِقِينَ فَلَا يَلْزَمُ هَذَا الْإِشْكَالُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : يَقْتَضِي أَنْ تَتَسَاوَى مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ . فَكُلُّ مَنْ أَتَى فِي الْأُولَى كَانَ كَالْمُقَرِّبِ بَدَنَةً . وَكُلُّ مَنْ أَتَى فِي الثَّانِيَةِ كَانَ كَمَنْ قَرَّبَ بَقَرَةً ، مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ يَقْتَضِي أَنَّ السَّابِقَ لَا يُسَاوِيهِ اللَّاحِقُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ } وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا : إنَّ التَّفَاوُتَ يَرْجِعُ إلَى الصِّفَاتِ . وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ : أَنَّا إذَا خَرَجْنَا عَلَى السَّاعَاتِ الزَّمَانِيَّةِ لَمْ يَبْقَ لَنَا مَرَدٌّ يَنْقَسِمُ فِيهِ الْحَالُ إلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ بَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَتَفَاوَتَ الْفَضْلُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ السَّبْقِ فِي الْإِتْيَانِ إلَى الْجُمُعَةِ . وَذَلِكَ يَتَأَتَّى مِنْهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . فَإِنْ تَبَيَّنَ بِدَلِيلِ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَرَدٌّ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا التَّفَاوُتُ الشَّدِيدُ وَالْكَثْرَةُ فِي الْعَدَدِ ، فَقَدْ انْدَفَعَ هَذَا الْإِشْكَالُ . فَإِنْ قُلْتَ : الْمُرَادُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَقْتَ مِنْ التَّهْجِيرِ مُقَسَّمًا عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ . وَيَكُونُ ذَلِكَ مُرَادًا . قُلْتُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ تَقْسِيمِ السَّاعَاتِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَى ، إذَا كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوَالَةِ عَلَى أَمْرٍ خَفِيَ عَلَى الْجُمْهُورِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَمْ تُعْرَفْ لِأَصْحَابِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَلَا اُسْتُعْمِلَتْ عَلَى مَا اسْتَعْمَلَهُ الْجُمْهُورُ . وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ بِهَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ الَّذِي مَضَى ، مِنْ أَنَّ خُرُوجَ الْإِمَامِ لَيْسَ عَقِيبَ الْخَامِسَةِ ، وَلَا حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ لِاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ . الثَّانِي : أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّهْجِيرَ أَفْضَلُ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ . فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ ، قَائِلٌ يَقُولُ : بِتَرْتِيبِ مَنَازِلِ السَّابِقِينَ عَلَى غَيْرِ تَقْسِيمِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ الْخَمْسَةِ . وَقَائِلٌ يَقُولُ : تَنْقَسِمُ الْأَجْزَاءُ سِتَّةً إلَى الزَّوَالِ . فَالْقَوْلُ بِتَقْسِيمِ هَذَا الْوَقْتِ إلَى خَمْسَةٍ إلَى الزَّوَالِ : يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ . وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ فَلْيُكْتَفَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ . الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ : أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْضَةَ تُقَرَّبُ . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ، وَكَالْمُهْدِي بَقَرَةً } - إلَى آخِرِهِ فَيَدُلُّ أَنَّ هَذَا التَّقْرِيبَ هُوَ الْهَدْيُ ، وَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا : أَنَّ اسْمَ " الْهَدْيِ " هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا ؟ وَأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ هَدْيًا هَلْ يَكْفِيهِ مِثْلُ هَذَا ، أَمْ لَا ؟ وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ لَفْظِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ لَفْظُ " الْهَدْيِ " مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ . وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِهَذَا ، وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَكَرْنَاهُ هَهُنَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : لَفْظُ " الْبَدَنَةِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا مُنْطَلِقَةٌ عَلَى الْإِبِلِ مَخْصُوصَةٌ بِهَا ، لِأَنَّهَا قُوبِلَتْ بِالْبَقَرِ وَبِالْكَبْشِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَقِسْمُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ قَسِيمًا وَمُقَابِلًا لَهُ . وَقِيلَ : إنَّ اسْمَ " الْبَدَنَةِ " يَنْطَلِقُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْإِبِلِ أَغْلَبُ . نَقَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا : مَا إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِبَدَنَةٍ ، وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالْإِبِلِ لَفْظًا وَلَا نِيَّةً ، وَكَانَتْ الْإِبِلُ مَوْجُودَةً فَهَلْ تَتَعَيَّنُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ : أَحَدُهُمَا : التَّعَيُّنُ لِأَنَّ لَفْظَ " الْبَدَنَةِ " مَخْصُوصَةٌ بِالْإِبِلِ ، أَوْ غَالِبَةٌ فِيهِ . فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهَا بَقَرَةٌ أَوْ سَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ ، حَمْلًا عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ الشَّرْعِ مِنْ إقَامَتِهَا مَقَامَهَا . وَالْأَوَّلُ : أَقْرَبُ . وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْإِبِلُ ، فَقِيلَ : يَصْبِرُ إلَى أَنْ تُوجَدَ ، وَقِيلَ : يَقُومُ مَقَامَهَا الْبَقَرَةُ .

 

 

140 - الْحَدِيثُ السَّابِعُ : عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ . وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ . وَفِي لَفْظٍ كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ } .

وَقْتُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : وَقْتُ الظُّهْرِ ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ : جَوَازُهَا قَبْلَهُ ، وَرُبَّمَا يُتَمَسَّكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الزَّوَالِ الْخُطْبَتَانِ وَالصَّلَاةُ ، مَعَ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي زَمَانًا يَمْتَدُّ فِيهِ الظِّلُّ ، فَحَيْثُ كَانُوا يَنْصَرِفُونَ مِنْهَا . وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ يُسْتَظَلُّ بِهِ ، فَرُبَّمَا اقْتَضَى ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً قَبْلَ الزَّوَالِ ، أَوْ خُطْبَتَاهَا ، أَوْ بَعْضُهُمَا ، وَاللَّفْظُ الثَّانِي هَذَا : يُبَيِّنُ أَنَّهَا بَعْدَ الزَّوَالِ . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ " وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ " لَا يَنْفِي أَصْلَ الظِّلِّ ، بَلْ يَنْفِي ظِلًّا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ ، وَلَمْ يُجْزَمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ دَائِمًا . وَإِنَّمَا كَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَا تُوُهِّمَ لَوْ كَانَ نَفَى أَصْلَ الظِّلِّ ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحِسَابِ يَقُولُونَ : إنَّ عَرْضَ الْمَدِينَةِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً ، أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ . فَإِذًا غَايَةُ الِارْتِفَاعِ : تَكُونُ تِسْعَةً وَثَمَانِينَ . فَلَا تُسَامِتُ الشَّمْسُ الرُّءُوسَ . فَإِذَا لَمْ تُسَامِتْ الرُّءُوسَ لَمْ يَكُنْ ظِلُّ الْقَائِمِ تَحْتَهُ حَقِيقَةً ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظِلٍّ ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : نَفْيَ أَصْلِ الظِّلِّ . وَالْمُرَادُ : ظِلٌّ يَكْفِي أَبْدَانَهُمْ لِلِاسْتِظْلَالِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُ الصَّلَاةِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ خُطْبَتَيْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ . وَقَوْلُهُ " نُجَمِّعُ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ ، أَيْ نُقِيمُ الْجُمُعَةَ . وَاسْمُ " الْفَيْءِ " قِيلَ هُوَ مَخْصُوصٌ بِالظِّلِّ الَّذِي بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الظِّلِّ فَمَجَازٌ . لِأَنَّهُ مِنْ فَاءَ يَفِيءُ إذَا رَجَعَ ، وَذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ .

 

141 - الْحَدِيثُ الثَّامِنُ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَ : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ } .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ . وَكَرِهَ مَالِكٌ لِلْإِمَامِ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ ، خَشْيَةَ التَّخْلِيطِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ . وَخَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْكَرَاهَةَ بِصَلَاةِ السِّرِّ . فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ . وَفِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ دَائِمًا أَمْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى الْجُهَّالَ إلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ . وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ : حَسْمُ مَادَّةِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : أَمَّا الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا ، فَيَأْبَاهُ الْحَدِيثُ . وَإِذَا انْتَهَى الْحَالُ إلَى أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي فِعْلَ ذَلِكَ دَائِمًا اقْتِضَاءً قَوِيًّا . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ ، فَقَدْ يُتْرَكُ الْمُسْتَحَبُّ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ . وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّرْكِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ الْجُهَّالِ ، وَمَنْ يُخَافُ مِنْهُ وُقُوعُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ .

 

 

باب العيدين :

142 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ } .

لَا خِلَافَ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ مِنْ الشَّعَائِرِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا . وَقَدْ تَوَاتُرَ بِهَا النَّقْلُ الَّذِي يَقْطَعُ الْعُذْرَ . وَيُغْنِي عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ آحَادِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا . وَقَدْ كَانَ لِلْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ مُعَدَّانِ لِلَّعِبِ . فَأَبْدَلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمَا هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ ، يَظْهَرُ فِيهِمَا تَكْبِيرُ اللَّهِ وَتَحْمِيدُهُ ، وَتَمْجِيدُهُ وَتَوْحِيدُهُ ، ظُهُورًا شَائِعًا يَغِيظُ الْمُشْرِكِينَ . وَقِيلَ : إنَّهُمَا يَقَعَانِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا . فَعِيدُ الْفِطْرِ : شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إتْمَامِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَعِيدُ الْأَضْحَى : شُكْرًا عَلَى الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَشْرِ . وَأَعْظَمُهَا : إقَامَةُ وَظِيفَةِ الْحَجِّ . وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا : أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخُطْبَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ بَنِي أُمَيَّةَ غَيَّرُوا ذَلِكَ . وَجَمِيعُ مَا لَهُ خُطَبٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَالصَّلَاةُ مُقَدَّمَةٌ فِيهِ ، إلَّا الْجُمُعَةَ وَخُطْبَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ . وَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ ، يَنْتَابُهَا النَّاسُ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بَعْدَ انْتِشَارِهِمْ فِي أَشْغَالِهِمْ ، وَتَصَرُّفَاتِهِمْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا : فَقُدِّمَتْ الْخُطْبَةُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَلَاحَقَ النَّاسُ ، وَلَا يَفُوتُهُمْ الْفَرْضُ . لَا سِيَّمَا فَرْضٌ لَا يُقْضَى عَلَى وَجْهِهِ . وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ . الثَّانِي : أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ حَقِيقَةً . وَإِنَّمَا قُصِرَتْ بِشَرَائِطَ ، مِنْهَا الْخُطْبَتَانِ . وَالشَّرَائِطُ لَا تَتَأَخَّرُ ، وَتَتَعَذَّرُ مُقَارَنَةُ هَذَا الشَّرْطِ لِلْمَشْرُوطِ الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ ، فَلَزِمَ تَقْدِيمُهُ . وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، إذْ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى يَلْزَمَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الشَّرْطِ .

 

143 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ . وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ . وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي . فَذَبَحْتُ شَاتِي ، وَتَغَذَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلَاةَ . فَقَالَ : شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عِنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ أَفَتُجْزِي عَنِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ } .

" الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيٍّ ، أَبُو عِمَارَةَ - وَيُقَالُ : أَبُو عُمَرَ - أَنْصَارِيٌّ . أَوْسِيٌّ . نَزَلَ الْكُوفَةَ ، وَمَاتَ بِهَا فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ . مُتَّفَقٌ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِهِ . وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ اسْمُهُ هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ ، وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو . وَقِيلَ : الْحَارِثُ بْنُ عُمَرَ . وَقِيلَ : مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ مِنْ بَلِيٍّ . وَيَنْسُبُونَهُ : هَانِئُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نِيَارٍ . كَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ السَّبْعِينَ ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ : إنَّهُ تُوُفِّيَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ . وَالْحَدِيثُ : دَلِيلٌ عَلَى الْخُطْبَةِ لِعِيدِ الْأَضْحَى . وَلَا خِلَافَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ . " وَالنُّسُكُ " هُنَا يُرَادُ بِهِ : الذَّبِيحَةُ . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهَا كَثِيرًا . وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ ، هُوَ الدِّمَاءُ الْمُرَاقَةُ فِي الْحَجِّ . وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْعِبَادَاتِ . وَمِنْهُ يُقَالُ : فُلَانٌ نَاسِكٌ ، أَيْ مُتَعَبِّدٌ . وَقَوْلُهُ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا } أَيْ مِثْلَ صَلَاتِنَا ، وَمِثْلَ نُسُكِنَا . وَقَوْلُهُ " فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ " مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَقَدْ أَصَابَ مَشْرُوعِيَّةَ النُّسُكِ ، أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ " مَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ " يَقْتَضِي أَنَّ مَا ذُبِحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا يَقَعُ مُجْزِيًا عَنْ الْأُضْحِيَّةِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ اللَّفْظِ : أَنَّ الْمُرَادَ قَبْلَ فِعْلِ الصَّلَاةِ . فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ " الصَّلَاةِ " وَإِرَادَةَ وَقْتِهَا : خِلَافُ الظَّاهِرِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : اعْتِبَارُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَوَقْتِ الْخُطْبَتَيْنِ . فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ دَخَلَ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ . وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ : اعْتِبَارُ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الظَّاهِرُ . [ وَلَعَلَّ مَنْشَأَ النَّظَرِ فِي هَذَا : أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ هَلْ يُرَادُ بِهَا تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ ؟ . فَإِذَا أُرِيدَ بِهَا تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ جَازَ مَا قَالَهُ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ . وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ : انْصَرَفَ إلَى صَلَاةِ الرَّسُولِ ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَقِّ مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ . فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ وَقْتِهَا ] . وَالْحَدِيثُ نَصٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الصَّلَاةِ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِاعْتِبَارِ الْخُطْبَتَيْنِ ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْخُطْبَتَانِ مَقْصُودَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ اعْتَبَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ } دَلَالَةٌ عَلَى إبْطَالِ كَوْنِهَا نُسُكًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمَأْمُورَاتِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَمْرِ : لَمْ يُعْذَرْ فِيهَا بِالْجَهْلِ . وَقَدْ فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ . فَعَذَرُوا فِي الْمَنْهِيَّاتِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ . وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ : إقَامَةُ مَصَالِحِهَا . وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلِهَا . وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا ، امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالِانْكِفَافِ عَنْهَا . وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لِارْتِكَابِهَا ، وَمَعَ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ : فَعُذِرَ بِالْجَهْلِ فِيهِ . وَقَوْلُهُ { وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ } الَّذِي اُخْتِيرَ فِيهِ فَتْحُ التَّاءِ ، بِمَعْنَى تَقْضِي يُقَالُ : جَزَى عَنِّي كَذَا : أَيْ قَضَى . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ لَمْ يَقَعْ نُسُكًا ، فَاَلَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَنْهُ ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْحَدِيثِ بِتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَائِهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ عَمَّا سَبَقَ ذَبْحُهُ ، فَامْتَنَعَ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ .

 

 

144 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ . ثُمَّ خَطَبَ . ثُمَّ ذَبَحَ وَقَالَ : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا ، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ } .

" جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ بَجَلِيٌّ ، مِنْ بَجِيلَةَ عَلَقِيٌّ . وَهُوَ حَيٌّ مِنْ بَجِيلَةَ ، يُقَالُ فِيهِ : جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ ، مُتَّفَقٌ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِهِ ؛ يُقَالُ : مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ : فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي الظُّهُورِ فِي اعْتِبَارِ فِعْلِ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَوَّلِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَوَّلَ اقْتَضَى تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِلَفْظِ " الصَّلَاةِ " ( وَقَدْ قُلْنَا : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ ، فَيَنْصَرِفُ إلَى صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَيَّنُ وَقْتُهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا لَمْ يُعَلَّقْ فِيهِ الْحُكْمُ بِلَفْظٍ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ ، حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ الْبَحْثُ ) إلَّا أَنَّهُ إنْ جَرَيْنَا عَلَى ظَاهِرِهِ : اقْتَضَى أَنَّهُ لَا تَجْزِي الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ أَصْلًا . فَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَحَدٌ فَهُوَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ عَنْ الظَّاهِرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الظَّاهِرِ فِي مَحِلِّ الْبَحْثِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى " إحْدَى طَائِفَتَيْنِ : إمَّا مَنْ يَرَى الْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةً . وَإِمَّا مَنْ يَرَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ لَفْظٍ فِي التَّعْيِينِ . وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُعَيَّنَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ صِيغَةِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهَا : قَلِيلٌ نَادِرٌ ، وَصِيغَةُ " مَنْ " فِي قَوْلِهِ { مَنْ ذَبَحَ } صِيغَةُ عُمُومٍ وَاسْتِغْرَاقٍ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ . فَقَدْ ذُكِرَتْ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ وَتَمْهِيدِ أَصْلٍ ، وَتَنْزِيلُ صِيَغِ الْعُمُومِ الَّتِي تَرِدُ لِتَأْسِيسِ الْقَوَاعِدِ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ أَمْرٌ مُسْتَكْرَهٌ ، عَلَى مَا قُرِّرَ مِنْ قَوَاعِدِ التَّأْوِيلِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَهُوَ اسْتِبْعَادُ حَمْلِهِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ - يَبْقَى التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَنْ سَبَقَ لَهُ أُضْحِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِغَيْرِ اللَّفْظِ ، أَوْ حَمْلُهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْيِينٍ .

 

145 - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْعِيدِ . فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ . ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ، تَصَدَّقْنَ . فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ ، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ : لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ . قَالَ : فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ } .

أَمَّا الْبُدَاءَةُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا عَدَمُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ : فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَكَأَنَّ سَبَبَهُ تَخْصِيصُ الْفَرَائِضِ بِالْأَذَانِ تَمْيِيزًا لَهَا بِذَلِكَ عَنْ النَّوَافِلِ ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهَا . وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى مَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا لَوَجَبَتْ الْإِجَابَةُ . وَذَلِكَ مُنَافٍ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا . فَهَذَا حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّاوِي - مِنْ الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَالْحَثِّ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ - : هِيَ مَقَاصِدُ الْخُطْبَةِ . وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ الْوَاجِبَةِ : الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبَعْضُهُمْ : جَعَلَ الْوَاجِبَ : مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ . وَمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي الْخُطْبَةِ الْوَاجِبَةِ تَتَأَدَّى بِهِ السُّنَّةُ فِي الْخُطْبَةِ الْمَسْنُونَةِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَصَدَّقْنَ . فَإِنَّكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ } فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الدَّوَافِعِ لِلْعَذَابِ . وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْإِغْلَاظِ فِي النُّصْحِ بِمَا لَعَلَّهُ يَبْعَثُ عَلَى إزَالَةِ الْعَيْبِ ، أَوْ الذَّنْبِ اللَّذَيْنِ يَتَّصِفُ بِهِمَا الْإِنْسَانُ . وَفِيهِ أَيْضًا : الْعِنَايَةُ بِذِكْرِ مَا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ . وَفِيهِ بَذْلُ النَّصِيحَةِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا . وَقَوْلُهُ { فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ } فِيهِ لَهُمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْأُدَبَاءِ مِنْ الْأَنْدَلُسِيِّينَ : إنَّهُ تَغْيِيرٌ ، أَيْ تَصْحِيفٌ مِنْ الرَّاوِي كَأَنَّ الْأَصْلَ : مِنْ سَفَلَةِ النِّسَاءِ ، فَاخْتَلَطَتْ الْفَاءُ بِاللَّامِ . فَصَارَتْ طَاءً ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّهُ وَرَدَ فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيَّ { مِنْ سَفَلَةِ النِّسَاءِ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ غَيْرِ عَلِيَّةِ النِّسَاءِ } . الْوَجْهُ الثَّانِي : تَقْرِيرُ اللَّفْظِ عَلَى الصِّحَّةِ . وَهُوَ أَنْ تَكُونَ اللَّفْظَةُ أَصْلُهَا مِنْ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ الْخِيَارُ . وَبِهَذَا فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَلِيَّةِ النِّسَاءِ وَخِيَارِهِنَّ . وَعَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ { مِنْ وَاسِطَةِ النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ { سَعْفَاءُ الْخَدَّيْنِ } الْأَسْفَعُ وَالسَّعْفَاءُ : مَنْ أَصَابَ خَدَّهُ لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهُ الْأَصْلِيَّ ، مِنْ سَوَادٍ أَوْ خَضِرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَتَعْلِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّكَاةِ وَكُفْرَانِ الْعَشِيرِ : دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ . لِأَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ . وَهَذَا السَّبَبُ فِي الشِّكَايَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ وَجَحْدِ حَقِّهِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ مِنْ عَدَمِ شُكْرِهِ ، وَالِاسْتِكَانَةِ لِقَضَائِهِ : وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ هَذَا ذَنْبُهُ . فَكَيْفَ بِمَنْ لَهُ مِنْهُنَّ ذُنُوبٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالْقَذْفِ ؟ وَأَخَذَ الصُّوفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ : الطَّلَبَ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ . وَهَذَا حَسَنٌ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَفِي مُبَادَرَةِ النِّسَاءِ لِذَلِكَ ، وَالْبَذْلِ لِمَا لَعَلَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إلَيْهِ - مَعَ ضِيقِ الْحَالِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ - مَا يَدُلُّ عَلَى رَفِيعِ مَقَامِهِنَّ فِي الدِّينِ ، وَامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ : جَوَازُ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا فِي الْجُمْلَةِ ، وَمَنْ أَجَازَ التَّصَدُّقَ مُطْلَقًا ، مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى هَذَا يُقَرِّرُ بِهِ الْعُمُومَ فِي جَوَازِ الصَّدَقَةِ . وَكَذَا مَنْ خَصَّصَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ .

 

146 - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ : عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - نُسَيْبَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ - قَالَتْ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ وَفِي لَفْظٍ كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا ، حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ } .

" نُسَيْبَةُ " بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ آخَرَ الْحُرُوفِ ، ثُمَّ بَاءٌ ثَانِيَ الْحُرُوفِ . وَقِيلَ : نُبَيْشَةُ - بِنُونٍ وَبَاءٍ وَشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهَا فَقِيلَ : نُسَيْبَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ . وَقِيلَ : نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى ، قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَفِي هَذَا نَظَرٌ ، يَعْنِي فِي كَوْنِ اسْمِهَا : نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ وَ " الْعَوَاتِقُ " جَمْعُ عَاتِقٍ . قِيلَ : الْجَارِيَةُ حِينَ تُدْرِكُ . وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ : بَيَانُ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَإِظْهَارُ الشِّعَارِ . وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي حَيِّزِ الْقِلَّةِ فَاحْتِيجَ إلَى الْمُبَالَغَةِ بِإِخْرَاجِ الْعَوَاتِقِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ . وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْبُرُوزَ إلَى الْمُصَلَّى هُوَ سُنَّةُ الْعِيدِ . وَاعْتِزَالُ الْحُيَّضِ لَيْسَ بِتَحْرِيمِ حُضُورِهِنَّ فِيهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا . بَلْ إمَّا مُبَالَغَةً فِي التَّنْزِيهِ لِمَحِلِّ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ ، أَوْ لِكَرَاهَةِ جُلُوسِ مَنْ لَا يُصَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالِ إقَامَةِ الصَّلَاةِ ، كَمَا جَاءَ " مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ، أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ " . وَقَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ " يُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ خُرُوجِهِنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَالْفُقَهَاءُ - أَوْ بَعْضُهُمْ - يَسْتَثْنِي خُرُوجَ الشَّابَّةِ الَّتِي يُخَافُ مِنْ خُرُوجِهَا الْفِتْنَةُ .

باب صلاة الكسوف :

147 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ . فَاجْتَمَعُوا . وَتَقَدَّمَ ، فَكَبَّرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ } .

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهَا " خَسَفَتْ الشَّمْسُ " يُقَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالسِّينِ . وَيُقَالُ : خُسِفَتْ ، عَلَى صِيغَةِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . فَقِيلَ : الْخُسُوفُ لِلشَّمْسِ . وَالْكُسُوفُ لِلْقَمَرِ . وَهَذَا لَا يَصِحُّ . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْخُسُوفَ عَلَى الْقَمَرِ ، وَقِيلَ : بِالْعَكْسِ . وَقِيلَ : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ فِي الْأَحَادِيثِ . فَأُطْلِقَ فِيهِمَا الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ مَعًا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ . وَقِيلَ : الْكُسُوفُ ذَهَابُ النُّورِ بِالْكُلِّيَّةِ . وَالْخُسُوفُ : التَّغَيُّرُ ، أَعْنِي تَغَيُّرَ اللَّوْنِ . الثَّانِي : صَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ . أَعْنِي كُسُوفَ الشَّمْسِ . دَلِيلُهُ فِعْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا . وَجَمْعُهُ النَّاسَ ، مُظْهِرًا لِذَلِكَ . وَهَذِهِ أَمَارَاتُ الِاعْتِنَاءِ وَالتَّأْكِيدِ . وَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ : فَتَرَدَّدَ فِيهَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يُلْحِقْهَا بِكُسُوفِ الشَّمْسِ فِي قَوْلٍ . الثَّالِثُ : لَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ اتِّفَاقًا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُنَادَى لَهَا " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ " وَهِيَ حُجَّةٌ لِمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ . الرَّابِعُ : سُنَّتُهَا الِاجْتِمَاعُ . لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي كَيْفِيَّتِهَا : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ . فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، مِنْ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ ، وَرُكُوعَانِ وَسُجُودَانِ . وَقَدْ صَحَّ غَيْرُ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَهُوَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ ، وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، وَقِيلَ : فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ : إنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ . وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ : بِأَنَّهَا رَكْعَتَانِ ، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ . وَاعْتَذَرُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ لِيَخْتَبِرَ حَالَ الشَّمْسِ . هَلْ انْجَلَتْ أَمْ لَا ؟ فَلَمَّا لَمْ يَرَهَا انْجَلَتْ رَكَعَ . وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ ضَعْفٌ ، إذَا قُلْنَا : إنَّ سُنَّتَهَا رَكْعَتَانِ ، كَسَائِرِ النَّوَافِلِ . لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ . فَإِنْ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ تَنْجَلِ رَكَعَ . ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَخْتَبِرُ أَمْرَ الشَّمْسِ . فَإِنْ لَمْ تَنْجَلِ رَكَعَ . وَيَزِيدُ الرُّكُوعَ هَكَذَا ، مَا لَمْ تَنْجَلِ . فَإِذَا انْجَلَتْ سَجَدَ . وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْعِلْمَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ رُكُوعَيْنِ فِي رَكْعَةٍ ، ثَلَاثٌ ، وَأَرْبَعٌ ، وَخَمْسٌ . وَهَذَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ : أَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَقَدِّمِينَ . لِأَنَّهُ يَجْعَلُ سُنَّةَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُبَيِّنًا لِسُنَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ . وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَوَّلِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُخَرِّجُوا فِعْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فِي الْعِبَادَاتِ عَنْ الْمَشْرُوعِيَّةِ ، مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لِلْقِيَاسِ فِي زِيَادَةِ مَا لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظُ " الرَّكَعَاتِ " عَلَى الرُّكُوعِ . .

 

148 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ . فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا ، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ } .

فِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تُكْسَفَانِ لِمَوْتِ الْعُظَمَاءِ . وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ } إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي الْخَوْفُ عِنْدَ وُقُوعِ التَّغَيُّرَاتِ الْعُلْوِيَّةِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْحِسَابِ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَسْبَابًا عَادِيَّةً . وَرُبَّمَا يَعْتَقِدُ مُعْتَقِدٌ أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ " وَهَذَا الِاعْتِقَادُ فَاسِدٌ . لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْعَالًا عَلَى حَسَبِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ ، وَأَفْعَالًا خَارِجَةً عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ . فَإِنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ وَمُسَبَّبٍ ، فَيَقْطَعُ مَا شَاءَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَصْحَابُ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَفْعَالِهِ ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَبْصَارَ قُلُوبِهِمْ بِوَحْدَانِيِّتِهِ ، وَعُمُومِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ ، وَاقْتِطَاعِ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا إذَا وَقَعَ شَيْءٌ غَرِيبٌ . حَدَثَ عِنْدَهُمْ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا شَاءَ . وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ أَسْبَابٌ تَجْرِي عَلَيْهَا الْعَادَةُ إلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى خَرْقَهَا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ عِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِ الرِّيحِ " يَتَغَيَّرُ ، وَيَدْخُلُ ، وَيَخْرُجُ " خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ كَرِيحِ عَادٍ ، وَإِنْ كَانَ هُبُوبُ الرِّيحِ مَوْجُودًا فِي الْعَادَةِ . وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحِسَابِ مِنْ سَبَبِ الْكُسُوفِ : لَا يُنَافِي كَوْنَ ذَلِكَ مَخُوفًا لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى . وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْكَلَامَ ، لِأَنَّ الْكُسُوفَ كَانَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ . فَقِيلَ : إنَّهَا إنَّمَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ . فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرُوا : أَنَّهَا إذَا صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْكُسُوفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ، وَلَمْ تَنْجَلِ الشَّمْسُ : إنَّهَا لَا تُعَادُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ . وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ { فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ } مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، لَا بِالصَّلَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ . وَمُطْلَقُ الصَّلَاةِ سَائِغٌ إلَى حِينِ الِانْجِلَاءِ . الثَّانِي : لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الصَّلَاةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ : لَكَانَ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذِهِ الْغَايَةَ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ - وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمَا . غَايَةً لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ : أَنْ تَكُونَ غَايَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ . فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُمْتَدًّا إلَى غَايَةِ الِانْجِلَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَكُونُ غَايَةً لِلْمَجْمُوعِ .

 

149 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : أَنَّهَا قَالَتْ خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ . فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ قَامَ ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ - وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ - ثُمَّ رَكَعَ ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ - وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ - ثُمَّ سَجَدَ ، فَأَطَالَ السُّجُودَ ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَقَدْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا ، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا ، ثُمَّ قَالَ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاَللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا . وَفِي لَفْظٍ فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ } .

أَحَدُهَا : مَا يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ " الْخُسُوفِ " بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّمْسِ ، وَإِقَامَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ . الثَّانِي : قَوْلُهَا " فَأَطَالَ الْقِيَامَ " لَمْ نَجِدْ فِيهِ حَدًّا . وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِحَدِيثٍ آخَرَ وَرَدَ فِيهِ . وَقَوْلُهَا " فَأَطَالَ الرُّكُوعَ " لَمْ نَجِدْ فِيهِ حَدًّا . وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ آيَةٍ . وَاخْتَارَ غَيْرُهُمْ عَدَمَ التَّحْدِيدِ إلَّا بِمَا لَا يَضُرُّ بِمَنْ خَلْفَهُ . وَقَوْلُهَا " ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ " يَقْتَضِي أَنَّ سُنَّةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ : تَقْصِيرُ الْقِيَامِ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ . وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ : أَنَّ النَّشَاطَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَكُونُ أَكْثَرَ . فَيُنَاسِبُ التَّخْفِيفَ فِي الثَّانِيَةِ ، حِذْرًا مِنْ الْمَلَالِ . وَالْفُقَهَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْقِيَامِ الثَّانِي - أَعْنِي الَّذِينَ قَالُوا بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ - وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِيهِ ، إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ مَالِكٍ . كَأَنَّهُ رَآهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً ، زِيدَ فِيهَا رُكُوعٌ . وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُثَنَّى الْفَاتِحَةُ فِيهَا . وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْحَدِيثِ ، عَلَى مَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ . الثَّالِثُ : قَوْلُهَا " ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ " يَقْتَضِي طُولَ السُّجُودِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ لَا يُطَوِّلُ السُّجُودَ فِيهَا . وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ : أَنَّهُ يُطِيلُ السُّجُودَ ، كَمَا يُطِيلُ الرُّكُوعَ . ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَ بِشَيْءٍ . لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ ، وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ فِي خَبَرٍ . وَلَوْ كَانَ قَدْ أَطَالَ لَنُقِلَ ، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ . قُلْنَا : بَلْ نُقِلَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ : مِنْهَا : حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهَا : أَنَّهَا قَالَتْ " مَا سَجَدَ سُجُودًا أَطْوَلَ مِنْهُ " وَكَذَلِكَ نُقِلَ تَطْوِيلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . الرَّابِعُ قَوْلُهَا : " ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَمَا فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى " وَقَدْ حَكَتْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى : أَنَّ الْقِيَامَ الثَّانِي دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ . وَأَنَّ الرُّكُوعَ الثَّانِي دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ . وَمُقْتَضَى هَذَا التَّشْبِيهِ : أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ الثَّانِي دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّ الرُّكُوعَ الثَّانِي دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ . وَلَكِنْ هَلْ يُرَادُ بِالْقِيَامِ الْأَوَّلِ : الْأَوَّلُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، أَوْ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ؟ وَكَذَلِكَ فِي الرُّكُوعِ إذَا قُلْنَا : دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ، هَلْ يُرَادُ بِهِ : الْأَوَّلُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، أَوْ الْأَوَّلُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ؟ تَكَلَّمُوا فِيهِ . وَقَدْ رَجَحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ الْأَوَّلِ . الْأَوَّلُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ : الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِيَةِ أَيْضًا . فَيَكُونُ كُلُّ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ دُونَ الَّذِي يَلِيه . الْخَامِسُ : قَوْلُهَا " فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ " ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَةً . وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَلَا أَبُو حَنِيفَةَ . قَالَ بَعْضُ أَتْبَاعِ مَالِكٍ : وَلَا خُطْبَةَ ، وَلَكِنْ يَسْتَقْبِلُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ . وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ الْحَدِيثِ ، لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِمَا تُبْتَدَأُ " بِهِ الْخُطْبَةُ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ . وَاَلَّذِي ذُكِرَ مِنْ الْعُذْرِ عَنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ : ضَعِيفٌ ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا كَانَ الْإِخْبَارُ " أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ " لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي مَوْتِ إبْرَاهِيمَ . وَالْإِخْبَارِ بِمَا رَآهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَذَلِكَ يَخُصُّهُ . وَإِنَّمَا اسْتَضْعَفْنَاهُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَا تَنْحَصِرُ مَقَاصِدُهَا فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا ، مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَوْعِظَةِ . وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي مَقَاصِدِهَا ، مِثْلُ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ . بَلْ هُوَ كَذَلِكَ جَزْمًا .

السَّادِسُ : قَوْلُهُ { فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَادْعُوا اللَّهَ ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا } اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ . قِيلَ : هُوَ مَا بَعْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ إلَى الزَّوَالِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، أَوْ أَصْحَابِهِ . وَقِيلَ : إلَى مَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ . وَهُوَ فِي الْمَذْهَبِ أَيْضًا . وَقِيلَ : جَمِيعُ النَّهَارِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَيَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ . فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ إذَا رَأَى ذَلِكَ . وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ ، لِاسْتِدْفَاعِ الْبَلَاءِ الْمَحْذُورِ . .

السَّابِعُ : قَوْلُهُ { مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ } الْمُنَزِّهُونَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْحَدِّ وَمُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ : إمَّا سَاكِتٌ عَنْ التَّأْوِيلِ ، وَإِمَّا مُؤَوِّلٌ ، عَلَى أَنْ يُرَادَ شِدَّةُ الْمَنْعِ وَالْحِمَايَةِ مِنْ الشَّيْءِ . لِأَنَّ الْغَائِرَ عَلَى الشَّيْءِ مَانِعٌ لَهُ ، وَحَامٍ مِنْهُ . فَالْمَنْعُ وَالْحِمَايَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْغَيْرَةِ . فَأَطْلَقَ لَفْظَ " الْغَيْرَةِ " عَلَيْهِمَا مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ ، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ السَّائِغَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَالْأَمْرُ فِي التَّأْوِيلِ وَعَدَمِهِ فِي هَذَا : قَرِيبٌ عِنْدَ مَنْ يُسَلِّمُ التَّنْزِيهَ . فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَعْنِي الْجَوَازَ وَعَدَمَهُ . وَيُؤْخَذُ كَمَا تُؤْخَذُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - أَعْنِي الْمَنْعَ مِنْ التَّأْوِيلِ - ثُبُوتًا قَطْعِيًّا . فَخَصْمُهُ يُقَابِلُهُ حِينَئِذٍ بِالْمَنْعِ الصَّرِيحِ . وَقَدْ يَتَعَدَّى بَعْضُ خُصُومِهِ إلَى التَّكْذِيبِ الْقَبِيحِ .

الثَّامِنُ : قَوْلُهُ { وَاَللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ } إلَى آخِرِهِ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ مُقْتَضَى الْخَوْفِ ، وَتَرْجِيحِ التَّخْوِيفِ فِي الْمَوْعِظَةِ عَلَى الْإِشَاعَةِ بِالرُّخَصِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّسَبُّبِ إلَى تَسَامُحِ النُّفُوسِ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِخْلَادِ إلَى الشَّهَوَاتِ . وَذَلِكَ مَرَضٌ خَطَرٌ . وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ : يُقَابِلُ الْعِلَّةَ بِضِدِّهَا ، لَا بِمَا يَزِيدُهَا .

التَّاسِعُ : قَوْلُهُ فِي لَفْظٍ { فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ } أَطْلَقَ " الرَّكَعَاتِ " عَلَى عَدَدِ الرُّكُوعِ . وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " فِي رَكْعَتَيْنِ " وَهَذَا الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ : أَنَّهُ مُتَمَسَّكُ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : إنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الصَّلَاةِ " رَكْعَتَيْنِ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .

 

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَامَ فَزِعًا ، وَيَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ . فَقَامَ ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَسُجُودٍ ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ قَطُّ ، ثُمَّ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ . وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ } .

اسْتَعْمَلَ " الْخُسُوفَ " فِي الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَوْلُهُ " فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ " فِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ لِفِعْلِ اللَّهِ ، وَتَجْرِيدِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَةِ عَنْ تَأْثِيرِهَا لِمُسَبِّبَاتِهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِخْبَارِ بِمَا يُوجِبُ الظَّنَّ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ ، حَيْثُ قَالَ " فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ " مَعَ أَنَّ الْفَزَعَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ ، كَمَا خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرِّيحِ : أَنْ تَكُونَ رِيحَ قَوْمِ عَادٍ . وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ خَوْفِهِ . فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى عَلَى شَاهِدِ الْحَالِ أَوْ قَرِينَةٍ دَلَّتْهُ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ " كَأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ " دَلِيلٌ عَلَى تَطْوِيلِهِ السُّجُودَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ أَبَا مُوسَى رَوَاهُ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْعُلَمَاءِ . وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالصَّحْرَاءِ . وَالصَّوَابُ الْمَشْهُورُ : الْأَوَّلُ . فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تَنْتَهِي بِالِانْجِلَاءِ : وَذَلِكَ مُقْتَضٍ لَأَنْ يُعْتَنَى بِمَعْرِفَةِ وَمُرَاقَبَةِ حَالِ الشَّمْسِ فِي الِانْجِلَاءِ . فَلَوْلَا أَنَّ الْمَسْجِدَ رَاجِحٌ لَكَانَتْ الصَّحْرَاءُ أَوْلَى ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى إدْرَاكِ حَالِ الشَّمْسِ فِي الِانْجِلَاءِ أَوْ عَدَمِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ تَأْخِيرِهَا فَوَاتُ إقَامَتِهَا بِأَنْ يَشْرَعَ الِانْجِلَاءُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَبُرُوزِهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ } وَأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ . وَفِي قَوْلِهِ " فَافْزَعُوا " إشَارَةٌ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى مَا أَمَرَ بِهِ ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَخَاوِفِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ . وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبٌ لِلْبَلَايَا وَالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ أَيْضًا ، وَأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ سَبَبَانِ لِلْمَحْوِ ، يُرْجَى بِهِمَا زَوَالُ الْمَخَاوِفِ .

 

باب الاستسقاء :

151 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَسْقِي ، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ } وَفِي لَفْظٍ " إلَى الْمُصَلَّى " .

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ . وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُصَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ ، وَلَكِنْ يُدْعَى . وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ ، فَوَافَقُوا الْجَمَاعَةَ . وَقَالُوا : تُصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَانِ بِجَمَاعَةٍ . وَاسْتُدِلَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِاسْتِسْقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يُصَلِّ لِلِاسْتِسْقَاءِ . قَالُوا : لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمَا تَرَكَهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِسْقَاءِ : الْبُرُوزُ إلَى الْمُصَلَّى . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ . وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . وَقِيلَ : إنَّ سَبَبَ التَّحْوِيلِ : التَّفَاؤُلُ بِتَغْيِيرِ الْحَالِ . وَقَالَ مَنْ احْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ : إنَّمَا قَلَبَ رِدَاءَهُ لِيَكُونَ أَثْبَتَ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ ، أَوْ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ تَغَيُّرَ الْحَالِ عِنْدَ تَغْيِيرِ رِدَائِهِ . قُلْنَا : الْقَلْبُ مِنْ جِهَةٍ إلَى أُخْرَى ، أَوْ مِنْ ظَهْرٍ إلَى بَطْنٍ : لَا يَقْتَضِي الثُّبُوتَ عَلَى الْعَاتِقِ . بَلْ أَيُّ حَالَةٍ اقْتَضَتْ الثُّبُوتَ أَوْ عَدَمَهُ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ : فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأُخْرَى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَرُبَ مِنْ السُّقُوطِ فِي تِلْكَ الْحَالِ . فَيُمْكِنُ أَنْ يُثَبِّتَهُ مِنْ غَيْرِ قَلْبٍ . وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا ذُكِرَ مِنْ نُزُولِ الْوَحْيِ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الرِّدَاءِ . وَالِاتِّبَاعُ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْخُصُوصِ ، مَعَ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ مِنْ مَحَبَّةِ التَّفَاؤُلِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الدُّعَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْخُطْبَةِ . وَالْخُطْبَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ بَعْدَ الصَّلَاةِ . وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقْتَضِيهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ مُطْلَقًا . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَهْرِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ . وَالتَّحْوِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ يَكْتَفِي فِي تَحْصِيلِ مُسَمَّاهُ : بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ مِنْ الْيَمِينِ إلَى الْيَسَارِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

152 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُغِيثُنَا ، قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا . قَالَ أَنَسٌ : فَلَا وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ قَالَ : فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ . فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ ، قَالَ : فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا ، قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا ، قَالَ : فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ ، قَالَ : فَأَقْلَعَتْ ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ . قَالَ شَرِيكٌ : فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ قَالَ : لَا أَدْرِي . }

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ " الظِّرَابُ " الْجِبَالُ الصِّغَارُ هَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّهُ اُسْتُدِلَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَاسْتِحْبَابِهَا لَا يُنَافِي أَنْ يَقَعَ مُجَرَّدُ الدُّعَاءِ فِي حَالَةٍ أُخْرَى . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الَّذِي جَرَى فِي الْجُمُعَةِ مُجَرَّدَ دُعَاءٍ . وَهُوَ مَشْرُوعٌ حَيْثُمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ . وَلَا يُنَافِي شَرْعِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي حَالَةٍ أُخْرَى إذَا اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا . وَفِي الْحَدِيثِ : عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي إجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُعَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَهُ أَوْ مَعَهُ . وَأَرَادَ بِالْأَمْوَالِ : الْأَمْوَالَ الْحَيَوَانِيَّةَ . لِأَنَّهَا الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا انْقِطَاعُ الْمَطَرِ ، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الصَّامِتَةِ . وَ " السُّبُلُ " الطُّرُقُ وَانْقِطَاعُهَا : إمَّا بِعَدَمِ الْمِيَاهِ الَّتِي يَعْتَادُ الْمُسَافِرُ وُرُودَهَا . وَإِمَّا بِاشْتِغَالِ النَّاسِ وَشِدَّةِ الْقَحْطِ عَنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَدَّاهُ إلَى كُلِّ دُعَاءٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَدِّهِ ، لِحَدِيثٍ عَنْ أَنَسٍ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ عَدَمَ عُمُومِ الرَّفْعِ لِمَا عَدَا الِاسْتِسْقَاءِ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : اسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : مِنْهَا الِاسْتِسْقَاءُ ، وَرُؤْيَةُ الْبَيْتِ ، وَقَدْ أُوِّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : رَفْعًا تَامًّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . وَفِي غَيْرِهَا : دُونَهُ . بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَحَّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ . وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جُزْءًا قَرَأْتُهُ عَلَيْهِ . " وَالْقَزَعُ " سَحَابٌ مُتَفَرِّقٌ " وَالْقَزَعَةُ " وَاحِدَتُهُ . وَمِنْهُ أُخِذَ الْقَزَعُ فِي الرَّأْسِ وَهُوَ أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكَ بَعْضُهُ . وَ " سَلْعٌ " جَبَلٌ عِنْدَ الْمَدِينَةِ ، وَقَوْلُهُ " وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ " تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ " وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ " لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ السَّحَابَةَ طَلَعَتْ مِنْ وَرَاءِ سَلْعٍ . فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ لَأَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْقَزَعَةُ مَوْجُودَةً ، لَكِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ دَارٍ لَوْ كَانَتْ . وَقَوْلُهُ " مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا " أَيْ جُمُعَةً . وَقَدْ بُيِّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى . وَقَوْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ " هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ " أَيْ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الدُّعَاءِ لِإِمْسَاكِ ضَرَرِ الْمَطَرِ . كَمَا اُسْتُحِبَّ الدُّعَاءُ لِنُزُولِهِ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ . فَإِنَّ الْكُلَّ مُضِرٌّ . و " الْآكَامُ " جَمْعُ أُكُمٍ ، كَأَعْنَاقٍ جَمْعُ عُنُقٍ . وَالْأُكُمُ جَمْعُ إكَامٍ مِثْلُ كُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ . وَالْإِكَامُ جَمْعُ أَكَمٍ ، مِثْلُ جِبَالٍ جَمْعُ جَبَلٍ . وَالْأُكُمُ ، وَالْأَكَمَاتُ . جَمْعُ الْأَكَمَةِ ، وَهِيَ التَّلُّ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ . " وَالظِّرَابُ " جَمْعُ ظَرِبٍ - بِفَتْحِ الظَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ - وَهِيَ صِغَارُ الْجِبَالِ . وَقَوْلُهُ " وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ " طَلَبٌ لِمَا يُحَصِّلُ الْمَنْفَعَةَ وَيَدْفَعُ الْمَضَرَّةَ . وَقَوْلُهُ " وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ " عَلَمٌ آخَرُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فِي الِاسْتِصْحَاءِ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

باب صلاة الخوف :

153 - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ذَهَبُوا ، وَجَاءَ الْآخَرُونَ ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، وَقَضَتْ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً ، رَكْعَةً } .

جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي زَمَانِنَا كَمَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ . وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُهُ ، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِوُجُودِهِ فِيهِمْ . وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذَا بِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ . وَفِيهَا أَفْعَالٌ مُنَافِيَةٌ . فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَامَحَةُ فِيهَا بِسَبَبِ فَضِيلَةِ إمَامَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْجُمْهُورُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ دَلِيلُ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمُخَالَفَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ . مَوْجُودَةٌ بَعْدَ الرَّسُولِ . كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي زَمَانِهِ ، ثُمَّ الضَّرُورَةُ تَدْعُو إلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَنْ أَدَائِهَا . وَذَلِكَ يَقْتَضِي إقَامَتَهَا عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ مُطْلَقًا - أَعْنِي فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُهَا بَعْدَ الرَّسُولِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ . فَقَدْ وَرَدَتْ عَنْهُ فِيهَا وُجُوهٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا تَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ . فَمِنْ النَّاسُ مَنْ أَجَازَ الْكُلَّ . وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْكُلِّ وَذَلِكَ - إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا وَقَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ - قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَجَّحَ بَعْضَ الصِّفَاتِ الْمَنْقُولَةِ . فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ ، تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُولَى إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامِ . فَتَقْضِي ، ثُمَّ تَذْهَبُ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَيْ مَوْضِعَ الْإِمَامِ ، فَتَقْضِي ثُمَّ تَذْهَبُ . وَقَدْ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ . وَقِيلَ : إنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي حَدِيثٍ . وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ : لَوْ صَلَّى عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ : هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ إنَّهَا صَحِيحَةٌ لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ ، وَتَرْجِيحُ رِوَايَةِ صَالِحٍ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى . وَاخْتَارَ مَالِكٌ تَرْجِيحَ الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ مَوْقُوفَةً . وَهِيَ تُخَالِفُ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ فِي سَلَامِ الْإِمَامِ . { فَإِنَّ فِيهَا أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ وَتَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ سَلَامِهِ } . وَالْفُقَهَاءُ لَمَّا رَجَّحَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ احْتَاجُوا إلَى ذِكْرِ سَبَبِ التَّرْجِيحِ . فَتَارَةً يُرَجِّحُونَ بِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ . وَتَارَةً بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ : وَتَارَةً يَكُونُ بَعْضُهَا مَوْصُولًا وَبَعْضُهَا مَوْقُوفًا . وَتَارَةً بِالْمُوَافَقَةِ لِلْأُصُولِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ . وَتَارَةً بِالْمَعَانِي . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا أَبُو حَنِيفَةَ تُوَافِقُ الْأُصُولَ فِي أَنَّ قَضَاءَ طَائِفَتَيْنِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ . وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ : فَفِيهِ قَضَاءُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ . وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ : فَفِيهِ قَضَاءُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَقَطْ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ .

 

154 - الْحَدِيثُ الثَّانِي : عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ ، صَلَاةَ الْخَوْفِ { أَنَّ طَائِفَةً صُفَّتْ مَعَهُ ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، فَصُفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ، فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ } .

الرَّجُلُ الَّذِي صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مُخْتَارُ الشَّافِعِيِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ . وَمُقْتَضَاهُ : أَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ . وَهَذَا فِي الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ ، أَوْ الثُّنَائِيَّةِ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ . فَأَمَّا الرَّبَاعِيَةُ : فَهَلْ يَنْتَظِرُهَا قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ ، أَوْ قَبْلَ قِيَامِهِ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِلْفُقَهَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّهُ يَنْتَظِرُهَا قَبْلَ قِيَامِهِ ، فَهَلْ تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى قَبْلَ تَشَهُّدِهِ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنْ السُّجُودِ ، أَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ عَلَى أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ . وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ . وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَيْضًا : أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى تُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا ، مَعَ بَقَاءِ صَلَاةِ الْإِمَامِ . وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأُصُولِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ . لَكِنْ فِيهَا تَرْجِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . لِأَنَّهَا إذَا قَضَتْ وَتَوَجَّهَتْ إلَى نَحْوِ الْعَدُوِّ ، تَوَجَّهَتْ فَارِغَةً مِنْ الشُّغْلِ بِالصَّلَاةِ . فَيَتَوَفَّرُ مَقْصُودُ صَلَاةِ الْخَوْفِ . وَهُوَ الْحِرَاسَةُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا أَبُو حَنِيفَةَ : بِتَوَجُّهِ الطَّائِفَةِ لِلْحِرَاسَةِ ، مَعَ كَوْنِهَا فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا يَتَوَفَّرُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحِرَاسَةِ . فَرُبَّمَا أَدَّى الْحَالُ إلَى أَنْ يَقَعَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبُ وَالطَّعْنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُنَافِيَاتِ الصَّلَاةِ ، وَلَوْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ . وَلَيْسَ بِمَحْذُورٍ . وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَيْضًا : أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ تُتِمُّ لِأَنْفُسِهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ . وَفِيهِ مَا فِي الْأَوَّلِ . وَمُقْتَضَاهُ أَيْضًا : أَنَّهُ يَثْبُتُ حَتَّى تُتِمَّ لِأَنْفُسِهَا وَتُسَلِّمَ . وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّ الْإِمَامَ يُسَلِّمُ ، وَتَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ سَلَامِهِ . وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ : أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُهُمْ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَلْيُصَلُّوا مَعَك } أَيْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ الَّتِي بَقِيَتْ لِلْإِمَامِ . فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ بِهِمْ فَقَدْ صَلُّوا مَعَهُ الْبَقِيَّةَ وَإِذَا سَلَّمَ قَبْلَهُمْ فَلَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْبَقِيَّةَ . لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ الْبَقِيَّةِ . وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ الظُّهُورِ . وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ الرَّاوِي مَنْ يَرَى أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَالَ " فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ " فَجَعَلَهُمْ مُصَلِّينَ مَعَهُ لِمَا يُسَمَّى رَكْعَةً . ثُمَّ أَتَى بِلَفْظَةٍ { ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ . ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ } فَجَعَلَ مُسَمَّى " السَّلَامِ " مُتَرَاخِيًا عَنْ مُسَمَّى " الرَّكْعَةِ " إلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ ضَعِيفٌ . وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ مُتَعَيَّنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

 

155 - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ، وَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ : انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ، وَقَامُوا ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا ، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ - الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى - فَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ : أَنْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ ، فَسَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا ، قَالَ جَابِرٌ : كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِهِمْ } وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ ، { وَأَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوَةِ السَّابِعَةِ ، غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ } .

هَذِهِ كَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ . فَإِنَّهُ تَتَأَتَّى الْحِرَاسَةُ مَعَ كَوْنِ الْكُلِّ مَعَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ . وَفِيهَا التَّأْخِيرُ عَنْ الْإِمَامِ لِأَجْلِ الْعَدُوِّ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحِرَاسَةَ فِي السُّجُودِ لَا فِي الرُّكُوعِ ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ . وَحُكِيَ وَجْهٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّهُ يَحْرُسُ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا . وَالْمَذْهَبُ : الْأَوَّلُ . لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إدْرَاكِ الْعَدُوِّ بِالْبَصَرِ . فَالْحِرَاسَةُ مُمْكِنَةٌ مَعَهُ ، بِخِلَافِ السُّجُودِ . الثَّانِي : الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الَّذِي سَجَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ : هُوَ السَّجْدَتَانِ جَمِيعًا . الثَّالِثُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّفَّ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ يَسْجُدُ مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَيَحْرُسُ الصَّفُّ الثَّانِي فِيهَا ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ يَحْرُسُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى . فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : لَعَلَّهُ سَهَا ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ . وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَافَقُوا الصَّحِيحَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُهُمْ سِوَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ . كَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَبَعْضُهُمْ قَالَ بِذَلِكَ ، بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا صَحَّ يُذْهَبُ إلَيْهِ ، وَيُتْرَكُ قَوْلُهُ . وَأَمَّا الْخُرَاسَانِيُّونَ : فَإِنَّ بَعْضَهُمْ تَبِعَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ ، كَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى : أَنَّ فِي الْحَدِيثِ رِوَايَةً كَذَلِكَ . وَرَجَّحَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ جُنَّةً لِمَنْ خَلْفَهُ . وَيَكُونُ سَاتِرًا لَهُ عَنْ أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ . وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحِرَاسَةِ . وَهَؤُلَاءِ مُطَالَبُونَ بِإِبْرَازِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ . وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَهَا . الرَّابِعُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِرَاسَةَ يَتَسَاوَى فِيهَا الطَّائِفَتَانِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ ، فَلَوْ حَرَسَتْ طَائِقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مَعًا فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ خِلَافٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . ==