الأحد، 4 سبتمبر 2022

كتاب العراق في أحاديث وآثار الفتن وبيان صلة ذلك على ما يجاورها من البلدان

 

العراق في أحاديث وآثار الفتن

وبيان صلة ذلك على ما يجاورها من البلدان

 

وفي آخره دراسة تأصيلية لظاهرة إسقاط الفتن على الوقائع، وتقويم الدراسات الحديثة التي خاضت في ذلك، وبيان مزالقها وانحرافاتها

 

تصنيف أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان

 

المقدمة

 

إنّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له.

 

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له.

 

وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسولُه.

 

{يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنْتُم مُسلِمُونَ} [آل عمران: 102].

 

{يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم الَّذي خَلَقَكُمْ منْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذي تَسَاءَلوُنَ بِهِ وَالأرحامَ إنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُم رَقِيباً} [النساء: 1].

 

{يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَديداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوُلهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيْماً} [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإنّ أمواج (فتن العصر) الذي نعيش عالية ظاهرة، متوالية، ومركزها    -فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم- جهة المشرق بعامة، و(العراق) بخاصة، ومنها: «تهيج الفتن»([1]) إلى سائر الجهات والبلدان، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله -تعالى-.

 

وأبواب (الفتن) و(الملاحم) التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم في أحاديث أشراط الساعة، وما كان وما يكون منها، لا تزال تنتظر باحثاً عالي الهمّة، دقيق النظر، ثاقب الفهم، راسخ القدم في العلوم الدينية بعامة، والحديثية: رواية ودراية بخاصة، عالي الكعب في التاريخ، واسع الاطلاع على أحداثه ومجرياته، صبوراً دؤوباً في البحث والتنقيب والتمحيص، سليم العقيدة، حسن القصد؛ فإنها من أدق العلوم، وأوسعها بحثاً، وأكثرها تداخلاً.

 

وقد قام مجموعة من علمائنا -رحمهم الله- بواجبهم تجاه هذا الموضوع فيما مضى، وأخذ المتأخرون شروحهم وكلامهم على الأحاديث، وكأن عجلة الزمن توقفت، وتعاملوا مع أحاديث الفتن بمعزل عما يعصف من (أمواج) بالأمة.

 

والملاحظ بقوّة ضعف الدراسات الحديثة الجادّة حول هذا الموضوع، ولعل هذا من مظاهر اشتداد الفتن، وزاد الطين بلّة خوض بعض الذين لا علم عندهم، ولا دين لهم([2]) في هذا الموضوع، وظهر ذلك على شكل دراسات ذات عناوين برّاقة([3])‎‎، ومظاهر خلاّبة! هاجت على الأمة حديثاً بسبب ما وقع أخيراً في (العراق) من اجتياحها الأول للكويت، وما تبعه من حصار، وحروب بعد ذلك في عصرنا الحالي.

 

وكثير من هذه الدراسات فيها (ركض) وراء الأحداث، وعجلة في إسقاط الأحاديث والآثار والنقول، وفوضى في الاستدلال، وخروج عن منهج العلماء في المعالجة، بل زج بعض أصحابها نفسه في مضايق، ظهر من خلالها كذبه، إذ كان يقطع بوقوع كذا في وقت كذا([4])، دون أدنى دليل صريح، وإنما الاستنباط والترجيح، دون فهم رجيح، لوقوع ذلك من قبل بعض النكرات ممن ليس لهم مشاركات جادة في العلوم الشرعية على وجه مليح، يسرُّ أصحاب المنهج الصحيح.

 

وحاولتُ جاهداً في هذه الدراسة([5])‎‎: إبراز الأحاديث والآثار التي فيها ذكر الفتن التي وقعت وستقع في العراق وجهتها وما جاورها، وبيان الصحيح والسقيم منها، وذكر صلتها بأشراط الساعة، وربطها بما حصل وسيحصل من أحداث على أرضها، وتلمّس القواعد الكليَّة، والنظرة المنهجيّة العلمية للسلف، وكيفية فهمهم لأحاديث الفتن، وعالجت من خلال ذلك: عملية إسقاط الفتن على الواقع، وهل هذا مشروع أم ممنوع، وبيان المحاذير التي فيه، وذكرت نماذج مما يخص موضوع بحثنا (العراق) و(الفتنة) من كتب طارت أيّ مطار، في سائر البلاد والأمصار.

 

وتَوَّجْتُ ذلك بذكر الأسانيد من (دواوين السنّة) والكلام على رواتها([6])، وفق قواعد أهل الصنعة الحديثية، وأطلتُ النَّفس في الاستقصاء والبحث، وذكر الطرق والشواهد، وكلام الأئمة والمحدثين عليها -قديماً وحديثاً-: صحةً وضعفاً، توجيهاً وشرحاً، وحاولت ربطها بسائر ما ورد في الباب؛ على منهج أهل الحق والصواب.

 

ولم أَنْسَ في دراستي هذه الآتي:

 

أولاً: تفنيد باطل من زعم أنّ (نجداً) الواردة في أحاديث (الفتن)، هي دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى-، وأكّدتُ ذلك بما يظهر لكل ذي عينين أنّ هذه (دعوى) باطلة كاسدة، وأنّ (دعوة) الشيخ الإمام هي الإسلام الصحيح المصفّى، وهي باقية خالدة رائجة، على الرغم من أنوف الحاقدين المموهين.

 

ثانياً: التعرض لما استجدَّ من أحداث في العراق([7]).

 

ثالثاً: ذكر قواعد كلية منهجية مهمّة في علم الحديث، والتخريج، مما له صلة بالأحاديث المبحوثة.

 

رابعاً: ذكر ما جرى على أرض العراق من أحداث جسام([8])؛ مثل: فتنة التتر والمغول، وكلام المؤرخين عليها، وتحقيق صلتها بالأحاديث التي قيل إنها واردة فيها؛ من خلال نقولات لعلماء محررين مدققين.

 

ومثل: إخراج الكفار لأهل العراق وحصارهم ومنعهم خيرات بلادهم، وغزوهم واحتلالهم، وبيان أنّ ذلك يتكرر، وأنّ بعضَه وقع قديماً، وبعضَه الآخر حديثاً، وسيقع -أيضاً- في آخر الزمان، ولا سيما عندما يحسر الفرات عن (جبل)، أو (جزيرة)، أو (تل)، أو (كنز)([9]) من ذهب، وأنّ الوقت كلما اقترب من قيام الساعة -والباقي منها أقل بكثير من الماضي- ظهر ذلك للعيان، وبيّنتُ خطأ من زعم أنّ المراد بهذا الكنز هو (البترول)، وأطلت -ولله الحمد- في تفصيل ذلك.

 

خامساً: بيان حدود (العراق)، وأنّ المراد بذكرها في الأحاديث والآثار أوسع من حدودها الجغرافية الآن([10])، مع ذكر الدليل، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السَّبيل.

 

سادساً: يوجد في الكتاب أحاديث ضعيفة -بله موضوعة- قليلة، ولكن:

 

1- مصرَّح بضعفها أو وضعها، بعبارات ظاهرة، وأحكام لائحة.

 

2- ذُكِرت بعضها لشيوعها وذيوعها، وشهرتها على الألسنة، ولا سيما في وقت الفتن، فالتحذير من (الشر) باب من أبواب (الخير).

 

3- فيها مستندٌ لبعض الخائضين في أحاديث الفتن، فذكرتها من باب الرّد عليهم، أو قطعاً لاستنادهم، أو تزييفاً لدليلهم.

 

4- همّي في الكتاب الجمع والتقميش أولاً، ثم البحث والتفتيش، ويذكر هذا النوع؛ من باب الإحاطة والاستئناس، ومن باب تكثير العساكر والجيوش، ولما لها أثر في النفوس، على منهج أهل العلم في التصنيف، ولا سيما في مثل هذا الباب.

 

هذه هي مادّة الكتاب بإجمال: فإنْ أحسنت في عرضها، وأفلحت في وضع الأدلة في نصابها، وأصبت في الكلام على ضعفها وصحتها؛ فمن فضل الله ذي الجلال، وإن كانت الأخرى؛ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر اللهَ ذا الكمال، ودينُ الله بريء منه، وأنا تائب عنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

وكتب

 

أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان

 

عمان - الأردن

 

فصل

 

في بيان أنّ العراق تهيّج منها الفتن،

 

وصلتها بأهمّ فتن هذا العصر

 

أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الاستسقاء (باب ما قيل في الزلازل والفتن) (رقم 1037) وكتاب الفتن (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفتنة من قبل المشرق») (رقم 7094)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن وأشراط الساعة (باب الفتنة من المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان) (رقم 2905) بسنديهما إلى نافع، عن ابن عمر، قال:

 

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟! قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟! -فأظنه قال في الثالثة-: «هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان» لفظ البخاري.

 

ولفظ مسلم (2905) بعد (45) من طريق الليث([11])، عن نافع به: «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مستقبل المشرق، يقول: ألا إن الفتنة ها هنا، ألا إن الفتنة ها هنا؛ من حيث يطلع قرن الشيطان»، وفي لفظ له (بعد 46) من طريق عبيدالله([12])، عن نافع به: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عند باب حفصة([13])، فقال بيده نحو المشرق: الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان» قالها مرتين أو ثلاثاً.

 

وفي لفظ له ولأحمد (2/18): «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب عائشة»، وفي لفظ للبخاري في كتاب فرض الخمس (باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهن) (رقم 3104): «قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأشار نحو مسكن عائشة، فقال: هنا الفتنة -ثلاثاً- من حيث يطلع قرن الشيطان».

 

وهنالك ألفاظ عن نافع في الحديث لا بد من إيرادها؛ لتعلّقها بموضوع بحثنا، ولأنها توضح المراد بلفظة (نجد) الواردة في رواية البخاري السابقة، هي:

 

ما أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/384 رقم 13422) من طريق إسماعيل بن مسعود: ثنا عبيدالله بن عبدالله بن عون، عن أبيه، عن نافع، به. ولفظه:

 

«اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك في يمننا، فقالها مراراً، فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالوا: يا رسول الله! وفي عراقنا؟ قال: «إنّ بها الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان».

 

وهذا إسناد جيد، عبيدالله معروف الحديث. قاله البخاري في «التاريخ الكبير» (5/388 رقم 1247)، وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/322) عن أبيه: «صالح الحديث».

 

وتابعه أزهر بن سعد أبو بكر السمان في روايته عن أبيه (عبدالله بن عون)، أخرجه البخاري([14]) (1037، 7094) -ومن طريقه أبو المعالي المقدسي في «فضائل بيت المقدس» (ص 430)، وجمال الدين المراكشي في «تخريجه مشيخة الإمام المراغي» (ص 414)-، والترمذي (3948)، وأحمد (2/118) وابن حبان (7257 - «الإحسان»)، والبغوي في «شرح السنة» (14/206 رقم 4006)، وابن جميع في «معجم شيوخه» (ص 324-325/رقم 297) -ومن طريقه الذهبي في «السير» (15/286-287، 356)-، وابن عساكر (1/132، 133-134، 134)، وصححوه جميعاً([15])، عدا أحمد وابن عساكر، وعند جميعهم: «نجدنا»، مكان «عراقنا»، وهي هي، ووقع التصريح به في بعض روايات سالم بن عبدالله عن أبيه، وهذا التفصيل:

 

أخرج الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/746-747)، والمخلّص في «الفوائد المنتقاة» (ج7/ق2-3)، والجرجاني في «فوائده» (ق164/ب)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/133)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/130، 130-131 - ط. دار الفكر) من طريق توبة العنبري، عن سالم، به. ولفظه: «اللهم بارك لنا في مكّتنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في شامنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنا»، فقال رجل: يا رسول الله! وفي عراقنا، فأعرض عنه، فردّدها ثلاثاً، كلُّ ذلك يقول الرجل: وفي عراقنا، فيُعرض عنه، فقال:

 

«بها الزلازل والفتن، وفيها يطلُع قرنُ الشيطان».

 

وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

 

وتوبع توبة، تابعه زياد بن بيان.

 

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (4/245-246 رقم 4098 - ط. الحرمين)، وأبو الطاهر الذهلي -ومن طريقه ابن عساكر (1/131-132)- من طريق حماد بن إسماعيل ابن علية، قال: نا أبي، قال: نا زياد بن بيان، قال: نا سالم به، ولفظه:

 

«صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، ثم انفتل، فأقبل على القوم، فقال: ...» وذكره، وفي آخره: «فقال رجل: والعراق يا رسول الله؟! قال: من ثَمّ يطلع قرنُ الشيطان، وتهيجُ الفتن».

 

وقال عقبه: «لم يرو هذا الحديث عن زياد بن بيان إلا إسماعيل ابن علية، تفرد به ابنه حماد»!

 

قلت: ليس كذلك، فقد رواه عن إسماعيل ابن علية: عمر بن سليمان الأقطع -أيضاً-.

 

أخرجه أبو علي الحراني في «تاريخ الرقة» (ص 95- 96/رقم 145)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/132)، وابن العديم في «بغية الطلب» (1/342-343) من طريق سليمان بن عمر بن خالد الأقطع: نا إسماعيل بن إبراهيم ابن عليّة، به مثله.

 

وهذا إسناد جيد.

 

وأخرجه الربعي في «فضائل الشام» (11/20) من هذا الطريق، وعنده زيادات في آخره تخص المدينة وفضلها، فالمقام لا يتسع للتفصيل فيها([16]).

 

* سائر طرق الحديث عن سالم عن ابن عمر

 

وورد عن سالم من طرق مختصراً، دون التصريح بذكر العراق، وهذا ما وقفت عليه منها:

 

* الزهري

 

أخرجه البخاري في كتاب المناقب (باب منه) (3511): حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عنه بلفظ: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: ألا إن الفتنة ها هنا -يشير إلى المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان».

 

وهكذا أخرجه أحمد (2/121)، ورواه (2/140) من طريق عقيل.

 

ومسلم (2905) من طريق يونس.

 

وأخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/463 رقم 21016) -ومن طريقه الترمذي (2269)-، والبخاري (7092) من طريق معمر، ولفظه:

 

«ها هنا أرض الفتن -وأشار الى المشرق-، وحيث يطلع قرن الشيطان» كلهم عنه، به.

 

* حنظلة بن أبي سفيان الجُمحيّ

 

أخرجه مسلم (2905) بعد (49)، وأحمد (2/40) من طريق إسحاق ابن سليمان، وأحمد (2/143) عن ابن نمير، وأبو عوانة في «المسند» -كما في «إتحاف المهرة» (8/334 رقم 9496)- من طريق مخلد بن يزيد، والبزار في «البحر الزخار» (12/271 رقم 6061 - بمراجعتي) من طريق روح بن عبادة؛ جميعهم عنه، به.

 

ولفظ مسلم: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق، ويقول: ها إنّ الفتنة ها هنا، ها إنّ الفتنة ها هنا -ثلاثاً-؛ حيث يطلع قرن الشيطان».

 

* عقبة بن أبي الصَّهباء، أبو خريم البصري

 

أخرجه أحمد (2/72): حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم -واسمه: عبدالرحمن بن عبدالله-، وأبو يعلى (9/338-339 رقم 5449): حدثنا أبو عامر حوثرة بن أشرس والدولابي في «الكنى والأسماء» (1/168) من طريق مسلمة بن إبراهيم؛ جميعهم عن عقبة، به.

 

ولفظ الدولابي: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة الصبح، فلما أن قضى صلاته، قام، فاستقبل مطلع الشمس، ثم نادى: ألا إن الفتن من ها هنا، ألا إن الفتن من ها هنا، ثلاث مرات، ومن ثم يطلع قرن الشيطان»، وهذا أتم الألفاظ، ولفظ أحمد وأبي يعلى بنحوه مع اختصار.

 

وعقبة وثّقه ابن معين في رواية الدوري (2/409) وابن الهيثم في «من كلام أبي زكريا...» (ص 40، 50)، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (6/312): «محله الصدق»، وذكره ابن حبان في «الثقات» (7/247).

 

* عكرمة بن عمار

 

أخرجه مسلم (2905) بعد (48)، وأحمد (2/23، 26) من طريق وكيع، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (8/347 رقم 9527)- من طريق أبي عبيدة إسماعيل بن سنان الرفاعي عنه، به.

 

ولفظ مسلم: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة، فقال: رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان». يعني: المشرق.

 

وهذا لفظ مجمل يُفْرِح المبتدعة([17])، وهم يذكرون ما لهم، وسائر الألفاظ عليهم.

 

وأخرجه ابن المقرئ في «معجمه» (ص 228/رقم 758) من طريق النضر بن محمد: ثنا عكرمة، قال: جاء رجل -يقال له: جابر الجعفي- إلى سالم بن عبدالله، فقال: إنّ رجلاً مسح وجهه وهو محرم، فوقعت من لحيته شعرة، فقال له سالم: أعراقيّ أنت؟ اخرج عني، قال له: إنما أسألك -عافاك الله-! وجعل يتبعه ولا يفارقه. فقال له سالم: نشدتك بالله! هل خرجت مع ابن المهلب؟ قال: لا. قال له سالم: إنَّ أبي عبدَالله بنَ عمر حدثني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم من حجر عائشة، فقال لهم: «رأس الكفر من ها هنا، من قبل المشرق...».

 

* عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر

 

أخرجه أبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (8/352 رقم 9541)- من طريق الوليد بن مزيد: سمعت عمر بن محمد، حدثني سالم ونافع، به.

 

وأخرجه البزار في «البحر الزخار» (12/271 رقم 6063) من طريق أبي عاصم عنه عن سالم وحده، به.

 

* فضيل بن غزوان

 

أخرجه مسلم (2905)، وأبو يعلى (9/383، 420-421 رقم 5551، 5570)، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (8/354 رقم 9548)-، والبزار في «البحر الزخار» (12/272 رقم 6064 - بمراجعتي)، وأبو الفضيل عبيدالله بن عبدالرحمن في «حديث الزهري» (1/294-295 رقم 266)، والبيهقي في «الشعب» (4/346 رقم 5348) من طرق عن ابن فضيل -وسمّي عند غير مسلم بمحمد-، عن أبيه، قال: سمعتُ سالم بن عبدالله بن عمر يقول:

 

يا أهل العراق! ما أسأَلَكُم عن الصَّغيرة، وأركَبَكُم للكبيرة، سمعتُ أبي عبدَالله بن عمر يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة تجيء من ها هنا، وأومأ بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرن الشيطان، وأنتم يضرب بعضُكم رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون، خطأً،     فقال الله -عز وجل- له: {وقَتَلتَ نَفساً فَنَجّينَاك مِنَ الغَمّ وفَتَنّاك فُتوناً}         [طه: 40].

 

وهذه الرواية تشهد لما سبق في أن المراد بالمشرق: أهل العراق، وعلى ذلك كان يحمله سالم بن عبدالله، ولذا قال أوله: «يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة».

 

وممن رواه عن ابن عمر غير مولاه نافع، وابنه سالم:

 

* عبدالله بن دينار

 

أخرجه مالك في «الموطأ» في الاستئذان (29) (2/975) (باب ما جاء في المشرق)، ومن طريقه البخاري (3279)، ولفظه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق، فقال: ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا؛ من حيث يطلع قرن الشيطان».

 

وأخرجه من طرق([18]) عن ابن دينار مختصراً: البخاري في كتاب الطلاق (باب الإشارة في الطلاق) (5296)، وأحمد (2/23، 50، 73، 111)، والبزار في «البحر الزخار» (12/291 رقم 6124 - بمراجعتي)، وابن حبان (15/25 رقم 6648، 6649 - «الإحسان»)، وأبو الفضل عبيدالله بن عبدالرحمن في «حديث الزهري» (2/592 رقم 635)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/749)، والبغوي في «شرح السنة» (4005)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/348)، وأبو الشيخ في «ذكر الأقران» (ص 121/رقم 454).

 

* بشر بن حرب النَّدَبيّ

 

أخرجه أحمد (2/126)، وفي أوله: «اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي صاعنا، ومدّنا، ويمننا، وشامنا»، ثم استقبل مطلع الشمس، فقال: «من ههنا يطلع قرن الشيطان، من ههنا الزلازل والفتن».

 

وأخرجه بالسند نفسه (2/124)، ولفظه: «اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدّنا» وذكر ما في آخره([19]).

 

وأخرجه ابن عساكر (1/136-137) بلفظي أحمد من طريق يونس، ومن طريق مسدد بن مسرهد؛ كلاهما عن حماد بن زيد، عن بشر، به.

 

ونسبه في «الجامع الكبير» (1/1123) و«كنز العمال» (14/125) لأبي الفرج عبدالرحمن بن عمر الأصبهاني، المعروف بـ(رُسْته).

 

* أنس بن سيرين

 

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7/252 رقم 7421 - ط. الحرمين) من طريق حماد بن سلمة عنه، ولفظه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حُجرة عائشة، يدعو: «اللهم بارك لنا في مدّنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا»، ثم استقبل المشرق، فقال: «من ها هنا يخرج قرنُ الشيطان والزلازل والفتن، ومن هنا الفَدَّادُون».

 

وقال: «لم يروِ هذا الحديث عن حماد إلا عباد بن آدم، تفرد به ابنُه».

 

ولقوله: «ومن هنا الفَدّادون» شاهد من حديث جماعة؛ منها:

 

* حديث أبي مسعود الأنصاري

 

أخرجه البخاري (3302، 3498، 4387)، ومسلم (51)، والحميدي (458)، وابن أبي شيبة (12/182)، وأحمد (4/118 و5/273) وفي «فضائل الصحابة» (1608)، وأبو عوانة (1/58، 59)، وابن منده في «الإيمان» (425، 426، 427)، والطحاوي في «المشكل» (803)، والطبراني في «الكبير» (17/208، 209 رقم 564، 565، 566، 567، 568، 569، 577)، والقضاعي في «مسند الشهاب» (163) من طريقين عن قيس بن أبي حازم عنه، به.

 

ولفظ البخاري: أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، فقال: «الإيمان يمان -ها هنا-، ألا إن القسوة وغِلَظَ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر».

 

و(الفدادون) جمع (فدان) والمراد به البقر التي يحرث عليها، وقال الخطابي([20]): الفدان: آلة الحرث والسكة فعلى الأول: فالفدادون جمع فدان، وهو من يعلو صوته([21]) في إبله وخيله، وحرثه، ونحو ذلك، والفديد؛ هو: الصوت الشديد، وقال بعضهم: الفدادون؛ هم: الرعاة والجمالون. وقال الخطابي: إنما ذم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم، وذلك يفضي الى قساوة القلب. أفاده ابن حجر في «الفتح» (6/352).

 

‎‎‎‎* حديث أبي هريرة

 

أخرجه البخاري (3301)، ومسلم (52) بعد (84) عن الأعرج عنه، ولفظه: «رأسُ الكفر نحو المشرق، والفخرُ والخيلاءُ في أهل الخيل والإبل، والفدّادين أهل الوبر، والسكينةُ في أهل الغنم».

 

وأخرجه مالك (2/970)، والبخاري في «الأدب المفرد» (574)، وأحمد (2/418)، وأبو عوانة (1/60)، وأبو يعلى (6340)، وابن منده في «الإيمان» (434)، والطبراني في «الأوسط» (1759)، والبغوي (4003) من طريق الأعرج.

 

وأخرجه أحمد (2/252) وفي «فضائل الصحابة» (1658، 1661)، وابن أبي شيبة (12/182)، ومسلم (52) بعد (90)، وأبو عوانة (1/59)، وابن حبان (7299)، وابن منده في «الإيمان» (436، 437، 438، 439) من طريق أبي صالح، وأحمد (2/372، 407-408، 457، 483)، ومسلم (52) بعد (86)، والترمذي (2243)، وأبو يعلى (6510)، وابن حبان (5774)، وأبو عوانة (1/59)، وابن منده (428)، والطحاوي في «المشكل» (800) من طريق العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب الحرقي عن أبيه، والطيالسي (2503) عن موسى بن مطير عن أبيه، والبخاري (4389)، وابن منده (429) من طريق أبي الغيث، وأحمد (2/380) من طريق ثابت بن الحارث، وأحمد (2/425-426) من طريق أبي مصعب -واسمه: هلال بن يزيد المازني- بألفاظ متقاربة، وفيها جميعاً: «رأس الكفر نحو المشرق» أو ما في معناه.

 

ولفظ أبي المغيث : «والفتنة ها هنا، ها هنا يطلع قرن الشيطان».

 

وأخرجه البخاري (3499)، ومسلم (52) بعد (87) عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عنه، وفيه: «الخيلاء في الفدادين». والبخاري (رقم 4388) عن ذكوان عنه، وفيه: «والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل»، ومسلم (52) بعد (89) عن سعيد بن المسيب عنه، ولفظه: «والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر».

 

* حديث جابر بن عبدالله

 

أخرجه مسلم (53) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غِلَظُ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز».

 

وأخرجه هكذا: ابن حبان (16/285 رقم 7296 - «الإحسان»)، وابن منده في «الإيمان» (1/531 رقم 446).

 

وزاد أحمد (3/335) وفي «فضائل الصحابة» (1611)، وأبو عوانة (1/60): (أهل) قبل (المشرق).

 

وأخرجه أحمد (3/345)، والطبراني في «الأوسط» (10/28 رقم 9067) من طريق ابن لهيعة، والبزار (3/315 رقم 2834 - «كشف الأستار») من طريق موسى بن عقبة؛ كلاهما عن أبي الزبير، به بزيادة (أهل)  -أيضاً-.

 

وأخرجه ابن أبي شيبة (12/183 أو 6/406 - ط. أخرى)، وأبو يعلى (2/354، 366، 475 رقم 1893، 1935، 2309)، والطبراني في «المعجم الأوسط» (867)، وتمام في «الفوائد» (1547 - ترتيبه) من طرق عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر نحوه، وفيه: «قبل الشرق في ربيعة ومضر».

 

وأخرجه أحمد (3/332) من طريق أبي بشر، عن سليمان، عن جابر رفعه بلفظ: «... وغلظ القلوب والجفاء في الفدّادين في أهل المشرق».

 

وأبو بشر، جعفر بن أبي وحشية، وسليمان هو ابن قيس البصري، وكلاهما ثقة، إلا أن أبا بشر لم يسمع من سليمان. قاله البخاري، فيما نقل عنه تلميذه الترمذي (3/604)، وقال ابن حبان في «الثقات» (4/309): «ولم يره أبو بشر».

 

ووردت ألفاظ في حديث ابن عمر فيها كلام، وورد عن غيره ما يؤكد ما قررناه، من أن العراق تهيج منها الفتن، ووقع التصريح فيها بذكر (العراق)، وأنها المعنية بما قدمناه في مطلع هذا المبحث، من قوله صلى الله عليه وسلم عنها: «هناك الزلازل والفتن»، وهذا التفصيل، والله المستعان، لا رب سواه:

 

* طرق في ألفاظها نُكْرة

 

أولاً: طريق أبي عبيد حاجب سليمان عن نافع عن ابن عمر.

 

أخرج أبو أمية الطرسوسي في «مسند ابن عمر» (ص 40/رقم 69)، وأبو عبدالله القطان في «حديثه» (ق 59/ب)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/134-135) من طريق محمد بن يزيد بن سنان، عن أبيه، حدثني أبو رزين، عن أبي عبيد حاجب سليمان، عن نافع، به. ولفظه مثل لفظ توبة العنبري([22]) عن نافع؛ إلا أنّ في آخره:

 

«فقال رجل: يا رسول الله! العراق ومصر؟ فقال: «هناك ينبت قرنُ الشيطان، وثَمَّ الزلازل والفتن».

 

وهذا إسناد ضعيف، فيه علل:

 

الأولى: أبو رزين مجهول، ذكره الذهبي في «المقتنى» (رقم 2199)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولم أقف على ترجمته عند غيره.

 

الثانية: محمد بن يزيد الرهاوي، ليس بالقوي.

 

الثالثة: أبوه يزيد ضعيف.

 

الرابعة: لفظة «مصر» لم أقف عليها في هذا الحديث من غير هذا الطريق، فهي منكرة.

 

ثانياً: طريق عبدالرحمن بن عطاء([23]) عن نافع.

 

أخرجه أحمد في «المسند» (2/90)، والطبراني في «الأوسط» (2/249 رقم 1889)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/135-136، 136) من طريق سعيد بن أبي أيوب، عن عبدالرحمن، به. وفيه: «مشرقنا»، بدل: «عراقنا»، وفي آخره بعد «من هناك يطلع قرن الشيطان» زيادة: «وبها تسعة أعشار الشّرّ» كذا عند أحمد، ولفظ الطبراني: «إن من هنالك يطلع قرن الشيطان، وبه تسعة أعشار الكفر، وبه الداء العضال»، وقال عقبه:

 

«لم يرو هذا الحديث عن عبدالرحمن بن عطاء إلا سعيد بن أبي أيوب، تفرد به ابنُ وهب».

 

قلت: لعله يريد الزيادة التي في آخره، وإلا فالحديث مع زيادة «وبها تسعة أعشار الشر» رواها أبو عبدالرحمن عبدالله بن يزيد، عن ابن أبي أيوب، وهذه الزيادة غير محفوظة، لم يروها عن نافع -فيما أعلم- غير عبدالرحمن ابن عطاء، وهو صدوق، فيه لين.

 

قال شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (5/304):

 

«فعندي وقفة في ثبوت هذه الزيادة؛ لتفرد عبدالرحمن بها دون سائر الرواة، ولا سيما وقد رواها الفسوي (2/750، 751) عن ابن مسعود وعلي -رضي الله عنهما- موقوفاً، ولا يظهر لي أنها في حكم المرفوع، والله أعلم».

 

* أحاديث أخرى وقع التصريح فيها بذكر العراق، وأن الفتن تهيج منها، أو تكون فيها، وفي أسانيدها ضعف:

 

* حديث ابن عباس

 

أخرج الطبراني في «الكبير» (12/84-85 رقم 12553) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/138)- من طريق إسحاق بن عبدالله بن كيسان، عن أبيه، عن سعيد بن جبير عنه، ولفظه:

 

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا، وبارك لنا في مكتنا ومدينتنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا. فقال رجل من القوم: يا نبي الله! وعراقنا؟ فقال:

 

«إنّ بها قرن الشيطان، وتهيج الفتن، وإنّ الجفاء بالمشرق».

 

وعزاه المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/227) للطبراني، وقال: «ورواته ثقات»، وفرقه الهيثمي في «مجمع الزوائد»، فذكر (3/287) طرفاً منه في (باب الدعاء لمكة)، قال: «رواه الطبراني في «الكبير» في حديث طويل يأتي في فضل المدينة -إن شاء الله-، وفيه إسحاق بن عبدالله بن كيسان، وهو ضعيف»، بينما قال (3/305) في (فضل المدينة) -كعادته في متابعة المنذري-: «ورجاله ثقات»!

 

وإسحاق بن عبدالله بن كيسان، قال عنه الذهبي في «المنتقى» (رقم 692): «واهٍ»، واقتصر في «الميزان» (1/194) على قوله: «ليّنه أبو أحمد الحاكم([24])» ونقل ابن حجر في «اللسان» (1/365-366) عن الصَّدْر الياسُوفيّ أنه قال فيه وفي أبيه: «فيهما الضعف الشديد».

 

وأبوه عبدالله، صدوق يخطئ كثيراً، كما في «التقريب».

 

فالحديث إسناده ضعيف، إلا أنه صحيح لشواهده التي ذكرناها له، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

* حديث معاذ بن جبل

 

أخرج الخطيب البغدادي (1/24-25) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/137-138)- قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن بُكير المصري، قال: حدثني أحمد بن محمد بن إبراهيم الأنباري، قال: نبأنا أبو عمر محمد بن أحمد الحَلِيمي([25])، قال: نبأنا آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب، عن معن بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وفي شامنا، وفي يمننا، وفي حجازنا». قال: فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! وفي عراقنا؟ فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في اليوم الثاني قال مثل ذلك، فقام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! وفي عراقنا؟ فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في اليوم الثالث، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! وفي عراقنا؟ فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم، فولّى الرجل وهو يبكي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أمن العراق أنت؟» قال: نعم. قال: «إن أبي إبراهيم -عليه السلام- همَّ أن يدعو عليهم فأوحى الله -تعالى- إليه لا تفعل، فإني جعلت خزائن علمي فيهم، وأسكنت الرحمة قلوبهم».

 

وهذا إسناد واهٍ جدّاً، وهو منكر، بل باطل، مسلسل بالعلل.

 

ففيه أبو عمر محمد بن أحمد الحَليمي، قال السمعاني في «الأنساب» (4/197): «حدث عن آدم بن أبي إياس أربعة أحاديث مناكير بإسناد واحد، والحملُ عليه فيها لا على الراوي لها عنه».

 

وقال ابن ماكولا في «الإكمال» (3/80) نحوه.

 

وقال الذهبي في «الميزان» (3/465): «روى عن آدم بن أبي إياس أحاديث منكرة، بل باطلة».

 

ونقل ابن حجر في «اللسان» (5/59) عن ابن عساكر قوله فيه: «منكر الحديث»، وكذا في «الجامع الكبير» (1/218) للسيوطي، مع زيادة: «مُقِلّ».

 

والراوي عنه أحمد بن محمد بن إبراهيم الحَمْزي الأنباري، ترجمه الخطيب في «تاريخ بغداد» (4/386-387)، وذكر فيه عن محمد بن العباس ابن الفرات: «لم يكن في الرواية بذاك، كتبتُ عنه، وكانت معه كتب طَريّة غير أصول، وكان مكفوفاً، وأرجو أن لا يكون ممن يتهم بالكذب».

 

ونقل عن محمد بن أبي الفوارس قوله فيه: «لم يكن ممن يصلُح للصحيح، وأرجو أن لا يكون ممن يتعمد الكذب».

 

وله علّة ثالثة؛ وهي: الانقطاع بين (خالد بن معدان الحمصي) و(معاذ بن جبل)، فإنه لم يسمع منه([26])، قال أبو حاتم الرازي في «المراسيل» (ص 52):

 

«خالد بن معدان عن معاذ، مرسل، لم يسمع منه، وربما كان بينهما اثنان».

 

ومعن بن الوليد لم أقف له على ترجمة، وهو محرف عن (ثور بن يزيد)، كما سيأتي في الطريق الأخرى له.

 

والعلة الخامسة، والأخيرة: مُخالَفَةُ ما فيه للأحاديث الصحيحة التي قدمناها، من أنَّ العراق موطن (الزلازل) و(الفتن)، وبها يطلع (قرن الشيطان).

 

ثم ظفرتُ به من طرق أُخرى.

 

أخرجه أبو المعالي المشرف بن المرجَّى في «فضائل بيت المقدس» (ص 459) من طريق علي بن جعفر الرازي: ثنا أحمد بن زكريا، ثنا عبدالله ابن محمد، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، به([27]). وعنده: «ثور بن يزيد»، بدل: «معن بن الوليد».

 

و(ثور بن يزيد) ممن يروي عن خالد بن معدان، وروايته عنه عند البخاري في «صحيحه» وفي «السنن الأربعة»؛ كما في «تهذيب الكمال» (4/418)، ولم يذكر المزي ولا مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (3/115-116) من الرواة عنه (ابن أبي ذئب)!

 

ويبقى (عبدالله بن محمد)، والظاهر أنه ابن عمرو بن الجراح الأزدي الشامي الفلسطيني الغَزّي، فإن له رواية عن آدم؛ كما في «تهذيب الكمال» (16/95)، ووثقه أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (5/162 رقم 749)، وترجمه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (32/361-363).

 

والراوي عنه (أحمد بن زكريا) هو ابن يحيى بن يعقوب المقدسي، مترجم في «بغية الطلب» (2/749)، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، ثم رأيته في «معجم شيوخ ابن جُميع الصيداوي» (ص 192/رقم 145)، وسكت عنه، وروى له جماعة من الثقات، ولعله آفة هذا الطريق.

 

وأما الراوي عنه فهو علي بن جعفر الرازي، مترجم في «تاريخ دمشق» (41/291-293)، وروى عنه جماعة، ولا أعرفه بجرح ولا تعديل.

 

فهذا إسناد ضعيف.

 

وورد ما يؤكّد الذي قررناه في:

 

* مرسل الحسن البصري

 

أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/750) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/138-139)-: نا قبيصة، نا سفيان -وهو: الثوري-، عن محمد بن جُحادة، سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في شامنا»، فقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا رسول الله!]([28]) فالعراق؟ فإن منها([29]) مِيرتَنا، وفيها حاجتنا([30]). قال: فسكت، ثم أعاد [عليه](1)، فقال:

 

«هنالك يطلُع([31]) قرنُ الشيطان، وهنالكم([32]) الزلازل والفتن».

 

ورجاله ثقات، وهو مرسل، والمتن صحيح كما تقدم، إلا الزيادة في قول الرجل: «فإن منها ميرتنا، وفيها حاجتنا»، فلم أظفر بها في غير هذا المرسل.

 

قال الخطابي في «إعلام السنن»([33]) (2/1274 - ط. المغربية): «نجد: ناحية المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض، والغور: ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومنها مكة، والفتنة تبدو من المشرق، ومن ناحيتها يخرج يأجوج ومأجوج والدجال، في أكثر ما يروى من الأخبار».

 

وقال العيني: في «عمدة القاري» (24/200) في شرح الحديث، وبوب عليه البخاري (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الفتنة من قبل المشرق): «مطابقته للترجمة في قوله: «وهناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان»، وأشار بقوله: «هناك» إلى(نجد)، و(نجد) من (المشرق)». ثم ذكر قول الخطابي السابق، وعرف ببعض رواة الحديث، وقال: «والفتن تبدو من المشرق، ومن ناحيتها يخرج يأجوج ومأجوج والدجال. وقال كعب: بها الداء العضال، وهو الهلاك في الدين. وقال المهلب: إنما ترك الدعاء لأهل المشرق؛ ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم، لاستيلاء الشيطان بالفتن».

 

وقال قبله (24/200) في شرح الحديث نفسه، تحت الباب نفسه: «قوله: «قرن الشيطان»، ذهب الداودي إلى أنّ للشيطان قرنين على الحقيقة، وذكر الهروي أنّ قرنيه ناحيتا رأسه. وقيل: هذا مثل؛ أي: حينئذٍ يتحرك الشيطان ويتسلط. وقيل: القرن: القوة؛ أي: تطلع حين قوة الشيطان. وإنما أشار صلى الله عليه وسلم إلى المشرق؛ لأن أهله يومئذٍ كانوا أهل كفر، فأخبر أنّ الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت، وهي وقعة الجمل ووقعة صفين([34])، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وكانت الفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين قتل عثمان -رضي الله تعالى عنه- وكان -صلى الله تعالى عليه وسلم- يحذر من ذلك، ويعلم به قبل وقوعه([35])؛ وذلك من دلالات نبوته صلى الله عليه وسلم.

 

وكذلك قال الكرماني في «شرحه على صحيح البخاري» (24/168)، بعد أنْ بيّن معنى (النجد) و(الغور)، قال: «ومن كان بالمدينة الطيبة -صلى الله على ساكنها- كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها، ولعل المراد من الزلازل والاضطرابات التي بين الناس من البلايا؛ ليناسب الفتن مع احتمال إرادة حقيقتها. قيل: إن أهل المشرق كانوا حينئذٍ أهل كفر، فأخبر أن الفتنة تكون من ناحيتهم، كما أن وقعة الجمل وصفين وظهور الخوارج من أهل نجد والعراق وما والاها كانت من المشرق، وكذلك يكون خروج الدجال ويأجوج ومأجوج منها. وقيل: القرن في الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور».

 

وعلى هذا درج الشارحون، بل سبق بعض المذكورين جماعةٌ من الشراح؛ كابن بطال -مثلاً- لما قال في «شرحه على صحيح البخاري» (10/44) -أيضاً-:

 

«قال الخطابي: القرن في الحيوان يضرب به المثل فيما لا يحمد من الأمور؛ كقوله -عليه السلام- في الفتنة وطلوعها من ناحية المشرق: «ومنه يطلع قرن الشيطان»، وقال في الشمس أنها تطلع بين قرني الشيطان، والقرن: الأمة من الناس يُحدَثون بعد فناء آخرين، قال الشاعر:

 

وخلفت في قرن فأنت غريب

 

 

 

إذا مضى القرن الذي أنت منهم

 

وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذٍ أهل كفر، فأخبر -عليه السلام- أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت الفتنة الكبرى، التي كانت مفتاح فساد ذات البين، وهي مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وكانت سبب وقعة الجمل وصفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق، وما وراءها من المشرق، ومعلوم أن البدع إنما ابتدأت من المشرق، وإن كان الذين اقتتلوا بالجمل وصفين بينهم كثير من أهل الشام والحجاز، فإن الفتنة وقعت في ناحية المشرق، وكان ذلك سبباً إلى افتراق كلمة المسلمين وفساد نيات كثير منهم إلى يوم القيامة، وكان رسول الله يحذر من ذلك ويعلمه قبل وقوعه، وذلك دليل على نبوته».

 

ويتبين لكل ذي عينين من خلال النقولات السابقة وغيرها([36])، أن (نجداً) المذكورة في بعض روايات الحديث ليست اسماً لبلد خاص، بل يقال لكل قطعة من الأرض مرتفعة عما حواليها (نجد)، وبناءً عليه؛ فـ(النجود) التي تعرفها العرب كثيرة([37]).

 

و(نجد) المذكورة التي منها يطلع قرن الشيطان، وبها تكون الزلازل والفتن: هي ناحية (العراق)؛ لأنها هي الواقعة في جهة المشرق من المدينة النبوية، والروايات في هذا الباب مؤتلفة غير مختلفة، وهي -على حسب ما ذكرنا بالترتيب-:

 

- قوله في (نجد) -وأَبَى صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالبركة-: «هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان».

 

- قوله وهو مستقبل المشرق -وفي رواية: يشير بيده نحو المشرق-: «ألا إن الفتنة  ها هنا -مرتين- من حيث يطلع قرن الشيطان».

 

- قوله: «رأس الكفر قبل المشرق».

 

- قوله: «رأس الكفر نحو المشرق».

 

ومع هذا؛ فإن سالم بن عبدالله بن عمر، ذكر قبل الحديث في رواية لمسلم -وتقدمت-: «يا أهل العراق! ما أسأَلَكُم عن الصغيرة، وأركَبَكُم للكبيرة».

 

ويفهم من هذا بدلالة اللازم: أنّ الجهة المذكورة في الروايات السابقة عند سالم بن عبدالله بن عمر هي العراق.

 

ومع هذا كلِّه؛ فقد جاء التّصريح البيِّن، الذي لا يعتريه غموض أو إيهام، أنها (العراق)، والروايات في ذلك -كما تقدم- صحيحة.

 

ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم أن الفتن تظهر منها، أنها تبقى فيها ولا تتجاوزها، وسيأتي معنا([38]) أن الفتن ستعم البلاد كلها، ولكن -كما جاء في بعض الروايات المتقدمة- أن «الفتنة تجيء من ها هنا»، و«تهيج الفتن» منها، والحقائق التأريخية المؤكَّدة، والأحداث الواقعة والمتوقعة، وشواهد القرون الماضية والغابرة يظهر منها صدق هذه الأخبار، ويستحيل فيها بأدنى احتمال التخلّف وعدم الوقوع، ويستفاد منها جميعاً أن (العراق) مركز مثار الفتن، التي صرح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء فيما لم يقع؛ مثل: خروج يأجوج ومأجوج، وظهور الدجال، وحسر الفرات عن جبل من ذهب، واقتتال الناس عنده مقتلة عظيمة، أو ما وقع وحصل([39])؛ مثل: وقعة الجمل، ومحاربة صفين، وفتنة كربلاء، وحادثة التتر، أو ما هو واقع الآن؛ مثل: طمع الكفار بخيرات بلاد العراق، وسيطرتهم عليها([40]) -على ما سيأتي بيانه بإسهاب وتفصيل، والله الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.

 

فصل

 

فرية وردّها

 

وقد زعم بعضُ من أزاغ الله قلبه([41]) أن (نجداً) المذكورة في الأحاديث السابقة هي (الحجاز)، وأن الفتن التي ظهرت منها هي دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب([42]) -رحمه الله تعالى-!

 

وهذه فرية بلا مرية، إذ فيها مضادّة للأحاديث النبوية الصحيحة الشهيرة، وقد تتابعت جهود الأعلام من العلماء على اختلاف أعصارهم وأمصارهم على كشف الباطل الذي فيها، وهذه شذرات من كلماتهم([43]):

 

* الشيخ عبدالرحمن بن حسن، قال في «مجموعة الرسائل والمسائل» (4/264-265):

 

«الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا» الحديث... قيل أنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ؛ كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين([44])، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة... وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده.

 

وعلى كل حال؛ فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس».

 

ثم قال -رحمه الله-: «فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة...، وما ضرَّ المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مُهاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام، وما ذُمَّتْ مكةُ بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه».

 

* الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن([45]):

 

يقرر -رحمه الله- في كتابه «منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس» (ص 62) المراد بالمشرق ونجد الذي ورد ذمه في الأحاديث السابقة، فيقول: «إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق؛ لأنه يحاذي المدينة من جهة المشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: «وأشار إلى العراق»، قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية الشام ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد: ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور؛ فإنه ما انخفض منها، وقال الداودي: أن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في «مسلم» عن ابن عمر، قال: يا أهل العراق! ما أسأَلَكم عن الصغيرة وأركَبَكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الفتنة تجيء من ها هنا»، وأومأ بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر المراد بالإشارة الحسيّة، وقد جاء صريحاً في «المعجم الكبير» للطبراني النصُّ على أنها العراق، وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال، كل هذا يعين المراد...».

 

ويشير الشيخ عبداللطيف إلى فضل بني تميم، فيقول (ص 61):

 

«وقد جاء في فضل بعض أهل نجد كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: أُحِبُّ تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله لما جاءت صدقاتهم: «هذه صدقات قومي»، وقوله في الجارية التميمية: «اعتقها فإنها من ولد إسماعيل»، وقوله: «هم أشد أمتي على الدجال»... هذا في المناقب الخاصة، وأما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.

 

ومعلوم أن رؤساء عباد الصور الداعين إلى دعائهم وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم، وأهل نجد للرد على دجاجلة عبّاد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إنْ قلنا أن «ال» في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا أنها للعهد -كما هو الظاهر-؛ فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله، فتأمله فإنه نفيس جدّاً».

 

* الشيخ محمود شكري الآلوسي العراقي (ت 1342هـ):

 

قال في كتابه «غاية الأماني» (2/180) مقرراً أن نجداً بها يطلع قرن الشيطان في معرض كلامه على من تكلم على ابن تيمية من أهل العراق:

 

«ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزيّة، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام، إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري، وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة، التي خالفوا بها أهل السنة، ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غايةً يسقط بها الأمر والنهي، إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في الإمام علي، وسائر الأئمة ومسبة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا معروف مستفيض».

 

* الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (ت 1326هـ):

 

أسهب في كتابه «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» في رد هذه الفرية، وعمل على تخريج الحديث، ودقق في ذكر مروياته وألفاظه، ومما أفاد وأجاد بهذا الصدد، قوله فيه (ص 497) بعد كلام:

 

«قد عرفت من هنا أن زيادة لفظة (من)([46])، لا تعرف في شيء من طرق الحديث، ولعلها من أغلاط المؤلف([47])، ولا يستبعد ذلك منه، فإنه كثيراً ما يغلط في نقل الروايات؛ لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وهذا الحديث لا شك في صحته، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث صحيحة أخرى».

 

وقال (ص 496): «أقول: كون الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه مصداق تلك الأحاديث... محل نظر».

 

وذكر (ص 498-499) بعض كلام الشراح المتقدم؛ ككلام الخطابي والقسطلاني، وقال على إثره داحضاً الكذبة المذكورة: «ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث لا يقتضي أنّ كل من يولد في المشرق أو يسكن فيه، يكون مصداقاً لهذا الحديث، حتى يثبت ما ادّعاه المؤلف من كون الشيخ -يريد: الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب- مصداقاً له، والمؤلف لم يبيّن وجه الاستدلال به، حتى يتكلم فيه، ويجاب عليه. ومجرد وقوع الفتنة في موضع لا يستلزم ذم كل من يسكنه».

 

ثم أورد أحاديث فيها وصول الفتنة إلى المدينة، ثم قال (ص 500):

 

«وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقع الفتن  في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه، لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمن موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما، بل وما من بلد أو قرية إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة([48])، فكيف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناطُ ذم شخصٍ معينٍ كونُه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع».

 

* نكتة مهمة

 

وهنا نكتة مهمة، لا بد من بيانها والتركيز عليها؛ وهي:

 

«إنه لا يقول مسلم بذم علماء العراق؛ لما ورد فيها، وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة، وأهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق»([49]).

 

و«الفضل والتفضيل باعتبار الساكن يختلف وينتقل مع العلم والدين، فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان أكثرها علماً، وأعرفها بالسنن، والآثار النبوية، وشر البلاد أقلها علماً، وأكثرها جهلاً وبدعة وشركاً، وأقلها تمسّكاً بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح، فالفضل والتفضيل يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان»([50]).

 

فصل

 

الفتن تموج موج البحر

 

وإنما هَمُّ النبي صلى الله عليه وسلم من هذا البيان: الحرص والحذر([51])، وليس ذم الزمان أو المكان؛ إذ الفتنة في آخر الزمان تشتد، وتعصف وتموج موج البحر، ويبدأ ذلك من مقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

 

أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب مواقيت الصلاة (باب الصلاة كفارة) (رقم 525) وفي كتاب الزكاة (باب الصدقة تكفِّر الخطيئة) (رقم 1435) وفي كتاب الصوم (باب الصوم كفارة) (رقم 1895) وفي كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3586) وفي كتاب الفتن (باب الفتنة التي تموج موج البحر) (رقم 7096)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب في الفتنة التي تموج كموج البحر) (رقم 144) بعد (26) بسنديهما إلى أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: سمعتُ حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: «فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». قال: ليس عن هذا أسألك، ولكنِ التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر. قال عمر: إذاً لا يُغلق أبداً. قلت: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أعلم أن دون غَدٍ ليلةً، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. فهِبْنا أن نسأله: من الباب؟ فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر.

 

وأخرجه مسلم -قبلُ- في كتاب الإيمان (باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وإنه يأرز بين المسجدين) (144) بعد (231) إلى رِبعيّ -هو: ابن حراش- عن حذيفة، قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة. ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكَتَ القومُ. فقلت: أنا. قال: أنت، لله أبوك([52])! قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرض([53]) الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً([54])، فأي قلب أُشربها([55]) نُكت فيه نكتة([56]) سوداء، وأي قلب أنكرها([57]) نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا([58])، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسودُ مُربادّاً([59])، كالكوز مُجَخِّياً([60]) لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من هواه».

 

قال حذيفة: وحدثته أن بينك وبينها([61]) باباً مغلقاً يوشك([62]) أن يكسر. قال عمر: أَكَسراً([63])، لا أبا لك([64])! فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد. قلت: لا، بل يكسر. وحدثته أنّ ذلك الباب رجل يُقتل أو يموت، حديثاً ليس بالأغاليط([65]).

 

ويستفاد من هذه الروايات فوائد عديدة؛ من أهمها:

 

فصل

 

ضروب الفتنة

 

أولاً: إنّ الفتنة ضربان:

 

الضرب الأول: لا ينفك عن الإنسان في أي مكان أو زمان كان؛ وهو: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، فهذا النوع يعتريه فرط المحبة، ويسبب الشح والبخل والجبن، ويشغل عن كثير من الخير، قال بن المنيّر: «الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن، أو عليهن في القسمة والإيثار، حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع بالاشتغال به عن العبادة أو بحبسه عن إخراج حق الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد، وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة والمزاحمة في الحقوق وإهمال التعاهد».

 

ثم قال: «وأسباب الفتنة بمن ذكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة، وأما تخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات، ففيه إشارة إلى تعظيم قدرها، لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيه صلاحية التكفير، ثم إنّ التكفير المذكور يحتمل أنْ يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة، ويحتمل أنْ يقع بالموازنة، والأول أظهر، والله أعلم»([66]).

 

وقال ابن أبي جمرة: « خص الرجل بالذكر لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم. ثم أشار إلى أنّ التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبه بها على ما عداها، والضابط: أنّ كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر، بل نبّه به على ما عداها، فذكر عبادة الأفعال: الصلاة والصيام، وذكر من عبادة المال: الصدقة، ومن عبادة الأقوال: الأمر بالمعروف»([67]).

 

«فالحياة الدنيا كلها فتنة واختبار، شرها فتنة، وخيرها فتنة، والشهوات فتنة، تلك فتنة قائمة في جميع العصور، وتعمّ ذرية آدم في جميع   الأماكن»([68])، وهذا الضرب ليس موضوع حديثنا.

 

الضرب الثاني: الفتن التي تموج موج البحر؛ أي: تضطرب وتدفع بعضها بعضاً، وشُبِّهت بـ(موج البحر)([69])؛ لشدّة عظمها، وكثرة شيوعها، وهذا النوع يشتدّ بمضيّ الزمان، ويظهر للعيان، ويهيّج من بعض البلدان، وفق سنن للرحمن، وتكون تارةً على هيئة عواصف وكوارث وزلازل وبراكين، تصيب الطالحين وتمتد عند الكثرة إلى الصالحين، وتكون عذاباً وعقوبة لجماعة، ورحمة وخيراً ورفعةً لآخرين.

 

«وفي تشبيهه صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها تموج كموج البحر إشارة واضحة إلى قوتها وشدتها، ثم إلى تتابعها، وإلى أنه لا يمكن لأحد الوقوف أمامها؛ لأنه لا يمكن لأحد أنْ يقف أمام موج البحر، وأنّ الناس أمام هذه الفتن ستضطرب حركتهم، ويختل توازنهم، وتضيق صدورهم، وينقطع نفسهم، وهذه حال من يصارع الموج.

 

وإذا علمنا أنّ أمواج البحر تتكاثر وتتعاظم، مع شدة الريح وانتشار السحاب؛ فإنّ لنا أنْ نتصور جو الفتن بأنه جو مظلم، فالذي يشاهد موج البحر العاتي فتبدو أمامه زرقة البحر مع ظلمة السحاب وكثرته، مع شدة هبوب الرياح وقوتها؛ فكذلك الذي يواجه هذه الفتن، تحيط به الظلمات والأعاصير، فهو مهموم مغموم ظاهراً وباطناً، وللموج صوت وأي صوت؟ ولهذه الفتن صوت، لا يسمع الواقف فيها صوت ما عداها، وإنما تطبق عليه، فهي كالصاخة، فيظل الواقف فيها حيراناً خائفاً قلقاً، يتطلع إلى الأمان ولا يجده، وهل ينجو من البحر وشدة موجه إلا من بعد عنه، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «فخير الناس يومئذ: مؤمن معتزل في شعب من الشعاب، يتقي الله، ويذر الناس من شره»([70]).

 

والناس حين يواجهون أمواج البحر مجتمعين، في أية حالة من حالاته، فإنه يسمع لهم صراخ وعويل وتهارش وتخاصم، لا يسمع الواحد منهم الآخر، وكل يريد أنْ ينجو بنفسه، وقد يُغرِق الواحدُ منهم غيرَه لينجو هو»([71]).

 

«ولعل هذا ما كنى به الحديث من شدة المخاصمة وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة»([72]).

 

والجامع لجميع مجريات الفتنة وأحداثها: البلاءُ والنُّكران([73]) في حقِّ مَنْ تابع السلف الصالحين في العلم والتصور والعمل، ومن حقَّق فهمهم، وأشغل قلبه، ووحَّد همَّه على نهجهم.

 

وكان هذان النوعان قائميْن في فهم الصحابة، فهم -رضوان الله عليهم- يفرّقون بينهما، ولذا لما ذكر حذيفة النوع الأول، بيّن عمر أنه لا يسأل عن هذا النوع، وإنما يريد النوع الثاني، والله الهادي.

 

ثانياً: إنَّ للفتنة([74]) زماناً ومكاناً ومحلاًّ([75])، وجمع هذا الحديث الأمور الثلاثة:

 

فصل

 

زمن الفتنة (نشأتها، اشتدادها، آخرها)

 

فزمانها؛ يشتدُّ بمقتل عمر -رضي الله عنه-، فشبهت الفتن -في المحاورة السابقة- ببيتٍ له باب، والفتن محصورة فيه، فإذا قتل عمر فالباب يبقى مفتوحاً، ولا ينغلق أبداً، والفتن تعصف منه على هيئة أمواج عاتية تموج موج البحر، بينما لو مات دون قتل، فلعل باب الفتن ينغلق، والموج يزول، والعواصف تهدأ، والفتن تتلاشى أو تضعف.

 

وهذا الأمر كان معروفاً -أيضاً- عند الصحابة، فهذا خالد بن الوليد يسمع رجلاً يقول له في خلافة عمر: «يا أبا سليمان! اتّق الله، فإنّ الفتن قد ظهرت». فرد عليه مستنكراً بقوله: «وابن الخطاب حي؟! إنما تكون بعده، ...»([76]).

 

وها هو حذيفة -رضي الله عنه- يقول: «ما بينكم وبين أن يرسل عليكم الشر فراسخ إلا موتة في عنق رجل يموتها، وهو عمر».

 

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/620 - ط. دار الفكر): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عنه به. وإسناده صحيح.

 

ولم يعزه في «كنز العمال» (11/228 رقم 31327) إلا له، وظفرتُ به عند ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ص 286 - ترجمة عمر([77]) من طريق أبي عوانة عن عاصم، عن أبي وائل -وهو شقيق بن سلمة- به. ولفظه:

 

«ما بينكم وبين أن يرسل عليكم الشرُّ فراسخ إلا أن يطلع عليكم راكب من ها هنا، فينعى لكم عمر».

 

وها أبو ذر ينعت عمر بأنه «قُفْلُ الفتنة»، أخرج ذلك ابن عساكر (ص 284 - ترجمة عمر) -أيضاً-، ولم يعزه في «الكنز» (13/316 رقم 36896) إلا له.

 

فمعنى قوله في الحديث: «إن بينك وبينها باباً مغلقاً»؛ أي: إن تلك الفتن لا يخرج شيء منها في حياتك([78])، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق، «لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار»([79]).

 

قال ابن كثير -رحمه الله- بعد سياقه لهذا الحديث ما نصه: «هكذا وقع الأمر سواء بعد ما قتل في سنة ثلاث وعشرين وقعت الفتن بين الناس، وكان قتله سبب انتشارها بينهم»([80]). هذا وقد ترجم -رحمه الله- لهذا الحديث بقوله: (إشارة نبوية إلى أن عمر -رضي الله عنه سيقتل-)([81]). فالباب هو حياة عمر    -رضي الله عنه- كما فسره حذيفة -رضي الله عنه- في آخر الحديث، وقد وقعت الفتن والمحن والبلايا بين الناس، وفشت وانتشرت -كما قال ابن كثير- بعد وفاته في جميع أنحاء بلاد الإسلام، والله المستعان.

 

ويتمِّم هذا المعنى أحاديثُ أُخر، فيها بيان (أول فتنة) تكون في (الأُمة)، ولو قضي عليها في حينها لما وجدت (فتنة) بعدها، ولكنها سنة الله الكونية التي يتبين من خلالها كثير من الأمور الشرعية، ولا سيما تلك التي لها تعلُّق بالنفس البشرية، والقوانين الاجتماعية.

 

أخرج الإمام أحمد (5/42): حدثنا روح، ثنا عثمان الشحام، ثنا مسلم ابن أبي بكْرة، عن أبيه أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجُلٍ ساجد -وهو ينطلق إلى الصلاة-، فقضى الصَّلاةَ، ورجع عليه وهو ساجد، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من يقتل هذا؟» فقام رجل فَحَسرَ عن يديه فاخترط سيفه وهزَّه، ثم قال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ ثم قال: «من يقتل هذا؟» فقام رجل فقال: أنا. فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزَّه حتى أُرْعدت([82]) يده، فقال: يا نبي الله! كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو قتلتموه؛ لكان أول فتنة وآخرها».

 

وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 938)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (2/713-714 رقم 703 - «بغية الباحث»)، وأحمد بن منيع في «مسنده» -كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (5/204 رقم 4674)-، والبيهقي مختصراً (8/187) من طريق روح بن عبادة، به.

 

قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي (6/225): «رواه أحمد والطبراني من غير بيانٍ شافٍ، ورجال أحمد رجال الصحيح».

 

وعزاه الحافظ في «الإصابة» (2/174-175) لمحمد بن قدامة والحاكم في «المستدرك»، ولم أره فيه بهذا السياق، وإنما أخرج (2/146) من طريقين آخرين عن الشحام بإسناده حديثاً آخر في الخوارج، وصححه على شرط مسلم. قاله شيخنا في «الصحيحة» (2495)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على «المسند».

 

وللحديث شاهد من حديث أنس نحوه، وفيه: أنّ الرجل الأول الذي قام لقتله هو أبو بكر، والثاني عمر، وزاد: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يقوم إلى هذا فيقتله؟» قال علي: أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت له إن أدركته». فذهب علي فلم يجده، فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلت الرجل؟» قال: لم أدْرِ أين سلك من الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا أوَّلُ قِرْنٍ([83]) خرج من أمتي، لو قتلته -أو قتله- ما اختلف من أمتي اثنان».

 

أخرجه أبو يعلى (7/154-155 رقم 4127)، ومحمد بن نصر المروزي في «السنة» (ص71-72 رقم 54)، والبيهقي في «الدلائل» (6/287-288)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/52) من طريق يزيد الرقاشي([84])، قال: حدثني أنس بن مالك، به.

 

قلت: ورجاله رجال مسلم، غير الرقاشي، وهو ضعيف، وأخرجه من طريقه مختصراً دون الشاهد: ابن جرير في «التفسير» (7/74، 75 رقم 7577، 7578 - ط. شاكر)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (3/723 رقم 3915)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/419، 419-420 رقم 440، 441)، واللالكائي في «السنة» (148)، وأبو القاسم الأصبهاني في «الحجة» (1/119-120 رقم 18).

 

وتابعه موسى بن عبيدة: أخبرني هود بن عطاء، عن أنس، به بنحوه. وفيه أن أبا بكر قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي، وقد نَهيتَ عن قتْل المصلِّين.

 

أخرجه أبو يعلى (رقم90، 4143)، والآجري في «الشريعة» (1/349-351 رقم 50).

 

قلت: وموسى بن عبيدة متروك. قاله الهيثمي في «المجمع» (6/277)، وفيه هود بن عطاء، قال بن حبان: «لا يحتج به، منكر الرواية على قلّتها». انظر: «لسان الميزان» (6/201).

 

وله طريق ثالثة، يرويه عبدالرحمن بن شريك: ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، به نحوه.

 

أخرجه البزار (رقم 1851 - «زوائده»).

 

قلت: وهذا إسناد فيه ضعف من أجل شريك وابنه. وقول الهيثمي في «المجمع» (6/227): «رواه البزار باختصار، ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم» فيه لين.

 

وله طريق رابعة، يرويه أبو معشر عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن زيد ابن أسلم، عن أنس بنحوه، وفيه: «لو قتل اليوم ما اختلف رجُلان منْ أُمَّتي حتى يخرج الدجال». وفيه قول أبي بكر: «ورأيت للصلاة حرمة وحقّاً».

 

أخرجه أبو يعلى (6/340-342 رقم 3668)، وابن مردويه -كما في «تفسير ابن كثير» (2/607-608)-، وأبو نعيم في «الحلية» (3/226-227)، وأخرجه الآجري في «الشريعة» (1/309-311 رقم 25) مختصراً دون الشاهد، ثم وجدته عنده مطولاً بالشاهد (1/346-349 رقم 49) وإسناده ضعيف، أبو معشر نجيح بن عبدالرحمن السِّندي، ضعيف، قد أسن واختلط.

 

قال الهيثمي في «المجمع» (7/257-258): «رواه أبو يعلى، وفيه أبو معشر نجيح، وفيه ضعف».

 

وقال ابن كثير: «هذا حديث غريب جدّاً من هذا الوجه، وبهذا السياق».

 

وقال ابن حجر في «المطالب العالية» (12/538 رقم 2994) على إثره: «هذا حديث غريب، وأبو معشر فيه ضعف».

 

قلت: مرادهما بالغربة من هذا الوجه، قال أبو نعيم على إثر هذا الطريق: «هذا حديث غريب من حديث زيد عن أنس، لم نكتبه إلا من حديث أبي معشر عن يعقوب، وقد رواه عن أنس عدة، وقد ذكرناهم في غير هذا الموضع».

 

ثم ظفرتُ بطريق أخرى عن أنس.

 

أخرجه الضياء المقدسي في «المختارة» (7/88-90 رقم 2497، 2498، 2499) بسند صحيح عن الوليد بن مسلم: ثنا الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس رفعه. وهذا إسناد لا علة فيه؛ إنْ سلم من تدليس الوليد.

 

وله شاهد آخر أخرجه أحمد (3/15): حدثنا بكر بن عيسى، ثنا جامع ابن مطر الحَبَطِيّ، ثنا أبو رُؤبة شداد بن عمران القيسي، عن أبي سعيد الخُدري أنَّ أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مررتُ بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشٍّعٌ حسنُ الهيئة يصلِّي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه فاقْتله». قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:«اذْهَب فاقْتله». فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، قال: فكره أن يقتله، قال: فرجع، فقال: يا رسول الله! إني رأيته يصلِّي مُتَخشِّعاً فكرهت أنْ أقتله، قال: يا عليّ! «اذهب فاقتله» قال: فذهب عليٌّ فلم يره، فرجع علي، فقال: يا رسول الله! إنه لم يره! قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، يَمْرقُون من الدِّين كما يمْرُقُ السَّهمُ من الرَّمية، ثم لا يعودون فيه، حتى يَعودَ السَّهم في فُوقِه([85])، فاقْتُلوهم، هم شَرُّ البريَّة».

 

وأخرجه البخاري في «الكنى» (9/30) من طريق حفص بن عمر عن جامع، به.

 

وإسناده رجاله ثقات، غير أبي رؤبة شداد بن عمران، ووقع خلاف شديد في نسبته، فجعله البخاري في «التاريخ الكبير» (4/226) و«الكنى» (9/30)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/329) قشيريّاً، وقال البخاري: «القشيري من قيس».

 

وكذا ترجمه ابن حبان (4/358) ونسبه تغلبيّاً، وذكر من الرواة عنه     -أيضاً- (يزيد بن عبدالله الشيباني)، إلا أنه ترجم فيه (4/357) لآخر (شداد ابن عبدالرحمن أبو رؤبة القشيري)، وذكر أنه يروي عن أبي سعيد الخدري، وروى عنه أبو حنيفة، وجزم ابن حجر في «تعجيل المنفعة» (ص174) أنهما واحد، وهذا صحيح.

 

ولذا جوَّد ابن حجر في «الفتح» (12/298-299) هذا الإسناد، وقال الهيثمي في «المجمع» (6/225): «رواه أحمد، ورجاله ثقات».

 

وقال شيخنا الألباني في «الصحيحة» (5/659 رقم 2495): «قلت: وإسناده حسن، رجاله ثقات معروفون، غير أبي رؤبة هذا، وقد وثقه ابن حبان، وروى عنه يزيد بن عبدالله الشيباني -أيضاً-».

 

قلت: وجامع بن مطر الحبطي صدوق.

 

وله شاهد -أيضاً- من حديث طلحة بن نافع عن جابر بن عبدالله، وفيه نحو الطريق الأولى عن أنس، ولكنه مختصر، وفي آخره عن علي: «فانطلق، فوجده قد ذهب» دون الشاهد الذي أوردناه من أجله.

 

أخرجه أبو يعلى في «المسند» (4/150 رقم 2215) بسند رجاله رجال الصحيح. قاله الهيثمي في «المجمع» (6/227)

 

وعزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة» (5/198 رقم 4664)، وابن حجر في «المطالب العالية» (12/536 رقم 2993) إلى أبي بكر بن أبي شيبه وأحمد بن منيع.

 

وطلحة بن نافع في نفسه صدوق، وروايته عن جابر، قال بعضهم: إنما هي صحيفة، ولكن ثبت أنه كان جاره بمكة ستة أشهر.

 

وعلى هذا؛ فالإسناد حسن.

 

وجعل البوصيري ما أخرجه أحمد (3/354-355) بسند حسن شاهداً للحديث، وليس فيه موطن الشاهد!

 

قال أبو عبيدة: الحديث بمجموع طرقه صحيح -إن شاء الله تعالى-، ولا مغمز فيه، ويحتاج إلى تأمّل وتدبر([86])؛ فإنّ فيه بياناً: لو قُتِل هذا الرجل    -وجاء في مرسل الشعبي([87]) أنه اعترض عليه في قسمة الغنائم، وقال: «إنك لتقسم وما ترى عدلاً»- لما وقعت فتنة بعده أبداً.

 

فهذا يفيد البداية والمنشأ، والحديث السابق الذي فيه محاورة عمر مع حذيفة يفيد: لو مات عمر من غير قتل، لهبَّت فتن، ثم أقلعت، وبابها ينغلق، أما إنْ قُتِل، فإنَّ باب الفتن سيبقى مفتوحاً على مصراعيه! فهو يفيد الاشتداد والموج، أما النهاية، فقد أُشير إليها في الطريق الأخيرة من حديث أنس، وفيه:

 

«لو قتل اليوم ما اختلف رجلان من أُمتي حتى يخرج الدَّجَّال».

 

وجاء التصريح في حديث آخر صحيح، أنّ الفتن جميعها ما صُنِعت ووجدت إلا لفتنة الدجال، وهذا البيان:

 

أخرج أحمد (5/389)، والبزار في «مسنده» (2807 و 2808)، وابن حبان (6807)، والطبراني مختصراً في «الكبير» (3018) من طرق عن الأعمش، قال أحمد: عن أبي وائل عن حذيفة. وقال الباقون: عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب، عن حذيفة، قال: ذكر الدجال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لأنا لفتنةِ بعضكم أخوفُ عندي من فتنة الدَّجال، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صُنِعت فتنةٌ -منذ كانت الدنيا- صغيرةً ولا كبيرة إلا لفتنة الدَّجال». لفظ أحمد([88]).

 

وإسناد أحمد صحيح؛ إن كان الأعمش سمعه من أبي وائل([89]).

 

فالفتن سلسلة، آخذة كلُّ حلْقةٍ بأختها، حتى تصل إلى الدجال، والذي خشيه عليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم (فتنة بعضنا) من البغي، والظلم، والقتل، وهذا الذي بدأ زمن (الخوارج)، الذين خرجوا من ضئضئ ذاك الرجل، الذي لو قُتِل، لكان أول فتنة وآخرها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

 

فصل

 

الخوارج والعراق

 

وكان خروجهم في العراق، بعد مقتل عمر، وذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/228) قصة خروجهم، فقال: «قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج أنهم المذكورون في قوله -تعالى-: {قُل هَل نُنَبِّئُكم بالأَخسَرِينَ أَعمَالاً الَّذين ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنيا وهم يَحسَبُون أَنّهم يُحسِنُونَ صُنعاً أُولئك الَّذين كَفَروا بآيات رَبّهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نُقيم لهم يوم القِيَامة وَزناً} [الكهف: 103-105] أنّ هؤلاء الجهلة الضُّلاّل، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطؤوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها. فقال لهم زيد بن حصين الطائي([90]): أن المدائن لا تقدرون عليها، فإنّ بها جيشاً لا تطيقونه، وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخَا([91])، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات([92])، ولكن اخرجوا وحداناً لئلا يفطن بكم. فكتبوا كتاباً عامّاً إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر، ليكونوا يداً واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحداناً لئلا يعلم أحدٌ بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات، وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أنّ هذا الأمر يُرضي رب الأرض والسماوات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر والذنوب الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زيَّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم، ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله إنه مجيب الدعوات».

 

وقال ابن عبدالبر في «التمهيد» (6/64 - ط. الفاروق):

 

«وأخبار الخوارج بالنهروان، وقتلهم للرجال والولدان، وتكفيرهم الناس واستحلالهم الدماء والأموال، مشهور معروف. ولأبي زيد عمر بن شبة في «أخبار النهروان وأخبار صفين» ديوان كبير، من تأمله اشتفى من تلك الأخبار، ولغيره في ذلك كتب حسان، والله المستعان».

 

فصل

 

استمرار خروج الخوارج ووصول فتنتهم إلى كل مكان

 

فهذا يمثل أول اشتداد الفتن والموج الذي يشبه موج البحر، إذ وصلت فتنتهم إلى كل مكان، وبقي أثرُهم إلى الآن، والواقع المعايش بارز للعيان، في كثير من البلدان، وسيشتدّ مع مرور الزمان، وحسبنا الله، وعليه التكلان، وهذا هو الدليل والبرهان:

 

أخرج النسائي وغيره من حديث أبي برزة رفعه: «يخرج في آخر الزمان قوم كأنّ هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السَّهمُ من الرمية»([93]).

 

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال، وقد اتفق المسلمون على أنّ الخوارج ليسوا مختصّين بذلك العسكر» ([94]).

 

يشير شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ما أخرجه ابن ماجه (1/177-178 رقم 174 - ط. عواد) وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينشأ نشءٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج فِرْقٌ قُطِع، حتى يخرج في أعراضهم الدجال».

 

وبوّب عليه شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (5/582 رقم 2455): (استمرار خروج الخوارج).

 

فمن سنة الله -عز وجل- التي لا تتخلف البتة في الخوارج ومن يسير على منهجهم في التغيير([95]) -كما في هذا الحديث-، أنّ هؤلاء يظهرون بين الفينة والفينة ثم يُقْطعون، وورد (القطع) بصيغة المبني للمجهول، فيقطعون بالحجة والبرهان من قبل العلماء([96])، والتخويف والتهديد من قبل السلطان، أو بهما جميعاً، أو بما يقضيه الله -عز وجل- في سنته الكونية.

 

وقد تفطن لهذا الإمام وهب بن منبه لما قال في نصيحته إلى أبي شَمِر ذي خولان، -وهي طويلة جدّاً-([97])، وفيها:

 

«ألا ترى يا ذا خولان! أني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرّقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل، وقُطع الحج عن بيت الله الحرام([98])، وإذَنْ لعَادَ أمرُ الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستعينون برؤوس الجبال([99])، كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة -أو عشرين- رجلاً ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضاً، ...».

 

قال أبو عبيدة: وهذا الذي حصل مع الخوارج من أول تاريخ نشأتهم، فقد قاتل عليٌّ -رضي الله عنه- ذلك العسكر في النهروان، وكاد أنْ يقضي عليهم، وقلعهم من مركزهم (حروراء) ورجعوا إلى (الكوفة)، وبقيت ثلّة منهم ثارت في الأرض.

 

قال البغدادي في «الفرق بن الفرق» (ص61):

 

«وقتلت الخوارج يومئذٍ -أي: يوم النهروان- فلم يفلت منهم غير تسعة أنفس، صار منهم رجلان إلى سجستان، ومن أتباعهما خوارج سجستان، ورجلان صارا إلى اليمن، ومن أتباعهما إباضية اليمن، ورجلان صارا إلى عُمان ومن أتباعهما خوارج عُمان، ورجلان صارا إلى ناحية الجزيرة، من أتباعهما كان خوارج الجزيرة، ورجل منهم صار إلى تل مورون، ثم خرج على علي بعد ذلك من الخوارج جماعة كانوا على رأي المحكمة الأولى، منهم أشرس بن عوف، وخرج عليه بالأنبار، وغلفة التيمي من تيم عدي خرج عليه بماسيذان، والأشهب بن بشر العرني خرج عليه بجرجرايا، وسعد بن قفل خرج عليه بالمدائن، وأبو مريم السعدي خرج عليه في سواد الكوفة، فأخرج علي إلى كل واحد منهم جيشاً مع قائد حتى قتلوا أولئك الخوارج، ثم قتل علي -رضي الله عنه- في تلك السنة في شهر رمضان، سنة ثمان وثلاثين من الهجرة».

 

وباض وفرَّخَ هذا المعسكر في كثير من البلدان، وكانت (العراق) هي مسرح أحداثه، فثار جنده على معاوية في الكوفة، وذلك سنة إحدى وأربعين. وقاموا بعدها بثورات متعددة ما بين سنة (41) سنة (64)، ووقف منهم الولاة الأمويون موفقاً حازماً شديداً، يقول الطبري -مثلاً- في حوادث سنة (58هـ):

 

«وفي هذه السنة اشتد عبدالله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبراً جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى» ([100])، واشتدت شوكتهم بعد انهيار الدولة الأموية سنة أربع وستين، قال ابن جرير في حوادث سنة (65هـ): «وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة»([101]). وقتل رئيس الأزارقة منهم: نافع بن الأزرق، وارتحلوا من حينها من نواحي البصرة والأهواز وأوغلوا شرقاً، فانتقلوا إلى أصبهان وكرمان وتمكنوا هناك، وخرجوا سنة اثنتين وسبعين، وغَلَبوا على البحرين([102])، ودُحِروا منها في سنة ثلاث وسبعين([103])، وخرجوا بعدها مرات عديدة، وبقيت لهم بقية في العراق في عهد الدولة العباسية، وقاموا بعدّة ثورات في خلافة الرشيد، وفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين ظهر خارجي ببلاد ربيعة، فقاتله نائب الموصل، فكسره وانهزم أصحابه([104])، وانتهى التطواف القلق بهم إلى الاستقرار في أماكن معينة، قال ابن حزم: «ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الإباضية والصفرية فقط» ([105]).

 

ويقول بعض معاصرينا عن أماكن وجودهم في زماننا: «وقد انقرض الخوارج إلا طائفة من الإباضية تقيم جهة عُمان، وفي جزيرة جربة تجاه تونس، وفي جنوبي الجزائر»([106]).

 

فصل

 

الخروج في عصرنا

 

هذه ومضة تاريخية سريعة، لا يسمح المقام بأكثر منها حول الخوارج، ولا بد من التنويه -أيضاً- على (ظاهرة الخروج في عصرنا)، فإنّ بسببها أُريقت دماء، وأُزهقت أرواح، تحت مسمى (الجهاد) و(القتال في سبيل الله)، وهي ظاهرة لها أسبابها ودوافعها، وهي في غاية التعقيد، ومن خلالها يظهر صحة ما عليه العلماء الربانيون وأئمة السنة في ترك الخروج على الحكام؛ إذ أن التغيير والإصلاح لا يتعلق بوجود القوة، أو الجماعة القادرة على الثورة، ولا على التخريج الفقهي لجواز الخروج، أو وجوبه، أو منعه، وإنما يتعلق بأمر آخر، أهمّ من هذا كله؛ وهو: تفكك المجتمع الإسلامي، وظهور العصبيات الجاهلية فيه، وتحكم الشُّبهات والشهوات في المسلمين، وبُعدُهم عن أحكام دينهم الحنيف اعتقاداً وعملاً؛ بُعداً يجعلهم -في أنفسهم- أحقرَ من أن تَسْمُو همَّتهم للعمل على إزالة المنكرات، وإقامة العدل، ويجعلهم عند ربِّهم أقلَّ شأناً من أن يستحقوا التكريم الإلهي بالحكم بشريعته، التي هي مصدر الأمن والاستقرار، وسبب الخير والرخاء؛ {وَكَذلك نُوَلّي بعضَ الظالمين بعضاً بما كَانوا يَكسِبون} [الأنعام: 129]، {إنّ اللهَ لا يُغَيِّر مَا بِقَوم حَتّى يُغَيِّروا ما بأنفسهم وإذا أرادَ اللهُ بِقَوم سُوءاً فلا مَرَدَّ له و مَا لَهُم مِن دونه مِن وَالٍ} [الرعد: 11]».

 

ويظهر صواب هذا الموقف من خلال خصائص (الحق) التي لا تنفك عنه، من ثبات أهله عليه، وانشراح صدورهم به، وطول مسيرتهم وظهور ثمارهم، ورحم الله ابن حزم لما قال: «نُوَّار الفتنة لا يعْقِدُ»([107]).

 

«والمعنى: أنّ للفتنة مظهراً خادعاً في مبدئه، قد يستحسن الناس صورتها، ويعقدون الآمال عليها، ولكن سرعان ما تموت وتتلاشى، مثل الزهرة التي تموت قبل أنْ تتفتح وتعطي ثمرتها.

 

وهذه الكلمة القصيرة؛ حكمة عظيمة من نتاج فكر الإمام ابن حزم      -رحمه الله-، الذي عاصر فتنة البربر في الأندلس، ورأَى بنفسه كيف أن الناس يعقدون على كل ثائر وثورة، وشرارة فتنة جديدة؛ آمالاً كبيرة في الإصلاح والتغيير، ولكن سرعان ما تتحول الآمال إلى مآسٍ وأحزانٍ، وضحايا وتدمير، وهذه الكلمة تنطبق على كل عصر ومصر، ويفترض بنا -نحن أبناء هذا العصر- أنْ نكون أكثرَ فهماً لمدلولها، واستحضاراً لمعانيها، إذ نعيش في زمن قلَّ فيه العلم، وعمَّ فيه الجهل، ورفع الغوغاء رؤوسهم، وغلبت على النفوس الشبهات والشهوات»([108]).

 

فصل

 

مظاهر الخروج الجديد ونواره الذي لم ولن يعقد،

 

ومن ذلك فتنة جهيمان والحرم المكي

 

وللخروج الجديد مظاهر، وبدا له (نوّار) في كثير من البلدان في أوقات متفرقات، ويا ليته (لم يعقد) فقط، وإنما أفسد أصحابه، بعدم معرفتهم بـ(واجب الوقت)، ومن أبرز (الأمثلة)([109]) على (نوّار الفتنة) الذي (لم يعقد) في القرن المنصرم:

 

فتنة جهيمان والحرم المكي

 

فتنة جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي في الحرم المكي، ابتدأت في وقت ظهر الثلاثاء الأول من المحرم، وانتهت بعصر الخميس السابع عشر([110]) من المحرم لسنة 1400هـ، وسببها الظاهر اعتقاد جماعة من خلال الرؤى وإسقاط أحاديث الفتن على غير وجهها([111])، أنّ رجلاً منهم -واسمه: محمد بن عبدالله القحطاني- هو المهدي، فدخلوا المسجد الحرام، وسفكوا فيه الدماء، وأبلغوا الناس عند المغرب: اليوم ستخسف الأرض بالجيش القادم إلينا، ولم تخسف الأرض بالطبع، فقالوا للناس: أُرجئَ الأمر أربعة أيام أخرى، وهلم جراً([112])، واستمر القتال عشرين يوماً تقريباً، وتوفّي فيها من الجيش الذي حاربهم (12) ضابطاً و(115) ضابط صف وجندي، وأُدخل المستشفيات للمعالجة من الإصابات (49) ضابطاً و(402) ضابط صف وجندي.

 

ونفّذ حكم القتل في (63) شخصاً من هؤلاء (بغاة الحرم)، وعثر على (15) جثة من هذه الفئة عند تطهير أقبية الحرم، وتم التعرف على أصحابها من قبل من اعتقلوا من هذه الفئة، وذكر أنّ (27) شخصاً من هذه الفئة قد توفّوا متأثرين بإصاباتهم، وأنّ عقوبة القتل قد خفضت إلى السجن لمدد مختلفة على (19) شخصاً، وأن عدد النساء والصبيان الذين وجدوا مع هذه الفئة قد بلغ (23)، وأن (38) شخصاً لم يثبت التحقيق اشتراكهم، وتمّ الإفراج عنهم([113]).

 

فهذه الفتنة العظيمة التي حلَّت بأرض الحرم المكي الشريف سببها عدم فقه إسقاط أحاديث الفتنة على الواقع، على الرغم من أن بعض رؤوس المشاركين فيها لهم اطلاع على الأحاديث، ودراية بأهمية الوقوف على الصحيح منها، ونبذ الواهي والضعيف، ووصفهم بيان هيئة كبار العلماء آنذاك في دورة مجلسهم الخامسة عشرة بأنهم «فئة ضالة آثمة؛ لاعتدائها على حرم الله، وسفكها فيه الدم الحرام، وقيامها بما يسبِّب فرقة المسلمين، وشق عصاهم»، ووصفوا بما دعت إليه هذه الفئة بأنه «بذور فتنة وضلال، وطريق إلى الفوضى والاضطراب، والتلاعب بمصالح العباد والبلاد، وأنّ دعواهم قد يغترّ بظاهرها السذّج، وفي باطنها الشر المستطير» وحذروا -جزاهم الله خيراً- المسلمين مما في تلك النشرات من التأويلات الباطلة، والشّبه الآثمة، والاتجاهات السيئة([114]).

 

ومن الجدير بالذكر هنا أمور:

 

أولاً: صلة هذه الفتنة بالعراق تظهر من خلال مقدمة؛ وهي: هل هذه الفرقة من الخوارج؟ فإن كانوا كذلك، فتكون هي من (المهيجات) التي جاءت من هناك، وخرجت من ضئضئ ذلك الرجل، الذي لو قتل، لارتاح الناس من شره، فهي حينئذٍ شر من تلك الشرارة.

 

ثانياً: نفى جهيمان في غير رسالة من رسائله أنهم من الخوارج، وذكر أن بعض العلماء وطلبة العلم الراكنين إلى المناصب والمراتب والرواتب ينعتهم بذلك!

 

ويفرق بين (الخارجيّ) و(الخارج بغياً عن الحكام) بقوله: «فمذهب الخوارج كفر، والخروج على الإمام ومنازعته ظلم، يجب ردع صاحبه عنه وقتله» ([115]). وبناءً عليه يقول عن نفسه وجماعته مع علماء عصره:

 

«وإن خالفْتَهم قتلوك بشبهة يُسكِتون بها الأرنبَ، فيقولون: هو خارجي، مع أن أرنبهم لا تعرف معنى الخارجي»([116])!!

 

ولا يخدعنّك تفريقه المذكور، فهو لعب بالألفاظ، لا تنويع فيه، فالخوارج -عند أهل التحقيق- ليسوا بكفار([117])، وأبرز شيء في دينهم التكفير بالكبيرة، والخروج على الحكام، وهو يلتقي معهم في الأمر الثاني، فاسمع إليه وهو يقرر في آخر رسالته «الإمارة والبيعة» (ص 37) بعد تقريره ضعف حديث أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1855)، وفيه: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم»، يقول:

 

«وعلى فرض صحته، فليس لهؤلاء الحكام فيه حجة؛ لأنه يقول «أئمتكم»؛ يعني: أئمة المسلمين، فهؤلاء الحكام ليسوا أئمة؛ لأن إمامتهم للمسلمين باطلة، ومنكر يجب إنكاره كما تقدم ذلك بالأدلة؛ لأنهم ليسوا من قريش، ولا يقيمون الدين، ولم يجتمع عليهم المسلمون، وإنما أصحاب ملك، سخروا المسلمين لمصالحهم، بل جعلوا الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية؛ فعطلوا الجهاد، ووالوا النصارى، وجلبوا علىالمسلمين كل شر وفساد».

 

فهو يلتقي في نظرته إلى الحكام مع الخوارج، من ضرورة الخروج عليهم، والزعم بأنهم ليسوا بأئمة! وقرر هذا في رسالة مفردة مطبوعة سمّاها «نصيحة الإخوان إلى المسلمين والحكام».

 

ويعجبني كلام الشيخ عبدالمحسن آل عبيكان، لما تكلم عن الخوارج، وذكر حادثة الحرم بإلماحة، وقال عن أصحابها:

 

«وهؤلاء الذين خرجوا (أي: مع جهيمان في حادثة الحرم) كانوا يزعمون أنهم أهل حديث([118])، ولكنهم ضالون وليسوا كذلك، فهم «يقولون من قول خير البرية» ([119])، ويزعمون أنهم من أهل الحديث، وأنهم يتمسكون بالسنة، وليسوا كذلك، ولم يفهموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هم حدثاء أسنان، وهذا معلوم، ومن أدرك تلك الوقعة علم أن أكثرهم من صغار السن، ومن سفهاء الأحلام، وأكثرهم من الجهلة، وليسوا من كبار الناس، ولا ممن يتصدر المجالس، فهذا الحديث صدق على هؤلاء القوم، حسب ما اجتهدت في تطبيقه، وعلى كل حال؛ فهم خارجون عن الطاعة، وخارجون على الإمام، وأنهم فعلوا فعلاً منكراً، ولا شك.

 

ولا يعني هذا أنّ الخوارج كفّار خارجون عن ملة الإسلام، فإن عليّاً    -رضي الله عنه- لم يكفرهم، ولكن يكفي أنهم أهل ضلال، وأنه ينبغي أنْ يُقاتلوا، وأنْ لا يبقى منهم أحد بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ فسادهم عظيم، وشرهم كبير.

 

ومما يذكر في هذا المقام، أنّ بعض العلماء أدخل حديث: «يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب»([120]) أدخلوه في باب المهدي، بينما أرى أنه ينطبق على من بويع في تلك الفتنة؛ لأنّ استحلال البيت لا يكون مع مبايعة المهدي، وقد حصل الاستحلال عند مبايعة ذلك الشخص في تلك الفتنة، والله أعلم».

 

وأخيراً... كان الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- يسمّيهم في بعض مجالسه بـ: (الخوارج)([121]).

 

وقال شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (5/278) تحت حديث رقم(2236)، ونصه: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إنّ بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة»:

 

«واعلم أيها الأخ المؤمن! أنّ كثيراً من الناس تطيش قلوبهم عند حدوث بعض الفتن، ولا بصيرة عندهم تجاهها، بحيث إنها توضح لهم السبيل الوسط الذي يجب عليهم أنْ يسلكوه إبانها، فيضلون عنه ضلالاً بعيداً، فمنهم -مثلاً- مَن ادّعى أنه المهدي أو عيسى؛ كالقاديانيين الذين اتبعوا ميرزا غلام أحمد القادياني، الذي ادعى المهدوية أولاً، ثم العيسوية، ثم النبوة، ومثل جماعة (جهيمان) السعودي، الذي قام بفتنة الحرم المكي على رأس سنة (1400) هجرية، وزعم أنّ معه المهدي المنتظر، وطلب من الحاضرين في الحرم أنْ يبايعوه، وكان قد اتبعه بعض البسطاء والمغفلين والأشرار من أتباعه، ثم قضى الله على فتنتهم بعد أنْ سفكوا كثيراً من دماء المسلمين، وأراح الله -تعالى- العباد من شرهم»([122]).

 

وفتنة المهدي والخوض فيها قديم، فها هو حفص بن غياث يقول: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبدالله! إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال: «إنْ مرَّ على بابك، فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه»([123])، وهذا تطبيق لقاعدة سلفية مهمة في الفتن، وهي الدوران مع النصوص، وعدم التعجل في إسقاطها، وضرورة فهمها على ظاهرها.

 

والغفلة في هذا الباب قاتلة([124])، وهي «زلة مضروب بها الطبل»([125])، وقد وقعت لبعض الأقدمين، فبُكِّت، وتُكلِّم معه شديداً.

 

نقل ابن سعد([126]) عن شيخه محمد بن عمر الواقدي في ترجمة (محمد ابن عجلان)، قال: «وخرج محمد بن عجلان مع محمد بن عبدالله بن حسن، حين خرج بالمدينة، فلما قُتِلَ محمدُ بن عبدالله وولي جعفر بن سليمان بن علي المدينة، بعث إلى محمد بن عجلان فأُتيَ به، فَبَكَّته وكلَّمه كلاماً، وقال: خرجتَ مع الكذّاب، وأَمَرَ به تُقْطع يده. فلم يتكلم محمد بن عجلان بكلمة، إلا أنه يحرّك شفتيه بشيء لا يدرى ما هو، يظن أنه يدعو، قال: فقام منْ حَضَر جعفرَ بن سليمان من فقهاء أهل المدينة وأشرافهم. فقالوا: أصْلَحَ الله الأمير، محمد بن عجلان فقيه أهل المدينة وعابدها! وإنما شُبِّه عليه وظن([127]) أنه المهديّ الذي جاءت فيه الرواية. فلم يزالوا يطلبون إليه حتى تركه، فولى محمد بن عجلان منصرفاً لم يتكلم حتى أتى منزله».

 

ومن الفتن التي (لم يعقد نوارها)، واصطلى المسلمون بنارها، وهي من مهيّجات فتن العراق، وكانت لرُقْعَتِها أثر قوي في استمرارها:

 

فصل

 

فتنة حماة

 

ما وقع في مدينة (حماة) سنة 1402هـ - 1982م، من أحداث شهر شباط، وانفجرت ثورة عارمة باسم (الإسلام) في سوريا، ووقع اشتباك بين مجموعة ثائرين للإسلام مع النظام السوري، وتركزت الأحداث في (حماة)، ودُمرَت بالقصف والتفجير والنسف أجزاءُ كبيرةٌ من المدينة، وخلف ذلك نحو خمسة وعشرين ألف قتيل، ودماراً هائلاً، شبّهته الصحافة الأجنبية بتدمير إحدى مدن الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن اعتقال الآلاف من سكانها، وتشريد عشرات الآلاف الآخرين داخل سورية وخارجها. ([128])

 

وتبع ذلك، انشطارات وانقسامات في جماعة الإخوان المسلمين، وقيادتها السورية ([129])، ........................................................... ورمى قسم منهم نفسه في أحضان العراق([130])، وراحوا يرددون: سنحرر سورية، بالدبابة العراقية والبندقية الفلسطينية، والبطل السوري!! وفتحت لهم من العراق إذاعة، بُحَّتْ أصواتُهم فيها للثورة، وبالنشيد لها، وكان لهم فيها معسكرات تدريب للجهاد -زعموا-، وأصبح لا يخلو واحد منها -فيما بعد- من سجن للعملاء المدسوسين فما بينهم على -زعم القائمين عليها- في فتنة عمياء، رسمت في ليلة ظلماء، وسفكت فيها الدماء، وتراشق الساعون والقائمون فيها بالويلات وعظائم الأمور، مما يعسر حصره، ولا يفيد في هذا المقام ضبطه وتعداده.

 

والذي أراه -والله أعلم- أنّ سبب هذه الفتن: العجلة، وعدم فقه واجب الوقت، وفقدان تربية العلماء على المنهج السلفي الرباني، وعدم التكييف الشرعي الصحيح لما يقومون به من مهالك ومصائب باسم الإسلام، وينطبق على هؤلاء نعت ابن خلدون، فها هو يقول عنهم، وكأنّه يريدهم بأسمائهم وشخوصهم:

 

«ممن أخذوا أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته».

 

ويقول: «إنّ كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين، يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر، والأمر بالمعروف، ورجاء الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم من الغوغاء والدهماء، يعرضون أنفسهم في ذلك إلى المهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، مأزورين غير مأجورين؛ لأنّ الله لم يكتب ذلك عليهم».

 

وقال عنهم -وأصاب كبد الحقيقة-: «لا يشعرون بمغبة أمرهم، ومآل أحوالهم، فهم موسوسون، يحتاج في أمرهم إلى المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل([131])(!!) أو الضرب إن أحدثوا هرجاً، وإما إذاعة السخرية منهم»([132]).

 

وكان شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- آنذاك ينهى هؤلاء عما يقومون به، وكان بعضهم يتندر به، بل اتهمه بعضهم -عامله الله بما يستحق- بأنه يهودي، وكم سمعنا آنذاك من أفراد (الإخوان المسلمين) تهكماً وسخرية من شيخنا (الألباني)؛ لأنه -في زعمهم- ينهاهم عن الجهاد، بل كان بعضهم يقول فيه: أشغل الناس بتحريك السبابة في الصلاة، وأما نحن فنشغلهم بتحريكها في الجهاد، وهذا مفكر منهم -زعموا- يقول عنه: يعلِّم الأمة الدخول إلى المسجد باليمين، ونحن نعلمهم كيف يتم تطهير المساجد من الكفار، وتحريرها منهم، فكم الفرق بيننا؟ نعم، إنه والله بعيد، وله أصول وجذور، وشتان بين ما يؤسس على الماء، ولا حقيقة له إلا الهباء، وبين تأسيس الفحول([133]) على منهج له أصول ثابتات راسخات، وفروع باسقات طاهرات، تأتي بأكلها كل حين بإذن ربها -عز وجل-.

 

فصل

 

فتنة الجزائر المتولّدة عن الخروج الأول في العراق

 

ومثل هذا: فتنة أخرى، أخذت مظهر (الثورة)([134]) و(الصدام العسكري المسلح) مع (السلطة)، وهي من (أعظم) ما جرى في هذا العصر من الفتن، ويشتدّ ذلك عندما نجد أنّ القائمين عليها منسوبون -زوراً وبهتاناً- (للسلفية)! مع أنّ أئمة الدعوة الكبار، تبرؤوا منها ومن أهلها، وحذروا القائمين عليها قبل أن يمتطوا ظهرها! ألا وهي:

 

* فتنة الجزائر وجبهة الإنقاذ الإسلامية

 

الكلام على هذه الفتنة يطول، إذ لها متفرعات وذيول، ولستُ بصدد ذكر الأحداث التفصيلية لها إذ ليس هذا مجاله، ولكني بصدد التمثيل على تولُّد هذه الفتنة من فتنة ذاك الرجل الخارجي الذي لو قُتل ما كانت فتنة بعدها([135])، فهذه الفتنة مع التي قبلها (فتنة حماة) متولّدتان من عرس الشيطان في العراق، لما باض وفرَّخ([136])، وظهرت هاتان الفتنتان لما «وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا»([137])، وكانوا سبباً لسفك الدماء، ومقتل الأبرياء.

 

وهذه الفتنة دخنها تحت أقدام أُناس يظهرون (السلفية)، وهم ليسوا كذلك، بل هم طاعنون في أئمتها، متربِّصون بها، ممن نهجوا (منهج الإخوان) ولهم تأثر بعمومات الدعوة السلفية، دون رسوخ في طريقة التغيير عندها، والوقوف على كلام أئمتها قديماً وحديثاً([138]).

 

ومما زاد وَحَل هذه (الفتنة):

 

أولاً: انتشار ذكرها بتأييد وإكبار على لسان الوعاظ والخطباء وطلبة العلم، وجلُّهم من مدرسة محمد سرور زين العابدين، لتوافق المشارب، واتحاد المذاهب!

 

ثانياً: زعْمُ الكثيرين من هؤلاء أنّ جبهة الإنقاذ امتداد لـ«جمعية العلماء» السلفية، التي كان العلامة السلفي عبدالحميد بن باديس من ورائها.

 

ثالثاً: الإشاعات المغرضة التي رافقتها، من أن علماء العصر كالشيخ الألباني، وابن باز([139]) -رحمهما الله- يؤيّدونها، ويدعون لها، وهم معها، وهي تسير بفتاويهم وتوجيهاتهم! وهذا -والله- الكذب الصُّراح، وكاتب هذه السطور شاهد عيان على ما جرى بينهم وبين العلامة المحدث شيخنا محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني -رحمه الله رحمة واسعة-، وهذا البيان:

 

أرسل القائمون على (الجبهة) المذكورة استفتاءً للشيخ الألباني في أصيل يوم الثلاثاء، الموافق للثامن عشر من شهر جمادى الآخرة، سنة 1412هـ عبر جهاز (الناسوخ) قبل يومين من الانتخابات العامة بالجزائر، فأرسل الشيخ ليلة اليوم الذي يليه عبر (الهاتف) إلى ثلاثة([140]) ممن يحسن الظن بهم، وأخبرهم أنّ الله -عز وجل- أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمشورة، وهذه الأسئلة      -وعددها ستة- تدور حول (الانتخابات) و(البرلمانات)، وهذا نصها مع أجوبتها بالحرف([141])، مأخوذة من خط الشيخ -رحمه الله-:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد؛ فإلى لجنة الدعوة والإرشاد في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

وبعد؛ فقد تلقيت أَصِيلَ هذا اليوم الثلاثاء الموافق للثامن عشر من شهر جمادى الآخرة سنة (1412هـ) رسالتكم المرسلة إليّ بواسطة (الناسوخ)، فقرأتها وعلمتُ ما فيها من الأسئلة المتعقلة بالانتخابات، التي قلتم إنها ستجري عندكم يوم الخميس؛ أي: بعد غد، ورغبتم مني التعجيل بإرسال أجوبتي عليها، فبادرت إلى كتابتها ليلة الأربعاء لإرسالها إليكم بـ(الناسوخ)  -أيضاً- صباح هذا اليوم -إن شاء الله-، شاكراً لكم حسن ظنكم بأخيكم وطيب ثنائكم عليه الذي لا يستحقه، سائلاً المولى -سبحانه وتعالى- لكم التوفيق في دعوتكم وإرشادكم.

 

وإليكم الآن ما يَسَّر الله لي من الإجابة على أسئلتكم، راجياً من المولى -سبحانه وتعالى- أن يلهمني السداد والصواب في ذلك:

 

السؤال الأول: ما الحكم الشرعي في الانتخابات التشريعية (ما يسمى بالبرلمان) التي نسعى من خلالها إلى إقامة الدولة الإسلامية، وإقامة الخلافة الراشدة؟

 

الجواب: إن أسعد ما يكون المسلمون في بلادهم يوم ترفع راية (لا إله إلا الله)، وأن يكون الحكم فيها بما أنزل الله، وإن مما لا شك فيه، أن على المسلمين جميعاً -كل حسب استطاعته- أن يسعوا إلى إقامة الدولة المسلمة، التي تحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج السلف الصالح، ومن المقطوع به عند كل باحث مسلم، أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، وأول ذلك: أن يقوم جماعة من العلماء بأمرين هامين جدّاً:

 

الأول: تقديم العلم النافع إلى من حولهم من المسلمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يقوموا بتصفية العلم الذي توارثوه مما دخل فيه من الشركيات والوثنيات حتى صار أكثرهم لا يعرفون معنى قولهم: (لا إله إلا الله)، وأنّ هذه الكلمة الطيبة تستلزم توحيد الله في عبادته -تعالى- وحده لا شريك له، فلا يستغاث إلا به، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، وأن لا يعبدوه -تعالى- إلا بما شرع الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ هذا من مستلزمات قولهم: (محمد رسول الله)، وهذا يقتضيهم أن يُصَفُّوا كتب الفقه مما فيها من الآراء والاجتهادات المخالفة للسنة الصحيحة، حتى تكون عبادتهم مقبولة، وذلك يستلزم تصفية السنة مما دخل فيها -على مر الأيام- من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، كما يستلزم ذلك تصفية السلوك من الانحرافات الموجودة في الطرق الصوفية، والغلو في العبادة والزهد، إلى غير ذلك من الأمور التي تنافي العلم النافع.

 

والآخر: أن يُرَبُّوا أنفسهم وذويهم ومن حولهم من المسلمين على هذا العلم النافع، ويومئذ يكون علمهم نافعاً وعملهم صالحاً؛ كما قال -تعالى-: {فَمَن كَان يَرجُو لِقَاء ربِّه فَليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربِّه أَحَداً} [الكهف: 11]، وحينئذٍ إذا قامت جماعة من المسلمين على هذه التصفية والتربية الشرعية، فسوف لا تجد فيهم من يختلط عليه الوسيلة الشركية بالوسيلة الشرعية؛ لأنهم يعلمون أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة بمقاصدها ووسائلها، ومن مقاصدها -مثلاً-: النهي عن التشبه بالكفار وتبني وسائلهم ونظمهم التي تتناسب مع تقاليدهم وعاداتهم. ومنها: اختيار الحكام والنواب بطريقة الانتخابات، فإن هذه الوسيلة تتناسب مع كفرهم وجهلهم الذي لا يفرق بين الإيمان والكفر، ولا بين الصالح والطالح، ولا بين الذكر والأنثى، وربنا يقول: {أَفَنجعَل المسلمين كالمجرمين . مَا لكم كيف تَحكُمون}  [القلم: 35-36] ويقول:{وَلَيس الذّكر كالأنثى} [آل عمران: 36].

 

وكذلك يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بدأ بإقامة الدولة المسلمة بالدعوة إلى التوحيد، والتحذير من عبادة الطواغيت، وتربية من يستجيب لدعوته على الأحكام الشرعية، حتى صاروا كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى، كما جاء في الحديث الصحيح، ولم يكن فيها من يُصِرُّ على ارتكاب الموبقات والربا والزنا والسرقات إلا ما ندر.

 

فمن كان يريد أن يقيم الدولة المسلمة حقّاً لا يُكتّل الناس ولا يجمعهم، على ما بينهم من خلاف فكري وتربوي، كما هو شأن الأحزاب الإسلامية المعروفة اليوم، بل لا بد من توحيد أفكارهم ومفاهيمهم على الأصول الإسلامية الصحيحة: الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح كما تقدم، {وَيَومئذ يَفرَح المُؤمنون بِنَصر الله} [الروم: 4-5].

 

فمن أعرض عن هذا المنهج في إقامة الدولة المسلمة وسلك سبيل الكفار في إقامة دولتهم؛ فإنما هو (كالمستجير بالرمضاء من النار)! وحَسْبُه خطأً -إن لم أقل: إثماً- أنه خالف هديه صلى الله عليه وسلم ولم يتخذه أسوة، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {لَقَد كَان لَكُم في رَسُول اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ لِمَن كَان يَرجُو اللهَ واليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كثيراً}.

 

السؤال الثاني: ما الحكم الشرعي في النصرة والتأييد المتعلقين بالمسألة المشار إليها سابقاً (الانتخابات الشرعية)؟

 

الجواب: في الوقت الذي لا ننصح أحداً من إخواننا المسلمين أن يرشِّح نفسه ليكون نائباً في برلمان لا يحكم بما أنزل الله، وإن كان قد نص في دستوره: (دين الدولة الإسلام)، فإنّ هذا النص قد ثبت عمليّاً أنه وضع لتخدير أعضاء النواب الطيِّبي القلوب!! ذلك لأنه لا يستطيع أن يغير شيئاً من مواد الدستور المخالفة للإسلام، كما ثبت عمليّاً في بعض البلاد التي في دستورها النص المذكور.

 

هذا إن لم يتورط مع الزمن أن يُقر بعض الأحكام المخالفة للإسلام، بدعوى أنّ الوقت لم يحن بعدُ لتغييرها، كما رأينا في بعض البلاد؛ يُغَيِّر النائب زيّه الإسلامي، ويتزيّا بالزي الغربي مسايرة منه لسائر النواب! فدخل البرلمان ليُصلِح غيره فأفسد نفسه، وأوَّل الغيث قطرٌ، ثم ينهمر! لذلك فنحن لا ننصح أحداً أن يرشح نفسه، ولكن لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشَّحين من يعادي الإسلام وفيهم مرشَّحون إسلاميون من أحزاب مختلفة المناهج، فننصح -والحالة هذه- كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط، ومن هو أقرب إلى المنهج العلمي الصحيح الذي تقدم بيانه.

 

أقول هذا -وإن كنت أعتقد أنّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود كما تقدم بيانه- من باب تقليل الشر، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، كما يقول الفقهاء.

 

السؤال الثالث: حكم خروج النساء للانتخابات؟

 

الجواب: يجوز لهن الخروج بالشرط المعروف في حقهن؛ وهو أن يتجلببن الجلباب الشرعي، وأن لا يختلطن بالرجال، هذا أولاً.

 

ثم أن ينتخبن من هو الأقرب إلى المنهج العلمي الصحيح من باب دفع المفسدة الكبرى بالصغرى كما تقدم.

 

السؤال الرابع: الأحكام الشرعية المتعلقة بأنماط العمل الشرعي في (البرلمان) ورجالاته؟

 

الجواب: فنقول: هذا سؤال غامض مرادكم منه غير ظاهر لنا؛ ذلك لأنّ المفروض أن النائب المسلم لا بد أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية على اختلاف أشكالها وأنواعها، فإذا ما طرح أمر ما على بساط البحث فلا بد أن يوزن بميزان الشرع، فما وافق الشرع أيده، وإلا رفضه؛ كالثقة بالحكومة، والقَسَم على تأييد الدستور ونحو ذلك!!

 

وأما رجالات البرلمان! فلعلكم تعنون: ما موقف النواب الإسلاميين من رجالات البرلمان الآخرين؟ فإن كان ذلك مرادكم، فلا شك أنه يجب على المسلمين -نواباً وناخبين- أن يكونوا مع من كان منهم على الحق؛ كما قال رب العالمين: {وَكُونوا مَعَ الصّادِقين} [التوبة: 119].

 

وأما السؤال الخامس والسادس: فجوابهما يُفهم مما تقدم من الأجوبة.

 

ونضيف إلى ذلك، أنْ لا يكون همُّكم -معشر الجبهة الإسلامية!- الوصول إلى الحكم قبل أن يصبح الشعب مهيَّئاً لقبول الحكم بالإسلام، ولا يكون ذلك إلا بفتح المعاهد والمدارس التي يتعلم فيها الشعب أحكام دينه على الوجه الصحيح، ويربَّى على العمل بها، ولا يكون فيهم اختلاف جذري ينشأ منه التحزب والتفرق، كما هو الواقع الآن مع الأسف في الأفغان، ولذلك قال ربنا في القرآن: {وَلا تَكُونوا مِنَ المُشركين مِن الّذين فَرّقوا دِينَهم وَكانوا شِيَعاً كُلُّ حِزبٍ بما لَدَيهم فَرِحون} [الروم: 31-32]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله» رواه مسلم.

 

فعليكم إذن بالتصفية والتربية بالتأني؛ فإنّ «التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان»، كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام([142])-، ولذلك قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، ومن رأى العبرة بغيره فليعتبر، فقد جرب بعض الإسلاميين من قبلكم في غير ما بلد إسلامي الدخول في البرلمان بقصد إقامة دولة الإسلام، فلم يرجعوا من ذلك ولا بخفي حنين! ذلك لأنهم لم يعملوا بالحكمة القائلة: «أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم»، وهكذا كما قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم.

 

فالله -سبحانه وتعالى- أسأل أن يلهمنا رشدنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، ويهدينا للعمل بشرعة ربنا، متبعين في ذلك سنة نبينا ومنهج سلفنا، فإن الخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع، وأن يفرج عنا ما أهمَّنا وأغمَّنا، وأن ينصرنا على من عادانا، إنه سميع مجيد.

 

عمان صباح الأربعاء 19 جمادى الآخرة سنة 1412هـ.

 

وكتب

 

محمد ناصر الدين الألباني أبو عبدالرحمن

 

وسمعت الشيخ الألباني -رحمه الله- بعد صياغته للأجوبة، والفراغ منها، التأسُّف على ما آل إليه حال المسلمين، ويشكو من عجلة الشباب وتهوّرهم، وأنّ الجزائريين معروفون بحدّتهم، ويخشى على خيارهم من فتنة عظيمة، قد تصل إلى إراقة الدماء، وزجّ بمئات أو ألوف -وقد يزيد- في السجون! إي والله! إني سمعت ذلك بأُذنَيَّ منه، ووعاه قلبي، ثم بعد فترة غير بعيدة من الزمن قرأت كلاماً للعلامة السلفي الجزائري محمد البشير الإبراهيمي، كتبه سنة 1964م، ونشره في جريدته «البصائر» -وكأنه مكتوب بعد الذي حصل في الجزائر-، فتذكرت كلام شيخنا الألباني، فقرأته عليه في مجلس علمي في مكتبته، فأعجب الشيخ -رحمه الله تعالى-، وهذا نصُّه وفصُّه:

 

«أما في الجزائر؛ فالانتخابات -منذ سنّت لعبة لاعب، وسخرية ساخر، ورهينة استبداد، ولدت شوهاء ناقصة، وما زالت متراجعة ناكصة، وضعت من أول يوم على أسوأ ما يعرف من التناقض، وأشنع ما يُعلم من التحكم والميز والعنصرية، وهو تمثيل الأكثرية في المجالس المنتخبة للأقلية من السكان، ولأقلية فيها للأكثرية منهم، قد كانت هذه الانتخابات شرّاً مستطيراً على الأمة الجزائرية، وأفتك سلاح رماها به الاستعمار، بعد أن نظر النظر البعيد، وكانت ضربة قاضية على ما كانت تصبو إليه وتستعد من وحدة الكلمة واجتماع الشمل، فكلما جهد المصلحون جهدهم في جمع كلمتها -وكادوا يفلحون- جاءت هذه الانتخابات فهدمت ما بنوا وتبرته تتبيراً؛ كان هذا كله قبل أن تقف الحكومة مواقفها المعروفة في انتخابات السنة الماضية، أما بعد أن ظهرت بذلك المظهر، وسنت للانتخابات الجزائرية دستوراً عنوانه: «الحيف والسّيف»، وارتكبت فيها تلك الفضائح التي يندى لها الجبين خجلاً، والتي يأنف الفرد المستبد من ركوبها فضلاً عن حكومة جمهورية في مظهرها، ديمقراطية في دعواها، فإنّ الانتخاب أصبح وبالاً على الأمة ووباء، وذهب بالبقايا المدخرة فيها من الأخلاق الصالحة هباء، وأصبحت هذه الكراسي عاملاً قويّاً في إفساد الرجولة والعقيدة والدين، وإمراض العزائم والإرادات، وفيها من معاني الخمر أنّ من ذاقها أدمن، وفيها من آفات الميسر أن من جرّبها أمعن، وقد كنا نخشى آثارها في تفريق الشمل وتبديد المال، فأصبحنا نخشاها على الدين والفضيلة، فإنّ الحكومة اتخذت منها مقادة محكمة الفتل لضعفاء الإيمان ومرضى العقيدة وأسرى المطامع منا، وما أكثرهم فينا، خصوصاً بعد أن أحدثت فيها هذه الأنواع التي تجر وراءها المرتبات الوافرة، والألقاب المغرية.

 

ليت شعري؛ إلى متى تتناحر الأحزاب على الانتخاب وقد رأوا بأعينهم ما رأوا؟ وعلام تصطرع الجماعات؟ وعلام تنفق الأموالُ في الدعايات والاجتماعات إذا كانت الحكومة خصماً في القضية لا حكماً؟ وكانت تعتمد في خصومتها على القوة وهي في يدها، وكانت ضامنة لنفسها الفوز في الخصومة قبل أن تنشب، ويحٌ للأمة الجزائرية من الانتخاب، وويل للمفتونين به من يوم الحساب»([143]).

 

وكان الشيخ -رحمه الله تعالى- يسئل عما يجري في (الجزائر)، وهل يبشّر بخير وتمكين للمسلمين؟ فكان لا يزيد على قوله: «فقاقيع صابون»، سمعته أُذناي، ووعاه قلبي.

 

وأما (الجبهة)، فقد زادوا أتون (الفتنة)، بأن أخذوا من (ناسوخ)([144]) الشيخ الألباني المرسل لهم ما يفهم الناس أن الشيخ يؤيدهم، وكتموا الباقي، وركبوا رأسهم، ولم ينزلوا عند توجيهات العلماء، فكان ما كان، والله المستعان، وعليه التكلان.

 

وذهب ضحية هذه الفتنة عشرات الألوف([145]) من الشباب، وفرّ قسم منهم في الجبال، وبايعوا (أميراً) لهم، وحصل بينهم خلاف، وانقسموا فرقاً([146])، شأن سنة الله في أهل الباطل، وولغ بعضهم في دماء بعض، بل حدثني -عبر الهاتف واحد من كبائرهم- ممن تاب([147]) أنّ النساء اللاتي في الجبل، كن يؤخذن سبايا للأمراء بعد الافتراق، وتحل الفروج باسم الجهاد، فعلى العلم والفهم، والدين والخلق والأعراض سلام؟!

 

وكان هؤلاء بين الحين والحين يقومون بالغزو -على تسميتهم-، ويرتكبون المجازر ويفخخون السيارات، ويثورونها في أماكن ازدحام الناس، مما سببوا قتل عدد غير قليل من الأبرياء!

 

ونشرت بعض الصحف([148]) على لسان بعض التائبين من هؤلاء مقالةً تحت عنوان (كنا ضحايا فتاوى السلفية)، وهذا كذب، بل أولئك سلموا أنفسهم لقادة ساقوهم باسم الدين، والكذب على العلماء السلفيين؛ مثل: ابن باز([149])، والألباني، وابن عثيمين([150]) -رحمهم الله تعالى-، فأوهموهم أنّ العلماء معهم، وأنهم ينزلون عند تقريراتهم، ويسيرون بفتاواهم وتوجيهاتهم!

 

والأمر ليس كذلك، بل هم يقرون أنّ الذي جرى في الجزائر ليس إلا على منهج (الخوارج)!

 

فها هو شيخنا الألباني يقول عما حصل في الجزائر بعد كلام: «فإذا كان السؤال إذاً بأنَّ هؤلاء حينما يفخِّخون -كما يقولون- بعض السيارات ويفجِّرونها، تصيب بشظاياها من ليس عليه مسؤولية إطلاقاً في أحكام الشرع، فما يكون هذا من الإسلام إطلاقاً، لكن أقول: إنَّ هذه جزئية من الكُليَّة، أخطرها هو هذا الخروج الذي مضى عليه بضع سنين، ولا يزداد الأمر إلا سوءاً، لهذا نحن نقول: إنَّما الأعمال بالخواتيم، والخاتمة لا تكون حسنةً إلا إذا قامت على الإسلام، وما بُني على خلاف الإسلام فسوف لا يُثمر إلا الخراب والدَّمار»([151]).

 

فالشيخ الألباني -رحمه الله- يرى أنّ هذه المفاسد، من إراقة الدماء، وزعزعة الأمن، سببه (الخروج) الذي وقع في الجزائر، واستمر عليه (الخارجون) بضع سنين.

 

وبلا شك أن قتل المسلمين -أفراداً وجنوداً- لبعضهم بعضاً، واستحلال ذلك، هو عين مذهب الخوارج، وإن لم يقع التصريح بالتكفير بالكبيرة!!

 

ولذا لما سئل فقيه الزمان الشيخ ابن عثيمين عما يجري في الجزائر، فقيل له: تنطلق بعض الجماعات في محاربتها لأنظمتها من قاعدة تقول: «إنَّ محاربة الدول الإسلامية أوْلى من محاربة الدول الكافرة كفراً أصليّاً؛ لأنَّ الدول الإسلامية مرتدَّةٌ، والمرتدُّ مقدَّمٌ في المحاربة على الكافر، فما مدى صحة هذه القاعدة؟

 

فأجاب الشيخ -رحمه الله تعالى- بقوله: «هذه القاعدة هي قاعدة الخوارج الذين يقتلون المسلمين ويَدَعون الكافرين، وهي باطلة»([152]).

 

ولا أشك أنّ مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذي فيه ذكر الخوارج أفعالاً ومخالفاتٍ حذر منها، وليست العبرة بالاصطلاحات([153]) التي تواطأ عليها العلماء.

 

وعليه؛ فلا يقال: هذه خرجت من أُناس سلفيين! عندهم بعض الأخطاء، وليسوا من الخوارج، فلا صلة لهذه الأحداث بما هُيِّج من فتن (العراق)!! بل هي خرجت من تحت قدمي أصناف، لهم وفاق وفراق مع (الخوارج)، بل بعضهم يتطابق معهم في دينه، ولا ينفك عنهم قيد أُنملة([154])، وقد أفصح عن هذه الأنواع بعضُ من تاب الله عليهم، عندما رجعوا إلى رشدهم وصوابهم، واتّصل بالعلماء الربانيين، وطلبة العلم، المتقدّمين النابهين، ولمزيد البيان والإيضاح أنقل لإخواني القراء الكرام ما جرى بين هؤلاء والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-:

 

حوار([155]) بين ثوار الجزائر برؤوس الجبال مع العلاّمة ابن عثيمين بتاريخ: 1 رمضان 1420هـ

 

قال السائل: نحن أوّلاً: نُعلمكم أنَّ الذي يُخاطبكم الآن هم إخوانك المقاتلون، وبالضبط المقاتلون من (الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، ونحن طبعاً سننقل كلامَكم -إن شاء الله عزَّ وجلَّ- إلى جميع إخواننا المقاتلين في هذه الجماعة وغيرها -أيضاً-.

 

وذلك بعد أن بلغنا نداؤكم ونصيحتكم المؤرَّخة بتاريخ 13 من شهر صفر من العام الحالي.

 

والجدير بالذِّكر أنَّ نداءَكم ذلك لم يصل إلينا إلا منذ شهر ونصف، وهناك من الإخوة من لم يصلهم حتى الآن، هذا من جهة.

 

ومن جهة أخرى، فإنَّ الكثير من الإخوة مِمَّن بلغَتْهم نصيحتكم وقعت لهم شبهةٌ حالت دون الاستجابة لِما دعوتم إليه، فكان لا بدَّ إذاً من إجراء هذا الحوار الجديد مع فضيلتكم؛ أملاً أن نتمكَّن من خلاله من الإجابة على جميع التساؤلات المطروحة، وإزاحة جميع الشُّبه، وبيان الحقِّ البواح؛ حتى نصبح على مثل المحجَّة البيضاء، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.

 

وعلى هذا الأساس، فإننا نلتمس من سماحتكم -حفظكم الله- إعطاءنا أكبر قدر من وقتكم، وأن تسهبوا في الشرح والبيان؛ لأنه لا يخفى عليكم -يا شيخنا!- أنَّ الإخوة عندنا قد رسَّختْ فيهم سنوات القتال أفكاراً وعقائد ليس من السهل -يا شيخ!- ولا من البسيط التخلي عنها واعتقاد بطلانها، إلا ببيان شافٍ منكم، وذلك لما لكم في قلوب الإخوة عندنا من عظيم المنزلة، ووافي التقدير والإجلال والاحترام؛ لأننا نعتقد أنكم من أعلام أهل السنة والجماعة في هذا العصر.

 

وإليكم الآن الشبه المطروحة -يعني: عندنا-.

 

الشيخ: دعني أتكلَّم قليلاً، ثم قال:

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد، فإنني من عنيزة القصيم -المملكة العربية السعودية- وفي أول يوم من رمضان عام عشرين وأربع مئة وألف، أتحدث إلى إخواني في الجزائر، وأنا: محمد بن صالح آل عثيمين.

 

أقول لهم: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرَّر في حجَّة الوداع تحريمَ دمائنا وأموالنا وأعراضنا تقريراً واضحاً جليّاً، بعد أن سأل أصحابه عن هذا اليوم، والشهر، والبلد، وقال: «إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟»([156]).

 

فهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، لا يختلف فيه اثنان، والإخوة الذين قاتلوا في الجزائر منذ سنوات قد يكون لهم شبهة، ففي أوَّل الأمر، حينما اتَّجه الشعب الجزائري إلى جبهة الإنقاذ، وعلت أصواتهم لصالح الجبهة، ولكن... هذه الجبهة، حتى سيطر غيرُها، ولا شكَّ أنَّ هذا مؤسفٌ، وأنّ الواجب اتِّباع الأكثر الذي وافق ما ينبغي أن تكون عليه الأمة الجزائرية، من قول الحقِّ واتِّباع الحقِّ.

 

ولكن هذا لا يقتضي ولا يسوِّغ حمل الإخوةِ السلاحَ بعضِهم على بعض، وكان الواجب عليهم من أول الأمر أن يمشوا ويُكثِّفوا الدعوة إلى تحكيم الكتاب والسنة، وفي الجولة الأخرى، تكون أصواتهم...، ويكون وزنُهم في الشعب الجزائري أكبر، ولكن نقول: قَدَرُ الله وما شاء فعل، لو أراد الله أن يكون ما ذكرتُ لكان.

 

والآن، أرى أنَّه يجب على الإخوة أن يَدَعوا هذا القتال، لا سيما وأنَّ الحكومة الجزائرية عرضت هذا، وأمَّنت من يَضَع السلاح، فلم يبق عذرٌ.

 

والجزائر الآن تحمل الويلات بعد الويلات مما كانت عليه، وكنَّا قد تفاءلنا خيراً، حينما تولَّى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وهدأت الأمور بعض الشيء.

 

لكننا -مع الأسف- سمعنا أنه حصل بعض العنف في هذه الأيام القريبة، وهو مِمَّا يُؤسف له أن يعود العنف إلى الجزائر المسلمة... شهر رمضان المبارك.

 

والذي يجب على المسلمين أن يجمعوا كلمتهم على الحقِّ، في رمضان وفي غيره، لكن في رمضان أوكد.

 

فنصيحتي لإخوتنا المقاتلين...

 

ثم قاطعه السائل قائلاً: ... أحيطكم به علماً -يعني- حتى يخرج جوابكم موافقاً أو نافعاً للإخوة، يعني كأنكم تعتقدون أو تظنون أنَّ الذي يخاطبكم الآن هم أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ يا شيخ! الآن الساحة القتالية الجزائرية تضمُّ ثلاث فصائل([157]):

 

- أتباع (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الذين خرجوا من أجل الانتخابات، وهلمَّ جرّاً تلك الأمور.

 

- وهناك (الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، التي نكلِّمكم باسمها، ونحن من أعضائها، هذه -يا شيخ- ليس لها علاقة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، وليس لها علاقة بالتحزُّب، وليس لها علاقة بالانتخاب، إنّما خرجت بناء على اعتقادها كفر هذا الحاكم، وجواز الخروج عليه.

 

- وهناك طائفة ثالثة -يا شيخ- (الهجرة والتكفير)، هذه التي لا زالت تمارس العنف، ولا تستمع إلى العلماء، أمَّا نحن المقاتلون في (الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، فكما أسلفت لك منذ قليل نحب العلماء ونجُّلهم، خصوصاً علماء أهل السنة والجماعة كأمثالكم، ونأخذ بأقوالهم، غير أنه -كما ذكرتُ لك- هناك بعض التساؤلات والشبه حالت دون أن يُتلقّى كلامُكم بالقبول التام.

 

الشيخ: فهمتُ من كلامك الآن أنكم ثلاثة أقسام: جبهة الإنقاذ، الجماعة السلفية، والجماعة التكفيرية، هكذا؟

 

السائل: أي نعم، جيّد يا شيخ!

 

الشيخ: أما جبهة الإنقاذ، فأظنّها أنّها وافقت المصالحة؟

 

السائل: أي نعم، هم الآن في هُدنة يا شيخ!

 

الشيخ: أما الجماعة السلفية؛ فأرى أن يُوافقوا؛ لأنه مهما كان الأمر، الخروج على الحاكم -ولو كان كفرُه صريحاً مثل الشمس- له شروط، فمن الشروط: ألا يترتب على ذلك ضررٌ أكبر، بأن يكون مع الذين خرجوا عليه قدرة على إزالته بدون سفك دماء، أما إذا كان لا يمكن بدون سفك دماء، فلا يجوز؛ لأنَّ هذا الحاكم -الذي يحكم بما يقتضي كفره- له أنصار وأعوان لن يَدَعوه.

 

ثمَّ ما هو ميزان الكفر؟ هل هو الميزان المزاجي -يعني- الذي يوافق مزاج الإنسان لا يكفر، والذي لا يوافقه يكفر؟! من قال هذا؟!

 

الكفر لا يكون إلا من عند الله ومن عند رسوله، ثم إن له شروطاً، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا تحدَّث عن أئمة الجوْر -وقيل له: أفلا ننابذهم- قال: «لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»([158])، وأين هذا؟

 

كثيرٌ من الإخوة -ولا سيما الشباب- الكفر عندهم عاطفي، مزاجي، ليس مبنيّاً على شريعة، ولا صدر عن معرفة بشروط التكفير، لهذا نشير إلى إخواننا في الجزائر أن يضعوا السّلاحَ، وأن يدخلوا في الأمان، وأن يُصلحوا بقدر المستطاع بدون إراقة دماء، هذا هو الذي يجب علينا أن نناصحهم به، ومن وُجِّهت إليه النصيحة، فالواجب عليه على الأقل أن يتأنَّى وينظر في هذه النصيحة، لا أن يردَّها بانزعاج واستكبار وعناد، نسأل الله -تعالى- أن يُطفئ الفتنة، وأن يزيل الغُمَّة عن إخواننا في الجزائر.

 

السائل: هم الإخوة عندنا يعتمدون في الحكم بكفر حاكمهم على فتوى للشيخ ناصر الدِّين الألباني قديمة بُنيت -والله أعلم- على واقع غير صحيح([159])، يعتمدون علىهذا -يعني: في تكفير حاكمهم- وبالتالي، وكذلك هناك بعض طلبة العلم -أيضاً- يعتمدون عليهم في هذه المسألة، وعلى هذا الأساس فعندما ناديتموهم بوضع السلاح -مع اعتقادهم كفر حاكمهم- شقَّ ذلك عليهم كثيراً -يعني- وكبُر عليهم كثيراً -يعني- وضع السلاح والعودة تحت حكم من يعتقدون كفره -يعني- هذه معضلة كيف حلُّها يا شيخ؟

 

الشيخ: والله ليست معضلة؛ أوَّلاً: ننظر هل هناك دليل على كفر هذا الحاكم، والنظر هنا من وجهين:

 

الوجه الأول: الدليل على أنَّ هذا الشيءَ كفرٌ.

 

الثاني: تحقق الكفر في حقِّ هذا الفاعل؛ لأنَّ الكلمة قد تكون كفراً صريحاً، ولكن لا يكفر القائل، ولا يخفى علينا جميعاً قول الله -عزَّ وجلَّ-: {من كفر من بعد إيمانه إلا مَن أُكره وقلبُه مُطمئنٌّ بالإيمان ولكنْ مَن شَرَحَ بالكُفر صَدراً فَعليهم غضبٌ من الله وَلَهُم عذابٌ عظيم}[النحل: 106]، رفع الله -عزَّ وجلَّ- حكم الكفر عن المكره وإن نطق به.

 

ولقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الربَّ -عزَّ وجلَّ- أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من رجل فقد راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فلمَّا أَيِس منها اضطجع تحت شجرة، فبينما هو كذلك إذا بناقته حضرت، فأخذ بزمامها وقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخطأ من شدة الفرح»([160]).

 

وكذلك الرجل الذي كان... وقال: «لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما يعذبه أحداً من العالمين، فأمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه في اليم، فجمعه الله وسأله؟ فقال: فعلت ذلك خوفاً منك يا رب»([161])، ولم يكفر.

 

الحاكم قد يكون عنده حاشية خبيثة، ترقق له الأمور العظيمة وتسهلها عليه، وتزينها في نفسه، فيمضي فيما يعتقد أنه حلال، ولكنه ليس بكفر، ولا أظن أحداً من الجزائريين يقول: نعم! أنا أعلم أنّ هذا حكم الله ولكني أخالفه، ما أظن أحداً يقول ذلك عن عقيدة، فإنْ كان قد يقوله في باب المناظرة، لكن عن عقيدة لا يمكن فيما أظن؛ لأن شعب الجزائر شعب مسلم، وهو الذي أخرج الفرنسيين عن إكراه من أرضه، فالواجب على هؤلاء أن ينظروا في أمرهم، وأن يلقوا السلاح، وأن يصطلحوا مع أمتهم، وأن يبثوا الدعوة إلى الله بتيسير... لا بعنف، نعم!

 

السائل: شيخنا -حفظكم الله- هل يستلزم -يعني: لو فرضنا كفر الحاكم- هل يستلزم الخروج عليه بدون شروط يعني؟

 

الشيخ: لا! لا بد من شروط، ذكرتها آنفاً.

 

السائل: أي نعم!

 

الشيخ: لو فرض أنه كافر مثل الشمس في رابعة النهار، فلا يجوز الخروج عليه إذا كان يستلزم إراقة الدماء، واستحلال الأموال.

 

السائل: الآن -يعني- بعض الإخوة عندنا مثلاً يقولون إنهم ما داموا خرجوا وحملوا السلاح وخاضوا هذه الحرب مع هذا النظام، هم اليوم وإن اعتقدوا أن ما هم فيه ليس بجهاد؛ لأنهم كما ذكرتم لم يستوفوا الشروط، لكن رغم ذلك يسألون: هل يمكنهم رغم ذلك المواصلة وإن أيقنوا الفناء والهلاك، أم يهاجرون، أم ماذا؟

 

الشيخ: والله! لا يجوز لهم، والله! لا يجوز لهم المضي فيما هم عليه من الحرب الآن؛ إذ أنها حرب عقيم ليس لها فائدة ولا تولد إلا الشر والشرر.

 

السائل: أي نعم، شيخنا هم -يعني- إذاً أنتم لا تعتقدون كفر حاكم الجزائر يعني، فترون ذلك؟

 

الشيخ: لا نرى أن أحداً كافر إلا من كفره الله ورسوله وصدقت عليه شروط التكفير، من أي بلد، ومن أي إنسان، الكفر ليس بأيدينا، وليس إلينا، بل هو إلى الله ورسوله، إنّ الرجل إذا كفر أخاه وليس بكافر عاد الأمر إليه: المكفِّر، وكفر إلا أن يتوب.

 

السائل: شيخنا! بعض الإخوة عندنا -بعد أن سلموا بأن هذا ليس بجهاد على وفق ما ذكرتم يعني- لم يثقوا في الحكومة -يعني- نسبيّاً، فيسألون هل يجوز لهم المكث في الجبال دون الرجوع إلىالحياة المدنية بدون قتال       -يعني- يبقون بأسلحتهم في الجبال ويتوقفون عن القتال، لكن لا يرجعون إلى الحياة المدنية؟

 

الشيخ: أقول: إنهم لن يبقوا على هذه الحال، مهما كان الحال، ولا بد أن تحركهم نفوسهم في يوم من الأيام حتى ينقضوا على أهل القرى والمدن، فالإنسان مدني بالطبع.

 

يبقى في رؤوس الجبال وفي تلالها وشعابها، ومعه السلاح؟!

 

في يوم من الأيام لا بد أن تهيجهم النفوس حتى يكونوا قطاع طرق!

 

السائل: إذاً لا يجوز لهم المكث على هذه الحال؟

 

الشيخ: هذا ما أراه، أرى أن ينزلوا للمدن والقرى لأهليهم وذويهم وأصحابهم.

 

السائل: يعني الآن ما يجب على كل -في حالة إذا لم تستجب القيادة لندائكم هذا، إذا لم تستجب يعني- إذا لم تستجب رؤوس المقاتلين لندائكم هذا، ما واجب كل مقاتل في حق نفسه؟

 

الشيخ: الواجب وضع السلاح، وأن لا يطيعوا أمراءهم إذا أمروهم بمعصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

 

السائل: شيخنا! هل يجوز أو يمكن -يعني- هل يجوز مخالفة نداءكم هذا من أجل فتاوى لبعض الدعاة؟

 

الشيخ: هذا يرجع إلى الإنسان نفسه، إن اعتقد أن ما يقوله أولئك القوم الذين يدعون إلى الاستمرار هو الحق لا يلزمهم الرجوع، ولكن يجب أن يتأمل الإنسان ويتدبر وينظر ما النتيجة في الاستمرار، كم للشعب الجزائري من سنة، وهو يرقب الويلات بعد الويلات ولم يستفد شيئاً؟!

 

السائل: الملاحظة أن هؤلاء الدعاة الذين ذكرتهم -يعني- دعاة غير معروفين -يعني- من أمثالهم أبو قتادة الفلسطيني الماكث في بريطانيا، هل تعرفونه يا شيخنا؟

 

الشيخ: لا نعرفه.

 

السائل: تعرفونه؟!

 

الشيخ: لا!

 

السائل: أبو مصعب السوري، ما تعرفونه؟

 

الشيخ: كل لا نعرفه، لكني أقول لك، إن بعض الناس ولا أخص هذا ولا هذا؛ إذا رأى الشباب اجتمعوا حوله، انفرد بما يذكر به، كما يقول القائل: خالف تُذكر، نعم([162])!

 

السائل: شيخنا! هناك أحدهم يسمى أبا حنيفة الأريتيري، يدعي أنه تلميذكم، ويدعي أنّ الاتصال بكم أمر صعب، وأنكم محاطون بالمخابرات    -يعني- وغير ذلك، والإخوة ههنا، الإخوة المقاتلين يعتقدون أن الاتصال بكم بين الاستحالة والصعوبة، بناءً علىكلام هذا الإنسان، هل هذا صحيح؟

 

الشيخ: غير صحيح، أبداً كل الناس يأتون ويتصلون بنا، ونحن نمشي    -والحمد لله- من المسجد إلى البيت، في خلال عشر دقائق في الطريق، وكل يأتي... ويمشي، والدروس -والحمد لله- مستمرة، ونقول ما شئنا مما نعتقده أنه الحق.

 

السائل: هذا أبو حنيفة هل تعرفونه، أبو حنيفة الأريتيري هذا؟

 

الشيخ: والله! أنا لا أعرفه الآن، لكن ربما لو رأيته لعرفته، لكن كلامه الذي قاله كذب، لا أساس له من الصحة...

 

وبعد حوار بينهم وبين الشيخ حول الذين قتلوا، وحول تأجيل هذه المكالمة.

 

قال الشيخ: والله! لو أجَّلتمونا إلى ما بعد رمضان إذا أمكن؟

 

السائل: يا شيخ! مستحيل؛ القضية جِدُّ شائكة كما ترى، وقضية دماء، وقضية أمة يا شيخ!

 

الشيخ: إذاً غداً...

 

ثم تقدم سائل آخر فقال: يا شيخ! لو تعطينا الآن خمس دقائق لسؤال أخير؟

 

الشيخ: طيب!

 

السائل: إخواننا من الجماعة السلفية للدعوة والقتال يحبونكم، وينظرون إليكم على أنكم من علمائنا الذين يجب أن نسير وراءكم، لكن...

 

الشيخ: جزاهم الله خيراً.

 

السائل: لكن هناك أسئلة تدور في رؤوسهم، من بين هذه الأسئلة يقولون: أننا إذا نقلنا إلى الشيخ عن طريق أشرطة مصورة -يعني- وبينا له فيها قتالنا أننا لا نقتل الصبيان، ولا نقتل الشيوخ، ولا نفجر المدن، بل نقتل من يقاتلنا من هؤلاء الذين لا يحكمون كتاب الله -عز وجل- فينا، فإن الشيخ    -يعني- بعد أن يعرف بأن عقيدتنا سليمة، وأن منهجنا سليماً، وأن قتالنا سليم، فإن فتواه ستتغير، ما قولكم في هذا بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً؟

 

الشيخ: لا! قولي: إن الفتوى لا تتغير-مهما كانت نية المقاتل- فإنها لا تتغير؛ لأنه يترتب على هذا أمور عظيمة، قتل نفوس بريئة، استحلال أموال، فوضى!

 

السائل: شيخنا! حفظك الله، إذا كان في صعودنا إلى الجبال اعتمدنا علىفتاوى، وإن كانت كما قال الأخ -يعني- ظهر خطؤها، ولو كانت من عند أهل العلم، وبعض فتاوى بعض الدعاة ظنًّا منا أن ذلك حجة في القتال، فصعدنا إلى الجبال وقاتلنا سنين، يعني فما دور المجتمع الآن في معاملتنا؟ هل يعاملنا كمجرمين، أم أننا كمجاهدين أخطأنا في هذه الطريق؟

 

الشيخ: أنت تعرف أن جميع المجتمعات لا تتفق على رأي واحد، فيكون الناس نحوكم على ثلاثة أقسام:

 

- قسم يكره هؤلاء ويقول: إنهم جلبوا الدمار وأزهقوا الأرواح وأتلفوا الأموال، ولن يرضى إلا بعد مدة طويلة.

 

- وقسم آخر راضٍ يشجع، وربما يلومهم إذا وضعوا السلاح!

 

- القسم الثالث: ساكت، يقول: هؤلاء تأولوا وأخطأوا، وإذا رجعوا فالرجوع إلى الحق فضيلة.

 

السائل: شيخنا! حفظك الله، نريد كلمة توجيهية إلى الطرفين، أقصد إلى الإخوة الذين سينزلون إلى الحياة المدنية وإلى المجتمع؛ يعني: كيف نتعامل الآن؟ وأن ينسوا الأحقاد، نريد نصيحة في هذا الباب حفظكم الله؟

 

الشيخ: بارك الله فيكم، أقول: إنّ الواجب أن يكون المؤمنون إخوة، وأنه إذا زالت أسباب الخلاف وأسباب العداوة والبغضاء فلنترك الكراهية، ولنرجع إلى ما يجب أن نكون عليه من المحبة والائتلاف، كما قال الله -عز وجل-: {إنّما المُؤمنون إخوةٌ فَأَصلِحوا بين أَخَوَيْكم واتّقوا الله} [الحجرات: 10].

 

نسأل الله التوفيق والسداد، وهل أنتم على عزم أن تتصلوا غداً أم لا؟ أما الآن فنقطع، وما يمكن أن نزيد...

 

وعند الموعد قال السائل: المهم -يعني- أن أركز على أهم ما يمكن أن يؤثِّر على الإخوة عندنا -يعني- المقاتلين حتى يرجعوا إلى الحق.

 

الشيخ: طيب! توكل على الله.

 

السائل: إن شاء الله، أهم قضية -يا شيخ- ادعاؤهم أنك لا تعلمون واقعنا في الجزائر، وأن العلماء لا يعرفون الواقع في الجزائر، وأنكم لو عرفتم أننا (سلفيين)! أن هذا سيغير فتواكم، فهل هذا صحيح؟

 

الشيخ: هذا غير صحيح، وقد أجبنا عنه بالأمس، وقلنا مهما كانت المبالغات فإراقة الدماء صعب، فالواجب الكف الآن والدخول في السلم.

 

السائل: شيخنا! ما رأيكم فيمن يعتقد أن الرجوع إلى الحياة المدنية يعتبر ردة؟

 

الشيخ: رأينا أن من قال هذا فقد جاء في الحديث الصحيح أن من كفّر مسلماً أو دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك عاد إليه([163]).

 

السائل: شيخنا! ما رأيكم في قولهم أنه لا هدنة ولا صلح ولا حوار مع المرتدين؟

 

الشيخ: رأينا أن هؤلاء ليسوا بمرتدين، ولا يجوز أن نقول إنهم مرتدون حتى يثبت ذلك شرعاً.

 

السائل: بناءً على ماذا شيخنا؟

 

الشيخ: بناء على أنهم يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

 

السائل: نعم! نعم يا شيخنا!

 

الشيخ: فكيف نقول إنهم كفار على هذه الحال؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي... بالسيف، فشهد أن لا إله إلا الله، أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أسامة، مع أن الرجل قال ذلك تعوذاً كما ظنه أسامة، والقصة مشهورة([164]).

 

السائل: شيخنا! سؤال عقائدي -يعني- قضية الفرق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؟

 

الشيخ: يعني مثلاً من ترك الصلاة فهو كافر، من سجد لصنم فهو كافر، من قال إن مع الله خالقاً فهو كافر، وهذا كفر عملي، وأما الكفر الاعتقادي ففي القلب.

 

السائل: شيخنا! الكفر العملي هل يخرج من الملة؟

 

الشيخ: بعضه مخرج وبعضه غير مخرج، كقتال المؤمن، فقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «فقتاله كفر»([165])، ومع ذلك لا يخرج من الملة من قاتل أخاه المؤمن بدليل آية الحجرات: {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، قال: {إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 9-10].

 

السائل: متى يصبح الكفر العملي كفراً اعتقاديّاً شيخنا؟

 

الشيخ: إذا سجد لصنم، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، إلا أن يكون مكرهاً.

 

السائل: وفي قضية الحكم بغير ما أنزل الله؟

 

الشيخ: هذا باب واسع، هذا باب واسع، قد يحكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً، مع اعترافه بأن حكم الله هو الحق، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله تشهياً ومحاباة لنفسه، أو لقريبه، لا لقصد ظلم المحكوم عليه... ولا لكراهة حكم الله، فهذا لا يخرج عن الملة، إنما هو فاسق، وقد يحكم بغير ما أنزل الله كارهاً لحكم الله، فهذا كافرٌ كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله طالباً موافقة حكم الله، لكنه أخطأ في فهمه، فهذا لا يكفر، بل ولا يأثم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران»([166]).

 

السائل: شيخنا! مثلاً عندنا للأسف الشديد مسجد حُوِّل إلى ثكنة عسكرية، تشرب فيها الخمور، وتسمع فيها الموسيقى، وتعطل فيها الصلاة، ويسب فيها الله ورسوله -يعني- هذا ما حكمه؟

 

الشيخ: هذا فسوق، فلا يحل تحويل المسجد إلى ثكنة عسكرية،؛ لأنه تحويل للوقف عن جهته وتعطيل للصلاة فيه.

 

السائل: شيخنا! كلامكم واضح والحمد لله، وبهذه الصيغة يزيح -إن شاء الله- الشبه التي تحول دون أن يعمل الحق عمله -إن شاء الله-.

 

الشيخ: نسأل الله أن يهديهم، وأن يرزقهم البصيرة في دينه، ويحقن دماء المسلمين.

 

السائل: هلا شرحتم لنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده...»([167]) الحديث؟

 

الشيخ: لا يتسع المجال؛ لأنه ما بقي إلا دقيقة واحدة.

 

السائل: أعطِنا تاريخ المكالمة واسمك.

 

الشيخ: هذه المكالمة يوم الجمعة في شهر رمضان، أجراها مع إخوانه محمد بن صالح العثيمين من عنيزة بالمملكة العربية السعودية 1420هـ، نسأل الله أن ينفع بهذا([168]).

 

يظهر لنا من هذه المكالمة، أن اتجاهاً خارجيّاً عشعش في قلوب وعقول صغار الطلبة، وتعجلوا البلاء، فَجَرَتْ على أيديهم أحداث فيها فتن، أريقت بسببها دماء، وهتكت أعراض، ولا حول ولا قوة إلا بالله -تعالى-.

 

وهذا كلُّه، من مهيِّجات الفتن العراقية المنشأ، الخارجية المذهب، التي ثارت من تحت قدمي ذاك الرجل الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو قُتل ما كانت([169]) فتنة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

فصل

 

التباس (الثورة) بمفهوم الجهاد

 

المتمعِّن في (فتنتي حماة والجزائر) يجد أنهما اتخذتا مظهر (الثورة)، وأُلبستا لباس (الجهاد) الشرعي، ونزِّلت عليهما أحكامُه!

 

ولهذا؛ (الثورات) أسباب نفسية، وقد تكون من (قناعات) عقدية، و(تصورات) منهجية، ومواقف عملية، فهي تدور على تكفير (السلطة) الحاكمة، بجميع فِآتِها، اعتماداً على ظاهر بعض النصوص، وأخذها أخذاً أوّليّاً، دون مراعاة لقواعد الاستنباط السلفية، كما حصل تماماً مع التابعي يزيد ابن صهيب أبو عثمان الكوفي([170])، المعروف بـ(الفقير)، فإنه قال فيما أخرج مسلم في «صحيحه» (رقم 191) بعد (320) بسنده إليه:

 

كنتُ قد شغَفَني رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، ثم نخرج على الناس (أي: بالثورة المسلحة)، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبدالله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين([171]). قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192]، و{كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها} [السجدة: 20]، فما هذا الذي تقولون؟

 

احتج هذا التابعي بآيات على مشربه، لُقِّنَها على أنها تقرر معانيَ أُخِذَت بالاستقلال دون سائر النصوص، فنبّه الصحابي الجليل جابر على خطئه المنهجي هذا، فقال له:

 

«أتقرأ القرآن؟» قال يزيد: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد -عليه السلام-يعني: الذي يبعثه الله فيه-؟ قال يزيد: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرِجُ الله به من يُخرج؟

 

ثم نعت (أي: جابر) وضع الصراط، ومر الناس عليه... و«أن قوماً يخرجون من النار، بعد أن يكونوا فيها».

 

قال يزيد على إثر هذا الحديث، وقد نفعه الله به، وفهم الآيات السابقة التي احتج بها على ضوئه، ومعه، دون منافرة بين النصوص، ولا تضارب ولا تعارض، قال: «فرجعنا -أي: إلى الكوفة-، قلنا: وَيْحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟». فنفعه الله -عز وجل- باعتقاد صدق علماء الصحابة، وهذا أول شرط للانتفاع بالعلماء الربانيين عموماً، وفي وقت الفتن خصوصاً.

 

قال يزيد -كما في «صحيح مسلم» -أيضاً-: «فرجعنا، فلا والله ما خرج منا -أي: للثورة المسلحة- غيرُ رجل واحد».

 

فالنفع لهؤلاء لا يكون إلا بمحاجة العلماء، وإزالة الشبه، ولا سبيل إلى إصلاحهم إلا بذلك، والعنف معهم يزيد من قوتهم وعنادهم، ويلهب نارهم، ويُبعدهم عن الجادة على وجه أظهر، وبمسافة أبعد.

 

ومع وجود الحماسات، والعواطف العاصفات، ودندنة الخطباء الحماسيين بضرورة إقامةِ (الجماعةِ المسلمةِ)، مهمَّتَها التي وُجِدَت من أجلها، وهي حمل لواء الحق، ووجوب الجهاد ضد السلطات التي تمنع ذلك، وإيراد النصوص من الكتاب والسنة التي في ظاهرها تكفير هؤلاء، والاعتماد على فتاوى (المهابيل) وتقريرات أنصاف المتعلمين، وتوظيف نقولات الأقدمين من العلماء بغير إنصاف، وغالباً ما يكون ذلك بعد التورط في أعمال العنف أو التلبس بمقدماته؛ لتسويغ أحداث عنف، قد اندلعت على وجه عفوي، وأحياناً بطرق مجهولة، قد تكون من عمل جهات مغرضة، فتشعل نيران الحمية، ويظهر الغضب العام، ويفلت الزمام من بين يدي العقلاء، فضلاً عن العلماء، ويفقد العقل دوره وسيطرته على مجريات الأحداث، ويتزحزح عن مكانه في هذه (الحضرة الجهادية الهستيرية)، تاركاً مكانه للاندفاعات العاطفية، والحماسات الشبابية، وللرؤى والمنامات([172]) والإلهامات، فيجتمع عرس الشيطان، بتزاوج هذه العناصر معاً، وإذا بالناس يصحون على هول الكارثة، ولا يفرقون بين الإسلام وما يمارس باسمه، فتتسع الفجوة، وتنوء النفوس عن حمل الأمانة، وتتراجع الدعوة إلى الإسلام الصحيح، كما عايشناه وعايناه، وملأ أسماعنا وأبصارنا، وإلى الله عاقبة الأمور.

 

ومن أهم المهمات، وأوجب الواجبات: تقعيد التفريق بين (الجهاد الشرعي) و(العمل الثوري).

 

فقد «تداخلت في الآونة الأخيرة إلى درجة الالتباس، مفاهيم (الثورة) التي خلّفتها أحداث متنوعة، ورسختها في الأذهان فلسفات سياسية وإنسانية شتى، مع مبدأ (الجهاد الشرعي) وأحكامه، في أذهان كثير من الناس.

 

ولعل من أهم العوامل التي سببت هذا التداخل والمزج([173]):

 

أولاً: وحدة الظروف التي تبعث على الرغبة في التغيير والإصلاح.

 

ثانياً: وحدة الحوافز النفسية -أيضاً-، وهي التي تنشأ عادة من تلك الظروف.

 

ثالثاً: عدم تحصيل العلم الشرعي، الذي يصقل صاحبه بشخصية متميزة، تنظر إلى الأمور نظرة واسعة، وتحسن تقدير مآلات الأفعال، والنتائج، والمصالح والمفاسد، من خلال سنة الله الكونية والشرعية، وتحقيق واجب الوقت([174]).

 

رابعاً: الهالة اللامعة من الدعاية التي أحيطت بها كلمة (الثورة) في أذهان كثير من الناس، في أعقاب ثورات عالمية، تركت وراءها أصداء كبيرة في الأذهان وفي النفوس، وجرّت وراءها ذيولاً من النتائج الانقلابية على صعيد الأفكار الاجتماعية، والأنظمة الاقتصادية.

 

ومع عدم التأصيل العلمي، ووجود هذه الهالة اللامعة، وجدنا الشباب المتحمس -الذي لم يتحصّن بتقعيدات العلماء الربانيين ومواقفهم([175])- أمام ما يشبه المفتاح السحري الذي لا يعجزه شيء عن فتح المغاليق  المستعصية أمام طموحاتهم، ووفق تخيّلاتهم، لتحقيق تطلعاتهم في التغيير، وإعادة العز المنشود، والحلم المفقود.

 

خامساً: وزاد الطين بلة، أنّ هذا الطريق (طريق الثورات) أصبح مسلوكاً، ومارسته اتجاهات لها أصول متعددة باسم الإسلام، ووجدوا من يفتيهم بذلك لملابسات، وأسباب قد تظهر وقد تختفي!

 

وأن كثيراً ممن قوّم (هذه الثورات) علّق الجناية بسوء أصحابها، وعدم صدق نواياهم، وحرصهم على المناصب والمراتب والرواتب فحسب! دون أن يضع يده على المصاب الحقيقي، و(أصل الداء)!

 

فها هو -مثلاً- محمد سرور بن نايف زين العابدين يقول في تقويمه لما حصل في (فتنة حماة):

 

«أتدرون كيف يربي بعضهم اليوم أصحابه؟! لقد وزعوا المناصب على أهل الحل والعقد فيهم: فهذا وزير الداخلية، وذاك للدفاع، والثالث للتربية والتعليم، والرابع للخارجية، والخامس لقيادة الجيش... ما تركوا وظيفة كبيرة إلا وذكروا اسم صاحبها، وأصبح الجميع يتصرفون مع غيرهم على أساس المناصب الجديدة، وأركان هذه الحكومة العتيدة، لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد العدو، وبعد أن كانوا ينتقدون الشباب الذين فجروا هذه المعركة ويصفونهم بالطيش والتهور، أصبحوا يظنون أن النصر قد اقترب فغيروا لهجتهم، وادعوا بأنهم أصحاب الحق، وأهل الجهاد، وجميع الشهداء منهم، ومن يشك فيما يقولون فليسأل الشهداء؟!

 

ولم يكن رجالُ هذه الحكومة الجماعةَ الإسلامية الوحيدة في ساحة العمل، وكانوا يتكلمون عن الوحدة، لكنهم يرون أن هذه الوحدة يجب أن تتم بالانضمام إليهم، وبالكيفية التي يريدونها، ومن يرفض هذا الظلم فقد شق عصا الطاعة وخالف الجماعة.

 

انقشع غبار المعركة الوهمية بعد حينٍ من الزمن عن هزيمة محزنة ألمت بهذه الحكومة وبغيرها من الدعاة والجماعات، ولم ينعم أحد من هؤلاء بالمنصب الذي أسند إليه، وأعقبت الهزيمة خلافات واتهامات وانشقاقات، وهذه عاقبة كل من يخالف سنن الله الثابتة في النصر.

 

وعلى ضوء هذه السنن نستطيع معرفة أسباب الهزائم المتكررة؛ لأن كل من يهتم بأمور الجماعة والعمل الإسلامي يعرف من أحوالهم ما يمكنه من الحكم على مدى التزامهم بسنن الله في النصر»([176]).

 

ويقول -أيضاً-:

 

«وقد تتفجر الخلافات، وتهتك الأستار، ويشتد الصراخ، ولكن من يتابع الأمور لا يجد حرصاً من أي طرف على وضع الحق في نصابه وتقويم الاعوجاج، وإنما التنافس على الزعامة وحطام الدنيا هو سبب هذه الخلافات -الجديدة منها والقديمة-، فقائد الحزب المرهوب الجانب يتهم بعض مساعديه، ويحمّلهم مسؤولية الهزيمة، ويقول: إنهم كانوا ينفردون بأخطر القرارات ولا يردون الأمر إليه، ويتحدث عن اتصالات مشبوهة لهم مع العدو كانت تتم من وراء ظهره، وقد حذرهم منها ولم يخبر بقية المساعدين خوفاً من الفتنة، وإدراكاً منه لخطورة المرحلة التي كان يمر بها الحزب.

 

وهؤلاء المساعدون يردون على النار بأشد منها، وينقسم الحزب إلى حزبين، وإن كان عدد الذين يلتفون حول قائد الحزب -أي: شيخ القبيلة- أكثر؛ لأن تربية أعضاء الحزب قامت ابتداء على أنها جماعة المسلمين، وشيخه إمام المسلمين، وإن كانت ألفاظهم تدل على غير ذلك؛ لأن العبرة بالعمل وليس بالقول.

 

ويبقى شيخ القبيلة متربعاً على كرسي القيادة الوثير، مع أنه المسؤول الأول عن الهزائم المتكررة التي لحقت بحزبه، وشيخ القبيلة من أهم مشكلاتنا ومآسينا في هذا العصر، فقد يمرض، ويشتد مرضه، ويحول هذا المرض بينه وبين ممارسة القيادة الفعلية وبشكل خاص في المواقف الحاسمة! ومع ذلك يبقى مستلقياً على كرسيه -ولا غرابة في ذلك؛ فالكرسي اليوم قد يصبح سريراً- لا يفكر في الاستقالة، ولا يفكر من حوله في استبداله.

 

وقد يهزم شيخ القبيلة الحزبية، بل قد يخرِّف أحياناً، ومع ذلك يبقى متربعاً على كرسي القيادة.. وكيف تنتظرون من حزب إسلامي أن يخالف دستوره الذي ينص على أن القائد ليس لبقائه في هذا المركز زمن محدد، وفي هذا النص ما فيه من مخالفات للشروط التي يجب أن تتوفر في أهل الحل والعقد»([177]).

 

قال أبو عبيدة: الأسباب المذكورة مهمّة، وتوحي للقارئ أن الخلل في صفات القائمين على هذه (الثورات)! وليس كذلك؛ إذ إحكام (البدايات) سلامة في (النهايات)، وضبط (المصطلحات) يقي من (الانزلاقات)، فالثورة في الفتن الثلاث (الحرم المكي، حماة، الجزائر) لا وجود لها عند الفقهاء ألبتة([178])، ولا يتصور أحد من العقلاء -فضلاً عن العلماء- القول بجوازها، وهذه الفتن يعرفها العلماء الربانيون عند بروزها، وظهور مخايلها، قبل وقوعها، وتمكّن قرونها، ويعرفها الجهال -كل الجهال- عند انقضائها، وانصرافها([179]).

 

و(الثورة) «تغيير جذري شامل يحدث في مسار الأنظمة السياسية أو الاجتماعية، قفزاً فوق سنة الله -عز وجل- في التدرج والتطور، سواء كان بطريقة سلمية، أو بالعنف وسفك الدماء»([180])، وهذا يخالف سنة الله -عز وجل- الشرعية في التغيير، وطريق الأنبياء المسلوكة.

 

فـ(الثورة) «تتفجر من (رغائب) الإنسان و(رعوناته)، وتتجه إلى سطح (الوقائع الاجتماعية)، ولا تهتم بدخائل (التربية الفردية)([181])»، بخلاف الجهاد الذي له ميادينه، وغاياته، وأهله، وأحكامه، وضوابطه، وهو بمثابة السياج الذي يحفظ بيضة الأمة من جهة، ويبلغ دعوتهم إلى سائر الأمم من جهة ثانية، يلتحم فيه أبناء المسلمين جميعاً لتأدية هاتين الفريضتين من خلال نوعي الجهاد: الدفع والطلب، وهو ماضٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

 

أما أن يقوم شاب متحمس، وينزو على المنبر، ويتلثم، لئلا يعرف، فيشْتُم المسؤولين، ويقذع في السب، ويدعو العوام للخروج، والتفجير، والتثوير، ويفرّ -وربما فرَّ قبل الصلاة، إن جاءت السلطات([182])- ويحاكَمُ المستمعون، ويُؤخَذون بجريرة ذاك المراهق، ويعدّ هذا (جهاداً)! و(طاعة) لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما نعلم لهذا أثراً ولا مستنداً!

 

قال أبو عبيدة: معذرة لإخواني القراء على هذا الاستطراد، ولولا حرصي على حقن دماء المسلمين بعامة والشباب السلفي بخاصة، ما دونت هذه السطور، وليس همّي التفصيل في بيان أحكام الجهاد([183])، ولكن همي لفت نظرهم إلى ضرورة التفريق بين الجهاد المشروع وغيره، «وفي الجملة؛ فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم»([184])، وقد قالوا كلمتهم،  وتكلموا على (الثورات) التي حلّت في بعض بلاد المسلمين، وكشفوا عن أسباب ذلك، فها هو شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- يقول بعد تقريره لأهمية (التصفية) و(التربية):

 

«إن ما يقع سواء في الجزائر أو في مصر([185])، هذا خلاف الإسلام؛ لأنّ الإسلام يأمر بالتصفية والتربية...»([186])، ويقول بعد كلام في جواب سؤال عن استخدام الثوار للمتفجِّرات التي تودي بحياة العشرات:

 

«جوابنا واضح جدّاً، أنّ ما يقع في الجزائر وفي مصر وغيرهما هو سابقٌ لأوانه أولاً، ومخالفٌ لأحكام الشريعة غايةً وأسلوباً ثانياً»([187]).

 

ثم قال عن هذه الثورات التي وقعت في الجزائر: «إنّ هذه جزئية من الكليّة، أخطرها هو هذا الخروج الذي مضى عليه بضع سنين، ولا يزداد الأمر إلا سوءاً»([188]).

 

فإذاً؛ هذه الجزئية (وهي المجازر الشنيعة)، هي فرع من كلية، (وهي جواز الخروج، وفكر التكفير)، وهذا يلتقي مع ما نحن بصدده من ربط هذه الثورات بما في العراق من فتن مهيّجات، وصلت إلى أنحاء المعمورة، وسارت إلى جميع الجهات، ولا قوة إلا بالله.

 

وقال شيخنا بعد كلام: «... ولذلك، فكلّ الجماعات التي تدَّعي الانتساب إلى السلف، إذا لم يعملوا بما كان عليه السلف، ومن ذلك ما نحن بصدده أنه لا يجوز تكفير الحكام، ولا الخروج عليهم، فإنما هي دعوى يدّعونها، هذه مسألة واضحة البطلان جدّاً»([189]).

 

وهذا التأصيل عند الشيخ واضح المعالم، كان يكرره ويؤكّده، ونشر([190]) في حياته في (فتوى) مطوّلة، أثنى عليها على علماء العصر الكبار([191])، وما جاء فيها بصصد الكلام عن مسألة (التحكيم) و(ثورات) الشباب على الحكام بسببه:

 

«ثم كنت ولا أزال أقول لهؤلاء الذين يدندنون حول تكفير حكام المسلمين: هبُوا أن الحكام كفار كفر ردّة، ماذا يمكن أن تعملوه؟ هؤلاء الكفار احتلوا من بلاد الإسلام، ونحن هنا مع الأسف ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين، فماذا نستطيع نحن وأنتم أن نعمل مع هؤلاء، حتى تستطيعوا أنتم مع الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار؟ هلا تركتم هذه الناحية جانباً، وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة؟ وذلك باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ربَّى أصحابه عليها... وذلك ما نُعبِّر عنه في كثير من مثل هذه المناسبة بأنه لا بد لكل جماعة مسلمة تعمل بحق لإعادة حكم الإسلام، ليس فقط على أرض الإسلام، بل على الأرض كلها، تحقيقاً لقوله  -تبارك وتعالى-: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أن هذه الآية ستتحقق فيما بعد.

 

فلكي يتمكن المسلمون من تحقيق هذا النص القرآني: هل يكون الطريق بإعلان الثورة على هؤلاء الحكام الذين يظنون أن كفرهم كفر ردة؟!

 

ثم مع ظنهم هذا -وهو ظنٌّ خاطئ- لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً! ما هو المنهج؟ ما هو الطريق؟ لا شك أن الطريق هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدندن حوله ويذكر أصحابه به في كل خطبة: «وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم»، فعلى المسلمين كافة -وخاصة منهم من يهتم بإعادة الحكم الإسلامي- أن يبدأ من حيث بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو ما نكني نحن عنه بكلمتين خفيفتين: (التصفية) و(التربية)؛ ذلك لأننا نحن نعلم حقيقة يغفل عنها أو يتغافل عنها في الأصح أولئك الغلاة، الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام، ثم لا شيء!

 

وسيظلون يعلنون تكفير الحكام، ثم لا يصدر منهم إلا الفتن، والواقع في هذه السنوات الأخيرة التي يعلمونها، بدءاً من فتنة الحرم المكي إلى فتنة مصر وقتل السادات وذهاب دماء كثير من المسلمين الأبرياء، بسبب هذه الفتنة، ثم أخيراً في سورية، ثم الآن في مصر والجزائر مع الأسف، إلخ...

 

كل هذا بسبب أنهم خالفوا كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، وأهمها: {لَقَد كَان لَكُم في رَسُول الله أُسوة حَسَنة لِمَن كَان يَرجو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكر الله كثيراً}...

 

بماذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

تعلمون أنه بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية إلى آخر ما هنالك، حتى وطد الله -عز وجل- الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هنالك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة، ثم اليهود من جهة أخرى، وهكذا...

 

إذاً لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام-،...».

 

فصل

 

الفرق بين المطلوب الشرعي وواجب الوقت

 

وما عليه أصحاب الثورات والانقلابات ودعاة الخروج

 

يتّضح للمقارن بين كلام أئمة الدعوة الكبار، وعلى رأسهم مشايخها: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين -رحمهم الله جميعاً- أن الذي يدعون إليه هو منهج الأنبياء، وهو طريق طويل وشاق، والغاية فيه إقامة الدين، وتربية الشباب عليه، التربية الربانية، لا الحزبية، ولا تعلّقهم بالمكاسب والمناصب، بخلاف الثوريين فإنهم ساسة([192]) في خطاباتهم، وفتاواهم، وأطروحاتهم، وطريقة معالجتهم للمستجدات، فضلاً عن أسلوبهم في الوصول إلى (سُدّة) الحكم!

 

وأفصح العلامةُ السلفيُّ عبدالحميد بن باديس -رحمه الله تعالى- عن الفرق بين هاتين الطائفتين، فقال: «فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.

 

ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهراً، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمة: (إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتَك)، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها! وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنَّا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله راضون، وعليه متوكّلون»([193]).

 

ويلتقي مع هذا، ويؤكد ما ذهبنا إليه من ارتباط هذه الفتن بالخروج الذي ابتدأ ظهوره من العراق، وهاج منها حتى وصل الجزائر:

 

ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:

 

«وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات، ويبقى المقاتل له ظانّاً أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه: إما ولاية، وإما مال، كما قال -تعالى-: {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل، يقول الله له يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا؛ إن أعطاه منها رضي، وإن منعه سخط، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذباً: لقد أعطي بها أكثر مما أعطي([194])».

 

فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة، قامت الفتنة، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، ... وأمر الرعية بالطاعة والنصح، ... وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأنّ الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزَالُ أَخَفُّ الفسادين بأعظمهما»([195]).

 

قال أبو عبيدة: هذا أصل سلفي منهجي محكم غاب عن هؤلاء الخائضين في الدماء إلى الركب، وهم يزعمون السلفية، وليسوا أهلاً للاجتهاد، فكيف إذا تكلم العلماء: أهل العلم والدين، وقرروا خطأ صنيعهم، وتوافق ذلك مع ما هو محسوس مشاهد؟!

 

وقبل أن أنتقل إلى فتنة أخرى، وهي من أعظم ما جرى في هذا العصر، أرى لزاماً عليَّ التنبيه والتأكيد على أمور([196]):

 

أولاً: الواجب في هذه الأزمنة خصوصاً إظهار شعار العلماء في الإصلاح، دون شعار هؤلاء الصغار، فإن سائر الواجبات الشرعية لا تقوم إلا بذلك، وإذا ترك ذلك ظهر شعار أهل البدع والضلال، ولذا صار إظهار هذا الشعار مأموراً به من هذه الجهة([197]).

 

ثانياً: إظهار شعار هؤلاء المراهقين اليوم يُتَوسّلُ به إلى مقاصد الكائدين للإسلام وأهله، ولم يحل للمفتي أن يُفتيَ بما يجُرُّ إلى مفاسدهم، لو كانت أصل أفعالهم مشروعةً، فكيف والعلماء -قديماً وحديثاً- يرون منعها، ومحال أن تقوم عند هؤلاء أدلة لم تصل العلماء، ولكن قامت عندهم شُبَه، وتلاحقت الأحداث، فلم يجدوا بدّاً إلا أن يبقوا على مواقفهم، وإن تضمنت تحليل ما حرمه الله ورسوله من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس([198])، وإلحاق ما يفعلونه بالجهاد، وليس لهم على تقريرات العلماء بأدلتها الشرعية أجوبة صحيحة، ولا معارض لها مقاوم، فمن ادّعى بطلانها، فليُجب عنها أجوبة مفصّلة، وإلا؛ فليعرف قدره، ولا يتعدى طوره، ولا يقتحم المهالك.

 

ثالثاً: غاية هؤلاء الثائرين إما أن يَغْلبوا وإما أن يُغْلبوا، ثم يزول أجرهم، ويفنى ذكرهم، ولا تكون لهم عاقبة، فلا أقاموا ديناً، ولا أبقوا دنيا، بخلاف العلماء الربانيين، فإن لهم ثمرة، وحملوا الأمانة نقيّة، وسلّموها لمن بعدهم ناصعة جليّة.

 

قال ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (4/528-532) على إثر سرده جماعات من الثائرين الخارجين على أئمة الجور في زمانهم، وبعضهم لا يحمل المبادئ العقدية التي ينادي بها الخوارج من التكفير بالكبيرة، قال:

 

«وغاية هؤلاء إما أن يَغلبوا وإما أن يُغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة؛ فإن عبدالله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية من غيرهم.

 

وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلِّهم.

 

وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:

 

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

 

 

 

وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطير

 

أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.

 

وكان الحسن البصري يقول: إنّ الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن -الله تعالى­- يقول: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [سورة المؤمنون: 76]، وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمل لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.

 

وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبدالله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين.

 

وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة، وليس هذا موضع بسطه. ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، واعتبر -أيضاً- اعتبار أولي الأبصار؛ علم أنّ الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور، ولهذا لما أراد الحسين -رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتباً كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل. وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج. وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين. والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى.

 

فتبين أنّ الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سبباً لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن.

 

وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([199])، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقه للجماعة.

 

وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابة في الصحيح كلها تدل على هذا، كما في «صحيح البخاري» من حديث الحسن البصري: سمعت أبا بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم علىالمنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد، وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

 

وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوباً ممدوحاً يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان القتال واجباً أو مستحبّاً لم يُثنِ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب، ولهذا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين فضلاً عما جرى في المدينة يوم الحرّة، وما جرى بمكة في حصار ابن الزبير، وما جرى في فتنة ابن الأشعث وابن المهلب وفي ذلك من الفتن، ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالنهروان بعد خروجهم عليه بحروراء؛ فهؤلاء استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بقتالهم، ولما قاتلهم علي -رضي الله عنه- فرح بقتالهم، وروى الحديث فيهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء، وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم لم يكن هذا القتال عندهم كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما مما لم يأت فيه نص ولا إجماع، ولا حمده أفاضل الداخلين فيه، بل ندموا عليه ورجعوا عنه.

 

وهذا الحديث من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ذكر في الحسن ما ذكره، وحمد منه ما حمده، فكان ما ذكره وما حمده مطابقاً للحق الواقع بعد أكثر من ثلاثين سنة؛ فإن إصلاح الله بالحسن بين الفئتين كان سنة إحدى وأربعين من الهجرة، وكان علي -رضي الله عنه- استشهد في رمضان سنة أربعين، والحسن حين مات النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره نحو سبع سنين، فإنه ولد عام ثلاث من الهجرة، وأبو بكرة أسلم عام الطائف، تدلى ببكرة؛ فقيل له أبو بكرة، والطائف كانت بعد فتح مكة، فهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن كان بعد ما مضى ثمانٍ من الهجرة، وكان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة التي هي خلافة النبوة، فلا بد أن يكون قد مضى له أكثر من ثلاثين سنة، فإنه قاله قبل موته صلى الله عليه وسلم».

 

رابعاً: قد يقول قائل: نسلِّم لك ما تقول، نظراً لخَوَرِنا وضعْفِنا، وطمع العدو بنا، ولغربة الدين بين ظهرانينا، ولما يترتب الآن على الخروج من قتل النفوس بلا فائدة، و إلا؛ فالخروج -قديماً- قد حصل مرات! وعلىهيئة (ثورات)! وهذا أمر مشهور في التاريخ، فها هي ثورة (النفس الزكية)([200])، و(ثورة الإمام المحدث أحمد بن نصر الخزاعي)([201])، وغيرهما.

 

والجواب على هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، قال:

 

«وإذا قال القائل: إنّ عليّاً والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة؟

 

قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء([202])، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجّاج وغيرهما.

 

لكن إذا لم يُزَلِ المنكر إلا بما هو أنكر منه، صار إزالته على هذا الوجه منكراً، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكراً.

 

وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة، حتى قاتلت عليّاً وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم، كالذين خرجوا مع محمد بن عبدالله بن حسن بن حسين، وأخيه إبراهيم بن عبدالله بن  حسن بن حسين وغير هؤلاء، فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه ديناً.

 

لكن قد يخطئون من وجهين:

 

أحدهما: أن يكون ما رأوه ديناً ليس بدين، كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء؛ فإنهم يعتقدون رأياً هو خطأ وبدعة، ويقاتلون الناس عليه، بل يكفّرون من خالفهم، فيصيرون مخطئين في رأيهم، وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم.

 

وهذه حال عامة أهل الأهواء، كالجهمية الذين يدعون الناس إلى إنكار حقيقة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ويقولون: إنه ليس له كلام إلا ما خلقه في غيره، وإنه لا يرى، ونحو ذلك، وامتحنوا الناس لما مال إليهم بعض ولاة الأمور، فصاروا يعاقبون من خالفهم في رأيهم: إما بالقتل، وإما بالحبس، وإما بالعزل ومنع الرزق، وكذلك قد فعلت الجهمية ذلك غير مرة، والله ينصر عباده المؤمنين عليهم.

 

والرافضة شر منهم: إذا تمكنوا فإنهم يوالون الكفار وينصرونهم، ويعادون من المسلمين كل من لم يوافقهم على رأيهم([203])، وكذلك من فيه نوع من البدع: إما من بدع الحلولية: حلولية الذات أو الصفات، وإما من بدع النّفاة أو الغلو في الإثبات، وإما من بدع القدرية أو الإرجاء أو غير ذلك، تجده يعتقد اعتقادات فاسدة، ويكفر من خالفه أو يلعنه، والخوارج المارقون أئمة هؤلاء في تكفير أهل السنة والجماعة وفي قتالهم.

 

الوجه الثاني: من يقاتل على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة؛ كأهل الجمل وصفين والحرة والجماجم وغيرهم، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة، فلا يحصل بالقتال ذلك ، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت، فيتبين لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر([204]).

 

وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع، أو لم تثبت عنده، وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم، وفيهم من يتأولها، كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص.

 

فإنه بهذه الوجوه الثلاثة يترك من يترك من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص؛ إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يعتقدها غير دال على مورد الاستدلال، وإما أن يعتقدها منسوخة.

 

ومما ينبغي أن يعلم: أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة، فيَرِدُ على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده، والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، بمعرفة الحق وقصده. فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار، فلا تصبر النفوس على ظلمه، ولا يمكنها دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فساداً منه، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله»([205]).

 

قال أبو عبيدة: ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية تأصيل منهجيّ من خلال نصوص الأحاديث النبوية -وقد ساق بعضاً منها-، وبالنظر إلى استقراء الحوادث التي تمّ فيها (الخروج)، وله كلام يشعر بذلك، وفيه -أيضاً- تفسير لهذه الظاهرة، ومعيار لتقويم الأشخاص الذين شاركوا فيها، وقبل أن أسوق كلامه الذي فيه هذا الأمر الخطير، لا بد من التأكيد على ما سبق بإيرادي لكلام لشيخنا الألباني -رحمه الله- في تعليقه على حديث عبادة بن الصامت، الذي أخرجه البخاري (7199، 7200)، ومسلم (1709) -والسياق له-، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم».

 

قال -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (7/1240-1243) تحت حديث رقم (3418): «ثم إن في هذا الحديث فوائد ومسائل فقهية كثيرة، تكلم عليها العلماء في شروحهم...»، قال: «والذي يهمني منها هنا: أن فيه ردّاً صريحاً على الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب    -رضي الله عنه-، فإنهم يعلمون دون أي شك أو ريب أنهم لم يروا منه (كفراً بواحاً)، ومع ذلك استحلوا قتاله، وسفك دمه، هو ومن معه من الصحابة والتابعين، فاضطر -رضي الله عنه- لقتالهم واستئصال شأفتهم، فلم ينْجُ منهم إلا القليل، ثم غدروا به -رضي الله عنه-، كما هو معروف في التاريخ.

 

والمقصود أنهم سنوا سنة -في الإسلام- سيئة، وجعلوا الخروج على حكام المسلمين ديناً على مر الزمان والأيام، رغم تحذير النبي صلى الله عليه وسلم منهم في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «الخوارج كلاب النار»([206]).

 

ورغم أنهم لم يروا كفراً بواحاً منهم، وإنما دون ذلك من ظلم وفجور وفسق».

 

ثم قال -وهذا هو الشاهد من كلامه -رحمه الله تعالى-:

 

«واليوم -والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون-؛ فقد نبتت نابته من الشباب المسلم، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلاً، ورأوا أن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلا قليلاً، فرأوا الخروج عليهم دون أن يستشيروا أهل العلم والفقه والحكمة منهم، بل ركبوا رؤوسهم، وأثاروا فتناً عمياء، وسفكوا الدماء، في مصر، وسوريا، والجزائر، وقبل ذلك فتنة الحرم المكي، فخالفوا بذلك هذا الحديث الصحيح الذي جرى عليه عمل المسلمين سلفاً وخلفاً إلا الخوارج.

 

ولما كان يغلب على الظن أن في أولئك الشباب من هو مخلص يبتغي وجه الله، ولكنه شُبِّه له الأمر أو غرر به؛ فأنا أريد أن أوجه إليهم نصيحة وتذكرة، يتعرفون بها على خطأهم، ولعلهم يهتدون.

 

فأقول: من المعلوم أن ما أمر به المسلم من الأحكام منوط بالاستطاعة؛ حتى ما كان من أركان الإسلام، قال -تعالى-: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيتِ مَن اسْتَطاعَ إليه سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، وهذا من الوضوح بمكان فلا يحتاج إلى تفصيل.

 

والذي يحتاج إلى التفصيل؛ إنما هو التذكير بحقيقتين اثنتين:

 

الأولى: أن قتال أعداء الله -من أي نوع كان- يتطلب تربية النفس على الخضوع لأحكام الله واتباعها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:

 

«المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»([207]).

 

والأخرى: أن ذلك يتطلب الإعداد المادي والسلاح الحربي؛ الذي ينكأُ أعداء الله؛ فإن الله أمر به أمير المؤمنين، فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60]، والإخلال بذلك مع الاستطاعة؛ إنما هو من صفات المنافقين، وكذلك قال فيهم رب العالمين: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} [التوبة: 46].

 

وأنا أعتقد جازماً أن هذا الإعداد المادي لا يستطيع اليوم القيام به جماعة من المؤمنين دون علم من حكامهم -كما هو معلوم-، وعليه؛ فقتال أعداء الله من جماعة ما سابقٌ لأوانه، كما كان الأمر في العهد المكي، ولذلك؛ لم يؤمروا به إلا في العهد المدني؛ وهذا هو مقتضى النص الرباني:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286].

 

وعليه؛ فإني أنصح الشباب المتحمس للجهاد، والمخلص حقّاً لرب العباد: أن يلتفتوا لإصلاح الداخل، وتأجيل الاهتمام بالخارج الذي لا حيلة فيه، وهذا يتطلب عملاً دؤوباً، وزمناً طويلاً؛ لتحقيق ما أسميه بـ: (التصفية والتربية)؛ فإن القيام بهذا لا ينهض به إلا جماعة من العلماء الأصفياء، والمربين الأتقياء، فما أقلهم في هذا الزمان، وبخاصة في الجماعات التي تخرج على الحكام!

 

وقد ينكر بعضهم ضرورة هذه التصفية، كما هو واقع بعض الأحزاب الإسلامية، وقد يزعم بعضهم أنه قد انتهى دورها، فانحرفوا إلى العمل السياسي أو الجهاد، وأعرضوا عن الاهتمام بالتصفية والتربية، وكلهم واهمون في ذلك، فكم من مخالفات شرعية تقع منهم جميعاً بسبب الإخلال بواجب التصفية، وركونهم إلى التقليد والتلفيق، الذي به يستحلون كثيراً مما حرم الله! وهذا هو المثال: الخروج على الحكام؛ ولو لم يصدر منهم الكفر البواح.

 

وختاماً أقول: نحن لا ننكر أن يكون هناك بعض الحكام يجب الخروج عليهم؛ كذاك الذي كان أنكر شرعية صيام رمضان، والأضاحي في عيد الأضحى، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهؤلاء يجب قتالهم بنص الحديث، ولكن بشرط الاستطاعة كما تقدم، ولكن مجاهدة اليهود المحتلين للأرض المقدسة والسافكين لدماء المسلمين أوجب من قتال مثل ذاك الحاكم من وجوه كثيرة، لا مجال الآن لبيانها؛ من أهمها: أن جند ذاك الحاكم من إخواننا المسلمين، وقد يكون جمهورهم -أو على الأقل الكثير منهم- عنه غير راضين، فلماذا لا يجاهد هؤلاء الشباب المتحمس اليهود، بدل مجاهدتهم لبعض حكام المسلمين؟! أظن أنْ سيكون جوابهم عدم الاستطاعة بالمعنى المشروح سابقاً، والجواب هو جوابنا، والواقع يؤكد ذلك؛ بدليل أن خروجهم -مع تعذر إمكانه- لم يثمر شيئاً سوى سفك الدماء سُدىً! والمثال -مع الأسف الشديد- لا يزال ماثلاً في الجزائر، فهل من مدّكر؟!».

 

«وأمر الرعية بالطاعة والنصح، كما ثبت في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة» -ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»([208]).

 

«وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأنّ الفساد الناشئ من القتال في الفتنة، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما.

 

ومن تدبر الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الآفاق علم تحقيق([209]) قول الله -تعالى-: {سَنُريهم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفي أَنفُسِهم حَتّى يَتَبَيَّن لَهُم أَنّه الحَقّ} [فصلت: 53]؛ فإنّ الله    -تعالى- يُري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ حتى يتبين لهم أنّ القرآن حق، فخبره صدق وأمره عدل: {وَتَمّت كَلِمَةُ رَبِّك صِدقاً وَعَدلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيم} [الأنعام: 115].

 

ومما يتعلق بهذا الباب، أن يُعلم أنّ الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.

 

ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتزيد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.

 

والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه.

 

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم»([210]).

 

ثم ذكر مجموعة من (الفتن) من هذا النوع، قال بعد كلام:

 

«وعامة الخلفاء الملوك جرى في أوقاتهم فتن، كما جرى في زمن يزيد ابن معاوية قتل الحسين، ووقعة الحرّة، وحصار ابن الزبير بمكة، وجرى في زمن مروان بن الحكم فتنة مرج راهط بينه وبين النعمان بن بشير، وجرى في زمن عبدالملك فتنة مصعب بن الزبير وأخيه عبدالله بن الزبير، وحصاره      -أيضاً- بمكة، وجرى في زمن هشام فتنة زيد بن علي، وجرى في زمن مروان ابن محمد فتنة أبي مسلم، حتى خرج عنهم الأمر إلى ولد العباس.

 

ثم كان في زمن المنصور فتنة محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين بالمدينة، وأخيه إبراهيم بالبصرة، إلى فتن يطول وصفها»([211]).

 

ثم قرر قاعدة مهمة، من خلالها يظهر لكل ذي بصيرة، عدم جواز احتجاج المتأخرين بما حصل للمتقدمين مع ملوكهم، وهذه القاعدة هي:

 

فصل

 

الفتن في كل زمان حسب رجاله

 

قال -رحمه الله تعالى-: «والفتن في كل زمان بحسب رجاله؛ فالفتنة الأولى فتنة قتل عثمان -رضي الله عنه- هي أول الفتن وأعظمها.

 

ولهذا جاء في الحديث المرفوع الذي رواه الإمام أحمد في «المسند» وغيره: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجّال»([212]).

 

ولهذا جاء في حديث عمر لما سأل عن الفتنة التي تموج موج البحر، وقال له حذيفة: إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً. فقال: أيكسر الباب أم يفتح؟ فقال: بل يكسر. فقال: لو كان يفتح لكاد يُعاد([213]). وكان عمر هو الباب، فقتل عمر، وتولى عثمان، فحدثت أسباب الفتنة في آخر خلافته، حتى قتل وانفتح باب الفتنة إلى يوم القيامة، وحدث بسبب ذلك فتنة الجمل وصفين، ولا يقاس رجالهما بأحد؛ فإنهم أفضل مِن كلِّ مَنْ بَعدَهم.

 

وكذلك فتنة الحرة وفتنة ابن الأشعث، كان فيها من خيار التابعين من لا يقاس بهم من بعدهم، وليس في وقوع هذه الفتن في تلك الأعصار ما يوجب أنّ أهل ذلك العصر كانوا شرّاً من غيرهم، بل فتنة كل زمان بحسب رجاله.

 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([214]).

 

وفتن ما بعد ذلك الزمان بحسب أهله. وقد رُوي أنه قال: «كما تكونوا يُولّى عليكم»([215]). وفي أثر آخر يقول الله -تعالى-: «أنا الله -عز وجل- ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم»([216]).

 

ولما انهزم المسلمون يوم أحد هزمهم الكفار، قال الله -تعالى-: {أَوَلَمّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصْبتُم مِثلَيها قُلتُم أَنّى هَذا قُلْ هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكم} [آل عمران: 165].

 

والذنوب ترفع عقوبتها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة، والقتل الذي وقع في الأمة مما يكفر الله به ذنوبها، كما جاء في الحديث، والفتنة هي من جنس الجاهلية، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أنّ كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر: أنزلوهم منزلة الجاهلية.

 

وذلك أنّ الله -تعالى- بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ فبالهدى يُعرَف الحق، وبدين الحق يُقصَد الخير ويعمل به، فلا بد من علم بالحق، وقصد له وقدرة عليه، والفتنة تضاد ذلك؛ فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير.

 

ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده، ولهذا يقال: فتنة عمياء صمّاء. ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها، وخفاء العلم.

 

فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية، ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال؛ لأنّ الضمان يكون لمن يعرف أنه أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق، فأمّا من لم يعرف ذلك، كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين، فلا يعرفون ذلك، فلا ضمان عليهم، كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق، وإن كان هذا مثاباً مصيباً.

 

وذلك أنّ أهل الجاهلية إمّا أنْ يتوبوا من تلك الجهالة، فيغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها، وإمّا أنْ يكونوا ممن يستحق العذاب على الجهالة كالكفّار، فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الآخرة، وإمّا أنْ يكون أحدهم متأولاً مجتهداً مخطئاً؛ فهولاء إذا غفر لهم خطؤهم غفر لهم موجبات الخطأ         -أيضاً-»([217]).

 

قال أبو عبيدة: هذه قاعدة ذهبيّة مهمة غاية: (الفتن في كل زمان حسب رجاله).

 

وبذا لم يكن لها ظهور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرزت على هيئة ذاك الرجل، ولم يقتل، مع الأمر بذلك، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر وعمر قتله، ولم يفعلوا([218])؛ لسنة الله الكونية القاضية بذلك، فظهرت في زمن عثمان، وكان قتله أول فتنة، وفرخت الفتن بعدها، وورد ذلك في عدة آثار عن الصحابة؛ منهم: حذيفة([219])، وعلي([220]) -رضي الله عنهما-.

 

فصل

 

اشتداد الفتن مع مضي الزّمن

 

ووجدنا مع تأخر الزمن شدة الفتن([221])، وهذا من موجبات هذه القاعدة، فقد ثبت في «صحيح البخاري» (رقم 7068)، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي، قال: أتينا أنس بن مالك، فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

 

قال الحافظ ابن حجر: «وقد استشكل هذا الإطلاق مع أنّ بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبدالعزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبدالعزيز، وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب فسئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد الحجاج؟ فقال: لا بد للناس من تنفيس([222]).

 

وأجاب بعضهم: إنّ المراد بالتفضيل: تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإنّ عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة من الأحياء، وفي عصر عمر بن عبدالعزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني»».

 

وقال -أيضاً-: «ثم وجدت من عبدالله بن مسعود التصريح بالمراد، وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة، عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس؛ فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون([223]).

 

واستشكلوا -أيضاً- زمان عيسى ابن مريم بعد زمان الدجال، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، فيكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر في زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى -عليه السلام- فله حكم مستأنف، والله أعلم.

 

ويحتمل أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة؛ بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك، فيختص لهم، لكن الصحابي -رضي الله عنه- فَهِم التعميم، فلذلك أجاب من شكى إليه الحجاج بذلك وأمرهم بالصبر، وكذلك التعميم واضح وصريح في قول ابن مسعود -رضي الله عنه-([224]).

 

والشاهد من هذا: أنّ الاستشكال المذكور بسبق الحجاج لعمر بن عبدالعزيز في الزمن، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقوا ربكم» لا يزول إلا بتذكر هذه القاعدة؛ وهي: (الفتن في كل زمان حسب رجاله)، فالرجال الموجودون في زمن الحجاج هم الصحابة، بخلاف الموجودين في زمن عمر بن عبدالعزيز فإنهم التابعون.

 

فصل

 

حرمة التشبه بأهل العراق في خروجهم الأول

 

وبناءً عليه؛ فإنّ المتأخرين من العلماء حكوا إجماع أهل السنة على حرمة الخروج على الأمراء، وعدوا ذلك من عقائد أهل السنة.

 

قال النووي في «شرح صحيح مسلم» (12/317): «وأما الخروج عليهم، وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة -أيضاً- فغلط من قائله، مخالف للإجماع».

 

وقال: «قال العلماء: وسبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه: ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه».

 

ونقل في (12/318) عن القاضي عياض في «إكمال المعلم» (6/247) أنّ أبا بكر بن مجاهد ادعى الإجماع في هذا، قال:

 

«وقد رد عليه بعضهم، بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين، والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث».

 

ثم ذكر أجوبة على هذا؛ من بينها:

 

«إن هذا الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم، والله أعلم».

 

وسبق ذكر شذرات من كلام العلماء الأكابر وفتاواهم في الفتن التي ظهرت في هذا الزمان، وبيان أن ذلك دخيل على منهج السلف الكرام، وتعرف الأمور بثمرتها، ويستحيل أن يَقِرّ الشرعُ وحملتُه وحراسُه نحو الفتن التي ظهرت في عدة من بلاد المسلمين، ولا سيما أن «الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة، وكفّ أهلها، وهذا شأن الفتن؛ كما قال -تعالى-: {وَاتّقوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذين ظَلَمُوا مِنكم خَاصّة} [الأنفال: 25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله»([225]).

 

فهؤلاء المعترضون على ما ذكرناه وقررناه، بثورات السابقين، غافلون عن توجيهات العلماء وتقريراتهم، وعن المعرفة الشرعية الحقيقية للفتن، وسنن الله -عزوجل- في الأمم، وقوانينه في التغيير، وجعلوا من جهلهم مجرد وقوع ما لم يحمد عُقباه، ولم يمدحه الشرع وما ارتضاه، دعوى عظيمة موجبة للولوغ([226]) فيما هو سبب للتضييق على الصادقين من الدعاة، السالكين منهج العلماء، ولا يعلمون أنّ غاية ما استدلوا به إنما هو من الخطإ المغفور، لا من السعي المشكور، وكل من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض!

 

فصل

 

الفتنة وكلت بثلاث

 

وعلى هؤلاء أنْ يتأملوا طويلاً، ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/17-18)، وأحمد في «الزهد» (2/136)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (352)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/274)، والداني في «الفتن» (28) بسند جيد عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، قال:

 

«إن الفتنة وكِّلت بثلاث: بالْحادِّ النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه، حتى تبلو ما عنده».

 

وفي رواية: «بالشريف»، بدل: «وبالسيد»، وفيها: «فأما الحاد النحرير فتصرعه، وأما هذان فتبحثهما حتى تبلو ما عندهما».

 

و(النحرير): هو الفطن البصير بكل شيء([227])، وتوكل الفتنة به إنْ كان حادّاً غير حليم، ولا أناة عنده، يريد الخير بمجرد وقوفه ومعرفته له، من غير اتباع منهج السلف وسنة الله -عز وجل- في التغيير، ودون النظر إلى مآلات الأفعال، وعواقب الأمور، التي لا يجوز لأحد أن يستشرف الفتنة، ولا يخوض فيها دون ذلك.

 

وتشمل كذلك المعجبين به، وبتقريراته، وأطروحاته، فيشاركون فيها، بشرفهم وسيادتهم، وبألسنتهم وخطبهم، ومقالاتهم ومؤلفاتهم ونشراتهم وصحفهم وهيآتهم، فتختبرهم الفتنة، وتبلو ما عندهم، فالخطيب والداعي لها أقرب منها من الشريف المعجب الذي بهرته الزخارف، وغرته الشعارات، ولعله إنْ تأمَّل وتحلّم، ونظر، وفكر، ودبّر، وقدّر، يخلص منها، إنْ تداركته رحمة مولاه، وخرج عن داعي هواه.

 

والمثل الذي لا يزال شاخصاً أمامنا، وما زلنا نسمع دويّ صوته، ونكتوي بناره ولظاه: فتنة عظيمة عظيمة، ما انعقد نوّارها، وثارت على المسلمين -كل المسلمين- من أقصى (الغرب)([228]) بسبب شباب متحمِّس، لا يحسن تقدير المصالح والمفاسد، ولا يزنها بميزان العلماء، ولا يقيم وزناً للضوابط المعتبرة عندهم، فثار ثورة هوجاء، ترتبت عليها نتائج خطيرة، وارتفعت أصوات تتهم (الدعوة السلفية)([229]) بما هي منها براء، إذ هؤلاء الشباب لم يتَّبعوا منهج السلف في التغيير، ولا اتّكأوا على تقريرات الأعلام من علماء هذه الدعوة المباركة، وإنما غرّهم حماسُهم، ولم يعرفوا تقدير مكنتهم، ولا استدراج عدوّهم، ولا ما يكاد لهم، ولا واجب وقتهم، فشاركوا فيها بتمرّد، وعلى منهج أهل الحماسات والخروج([230])، ودعت الحاجة إلى كشف حقيقة المشارب والمناهج والمدارس الفكرية العقدية التي تربى عليها هؤلاء المتمردون([231]).

 

ومن الجدير بالذكر: إنّ هذه الحوادث جعلت بعض (الأسياد) و(الشرفاء)([232])، وبعض (الخطباء) ونحوهم ممن لهم قبول عند (النحارير الحادين)([233]) يعيدون النظر في مواقفهم؛ لأنها بحثتهم وبلوتهم، وبطحت آخرين على وجوههم، وعمد بعضُ([234]) من انكشفت له العواقب الوخيمة لأعمال هؤلاء إلى استنكار ما يجري، فنشر في مواقع كثيرة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بياناً، أفصح عن رأيه وموقفه من صنيع هؤلاء، وكان صريحاً جريئاً -بحق- في توجيهه النَّقد، تكشف عن إدراك تام عن خطورة الموقف، وابتدأ الحديث عن المجاهدين بأفغانستان، ثم توجّه إلى بقاياهم -بعد سقوط حركة (طالبان)([235]) وظهور (دولة بني علمان) -والله المستعان- ممن انتشروا في سائر (البلدان)، وجرت على أيديهم قلاقل وتفجيرات وتثويرات([236])، تجسَّدت -على رأي (الإعلام) بـ(غَزْوَتي نيويورك وواشنطن)-، والله أعلم بحقيقة الأحوال.

 

قال الدكتور سفر مبيّناً (افتخارهم على سائر أبناء الأمة):

 

«فلو أنّ المجاهدين التزموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على التمام      -ومن ذلك: التشاور مع من يهمه الأمر، وترك الافتئات على سائر الأمة- لتحقق لهم من النكاية في العدو، وقوة الشوكة، ما ينفع ولا يضر، ولما كان لأحد أن يعترض عليهم إلا منافق معلوم النفاق».

 

وقال -أيضاً- منبّهاً على (الجانب النفسي في أفكارهم وتصرفاتهم):

 

«فعلى المصلحين والمربين، أنْ يدركوا الأهمية العظمى لدراسة السيرة النبوية، واستنتاج المراحل الدعوية منها؛ بفقه يُفرِّق بين الأحكام المنسوخة والأحوال المرحلية، ويعرف موضع الجهاد وأحكامه من كل مرحلة، وعليهم أن يتذكروا دائماً: أنّ النفسية الإسلامية في العصور الأخيرة هي انفعالية غير متزنة، فهي تفضِّل أنْ تخوض معركة الآن، أو تدفع كل ما تملك في لحظة انفعال -وإن كان قليل الجدوى-؛ على أن تسلك في برنامج، أو خطة لنفع الدين نفعاً عامّاً بعد سنة، بجهد رتيب دائم، أو نفقة مستمرة».

 

وقال -أيضاً-: «والشباب المتديِّن الذي وجدها فرصة للهروب من وطأة السجن، والملاحقة، والعذاب النفسي من المجتمع والأهل، وإحياء فريضة الجهاد».

 

وقال -أيضاً-: «وبقدر ما تعطي الحكومة في أي بلد الفرصة للإنكار على ما يجري في فلسطين -وغيرها-، وحرية الاحتجاج والتعبير، وإيصال المساعدة للمجاهدين هناك ونصرتهم؛ بقدر ذلك: تكون قد تجنبت تفريخ الخلايا الانتقامية التي لا تستشير، ولا تبالي بالإقدام على أي عمل كبير أو صغير، وقد أثبتت الحوادث المتكررة أنهم إذا قالوا؛ فعلوا، وإذا توعدوا؛ وفوا»!!

 

وقال -أيضاً-: «إن الانفتاح على هؤلاء ، وإتاحة الحرية لهم في عرض ما لديهم، ومحاورتهم على ضوء قاعدة المصالح والمفاسد الشرعية؛ هو الحل الصحيح والوحيد، وإلا فسندخل في متاهة لا قرار لها، ولا أدل على ضرورة هذا من معرفة أسباب تسرب الغلوّ في الفكر والعمل إلى بعضهم...».

 

وقال الشيخ سفر في (كشف حقيقة حالهم):

 

«ثم لا يتصدى للجهاد، ويرتدي اسمه ووصفه؛ إلا مجموعات متناثرة، لا راية لهم، ولا منهج، ولا تربية، فإن أحسنوا؛ فمن عند الله، وإن أساؤوا؛ فبتفريطنا وتقصيرنا، مع تفريطهم وتقصيرهم».

 

وقال في (عظم جنايتهم على الأمة):

 

«أمّا أنّه: لا يجوز لهذه الفئة، ولا لأي فئة أن تجلب على الأمة عداوة لا قبل لها بها، وتجرها إلى معركة غير متكافئة، لم تستعد لها الأمة، ولم تتوقعها؛ فهذا ما نرفع به الصوت، ولا نخافت، لكن إذا أبت تلك الفئة إلا الاستبداد بالرأي، وفعلت ما عنَّ لها؛ بلا مشورة، ولا مراعاة مصلحة؛ فإننا -حينئذٍ- سنكون نحن الأبرياء ونحن الضحايا لانتقام العدو الغاشم، وهذا ما سيقع للأفغان([237]) وغيرهم، فهم الأبرياء، وليس من سقط من العدو».

 

وقال في (بيان جهلهم واغترارهم):

 

«قد تكون هناك قرائن تدل على ضلوع بعض الشباب المنتمين إلى هذا البلد فيما حدث، ولكن لا قرينة ولا شبهة في أنّ الخطة وتداعيات الحدث أكبر مما تتصوره عقول هؤلاء الفتية الأحداث، الذين لم يغادر كثير منهم البلاد إلا منذ أشهر».

 

وقال متمماً هذا الكلام، كاشفاً عن حقيقة خطيرة؛ وهي: أنهم (ضحايا تغرير):

 

«ومن هنا؛ فإنّ الخطب الرنانة، والمقالات والتحقيقات الواسعة في بلادنا عن الحادث التي توحي بأن التهم حقيقية وأن التبعات مقصودة، وتصور هؤلاء الفتية وكأنهم شياطين مردوا على الشر، لا غاية لهم إلا تدمير السلام العالمي، والبطش بالأبرياء؛ هي مجافاة لمنطق العدل، ومنطق الدفاع عن البلد وأبنائه، وإساءة بالغة لمشاعر أهلهم وقبائلهم، وهي منافية بوضوح لتصريحات المسؤولين التي لم تزد على وصف هؤلاء بأنهم: ضحايا تغرير، فهكذا كان تصريح وزير الداخلية، وهو أكثر الناس متابعة لهؤلاء، وأعرفهم بدوافعهم».

 

ثم تكلم عن (انحرافات هؤلاء الشباب العقدية) بما يؤكد صلة ما يقومون به بمبدأ (الخوارج) الذي ظهر من العراق، وهاج من هناك، وبقي يتعاقب في أحداث ونفسيات إلى وصوله إليهم، قال:

 

«وذهب بهم الغلو إلى تكفير غيرهم، ومن ذلك تكفير الجماعات الإسلامية نفسها».

 

وقال: «وفي أفغانستان الْتَقَى المتطوعون القادمون من كل مكان -حتى من مصر نفسها-؛ بلا منهج، ولا تنظيم، بهؤلاء الذين يحملون منهجاً في التغيير، وفكراً تنظيميّاً، ومعاناة طويلة، وهكذا تأثر بعض الشباب بهم على اختلاف فيما بينهم، وتفاوت في الغلو، أو الاقتناع باستخدام العنف».

 

وتساءل بقوله: «كيف تسلل الغلو، وانتهاج العنف إلى بعضهم، وحوله إلى بلده ومجتمعه أحيانا؟» وأجاب بما أداه إليه رأيه واجتهاده، وهو لا يخرج عن التفسير التاريخي، الذي أخشى أنْ يكون من جنس الاحتجاج بالقدر الكوني، فأقول مستدركاً عليه -وفّقه الله-:

 

إنّ الجواب سهل ويسير، فيكفي أنْ يمد الدكتور يده إلى مكتبته، ليخرج كتاباً من كتب سيد قطب، ويقف بين صفحاته على النصوص الكثيرة التي (تسلل) من خلالها: (الغلو، وانتهاج العنف) إلى عقول وسلوك شباب الأمة الذين رُبُّوا على تلك الكتب.

 

يكفي أن يجدد الدكتور قراءاته في تلك النصوص بعين العدل والإنصاف، والتجرد للحق؛ ليكتشف أنّ الذي جرأهم على (الافتئات علىالأمة)، والإعراض عن علمائها، بل الطعن فيهم، وإساءة الظن فيهم، وربما تكفيرهم؛ إنما هو تلك النصوص القطبية التي زرعت فيهم روح الثورة على الأمة، واحتقار أولي الأمر فيها؛ أعني: العلماء.

 

ويكفي أنْ أذكر هنا نماذج من تلك النصوص:

 

أولاً: في بث روح الثورة والتمرّد على الأمة الإسلامية -بالمفهوم الجمعي للأمة-:

 

قال سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، مصرحاً بأنّ المجتمعات الإسلامية اليوم كلها مجتمعات جاهلية بلا استثناء:

 

«وأخيراً؛ يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة! وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار؛ لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا أنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله -أيضاً-، ولكنها تدخل في هذا الإطار؛ لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها... إنّ موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية -كلها- يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها».

 

وأكد ذلك بنفي وجود (الإسلام) علىوجه الأرض، فقال:

 

«وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم، على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام، لا نرى لهذا الدين وجوداً.. إنّ هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله بالحاكمية في حياة البشر، وذلك يوم أن تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة، ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وأن لا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أنْ يكونوا مسلمين؛ فهؤلاء من حقهم أنْ يستيقنوا؛ كيف يكونون مسلمين؟! إنّ أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون كثيرة -وما يزالون يبذلون- جهوداً ضخمة، ماكرة، خبيثة؛ ليستغلوا إشفاق الكثيرين الذين يحبون أنْ يكونوا مسلمين؛ من وقع هذه الحقيقة المريرة، ومن مواجهتها في النور، وتحرجهم كذلك من إعلان: أنّ وجود هذا الدين قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة مسلمة في الأرض عن تحكيم شريعة الله في أمرها كله...»([238]).

 

ويؤكد سيد قطب على تكفير المسلمين، بمن فيهم أولئك الذين يرفعون أصواتهم بالأذان خمس مرات في اليوم، فيقول:

 

«لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم جاءها الإسلام مبنيّاً على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله.

 

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بـ(لا إله إلا الله)؛ فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعنيَ هذا المدلولَ وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم، وهي مرادف الألوهية، سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب، فالأفراد كالتشكيلات كالشعوب ليست آلهة، فليس لها إذَنْ حقُّ الحاكمية... إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية، ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء.

 

البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله؛ بلا مدلول ولا واقع... وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة؛ لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد -من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات»([239]).

 

ويدعو سيد قطب إلى مفاصلة المجتمع الإسلامي؛ لأنه -في اعتقاده- مجتمع جاهلي لا يمت للإسلام بصلة، فيقول: «إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} [الأنعام: 65]، إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديّاً وشعوريّاً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام (دار إسلام) تعتصم بها، وإلا تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه: جاهلية وأهل جاهلية، وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج، وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين»([240]).

 

ويقول -أيضاً-: «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم؛ قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله، والفقه الإسلامي»([241]).

 

ويقول -أيضاً-: «فأما اليوم؛ فماذا؟! أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته لله وحده، والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد، والذي قرر أن تكون شريعة الله شريعته، والذي رفض بالفعل شريعة أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟ لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود!»([242]).

 

ويقول سيد قطب مؤكداً ما سبق، ومنتقداً من يفكرون في النظام الإسلامي: «إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته، أو يكتبون، يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ، يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر، وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر -بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي، وأحكامه الفقهية- فراغاً، لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام، ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام، ... إن تركيبه العضوي مناقض تماماً للتركيب العضوي للمجتمع المسلم، فالمجتمع المسلم -كما قلنا- يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام، مع تحمل ضغوط الجاهلية، وما توجهه من فتنة، وإيذاء، وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء، وحسن البلاء، من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف، أما المجتمع الجاهلي الحاضر؛ فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية... وهو -من ثم- يُعَدُّ بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغاً لا يعيش فيه هذا النظام، ولا تقوم فيه هذه الأحكام»([243]).

 

ثانياً: في احتقار العلماء([244])، وتجاوز المرجعيات الدينية للأمة:

 

يقول سيد قطب: «وبعض هذه الشبهات ناشىء عن التباس فكرة الدين ذاته بمن يسمون في هذا العصر: رجال الدين، وهو التباس مؤذ للإسلام، ولصورته في نفوس الناس، فهؤلاء الـ(رجال الدين)، أبعد خلق الله عن أن يمثلوا فكرته، ويرسموا صورته، لا بثقافتهم ولا بسلوكهم، ولا حتى بزيهم وهيئتهم، ولكن الجهل بحقيقة هذا الدين، والثقافة المدرسية الباقية من عهد الاحتلال، والتي ما يزال يشرف عليها الرجال الذين صنعهم الاحتلال، والأدوات التنفيذية التي صاغها بيده لتسد مسده بعد رحيله، هذا الجهل الناشئ عن تلك الثقافة لا يدع للناس صورة عن الإسلام يرونها إلا في هؤلاء الذين يعرفونهم: (رجال الدين)، وهي أسوأ صورة ممكنة للإسلام ولأي دين من الأديان»([245]).

 

ويقول سيد -أيضاً-: «وبعد؛ فليطمئن المخلصون من المفكرين، ورجال الفنون، ومن إليهم؛ أن حكم الإسلام لن يسلمهم إلى المشانق والسجون، ولن يكبت أفكارهم، ويحطم أقلامهم، وينبذهم من حمايته ورعايته، ولا يأخذوا الصيحات التافهة التي يصيحها اليوم: رجال الدين المحترفون في وجه بعض الكتب، وبعض الأفكار حجة!! فإنما هذه الصيحات تجارة رابحة اليوم، وحرفة كاسبة؛ لأنهم يعيشون في عهد الإقطاع الذي يقيمهم حراساً لمظالمه وجرائمه، ولكي يبرروا وجودهم في أعين الجماهير؛ يطلقون هذه الصيحات الفارغة بين الحين والحين، فأمّا حين يكون الحكم للإسلام؛ فلن يبقى لهؤلاء عمل، فسيكونون مجندين لعمل منتج نافع، هم وبقية المتعطلين المتمسكعين من كبار الملاك، ورجال الأموال، ومن الموظفين، والمستخدمين في الدواوين، ومن أحلاس المقاهي والمواخير والحانات، ومن المشردين في الشوارع والطرقات، أو المصطلين للشمس حول الأجران... وكلهم في التبطل والتسكع سواء، بعضهم: كاره مضطر، وبعضهم: كسول خامل، وبعضهم: مستغل مستهتر»([246]).

 

ويتعجب سيد من المفتين والمستفتين في المجتمعات الإسلامية عن مشكلات تواجههم، فيقول: «والإسلام نظام اجتماعي متكامل، تترابط جوانبه وتتساند، وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة ووسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية، وعن النظم المُطَبَّقة اليوم عندنا، يختلف اختلافاً كليّاً أصلاً عن هذه النظم، ومن المؤكد أنه لم يشترك في خلق المشكلات القائمة في المجتمع اليوم، إنما نشأت هذه المشكلات عن طبيعة النظم المطَبَّقة في المجتمع، ومن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة.

 

ولكن العجيب بعد هذا، أنْ يكثر استفتاء الإسلام في تلك المشكلات، وأن يُطلَب لها عنده حلول، وأن يُطلَب رأيه في قضايا لم ينشئها هو، ولم يشترك في إنشائها.

 

العجب أن يستفتى الإسلام في بلاد لا تطبق نظام الإسلام، في قضايا من نوع: (المرأة والبرلمان)، و(المرأة والعمل)، و(المرأة والاختلاط)، و(مشكلات الشباب الجنسية) وما إليها، وأن يستفتيه في هذا وأمثاله ناس لا يرضون للإسلام أن يحكم، بل إنه ليزعجهم أن يتصوروا يوم يجيء حكم الإسلام.

 

والأعجب من أسئلة هؤلاء أجوبة رجال الدين، ودخولهم مع هؤلاء السائلين في جدل حول رأي الإسلام، وحكم الإسلام في مثل هذه الجزئيات، وفي مثل هذه القضايا، في دولة لا تحكم بالإسلام.

 

ما للإسلام اليوم؛ وأن تدخل المرأة البرلمان، أو لا تدخل؟! ما له وأن يختلط الجنسان أو لا يختلطان؟([247]) ما له وأن تعمل المرأة أو لا تعمل؟ ما له وما لأي مشكلة من مشكلات النظم المطبقة في هذا المجتمع الذي لا يدين للإسلام، ولا يرضى حكم الإسلام؟

 

إنّ الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك، لا ينشأ في الأدمغة والأوراق، وإنما ينشأ في الحياة، وليس أية حياة، إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد، ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع أولاً بتركيبه العضوي الطبيعي، فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق، وعندئذٍ تختلف الأمور جدّاً، وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص -بعد نشأته في مواجهة الجاهلية، وتحركه في مواجهة الحياة- إلى البنوك، وشركات التأمين، وتحديد النسل،... إلخ، وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفاً أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها ولا شكلها، حتى نُشرِّع لها سلفاً! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها... ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية، ولا يرضى ببقائها، ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها، ولا بتلبيتها كذلك»([248]).

 

أقول: لا تحتاج هذه النصوص -وهي غيض من فيض- إلى شرح أو تعليق، فهي واضحة صريحة، تكشف حقيقة الأسس التي بنى عليها سيد قطب فكره، ثم جاء من بعده أتباعه فزادوا فيها من الغلو والتطرف ألواناً، فلا عجب أن يُلغُوا: (وجود الأمة الإسلامية)، ويتجاوزا (أولي الأمر فيها)؛ فينظروا إلى ورثة الأنبياء، الذين وقَّفوا حياتهم على خدمة كتاب الله -تعالى-، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، علماً وعملاً، وتفقهاً وتفقيهاً، وتعليماً ودعوة، وبذلوا -ومازالوا يبذلون- كل ما في استطاعتهم من أجل نشر دعوة التوحيد والسنة، ومحاربة مظاهر الشرك والبدع التي ابتليت بها معظم طوائف الأمة، لا عجب أن يعتبروا ذلك عملاً سفيهاً، وجهداً ضائعاً، ودعوة تنبئ عن جبن أولئك العلماء، وعجزهم، وإشغالهم أنفسهم بما لا يغضب الحكام خوفاً منهم، وخضوعاً لهم!!

 

نعم؛ لهذا وجدت في العالم الإسلامي أجيال من المسلمين ثائرة على الأمة، متمردة على العلماء، ساخرة من جهودهم في العلم والدعوة، لا ترى الدين إلا في (الحاكمية)([249]) -فبها فسر سيد قطب كلمة التوحيد!- فلا يقيسون الأمور إلا من خلالها، ولا يُقيِّمون الأشخاص إلا في ضوئها، ولا يحملون هدفاً في الحياة سوى الوصول إليها!

 

وهكذا انحسر الخطاب الديني في الأمة، وتاه كثير من الناس في المسالك المهلكة، وكان ذلك من أعظم المصائب التي نزلت بالمسلمين.

 

ورغم ذلك كله؛ فإنّ ما حققه علماء الأمة في العصر الحديث -بدءاً بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وحتى يوم الناس هذا- في إحياء منهج الأنبياء، وإصلاح عقائد المسلمين وأعمالهم، والخروج بهم من ظلمات الممارسات الشركية، والعبادات البدعية، والضلالات الأشعرية والصوفية، ليعودوا إلى منهج الكتاب والسنة، وسلف الأمة -علماً وعملاً، ونظاماً متكاملاً وشاملاً لحياة الفرد والمجتمع- خير كبير، وفضل من الله عظيم، يبعث على الاستبشار والتفاؤل، ويزيد أهل التوحيد والسنة ثباتاً على منهج السلف، والتفافاً حول علمائه ودعاته، وتفانياً في نشره ونصرته، حتى يأتي أمر الله -تعالى- وهم على ذلك([250]).

 

فصل

 

كلام جملي عن محور الفتنة وثمرتها ووقتها

 

ومادتها ووسيلتها ووقت اشتدادها

 

فالمحور العام الذي تتعلق به الفتن: الخلاف والافتراق الموصل إلى الخروج عن جماعة المسلمين بعامة، وإمامهم بخاصة، وثمرتها: استحلال الدم، وكثرة القتل والهرج، ومادتها: التكفير، ووسيلة أصحابها: مقالات بدعية، وأطروحات فكرية، وقوالب حزبية، ورصد الواقع، وتتبع الأحداث، وطريقتهم: التستر بمذهب السلف، وإبراز ما يشهد لبدعتهم من النصوص([251])، وتضخيم زلات مخالفيهم، يقول ابن تيمية عند كلامه على المبتدعة:

 

«وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف، ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية، الصواب في خلافها، فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالاً كبيراً»([252]).

 

ووقت الفتنة: الجهل وقلة العلم والإيمان، وذهاب العدل في الأمة، وعدم إشراق نور النبوة، وعدم ظهور سلطان الحجة، والعمل من أمام العلماء والتقدم عليهم، وانتقاصهم، وقطع العامة عنهم، والطعن في الأحكام الشرعية المستفادة من نصوص الشرع، والفُرقة والاختلاف.

 

قال ابن تيمية بعد كلام: «وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة؛ أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي -رضي الله عنه-، وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا، وكفّروا عليّاً ومعاوية ومن والاهما...»([253]).

 

والشاهد من هذا كلِّه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن منشأ الفتن، ووقت اشتدادها، والطريق التي توصل إلى (الدجال)، ومن المعلوم بيقين أن بدعة (الخروج)  -وهي أول بدعة عقدية حدثت في الأمة- ابتدأت من العراق، وهاجت منها على كثير من البلدان، في سائر الأزمان، وستتوالى وتشتد، وقد شاهدنا بعض ذلك بارزاً للعيان، ولا قوة إلا بالله.

 

فصل

 

مكان الفتنة

 

ومكانها: الوصول إلى كل مكان بمرور الزمان، ولكن لها محل تنزله، وتستقر به، ثم تهيّج منه، وهو العراق بخاصة، وجهة شرق المدينة بعامة.

 

أجاب الشيخ مقبل بن هادي -رحمه الله تعالى- عن سؤال في بيان معنى (نجد)([254]): أهي نجد الحجاز أم هي نجد العراق؟ فقال:

 

«الذي يظهر أنها تشمل هذا وهذا، فنجد عبارة عن ما ارتفع من الأرض، والعراق مرتفع، ويسمى نجداً، وهكذا -أيضاً- اليمامة وغيرها فهو مرتفع، ويسمى نجداً، ولكن إخواننا النجديين يريدون أن يرموا به أهل العراق، فالظاهر أنه يشمل هذا وهذا، وإن جاء في بعض الروايات العراق، فهو يحمل على أنه جاهل في نجد بدليل أنها كلها المشرق، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر أن الشمس تطلع بين قرني شيطان فكلها في المشرق، والظاهر أنه يشمل هذا وهذا، والله أعلم»([255]) انتهى.

 

قال أبو عبيدة: ويتقوى هذا العموم بالمحاورة التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وعيينة بن حصن، فإنّ فيها المفاضلة الظاهرة بين رجال (نجد) و(أهل اليمن).

 

أخرج النسائي في «السنن الكبرى» (8351)، وأحمد في «المسند» (4/387) وفي «فضائل الصحابة» (1650)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2269، 2282)، والطبراني في «مسند الشاميين» (969، 2040)، والحاكم في «المستدرك» (4/81) من طريق عبدالرحمن بن عائذ الأزدي، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/248-249 - مختصراً)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/327-328)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2270، 2283)، والطحاوي في «المشكل» (804) من طريق جبير بن نُفير؛ كلاهما عن عمرو بن عبسة، قال: عرضت الخيل على رسول الله -عليه السلام-وعنده عيينة بن بدر-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيينة: «أنا أفرس بالخيل منك»، فقال عيينة: إن تكن أفرس بالخيل مني، فأنا أفرس بالرجال منك، قال: «وكيف؟»، قال: إن خير رجال لبسوا البُرُد، ووضعوا سيوفهم على عواتقهم، وعرضوا الرماح على مناسج خيولهم، رجال نجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، بل هم أهل اليمن، والإيمان يمان إلى لخْم، وجُذَام، وعامِلَة، ومأكول حمير خيرٌ من أكلها، وحضرموت خير من بني الحارث» وسمى الأقيال الأنكال([256]).

 

وإسناده صحيح([257]).

 

وليس مراد عيينة (رجال نجد) أهل العراق خاصة، إذ هو يتكلم على قبائل معروفة، ولها أماكن معلومة.

 

وهذا الذي استظهرته معروف عند العلماء، ومن الخطإ العلمي المنهجي إسقاط الحادث الذي لم يعرفه المخاطبون -فضلاً عن المتحاورين كما في الحديث السابق- على أشياء ما دارت في خيالهم، وما سنحت في بالهم، فحصر الفتن في (العرق)، وكون (الفتن) تهيج منها فحسب، تضييق لا داعي له، وحمل الأحاديث التي فيها (ذكر المشرق) على عمومها أحسن وأظهر وأقوى، إذ حمل النصوص على (التأسيس) مقدم عند العلماء على حملها على (التأكيد)، والواقع -قديماً وحديثاً- يؤكد ذلك ويؤيده.

 

ويعجبني بهذا الصدد: تبويب ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/288-289)، فإنه أورد جملة من ألفاظ الأحاديث التي سقناها في أول هذا الفصل، وبوب عليها (فصل: إشارات نبوية إلى ما يقع من شرق المدينة ويمنها ونجدها).

 

وقال ابن عبدالبر في «الاستذكار» (27/246-247) في شرح حديث: «إن الفتنة ها هنا»:

 

«إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- إلى ناحية المشرق بالفتنة؛ لأن الفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين هي قتل عثمان بن عفان       -رضي الله عنه-، وهي كانت سبب وقعة الجمل، وحروب صفين، كانت في ناحية المشرق، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق، وما وراءها من المشرق.

 

روينا عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخرها الدجال([258]).

 

ومعلوم أن أكثر البدع إنما ظهرت وابتدأت من المشرق، وإن كان الذين اقتتلوا بالجَمَل وصِفّين منهم كثير من أهل الحجاز والشام، فإن الفتنة وقعت في ناحية المشرق، فكانت سبباً إلى افتراق كلمة المسلمين ومذاهبهم، وفساد نيات كثير منهم إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة، والله أعلم.

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ذلك لعلمه بوقوعه، ويحزن له، ولو ذكرنا الآثار والشواهد بما وصفنا، لخرجنا بذلك عما إليه في هذا الكتاب قصدنا، وبالله التوفيق» انتهى.

 

وقال -أيضاً- في شرحه:

 

«أخبر صلى الله عليه وسلم عن إقبال الفتن من ناحية المشرق، وكذلك أكثر الفتن من المشرق انبعثت، وبها كانت؛ نحو: الجمل، وصفين، وقتل الحسين، وغير ذلك، مما يطول ذكره مما كان بعد ذلك من الفتن بالعراق، وخراسان، إلى اليوم، وقد كانت الفتن في كل ناحية من نواحي الإسلام، ولكنها بالمشرق أكثر أبداً»([259]).

 

ويعجبني -أيضاً- ما ذكره شراح «الشفا» للقاضي عياض، عند قوله:

 

«وفتح عليه في حياته: بلاد الحجاز، واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، قال الخفاجي في «نسيم الرياض» (1/472) شارحاً الكلام السابق:

 

«وأما العراق فهو إقليم معروف، وهو عراق العرب، وفيه مدن عظيمة وقرى، وطوله من تكريت إلى عبادان، وهي قرية، ولذا قيل في المثل: (ما وراء عبادان  قرية)، وعرضه من القادسية إلى حلوان، ودجلة حده، جانبها الأيمن للعراق([260])، واليسار لفارس، وأما عراق العجم -وهو إقليم خراسان، ولفظ العراق عربي، وقيل: إنه معرَّب إيران»، قال -وهذا هو موطن الشاهد-: «والعراق: فتح منها البحرين، وقدم أهلها على النبي صلى الله عليه وسلم على ما فُصِّل في السير والتواريخ، ومن لم يقف على هذا، قال: إنها إنما فتحت في زمن أبي بكر -رضي الله عنه-، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيحها، ووعد بفتحها» انتهى.

 

فمن الخطإ الجسيم حصر (تهييج الفتن) بالعراق -بحدوده الجغرافية اليوم- ونسيان مسمى (العراق) وحدوده آنذاك، وتناسي الأحاديث التي فيها ذكر عموم جهة (المشرق)([261])، والله الموفق.

 

ويدل على هذا: ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/654 -  ط. دار الفكر) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب، قال: قال أبو بكر: هل بالعراق أرض يقال لها خراسان؟ قالوا: نعم. قال: «فإنّ الدجال يخرج منها»([262]).

 

ففي هذا الأثر أن (خراسان) من العراق، وهي (عراق العجم)، كما قدمناه آنفاً.

 

وأخرج حنبل بن إسحاق في آخر جزئه «الفتن» (ص 165-166/رقم 50)، قال: حدثنا قبيصة وحجاج، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي غالب، قال:

 

كنت أمشي مع نوف بن فضالة، ولا أعرفه، حتى انتهيت إلى عقبة أفيق([263])، فقال: هذا المكان الذي يقتل فيه الدجال.

 

فقلت: من أنت؟ فقال: أنا نوف، فقلت: يرحمك الله، ألا أخبرتني حتى أسامرك وأذاكرك وأحمل عنك! فقال: من أنت؟ فقلت: من أهل البصرة، فقال: هل إلى جنبكم جبل يقال له سَنِير؟ فقلت: سنام، فقال: هو هو، فقال: هل إلى جنبكم نهر يقال له الصَّفِي؟ فقلت: صفوان، فقال: هو هو، أما إنهما يسيران (أي: يكونان) مع الدجال طعاماً وشراباً، وهو جبل ملعون، وهو أول جبل وُضع في الأرض.

 

ثم ينزل عيسى -عليه السلام-، فيمكث في الأرض أربعين صباحاً، اليوم كالساعة، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1569 - ط. الزهيري، ورقم 1562 - ط. التوفيقية): حدثنا عبدالصمد، عن حماد، به مختصراً.

 

وإسناده حسن، أبو غالب اسمه حَزَوَّر، تابعي شامي، صاحب أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان، وأما نوف فهو البكالي الحميدي، من أهل دمشق، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، كان عالماً، ويروي كثيراً من الإسرائيليات([264]).

 

و(جبل سنير) أو (سنام) هو جبل مشرف على البصرة، إلى جانبه ماء، ويقال: إنه أول ماء يرده الدجال من مياه العرب([265])، ويسمى اليوم (جبل السلام)، وهو بالقرب من (صفوان)، وهي مدينة اليوم من مدن (الكويت)، وكانت في زمن التابعين -كما يظهر من المحاورة المذكورة- ضمن العراق.

 

ومن أفرى الفرى، وأعاجيب الأكاذيب ما يردده المبتدعة من أنّ المراد بـ(نجد) المذكورة في حديث «بها يطلع قرن الشيطان» هي: (دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب) المباركة، وقد كشفنا اللثام عن ذلك من خلال نقولات لأئمة أعلام، ونختم بنقولات متناثرة لشيخنا حسنة الأيام، وشامة الشام: محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني -رحمه الله تعالى-، فنقول:

 

فصل

 

رد شيخنا الألباني لفرية (نجد) التي يطلع منها قرن الشيطان

 

هي دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى-

 

قد اعتنى -رحمه الله تعالى- برد هذه الفرية عناية جيدة، فكان -رحمه الله- يُكثِر في مجالسه من بيان بطلانها، وهذا ما وقفت عليه من محاربته لها في كتبه([266]):

 

* قال في «السلسلة الضعيفة» (10/714-715):

 

«وكل من أمعن النظر في بعض طرق الحديث -فضلاً عن مجموعها-؛ يعلم يقيناً أن الجهة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ههنا» إنما هي جهة المشرق، وهي على التحديد العراق، والواقع يشهد أنها منبع الفتن، قديماً وحديثاً».

 

* وقال في «السلسلة الصحيحة» (5/305-306) بعد تخريج طويل للحديث:

 

«وإنما أفضت في تخريج هذا الحديث الصحيح وذكر طرقه وبعض ألفاظه؛ لأن بعض المبتدعة المحاربين للسنة والمنحرفين عن التوحيد يطعنون في الإمام محمد بن عبدالوهاب مجدد دعوة التوحيد في الجزيرة العربية، ويحملون الحديث عليه باعتباره من بلاد (نجد) المعروفة اليوم بهذا الاسم، وجهلوا أو تجاهلوا أنها ليست هي المقصودة بهذا الحديث، وإنما هي (العراق) كما دل عليه أكثر طرق الحديث، وبذلك قال العلماء قديماً كالإمام الخطابي وابن حجر العسقلاني وغيرهم.

 

وجهلوا -أيضاً- أن كون الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنه هو مذموم -أيضاً- إذا كان صالحاً في نفسه، والعكس بالعكس، فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر، وفي العراق من عالم وصالح، وما أحكم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء حينما دعاه أن يهاجر من العراق إلى الشام:

 

«أما بعد؛ فإن الأرض المقدسة لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله»([267]).

 

وفي مقابل أولئك المبتدعة من أنكر هذا الحديث وحكم عليه بالوضع؛ لما فيه من ذم العراق، كما فعل الأستاذ صلاح الدين المنجد في مقدمته على «فضائل الشام ودمشق»، ورددت عليه في تخريجي لأحاديثه، وأثبت أن الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم العلمية، فانظر الحديث الثامن منه».

 

* وقال فيها -أيضاً- (5/655-656) بعد تخريج للحديث:

 

«قلت: وطرق الحديث متضافرة على أنّ الجهة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي المشرق، وهي على التحديد العراق، كما رأيت في بعض الروايات الصريحة، فالحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن أول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة كبدعة التشيع والخروج ونحوها. وقد روى البخاري (7/77) وأحمد (2/85، 153) عن ابن أبي نُعْم، قال:

 

شهدت ابن عمر وسأله رجل من أهل العراق عن محرم قتل ذباباً، فقال: يا أهل العراق! تسألوني عن محرم قتل ذباباً، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«هما ريحانتي من الدنيا».».

 

* وقال في كتابه «مختصر صحيح البخاري» (1/310-311) تعليقاً على حديث ابن عمر، وفيه لفظة: «وفي نجدنا»، فأثبت في الهامش ما نصه:

 

«قلت: أي: (عراقنا)، كما في بعض الروايات الصحيحة، وبذلك فسّره الخطابي والعسقلاني، كما بينته في رسالتي «تخريج فضائل الشام (ص 9-10 رقم الحديث 8) خلافاً لما عليه كثير من الناس اليوم، ويزعمون -لجهلهم- أن المقصود بـ(نجد) هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وأن الحديث يشير إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه -حاشاهم-، فإنهم الذين رفعوا راية التوحيد خفاقة في بلاد نجد وغيرها، جزاهم الله عن الإسلام خيراً».

 

* وقال في «تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق» (ص 26-27) عقب تخريجه:

 

«فيستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من «نجد» في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق، وبذلك فسره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتجد كلامهما في ذلك في «شرح كتاب الفتن» من «صحيح البخاري» للحافظ.

 

وقد تحقق ما أنبأ به -عليه السلام-، فإن كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق، كالقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة، وغيرها مما هو مذكور في كتب التاريخ، فالحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعلام نبوته».

 

فصل

 

العراق والفتنة وإبليس

 

وردت مجموعة من الآثار فيها ذكر للفتنة في العراق، وسأعمل على بثّها في أماكنها من مبحثنا هذا([268])، والذي يهمني منها هنا ذكر ما يشهد للأحاديث بوقوع مجمل الفتن الجسام، والبدع العظام، وأن ذلك كائن لا محالة في العراق، وأن الفتن التي تصف بالأمة، وتموج موج البحر فيها، وتلطم المسلمين في سائر أرجاء المعمورة، وتبقى لها آثار جليّة في حياتهم بعد انحسار أمواجها، إنما مبعثها من العراق، ذلك أن الشيطان تمكّن منها، واستقرّ فيها، وعبّر بعض السلف عن ذلك بقولهم: (قضى قضاءه) منها، وورد في بعض الأحاديث أنه (باض وفرّخ) في أهلها! وفي صحتها كلام، وهذا هو تفصيلها على التمام، ومنه يتبيّن أنه من كلام بعض الصحابة الكرام:

 

أخرج الطبراني في «الكبير» (12/261-262 رقم 13290) و«الأوسط» (7/220-221 رقم 6427)، وابن المقرئ -وليس موجوداً في مطبوع «معجمه»، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/317)-، وأبو الفتح الأزدي في «الضعفاء» -كما في «اللآلئ المصنوعة» (1/465) و«تنزيه الشريعة» (2/50) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/58)-، والسمعاني في «فضائل الشام» (ص 39-40/رقم 10)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» ومن طريقه الخطيب -ومن طريقهما ابن عساكر (1/317-318)-؛ جميعهم عن ابن وهب -وليس في القسم المطبوع من «جامعه»-: أخبرني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب، عن عُقيل، عن الزهري، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن ابن عمر([269])، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

«دخل إبليس العراق، فقضى حاجته، ودخل الشام فطردوه حتى بلغ بساق([270])، ودخل مصر فباض فيها وفرّخ، وبسط عبقريَّه([271])».

 

قال الطبراني: «تفرد به ابن وهب».

 

وأسقط ابن المقرئ (الزهري) وزاد عن ابن وهب قوله: «أرى ذلك في فتنة عثمان؛ لأن الناس افتتنوا فيه، وسَلِم أهل الشام».

 

وضُعِّف هذا الإسناد بعلل([272])؛ هي:

 

الأولى: فيه أحمد بن عبدالرحمن ابن أخي وهب، ضُعِّف، بل تعقب الذهبيُّ الحاكم عندما صحح حديثاً من طريقه، فقال في «التلخيص» (3/97): «أحمد منكر الحديث».

 

قلت: وتابعه عليه حرملة بن يحيى، وهو صدوق من أعلم الناس بابن وهب. قاله الدوري وابن يونس والعقيلي، كما تراه في «تهذيب الكمال» وغيره.

 

ورواية حرملة؛ عند: الطبراني، والفسوي، وابن المقرئ، والسمعاني، وابن عساكر.

 

ولذا لما قال ابن الجوزي على إثره: «وأحمد ابن أخي وهب كذاب» تعقبه السيوطي في «اللآلئ» (2/465) بقوله:

 

«قلت:  كلا، بل أحمد ثقة روى له مسلم. وقال ابن عدي: كل ما أنكروه عليه فيحتمل، وإن لم يروه غيره، لعل عمه خصه به.

 

وقال عبدان: كان مستقيم الأمر، ومن لم يلحق حرملة اعتمده»، قال: «ولم ينفرد بهذا الحديث، بل تابعه عليه حرملة».

 

الثانية: يحيى بن أيوب -وهو الغافقي- ليس بالقوي.

 

قلت: قال ابن حجر ملخصاً حاله: «صدوق ربما أخطأ»، وهذا أعدل الأقوال فيه، وروايته مقرونة بابن لهيعة.

 

الثالثة: ابن لهيعة مطروح.

 

قلت: الكلام فيه مبسوط، وهو مشهور، فلا داعي للإطالة، ولكن الراوي عنه هنا أحد العبادلة، وهو ابن وهب، روى عنه قبل اختلاطه، ومشى العلماء روايته.

 

الرابعة: عُقيل بن خالد يروي عن الزهري مناكير.

 

قلت: ليس كذلك، بل عُقيل بن خالد الأيلي من أثبت أصحاب الزهري وأكثرهم ملازمة له، ولذلك عدّه الحازمي وابن رجب في الطبقة الأولى من طبقات أصحابه([273]).

 

وعندما سئل أبو حاتم عن عقيل ومعمر أيهما أثبت؟ قال: عقيل أثبت، كان صاحب كتاب، وكان الزهري يكون بأيلة، وللزهري هناك ضيعة([274])، كان يكتب عنه([275]).

 

وقد صرح بملازمته له: يونس بن يزيد، حيث قال: كان عقيل يصحب الزهري في سفره وحضره([276]).

 

وقال ابن معين: أثبت الناس في الزهري مالك بن أنس، ومعمر، ويونس، وعقيل، وشعيب بن أبي حمزة، وابن عيينة([277]).

 

وقال الذهبي: حدث عن ابن شهاب فأكثر وجود([278]).

 

كما وصفه ابن حجر بتأكيد التوثيق، فقال: ثقة ثبت([279]).

 

فالخلاصة: أنه ثقة ثبت وعُدَّ من أصحاب الزهري([280]).

 

الخامسة -والأخيرة-: إن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس لم يسمع من ابن عمر شيئاً، لذا لم يخرج له أصحاب الكتب الستة ولا غيرهم شيئاً عنه مباشرة، فلا ترجمة له في (مسند ابن عمر) في «تحفة الأشراف» ولا في «إتحاف المهرة»، ولا رواية له عن ابن عمر في ترجمته من «تهذيب الكمال» (32/350-353)، وبينهما واسطة على الأقل، يعرف ذلك من خلال من روى عنهم، بل بين بعض شيوخه وابن عمر واسطتان.

 

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/60): «رواه الطبراني في «الكبير» و«الأوسط» من رواية يعقوب بن عبدالله بن عتبة بن الأخنس، عن ابن عمر ولم يسمع منه، ورجاله ثقات».

 

قلت: وهذا أدق من قول شهاب الدين المقدسي في «مثير الغرام» (ص 98): «رواه الطبراني عن ابن عمر، وإسناده قوي»!

 

نعم؛ روي مرفوعاً من وجه آخر، بلفظ فيه تبديل، ذُكر فيه ما لأهل مصر في الطريق السابق لأهل العراق في هذا الطريق، ولكن لا يفرح به! وهذا التفصيل:

 

أخرج المشرف بن المرجى في «فضائل بيت المقدس» (ص 434)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/318) من طريق خطاب بن أيوب: نا عباد ابن كثير، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«إن الشيطان أتى العراق، فباض فيهم وفرّخ، ثم أتى مصر، فبسط عبقريَّه، ثم أتى الشام فطردوه».

 

ولفظ ابن عساكر: «إنّ إبليس...» مثله.

 

(خطاب بن أيوب)، اختلف في اسمه على وجوه وألوان، نقله ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 59): «خطاب بن يوسف»، ووقع في مطبوع «تاريخ ابن عساكر» و«اللآلئ» (2/466): «خطاب بن أيوب»، ووقع في مطبوع «فضائل بيت المقدس»: «حطاب -بالحاء المهملة- ابن أيوب»، وآفة الحديث شيخه (عباد بن كثير)، قال البخاري في «الضعفاء الصغير» (رقم 227): «تركوه»، وقال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» (408): «متروك»، وكان فيه بلاء وغفلة([281]).

 

وسعيد هو الجُريري مختلط.

 

فهذا إسناد ضعيف جدّاً.

 

وروي من مرسل إياس بن معاوية، أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/99) من طريق الحسين بن الطيب البلخي: ثنا عون بن موسى، عن إياس بن معاوية رفعه، بلفظ:

 

«إن الله تكفّل لي بالشام وأهله، وإن إبليس أتى العراق فباض وفرّخ، ...» بنحوه.

 

وهذا مع إرساله منقطع بين البلخي وعون بن موسى.

 

هذه هي الطرق المرفوعة([282]) التي وقفت عليها للحديث، وهي ضعيفة لا تنجبر بتعددها.

 

وأصح ما وقفت عليه في هذا الباب:

 

ما أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/305-306) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/318)- من طريق عباس بن أبي شملة، عن موسى بن يعقوب، عن زيد بن أبي عتاب، عن أسيد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب([283])، عن ابن عمر، قال:

 

«نزل الشيطان بالمشرق، فقضى قضاءه، ثم خرج يريد الأرض المقدسة (الشام)، فمنع، فخرج على بُساق حتى جاء المغرب، فباض بيضه، وبسط بها عبقريَّه».

 

قال ابن رجب: «وهذا الموقوف أشبه»([284]).

 

قلت: إسناده لا بأس به، وفي بعض رواته كلام لا يضر -إن شاء الله-، وإنما أطلت النفس في تخريجه مرفوعاً -أيضاً-، لشيوعه وكثرة سؤال الناس عنه، ولا سيما هذه الأيام.

 

وقد ظفرتُ به من كلام عمر -رضي الله عنه-، فلعل عبدالله أخذه عن أبيه، وهذا البيان:

 

أخرج أبو بكر البيهقي في كتابه «دلائل النبوة» (6/486-487): أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرنا أبو النصر، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا عبدالله بن صالح المصري، أن معاوية بن صالح حدثه عن شريح بن عبيد، عن أبي عَذَبَةَ، قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فأخبره أن أهل العراق قد حصبوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى لنا الصلاة، فسهى فيها حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فلما سلَّم أقبل على الناس، فقال: مَنْ هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل، ثم قام آخر، ثم قمت أنا ثالثاً أو رابعاً، فقال: يا أهل الشام! استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرّخ، اللهم إنهم قد لبسوا عليّ فالبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يَقبَلُ من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم.

 

قال عبدالله بن صالح: وحدثني ابن لهيعة بمثله، قال: وما ولد الحجاج يومئذٍ.

 

وكذا رواه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/529) عن عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح.

 

ورواه عثمان الدارمي ويعقوب بن سفيان (2/755) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/81-82)-، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/442) عن أبي اليمان، عن حريز بن عثمان، عن عبدالرحمن بن ميسرة ابن أزهر، عن أبي عذبة، قال: قدمت على عمر رابع أربعة...، وذكر الحديث.

 

قال عثمان: قال أبو اليمان: علم عمر أن الحجاج خارج لا محالة، فلما أغضبوه استعجل العقوبة التي لا بد لهم منها.

 

وأخرجه ابن عساكر (67/82) من طريق شريح بن عبيد عن عمر بن سليم الحضرمي... وذكر نحوه.

 

قلت: وطريقه في علم هذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أسماء بنت الصديق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في ثقيف كذاباً ومبيراً»؛ فالكذاب: المختارُ بن أبي عبيد، والمبير هو الحجاج، كما فَسَّرتْ ذلك للحجاج حين قتل ولدها -رضي الله عنه-، وذلك ثابت في «صحيح مسلم» (4/1971-1972).

 

وقد كان الحجاج من الملوك الجبارين الذين طغوا في البلاد، وقتل الجمَّ الغفير من صدر هذه الأمة، ومع هذا فأمره إلى الله، فإنه لم يقترف بغير الظلم وسفك الدماء، ولا يلتفت إلى قول الرافضة فيه من تكفيره وتكفير مستتيبيه، بل هو من ملوك الإسلام، له ما لهم، وعليه ما عليهم. أفاده ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/663-664).

 

وذكر البلاذري في «أنساب الأشراف» (10/387 - جمل منه) ضمن خبر طويل، فيه وصية عمر للمغيرة بن شعبة، وقوله له: «إني أريد أن أبعثك إلى بلد قد عشش فيه الشيطان»؛ يريد: العراق. وأسنده من طريق ضعيف، ومنقطع.

 

وجاء نحوه ضمن أثر طويل عن كعب قوله في محاورة له مع عمر      -رضي الله عنه-.

 

أخرج ابن عساكر (1/159) بسنده إلى أبي إدريس، قال:

 

قدم علينا عمر بن الخطاب الشام، فقال: إني أريد أن آتي العراق، فقال له كعب الأحبار: أُعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك. قال: وما تكره من ذلك؟ قال: بها تسعة أعشار الشر، وكل داء عضال، وعصاة الجن، وهاروت وماروت، وبها باض إبليس وفرَّخ([285]).

 

ورواه مالك في «الموطأ» (604 - رواية يحيى، و2/154 رقم 2055- رواية أبي مصعب الزهري) بلاغاً، قال: بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق، فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإنّ بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال.

 

زاد أبو مصعب: «والعضال؛ يعني: الأهواء».

 

وقال ابن عبدالبر: «سئل مالك عن الداء العضال، فقال: الهلاك في الدين»، وقال:

 

«وأما السحر؛ فمنسوب إلى أرض بابل، وهي من العراق، وتنسب       -أيضاً- إلى مصر.

 

وأما فسقة الجن؛ فهذا لا يعرف إلا بتوقيف ممن يجب التسليم له، وذلك معدوم في هذه القصة.

 

ولأهل الكوفة والبصرة روايات؛ رواها علماؤهم في فضائلها.

 

ذكر أبو بكر بن أبي شيبة كثيراً منها.

 

ولم تُختطّ الكوفة ولا البصرة إلا برأي عمر -رضي الله عنه-، ونزلها جماعة من كبار الصحابة، وكان بها العلماء والعباد والفضلاء، وأهل الأدب، والفقهاء، وأهل العلم، وهذا أشهر وأغرب من أن يحتاج إلى استشهاد؛ لأنه علم ظاهر، وعلم فسقة الجن علم باطن، وكل آية تعرف لناحيتها فضلاً تنشره إذا سئلَتْ عنه، وتطلب العيب لمن عابها، ومن طلب عيباً وجده، والفاضل حيث كان فهو فاضل، والمفضول الساقط حيث كان من البلدان، لا تصلحه بلدة؛ لأنّ الأرض لا تقدس صاحبها، وإنما يقدس المرء عمله([286])، وإن من مدح بلدة وذم أخرى يحتاج إلى توقيف ممن يجب التسليم له على أنه لا مدح ولا ذم لبلدة إلا على الأغلب من أحوال أهلها، وأما على العموم فلا.

 

وقد عم البلاء والفتن اليوم في كل جهة من جهات الدنيا»([287]).

 

قال أبو عبيدة: هذا كلامه -رحمه الله تعالى- في عصره وأوانه، فكيف لو رأى ما رأينا، وبلغه ما بلغنا، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله من غربة الإسلام وأهله.

 

وقد يكون التحذير حاصلاً لأمارات واقعة من غير مدافعة في بعض الأحداث([288])، أو في حق بعض الأشخاص، فها هو عبدالله بن سلام جلس على طريق علي -رضي الله عنه- حين أتاه، فقال له: أين تريد؟ قال: العراق. قال: «لا تأت العراق، وعليك بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فالزمه، ولا أدري هل ينجيك، فوالله لئن تركته لا تراه أبداً».

 

أخرجه إسحاق بن راهويه -كما في «المطالب العالية» (18/57-58 رقم 4376 - العاصمة)-، وأبو العرب في «الفتن» (ص 82)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/153 رقم 390)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ص 354، 356 - ترجمة عثمان) بإسناد صحيح.

 

وقال البوصيري في «إتحاف المهرة» (10/118-119 رقم 9696)    -وعزاه لإسحاق-: «ورواته ثقات».

 

ومما يتفطن له بهذا الصدد، ما سبق تخريجه مطولاً -وهو في «الصحيحين» وغيرهما- من قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان» و«المراد بذلك: اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان، ومن الكفر»([289])، وضرب المثل بقرني الشيطان فيما لا يحمد من الأمور.

 

«والحاصل: أن المشرق اختص بمزيد من تسلط الشيطان عليه، وأنه رأس الكفر ومنبع الفساد، وبؤر الإلحاد والعناد، فجهته ممقوتة غير محمودة، فلذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم به المثل بقرني الشيطان، كما يفهم من كلام الخطابي -رحمه الله- المتقدم، وقد تسلط الشيطان وأعوانه على تلك الديار أيما تسلط، ومن تسلطه عليه نتج الفساد العريض، والفتن العاصفة المهلكة، عبر الأزمان الغابرة والمعاصرة، والتي تقدم ذكر جملة منها؛ كقتل عثمان بن عفان والحسين بن علي -رضي الله عنهم أجمعين-، وموقعة الجمل وصفين، وظهور الفرق المارقة، وحركة القرامطة، وغزو التتار، والحرب بين العراق وإيران، ثم بين العراق والكويت، فنعوذ بالله من تسلط الشيطان وأعوانه علينا وعلى المسلمين، والله أعلم»([290]).

 

فصل

 

في تخريج حديث: «منعت العراق...»

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال:

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنعتِ العراقُ درهمها وقَفيزَها، ومَنعتِ الشّامُ مُدْيَها ودينارها، ومنعت مصرُ إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم».

 

شهد على ذلك لحمُ أبي هريرة ودمُه.

 

* تخريجه:

 

أخرجه مسلم في «صحيحه» (2896) بعد (33) -ومن طريقه أبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 602)- من طريق يحيى بن آدم -وهو في «الخراج» (ص 67-68/رقم 227) له- عن زهير، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. واللفظ السابق له.

 

وأخرجه البيهقي في «الخلافيات» (2/ق131/ب) من طريق الحسين ابن علي بن عفّان، نا يحيى بن آدم، به.

 

وأخرجه أبو داود في «سننه» (3035) من طريق أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية، به.

 

ولم يعزه في «تحفة الأشراف» (9/403 رقم 12652) من هذا الطريق إلا لمسلم وأبي داود، ووقع الحديث معزوّاً في «أحكام أهل الذمة» (1/266 - ط. رمادي) للشيخين! وهو ليس عند البخاريّ بهذا اللفظ، وفيه ما يدلُّ عليه، كما سيأتي قريباً، فقول المعلقين عليه: «بل هو في «صحيح مسلم»، ولم يخرجه البخاري، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله-»؛ فيه نظر! مع أنّ أخانا الشيخ عبدالله العبيلان -حفظه الله- ذكره في كتابه «إرشاد القاري إلى أفراد مسلم عن البخاري»([291]) (2/212 رقم 1093).

 

قلت: وأخرجه أحمد (2/262)، وأبو عبيد في «الأموال» (ص 91/ رقم 182)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/120) و«أحكام القرآن» (2/28)، وابن المنذر في «الأوسط» (11/45 رقم 6433)، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (رقم 2767 - ط. الفلاح، أو 2673 - ط. مؤسسة نادر، أو 2684 - ط. الخانجي)، وابن زنجويه في «الأموال» (1/217 رقم 274)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (9/457)، وابن عدي في «الكامل» (3/1286 - ط. دار الفكر، أو 4/523 - ط. دار الكتب العلمية)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/329) و«السنن الكبرى» (9/137)، وأبو محمد البغوي في «شرح السنة» (2754)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/210 - ط. دار الفكر) من طرق عن زهير، به.

 

وعزاه ابن حجر في «إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة» (14/549 رقم 18195) إلى أبي عوانة في «مسنده» (كتاب الفتن) من طرق عن زهير، به. وهو في (القسم المفقود) منه.

 

وأعاده (14/585 رقم 18273) معزوّاً لابن الجارود.

 

وهو في «المنتقى» له (ص 373-374/رقم 1108) من طريق زهير   -أيضاً-.

 

فالحديث إسناده صحيح، وهو غريب من هذا الطريق، مداره على زهير ابن معاوية، به. قال الطحاوي في «أحكام القرآن» (2/29): «لم يروه غير زهير».

 

وتوبع زهير([292])، ولم أجد له متابعاً إلا (عياش بن عباس القتباني) وآخران، قال ابن عدي في «الكامل» (3/1286 - ط. دار الفكر، أو 4/523 - ط. دار الكتب العلمية) بعد أن أخرجه من طريق زهير:

 

«وهذا الحديث لا يعرف إلا بسهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة. ولا أعلم رواه عن سهيل إلا رجلين:

 

* زهير بن معاوية؛ هذا الذي ذكرتُه.

 

* وعياش بن عباس القتباني»([293]).

 

وأسنده من طريق عياش، فقال: «حدثناه الحسين بن محمد المديني، ثنا يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة، عن عياش بن عباس؛ هكذا، ولم يسق لفظه.

 

ثم ظفرتُ بلفظه من طريق عياش -وهو ثقة-.

 

أخرجه ابن عدي في «الكامل» -أيضاً- (4/1468 - ط. دار الفكر، أو 5/248 - ط. دار الكتب العلمية)، قال:

 

أخبرنا الحسن بن محمد المدني([294])، ثنا يحيى بن عبدالله بن بكير، ثنا ابن لهيعة، عن عياش بن عباس([295])، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:

 

«لا تقوم الساعة حتى يُغلبَ أهلُ المدّ([296]) على مُدِّهم([297])، وأَهلُ القفيزِ على قفيزهم، وأهلُ الإردَبّ على إردبِّهم، وأهلُ الدينارِ على دينارهم، وأهل الدّرهم على درهمهم، ويرجع الناس إلى بلادهم».

 

وقال على إثره كما تقدم عنه، ونصّ كلامه:

 

«ولا أعلم يرويه عن سهيل غيرُ عياشٍ وزهيرِ بن معاوية، وحدث به عن عياش: ابنُ لهيعة، ورواه -أيضاً- زهير بن معاوية عن سهيلِ بن أبي صالح كذلك».

 

قلت: نعم؛ المعنى مؤتلف، والألفاظ مختلفة، وسبق لفظ زهير.

 

أما بالنسبة إلى رواية ابن لهيعة؛ فقد رواها غير ابن بكير! أخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (1/217-218 رقم 275) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/211-212)-: أنا أبو الأسود، أنا ابن لهيعة، به.

 

وأخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الأوسط» (8/383 رقم 8944 -     ط. الحرمين، أو 9/436-437 رقم 8939 - ط. الطحان): حدثنا مقدام، ثنا أبو الأسود، به. وقال: «لم يرو هذا الحديث عن عياش بن عباس إلا ابنُ لهيعةَ، تفرد به أبو الأسود».

 

وأبو الأسود هو النضر بن عبدالجبار المصري، مشهور بكنيته، وهو ثقة، ولم ينفرد به، وإنما تابعه عليه -كما رأيت- يحيى بن عبدالله بن بكير.

 

ووجدته في «الخلافيات» (2/ق131/ب) من طريق الحسين بن بكر: نا أبو النضر، نا ابن خيثمة، نا سهيل، به. كذا في مخطوطه، وصوابه: «أبو الأسود النضر، نا ابن لهيعة» بالإسناد السابق؛ ففيه تحريف وسقط، والله أعلم.

 

وخالفَ أبا الأسود وابنَ بكير: (عبدُالله بن وهب).

 

أخرجه ابن قتيبة -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/211)-، قال: نا حرملة، نا ابن وهب، أنا ابن لهيعة، عن عبدالله الفهري، عن سهيل، به مثله. إلا أنه قال: «لا تقوم الساعةُ حتى يُغلَبَ أهلُ القفيز على قفيزهم».

 

هكذا بدأه بالقفيز، وبعده المد، بتقديم وتأخير، وفيه: «وأهل الدراهم» على الجمع، وسائره مثله.

 

ومشّى العلماءُ([298]) رواية ابن وهب عن ابن لهيعة؛ لأنه روى عنه قبل اختلاطه، هذا الذي درج عليه أهل الصنعة الحديثية.

 

وأما عبدالله الفهري؛ فهو غير مذكور في الرواة عن (سهيل)، ولا فيمن روى عنهم (ابن لهيعة) في «تهذيب الكمال»، وهذا مُشعِرٌ -في الغالب-؛ إما بتحريف في اسمه، أو في عدم صلة متميزة له بالتتلمذ على الأول، والأخذ عن الثاني؛ إذ لو كان لوقع في الكتب الستة، وهي -بالجملة- أنظف الكتب إسناداً، وأقلها -عَدَا أشياء محدودة- دخلاً.

 

بقي النظر في «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي في ترجمة (سهيل) و(ابن لهيعة)، فالترجمتان في القسم المطبوع منه -ولله الحمد-، ولكن؛ لم يزِدْ شيئاً عما أورده المزي في (الشيوخ) و(التلاميذ) في الترجمتين، فلم ينفعْنا ذلك في تحديد (عبدالله الفهري).

 

ثم نظرتُ في «الجامع»([299]) لابن وهب، فلم أظفر بالحديث فيه، ولا يوجد في سلسلة رواته ما يسعِفُ على تعيينه.

 

ثم نظرتُ في النسخة الخطية من «تاريخ دمشق» (1/ق288 - الظاهرية)، ففيه -كما في المطبوع- بالسند إلى (ابن لهيعة عن عبدالله الفهري ابن (كذا في المخطوط) سهيل...)، وقال عقبه:

 

«خالفه أبو الأسود النضر بن عبدالجبار المصري عن ابن لهيعة، فقال: عن (عياش بن عباس)، بدل: (عبدالله الفهري)» انتهى.

 

إذن؛ (عبدالله الفهري) من تخاليط الرواة([300])، فالبحث عنه عبثٌ، وجُهدٌ ضائعٌ، والطريق المحفوظة هي الطريق السابقة؛ فقد جوده ابن بكير وأبو الأسود عن ابن لهيعة، وإسنادها يُحتجُّ به في الشواهد، كما في روايتنا هذه.

 

ولم يعزه السيوطي في «الجامع الكبير» (14/250 رقم 38605 - ترتيبه «الكنز») إلا لابن عساكر!

 

وقال ابن بدران في «تهذيب تاريخ دمشق» (1/187): «لم أجد من خرجه في كتب الحديث المعتبرة إلا ابن عساكر، وقد كشفت عنه في «الجامع الكبير» للسيوطي، فرأيته لم يخرجه إلا عن ابن عساكر، وهو حديث ضعيف الإسناد».

 

فصل

 

في ألفاظ الحديث

 

أعتني هنا بألفاظ هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية، وأما الطرق الأخرى؛ فستأتي في مبحثٍ خاصٍّ -إن شاء الله تعالى-، فأقول:

 

تكاد تطبق دواوين السنة التي خرجت هذا الحديث على اللفظ الذي سقْتُه؛ وهو لفظ مسلم.

 

إلا أنّ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/210) أورده من ثلاثة طرق عن أبي القاسم البغوي، وفيه: «مدُّها»([301]) -وهو المثبت في طبعتَيْ «مسند علي ابن الجعد»- وقال: «الصواب: مدْيها، قال القشيري -وهو: شيخه أبو المظفر-: لفظهما سواء».

 

وعند ابن عدي: «مدها» -أيضاً-، «ومنعت مصر إردبّها»، دون: «ودينارها»، وهو من طريق سعيد بن حفص النفيلي عن زهير.

 

وفي مطبوع «مسند أحمد»: «مدها» -أيضاً-، وكذا في طبعة شاكر له (13/291 رقم 7555)، ووقع على الصواب «مُدْيها» في (13/12 رقم 7565 - ط. مؤسسة الرسالة)، وفرق كبير بين (المدي) و(المد)، كما سيأتي قريباً تحت بيان الغريب.

 

ووقع الحديث عند ابن عبدالبر في «التمهيد» (15/141) هكذا: «منعت العراق دينارها ودرهمها، ومنعت الشام إردبها ومديها وقفيزها»! وهو ليس بمحفوظ بهذا اللفظ! نعم؛ في رواية ابن داسة لـ«سنن أبي داود» (3/487 - ط. عوامة) عن مصر: «إرْدَبها [وتِبْرها] ودينارها»، بزيادة: «وتبرها». وانظرها: (1/25).

 

وأورده أبو عبيد في «الأموال» (ص 93) هكذا: «وضعت العراق درهمها وقفيزها»!!

 

وأورده الأزهري في «تهذيب اللغة» (14/104) هكذا: «مَنَعت العراق درهمها وقفيزها، ومَنَعت مصر إرْدَبّها، وعدتم من حيث بَدَأْتم».

 

ووقع في مطبوع «الجوهر النقي» لابن التركماني (5/28-29): «منعت العراق درهمها ودرهمها»! وهذا خطأ.

 

ووقع في «طلبة الطلبة» (ص 96) لأبي حفص النسفي هكذا: «مُنعتِ العراق قفيزها ودرهمها، ومُنِعتِ الشام مُديَها وإرْدبّها»، وهذا اللفظ -أيضاً- غير محفوظ.

 

فصل

 

في غريبه

 

قوله: «مَنَعَت» كذا بالماضي، والمراد به: المستقبل؛ بقرينة: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ فالمعنى: «ستمنع([302])، وإنما أتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعها»([303]).

 

قال ابن الجوزي في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/566):

 

«المعنى: ستمنع، فلما كان إخباراً عن متحتّمِ الوقوع؛ حَسُن الإخبارُ عنه بلفظ الماضي؛ تحقيقاً لكونه، يدل عليه أنه في بعض الألفاظ: «كيف أنتم إذا لم تَجتَبوا ديناراً ولا درهماً»([304]).

 

وقال أبو العباس القرطبي في «المفهم» (7/229):

 

««منعت»: كذا الرواية المشهورة بغير (إذا)، فيكون ماضياً بمعنى الاستقبال؛ كما قال -تعالى-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}([305]) [النحل: 1]؛ أي: يأتي. وكقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]؛ يعني: إذ يقول. ومثله كثير.

 

وقد رواه ابن ماهان: «إذا منعت»([306])، وهو أصل الكلام، غير أنه يحتاج إلى (جواب إذا). ويحتمل ذلك وجهين:

 

أحدهما: أن يكون الجواب: (عدتم من حيث بدأتم)، وتكون الواو زائدة، كما قال امرؤ القيس:

 

فلما أجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى([307])

 

 

 

.....................................

 

أي: لما أجزنا انتحى، فزاد الواو.

 

و[الثاني]: يحتمل أن يكون جواب (إذا) محذوفاً؛ تقديره: إذا كانت هذه الأمور؛ جاءت الساعة، أو ذهب الدين، ونحو ذلك، والله أعلم».

 

وقال ابن حجر في «الفتح» (6/280): «وساق الحديث بلفظ الماضي، والمراد: ما يستقبل؛ مبالغة في الإشارة إلى تحقق وقوعه»، وبحروفه في «عمدة القاري» (15/102).

 

وقال الحميدي (محمد بن أبي نصير) (ت 488هـ) في «تفسير غريب ما في الصحيحين» (ص 363): ««وعُدتم كما بدأتم» هذا نص الحديث؛ كقوله -تعالى-: {كما بَدَأَكُم تَعودُون} [الأعراف: 29]، وفي هذا إخبار منه -عليه السلام- بما لم يكن وهو في علم الله -سبحانه- أمر كائن، فخرج لفظه على لفظ الماضي تحقيقاً لكونه»؛ «أي: ستُمنَعُ هذه البلادُ الحبَّ والمالَ بسببِ الفتنِ بين المسلمين»([308]).

 

قلت: ومن المحتمل أن تكون: (مُنِعَت) -بضم الميم وكسر النون- على البناء للمجهول، ولم أرَ ذلك مصرّحاً في شيء من الروايات([309])، وإن كان التوجيه الراجح لمعنى الحديث يقتضيه ويلزمه، كما سيأتي.

 

ووقع خلاف بين شراح الحديث في سبب المنع، يأتي الكلام عليه مفصلاً عند سردنا كلام الشراح عليه.

 

قوله: «القفيز»: «بالقاف، فالفاء، فالياء، فالزاي؛ كأمير»([310]): مكيال معروف لأهل العراق؛ هو: ثمانية مكاكيك. والمكوك: صاع ونصف، وهو نصف كيلجات([311]).

 

قال الأزهري في «تهذيب اللغة» (8/437): «القفيز مكيال، وهو        -أيضاً- مقدار من مساحة الأرض».

 

قال العلامة ابن هشام الأنصاري النحْوِيّ في «المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم» (ص 374 - ط. الفاروق):

 

«القفيز: مكيال أو مقدار مبلغه ثمانية مكاكيك، ويجمع على قُفْزان» انتهى.

 

فصل

 

تنبيهات مهمات

 

قال أبو عبيدة: لا بد من التنبيه هنا على ثلاثة أمور:

 

الأول: ليس المراد بـ(القفيز) هنا مقدار الكيل المذكور؛ إذ هو قليل لا يلتفت إليه بالنسبة إلى خيرات العراق؛ وإنما المراد به: (الجمع). قال القرطبي في «تفسيره» (16/35): «الواحدُ قد يُرادُ به الجمع عند الإضافة»، قال: «كما جاء في الحديث: «منَعت العراق درهمها وقفيزها»». وهكذا يقال عن «درهمها».

 

الثاني: أثبتتِ الدراساتُ التي تُعنى بهذا النوع أنه بحجمين؛ فإما أن يكون ثمانية مكاكيك = 12 صاعاً، أو ستة عشر مكوكاً = 24 صاعاً، وهو ما يعادل (64) رطلاً، أو (128) رطلاً([312]).

 

وقد حقق بعضهم([313]) في دراسة تاريخية مهمة، انتهى فيها إلى الترجيح بأنّ القفيزَ الذي وضعه عمر([314]) على السواد مع الدرهم عند فتحه هو القفيز الأصلي، الذي كان موضوعاً في عهد كسرى.

 

قلت: ولا يبعد أن يكون (القفيز) هذا معمولاً به في زمنه صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب.

 

قال ابن حزم في «الإحكام» (2/225 فقرة رقم 860 - بتحقيقي): «صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ دينارٍ من كل محتلِمٍ منهم ومحتلِمَة».

 

قال يحيى بن آدم في كتابه «الخراج» (ص 67-68) بعد أن أورد حديثنا هذا:

 

«يريد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القفيز والدرهم قبل أن يضعه عمر على الأرض».

 

ثم أسند حديث مسروق عن معاذ، وفيه ما يدل على صحة قوله -وهو المعني بكلام ابن حزم السابق-.

 

قال أبو عبيدة:

 

حديث معاذ هذا قد اختُلِفَ في إسناده؛ وروايةُ الجماعةِ عن الأعمش عن أبي وائل، عن مسروق، عن معاذ، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كلِّ أربعين مُسِنّةً، ومن كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعةً، ومن كل حالمٍ ديناراً أو عِدْلَه من المَعَافِر([315]).

 

أخرجه من هذا الطريق: عبدالرزاق (6841)، وأحمد في «مسنده» (1/382)، والطيالسي (567)، والدارمي (1/382)، وأبو داود (1578) في الزكاة (باب في زكاة السائمة)، والترمذي (622) في الزكاة (باب ما جاء في زكاة البقر)، والنسائي في «المجتبى» (5/25-26) و(26) في الزكاة (باب زكاة البقر) وفي «الكبرى» (رقم 2230)، ويحيى بن آدم في «الخراج» (رقم 228، 364)، وابن الجارود (343)، وابن حبان (4886)، والدارقطني (2/102)، والحاكم (1/398)، والبيهقي (4/98 و 9/193).

 

قال الترمذي: «هذا حديث حسن، وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فأمره أن يأخذ. وهذا أصح».

 

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

 

وصححه ابن عبدالبر في «التمهيد» (2/275)، وقال: «روي هذا الخبر عن معاذ بإسناد متصل صحيح ثابت».

 

وقال ابن القطان -كما في «نصب الراية» (2/347)-: «ولا أقول أن مسروقاً سمع من معاذ، إنما أقول: إنه يجب على أصولهم أن يحكم بحديثه عن معاذ -رضي الله عنه- بحكم حديث المتعاصرين اللذين لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما، فإن الحكم فيه أن يحكم له بالاتصال عند الجمهور، وشرط البخاري وابن المديني: أن يُعلَمَ اجتماعُهما ولو مرة واحدة، فهما إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر، لا يقولان في حديث أحدهما عن الآخر: منقطع، إنما يقولان: لم يثبت سماعُ فلان من فلان، فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان؛ أحدهما: أنه محمول على الاتصال. والآخر: أن يقال: لم يعلم اتصال ما بينهما. فأما الثالث: وهو منقطع؛ فلا.

 

أقول: معاذ -رضي الله عنه- توفي بالشام سنة 18هـ.

 

ومسروق مات سنة 63هـ، وله ثلاث وستون سنة، وأصله من اليمن، وفد على عمر في رواية في سندها مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، وعاش بالكوفة، ومعاذ أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، ومسروق كان صغيراً، وجاء في خلافة أبي بكر -كما في «الإصابة»-، وقد لحق بالشام في خلافة عمر بن الخطاب، ومات بالطاعون هناك، فإدراك مسروق له ولقاؤه به، وروايته عنه شبه مستحيلة؛ لأنه كان عمره حين وفاة معاذ (18) سنة، وقد عرفت حال كل منهما -فإثبات السماع بمجرد المعاصرة -كما فعل ابن القطان، وابن حزم في «الإحكام» (رقم 887 - بتحقيقي)- لا يكفي هنا، والله أعلم.

 

وقد رأيت -أيضاً- من قبل أن الترمذي قد رجّح الرواية المرسلة، ونقل الحافظ في «التلخيص» (2/152) عن الدارقطني في «علله» أنه رجح الرواية المرسلة كذلك، لكن عبارة الدارقطني في «العلل» (6/69): «والمحفوظ عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وعن إبراهيم مرسلاً».

 

وعلى كل حال؛ سواء رجحنا الإرسال أو الوصل، فمسروق لم يسمع من معاذ كما ترجح لدينا، وبه قال ابن القيم في «الزاد»، وابن التركماني في «الجوهر النقي» (2/210)، والله أعلم.

 

قال أبو عبيدة: ثبت هذا الحديث أو لم يثبت؛ فقد صح ذلك عن عمر، بل كان القفيز معروفاً قبل الإسلام، وهو من أصل آراميّ([316])، وقد شاع استخدامه في عصر الجاهلية عند العرب، حتى نجدَ زهيرَ بن أبي سلمى يقول([317]):

 

فَتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِلُّ لأهلها

 

 

 

قُرىً بالعراقِ منْ قَفيزٍ ودِرْهمِ

 

 

 

 

 

الثالث: للمعاصرين جهود في بيان مقدار (القفيز) بمكاييل اليوم، و(القفيز) المعنيّ هنا ما كان قبل القرن الرابع الهجري؛ وهو الكبير على ما قدمناه، وقدره غير واحد([318]) بحوالى (45) كغم (قمح)، ويقدر بـ(60) لتراً.

 

ومن الجدير بالذكر عن هذا المكيال؛ ما يتعلق بقفيز (الحجاج)، وتفيدنا المراجع([319]) أن قفيزه كان يساوي الصاع النبوي، وهو يساوي (41.2125) لتراً.

 

قوله: «مُدْيَها»: مكيال معروف لأهل الشام، مفرده (المُدْي) -بضم الميم، على وزن قُفْل-، قال العلماء: يسع خمسة عشر مكوكاً. كذا قال شارحو «صحيح مسلم»؛ مثل: النووي في «منهاجه» (18/28)، والسيوطي في «ديباجه» (6/223) -وفيه: «المدي: بضم الميم، وسكون الدال»-، وصديق حسن خان في «السراج الوهاج» (11/367)، ومثله عند بعض شارحي «سنن أبي داود»؛ مثل: السهارنفوري في «بذل المجهود» (13/374)، والبُجُمْعَوي في «درجات مرقاة الصعود» (ص 128)، وكذا في كتب الغريب. وقاله -أيضاً- ابن اللباد في «المجرد للغة الحديث» (ص 348) وغيره.

 

وقال الخطابي في «معالم السنن» (4/248): «المُدْي: مكيال أهل الشام، يقال: إنه يسع خمسة عشر أو أربعة عشر مكوكاً». ونقله عنه صاحب «عون المعبود» (8/282).

 

وقال القاضي عياض في «مشارق الأنوار» (1/376): «والمُدْي: صاع لأهل الشام معروف، قيل هو تسعة -كذا- عشر مكوكاً، والمكوك صاع ونصف، والصاع: أربعة أمداد، والمد خمسة أرطال وثلث، وهذا خلاف الحساب الأول».

 

قلت: يريد بالأولِ مئةَ مدٍّ واثنان وتسعون مدّاً.

 

قلت: وكذا في «مطالع الأنوار» لابن قُرْقول (ق 314 - نسخة المكتبة السعودية العامة)، وفيه -أيضاً-: «تسعة -بتقديم التاء على السين- عشر مكوكاً».

 

وقال ابن الأثير في «النهاية» (4/310): «المُدْي: مكيال لأهل الشام، يسع خمسة عشر مكوكاً، والمكوك: صاع ونصف، وقيل: أكثر من ذلك». وكذا في «المُعْرب» دون: «وقيل: ...».

 

وقال ابن الجوزي في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/567):

 

«والمُدْي: مكيال لأهل الشام، يقال: إنه يسع خمسة عشر مكوكاً».

 

وفي «المصباح المنير» (ص 778): «والمُدْي: وزن قُفْل: مكيال يسع تسعة عشر صاعاً، وهو غير المد، والمَدَى بفتحتين».

 

وفي «القاموس المحيط» (1719): «المُدي -بالضم-: مكيال للشام ومصر، وهو غير المُدِّ([320])، وجمعه أمداء». ولم يذكر مقداره.

 

وفي «لسان العرب» (15/274): «المُدْي: من المكاييل المعروفة، قال ابن الأعرابي: هو مكيال ضخم لأهل الشام وأهل مصر».

 

وفي «تهذيب اللغة» (14/221): «والمُدْي: مكيال يأخذ جريباً». وكذا في «إثبات ما ليس منه بد لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمد» (ص 131).

 

قلت: الجريب: مكيال كان يساوي في القرن السابع الميلادي سبعة أقفزة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان عيار مكيال الجريب في صدر الإسلام (29.5) لتراً، أو (22.715) كغم (قمح)([321]).

 

قال أبو عبيدة: والظاهر أن (المُدْي) أكثر من ذلك، فهو -على ما تقدم- خمسة عشر مكوكاً، والمكوك صاع ونصف؛ فهو (22.5) صاعاً.

 

وإذا كان (القفيز) -وهو يساوي 8 مكاكيك = 12 صاعاً- قد قدر بـ(60) لتراً، أو (45) كغم قمح؛ فلا شك أن (المُدي) أكثر من ذلك.

 

وقد عاير أبو عبيد القاسم بن سلام المُديين من الطعام بخمسة عشر صاعاً([322])، وعايرها أبو عبيد الهروي في «الغريبين» (1/139) بالوزن، فقال:

 

«والمُدي: مكيال لأهل الشام، يقال له: الجريب، يسعُ خمسةً وأربعين رطلاً»([323]).

 

وهو عند الأول بمعاير الوزن -على ما يلزم من كلامه- نيف وثمانون رطلاً، وكذا قال بعض الباحثين([324]): «ومن المحتمل أن يكون هناك مكيال آخر باسم (مُدْي) ذي سعة مختلفة».

 

قوله: (درهَمَها): المراد به الجمع، فالواحد يراد به الجمع عند الإضافة، ولهذا شواهدُ عديدةٌ([325]).

 

و(الدرهم) عملةٌ ساسانيةٌ متداوَلَةٌ بين أقطار الشرق قبل الإسلام، تشكل مع (الدنانير) البيزنطية السكةَ المتداوَلةَ في بلاد العرب قبل الإسلام، وقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السكة، وتعامل المسلمون بها([326])، وقد ورد ذكر الدرهم في القرآن الكريم([327])، والسنة النبوية([328])، وكان هناك درهمٌ (يمنيّ)، وهو المعروف بـ(الدرهم الحِمْيَرِيِّ)، كان يرِدُ إلى الحجاز، ولكن بأعداد قليلة([329]).

 

قوله: «ودينارها»:

 

كان المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يتعاملون بالذهب والفضة وزناً، وكانت دنانير الفرس بين أيديهم، ويردّونها في معاملتهم إلى الوزن، ويتصارفون بها بينهم([330]).

 

ويقال للدنانير: (الهرقلية)؛ تنسب إلى هرقل عظيم الروم، فكانت العرب تسميها (الهرمكية)، وقد ذكرها كُثيّر عزّة في شعره، فقال([331]):

 

يروق عيون الناظرات كأنه

 

 

 

هرقْليُّ وزْنٍ أحمرُ التبر راجحُ

 

ويمكن تحديد وزن المثقال للدينار آنذاك بدرجة عالية من الدّقة، ولا يلزمنا هنا أن ننطلق من قطع النقود نفسها، بل من صَنْج الزجاج التي صنعت لتعييرها، إن أكثر الصَّنج الزجاجية التي عُثِرَ عليها حتى الآن دقةً -وترجع إلى سنة 780هـ- وتتطابق فيما بينها بفارق لا يتجاوز الثلث المليغرام، تعطينا للدينار وزناً وسطاً قدره (4.231) غم([332]).

 

والمراد بـ(الدينار) هنا؛ الجمع، كما قدمناه على (القفيز) و(الدرهم).

 

قوله: «إِرْدبَّها»:

 

(الإرْدبّ) -بالراء والدال المهملتين بعدهما موحدة-: مكيال معروف لأهل مصر. قال الأزهري في «تهذيب اللغة» ([333]) وغيره:

 

«يأخذ أربعة وعشرين صاعاً من الطعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، ... والإردب أربعة وستون مَنّاً بمَنِّ بلدنا». كذا في جل شروح الحديث([334])، وبعضهم زاد: «والهمزة زائدة مكسورة»([335]).

 

وفي «القاموس» (ص 114)، مادة (ردب): «الإرْدَب -كقِرْشَبٍّ-: مكيالٌ ضخمٌ بمصر، يضمّ أربعةً وعشرين صاعاً». ونقله صاحب «عون المعبود» (8/282).

 

وقدره البغوي في «شرح السنة» (11/178) والمناوي في «التوقيف على مهمات التعاريف» (ص 50) بأربعةٍ وستين مَنّاً، ولا يزال هذا المكيال مستخدماً في مصر([336])، وذكر بعض المعاصرين([337]) أنواعاً كثيرة للأرادب.

 

ويقدر الإردب بـ(198) لتراً، ويوافق هذا (150) كغم من القمح، أو (130) كغم من الشعير، أو (140) كغم من الذرة، أو (155) كغم من الفول، أو (157) كغم من العدس([338]).

 

والمراد هنا الجمع، كما قدمناه عن نظائره.

 

فصل

 

تبويبات العلماء على الحديث

 

* تبويبات المخرجين له:

 

بوب عليه النووي([339]) في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج»: (باب الفتن التي تموج كموج البحر)، وبوب عليه -ووضعه مع الذي قبله([340])- أبو العباس القرطبي في «تلخيص صحيح مسلم» (2/1280): (باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وحتى يمنع أهل العراق ومصر والشام ما عليهم)، وهكذا صنَعَ القاضي عياضٌ في كتابه «إكمال المعلم» (8/434)؛ فوضعه مع الذي قبله، ولكنْ لم يؤثِّرْ هذا على تبويبه، فاقتصر على: (باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب)، وتابعه على هذا السيوطي في «الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج» (6/222-223)، ومحمد تقي العثماني في «تكملة فتح الملهم» (6/291)، ولكن الأخيرين شَرَحاه واعتنيا به، بينما الأولُ أهملَهُ بالكلية، ولم يورد شيئاً تحته، وبوب عليه المنذري في «مختصر صحيح مسلم» (ص 538 رقم 2033)، وتبعه صديق حسن خان في «السراج الوهاج» (11/366): (باب في منع العراق درهمها)، بينما بُوِّب عليه في نسخة ابن خير الإشبيلي من «صحيح مسلم»([341]) (ق 264): (باب في منع العراق درهمها والشام مُدْيها ومصر دينارها)، وبوب عليه المباركفوري في «منية المنعم» (4/350) (باب تنفصل البلاد: العراق والشام ومصر، وتمنع خراجها وجبايتها»([342]).

 

ووضعه أبو داود في «سننه» تحت (كتاب الخراج والفيء والإمارة)، وبوب عليه: (باب في إيقاف أرض السواد وأرض العنوة).

 

و(أرض السواد): قال في «المراصد»: السواد؛ يراد به: رستاق من رساتيق العراق وضياعها التي فتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطاب   -رضي الله عنه-، سمّي سواداً لحضرته بالنخل والزرع. وحد السواد؛ قال أبو عبيد: الموصل طولاً إلى عبادان، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضاً، فيكون طولَه مئةٌ وستون فرسخاً، فطوله أكثر من طول العراق، فطول العراق ثمانون فرسخاً، ويقصر من طول السواد خمسة وثلاثون فرسخاً.

 

قال صاحب «المراصد»: وهذا التفاوت كأنه غلط، ولعله أن يكون بينهما خمسون فرسخاً أو أكثر. وعرض العراق هو عرض السواد، لا يختلف، وذلك ثمانون فرسخاً. انتهى.

 

و(أرض العنوة)؛ أي: إيقافُ الأرضِ التي أُخِذَت قهراً لا صُلْحاً، يقال: عَنَا يعنو عنوة: إذا أَخَذ الشيء قهراً.

 

قال الحافظ ابن القيم: إن الأرض لا تَدخُل في الغنائم، والإمام مخيّرٌ فيها بحسب المصلحة، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك، وعمر لم يقسم، بل أقرها على حالها، وضرب عليها خراجاً مستمرّاً في رقبتها تكون للمقاتلة، فهذا معنى وقفها، ليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض؛ كما هو عمل الأمة. وقد أجمعوا على أنها تورَثُ، والوقف لا يورَث. وقد نصّ الإمامُ أحمدُ على أنها يجوز أن يُجعلَ صداقاً، والوقف لا يجوز أن يكون مهراً، ولأنّ الوقف إنما امتنع بيعُه ونقلُ الملك في رقبته؛ لما في ذلك من إبطال حقّ البطون الموقوف عليهم من منفعته، والمقاتِلَةِ حقَّهم في خراج الأرض، فمن اشتراها صارت عنده خراجية كما كانت عند البائع سواء، فلا يبطل حقّ أحدٍ المسلمين بهذا البيع، كما لم يبطل بالميراث والهبة والصداق. انتهى مختصراً.

 

وأما وجه استدلال أبي داود بهذا الحديث على ما ترجم به([343]) من (إيقاف سواد الأرض)؛ فبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الصحابة يفتتحون تلك البلاد، ويضعون الخراج على أرضهم، ويقفونها على المقاتلة والمجاهدين، ولم يرشدْهُم إلى خلاف ذلك، بل قرره وحكاه لهم، لكن المؤلف لم يجزم على أنّ إيقافَها أمرٌ لازم، بل تبويبه كأنه على طريق الاستفهام؛ أي: ماذا يفعل بأرض العنوة؛ يوقف على المقاتلة، أو يقسم للغانمين؟ وما حكم إيقاف الأرض السواد([344])؟

 

ووضعه الطحاوي تحت (باب المواقيت التي ينبغي لمن أراد الإحرام أن لا يتجاوزها)، وأزال به إشكالاً، وأجاب به على اعتراض القائل:

 

«وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل العراق يومئذٍ ما وقَّت، والعراقُ إنّما كانت بعده؟». فأجاب على هذا الاعتراض بكلامٍ جرّه لسردِ هذا الحديث، قال:

 

«قيل له -أي: للسائل-:

 

«كما وقَّت لأهل الشام ما وقّت، والشام إنما فتحت بعده.

 

فإن كان يريد بما وقَّت لأهل الشام من كان في الناحية التي افتتحت حينئذٍ من قِبَل الشام، فكذلك يريد بما وقَّت لأهل العراق، مَنْ كان في الناحية التي افتتحت حينئذٍ من قِبَل العراق، مثل جبل طَيّ ونواحيها.

 

وإن كان ما وقّت لأهل الشام إنما هو لما علم بالوحي أن الشام ستكون دار إسلام، فكذلك ما وقَّت لأهل العراق؛ إنما هو لما علم بالوحي أن العراق ستكون دار إسلام، فإنه قد كان صلى الله عليه وسلم ذكر ما سيفعله أهل العراق في زكواتهم، معَ ذِكرِه ما سيفعلُه أهلُ الشام في زكواتهم». ثم أسند الحديث، وقال:

 

«فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر ما سيفعلُه أهلُ العراق من منع الزكاة قبل أن يكونَ عراقٌ، وذكر مثل ذلك في أهل الشام وأهل مصر قبل أن يكون الشام ومصر؛ لما أعلمه الله -تعالى- من كونهما من بعده.

 

فكذلك ما ذكره من التوقيت لأهل العراق، مع ذكرِه التوقيتَ لغيرهم المذكورين؛ هو لما أخبره الله -تعالى- أنه سيكون من بعده.

 

وهذا الذي ذكرناه، من تثبيت هذه المواقيت التي وصفناها لأهل العراق، ولمَنْ ذكرنا معهم، قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى-»([345]).

 

وقال في «أحكام القرآن» (2/28-29) في معرض حديثه على (ميقات أهل العراق) ما نصّه:

 

«فإنْ قال قائل: وكيف يجوز أن يوقت لأهل العراق هذا الوقت ولم يكُنْ يومئذٍ عراقٌ؟ قيل له: كما جاز أنْ يُوقّتَ لأهل الشام، ولم يكن يومئذٍ شام.

 

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على علم أنّ العراقَ ستكون، وأنّ كنوزَ كسرى ستفتح على المسلمين من بعده، وأخبر أصحابُه مع ذلك أنّ أهلَ العراق سيمنعون قفيزهم ودرهمهم الواجبَيْن عليهم خراجاً لأرضيهم، وأن أهل الشام سيمنعون مدَّهم ودينارهم الواجبَيْن عليهم خراجاً لأرضيهم، وأنّ أهلَ مصر سيمنعون إردبّهم ودينارهم الواجبين عليهم خراجاً لأرضيهم. فمما روي عنه في ذلك ما: ...» وأسند الحديث، ثم قال:

 

«فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر ما سيفعلُه أهلُ العراق من منع الخراج، ولا عراقَ يومئذٍ؛ لعلمه أنه ستكون العراق. كما ذكر فيما سيفعله أهل الشام، ولا شام يومئذٍ؛ لعلمه أنه ستكون الشام.

 

ولما كانتا عنده صلى الله عليه وسلم كائنتين لا محالةَ؛ وقَّت لأهلها المواقيتَ لحجّهم، إذ كان لا بدَّ لهم من ذلك، كما وقّت لمن سواهم من أهل البلدان التي قد كانت قبل ذلك. وهذا الذي ذكرناه في هذه المواقيتِ قولُ أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد فيما حدثنا سليمان، عن أبيه، عن محمد».

 

فالذي يُهِمُّنا من الكلام السابق قول الأخير: «ما سيفعله أهل العراق من منع الزكاة... وذكر مثل ذلك في أهل الشام وأهل مصر»، وقول الأول: «قد علم صلى الله عليه وسلم أن الصحابة يفتتحون تلك البلاد». وسيأتي بيان ما فيه، والله الهادي والموفق.

 

وبوَّب عليه البيهقي في «الدلائل» (6/317) بقوله: «(باب: قول الله   -عز وجل-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ من بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]).

 

ثم وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّتَه بالفتوح التي تكون بعده، وتصديق الله -عز وجل- وعده».

 

ووضعه في «السنن الكبرى» في (كتاب السير)، وبوَّب عليه (باب قدْر الخراج الذي وضع على السواد).

 

وبوب عليه أبو محمد البغوي في «شرح السنة» (11/175) (باب سقوط الجزية عن الذمي إذا أسلم).

 

وبوب عليه أبو عبيد (باب أرض العنوة تقرُّ في أيدي أهلها، ويوضع عليها الطّسق؛ وهو: الخراج). وبوب عليه الساعاتي في «الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني» (24/36-37): (ومن الفتن منع أهل الذمة أداء الجزية).

 

وهكذا جاءت تبويبات جماعة ممن أخرجه في (الخراج) و(الأموال)، فبوّب عليه يحيى بن آدم -وهو أقدم من أخرج الحديث- باباً عامّاً، وأورده مع نصوص أخرى تحت (باب الجزية والخراج).

 

وبوب عليه ابن زنجويه في «الأموال» (1/217): (باب أرض العنوة تقر بأيدي أهلها ويوضع عليها الطسق والخراج)، وهذه الترجمة تشاكل ترجمة أبي عبيد على الحديث، وقد أخرجه ابن زنجويه من طريقه.

 

وهكذا بوب عليه ابن الجارود في «المنتقى» -وشرطه فيه أن لا يخرج إلا الثابتَ عنده-، فقال: (باب الدليل على وضع الخراج على أرض العنوة).

 

وبنحوه بوّبَ عليه ابن المنذر في «الأوسط» (11/44)، فقال: (ذكر خبر دلَّ على أن الأرض إذا أُخِذت عنوة وتركها أهلها؛ أن للإمام أن يضع عليها الخراج).

 

وأما ابن عساكر؛ فأورده في «تاريخه» من أجل ذكر (الشام) فيه، وبوب عليه: (باب ذكر بعض ما ورد من الملاحم والفتن مما له تعلّق بدمشق في غابر الزمن).

 

ومن التبويبات المهمة عليه؛ ما صنعه أبو عمرو الداني في كتابه «الفتن» (6/1113)، قال: (باب ما جاء في خروج الروم).

 

هذه تبويبات المخرجين للحديث، يبقى بعد ذلك أمران:

 

الأمر الأول: تبويبات أخرى للحديث ممن أورده بغير إسناد، وسياق كلامٍ لبعض أهل العلم على الحديث في معرض الاستشهاد.

 

ذكر هذا الحديث غير واحد من الفقهاء والعلماء، وساقوه في مواضعَ عِدّةٍ من مؤلفاتهم، واستقصاءُ ذلك أمرٌ متعذِّرٌ، ولكنا نعملُ على إبراز ما يمكن أنْ يخدمَنا في بيان المعنى، أو ذكر الفوائد المستنبطة منه([346])؛ وهذا التفصيل:

 

1- ذكره أحمد بن نصر الداوودي (ت 402هـ) في كتابه «الأموال» (ص 143 رقم 294 - ط. دار السلام) في (الفصل العاشر) من كتابه، وبوب عليه (ذكر ازدراع أرض الخراج واستئثار الأمراء بها في آخر الزمان، واتخاذهم مال الله دولاً). وأورده بتقديم (مصر) على (الشام)، خلافاً لما في سائر المصادر، وقال بعده: «يريد: أنّ ذلك يكون في آخر الزمان».

 

2- أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (ت 456هـ)، أورده في كتابه «المحلى»([347]) (7/341) تحت مسألة (رقم 957)، قال:

 

«وتقسم الغنائم كما هي بالقيمة، ولا تُباع؛ لأنه لم يأتِ نصٌّ ببيعها، وتُعجَّلُ القسمة في دار الحرب، وتُخمَّسُ كسائر الغنائم...»، ثم تكلّم على (قسمة الأرض)، واحتجاجِ بعضِ أهل العلم بالحديث الذي نحنُ بصددِ شرحِه على عدم وجوب ذلك، ورَدَّ عليهم، قال: «واحتجّوا بخبرٍ صحيح رويناه من طريق أبي هريرة...» وساقه، قال: «قالوا: فهذا هو الخراج المضروب على الأرض، وهو يوجب إيقافها».

 

ورد عليهم بقوله:

 

«هذا تحريف منهم للخبر بالباطل، وادعاء ما ليس في الخبر بلا نصّ ولا دليل، ولا يخلو هذا الخبرُ من أحدِ وجهين فقط، أو قد يجمَعُهُما جميعاً بظاهر لفظه؛ أحدهما: أنه أخبر صلى الله عليه وسلم عن الجزية المضروبة على أهل هذه البلاد إذا فتحت، وهو قولنا؛ لأن الجزية بلا شك واجبة بنص القرآن، ولا نصَّ يوجِبُ الخراج الذي يدعون. والثاني: أنه إنذار منه -عليه السلام- بسوء العاقبة في آخر الأمر، وإن المسلمين سيمنعون حقوقهم في هذه البلاد، ويعودون كما بدؤوا، وهذا -أيضاً- حقٌّ قد ظهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فعاد هذا الخبر حجة عليهم».

 

وظفرتُ به في «المحلى» (5/247-248) -أيضاً-، أورده تحت مسألة (642) عند تقريره عدم الزكاة في بعض أنواع الأطعمة، ثم قال:

 

«وأما إسقاطهم الزكاة عما أصيب في أرض الخراج من بُر وتمر وشعير؛ ففاحش جدّاً، وعظيم من القول، وإسقاط للزكاة المفتَرَضة». وأخذَ في عَرْضِ أدلة هؤلاء، ومن بين ما استدلوا به هذا الحديث، قال:

 

«وموّه بعضهم بأن ذكر ما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله...»، وساق هذا الحديث، قال: «قالوا: فأخبر -عليه السلام- بما يجب في هذه الأرَضين، ولم يخبر أنّ فيها زكاةً، ولو كان فيها زكاةٌ لأخبر بها». ورد عليهم بقوله:

 

«مثل هذا ليس لإيراده وجهٌ إلا ليَحمَد الله -تعالى- من سمعه على خلاصه من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل، ومعارضة الحق بأغثّ ما يكون من الكلام! وليت شعري! في أي معقول وجدوا أنّ كل شريعة لم تذكر في هذا الحديث فهي ساقطة؟ وهل يقول هذا من له نصيب من التمييز؟ وهل بين من أسقط الزكاة -لأنها لم تذكر في هذا الخبر- فرقٌ وبين من أسقط الصيام لأنه لم يذكر في هذا الخبر، ومن أسقط الصلاةَ والحجَّ لأنهما لم يذكرا في هذا الخبر؟». ثم قال مؤكّداً المعنى نفسه:

 

«وحتى لو صح لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بهذا الخبر ذكرَ ما يجب في هذه الأرضين -ومعاذَ الله من أنْ يصحَّ هذا فهو الكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم-؛ لما كان في ذلك إسقاطُ سائر حقوق الله -تعالى- عن أهلها، وليس في الدنيا حديثٌ انتظمَ ذكرَ جميع الشرائع أولها عن آخرها، نعم ولا سورة -أيضاً-». ثم قال شارحاً لهذا الحديث بما ينفعنا من ذكر (نبوءته) صلى الله عليه وسلم:

 

«وإنما قصد -عليه السلام- في هذا الحديث الإنذارَ بخلاءِ أيدي المفتتحين لهذه البلاد من أخذِ طعامها ودراهمها ودنانيرها فقط، وقد ظهر ما أنذر به -عليه السلام-.

 

ومن الباطل الممتنع؛ أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زعموا؛ لأنه لو كان ذلك، وكان أرباب أراضي الشام ومصر والعراق مسلمين؛ فمن هم المخاطبون بأنهم يعودون كما بدؤوا؟ ومن المانع ما ذكر منعه؟! هذا تخصيص منهم بالباطل، وبما ليس في الخبر منه نص ولا دليل...» انتهى المراد من نقله مما له صلة بحديثنا هذا.

 

3- أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370هـ).

 

ذكره -فيما عثرت عليه- في كتابين من كتبه؛ هما:

 

الأول: «اختلاف العلماء»([348]). وذكر حديثنا هذا في ثلاثة مواطن؛ هي:

 

1- في (1/443-444 مسألة رقم 436): (هل يجتمع العشر والخراج). واستدل لمذهب الحنفية([349])، وأورد هذا الحديث، وقال عن قوله: «منعت»: «معناه: سيمنع». ثم وجهه بقوله: «ولو كان العشر واجباً فيما زرع في أرض الخراج؛ لاستحال([350]) أن يكون الخراج ممنوعاً منه، والعشر غير ممنوع؛ لأن من منع الخراج بجحوده ما عليه في ذمته، كان للعشر أمنع، وفي تركه ذكر العشر دلالة على أن لا عشر في أرض الخراج»([351]).

 

وكأني بابن حزم يرد عليه في كلامه المتقدم وما يتبعه مما لم ننقله عنه.

 

2- في (3/495 مسألة رقم 1644): (في أحكام الأرض المفتتحة بعد إخراج الخمس)، وأورد الحديث وقال: «فدل على أنها تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون يكون فيه القفيز والدرهم».

 

3- في (3/496 مسألة رقم 1646): (في شراء أرض الخراج واستئجارها).

 

واستدل([352]) للمانعين من ذلك بحديثنا هذا، وساقه مختصراً -كما فعل في المرة الأولى- هكذا: «منعت العراق قفيزها ودرهمها»([353]).

 

والآخر: «أحكام القرآن». وذكرَ حديثَنا هذا في ثلاثة مواطن من كتابه هذا؛ هي:

 

1- في (4/183 - ط. دار إحياء التراث العربي) في مسألة (اجتماع العشر والخراج)، وأورد نحو النص الذي قدمناه عنه آنفاً، ووقع حديثُنا مختصراً -أيضاً-.

 

2- في (5/320) مسألة (الأرض المفتتحة عنوة، لا يملكها الغانمون بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم). وذكر أدلةً على ذلك، وأورد الحديث بطوله([354])، وعلقه عن سهل، وقال على إثره:

 

«فأخبر صلى الله عليه وسلم عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله -تعالى- في الأرضين، وإنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها».

 

3- في (5/324) مسألة (شراء أرض الخراج)، وذكر الحديث مختصراً كعادته، وعلَّق عليه بقوله: «يدل على أنه واجب على المؤمنين؛ لأنه أخبر عما يُمنع المسلمون من حق الله في المستقبل، ألا ترى أنه قال: «وعدتم كما بدأتم»، والصَّغار لا يجب على المسلمين، وإنما يجب على الكفار للمسلمين» انتهى.

 

4- أبو عمر يوسف بن عبدالله النمري، الشهير بـ(ابن عبدالبر)([355])    (ت 463هـ).

 

ذكره في كتابين من كتبه؛ هما:

 

أولاً: «الاستذكار»، وذكره في موطنين منه؛ هما:

 

1- عند كلامه على قسمة الغنائم، ثم تطرق إلى قسمة (الأرض)، فقال فيه (21/204 رقم 31029): «ومعلوم أن الأرض لم تجر هذا المجرى، إلى أشياء كثيرة، احتجوا بها، ليس فيها بيان قاطع، أحسنها حديث أبي هريرة...» (وساقه، دون ذكر مصر وما بعده)، وقال: «ومنعت ها هنا؛ بمعنى: ستمنع».

 

2- عند كلامه في (الحج) على (مواقيت الإهلال)، قال فيه (11/78) عند (ميقات أهل العراق)، وقول طائفة: عمر -رضي الله عنه- هو الذي وقّت لأهل العراق (ذات عرق)، واحتج: «لم تكن العراق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات إسلام»، فقال: «والشام كلُّها يومئذٍ ذاتُ كُفر، كما كانت العراق يومئذٍ ذات كفر، فوقّت لأهل النواحي؛ لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته: الشام، والعراق، وغيرهما من البلدان. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ...» وذكر الحديث دون ذكر مصر، وما بعده، وقال: «بمعنى: ستمنع».

 

ثانياً: «التمهيد»([356])، وذكره في موطنين منه -أيضاً-؛ هما:

 

1- في (6/456)، عند كلامه على (قسمة الأرض) في (الغنيمة)، قال في معرض الاحتجاج له: «ومما يصحح هذا المذهب -أيضاً- ما رواه أبو هريرة ...» وساق الحديث مقتصراً على (ذكر العراق)، وقال: «بمعنى: ستمنع، فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم، ولو كانت الأرض تقسم كما تقسم الأموال؛ ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، ...». ثم أسند الحديث في (6/457)، وقال:

 

«قال أبو جعفر الطحاوي: «منعت»؛ بمعنى: ستمنع، واحتج بهذا الحديث لمذهب عمر في إيقاف الأرض وضَرْبِ الخراج عليها على مذهب الكوفيين...»، وأطال النفس في كلام العلماء ومذاهبهم وأدلتهم على المسألة، ونقلنا منه ما يخص حديثنا هذا، والحمد لله، ولا ربّ سواه.

 

2- في (15/141)، عند كلامه على (المواقيت)، وصنع([357]) هنا كما صنع في الموطن الثاني من «الاستذكار».

 

5- أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المفسّر([358])         (ت 671هـ).

 

ذكره في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» في موطنين؛ هما:

 

الأول: عند تفسيره لقول الله -تعالى-: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ} [الأنفال: 41] في (8/4)، ذكر تحت الآية ستّاً وعشرين مسألة، وذكر هذا الحديث في (المسألة الثالثة)، قال:

 

«لم يختلف العلماء أن قوله: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ} ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص...»، قال بعد كلام:

 

«وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية، ...»، ثم قال:

 

«ومما يصحح هذا المذهب ما رواه الصحيح...» وسرد الحديث، وأورد كلام ابن عبدالبر السابق في «التمهيد» (6/456) بالحرف، وهذه عادته؛    ولا سيما في المباحث الحديثية المحررة التي فيها خلاف بين الرواة، فإنه ينقل منه، ولا يعزو إليه إلا نادراً، عفى الله عنا وعنه بمنه وكرمه.

 

والآخر: عند تفسيره لقول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] في (16/35)، قال:

 

«{كبائر الإثم} قرأ حمزة والكسائي: {كبيرَ الإثم}، والواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة؛ كقوله -تعالى-: {وإِنْ تَعُدّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحْصوها} [إبراهيم: 34]، وكما جاء في الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها»».

 

قلت: في هذا خلاف، يأتي التنبيه عليه في آخر الكتاب في (الفائدة الثانية عشرة) من الفوائد المستنبطة من الحديث.

 

6- مجد الدين أبو البركات ابن تيمية([359]) (ت 652هـ).

 

بوب على الحديث -وساقه مع ستة غيره- في كتابه «منتقى الأخبار» (8/161 - مع «نيل الأوطار») (باب حكم الأرضين المغنومة).

 

وصلة هذه الترجمة ظاهرة مع الحديث من خلال كلام العلماء المتقدم عليه.

 

7- الإمام النووي (ت 676هـ).

 

قال في كتابه «المجموع» (5/480)، بعد أن ذكر استدلال الحنفية بالحديث على اجتماع العشر والخراج، وذكر أن الراجح خلاف ذلك، ورد عليهم في توجيه الحديث بقوله:

 

«وأما حديث أبي هريرة: «منعت العراق»؛ ففيه تأويلان مشهوران في كتب العلماء المتقدمين والمتأخرين: (أحدهما): معناه: أنهم سيسلمون وتسقط عنهم الجزية. و(الثاني): أنه إشارة إلى الفتن الكائنة في آخر الزمان، حتى يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم من زكاة وجزية وغيرهما، ولو كان معنى الحديث ما زعموه؛ للزم أن لا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة، وهذا لا يقول به أحد».

 

8- شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية (ت 728هـ).

 

ذكره في «مجموع الفتاوى» (26/206)، واستدل به على منع بيع الأرض المفتتحة عنوة، وقال عنه: «واتفق الصحابة مع عمر على فعله».

 

وذكره في موطنٍ آخرَ من «مجموع الفتاوى» (28/662) عند كلامه على (الرهبان وأخذ الجزية منهم)، قال:

 

«فهؤلاء الموصوفون تؤخَذُ منهم الجزيةُ بلا ريب ولا نزاع بين أئمة العلم، فإنه ينتزع منهم، ولا يحلُّ أن يُترَك شيءٌ من أرض المسلمين التي فتحوها عنوة وضربُ الجزيةِ عليها، ولهذا لم يتنازع فيه أهلُ العلم من أهل المذاهب المتبوعة من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة: أن أرض مصر كانت خراجية. وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي في «صحيح مسلم»؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: ...» وساقه.

 

«لكنِ المسلمون لما كثروا؛ نقلوا أرض السواد في أوائل الدولة العباسية من المُخارجة إلى المُقاسمة، ولذلك نقلوا مصر إلى أنِ استغلّوها هم، كما هو الواقع اليوم، ولذلك رفع عنها الخراج».

 

9- شمس الدين محمد بن أبي بكر، المعروف بـ(ابن القيم)           (ت 751هـ).

 

ذكر الحديث في كتابه «أحكام أهل الذمة» (1/265-266 -           ط. رمادي)، قال:

 

«وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخراج في الحديث الصحيح المتفق عليه([360]) من حديث أبي هريرة ...» وساقه، قال: «والمعنى: سيمنع ذلك في آخر الزمان».

 

10- أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد، المعروف بـ(ابن رجب الحنبلي) (ت 795هـ).

 

ذكره في كتابه «الاستخراج لأحكام الخراج» (ص 74 - ط. محمد الناصر) في (الباب الثاني)، وبوب عليه (فيما ورد في السنة من ذكر الخراج).

 

11- جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ).

 

ذكره في كتابه «الخصائص الكبرى» (2/111)، وبوب عليه: (باب إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح مصر وما يحدث فيها).

 

في جماعة آخرين يطول تعدادهم([361])، ويصعب حصرهم، آخرهم:

 

12- الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله تعالى-.

 

ذكره في كتابه «الصحيح المسند من دلائل النبوة» (ص 423)، وبوب عليه: (إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الشام).

 

فصل

 

تعليقات وإيضاحات على حديث: «منعت العراق...»

 

والأمر الآخر: تعليقات وإيضاحات لمن خرّجَ الحديث، تُعِينُ على توضيح المراد منه، واستنباط فوائده:

 

1- قال أبو عبيد في «الأموال» (ص 91 رقم 182) عقِبَ إخراجِهِ الحديثَ:

 

«معناه -والله أعلم-: أنّ هذا كائنٌ، وأنه سيُمنع بعدُ في آخر الزمان.

 

قال أبو عبيد: فاسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرهم والقفيز، كما فعل عمر بالسواد، وهذا هو التّثبُّت. وفي تأويل فعل عمر -أيضاً- حين وضع الخراج ووظفه على أهله؛ مع العلم أنه جعله شاملاً عامّاً على كل من لزمته المساحة وصارت الأرض في يده، من رجل أو امرأة، أو صبي أو مكاتب أو عبد، فصاروا متساوين فيها، ألا تراه لم يستثن أحداً دون أحد!».

 

وقال قبله لمّا أسند عن عمر: «وضع على كل جريب من الأرض درهماً وقفيزاً من طعام لا يشق ذلك عليهم ولا يُجْهِدُهم»، قال (ص 90-91):

 

«فلم يأتنا في هذا حديثٌ عن عمرَ أصحُّ من حديث عَمْرِو بن ميمون([362])، ولم يذكر فيه مما وضع على الأرض أكثَرَ من الدرهم والقفيز، ومع هذا فقد رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه تقوية له، وحجة لعمر فيما فرض عليهم من الدرهم والقفيز».

 

2- ونقل ابن زنجويه في كتابه «الأموال» (1/217،218) كلام شيخه أبي عبيد برمّته([363]).

 

3- ومع هذا؛ فقد نقل عنه البيهقي في «الدلائل» (6/329-330) شيئاً زائداً، قال:

 

«وقال أبو عبيد الهروي -رحمه الله- في هذا الحديث: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يكن، وهو في علم الله -عز وجل- كائن. فخرج لفظه على لفظ الماضي؛ لأنه ماضٍ في علم الله -عز وجل-. وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه ما دل على إثبات نبوته، ودل على رضاه من عمر -رضي الله عنه- ما وظّفه على الكفرة من الجِزى في الأمصار([364]).

 

وفي تفسير المنع وجهان:

 

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهم سيسلمون وسيسقط عنهم ما وُظِّف عليهم [بإسلامهم، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظِّف عليهم]([365]). والدليل على ذلك قوله في الحديث: «وَعُدْتم مِن حيث بَدَأتم»؛ لأنه بدأهم في علم الله وفيما قدّر، وفيما قَضَى، أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدؤوا.

 

وقيل في قوله: «منعت العراق درهمها»: إنهم يرجعون عن الطاعة، وهذا وجه، والأول أحسن».

 

قال أبو عبيدة: وما قال عنه: «أحسن»؛ ليس براجح، بل هو مرجوح، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

 

فصل

 

في بيان معنى (المنع) الوارد في الحديث

 

لا أعلم من أفرد هذا الحديث بمصنَّف خاص، على الرغم من كثرة التصانيف المفردة في كثير من آحاد الأحاديث([366])، واقتصرت عناية العلماء به على سرد ما يحتمل من المعاني، دون التحقيق والتدقيق في المراد بها، ولعل ما يجري من أحداث، وما سيحصل من أمورٍ أكبرُ شاهدٍ على تحرير معانيه وبيان خوافيه، كيف لا؛ وهو من (علم الغيب) الذي أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه؟!

 

ويمكننا أن نحصر المعاني التي أوردها العلماء في معنى (المنع) الوارد في الحديث بالأمور الآتية:

 

أولاً: هذا منه إخبار بأن أمورَ الدين وقواعدَه يُتركُ العمل بها لضعف القائم عليها، أو لكثرة الفتن واشتغال الناس بها، وتفاقم أمر المسلمين، فلا يكون مَنْ يأخذ الزكاة ولا الجزية ممن وجبت عليه، فيمتنع من وجب عليه حقّ من أدائه. قاله أبو العباس القرطبي في «المفهم» (7/230 - ط. دار ابن كثير).

 

وهذا كلام عامّ([367])، ينقصه:

 

أولاً: بيانُ هلْ وقع ذلك في عصر المصنف -وهو من وفيات سنة (656هـ)- أم لا؟

 

ثانياً: بيانُ مَن هو المانعُ للخيرات المذكورة في الأحاديث؟

 

ثالثاً: وفيه أن سببَ المنع: عدمُ وجودِ مَن يأخذ الزكاة والجزية، ولفظ الحديث لا يساعد عليه.

 

رابعاً: أما قوله: «يُتركُ العملُ بها لضعف القائم عليها أو لكثرة الفتن، واشتغال الناس بها، وتفاقم أمر الناس»؛ فبعيد -أيضاً-؛ إذِ البلادُ المذكورة هي التي تمنع خيراتها، و(المنع) فيه معنى الكفّ([368]) والحرمان مع جبر وقسْر وغلبة، والمذكور فيه غفلة وقلة الوازع للقيام بها، وشتان ما بين المعنيين!

 

وذكر بعض الشرّاح([369]) معانيَ رجحوا غيرها عليها؛ هي:

 

ثانياً: أنّ هذه البلاد تمنع خيراتها بسبب إسلام أهلها، فتسقط عنهم الجزية([370])، قال النووي -وتبعه صِدّيق حسن خان([371])، وصاحب «عون المعبود» (8/282)- عنه: «وهذا قد وجد».

 

وقال السخاوي في «القناعة» (ص 106): «وفي تأويله -أي: المنع- قولان»، وجعل الأول: «لإسلامهم فسقطت عنهم الجزية».

 

قلت: نعم، ولكن يرد عليه ما يرد على سابقه -وهو (حق)([372])-، ولكن لا صلة لهذا المعنى بمنطوق الحديث، وقد يقال: لازمٌ أن تمنع هذه البلاد خيراتها أن تكون -قبل ذلك- تحت سيطرة المسلمين، وفي هذا دلالة على إسلام أهلها أو بعضهم.

 

ويبقى -بناءً عليه- بيانُ (المنع)، وسببه، ووقته الوارد في الحديث، ويقال عنه: هو لازم المعنى وليس المعنى.

 

وهذا القول هو الذي قدمه أبو محمد البغوي في «شرح السنة» (11/178)، قال:

 

«وللحديث تأويلان؛ أحدهما: سقوط ما وظّف عليهم باسم الجزية بإسلامهم، فصاروا بالإسلام مانعين لتلك الوظيفة، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ أي: كان في سابق علم الله -سبحانه وتعالى-، وتقديره: أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدؤوا».

 

قلت: وا عجبي من تأييده لهذا المعنى بما ورد في آخره: «وعدتم حيث بدأتم»([373])! وعذره -وهو من وفيات سنة (516هـ)- أنه لم يشاهد ما شاهدناه، ولم يسمع بما سمعناه.

 

وقول البغوي هذا شبيه بما قدمناه قريباً عن البيهقي([374])، وعلق ابن كثير([375]) في «البداية والنهاية» (6/203) على تأييده هذا المعنى، بما ورد في آخره: «وعدتم حيث بدأتم»، بقوله: «والعجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي احتج به على ما رجّحه من أحد القولين المتقدمين، وفيما سلكه نظر، والظاهر خلافه».

 

وقال صاحب «تكملة فتح الملهم» (6/291):

 

«وهذا التفسير فيه نظر؛ لأن أهل هذه البلاد لم يكونوا يؤدّون الجزية إلى المسلمين قبل أن يفتتحها المسلمون، وأما بعد ما افتُتِحَتْ هذه البلاد، صار المسلمون هم ولاة هذه البلاد، فلا معنى لأداء هذه البلاد الجزية.    نعم؛ كان الكفار من ساكني هذه البلاد يؤدون الجزية إلى ولاة المسلمين، ولم يثبت أن جميعهم أسلموا حتى سقطت عنهم الجزية رأساً».

 

وأشار الشوكاني في «نيل الأوطار» (8/164) إلى رد هذا المعنى، فقال:

 

«وهذا الحديث من كلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بما سيكون من ملك المسلمين هذه الأقاليم، ووضعهم الجزية والخراج، ثم بطلان ذلك؛ إما بتغلبهم -وهو أصح التأويلين، وفي «البخاري»([376]) ما يدل عليه، ولفظ الحديث يرشد إلى ذلك-، وإما بإسلامهم»([377]).

 

قلت: فجعل إسقاط ما وُظِّف عليهم بسبب إسلامهم من التأويلين، وقال عن الآخر: «أصح». ويقتضي هذا أن هذا القولَ مرجوحٌ، وقد ردّه ابن الجوزي([378]) وشيخنا الألباني([379]) -رحمهما الله تعالى-، وفصّل الحميدي في ذلك، فقال: «وفي تفسير المنع وجهان؛ أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أَعلم أنهم سيسلمون، وسيسقط ما وُظِّف عليهم بإسلامهم، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم، واستُدِلَّ على ذلك بقوله: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ لأن بدْأهم في علم الله، وفي ما قضى وقدّر أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدؤوا، وقيل في قوله: «مَنَعَت العراق درهمها» الحديث: أنهم يرجعون عن الطاعة؛ وهذا وجه، وقد استَحْسنَ الأولَ بعضُ العلماء، وكان يكون هذا لولا الحديث الوارد الذي أفصَحَ فيه برجوعهم عن الطاعة، أخرجه البخاري([380]) من حديث سعيد بن عمرو، عن أبي هريرة، قال: «كيف أنتم إذا لم تَجْبُوا ديناراً ولا درهماً؟» فقيل: وكيف ترى ذلك؟ قال: «والذي نفسي بيده عن قول الصادق المصدوق. قال: عمَّ ذاك؟ قال: تُنتَهك ذمةُ الله وذِمّة رسوله، فيَشُدُّ الله قلوبَ أهلِ الذمة، فيَمنعون ما في أيديهم»»([381]).

 

ثالثاً: وهو التأويل الثاني عند البغوي، ونص كلامه:

 

«والتأويل الثاني: هو أنهم يرجعون عن الطاعة، فيمنعون ما وظف عليهم، وكان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على نبوته حيث أخبر عن أمر أنه واقع قبل وقوعه، فخرج الأمر في ذلك على ما قاله.

 

وفيه بيانٌ على أن ما فعل عمر -رضي الله عنه- بأهل الأمصار فيما وَظَّف عليهم كان حقّاً، وقد رُوي عنه اختلافٌ في مقدار ما وضعه على أرض السواد»([382]).

 

قلت: وهذا القول من ضمن الأقوال التي أوردها النووي، مصدرة بـ(قيل) -وفيه إشارة إلى ضعفه عنده-، ونص عبارته:

 

«قيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان، فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها»([383])، ونحوه:

 

رابعاً: قوله: «وقيل: معناه: أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدّونه من الجزية والخراج وغير ذلك»([384]).

 

والملاحظ أن هذين المعنيين على نقيض ما قبلهما، وبَيْنَ المعنى (الثالث) و(الرابع) تلازمٌ وترابطٌ؛ إذ رِدّةُ المشركين ومنعهم الزكاة تستلزم قوة شوكتهم، كما لا يخفى.

 

وردد هذا المعنى غيرُ واحد من العلماء والباحثين؛ مثل:

 

* العلامة صِدّيق حسن خان -رحمه الله تعالى-.

 

قال في «شرحه صحيح مسلم» بعد أن أورد الأقوال السابقة -بترتيبها- عن النووي، وعلق على الأخيرين بقوله:

 

«قلت: وقد وُجد ذلك كله، في هذا الزمان الحاضر، في العراق، والشام، ومصر، واستولى الروم -يعني: النصارى- على أكثر البلاد، في هذه المئة الثالثة عشر، ولهم الاستيلاء على سائرها كل يوم، ولله الأمر من قبل ومن بعد»([385]).

 

* العلامة المحدث أحمد شاكر -رحمه الله-.

 

قال في تعليقه على «الخراج»([386]) ليحيى بن آدم موضّحاً هذا المنع عن الأقطار المذكورة:

 

«فإن الأقطار الثلاثة لم تكن فُتحَتْ في عصر النبوة، وهذا الحديث آية كبرى، ففي خلافة عمر ضُمّتِ الأقطارُ الثلاثة إلى أمها -الحجاز-، وكانت دولة ملأت الخافقين، ثم توالت الفتن والأرزاء([387]) على المسلمين، وتقطعت أوصالهم، وضمرت دولتهم، وتوزعت هذه الأمم ممالك لا صلة لواحدة منها بالحجاز، وفي كل منها حركة لنزع ربقة الإسلام، يقوم بها أفراد يسمون أنفسهم «المجددين»، وإنما هم «المجردون»، وها نحن نرى آثارها، ونسأل الله الوقاية من فتنتها. ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها»([388])».

 

* الشيخ محمد خليل هراس -رحمه الله تعالى-.

 

قال في تعليقه على كتاب «الأموال»([389]) لأبي عبيد:

 

«المقصود من الحديث: أنّ كلَّ قطرٍ من هذه الأقطار المفتوحة ستمنع ما كان يؤديه من الخراج إلى بيت مال الخلافة.

 

وهذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قبل أن تُفتَح هذه الأقطار، ويُضربَ عليها الخراج».

 

خامساً: للإمام الخطابي في «معالم السنن»([390]) كلمة في تفسير (المنع) أوسع من العبارات السابقة، وليس فيها ما في القول الرابع، وإن كانت تلتقي معه في المعنى العام([391])، هذا نصها:

 

«ومعنى الحديث: أن ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين، ويوضع عليها الخراج شيئاً مقدراً بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان، وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وبيان ذلك: ما فعله عمر -رضي الله عنه- بأرض السواد، فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهماً وقفيزاً، وقد روي عنه اختلاف في مقدار ما وضعه عليه» انتهى.

 

ونقلها ابن الجوزي([392]) والبُجُمْعَوي([393])، وزاد عليها: «قلت: فارتفع في زماننا، فهو من معجزات النبوة».

 

فكلمته هذه فيها: «وأنه سيمنع في آخر الزمان»، ولم يذكر (المانع)، ولا (سبب المنع)، بخلاف ما في القول السابق.

 

ويبقى أن فيه إبهاماً وغموضاً، وذكرَ لازمَ المنع، وأنه يسبقه فتحٌ ووضع.

 

سادساً: المراد منع هذه البلاد كنوزها من أصحابها، واستيلاء المسلمين عليها، وهذا المنع هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله زوى([394]) لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلْكَ أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض»([395]).

 

قال القاضي عياض في كتابه «إكمال المعلم»([396]) شارحاً الحديث:

 

«وهذا الحديث عَلَم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لظهوره كما قال، وأنّ مُلكَ أمته اتسع في المشارق والمغارب، كما أخبر؛ مِن أقصى بحر طنجة([397])، ومنتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق، مما وراءَ خراسان والنهر، وكثير من بلاد الهند والسند والصغد([398])، ولم يتسعْ ذلك الاتساعَ من جهةِ الجنوب والشمال الذي لم يذكر -عليه السلام- أنه أُرِيَه وأن ملك أمته سيبلغه.

 

وقوله: «وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض» ظاهره الذهب والفضة، والأشبه أنه أراد كنز كسرى وقيصر وقصورهما وبلادهما؛ يدل على ذلك: قوله في الحديث الآخر عنهما في هلاكهما: «ولتنفق كنوزهما في سبيل الله»([399]). وقوله في حديث جابر بن سمرة المخرج بعد -: «لتفتحن عصابة من المسلمين كنز آل كسرى الذي بالأبيض»([400]). فقد بان أن الكنز الأبيض هو كنز كسرى، ويكون الأحمر هو كنز قيصر.

 

ويدل عليه: ما جاء في حديث آخر في ذكر الشام: «إني لأبصر قصورهما الحمر»([401]).

 

وقوله: «إني لأبصر قصر المدائن الأبيض»([402]). ثم ذكر حديثَنا في هذا السياق، قال:

 

«ويدل على ذلك -أيضاً-: قوله -عليه السلام-: «إذا منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها». فقد أضاف الفضة البيضاء إلى العراق وهي مملكة كسرى، والدينار الأحمر إلىالشام وهي مملكة قيصر. وقد يدل هذا -أيضاً- إلى ما ذكرناه أولاً من المراد به الذهب والفضة. وقيل: هو المراد بالحديث» انتهى.

 

وذهب إلى نحوه أبو عبدالله محمد بن خلفة الوشتالي، الشهير بـ(الأُبّي) (ت 827هـ) في شرحه المسمى «إكمال إكمال المعلم»([403])، قال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض» ما نصه:

 

«الظاهر أنهما الذهب والفضة، وهما كنزا كسرى وقيصر، ملكي الشام والعراق؛ لحديث: «إذا([404]) منعت العراق درهمها([405])، ومنعت الشام مُدْيها ودينارها»، فأضاف الفضة إلى العراق، وهي مملكة كسرى، والدينار إلى الشام، وهي مملكة قيصر».

 

قلت: وهذا المعنى بعيدٌ عن حديثِنا، ولا صلَةَ له بقوله صلى الله عليه وسلم في آخره: «وعدتم كما بدأتم»، وهو على نقيض ما ذكره الشراح الآخرون، ويُلاحَظُ عليه الأمور الآتية:

 

أولاً: إنه أهمل ذكر العراق فيه.

 

ثانياً: أورده بلفظ رواية ابن ماهان: «إذا...»، والخبر محذوف، ويقدر    -كما قدمناه([406])- بأمرين، يُبْعدان أن يكون المراد (استيلاء المسلمين على خيرات هذه البلاد)، نعم؛ لازم أن تمنع هذه البلاد خيراتها -بعد سيطرة المسلمين عليها- أن تكون تحت أيديهم.

 

ثالثاً: المنع -على هذا المعنى- كان للمسيطرين عليها، ورجعت خيراتُها إلى أهلها بعد إسلامهم، فمنعت مملكة كسرى الخيرَ الذي يُجبَى إليها من العراق، ومنعت مصر الخير الذي يجبى إليها من الشام، بسبب هلاكهم، وهذا مستلزم لعزّ الإسلام وأهله، ولا مناسبة لهذا المعنى للمنع في حديثنا الذي في آخره: «وعدتم كما بدأتم».

 

فصل

 

في بيان الراجح في معنى (المنع) الوارد في الحديث عند الشراح

 

القول الذي ارتضاه النووي ورجحه، وقال عنه: «وهو الأشهر»([407])؛ هو قوله: «إن معناه: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان؛ فيمنعون حصول ذلك للمسلمين»([408]).

 

وأيد ذلك بنصّ آخر، قال بعد العبارة السابقة مباشرة:

 

«وقد روى مسلم هذا بعد هذا بورقات عن جابر، قال: «يوشك أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك»([409]).

 

وقال على إثره:

 

«وذكر في منع الرومِ ذلكَ بالشام مثلُه، وهذا قد وُجِد في زماننا في العراق، والآن موجود»([410]).

 

فصل

 

في سياق قول جابر وتخريجه

 

يشير النووي في كلامه السابق إلى ما أخرجه مسلم في «صحيحه»([411])، قال:

 

«حدثنا زُهير بن حرب وعلي بن حُجر (واللفظ لزهير)، قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجُريْري، عن أبي نَضْرة، قال: كنا عند جابر بن عبدالله، فقال: يوشك أهل العراق أن لا يُجبى([412]) إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العَجم، يمنعون ذاك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم، ثم أَسْكت([413]) هُنيَّة([414])، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، لا يعده عدّاً».

 

قال: قلت لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبدالعزيز؟ فقالا: لا» انتهى.

 

وأبو نضرة السائل؛ هو: المنذر بن مالك بن قُطعة العَبْديّ([415])، وأما أبو العلاء؛ فهو: يزيد بن عبدالله بن الشّخير.

 

والسائل لهما: «أتريان أنه عمر بن عبدالعزيز؟ فقالا: لا»؛ هو الجُريري؛ واسمه: سعيد بن إياس، وهو ثقة، احتج به الشيخان، وأطلق ابن معين والنسائي القول بتوثيقه([416]). وقال أحمد بن حنبل: محدث أهل البصرة([417]). وقال أبو حاتم: تغير حفظه قبل موته، فمن كتب عنه قديماً فهو صالح، وهو حسن الحديث([418]).

 

وقال كهمس: أنكرناه أيام الطاعون([419]). وقال يزيد بن هارون: سمعتُ منه سنة اثنتين وأربعين ومئة، وهي أول سنة دخلتُ البصرة، ولم ننكر منه شيئاً، وكان قيل لنا: إنه اختلط.

 

وقال ابن حبان: كان قد اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين، قال: ولم يكن اختلاطه اختلاطاً فاحشاً([420]).

 

وقال الأبناسي([421]): ومن سمع منه قبل التغيير، ... وذكر عشرة؛ منهم: (إسماعيل ابن عليّة)، وهو منسوب هنا لأمه([422])؛ وهو: (إسماعيل بن إبراهيم) الذي في إسنادنا.

 

والضابط في السماع من (الجريري) قبل الاختلاط ما قاله أبو داود فيما رواه عنه أبو عبيد الآجري([423]): «كل من أدرك أيوب، فسماعه من الجريري جيد». وحكاه الأبناسي([424]) -أيضاً-.

 

وأخرج البخاري في «صحيحه» (كتاب استتابة المرتدين) (باب إثم من أشرك بالله) (12/264 - مع «الفتح») من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري بسنده حديث أبي بكر رفعه: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، ...».

 

وكذا أخرج له مسلم في «صحيحه» (4/2199 - ط. محمد فؤاد عبدالباقي) في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (باب عرض مقعد الميت) من الطريق نفسه حديثاً آخر.

 

إذن؛ اختلاط الجريري([425]) لا يضر، والحديث السابق بسياقته التامة مداره عليه، ورواه عنه من طرق كل من:

 

أولاً: إسماعيل بن إبراهيم([426]) (ابن عليّة).

 

أخرجه من طرق عنه: أحمد في «المسند» (3/317)، وابن حبان في «صحيحه» (6682 - «الإحسان»)، وأبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (3/576 رقم 3782)-، وأبو يعلى -رواية أبي بكر بن المقري([427])- ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/213)-.

 

وأخرجه أبو عمرو الداني في «الفتن» (5/1119-1120 رقم 603) من طريق علي بن معبد، حدثنا إسماعيل، به. مقتصراً على قول جابر بن عبدالله:

 

«يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم من قبل العجم، يمنعون ذلك». وسبق عنده (5/1053 رقم 569) من الطريق نفسه المرفوع فقط، فكأنه فرق الحديث وقطعه.

 

وأخرجه -أيضاً- في «الفتن» (5/1120) من طريق زهير بن حرب، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن أبي نضرة، قال: ... وذكره مقتصراً على قول جابر في ذكر (العراق) و(الشام)، كما في رواية مسلم، دون قوله: «ثم أسكت هنيّة...» وما بعده من المرفوع.

 

وتابع ابنَ عليةَ عليه غيرُ واحد، وهذا ما وقفت عليه:

 

ثانياً: عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي([428]).

 

أخرجه مسلم (2913) إثر رواية إسماعيل بن إبراهيم، قال: «بهذا الإسناد ونحوه»([429]).

 

وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (6/330) وفي «الخلافيات» (2/ق132/أ) من طريق محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال:

 

حدثنا محمد بن بشار([430]) وأبو موسى([431])، قالا: حدثنا عبدالوهاب، أخبرنا سعيد -قال بندار: ابن([432]) إياس- الجُرَيري، وقالا: عن أبي نضرة، عن جابر بن عبدالله، قال: يوشك أهل العراق لا يُجبى إليهم درهم ولا قفيز، قالوا: مما([433]) ذاك يا أبا عبدالله؟ قال: من العجم.

 

وقال بُندار: من قِبل العجم.

 

وقالا: يمنعون ذاك، ثم سكت هنيهة وقال هنيّة([434]).

 

[وقالا]([435]): ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يُجبَى إليهم دينار ولا مُدْي. قال: مما([436]) ذاك؟ قال: من قبل الروم يمنعون ذاك.

 

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي خليفة يحثي المال [حثياً]([437])، لا يعده عدّاً».

 

ثم قال: والذي نفسي بيده ليعودن الأمر كما بدأ، ليعودن كل إيمان إلى المدينة كما بدأ بها([438])، حتى يكون كل إيمان بالمدينة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم([439]): «لا يخرج رجل من المدينة رَغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه، وليسمعن ناس برخْصٍ من أسعارٍ ورزقٍ فيتَّبِعونه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» وإسناده صحيح.

 

وعلقه أبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (3/576 رقم 3782 و5/440 رقم 5728)- من طريق ابن عليّة وعبدالوهاب، عن الجريري، به.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/362 رقم 1055): حدثنا عبدالوهاب الثقفي، به مختصراً مقتصراً على قوله صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي خليفة يحثي المال حثياً، ولا يعده عدّاً».

 

وأخرجه نعيم في «الفتن» (2/684 رقم 1931) -أيضاً-: حدثنا عبدالوهاب، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبدالله، قال: قال حذيفة: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم درهم ولا قفيز، يمنعهم من ذلك العجم، ويوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدي، يمنعهم من ذلك الروم».

 

كذا فيه زيادة: «قال: قال حذيفة»، وهي مثبتة في الطبعة الأخرى منه (2/184) وفي النسخة الخطية (ج10/ق7/ب)، ولعلها من تخاليط (نعيم ابن حماد)، فقد رواها من هو أوثق منه، وأكثر عدداً دونها. ونعيم بن حماد «في قوة روايته نزاع». قاله الذهبي([440])، وقال مسلمة بن القاسم: «كان صدوقاً، وهو كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة في (الملاحم) انفرد بها»([441]).

 

ثالثاً: عبدالوهاب بن عطاء الخفاف([442]).

 

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/454): أخبرنا الحسن بن يعقوب ابن يوسف العدل، وأحمد بن مروان الدينوري في «المجالسة» (5/398-400 رقم 2263 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/213-214)-، قالا: ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبدالوهاب بن([443]) عطاء، به. ولفظه:

 

«يوشك أهل العراق أن لا يجبى([444]) إليهم...» وساقه([445]) مثل رواية عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي.

 

وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (7/52 رقم 2904) من طريق يحيى بن أبي طالب، به مقتصراً على قوله صلى الله عليه وسلم:

 

«والذي نفسي بيده، ما يخرج أحد من المدينة رغبةً عنها إلا أبدلها الله خيراً منه أو مثله».

 

وقال الحاكم عقبه: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة([446])، إنما أخرج مسلم حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان خليفة يعطي([447]) المال، لا يعدّه عدّاً». قال: «وهذا له علة»، قال:

 

«فقد حدثناه علي بن عيسى، ثنا الحسين بن محمد بن زياد، ثنا أبو موسى ومحمد بن بشار، قالا: ثنا عبدالوهاب بن عبدالحميد([448])، ثنا داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن جابر أو أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر هذه الأمة خليفة يقسم المال، لا يعده عدّاً».

 

قال شيخنا الألباني([449]) -رحمه الله تعالى- بعد كلام الحاكم السابق:

 

«وأقول: لي على هذا الكلام ملاحظات:

 

الأولى: أنه أوهم أن مسلماً لم يخرج حديث الجُريري مطلقاً، وليس كذلك كما ترى.

 

الثانية: أن العلة التي أشار إليها ليست قادحة؛ لأن مسلماً قد أخرج الحديث من طريق عبدالصمد بن عبدالوارث: حدثنا أبي، حدثنا داود، به. إلا أنه قال:

 

«عن أبي سعيد وجابر بن عبدالله، قالا: ...» هكذا بدون شك، وكذلك أخرجه أحمد (3/333).

 

وهذا أصح؛ لأن عبدالوارث والد عبدالصمد ثقة ثبت، بخلاف عبدالوهاب بن عبدالمجيد (وفي الأصل: عبدالحميد، وهو خطأ مطبعي)؛ ففيه ما يأتي.

 

الثالثة: أن عبدالوهاب هذا -وإن كان ثقة من رجال الشيخين فإنه- مذكور فيمن كان اختلط، فلا يُعل بروايته ما رواه الثقة الثبت عبدالوارث.

 

ثم إن الحديث قد أورده السيوطي في «الجامع الكبير» مفرقاً من حديث جابر دون جملة الشام، وعزا الجملة الأولى المتعلقة بالعراق لأحمد وأبي عوانة وابن عساكر، وعزا حديث الترجمة لأحمد ومسلم فقط، وفي ذكره للجملة الأولى فيه -مع كونها موقوفة- إشارة منه إلى أنها في حكم المرفوع؛ وذلك لأنها من الأمور الغيبية التي لا تقال بالرأي والاجتهاد.

 

وأيضاً؛ فإنه يشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «منعت العراق...» وساقه وعزاه لمسلم وأبي داود والبيهقي وابن عبدالبر» انتهى كلام شيخنا     -رحمه الله تعالى-.

 

قال الذهبي في «التلخيص»: «رواه مسلم، فقال: عن أبي سعيد، ولم يشك».

 

قلت: أخرجه أحمد (3/333): حدثنا عبدالصمد([450])، حدثنا أبي، حدثنا داود، به، وفيه: «عن أبي سعيد وجابر» بالجمع لا بالشك([451])، ولفظه: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعُدُّه». وإسناده صحيح.

 

وفي هذا متابعة للجريري على أصل الحديث، وليس فيه قول جابر (موطن الشاهد الذي سقناه من أجله).

 

قال أبو عبيدة: وأخرجه مسلم -أيضاً- (2914، 2913) بعد (69)، وأبو يعلى (1216) من طريق عبدالصمد، وفيه: «عن أبي سعيد وجابر».

 

وأما حديث أبي سعيد؛ فقد أخرجه مسلم (2914) بعد (68) من طريق بشر -يعني([452]): ابن الفضل- وإسماعيل -يعني([453]): ابن عليّة-؛ كلاهما عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد([454]) رفعه: «مِن خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً([455])، لا يعده عدّاً».

 

قال مسلم: «وفي رواية ابن حُجر([456]): يحثي المال».

 

وأخرج حديث أبي سعيد وحده: أحمد (3/5، 37، 48، 49، 60، 80، 96، 98)، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (5/440 رقم 5728)-، وليس فيه ذكر لـ(العراق) و(الشام)، وستأتي بعض ألفاظه([457]).

 

فصل

 

في سياق كلام العلماء في تحديد من هم المانعون

 

أورد غير واحد قول جابر الذي فيه: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا([458]): من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم»([459]) في معرض بيانه للمنع الوارد في حديثنا هذا: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ...» إلخ.

 

ومن ذهب إلى هذا جماعة؛ منهم:

 

* الإمام البيهقي في كتابه «دلائل النبوة» (6/330-331)، فإنه ساق حديث أبي هريرة، وذكر تأويلين([460]) له؛ أحسنهما عنده: «إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهم سيسلمون وسيسقط عنهم ما وُظِّف عليهم»! وقال: «وتفسيره...». وأورد حديث جابر هذا([461]).

 

وناقشه في اختياره ابنُ كثير، وأقره على الاستدلال بحديث جابر، قال في «البداية والنهاية» (6/203):

 

«وقد اختلف الناس في معنى قوله -عليه السلام-: «منعت العراق...» إلخ؛ فقيل: معناه: أنهم يسلمون فيسقط عنهم الخراج، ورجّحه البيهقي، وقيل: معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا قال: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك. كما ثبت في «صحيح مسلم»([462]): «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء»»، قال:

 

«ويؤيد هذا القول؛ ما رواه الإمام أحمد...» وأورد قول جابر، ثم عطف على ذكر لفظ مسلم في «صحيحه»، وفيه قولة جابر مع ما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم([463])، وقال: «والعجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي احتجّ به على ما رجّحه من أحد القولين المتقدمين، وفيما سلكه نظر، والظاهر خلافه»([464]).

 

قال أبو عبيدة: وما رجحه ابن كثير غير دقيق([465])؛ إذ (المنع) فيه معنى (الغلبة)، ويدل عليه قول جابر هذا، وقد أحسن النووي لما قال:

 

«إن معناه -أي: المنع-: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين».

 

ولي هنا ملاحظات مهمات:

 

الأولى: في الحديث الذي معنا: «منعت العراق...» وفي قول جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم» وكذا أهل الشام، وليس في هذا استيلاء عسكري على البلاد، وإنما في (منع أهل العراق) خيرات بلادهم؛ بحيث لا يتوسعون فيها على الرغم من كثرة الخيرات، وخصوبة الأرض، ووجود المقوّمات الاعتيادية لتحصيل ذلك، فقول النووي -رحمه الله تعالى-: «يستولون على البلاد في آخر الزمان» لازمٌ لهذه الألفاظ المتصوّرة في زمانه، والجامع بين (أشراط الساعة) عدم وجودها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس (الذم)، أو (الكراهة)، أو (الحرمة)؛ كما يعتقد كثير من الناس.

 

الثانية: أما بالنسبة إلى (الاستيلاء العسكري)؛ فيحتاج إلى نصٍّ آخر، وهذا ما سأقوم به -إن شاء الله تعالى- في دراسة مفردة عن (الروم) و(العجم) وصِلَتِهِما بأحاديث الفتن، وسيكون ذلك بخصوص (ديار أهل الإسلام) جميعاً، بما فيها (العراق)، ولكن الذي يهمني الآن ما يخص (منع خيرات العراق والشام ومصر) أهلها -(وهو منطوق حديثنا)-.

 

الثالثة: المتأملُ قولَ جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، ... من قبل العجم، يمنعون ذلك، يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدي، ... من قبل الروم» يخلص إلى:

 

1- منع أهل العراق هو الأول، ثم يتبعه منع أهل الشام([466])، إذ «معنى قوله -رضي الله عنه-: «يوشك»: يسرع. وقيل: عسى»([467]). والمعنى الأول يفيد الزمن، وكذا وقع ترتيبه في حديث أبي هريرة، وأثر جابر.

 

2- المانعون لخيرات العراق هم العجم، والمانعون لخيرات الشام هم الروم، وهما مختلفان، وهذا هو الفرق بينهما:

 

العَجم: من (العُجمة)؛ وهي: «كون اللفظ مما وضعه غير العرب»([468])؛ بمعنى: «أن تكون الكلمة أو الجملة على غير أوزان الكلام، عند العرب الفصحاء»([469]).

 

وعليه؛ فـ(الأعجمي): «معناه في كلام العرب: الذي في لسانه (عُجمة)، وإن كان من العرب. والعَجميّ: الذي أهله من العجم، وإن كان فصيح اللسان. يقال: رجل أعجمي، ورجل أعجم: إذا كان في لسانه عُجمة. ويقال للدواب: عُجم؛ لأنها لا تتكلم»([470]).

 

فهؤلاء هم الذين يمنعون العراق خيراتهم، فهم خليط وأمشاج من الناس، تجمعهم (العُجمة).

 

وأما الروم: فهم «جيل من الناس معروف، كالعرب والفرس والزنج وغيرهم، والروم الذين تسمّيهم أهل هذه البلاد([471]): الإفرنج. قال الإمام الواحدي -رحمه الله تعالى-: هم جيل من ولد (روم بن عيصو بن إسحاق)، غلب اسم أبيهم عليهم، فصار كالاسم للقبيلة. قال: وإن شئت: هو جمع (روميّ) منسوب إلى (روم بن عيصو)، كما يقال: زنجيّ وزنج، ونحو ذلك»([472]).

 

وجاء ذكرهم كثيراً في النصوص، وسموا في بعض الأحاديث الصحيحة بـ(بني الأصفر)([473]).

 

وعليه؛ فيحتمل أن يكون الحديث «مُنِعت» -بضم الميم وكسر النون- على البناء للمجهول، وهو حينئذٍ يلتقي مع: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم».

 

قال صاحب «تكملة فتح الملهم» (6/292) شارحاً حديث: «منعت العراق...»:

 

«إنه إخبار بأن الكفار يسيطرون في آخر الزمان على معظم البلاد، فيمنعون مسلمي هذه البلاد من الحصول على ما يحتاجون إليه من الأموال([474])، ويؤيده ما سيأتي في باب (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل...إلخ) من حديث جابر -رضي الله عنه-، قال: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم». والظاهر على هذا التفسير أن يكون حديث الباب بلفظ: «مُنِعَت»، بضم الميم وكسر النون على البناء للمجهول، ولم أر ذلك مصرحاً في شيء من الروايات، والله أعلم» انتهى.

 

ودرج على هذا جماعة من السابقين؛ مثل:

 

* القاضي عياض.

 

قال في «إكمال المعلم» (8/457):

 

«وقوله: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم...» هو مثل قوله: «منعت العراق درهمها...» الحديث، وقد فسّره في الحديث أن معناه: منعها الجزية والخراج؛ لغلبة العجم والروم على البلاد».

 

* النووي في هذا الموطن.

 

فإنه اكتفى بقوله في «شرح صحيح مسلم» (18/53) عند أثر جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم...»:

 

«قد سبق شرحه قبل هذا بأوراق»؛ يريد: كلامه الذي قدمناه عنه([475]).

 

* صديق حسن خان.

 

نقل كلام النووي على حديث أبي هريرة السابق بتمامه، وقال عقبه:

 

«قلت: وقد وجد ذلك كله في هذا الزمان الحاضر في العراق والشام ومصر. واستولى الروم -يعني: النصارى- على أكثر البلاد، في هذه المئة الثالثة عشرة، ولهم الاستيلاء على سائرها كل يوم، ولله الأمر من قبل ومن بعد»([476]).

 

ودرج على هذا جماعة من الباحثين والمطَّلعين المعاصرين، فإنهم اعتنوا بكلام النووي، وأقروه على ما قال، ومنهم من أورد مقولته في سياق كلامٍ زاد الحديثَ معنىً وبياناً، وإليك شذرات من كلامهم:

 

* قال الأستاذ مصطفى أبو النصر الشلبي في كتابه «صحيح أشراط الساعة ووصف ليوم البعث وأهوال يوم القيامة»([477]) تحت عنوان (قطع المال والغذاء عن العراق وغيرها من بلاد الإسلام):

 

«ومن علامات الساعة في آخر الزمان وأشراطها: استيلاء العجم والروم على البلاد، أو يحاصرونها سياسيّاً واقتصاديّاً، فيمنعون عنها المال والغذاء لإجبارها على الخضوع لإرادتها وسيطرتها على البلاد والعباد، والتحكم في أرزاقهم ومعاشهم، وسَلْبِ ما عندهم من الخيرات؛ كالبترول وغيره مما أنعم الله به على هذه البلاد».

 

ثم أورد حديثَ جابرٍ بلفظ مسلمٍ، وكلامَ النووي بتمامه عليه، وعلق عليه قائلاً:

 

«قلت: لا يعني من قوله أنه قد وُجد في زمانهم أن ذلك لا يتكرر؛ فإنّ مِنْ أشراط الساعة ما يتكرر أكثرَ من مرة، كما في حديث تداعي الأمم على الأمة الإسلامية؛ فقد حدَثَ هذا أكثر من مرة في تاريخ الأمة، وهو يحدث الآن بشكل أوسع وأوضح».

 

* وقال الأستاذ عمر سليمان الأشقر -حفظه الله تعالى- في كتابه «اليوم الآخر القيامة الصغرى»([478]) تحت عنوان (توقُّفُ الجزية والخراج) ما نصه:

 

«كانتِ الجزيةُ التي يدفعها أهلُ الذمة في الدولة الإسلامية، والخراجُ الذي يدفعه من يستغلُّ الأراضيَ التي فُتِحت في الدولة الإسلامية من أهم مصادر بيت مال المسلمين، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سيتوقف، وسيفقد المسلمون بسبب ذلك مورداً إسلاميّاً هامّاً، ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها([479]) ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم» شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.

 

والقفيز والمد(2) والإردب: مكاييلُ لأهلِ ذلك الزمان في تلك البلاد، وبعضها لا يزال معروفاً إلى أيامنا، والدرهم والدينار أسماءٌ للعملات المعروفة في ذلك الوقت، ومنع تلك البلاد للمذكورات في الحديث بسبب استيلاء الكفار على تلك الديار في بعض الأزمنة، فقد استولى الروم، ثم التتار على كثير من البلاد الإسلامية، وفي عصرنا احتَلَّ الكفار ديار الإسلام، وأذهبوا دولة الخلافة الإسلامية، وأبعدوا الشريعة الإسلامية عن الحكم. قال النووي في تعليقه على الحديث: «الأشهر في معناه: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد روى مسلم هذا بعد ذاك بورقات عن جابر، قال: «يوشك أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم. قلنا من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك». وذكر في منع الروم ذلك بالشام مثله، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وهو الآن موجود. وقيل: لأنهم يرتدون آخر الزمان، فيمنعون ما لديهم من الزكاة وغيرها. وقيل: معناه: أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج، وغير ذلك». وكل هذه التعليلات لسبب منع تلك الإيرادات لخزينة الدولة الإسلامية التي ذكرها النووي وُجِدَتْ، علاوةً على انهيار الدولة الإسلامية التي كانت تقيم اقتصادها على الشريعة الإسلامية، فإلى الله المشتكى».

 

وقال العلامة الشيخ التويجري في كتابه «إتحاف الجماعة فيما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة»([480]) بعد أن أورد حديث أبي هريرة -وعزاه لأحمد ومسلم وأبي داود-:

 

«وقد اختُلِفَ في معنى هذا الحديث: فقيل: معناه: أنهم يسلمون، فيسقط عنهم الخراج. ورجحه البيهقي([481]). وقيل: معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة، ولا يُؤدُّون الخراجَ المضروبَ عليهم، ولهذا قال: وعدتم من حيث بدأتم؛ أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك. ورجحَ هذا القولَ ابنُ كثير، ولم يحك الخطابيُّ في «معالم السنن»([482]) سواه.

 

واستشهد له ابن كثير بما رواه الإمام أحمد ومسلم([483]) من حديث أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-، ...» وساقه»، ثم قال: «قلت: وأصرح من هذا ما رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة   -رضي الله عنه-، قال: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا درهماً؟! فقيل له: وكيف ترى ذلك كائناً يا أبا هريرة؟ قال: إي؛ والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق. قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشد الله -عزّ وجل- قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم([484]).

 

والذي يظهر لي في معنى قوله: «منعت العراق درهمها...» الحديث: أن ذلك إشارةٌ إلى ما صار إليه الأمر في زماننا وقبله بأزمان، من استيلاء الأعاجم من الإفرنج وغيرهم على هذه الأمصار المذكورة في حديث أبي هريرة        -رضي الله عنه-، وانعكاسِ الأمور بسبب ذلك، حتى صار أهلُ الذمّةِ أقوى من المسلمين وأعظمَ شوكةً، فامتنعوا من أحكام الإسلام التي كانت تجري عليهم من قبل، وانتفض حكم الخراج وغيره، ثم زاد الأمر شدة، فوُضِعَتْ قوانينُ أعداءِ الله ونظمُهم مكانَ الأحكام الشرعية، وأَلزَموا بها مَن تحتَ أيديهم من المسلمين، والذين انفلتوا من أيدي المتغلبين عليهم ما زالوا على ما عهدوه من تحكيم القوانين وسنن أعداء الله -تعالى-، والتخلق بأخلاقهم الرذيلة، بل على شرٍّ مما عهدوه؛ كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة» انتهى.

 

وأخيراً؛ فإن كثيراً من المحدثين في تخريجاتهم عَدُّوا (قول جابر)       -الذي له حكم الرفع([485])، وفيه بيان المانعين- شاهداً لحديث أبي هريرة المرفوع الذي نحن بصدده، وهذا يدل على الصلة الوثيقة بينهما، وهو يلتقي مع كلام الشُّرّاح السابق، وهذا ما صنعه ابنُ كثير([486])، وابنُ حجر([487])، وأظهره على وجهٍ جليٍّ شيخُنا الألباني -رحمه الله تعالى- في كتابه «صحيح سنن أبي داود»([488]) (8/368-369)، فإنه قال في آخر تخريجه لحديث أبي هريرة:

 

«وله شاهد من حديث جابر... نحوه: رواه مسلم (8/185)، وأحمد (3/317)».

 

وقال في «السلسلة الصحيحة» (7/القسم الأول/ 198، رقم 3072) عند تخريج حديث جابر مرفوعاً: «يكون في آخر أمتي خليفةٌ يحثو المال حثْواً، لا يعده عدّاً»: «وأيضاً: فإنه شهد له([489]) حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ...» وأورده.

 

ويمكن أن يفرق بين الحديثين([490]) بقولنا:

 

إن قوله: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم...» ومثله الشام أن لا يُجبى هكذا بضم «أوله «يُجبى»؛ أي: يُمنعون منه بسبب حصار ونحوه، أو مقاطعة خارجية، وهذا خاص -كما في الحديث- بالعراق والشام فقط، ولم تذكر «مصر» هنا، أما الحديث الآخر وهو «منَعَت العراق» ومثله الشام، ومثله مصر؛ فهو بفتح أوله «مَنَعت»؛ أي أنهم هم الذين يمنعون ذلك؛ أي: هم الفاعلون، وليسوا المفعولَ بهم، وذكرت مصر هنا. وطبعاً هناك فرق هائل جوهري بين المعنيين؛ استفدناه من حركة «الحرف» الأول في كلٍّ من اللفظين: «يُجبى» و«مَنَعَت»؛ فالأول (مبني للمجهول أو لما لم يسمّ فاعله)، والثاني (مبني للمعلوم). فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أن أهل العراق سيحاصرون ويقاطعون، ويُمنع (بضم الياء التحتية) عنهم الطعام والمساعدات، ثم يفعل هذا بالشام -أيضاً-.

 

وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر -ليس له علاقة بالحديث الأول- أن البلدان الإسلامية سترتد (!!) في آخر الزمان فتمنع ما لزمها من الزكاة وغيرها، وقد ذكر العلماء أقوالاً أخرى، ولكن هذا الذي أثبته هو المعتبر؛ لأنه الواقع، ونص الحديث يؤيده، فقد جاء في آخر الحديث التالي: «وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم». ويمكن أن نقول: أن الردة التي ذكرها العلماء ليست الردة عن الدين بالكلية، وإنما هي سقوط «الخلافة» وتفكك الدولة الإسلامية إلى دويلات مستقلة وانعدام بيت المال، ومنعت البلدان «الإسلامية» الخراج الذي كان يؤدى لبيت المال، وعلى أي التأويلات والتقديرات؛ فالحديثان مختلفان، سنداً ومتناً وفقهاً، ويمكن أن نضيف هذه العلامة كعلامة صغرى من علامات الساعة؛ وهي سقوط الخلافة، ومنع الدويلات الإسلامية المتشرذمة ما كان يجب عليها ويلزمها في دولة الخلافة»([491]).

 

وهو محمول على معنىً مرجوح لـ(المنع) المذكور في الحديث، وسبق بيان ذلك بالتفصيل، ولله الحمد والمنة.

 

فصل

 

في سياق كلام أبي هريرة -رضي الله عنه-

 

سبق أن أشرت عند الكلام على تخريج حديث أبي هريرة المرفوع: «منعت العراق...» أنّ ابن القيم -رحمه الله تعالى- عزاه في «أحكام أهل الذمة» (1/266 - ط. رمادي) للشيخين، وأن لذلك وجهاً، وهذا التفصيل:

 

علق الإمام البخاري في «صحيحه» في كتاب الجزية (باب إثم من عاهد ثم غدر) (4/81 - ط. اليونينية)، قال:

 

قال أبو موسى: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال:

 

كيف أنتم إذا لم تَجْتبوا([492]) ديناراً ولا درهماً؟ فقيل له: وكيف؛ ترى ذلك كائناً يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفسُ أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق([493]).................................................................... قالوا: عمّ([494]) ذاك؟ قال: تُنتَهك ذمَّة([495]) الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فَيَشُدُّ([496]) الله -عز وجل- قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم([497]).

 

وأخرجه أحمد([498]) في «المسند» (2/332): حدثنا أبو النضر، حدثنا إسحاق بن سعيد، به. وزاد في آخره:

 

«والذي نفس أبي هريرة بيده، لَيَكونَنَّ» مرتين.

 

وأبو النضر هو هاشم بن القاسم، وإسناد أحمد صحيح على شرط الشيخين.

 

وأخرجه أبو يعلى (11/6631 رقم 6631): حدثنا بشر بن الوليد، حدثنا إسحاق بن سعيد([499])، به. وإسناده حسن من أجل شيخ أبي يعلى.

 

وأخرجه أبو نعيم([500]) في «المستخرج على البخاري»: حدثنا أبو أحمد، ثنا موسى بن العباس، ثنا محمد بن المثنى -هو أبو موسى-، به. قاله ابن حجر في «تغليق التعليق» (3/485)، وقال في «فتح الباري» (6/280):

 

«قوله: «وقال أبو موسى» هو محمد بن المثنى شيخ البخاري، وقد تكرر نقل الخلاف في هذه الصيغة: هل تقوم مقام (العنعنة) فتحمل على السماع، أم لا تحمل على السماع إلا ممن جرت عادته أن يستعملها فيه؟ وبهذا الأخير جزم الخطيب([501])، وهذا الحديث قد وصله أبو نعيم في «المستخرج» من طريق موسى بن العباس، عن أبي موسى مثله. ووقع في بعض نسخ البخاري: «حدثنا أبو موسى». والأول هو الصحيح، وبه جزم الإسماعيلي وأبو نعيم وغيرهما».

 

قال أبو عبيدة: لم يعزه المزي في «تحفة الأشراف» (9/504 رقم 13087) إلا للبخاري، ورمز له بـ: (خت)؛ أي: معلقاً، ولم يشر إلى وقوع خلاف فيه، بينما قال الشيخ زكريا الأنصاري في «تحفة الباري»([502]) (6/407):

 

«قال أبو موسى: هو محمد بن المثنى. وفي نسخة قال -أي: البخاري-: وقال أبو موسى. وفي أخرى: وحدثنا أبو موسى».

 

وقال العيني في «عمدة القاري» (15/102): «وهذا التعليق، كذا وقع في أكثر نسخ «الصحيح»، وقاله -أيضاً- أصحاب الأطراف، والإسماعيلي والحميدي في «جمعه»([503]) وأبو نعيم. وفي بعض النسخ: حدثنا أبو موسى، والأول هو الصحيح».

 

وساقا -أي: ابن حجر والعيني- حديث أبي هريرة عند مسلم المرفوع([504])، وقول جابر([505]) عند شرح هذا الحديث([506]).

 

ويلاحظ هنا اجتماع المعاني في هذه النصوص، ومن أجل ذلك جعل ابن القيم حديث أبي هريرة متفقاً عليه، وساق لفظ مسلم، كعادة من ألف في «الصحيحين»، ولم يقتصر الأمر عليه، بل هو مسبوق بذلك، وهذا البيان:

 

أورد محمد بن فُتوح الحُميدي في كتابه «الجمع بين الصحيحين»([507]) (3/294-295 رقم 2676) في (أفراد مسلم) (وهو الحادي والتسعون) من (مسند أبي هريرة): «منعت العراق...»، وقال:

 

«وقد أخرج البخاري معناه من حديث سعيد بن عمرو عن أبي هريرة تعليقاً([508])، وإنما فرقناهما؛ لأن اللفظين مختلفان جدّاً، وإن كان المعنى واحداً، ولو جُمِعَا لجاز، وقد ذكرنا في (أفراد البخاري) وهو (السابع والثمانون) من (أفراده)، وأوله: «وكيف أنتم إذا لم تجبوا ديناراً ولا درهماً...» الحديث» انتهى.

 

قلت: وقال عند أثر أبي هريرة: «كيف أنتم إذا...» في (3/261 رقم 2579) من (مسند أبي هريرة) -أيضاً- في (أفراد البخاري) وهو (السابع والثمانون):

 

«أخرجه البخاري تعليقاً...»([509]) وساقه بتمامه إلى قوله: «فيمنعون ما في أيديهم»، وقال:

 

«وقد أخرجَ مسلمٌ معنى هذا الحديث بلفظٍ آخرَ أوجب تفريقَه، وإلا فهو في المعنى (متفق عليه)، وهو (الحادي والتسعون) من (أفراد مسلم)، وأوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها...»».

 

وكذلك صنع ابن الجوزي في شرحه لكتاب الحميدي، المسمى: «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/547 رقم 2074/2579)، قال عند (الحديث السابع والثمانين): من (أفراد البخاري) وفيه لفظة: «تُنتهك ذمة الله...»: قال: «سيأتي هذا الحديث في (أفراد مسلم) من هذا (المسند) -إن شاء الله تعالى-».

 

وقال فيه -أيضاً- (3/566-567 رقم 2142/2676) ما نصه:

 

«وفي الحادي والتسعين: «منعت العراق درهمها وقفيزها»: «المعنى: ستمنع، فلما كان إخباراً عن متحتّم الوقوع حسن الإخبار عنه بلفظ الماضي؛ تحقيقاً لكونه يدل عليه أنه في بعض الألفاظ: «كيف أنتم إذا لم تَجتبوا ديناراً ولا درهماً». وقد كان بعض العلماء يقول: إنما منعوا هذا لأنهم أسلموا. قال: وهذا إخبار عن إجماع الكل على الإسلام. وهذا ليس بشيء؛ لأنه قد سبق صريحاً في هذا (المسند) في الحديث (السابع والثمانين) من (أفراد البخاري): قال أبو هريرة: كيف أنتم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا درهماً؟ قيل: وكيف؟ قال: تُنتهك ذمة الله وذمة رسوله، فيشدّ الله قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم»».

 

قلت: فقوله «في هذا (المسند)»؛ يريد: (مسند أبي هريرة)، وجعلوا قولة أبي هريرة: «كيف أنتم...» من ألفاظ حديث: «منعت العراق...». وهذا يؤكد أن الحديثين عنده سواء، وأنه فرقهما تبعاً لأصله، وجارى في ذلك الحميدي، وسبق قريباً قوله عند حديث مسلم: «هو في المعنى متفق عليه».

 

ومشى على هذا غير واحد من العلماء([510]) غير ابن القيم -رحمه الله تعالى-.

 

ولكن ترد هنا ثلاثة إشكالات مهمة؛ هي:

 

الإشكال الأول: كيف يقال عن حديث مسلم الذي فيه «منعت العراق...» متفق عليه، وما عند البخاري: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا» معلقاً، وليس بموصول؟ والجواب: أن هذا داخل في شرطه، وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق، ولكن حقيقته ليس كذلك؛ «وذلك لأن الغالب      على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها، ولها صور عديدة     معروفة، وهذا ليس منها»([511])؛ لأن أبا موسى محمد بن المثنى من شيوخ البخاري([512]) الذين احتج بهم وأكثر([513]) في «صحيحه» في غير ما حديث، كما بيّنه العلماء، ولما كان البخاريُّ غيرَ معروف بالتدليس؛ كان قوله في هذا الحديث: (قال) في حكم قوله (عن) أو (حدثني) أو (قال لي).

 

قال ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه «الاستقامة» (1/294) عن رواية شبيهة بروايتنا هذه، وهي حديث هشام بن عمار في (المعازف)، وعلقه البخاري عنه -وهو من شيوخه-: «صح فيها ما رواه البخاري في «صحيحه» تعليقاً مجزوماً به، داخلاً في شرطه».

 

الإشكال الثاني: كيف يقال عن لفظ مسلم: متفق عليه، ولفظ البخاري بعيد عنه([514])، والمعنى وإن كان مؤتلفاً، فالألفاظ مختلفة؟

 

والجواب: إن العلماء في تخريجاتهم يتجوّزون في ذلك، وقد نبّه غيرُ واحدٍ على أنّ أصلَ الحديث إنْ كان في «الصحيحين» فإنه يُعزَى للشيخين، فقال السخاوي عند كلامه على (المستخرجات) -وأصحابُها أكثرُ الناسِ تجوّزاً في نسبة الأحاديث لـ«الصحيحين»، على الرغم من اختلاف الألفاظ-:

 

«إنّ أصحابَ المستخرجات غيرُ منفردين بصنيعهم، بل أكثر المخرجين للمشيخات والمعاجم، وكذا للأبواب، يوردون الحديث بأسانيدهم، ثم يصرحون بعد انتهاء سياقه غالباً بعزوه إلى البخاري أو مسلم أو إليهما معاً، مع اختلاف الألفاظ وغيرها، يريدون أصله»([515]).

 

وقال الشيخ عبدالهادي نجا الأبياري في «نيل الأماني على مقدمة شرح القسطلاني لصحيح البخاري»([516]): «اعلم أن ما أخرجه المؤلفون بعد الشيخين، كـ«السنن» لأبي داود إذا قالوا فيه: أخرجه البخاري أو مسلم؛ فلا يعنون بذلك أكثر من أن البخاري أو مسلماً أخرج أصل ذلك الحديث». قال: «فعلى هذا ليس لك أن تنقل حديثاً منها وتقول: هو على هذا الوجه من كتاب البخاري أو مسلم؛ إلا أن تقابل لفظَه، أو يقول الذي خرجه: أخرجه البخاري بهذا اللفظ. كذا في «الملخص»، ومثل ذلك يقال فيما يخرجه السيوطي في «الجامع الصغير» عن الشيخين أو أحدهما، فتفطّن».

 

وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير، يصعب حصره، ويطول تعداده، ولكن أذكر كلاماً نقله الزيلعي عن ابن دقيق العيد، فيه ضرورة التزام اللفظ في الحديث المعزو، لا يجب إلا على من يقصد الاحتجاج بلفظة معينة من ذلك الحديث. ذكر ذلك في كلامه على حديث: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»، قال:

 

«واعلم أن كثيراً من أهل العلم المتقدمين والمتأخرين عزوا هذا الحديث في كتبهم إلى مسلم وهو وهم، وممن فعل ذلك البيهقي في «سننه»([517])، وإنما رواه مسلم([518]) بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طَهُر».

 

واعتذر عنه الشيخ تقي الدين في كتاب «الإمام»، فقال: «والبيهقي وقع له مثل ذلك في كتابه كثيراً، ويريد به أصل الحديث لا كل لفظة منه»، قال: وذلك عندنا معيب جدّاً إذا قصد الاحتجاج بلفظة معينة؛ لأن فيها إيهام أن اللفظ المذكور أخرجه مسلم، مع أن المحدثين أعذر في هذا من الفقهاء؛ لأن مقصود المحدثين الإسناد ومعرفة المخرج، وعلى هذا الأسلوب ألفوا كتب الأطراف.

 

فأما الفقيه الذي يختلف نظره باختلاف اللفظ؛ فلا ينبغي له أن يحتج بأحد المخرجين، إلا إذا كانت اللفظة فيه»([519]) انتهى.

 

الإشكال الثالث: كيف يقال: إن لفظ مسلم متفق عليه، وغاية ما عند البخاري أنه من قول أبي هريرة، ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

والجواب من أربعة وجوه:

 

الأول: في لفظ البخاري قسم مرفوع؛ وهو: «تنتهك ذمة الله...».

 

الثاني: ذكر أبو هريرة منع ما في أيدي أهلِ الذّمة لحديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصرح في هذه الرواية بألفاظه، أو لم يسقه بتمامه، وإنما وقع له ذلك في مرة أخرى، وهي حديثه عند مسلم: «منعت العراق...».

 

الثالث: إن هذا الوقف له حكم الرفع، إذ هو ليس مما يقال بالرأي.

 

الرابع: ثبت نحوه، ووقع التصريح برفعه، وهذا البيان:

 

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/62) بسندٍ جيد عن أبي حكيم مولى محمد بن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

 

«كيف أنتم إذا لم يُجْب لكم دينار ولا درهم؟».

 

قالوا: ومتى يكون ذلك؟

 

قال: «إذا نقضتم العهد شدد الله قلوب العدوّ عليكم، فامتنعوا منكم».

 

فصل

 

في سياق الألفاظ وما يشهد لها من الآثار

 

تبين لنا من خلال ما مضى، أن لحديثنا هذا ألفاظ متعددة سبق تخريجها بالتفصيل؛ هي:

 

أولاً: حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مُدْيها ودينارها، ومنعت مصر إردبّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم».

 

ثانياً: قول أبي هريرة: كيف أنتم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا درهماً؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائناً يا أبا هريرة؟ قال: إي؛ والذي نفس أبي هريرة بيده! عن قول الصادق المصدوق. قالوا: عمّ ذاك؟ قال: تُنتهك ذمّة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشدّ الله -عز وجل- قلوب أهل الذمّة، فيمنعون ما في أيديهم.

 

والأول لفظ مسلم مرفوعاً، والثاني لفظ البخاري، والقسم الأول منه موقوف له حكم الرفع، والآخر مرفوع.

 

ثالثاً: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

 

«لا تقوم الساعة حتى يُغلبَ أهلُ المُدِّ على مدهم، وأهلُ القفيزِ على قفيزهم، وأهلُ الإردبِّ على إردبهم، وأهلُ الدينار على دينارهم، وأهلُ الدرهم على درهمهم، ويرجع الناس إلى بلادهم».

 

وهذا لفظ ابن لهيعة عن عياش.

 

رابعاً: عن أبي هريرة، قال: «كيف أنتم إذا لم يُجْبَ لكم دينارٌ ولا درهم ولا قفيز».

 

هذا لفظ ابن أبي شيبة (8/639 رقم 297 - ط. دار الفكر).

 

خامساً: عن أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبدالله، فقال:

 

«يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك. ثم قال:

 

يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم. ثم أسكت هنيّة، ثم قال:

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، لا يعدّه عدّاً».

 

هذا لفظ مسلم، وأخرجه غيره كما تقدم.

 

هذه الألفاظ التي أوردها الشراح والمخرجون. وقبل بيان ما يستنبط منها؛ أضيف إليها ما وقع لي من موقوفات لها صلة بهذا الباب؛ فأقول -والله المستعان-:

 

سادساً: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/628 رقم 231 -    ط. دار الفكر)، قال:

 

حدثنا حسين بن علي عن زائدة، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن أرقم بن يعقوب، قال: سمعتُ عبدالله يقول: كيف أنتم إذا خرجتم من أرضكم هذا (أي: العراق) إلى جزيرة العرب، ومنابت الشيح([520])؟ قلت: من يخرجنا من أرضنا؟ قال: عدو الله.

 

وإسناده ضعيف، أبو إسحاق هو عمرو بن عبدالله بن عبيد السَّبيعي «روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره»([521])، «وفي روايةِ زائدةَ([522]) بن قدامة عنه كلام»([523])، «وروايته عنه في «سنن أبي داود فقط»([524]).

 

نعم؛ تابعه زكريا بن أبي زائدة، أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/684 رقم 1932)، قال:

 

حدثنا عبدة بن سليمان، عن زكريا، به.

 

ورواية زكريا عن أبي إسحاق في «الصحيحين»، كما في «الكواكب النيرات» (ص 351)، فزالت هذه العلة، وبقيت علة أخرى؛ هي:

 

الأرقم بن يعقوب يُعد في الكوفيين([525])، وذكره مسلم في كتابه «المنفردات والوحدان» (ص 139/رقم 380) ضمن (من تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي ممن لم يرو عنه أحد سواه).

 

ولم ينفرد به، بل توبع عليه: تابعه ابن سيرين -وستأتي روايته قريباً([526])-، إلا أنه منقطع، فابن سيرين لم يسمع ابن مسعود، ولكن هذا يدلل على أن للأثر أصلاً، ولا سيما مع ضميمة ما ورد في الباب ما مضى، وسيأتي ما يشهد له في المعنى.

 

ثم ظفرتُ بإسنادٍ حسنٍ لِذاته، يشهد لهذا الأثر:

 

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/175 - ط. الهندية) عن جرير، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن شداد بن معقل، قال: قال عبدالله بن مسعود: «يوشك أن لا تأخذوا من الكوفة نقداً ولا درهماً، قلت: وكيف يا عبدالله بن مسعود!! قال: «يجيء قوم كأن وجوههم المجان المطرقة، حتى يربطوا خيولهم على السواد، فيجلوكم إلى منابت الشيح، حتى يكون البعير والزاد أحب إلى أحدكم من قصورهم هذه».

 

قلت: فيه شداد بن معقل وهو صدوق، كما في «التقريب» (ص 264/ رقم 2758)، وبقية رواته ثقات، وعليه؛ فإنه حسن لذاته.

 

ويشهد لسائر ما في هذا اللفظ طريق (الربيع بن ناجذ) الآتي تحت (عاشراً)، وهو به صحيح لغيره.

 

ويحتمل أن يكون المذكوران أثرين منفصلين، وأن المذكور في رواية (الأرقم) هو (الدجال)، ويوضحه:

 

ما أخرجه البيهقي في «البعث والنشور» (ص 28/رقم 31 - الاستدراكات) بسندٍ قوي -قاله الحافظ ابن حجر في «الفتح» (11/311)- من طريق أبي الزعراء -واسمه: عبدالله بن هانئ، وثقه العجلي وابن حبان-، قال: كنا عند عبدالله بن مسعود، فذكر الدجال، فقال: يفترق الناس عند خروجه ثلاث فرق: فرقة تتبعه، وفرقة تلحقُ بأهلها منابتَ الشيح، وفرقة تأخذ شط هذا الفرات يقاتلهم ويقاتلونه، حتى يقتلون بغربي الشام، فيبعثون طليعة فيهم فرس أشقر وأبلق، فلا يرجع منهم أحد...» وساق خبراً طويلاً.

 

وأخرجه ابن أبي شيبة (7/511-512)، والحاكم في «المستدرك» (2/507-508 و4/496، 598)، والطبراني في «الكبير» (9/413، 413-414 رقم 9760، 9761)، وعزاه في «الدر المنثور» (8/259) -أيضاً- إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم -وهو في «تفسيره» (10/3366-3368 رقم 18957 - القسم غير المسند)-، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي في «التلخيص» بقوله: «ما احتجا بأبي الزعراء»([527]).

 

سابعاً: أخرج ابن أبي شيبة -أيضاً- (8/628 رقم 232)، قال:

 

حدثنا وكيع، عن محمد بن قيس، عن الشعبي، قال: قال حذيفة:

 

«كأني بهم مُشرِّفي([528]) آذانَ فِيَلِهم رابطيها بحافّتي الفرات».

 

وهذا إسناد رجاله ثقات، محمد بن قيس هو الأَسْدِي، ثقة، والشعبي مات سنة ست أو سبع مئة، وهو ابن سبع وسبعين([529])، ومات حذيفة سنة ست وثلاثين([530])، وكان للشعبي آنذاك نحو سبع سنوات! وهذا يُؤْذِنُ بالانقطاع،   ولم يذكر أحدٌ ممن ألف في (المراسيل)([531]) أنه أرسل عنه، ولم تقع للشعبي رواية عن حذيفة في الكتب الستة، ولا في «المسند»، ولا في «إتحاف المهرة»([532]).

 

فهذا الإسناد ضعيف لإرساله.

 

ولكن له طريق أخرى:

 

أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/680 رقم 1916)، قال:

 

حدثنا أبو المغيرة عن ابن عياش، عن أبي وهب الكلاعي، عن بسر، عن حذيفة، قال لأهل الكوفة: «ليخرجنكم منها قوم صغار الأعين، فطس الآنف، كأن وجوههم المجانّ المطرقة، ينتعلون الشعر، يربطون خيولهم بنخل (جوخا)([533])، ويشربون من فرض الفرات».

 

وهذا إسناد حسن، إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن الشاميين، وأبو وهب دمشقي -واسمه: عبيدالله بن عبيد الكلاعي-، صدوق -أيضاً-.

 

ورواه منصور بن صقير: نا عبيدالله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني عامر بن واثلة، قال: سمعت حذيفة بن أسيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك خيل لتُرْكٍ أن تُرْبَط بسعُف نخلٍ»([534]).

 

فجعله من المرفوع، وهو ليس كذلك.

 

أخرجه ابن قانع في «معجم الصحابة» (4/1462 رقم 383)، وأبو عمرو الداني([535]) في «الفتن» (4/904 رقم 468)، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص 80/رقم 42) من طرق عن عمرو بن غالب التمتام، عن منصور، به.

 

وإسناده ضعيف، منصور بن صقير ضعيف، والتمتام متكلم فيه.

 

ثامناً: وأخرج الحاكم في «المستدرك» (4/445) من طريق سفيان عن الأعمش، عن عبدالرحمن بن سعيد([536]) بن وهب، عن أبيه، عن حذيفة -رضي الله عنه-، قال:

 

«كأني براكب قد نزل بين أظهركم حال بين اليتامى والأرامل، وبين ما أفاء الله على آبائهم، فقال: المال لنا».

 

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في «التلخيص».

 

قلت: إسناده صحيح، وعبدالرحمن بن سعيد لم يخرج له البخاري في «صحيحه»، وإنما في «الأدب المفرد»، وهو ثقة، وأبوه كذلك.

 

تاسعاً: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/554 رقم 15 و8/672-673 رقم 66) عن عفان: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: قال لي عبدالله بن عمرو: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: والذي نفسي في يده! لتساقُنَّ([537]) منها إلى أرض العرب لا تملكون قفيزاً ولا درهماً، ثم لا ينجيكم.

 

وهذا إسناد حسن، وعطاء بن السائب الثقفي صدوق اختلط، ووالده السائب بن مالك أو ابن يزيد الكوفي ثقة، ورواية حماد بن سلمة عن عطاء قبل اختلاطه.

 

قاله ابن معين وأبو داود والطحاوي وحمزة الكناني، وعزاه العراقي في «التقييد والإيضاح» (443) وابن الكيال في «الكواكب النيرات» (ص 325) إلى الجمهور.

 

والأثر صحيح، وله شواهد تأتي قريباً.

 

عاشراً: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/186 - ط. الهندية، أو 8/673 رقم 172 - ط. دار الفكر): حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم([538])، قال: سمعتُ أبا صادق يحدث عن الربيع بن ناجذ، عن ابن مسعود، قال:

 

«يأتيكم قوم من قبل المشرق عراض الوجوه، صغار العيون، كأنما ثقبت أعينهم في الصخر، كأن وجوههم المجانّ المطرقة، حتى يوثقوا خيولهم بشطّ الفرات».

 

وأبو صادق هو مسلم بن يزيد الأزدي، وقيل: عبدالله بن ناجذ، صدوق([539])، والربيع -كذا في الأصل، وصوابه: «ربيعة»- بن ناجذ -بالذال المعجمة، كما في «التبصير» (4/1403)، وفي «التقريب» (ص 208 رقم 1918 - ط. عوامة) بالدال المهملة- الأزدي، هو أخو أبي صادق الراوي عنه، قال عنه ابن حجر في «التقريب»: «ثقة»، ووثقه ابن حبان والعجلي وابن خلفون، وقال الذهبي في «الميزان» (2/45 رقم 2758): «لا يكاد يعرف»، وقال في «المغني» (1/335 رقم 2109): «فيه جهالة»([540]).

 

وأخرجه ابن الشجري في «أماليه» (2/266-267) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن الحكم، به، وجعله من قول حذيفة لا ابن مسعود، ولفظه:

 

«ليخرجنّ أهل هذه القرية -يعني: الكوفة- قومٌ -يجيئون ها هنا- وأهوى بيده نحو الشرق -كأن وجوههم المجانّ المطرقة، كأنما نُقِبت أعينهم في الصخر- يجيئون على خيل مخرمة الآذان، حتى يربطوا خيولهم بشاطئ هذا الفرات».

 

وهذا الأثر صحيح لغيره عن ابن مسعود وحذيفة بالطُّرُق التي تقدمت تحت (سادساً) و(سابعاً)، ولآخره عن ابن مسعود شاهد من طريق أخرى عن ابن سيرين؛ يأتي قريباً.

 

حادي عشر: أخرج ابن أبي شيبة (8/696 رقم 70) عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس: أن رجلاً كان يمشي مع حذيفة نحو الفرات، فقال: كيف أنتم إذا خرجتم لا تذوق منه قطرة؟ قلنا: أتظن ذلك؟ قال: ما أظنه، ولكن أستيقنه.

 

وقيس هو ابن أبي حازم، قال علي بن المديني في «العلل» (ص 86-87 - ط. غراس): «قيس بن أبي حازم سمع من: ... وحذيفة بن اليمان»، وإسماعيل هو ابن أبي خالد.

 

فالإسناد صحيح على شرط الشيخين.

 

وتابع وكيعاً: مروان بن معاوية الفَزَاري، وسمى الرجل الذي كان يمشي مع حذيفة (عروة بن أبي الجعد البارقي).

 

أخرجه نعيم بن حماد([541]) في «الفتن» ومن طريقه الطبراني، ومن طريق الطبراني(1): ابنُ العديم في «بغية الطلب» (1/515-516).

 

وعلق السرقسطي في «الدلائل» (2/935-936 رقم 506) عن حذيفة قوله: «يوشك بنو قَنْطُورى أن يخرجوا أهل العراق من عراقهم»، وذكره ابن الأثير في «النهاية» (4/113).

 

فصل

 

في بيان أن المراد بالأخبار السابقة أكثر من حادثة

 

من الجدير بالذكر أن المراد ببعض الآثار السابقة ما حصل زمن (التتار) و(المغول)، عندما خرجوا إلى (العراق) و(الشام) و(مصر)، وعاثوا فيها الفساد، وصبوا على أهلها العذاب، وهذا الدليل:

 

فلفظ ابن مسعود في الأثر قبل الأخير عند عبدالرزاق في «المصنف» (11/380 رقم 20798) -ومن طريقه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/683 رقم 1928)، والطبراني في «الكبير» (9/192 رقم 8859)، والحاكم في «المستدرك» (4/475)، وابن العديم في «بغية الطلب» (1/517-518)- عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود، قال:

 

«كأني بالترك([542]) على براذين، مجذمة([543]) الآذان، حتى يربطوها بشط الفرات»

 

رجاله ثقات، إلا ابن سيرين عن ابن مسعود منقطع. قاله البيهقي([544]).

 

قال الهيثمي في «المجمع» (7/312): «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إن كان ابن سيرين سمع من ابن مسعود».

 

قلت: هذا الإسناد منقطع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، وذلك أن ابن سيرين ولد سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة؛ لأن أخاه أنساً قال: «ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وولدتُ بعده بسنة»، ومن المعروف أن عثمان -رضي الله عنه- استشهد سنة خمس وثلاثين، وعليه؛ فإن ولادة ابن سيرين كانت سنة ثلاث وثلاثين، وأما عبدالله بن مسعود فإنه توفي سنة اثنتين وثلاثين؛ أي: توفي قبل ولادة ابن سيرين بسنة. انظر: «سير أعلام النبلاء» (4/606)، «التقريب» (ص 323 رقم 3613).

 

ثم وجدت الخبر عند أبي عمرو الداني في «الفتن» (4/903 رقم 4671) من طريق علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل ابن عليّة عن أيوب، به. وفيه: «عن ابن سيرين، قال: نبّئتُ أن ابن مسعود كان يقول: كيف أنتم يا أهل الكوفة! إذا أتتكم الترك على براذين مُجذمة الآذان، حتى يربطون بشط الفرات بالنخل».

 

فوقع التصريح هنا أن ابن سيرين لم يسمعه من ابن مسعود، وبينهما واسطة، وقد ظهرت لنا في الآثار السابقة.

 

فالخبر صحيح بطرقه، وتقدمت، والشاهد منه هنا: «كأني بالترك».

 

وفي الأثر نفسه بلفظ ابن أبي شيبة السابق وصف للقوم بأنهم (عراض الوجوه، صغارالعيون)([545])، ووصفُهم هذا مع مقاتِلَتِهم واردٌ في أحاديث صحيحةٍ شهيرةٍ كثيرةٍ؛ منها:

 

ما أخرجه البخاري([546]) ومسلم([547]) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

«لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر([548])، وحتى تقاتلوا الترك([549]) صغار الأعين، .........................................................  حمر الوجوه، ذلف الأنوف([550])، كأن وجوههم المجانّ المطرقة([551])، وتجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه، والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من أن يكون له مثل أهله وماله».

 

وأخرجه الحميدي (1100) وأحمد (2/239، 276، 300، 319، 398، 493) وإسحاق (1/266-267 رقم 235) وأبو يعلى (5878) في «مسانيدهم»، وابن أبي شيبة (15/92) وعبدالرزاق (20781) في «مصنفيهما»، ومالك في «الموطأ» (2/191)، وأبو داود (4303، 4304) والنسائي (6/44-45) والترمذي (2215) وابن ماجه  (4096) في «سننهم»، وابن حبان في «صحيحه» (6744، 6745، 6746)، وأبو عوانة في «الفتن» -كما في «إتحاف المهرة» (5/246)، والدارقطني في «العلل» (9/183)-، والبغوي (4244)، ونعيم بن حماد (2/681، 684-685 رقم 1919 و1933 و1934) وأبو عمرو الداني (4/872 رقم 451) كلاهما في «الفتن»، والخطيب في «الكفاية» (416)، والقزويني في «التدوين» (1/36)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1/86-87 رقم 120)، والديلمي في «الفردوس» (5/82 رقم 7522)، وأبو نعيم في «الدلائل» (2/543-544 رقم 472، 473)، وغيرهم كثير من طرق عن أبي هريرة([552]).

 

وفي رواية أخرى للبخاري([553]): «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خُوزاً وكِرْمان([554]) من الأعاجم، حُمْر الوجوه، فُطْس([555]) الأُنُوف، صغار الأعين، وجوههم المجانّ المطرقة، نعالهم الشّعر».

 

ولمسلم([556]): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوماً وجوههم كالمجانّ المُطْرَقة، يلبسون الشَّعر، ويمشون في الشعر»([557]).

 

وقد وقع قتال هؤلاء الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في أول خلافة بني أمية، وانتصر عليهم المسلمون وغنموا منهم.

 

ووقع هذا -أيضاً- في عصر مجدد الإسلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله-، وكان ممن تشرف بقتالهم، وحث المسلمين على جهادهم، فكانت آية كبرى حيث رآها بعينه، وعايشها بوجدانه، فقال: «وفي القرآن والأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار بما سيكون في الدنيا والآخرة أضعافُ أضعافِ ما يوجد عن الأنبياء قبله، حتى إنه ينبئ عن الشيء الذي يكون بعدما يَبِينُ من السنين خبراً أكملَ مِنْ خبرِ مَنْ عايَنَ ذلك»([558]). ثم أورد الحديث، وقال -وهذا موطن الشاهد-:

 

«فمن رأى هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج جنكيز خان، مَلِكُهم الأكبر، وأولادُه وأولاد أولاده؛ مثل (هولاكو) وغيرِه من الترك الكفار الذين قاتلهم المسلمون؛ لم يحسن أن يصفَهم بأحسنَ من هذه الصفة، وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ست مئة سنة»؛ أي: التي وصفهم بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

 

ويقول الإمام النووي -رحمه الله- في «شرح صحيح مسلم»: «وقد وُجِد في زماننا الترك الذين تحدَّثَ عنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هكذا بجميع صفاتهم التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم المسلمون مرات»([559]).

 

ويقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «وقاتل المسلمون الترك في خلافةِ بني أمية، وكان ما بينَهم وبين المسلمين مسدوداً إلى أن فُتح ذلك شيئاً بعد شيء، وكثُرَ السَّبْيُ منهم، وتنافسَ الملوك فيهم، لما فيهم من الشدة والبأس، حتى كان أكثرُ عسكرِ المعتصم منهم.

 

ثم غلبَ الأتراكُ على المَلِك، فقتلوا ابنه المتوكل، ثم أولاده واحداً بعد واحد، إلى أن خالط المملكةَ الدَّيلمُ، ثم كان الملوك السامانية من الترك       -أيضاً- فملكوا بلاد العجم.

 

ثم غلب على تلك الممالك آل سُبُكْتكين، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، ثم كان بقايا أتباعهم بالشام؛ وهم آل زنكي أتباع هؤلاء وهم بيت أيوب، واستكثر هؤلاء -أيضاً- من الترك، فغلبوهم على المملكة بالديار المصرية والشامية والحجازية.

 

وخرج على آل سلجوق في المئة الخامسة الغُزُّ، فخربوا البلاد وفتكوا في العباد.

 

ثم جاءت الطامة الكبرى بالتتر، فكان خروج جنكيز خان بعد الست مئة، فأُسعِرَتْ بهم الدنيا ناراً، خصوصاً المشرق بأسره، حتى لم يبقَ بلدٌ منه حتى دخله شرُّهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة المستعصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة ست وخمسين وست مئة، ثم لم تزل بقاياهم يخربون إلى أن كان آخرهم (اللَّنْك)، ومعناه: الأعرج، واسمه: تَمُر -بفتح المثناة وضم الميم وربما أشبعت-، فطَرَقَ الديارَ الشامية، وعاث فيها، وحرّق دمشقَ، حتى صارت خاويةً على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه الله، وتفرق بنوه [في] البلاد، وظهر بجميع ما أوردته مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «أن بني قنطورا أول من سلب أمتي ملكهم»([560]) (والمراد ببني قنطورا: الترك)»([561]).

 

قال أبو عبيدة: (بنو قنطوراء) هم الترك، نسبة إلى (قنطوراء)؛ كانت جارية لإبراهيم، فولدت له أولاداً، والترك من نسلها. قاله الأزهري([562]).

 

والمتمعن في ألفاظ حديث (بني قنطورا) يجد أن بعض الآثار السابقة تخصهم؛ مثل:

 

ما أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/381 رقم 20799) -ومن طريقه الحاكم في «المستدرك» (4/475)- ونعيم بن حماد في «الفتن» (2/683 رقم 1929) عن معمر.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/679 رقم 1912): حدثنا ابن عليّة؛ كلاهما قال: عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، قال: قال [لي]([563]) عبدالله بن عمرو بن العاص: أوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض العراق، قال: قلت: ثم نعود؟([564]) قال: وذاك([565]) أحب إليك؟ ثم تعودون([566])، ويكون لكم([567]) بها سلوة من عيش».

 

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وبنو قنطوراء: هم الترك».

 

وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/636-637 رقم 281)، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام، عن محمد، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، قال: قدمتُ الشام، قال: فقلتُ: لو دخلت على عبدالله بن عمرو فسلّمتُ عليه، فأتيتُه، فسلمت عليه، فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا عبدالرحمن ابن أبي بكرة، قال:

 

«يوشك أن يخرجوكم من أرض العراق. قلت: ثم نعود؟ قال: أنت تشتهي ذلك؟ قلت: نعم، قال: نعم، وتكون لكم سلوة من عيش».

 

وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/475) من طريق معاذ بن هشام: حدثني أبي عن قتادة، عن ابن سيرين، به، وفيه قول ابن عمرو:

 

«يوشك بنو قنطوراء بن كركر أن يخرجوا أهل العراق من أرضهم([568])...» مثله.

 

وهذه أسانيد صحيحة، لها حكم الرفع.

 

وتكرر سؤال أهل العراق عبدَالله بن عمرو عن خروجهم من العراق، ولم يقتصر السؤال على عبدالرحمن بن أبي بكرة -وهو بصري([569])-، وإنما سأله عن هذا -أيضاً- جماعة من أهل البصرة([570]) -أيضاً-؛ منهم: سليمان بن ربيعة -ووصف في بعض الروايات([571]): بأنه «من نساك أهل البصرة»-، وصاحبه المنتصر بن الحارث الضّبّي في (جماعة من القُرّاء)([572])، أخرج قصتهم بطولها الحاكم في «المستدرك» (4/533-535)، قال:

 

أخبرنا أحمد بن عثمان المقرئ وبكر بن محمد المروزي، (قالا): ثنا أبو قلابة.

 

وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (31/281-284) من طريق الحسن بن أبي الربيع الجرجاني؛ كلاهما قال: حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث، ثنا أبي، ثنا حسين بن ذكوان المعلم، ثنا عبيد([573])الله بن بريدة الأسلمي: أن سليمان بن ربيعة العنزي حدثه أنه حج مرة في إمرة معاوية، ومعه المنتصر بن الحارث الضبي، في عصابة من قراء أهل البصرة، قال: فلما قضوا أنسكهم قالوا: والله لا نرجع إلى البصرة حتى نلقى رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مرضيّاً يحدثنا بحديث يستظرف، نحدِّثُ به أصحابنا إذا رجعنا إليهم، قال: فلم نزل نسأل حتى حُدِّثنا أن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- نازلٌ بأسفلِ مكةَ، فعمدنا إليه، فإذا نحنُ بثَقَل عظيم يرتحلون ثلاث مئة راحلة، منها مئة راحلة ومئتا زاملة، فقلنا لمن هذا الثَّقَل؟ قالوا: لعبدالله بن عمرو، فقلنا: أكل هذا له، وكنا نُحدَّث أنه من أشد الناس تواضعاً، قال: فقالوا: ممن أنتم؟ فقلنا: من أهل العراق، قال: فقالوا: العيبُ منكم حق يا أهل العراق، أما هذه المئة راحلة فلإخوانه، يحملهم عليها، وأما المئتا زاملة فلمن نزل عليه من الناس، قال: فقلنا: دُلُّونا عليه، فقالوا: إنه في المسجد الحرام، قال: فانطلقنا نطلبه حتى وجدناه في دير الكعبة جالساً، فإذا هو قصير أرمص أصلع، بين بردين وعمامة، ليس عليه قميص، قد علق نعليه في شماله، فقلنا: يا عبدالله! إنك رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فحدثنا حديثاً ينفعنا الله -تعالى- به بعد اليوم. قال: فقال لنا: ومن أنتم؟ قال: فقلنا له لا تسأل من نحن، حدثنا غَفَر الله لك. قال: فقال: ما أنا بمحدثكم شيئاً حتى تخبروني من أنتم. قلنا: وددنا أنك لم تَنْقُدْنا وأعفيتنا وحدثتنا بعض الذي نسألك عنه. قال: فقال: والله لا أحدثكم حتى تخبروني من أي الأمصار أنتم. قال: فلما رأيناه حلف ولَجّ، قلنا: فإنا أناسٌ من العراق. قال: فقال: أفٍّ لكم كلِّكُم يا أهل العراق، إنكم تكْذِبون وتكَذِّبون وتسخرون. قال: فلما بلغ إلى السِّخْرِيّ؛ وجدنا من ذلك وجداً شديداً. قال: فقلنا: معاذ الله أن نسخر من مثلك، أما قولك الكذب؛ فوالله لقد فشا في الناس الكذبُ وفينا، وأما التكذيب؛ فوالله إنا لنسمعُ الحديثَ لم نسمعْ به من أحدٍ نثق به، فإذاً نكادُ نكذِّبُ به، وأما قولك السّخريّ؛ فإنّ أحداً لا يسخر بمثلك من المسلمين، فوالله إنك اليوم لسيد المسلمين فيما نعلم نحن أنك من المهاجرين الأولين، ولقد بلغَنا أنك قرأْتَ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن في الأرض قُرَشيّ أبرّ بوالديه منك، وأنكَ كنتَ أحسنَ الناس عيناً، فأفسد عينيك البكاءُ، ثم لقد قرأت الكتب كلَّها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أحدٌ أفضلَ منك علماً في أنفسنا، وما نعلم بقي من العرب رجلٌ كان يرغَبُ عن فقهاء أهلِ مصرِه حتى يدْخُلَ إلى مصرٍ آخرَ، يبتغي العلم عند رجل من العرب غيرك، فحدثْنا غفر اللهُ لك. فقال: ما أنا بمحدثكم حتى تعطوني موثقاً ألاّ تُكذّبوني ولا تكذِبُون عليّ، ولا تسخرون. قال: فقلنا: خذ علينا ما شئت من مواثيق. فقال: عليكم عهدُ الله ومواثيقُه أن لا تُكذِّبوني ولا تكذبون عليّ ولا تسخرون لما أحدثكم. قال: فقلنا له: علينا ذاك، قال: فقال: إن الله -تعالى- عليكم كفيل ووكيل؟ فقلنا: نعم. فقال: اللهم اشهد عليهم. ثم قال عند ذاك: أمّا وربّ هذا المسجد والبلد الحرام واليوم الحرام والشهر الحرام، ولقد استَسْمَنْتُ اليمين؛ أليس هكذا؟ قلنا: نعم، قد اجتهدت. قال: ليوشكن بنو قنطوراء بن كِركِرى خَنْسَ الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجانّ المطرقة، في كتاب الله المنزل أن يسوقونكم من خراسان([574]) وسجستان([575]) سياقاً عنيفاً، قوم يوفون اللمم، وينتعلون الشعر، ويحتجزون السيوف على أوساطهم حتى ينزلوا الأُبُلَّة([576]). ثم قال: وكم الأبلة من البصرة؟ قلنا: أربعة فراسخ. قال: ثم يعقدون بكل نخلة من نخل دجلة رأس فرس، ثم يرسلون إلى أهل البصرة أنِ اخرُجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل البصرة من البصرة، فيلحق لاحق ببيت المقدس، ويلحق آخرون بالمدينة، ويلحق آخرون بمكة، ويلحق آخرون بالأعراب، قال: فينزلون بالبصرة سنة، ثم يرسلون إلى أهل الكوفة أنِ اخرُجوا منها قبل أن ننزل عليكم، فيخرج أهل الكوفة منها، فيلحق لاحق ببيت المقدس، ولاحق بالمدينة، وآخرون بمكة، وآخرون بالأعراب، فلا يبقى أحد من المصلين إلا قتيلاً أو أسيراً يحكمون في دمه ما شاؤوا. قال: فانصرفنا عنه وقد ساءنا الذي حدثنا، فمشينا من عنده غير بعيد، ثم انصرف المنتصر بن الحارث الضبي، فقال: يا عبدالله بن عمرو! وقد حدثتنا فطعنتنا، فإنا لا ندري من يدركه منا، فحدثنا هل بين يدي ذلك علامة؟ فقال عبدالله بن عمرو: ولا تعدم عقلك؟ نعم، بين يدي ذلك أمارة. قال: المنتصر بن الحارث: وما الأمارة؟ قال: الأمارة العلامة. قال: وما تلك العلامة؟ قال: هي إمارة الصبيان، فإذا رأيت إمارة الصبيان قد طبقت الأرض؛ اعلم أن الذي أحدثك قد جاء. قال: فانصرف عنه المنتصر، فمشى قريباً من غلوة، ثم رجع إليه. قال: فقلنا له: علام تؤذي هذا الشيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله لا أنتهي حتى يبين لي، فلما رجع إليه؛ بينه. لفظ الحاكم.

 

قال الحاكم فيه: «هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه».

 

قلت: وأخرجه مختصراً دون القصة الطويلة([577]) التي في أوله: نعيم بن حماد في «الفتن» (2/677 رقم 1906) من طريق نافع وسعيد بن أبي عروبة، والحاكم في «المستدرك» (4/502) من طريق معاذ بن هشام، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (4/267) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (31/280)- وابن جرير في «تهذيب الآثار» (2/816 رقم 1144) وصححه([578])، والبيهقي في «البعث والنشور» (ص 20-21 رقم 21 - الاستدراكات) من طريق همام بن يحيى، عن أبيه؛ كلهم عن قتادة، عن عبدالله ابن بريدة، به.

 

وقال الحاكم مرة أخرى: «هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه».

 

قال أبو عبيدة: ليس الإسناد على شرط مسلم، وسليمان بن ربيعة لم يخرج له مسلم، إلا أن يكون مراده أن الإسناد ينتهي بـ(عبدالله بن بريدة)؛ فهذا صحيح([579])، وإلا فسليمان بن الربيع -أو الربيعة- ترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (4/12 رقم 197)، وأورد في ترجمته من طريق قتادة عن ابن بريدة، عن سليمان بن الربيع العدوي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله»، وقال عقبه: «ولا يعرف سماع قتادة من ابن بريدة، ولا ابن بريدة من سليمان».

 

قلت: وهذا يلحق الطريق الثاني للخبر، دون الأول، وسليمان وثقه ابن حبان في «الثقات» (4/309)، ولم يذكر راوياً روى عنه غير ابن بريدة، وكذا في «الجرح والتعديل» (4/117).

 

ولم ينفرد به، فقد توبع، تابعه -فيما وقفتُ عليه- ثلاثة([580])، وهذا البيان:

 

الأول: عقبة بن عمرو بن أوس الدوسي.

 

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/459-460)، قال:

 

أخبرنا أبو بكر بن إسحاق: أنبأنا عبيد بن شريك البزار، ثنا أبو الجماهر، ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عقبة بن عمرو بن أوس الدوسي، قال: أتينا عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وعليه بردان قطريان، وعليه عمامة، وليس عليه سربال؛ يعني: القميص، فقلنا له: إنك قد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورويت الكتب، فقال: ممن أنتم؟ قال: فقلنا: من أهل العراق، فقال: إنكم يا أهل العراق تَكذِبون وتكذِّبون وتسخرون، قال: فقلت: لا والله لا نكذبك، ولا نَكْذبُ عليك، ولا نسخر منك، قال: فإن بني قنطوراء وكركى لا يخرجون حتى يربطوا خيولهم بنخل الأبلة([581])، كم بينها وبين البصرة؟ قال: فقلنا: أربع فراسخ، قال: فيبعثون أنْ خلّوا بيننا وبينها، قال: فيلحق ثلث بهم، وثلث بالكوفة، وثلث بالأعراب، ثم يبعثون إلى أهل الكوفة أنْ خلّوا بيننا وبينها، فيلحق ثلث بهم، وثلث بالأعراب، وثلث بالشام، قال: فقلنا: ما أمارة ذلك؟ قال: إذا طبّقتِ الأرضَ إمارةُ الصبيان.

 

قال الحاكم على إثره: «وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».

 

قلت: عقبة بن عمرو بن موسى الدّوسي البصري؛ هو المترجم في «الكمال» ومختصراته بـ(ابن أوس)، فهو فيه منسوب إلى جدّه، وانتبه لهذا العلامة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- في كتابه «رجال الحاكم في المستدرك»، فلم يذكره فيه، بناء على أنه ليس من الزوائد على رجال الستة، فأحسن وأجاد.

 

إلا أن ابن الجنيد([582]) نقل عن ابن الغلابي قوله: «يزعمون أن عقبة بن أوس([583]) لم يسمع من عبدالله بن عمرو، وإنما يقول: قال عبدالله بن عمرو»، ونقله عنه العلائي في «جامع التحصيل» (رقم 528) هكذا:

 

«عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمر أو عبدالله بن عمرو، قال ابن الغلاّبي -فيما رواه عنه إبراهيم بن عبدالله بن الجنيد-: لم يسمع منه».

 

قلت: يقول هنا: «أتينا عبدالله بن عمرو»؛ فالسماع ظاهر، فلعله لم يسمع من (ابن عمر). والإسناد المذكور رجاله ثقات، وهو قوي في الشواهد والمتابعات؛ إلا أن سعيد بن بشير فيه كلام، وسأل أبو حاتم الرازي أحمد بن صالح: كيف هذه الكثرة منه عن قتادة؟ فأجابه بقوله: كان أبوه بشيراً شريكاً لأبي عروبة، فأقدم بشيرٌ ابنَه سعيداً البصرة، فبقي بالبصرة يطلبُ الحديث مع سعيد بن أبي عروبة([584]).

 

فإذن، أخْذُه عن قتادة صحيح، لا مطعن فيه.

 

نعم، لم يخرج له مسلم في «صحيحه»، وأخرج له أصحاب «السنن الأربعة»، فالإسناد ليس على شرط مسلم كما قال الحاكم، وفيه كلام في حفظه وضبطه، وفي «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» (1/400 رقم 917):

 

«سألت عبدالرحمن بن إبراهيم عن قول من أدرك في سعيد بن بشير؛ فقال: يوثقونه كان حافظاً»، وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان عنه: «محلّه الصدق عندنا»([585]).

 

وقال ابن عدي: «لا أرى بما يروى عن سعيد بن بشير بأساً، ولعله يهم في الشيء بعد الشيء، ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق»([586])، ومع هذا فقد توبع عليه، تابعه نافع بن عامر، به، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

 

وأبو الجماهر هو محمد بن عثمان التنوخي، ثقة.

 

الثاني: ربيعة بن جوشن.

 

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/637 رقم 296) قال:

 

حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عيينة بن عبدالرحمن عن أبيه، عن أخيه ربيعة بن جوشن، قال: قدمتُ الشام، فدخلتُ على عبدالله بن عمرو، فقال: ممن أنتم؟ قلنا: من أهل البصرة، قال: أما لا فاستعدوا يا أهل البصرة، قلنا: بماذا؟ قال: بالزاد والقرب، خير المال اليوم أجمال يحتمل الرجل عليهن أهله ويميرهم عليها، وفرس وقاح شديد، فوالله ليوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم منها، حتى يجعلوكم بدكية، قال: قلنا: وما بنو قنطوراء؟ قال: أما في الكتاب فهكذا نجده، وأما في النعت فنعت الترك.

 

وإسناده حسن.

 

والثالث: سلامة بن مليح الضبي.

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (2/680-681 رقم 1918):

 

حدثنا أبو المغيرة عن عبدالملك بن حميد بن أبي غنية، عن سلامة بن مليح الضبي، عن عبدالله بن عمرو قال: أتيناه، فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من أهل العراق. قال: «والله الذي لا إله إلا هو ليسوقنكم بنو قنطوراء من خراسان وسجستان سوقاً عنيفاً، حتى ينزلوا بالأبلة، فلا يدعوا بها نخلة إلا ربطوا بها فرساً، ثم يبعثون إلى أهل البصرة: إما أن تخرجوا من بلادنا، وإما أن ننزل عليكم».

 

قال: «فيفترقون ثلاث فرق: فرقة تلحق بالكوفة، وفرقة بالحجاز، وفرقة بأرض العرب البادية، ثم يدخلون البصرة، فيقيمون بها سنة، ثم يبعثون إلى الكوفة: إما أن ترتحلوا عن بلادنا، وإما أن ننزل عليكم.

 

فيفترقون ثلاث فرق: فرقة تلحق بالشام، وفرقة بالحجاز، وفرقة بالبادية أرض العرب، وتبقى العراق لا يجد أحد فيها قفيزاً ولا درهماً».

 

قال: «وذلك إذا كانت إمارة الصبيان، فوالله ليكونن» رددها ثلاث مرات.

 

أبو المغيرة هو عبدالقدوس بن الحجاج الخولاني، ثقة، وعبدالملك كذلك، وثّقه أحمد وابن معين، ولم يطعن فيه أحد([587]). يبقى سلامة بن مليح الضّبي؛ كذا في المطبوع والمخطوط (ج10/ق6/أ)، وفوق (مليح) علامة تصحيح، ولم يثبت الناسخ شيئاً في الهامش، ولم أظفر به في شيوخ (عبدالملك) من «تهذيب الكمال»، وهو سقط من القسم المطبوع من «إكماله» لمغلطاي.

 

نعم، ترجم الذهبي في «الميزان» (2/194 رقم 3417) لـ(سلمة الضّبي)، وقال عنه: «له حديث منكر، وفيه جهالة»، ولكنه من طبقة أخرى، إذ قال عنه: «عن هشام بن عروة».

 

وعلى أي حال، الخبر عن عبدالله بن عمرو ثابت، وهذا البرهان زيادة على ما تقدم من البيان، والله المستعان، وعليه وحده التُّكلان:

 

قال الخلال في «علله» (ص 294/رقم 191 - منتخب ابن قدامة):

 

«أخبرني عصمة: ثنا حنبل، ثنا الهيثم بن خارجة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن بشير، ونافع بن عامر، عن قتادة: ثنا عبدالله بن أبي الأسود، قال: انطلقت أنا وزرعة بن ضمرة، وعبدالله بن قيس حاجَّيْن، فجلسنا إلى عبدالله ابن عمرو، جلس زرعة عن يمينه، وجلست عن شماله.

 

قال أبو عبدالله([588]): إنما هو عبدالله بن بريدة، عن أبي الأسود الدِّيلي، كذا رواه قتادة([589])، عن عبدالله بن بريدة، أخطأ فيه إسماعيل.

 

وبه: ثنا إسماعيل، عن نافع بن عامر، عن قتادة، عن عبد بن يزيد، عن سليمان ابن ربيعة -وكان من نساك البصرة-، قال: انطلقت مع ناس من أهل البصرة حاجين، فأتينا عبدالله بن عمرو، فقال: «يوشك بنو قنطوراء» - وذكر الحديث.

 

قال أبو عبدالله: إنما هو عبدالله بن بريدة».

 

ففي هذا بيان أرجح طرق الخبر، وبه يثبت هذا الأثر مع ما سبق من طرق، ولله الحمد والمنّة.

 

لكن قد يقال: إن عبدالله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك، فيها أخبار عن أهل الكتاب([590])، فلعل هذه منها؟

 

فالجواب: إن هذه الأخبار وردت عن غيره -كما تقدم- وقد أخذها عنه جمع من صلحاء التابعين من البصرة والكوفة، وروي ما يأذن برفعها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظفرتُ بجملة أحاديث وردت في ذلك، لا تخلو طرقها من كلام، ولكن بمجموعها مع ما سقناه من الآثار، تدلل على أنّ لها أصلاً محتجّ به، وهذا البيان، والله المستعان، لا ربّ سواه:

 

فصل

 

في أحاديث الترك وإخراج أهل العراق

 

ورد فيه عدة أحاديث وآثار، نسوقها مع بيان تخريجها، والله الموفق:

 

الحديث الأول: حديث بريدة بن الحصيب.

 

أخرجه أحمد في «المسند» (5/348-349): حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبدالله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنتُ جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمتي يسوقُها قوم، عراض الأوجه، صغار الأعين، كأن وجوههم الحَجَفُ([591])، ثلاث مرات، حتى يُلحقوهم بجزيرة العرب، أما السائقة([592]) الأولى فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيُصْطَلمون([593]) كلهم من بقي منهم»، قالوا: يا نبي الله! من هم؟ قال: «هم الترك»، قال: أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين»، قال: وكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر، والأسقية، بعد ذلك، للهرب مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من أمراء الترك».

 

وأخرجه البزار في «مسنده» (4/129-130 رقم 3367 - «كشف الأستار»)، قال: حدثنا علي بن المنذر، ثنا محمد بن فضيل، ثنا بشير([594]) بن المهاجر، به، ولفظه:

 

«يجيء قوم، صغار الأعين، عراض الوجوه، كأنّ وجوههم المجانّ المطرقة، فيُلْحِقون أهل الإسلام بمنابت الشيح، كأني أنظر إليهم، قد ربطوا خيولهم بسواري المسجد»، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: «الترك».

 

قال الهيثمي عقبه: «قلت: له حديث عند أبي داود غير هذا».

 

قلت: سيأتي قريباً، وهو هو، إلا أن بعض الرواة وهم فيه.

 

وأخرجه أبو يعلى في «مسنده»([595]) -ومن طريقه ابن الشجري في «الأمالي» (2/263)- قال: حدثنا عبدالله بن عامر بن زرارة، حدثنا ابن فضيل، به، مثله. وفيه زيادة بعد كلمة (الشيح) ما نصه:

 

«ثلاث مرات، أما المرة الأولى؛ فينجو منهم من هرب، وأما المرة الثانية؛ فينجو بعض ويهلك بعض، وأما المرة الثالثة؛ فيهلكون جميعاً، كأني أنظر إليهم...» الخ ما فيه.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/678-679 رقم 1910) من طريق يحيى بن سعيد، قال: أخبرني الحسن بن بشير بن المهاجر عن عبدالله ابن بريدة، به، ولفظه: «يسوق أمتي قوم...» نحو لفظ أحمد، مع قولة بريدة التي في آخره.

 

كذا في مطبوعه ومخطوطه (ج10/ق6/أ)، وفي المخطوط فوق (الحسن) علامة إلحاق، ولا شيء في الهامش، إذ النسخة غير مقابلة، وليس في الرواة عن (بشير) الحسن، فيما أورده المزي، ولم يستوعب كما يظنه بعض الطلبة، ولذا استدرك عليه مغلطاي في بعض الرواة، دون الموطن الذي نحن بصدده.

 

وممن رواه عن بشير -أيضاً-:

 

* وكيع بن الجراح الرؤاسي، أخرجه الروياني في «مسنده» (1/77 رقم 36): نا محمد بن إسحاق، أنا سفيان بن وكيع، نا أبي، عن بشير، به، مثل لفظ أحمد، إلا أنه تحرفت في مطبوعه «فيصطلمون» (بالميم) إلى (الحاء)؛ فلتصوّب.

 

* خلاد بن يحيى، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/474)، قال: أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد الفقيه، وأبو الحسن أحمد بن محمد العنزي؛ قالا: ثنا معاذ بن نجدة القرشي، ثنا خلاد بن يحيى([596]) ثنا بشير، به، مثل لفظ محمد بن فضيل.

 

وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد اتفق الشيخان   -رضي الله عنهما- على حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا...»([597])».

 

وخولف معاذ بن نجدة، خالفه جعفر بن مسافر التِّنِّيس، وأخطأ فيه، وهذا البيان:

 

أخرجه أبو داود في «السنن» في كتاب الملاحم (باب في قتال الترك) (4/113 رقم 4315): حدثنا جعفر بن مسافر التِّنِّيسي، ثنا خلاد بن يحيى، به، ولفظه:

 

«يقاتلكم قوم صغار الأعين -يعني: الترك-، قال: تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقوهم بجزيرة العرب، فأما في السِّياقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيُصْطَلَمون» أو كما قال»([598]).

 

أخطأ جعفر بن مسافر -وفيه كلام([599])-، فقلب متنه، فجعل المسلمين هم الذين يسوقون الترك ثلاث مرات!

 

وهذه مخالفة لابن مسافر، خالف فيه معاذ([600]) بن نجدة، وهو «صالح الحال، قد تكلم فيه»([601])، ولكنه جوّده. ووافقت روايته رواية سائر من نقله عن بشير، وهم ثلاثة عدا خلاد، وهذه أمارات لائحة على مخالفة ابن مسافر، والقلْبُ([602]) يقع للثقات، إذ الحفظ قد يخون، وقد يسبق اللسان، فينطق بما لا يريده صاحبه، كما هو معلوم.

 

قال صاحب «عون المعبود» (11/414): «فانظر إلى سياق أحمد كيف خالف سياق أبي داود، مخالفة بينة لا يظهر وجه الجمع بينهما. وبوب القرطبي في «التذكرة» بلفظ (باب في سياق الترك للمسلمين وسياقة المسلمين لهم)([603]) ثم أورد فيه رواية أحمد ورواية أبي داود، المذكورتين، وإني لست أدري ما مراده من تبويبه بهذا اللفظ، إن أراد به الجمع بين روايتي أبي داود وأحمد بأنهما محمولتان على زمانين مختلفين، ففي زمان يكون سياقة الترك للمسلمين، وفي زمان آخر يكون سياقة المسلمين لهم، فهذا بعيد جدّاً كما لا يخفى على المتأمل، وإن أراد غير هذا فالله -تعالى- أعلم بما أراد»، وقال:

 

«وعندي أن الصواب هي رواية أحمد، وأما رواية أبي داود؛ فالظاهر أنه قد وقع الوهم فيه من بعض الرواة، ويؤيده ما في رواية أحمد من أنه كان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر، والأسقية بعد ذلك؛ للهرب مما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء من أمراء الترك، ويؤيده -أيضاً- أنه وقع الشك لبعض رواة أبي داود، ولذا قال في آخر الحديث: أو كما قال.

 

ويؤيده -أيضاً- أنه وقعت الحوادث على نحو ما ورد في رواية أحمد، فقد قال:...» وساق كلام القرطبي الآتي قريباً -إن شاء الله تعالى-.

 

ونقل السهارنفوري في «بذل المجهود» (17/219) كلام صاحب «العون»، وقال بعد كلام:

 

«ثم أيّد رواية أحمد بوجوه؛ منها: وقوع قصة فتنة التتار على حسب ما وقع في حديث أحمد مفصلاً، فجزاه الله خير الجزاء، وهذا عندي كما قال، والله أعلم، ومن شاء التفصيل فلينظر «عون المعبود»» انتهى.

 

قلت: وما قالاه هو الصواب قطعاً، وهو الذي تقتضيه الصّنعة الحديثية.

 

* الكلام على إسناد حديث بريدة

 

قال القرطبي في «التذكرة» (2/428):

 

«قال الإمام أبو الخطاب عمر ابن دحية([604]): .............................. وهذا سند صحيح([605])، أسنده إمام السنة، والصابر على المحنة: أبو عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، عن الإمام العدل، المجمع على ثقته أبي نُعيم الفضل بن دُكين، وبشير بن المهاجر ثقة([606])، رأى أنس بن مالك، روى عنه جماعة من الأئمة فوثقوه».

 

وقال الحاكم على إثره: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.

 

وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/311): «رواه أبو داود مختصراً، ورواه أحمد والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح».

 

قال أبو عبيدة: مدار الحديث على بشير بن المهاجر الغنوي، وفيه كلام لأئمة الجرح والتعديل، قال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: «منكر الحديث، قد اعتبرتُ أحاديثه، فإذا هو يجيء بالعجب»، نقله المزي([607])، وزاد: «وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه».

 

قلت: قولة البخاري هذه في «التاريخ الكبير» (2/101 رقم 1839) على إثر حديث: «رأس مئة سنة يبعث الله ريحاً...»، قال: «يخالف في بعض حديثه هذا»، فعبارته مقيّدة بهذا الحديث([608])، ونقل المزي هذا على خلاف دقّته المتناهية لكلام الأئمة في كتبه([609]) -رحمه الله تعالى-.

 

وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/378 رقم 1472): «يكتب حديثه ولا يحتجّ به»([610]).

 

وقال الساجي: «منكر الحديث، عنده مناكير عن عبدالله بن بريدة أحاديث... عدد يطول ذكرها»([611]).

 

وقال العقيلي: «مرجئ متّهم، يتكلم فيه، منكر الحديث»([612]).

 

وفي كتاب ابن الجارود: «يخالف في بعض حديثه»([613])، وقال ابن حبان: «كان يخطئ كثيراً»([614]).

 

وقال النسائي([615]): «ليس بالقوي»، وقال مرة: «ليس به بأس»([616])، ووثقه ابن معين في رواية إسحاق بن منصور([617])، وقال العجلي: «كوفيٌّ ثقة»([618])، وقال ابن خلفون -وذكره في كتاب «الثقات»-: «هو عندي في (الطبقة الثالثة من المحدثين)، وقد تكلم في مذهبه، ونسب إلى الإرجاء»([619]). وقال ابن عدي: «روى ما لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه، وإن كان فيه بعض الضعف»([620])، و«روى له الجماعة سوى البخاري»([621])، وأجمل الذهبي الأقوال السابقة بعبارة: «ثقة فيه شيء»([622])، وترجمه في كتابه «ذكر أسماء من تُكُلِّم فيه وهو موثق»([623])، وقال عنه ابن حجر: «صدوق، لين الحديث، رمي بالإرجاء».

 

وبناء على هذا الخلاف وقع اختلاف بين المعاصرين في الحكم على هذا الإسناد([624])، والذي أُراه أنه (حسن)، ولا ينزل هذا الإسناد بأي حال من الأحوال عن درجة الحسن في الشواهد، إذ (بشير) لم ينفرد بأصل الحديث، فقد وردت آثار صحيحة تقدمت([625])، تشهد لبعض ما فيه، ومنها يعلم أن (السَّوق) المذكور إنما هو من العراق، وهذا ما فهمه بريدة، وهو ممن سكن (البصرة)، وعدّه غير واحد من العلماء([626]) من أهلها، ودل عليه -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث «يلحقوهم بجزيرة العرب»، فهم ليسوا من أهلها، ولبعض ما فيه شواهد من أحاديث أخر؛ مثل:

 

الحديث الثاني: حديث معاوية بن أبي سفيان.

 

أخرجه أبو يعلى في «المسند» (13/366 رقم 7376)، قال:

 

حدثنا محمد بن يحيى البصري، حدثنا محمود بن يعقوب، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن الغمر مولى سموك، قال: حدثني أبي، عن جدي، قال: سمعتُ معاوية بن حُدَيجٍ يقول: كنتُ عند معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- حين جاءه كتاب عامله، يخبرُه أنه وقع بالترك وهزمهم، وكثرةَ من قَتل منهم، وكثرة ما غنم، فغضب معاوية -رضي الله عنه- في ذلك، ثم أمر أن يكتب إليه: قد فهمتُ ما ذكرتَ مما قتلت وغنمتَ، فلا أعلمنَّ ما عُدت لشيء من ذلك، ولا قاتلتهم حتى يأتيك أمري، قلت له: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتظهرن الترك على العرب، حتى تُلحقها بمنابت الشيح والقيصوم»([627])؛ فأكرهُ قتالَهم لذلك.

 

وعزاه إلى أبي يعلى: الهيثميُّ في «مجمع الزوائد» (7/311-312)، وقال: «رواه أبو يعلى، وفيه جماعة لم أعرفهم».

 

قلت: مراده -والله أعلم-: أحمد بن إبراهيم، وإسحاق بن إبراهيم مولى الغمر، وأبوه، وجده([628]).

 

ولفظة «لتظهرنّ الترك على العرب» مثبتة في «المجمع» و«المقصد العلي» (1852)، و«المقصد الأعلى» (3/1238 رقم 4520). وكذا في الطبعة الأخرى من «مسند أبي يعلى»([629]) (6/440 رقم 7338)، وأثبت محققا «المسند» في الهامش ما مفاده: إن في الأصول «إن الترك على العرب»، وقال أسد: «وأخشى أن تكون (على) تحرفت إلى «تجلي»».

 

قال أبو عبيدة: الذي أراه صواباً في متن الحديث: «إن الترك تُجلي العرب...»([630]) بناء على ما ورد في الباب، ثم وجدته هكذا في «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» (10/198-199 رقم 9822 - ط. الرشد)، وبوب عليه (باب القتال على الملك وترك قتال الترك)، وسكت عليه، وكذلك في «المطالب العالية» (18/317 رقم 4477 - ط. العاصمة)، وبوب عليه (باب الزجر عن قتال الترك لما يُخشى من تسلطهم على بلاد الإسلام)، وسكت عليه -أيضاً-، وعزاه لأبي يعلى، وقال محقق «المطالب»:

 

«أتوقف في الحكم على الحديث»، ثم قال وأورد له بعض ما قدمناه عن ابن مسعود وحذيفة قوليهما: «وما تقدم من حديث ابن مسعود وحذيفة        -رضي الله عنهما- قد وردا موقوفاً عليهما، ولهما حكم الرفع؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا مجال للرأي فيها، وجملة القول أن حديث الباب([631]) يرتقي بهذه الطرق والشواهد لدرجة الحسن لغيره، والله أعلم»([632]).

 

قال أبو عبيدة: له عن معاوية طريق أخرى:

 

أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/682 رقم 1922) عن رشدين، عن ابن لهيعة، حدثني كعب بن علقمة، حدثني حسان بن كريب، أنه سمع ابن ذي الكلاع يقول: كنت عند معاوية، فجاءه بريد من أرمينية من صاحبها، فقرأ الكتاب فغضب، ثم دعا كاتبه، فقال: اكتب إليه جواب كتابه: تذكر أن الترك أغاروا على طرف أرضك، فأصابوا منها، ثم بعثت رجالاً في طلبهم، فاستنقذوا الذي أصابوا، ثكلتك أمك! فلا تعودنّ لمثلها، ولا تحركنَّهم بشيء، ولا تستنقذ منهم شيئاً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

«إنهم سيلحقون بمنابت الشيح».

 

وإسناده ضعيف؛ لضعف رشدين بن سعد، وفيه عبدالله بن لهيعة، قال الحافظ ابن حجر عنه في «التقريب» (ص 319): «خلط بعد احتراق كتبه».

 

وله طريق أخرى بنحوه عن معاوية قوله.

 

وأخرجه من طريق آخر (2/680 رقم 1917) -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/518)-: حدثنا بقية، عن أم عبدالله، عن أخيها عبدالله ابن خالد، عن أبيه خالد بن معدان، عن معاوية، قال: اتركوا الرابضة ما تركوكم، فإنهم سيخرجون، حتى ينتهوا إلى الفرات، فيشرب منهم أولهم، ويجيء آخرهم، فيقولون: قد كان ها هنا ماء.

 

قلت: فيه بقية بن الوليد الحمصي، وهو صدوق، ومدلس، وقد عنعن، وخالد بن معدان ثقة، يرسل كثيراً، وقد عنعن -أيضاً-، وعليه فإن حديثه ضعيف، وفيه أم عبدالله؛ لم أقف لها على ترجمة.

 

وله شاهد من حديث عبدالله بن السائب، ولكن لا يفرح به.

 

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/111 رقم 5228 - ط. الطحان) من طريق عدي بن الفضل، عن علي بن الحكم، عن القاسم بن أبي بزة، عن عبدالله بن السائب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبلغ العربُ مولد آبائهم منابت الشيح والقيصوم»، وقال: «لم يرو هذا الحديث عن القاسم بن أبي بزَّة إلا عليّ بن الحكم، ولا عن علي إلا عديّ بن الفضل، تفرد به سعيد بن سليمان».

 

قلت: وبوّب عليه الهيثمي في «مجمع البحرين» (7/264) و«مجمع الزوائد» (7/310) (باب فتنة العجم)، وقال في «المجمع»: «وفيه عديّ بن الفضل التيميّ، وهو متروك».

 

ودلّت الرواية قبل الأخيرة أن الإلحاق الوارد في الحديث بجزيرة العرب إنما هو لأهل العراق، وكذا جاء التصريح به في جملة من الآثار السابقة، ووقع التصريح به -أيضاً- في:

 

الحديث الثالث: حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحارث بن كَلَدة([633]).

 

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/91 - ط. الهندية) أو (8/630 رقم 243 - ط. دار الفكر)، وأحمد (5/40)، والبزار (9/118-119 رقم 3667)؛ كلاهما في «المسند»([634])؛ جميعهم عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوّام، حدثنا سعيد بن جُمهان، عن ابن أبي بكرة، عن أبيه، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أرضاً يُقال لها البصيرة، إلى جنبها نهر يقال له دِجلة، ذو نخل كثير، وينزل به بنو قنطوراء، فيفترق الناس ثلاث فرق: فرقة تلحق بأصلها، وهَلكوا، وفرقة تأخذُ على أنفُسِها، وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريّهم خلف ظهورهم، فيُقاتلون، قتلاهم شهداء، يفتح الله على بقيّتهم. وشكّ يزيد فيه مرة، فقال: البُصَيْرة أو البصرة، لفظ أحمد.

 

ولفظ البزار: «... ينزلونه ويكثر به عددهم، فيأتيهم بنو قنطوراء، فيفترق الناس ثلاث فرق: فرقة تتبعهم، وفرقة تولّيهم ظهورهم، وقد هلكوا، وفرقة ثالثة يقاتلونهم ويفتح الله على بقيتهم».

 

وأخرجه أحمد (5/40): حدثنا محمد بن يزيد، أخبرنا العوّام، به، وفيه (ابن أبي بكرة)، ولفظه: «لتنزلُنَّ أرضاً يقال لها: البصرة -أو البصيرة-، على دِجلة، نهر...» فذكر معناه.

 

قال العوّام: بنو قنطوراء هم الترك.

 

ووقع اختلاف فيه على العوّام بن حوشب، ففي «العلل» (7/158 رقم 1270) للدارقطني:

 

«وسئل عن حديث عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في (ذكر البصرة وما يكون فيها في آخر الزمان)،

 

فقال: يرويه سعيد بن جُمهان، واختلف عنه، فرواه حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان، عن ابن أبي بكرة، عن أبيه.

 

وتابعه العوّام بن حوشب من رواية محمد بن يزيد، ومحمد بن الحسن الواسطيين، فرواه عن سعيد بن جمهان، عن ابن أبي بكرة، عن أبيه.

 

وخالفهما أبو الأشهب جعفر بن الحارث عن العوّام، عن سعيد، عن ابن([635]) أبي بكرة، ولم يذكر بينهما أحداً، والأول أصح».

 

قلت: رواية (حشرج) تأتي قريباً، وهمّي هنا ذكر الخلاف على (العوام)، والخلاف عنه ليس في تسمية (ابن أبي بكرة)، كما هو حاصل مع (حشرج)؛ وإنما في (ذكره) و(عدمه)، وصواب ما في «العلل»: «وخالفهما أبو الأشهب جعفر بن الحارث عن العوام، عن سعيد، عن أبي بكرة، ولم يذكر بينهما أحداً» كذا الصواب: «عن سعيد عن أبي بكرة» بحذف (ابن).

 

وعلقه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/677-678 رقم 1907) عن ابن عياش، قال: وأخبرني جعفر بن الحارث، عن سعيد بن جمهان، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرض يقال لها: البصرة أو البصيرة، يأتيهم بنو قنطوراء، حتى ينزلوا بنهر يقال له: دجلة، ذي نخل، فيفترق الناس...» نحو لفظ يزيد([636]).

 

وابن أبي بكرة وقع اختلاف في تعيينه، وسماه البزار (عُبيدالله).

 

وأخرجه البزار -أيضاً- (9/118 رقم 3666) من طريق أبي معاوية، نا العوّام بن حوشب، عن سعيد بن جمهان، عن ابن أبي بكرة، به، ولم يسق لفظه، وقال على إثره:

 

«وإنما قلت (عن ابن أبي بكرة)؛ لأن أبا كريب([637])، قال: (عن عبدالله بن أبي بكرة)، ولا أعلم لأبي بكرة ابناً يقال له (عبدالله)، فجعلتُه عن (ابن أبي بكرة)».

 

وسماه (عبدالله) أو (عبيدالله): حشرج بن نُباتة القيسيّ الكوفي -وفيه كلام-.

 

ووقع اختلاف عليه في اسمه، وهذا التفصيل:

 

أخرج أحمد (5/44-45): حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا الحشرج، به، وسماه (عبدالله بن أبي بكرة)، قال:

 

حدثني أبي في هذا المسجد -يعني مسجد البصرة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتنزلنّ طائفةٌ من أمتي أرضاً يقال لها البصيرة، يكثر بها عددهم، ويكثر بها نخلهم، ثم يجيءُ بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار العيون، حتى ينزلون على جسر لهم يقال له: دِجلة، فيتفرَّق المسلمون ثلاث فرق، فأما فرقة؛ فيأخذون بأذناب الإبل وتلحق بالبادية، وهَلَكت، وأما فرقة؛ فتأخذُ على أنفُسها، فكَفَرَت، فهذه وتلك سواء، وأما فرقة فيجعلون عيالَهُم خلْفَ ظهورهم ويقاتلون، فقتلاهم شهداء، ويَفتحُ اللهُ على بقيَّتِها».

 

وأخرجه أحمد (5/45) -أيضاً-، قال: حدثنا سُريْج([638])، حدثنا حشرج، به، وقال: «عن سعيد عن عبدالله أو عبيدالله([639]) بن أبي بكرة، قال: حدثني أبي في هذا المسجد -يعني: مسجد البصرة-»، قال الإمام أحمد: «فذكر مثله»؛ أي: مثل الذي قبله.

 

وأخرجه الطيالسي في «مسنده» (ص 117 رقم 870): حدثنا الحشرج ابن نباتة، به، وسمى ابن أبي بكرة (عبدالرحمن)، ولفظه نحو لفظ أبي النضر هاشم بن القاسم السابق.

 

وأخرجه أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/909-910 رقم 473) من طريق يحيى بن عبدالحميد([640]): ثنا حشرج، به، نحوه، وفيه «عبدالرحمن بن أبي بكرة».

 

وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/847 - ط. دار الفكر) من طريق الطيالسي، عن حشرج، حدثني سعيد بن جمهان، عن عبيدالله بن أبي بكرة   -كذا- عن أبيه، وذكره مختصراً، وكذا في (3/375 - ط. دار الكتب العلمية)، وفي مخطوطة «الكامل» (ج1/ق195 - نسخة أحمد الثالث): «عبدالله بن أبي بكرة» وهو الصواب.

 

وسمِّي (ابن أبي بكرة) على وجه ولون رابع، وهذا البيان:

 

أخرجه أبو داود في «السنن» في كتاب الملاحم (باب في ذكر البصرة) (4/113 رقم 4306): حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا عبدالصمد بن عبدالوارث، حدثني أبي، ثنا سعيد بن جمهان، ثنا مسلم بن أبي بكرة، قال: سمعتُ أبي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزلُ ناسٌ من أمَّتي بغائطٍ يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين»، قال ابن يحيى: قال أبو معمر: «وتكون من أمصار المسلمين؛ فإذا كان في آخر الزمان؛ جاء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية، وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، ويقاتلونهم وهم الشهداء».

 

وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (15/148-149 رقم 6748 - «الإحسان»)([641])، أخبرنا الفضل بن الحُباب الجُمَحيّ، قال: حدثنا مسدد بن مُسَرهد، عن عبدالوارث، به، ولفظه: «إن ناساً من أمتي ينزلون بحائطٍ([642]) يسمونه البصرة، عندها نهر يقال له: دجلة، يكون لهم عليها جسر، ويكثر أهلها...» بنحوه.

 

وأخرجه أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (1/341 رقم 43) -وأورده تحت ترجمة (عبدالله بن أبي بكرة) من طريق شعبة بن عمران أبو رافع الأصبهاني، عن سعيد بن جمهان، عن عبدالله بن أبي بكرة، به، مختصراً.

 

وفي إسناده محمد بن إبراهيم، وشعبة بن عمران، ترجم لهما أبو الشيخ وأبو نعيم في «أخبار أصبهان»، ولم يذكرا فيهما جرحاً ولا تعديلاً.

 

وعزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة» (10/197-198 رقم 9820) لأبي داود الطيالسي، قال: «ورواته ثقات، ومسدد» وأورد لفظ ابن حبان، وقال:

 

«ورواه أحمد بن منيع وأبو بكر بن أبي شيبة([643])، وعنه أبو يعلى الموصلي([644]) بلفظ: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً يقال لها البصرة...» وذكره.

 

وهو في «الفردوس» (5/522-523 رقم 8961 - ط. زغلول)، دون إسناد([645]).

 

* الكلام على إسناد حديث أبي بكرة

 

اختلف الرواة في تسمية (ابن أبي بكرة) على خمسة أقوال:

 

الأول: منهم من أبهمه، ولم يسمه، وقع ذلك في رواية يزيد بن هارون ومحمد بن يزيد عن العوّام بن حوشب، عن سعيد بن جمهان.

 

الثاني: عبيدالله أو عبدالله، شك فيه سُريج بن النعمان في روايته عن حشرج بن نباتة، عن ابن جمهان، ورواه الطيالسي -عند ابن عدي- عن حشرج، وجزم بأنه (عبيدالله).

 

الثالث: عبدالله، سماه أبو النضر هاشم بن القاسم عن حشرج، به.

 

الرابع: عبدالرحمن، سماه الطيالسي ويحيى الحماني، عن حشرج، به.

 

الخامس: مسلم، سماه هكذا عبدالوارث بن سعيد، عن سعيد بن جمهان.

 

وهذا اضطراب لا يُعَلُّ به أصل الحديث، إن كان هؤلاء ثقات! وهذا يحتاج إلى فحص وفتش، وبها نجد أن كلاًّ من (مسلم) و(عبدالرحمن) ثقة، وأما (عبدالله) أو (عبيدالله)؛ فترجمه هكذا بالشك: الحسيني في كتابه «الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذُكر في «تهذيب الكمال»» (ص 228/رقم 429)، قال: «عن أبيه، وعنه سعيد ابن جمهان، مجهول»! وتعقّبه ابن حجر في «تعجيل المنفعة» (ص 214 رقم 523). فقال:

 

«لا يقال هذا لأولاد (أبي بكرة)، فإنهم مشاهير من رؤساء أهل البصرة في زمانهم، وعبيدالله -بالتصغير- أشهر من عبدالله، وهو الذي وقع ذكره في «الصحيح»([646]) من رواية عبدالرحمن بن أبي بكرة: أنّ أبا بكرة كتب إلى ابنه عبيدالله، وهو يقضي بسجستان، وقد ذكر ابن حبان([647]) في (ثقات التابعين): (عبيدالله) -المصغّر-؛ فقال: «ولي لزياد، وروى عنه أهل البصرة» وقد اختلف على سعيد بن جمهان...»، وذكر الخلاف، وقال:

 

«فالذي يظهر أن سعيد بن جمهان كان يضطرب فيه، والله أعلم».

 

قلت: ما استظهره ظاهر، ولا سيما أن الطيالسي وقعت له الروايتان، فالاضطراب من (ابن جمهان) محصور في اسم (ابن أبي بكرة)، وهذا لا يعلّ به الحديث، و«شرط الاضطراب([648]) أن تتساوى الوجوه في الاختلاف، وأما إذا تفاوتت؛ فالحكم للراجح بلا خلاف»([649])، فهذه العلة غير قادحة في صحة أصل الحديث، إذ الجميع ثقات، وأما عبدالله، فقد قال البزار: «لا أعلم لأبي بكرة ابناً يقال له (عبدالله)»([650])!

 

قلت: ليس كذلك، قال ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/189):

 

«ووُلد عبدالله بن أبي بكرة بالبحرين، قبل أن ينزل البصرة، وكان أسنَّ ولد أبي بكرة، ولم يَلِ لهم شيئاً، وتوفي أبو بكرة عن أربعين ولداً من بين ذكر وأنثى، فأعقب منهم سبعة، عبدالله بن أبي بكرة أحدهم».

 

ولم يقتصر الأمر على ابن سعد، فقد ذكره ابن حبان في «الثقات» (5/534) في ترجمة (يزيد بن أبي بكرة)([651])، فقال: «أخو عبدالله ومسلم ورواد وعبيدالله»، بني أبي بكرة، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، عداده في أهل البصرة، روى عنه أهلها».

 

بل لعبدالله ورود في بعض نسخ «الطبقات»([652]) للإمام مسلم بن الحجاج.

 

وعلى فرض عدم وجوده، فيكون راوٍ قد وهم في تسميته، وخالف من هو أوثق منه، وأكثر عدداً، وبقية بني بكرة المسمّين ثقات، والراجح من حيث الصنعة الحديثية: أن «اسمه في هذا الإسناد هو عبدالرحمن([653])، ثقة متفق عليه، بيّن ذلك»([654])، الطيالسي في روايته: «وأما مسلم؛ فانفرد به مسلم، وأما عبدالعزيز؛ فأخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه»([655]).

 

وعلى كلٍّ؛ القول بجهالة عبيدالله أو عبدالله مردودة، بما قاله ابن حجر([656])، وسبقه الذهبي، فقال في آخر كتابه «ديوان الضعفاء» (ص 478): «وأما المجهولون من الرواة، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم، احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ، وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيتأتى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه، وعدم ذلك» انتهى.

 

وإذا كانت الجملة الأخيرة من هذه القاعدة في (صغار التابعين) فإنها تشمل (عبيدالله) و(عبدالله) من باب أولى، إذ جعلهما مسلم([657]) في (الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة)، وقد أخرج في «صحيحه»([658]) حديث «إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض...» بسندٍ فيه (ابن أبي بكرة) هكذا بالإبهام، ووقع خلاف في تعيينه، ولا عبرة بتضعيفه لمجرد هذا السبب([659]).

 

بقيت علّة أخرى؛ وهي مستمسك مضعّفيه؛ وهي: (سعيد بن جُمهان)، قال ناقدوه: «سعيد بن جُمهان، وإن ذُكر توثيقه عن غير واحد من أهل العلم، فقد قال المروزي: قلت لأحمد: يروى عن يحيى القطان أنه سئل عنه فلم يرضه! فقال: باطل، وغضب، وقال: ما قال هذا أحد غير علي بن المديني، ما سمعت يحيى يتكلم فيه بشيء([660]).

 

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به([661]). وقال أبو داود مع توثيقه له: وقوم يضعِّفونه. وقال الساجيّ: لا يتابع على حديثه. ونقل الحافظ ابن حجر في «التهذيب» أن البخاري قال: عنده عجائب. وقال في «التقريب»: صدوق له أفراد([662]).

 

قلت: ليس كل خلاف في الراوي يضر، بل لا بد من النظر والترجيح، وقد قال ابن أبي عاصم في «السنة»([663]): حديثه ثابت، وقد روى عنه حماد بن سلمة، والعوام بن حوشب، وحشرج.

 

قال شيخنا الإمام الألباني مدافعاً عن (ابن جمهان) وقد صحح له حديثاً آخر([664]): «وقد وثقه جماعة من الأئمة، منهم أحمد وابن معين، وأبو داود، وقال الحافظ في «التقريب»: صدوق له أفراد.

 

قال: ولذلك قوّى حديثه الترمذي، وقال: حسن. والحاكم (3/71، 145) وصححه، وفي [(3/606) حديث آخر]. ووافقه الذهبي.

 

وأشار إلى مثل هذا التصحيح الحافظ في «الفتح» (13/182)، فقال موافقاً: وصححه ابن حبان (1534، 1535 - «الموارد») وغيره.

 

واحتج به الإمام ابن جرير الطبري في جزئه في «الاعتقاد» (ص 7).

 

وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في «قاعدة» له في هذا الحديث... قال: اعتمده الإمام أحمد.

 

وصححه ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم» (2/184)، ويضاف إليهم هنا ابن حبان؛ فإنه ذكر سعيداً في «الثقات» والنسائي؛ فإنه هو الذي قال: ليس به بأس.

 

وعارض هؤلاء قولَ البخاري: في حديثه عجائب، وقولَ الساجي: لا يتابع على حديثه.

 

قال الشيخ: فهذا جرحٌ مبهم غير مفسَّر، فلا يصحّ الأخذُ به في مقابلة توثيق من وثّقه، كما هو مقرر في (المصطلح)، زد على ذلك أن الموثِّقين جمع، ويزداد عددُهم إذا ضُمَّ إليهم مَنْ صحَّحَ حديثه، باعتبار أن التصحيح يستلزم التوثيق كما هو ظاهر»([665]).

 

وبناءً على ما سبق؛ فقد حسّن هذا الحديث شيخُنا الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (2/1357 رقم 8170)، و«صحيح سنن أبي داود» (3/27 رقم 4306)، و«صحيح موارد الظمآن» (2/226-227 رقم 1570-1873)، و«المشكاة» (5432)، وهو في «هداية الرواة» (5/110-111 رقم 5359)، وبهامشه: «إسناده جيد»([666])، وهو في (القسم الحسن)([667]) من «مصابيح السنة»، وهذا الذي أراه صواباً.

 

* هل الحديث منكر؟

 

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/419-420 رقم 2764): سألت أبي عن حديث رواه دُرُست بن زياد، عن راشد أبي محمد الحِمّاني، عن أبي الحسن مولى أبي([668]) بكرة، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسكن طائفة من أمتي أرضاً يقال لها البصرة...» فسمعت أبي يقول: هو حديث منكر».

 

نستفيد من هذا النقل أن ابن جمهان لم يتفرد بالحديث، وإنما تابعه مولى أبي بكرة، المكنى (أبا الحسن)، ولكني لم أظفر له بترجمة!

 

ويبقى بيان معنى (حديث منكر)، في السياق المذكور، و«من تتبع كتب تواريخ رجال الحديث وتراجمهم، وكتب العلل؛ وجدَ كثيراً من الأحاديث التي يطلِقُ عليها الأئمةُ (حديث منكر)، من جهة المعنى»([669])، وكذا كان النقاد القدامى «يستعملون كلمة (منكر) على تفرد الثقة بحديث ليس له متابعٌ ولا شاهدٌ، حتى ولو كان إماماً، وهو أمرٌ يخالفهم فيه جمهورُ النقّاد، لأنهم لا يعتبرونه منكراً، إلا إذا أوقع ذلك التفرد في نفوسهم شيئاً من الريبة»([670]).

 

قال الحافظ أبو بكر البِرْدِيجي: «إن المنكر هو الذي يحدّث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يعرف ذلك الحديث -وهو متن الحديث- إلا من طريق الذي رواه؛ فيكون منكراً»([671]).

 

والذي أُراه في هذا الباب أن هذا النوع من (الأحكام) لا ينبغي الجمود عليه، وأن ما يستجدّ من (أحداث) له صلة بفحص كلام الأئمة الأعلام، مع عدم مسّ (قواعد الاستنباط) و(قواعد الترجيح) و(قواعد التجريح) و(قواعد التخريج)، فالقواعد هي هي، ولكن الحكم بـ(النكارة) وعدمها يتغيّر في مثل هذا النوع من شخص إلى شخص، إذ مردّها إلى (الملكة)، وتختلف -أيضاً- من زمان إلى زمان([672])، وقد يدرك (المتأخر) المتأهّل ما لا يدركه (المتقدّم) المتبحّر، لا بزيادة علم عنده عليه([673])؛ وإنما بما يحسّه ويشاهده ويدور حواليه([674])!

 

والنكارة المذكورة عند الإمام أبي حاتم الرازي غير ظاهرة لمن نظر في شروح الحديث، ولا لمن جمع أحاديث الباب، والله أعلم بالصواب، اللهم إلا أن يقال: إنّ المدينة المشهورة في أحاديث الفتن هي (الكوفة) لا (البصرة)، وقد سبقت جملة من الآثار في ذلك عن ابن مسعود وعبدالله بن عمرو وحذيفة([675])! وهذا مزيد آخر منها:

 

فصل

 

في أخبار أخرى في الفتن

 

فيما ذكر للكوفة والبصرة أو إحديهما

 

أخرج أحمد (5/385) وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (6/6-7) والبزار في «البحر الزخار» (7/347-348 رقم 2944) من طرق عن محمد ابن عبيد الطنافسي: حدثنا يوسف -يعني: ابن صُهيب- عن موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، قال:

 

قال حذيفة: ما أَخبيةٌ بعد أَخبيةٍ كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدرٍ يُدفعُ عنهم، ما يُدْفعُ عن أهل هذه الأخبية([676])، ولا يُريد بهم قومٌ سوءاً إلا أتاهم ما يشغلهم عنه. لفظ أحمد، وليس عند البزار «ببدر»، وآخره عنده: «ولا يريدهم قوم بسوء إلا أتاهم الله بما يشغلهم عنهم»([677])، وقال البزار عقبه:

 

«يعني الكوفة»، وقال:

 

«وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن بلال بن يحيى عن حذيفة إلا بهذا الإسناد».

 

قلت: وأورده ابن سعد في (طبقات الكوفيين: تسمية من نزل الكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...) وبوب عليه في «كشف الأستار» (3/324 رقم 2854) (باب في أهل الكوفة).

 

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (4/40 رقم 3052 - ط. المعارف) من طريق الزِّبرقان عن موسى بن المختار، به، وآخره عنده:

 

««ما يدفع الله عن هذه الأخبية»؛ يعني: الكوفة»، ونقله عنه هكذا الهيثمي في «المجمع» (10/64)، وقال:

 

«رجال أحمد والبزار ثقات».

 

قال أبو عبيدة: فيه موسى بن أبي المختار مجهول، تفرد بالرواية عنه يوسف بن صهيب، ولم يوثقه غير ابن حبان (7/456)، وترجمه ابن أبي حاتم (8/164) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.

 

وبلال بن يحيى العبسي، مختلف في سماعه من حذيفة، قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/396): «وجدته يقول: بلغني عن حذيفة»، وقال أبو الحسن القطان: هو ثقة، روى عن حذيفة أحاديث معنعنة، ليس في شيء منها ذكر سماع، أما الترمذي فقد حسّن له حديثاً من روايته عن حذيفة. وقال ابن معين: روايته عن حذيفة مرسلة([678]).

 

وظفرتُ له بطريق أخرى عن بلال:

 

أخرجه أحمد (5/391) بسندٍ صحيح إلى بلال عن حذيفة، قال:

 

«ما أخبيةٌ بعد أخبية، كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُدفع عنها من المكروه أكثر من أخبية وُضعت في هذه البقعة».

 

وورد هذا الخبر من طرق كثيرة بعضها صحيح لذاته، مثل:

 

ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/188 - ط. الهندية أو 7/4، 5 - ط. دار الفكر)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (6/6) عن وكيع، عن مسعر، عن الركين بن الربيع الفزاري، عن أبيه، قال: قال حذيفة مثل اللفظ الأول، وفي آخره: «يعني الكوفة».

 

وإسناده صحيح.

 

وأخرجه ابن أبي شيبة (12/186 - ط. الهندية أو 7/553 - ط. دار الفكر)، وابن سعد (6/6) من طريق الأعمش عن عمرو بن مرة المرادي، عن سالم بن أبي الجعد، عن حذيفة، قال:

 

«ما يدفع الله عن أخبية على وجه الأرض ما يدفع عن أخبية بالكوفة، ليس أخبية كانت مع محمد صلى الله عليه وسلم».

 

ورجاله ثقات إلا أن سالماً لا تعرف له رواية عن حذيفة، وهو كثير الإرسال([679]).

 

وأخرجه ابن سعد (6/6) عن مغيث البكري عن حذيفة قال: «والله ما يُدفع عن أهل قرية ما يُدفع عن هذه -يعني: الكوفة- إلا أصحاب محمد الذين اتبعوه».

 

وأخرجه الطيالسي([680]) في «المسند» (ص 59/رقم 440) بسندٍ صحيح إلى نعيم بن أبي هند([681]) قال: قال حذيفة -رضي الله عنه-:

 

«ما رأيت أخصاصاً إلا أخصاصاً كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفع عن هذه، يعني: الكوفة».

 

قال الطيالسي عقبه: «الأخصاص: بيوت عندنا من قصب».

 

ولم يقتصر هذا المعنى على (حذيفة)؛ وإنما ذكره سلمان -أيضاً -رضي الله عنهما-، وهذا يدل على أن له حكم الرفع([682]).

 

أخرجه ابن سعد (6/6): أخبرنا الفضل بن دُكين، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل عن سلمان، قال:

 

وما يُدفع عن أرض بعد أخبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُدفع عن الكوفة، ولا يريدها أحد خارباً إلا أهلكه الله، ولتصيرنّ يوماً وما من مؤمن إلا بها أو يصير هواه بها».

 

وسلمة بن كهيل لم يدرك سلمان.

 

وقد دفع الله عن أهل الكوفة في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- كلَّ شرٍّ وسوء وبلاء، وأصبحت مهوى المؤمنين، وانتشرت منها الفتوحات، فعمل الصحابة والتابعون من خلالها على فتح البلاد بالجلاد، وفتح قلوب العباد بالتعليم والحُجج والبراهين، فاجتمعت لهم -رضي الله عنهم- فروسيتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية السيف والسنان([683])، وكان دفع الله عنهم، ونصرته لهم خارج (جزيرة العرب)، كدفع الله عن أهل بدر وحفظه لهم، ونشرهم الإسلام فيها، فرضي الله عنهم جميعاً([684]).

 

ثم استمر الحال بخير وعافية، وأمن وإيمان، حتى وقع ما ليس بالحسبان، من توالي الفتن واشتدادها على مرّ الزمان، والله المستعان، لا ربّ سواه.

 

أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/638 رقم 291) بسندٍ صحيح إلى حذيفة يخاطب أهل الكوفة:

 

«ليوشكنّ أن يصبّ عليكم الشر من السماء حتى يبلغ الفيافي، قال: قيل: وما الفيافي يا أبا عبدالله؟ قال: الأرض القفر».

 

وأخرج -أيضاً- (8/627-628 رقم 330) بسندٍ صحيح على شرط الشيخين عن مسروق، قال: أشرف عبدالله -أي: ابن مسعود- على داره -أي: في الكوفة-، فقال:

 

أعظم بها حرمة، ليحطبنّ. فقيل: ممن؟ فقال: أناس يأتون من ههنا، وأشار أبو حصين -الراوي عن يحيى بن وثّاب عن مسروق، واسمه عثمان بن عاصم- بيده نحو المغرب.

 

وأخرج ابن أبي شيبة (8/639 رقم 299) بسندٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري، قال: إن لهذه -يعني: البصرة- أربعة أسماء: البصرة، والخريبة، وتدمر، والمؤتفكة.

 

وأخرج أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/908 رقم 471) بسندٍ فيه ضعف([685]) عن عليّ قال: لتغرقنّ البصرة -أو لتحرقن- كأني بمسجدها وبيت مالها كأنه جؤجؤ([686]) سفينته».

 

وله طريق أخرى فيها انقطاع، أخرجه عبدالرزاق (11/252 رقم 20463) عن معمر، عن قتادة: أنّ عليّاً قال: «تخرب البصرة إما بحريق وإما بغرق،...» مثله.

 

ثم ظفرتُ له بطريق ثالثة، ولكنها ضعيفة.

 

أخرج الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (2/559) من طريق سيف ابن عمر، عن حَصيرة بن عبدالله والحارث بن حَصيرة -ابنه- كلاهما عن أبي صادق، قال: قال علي -رضي الله عنه-:

 

«ويلكِ يا كوفة، وأختك البُصَيْرة، كأني بكما تُمَدَّانِ مَدَّ الأديم، وتُعركان عَرْك الأديم([687]) العُكاظِيّ، سَلمْتُما بَعدُ -أو سجيتُما-، إني لأعلم فيما علَّمني الله أنّه لا يريدُ بكما جبّار سُوءاً، إلا أتاه اللهُ بشاغل».

 

وإسناده ضعيف، فيه سيف بن عمر التميمي، صاحب كتاب «الردة»، الكوفي، ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ، أفحش ابن حبان القول فيه. قاله ابن حجر في «التقريب» (ص 262/رقم 2724).

 

والحارث بن حَصيرة، صدوق يخطئ، وروايته مقرونة مع رواية أبيه.

 

وأخرج عبدالله بن أحمد في «زيادات الزهد»: حدثني عمر بن شبة([688])، حدثني يحيى بن بسطام، حدثني أنيس بن سوار، حدثنا مالك بن دينار، عن الأحنف بن قيس، قال: أتيتُ المدينة في إمارة عثمان -رضي الله عنه-، فإذا رجل كث اللحية، قعد لهم وأغلظ، فتفرقوا، فقلت: يا عبدالله! ما أراك إلا قد أسأت، قال: إن هؤلاء مداهنون، أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو ذر، فمن أنت؟ قلت: من أهل البصرة، فقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بلايا بالعراق، وذلك بالكوفة، فأما أهل البصرة فأقوم الأمصار قبلة، وأكثره مؤذناً، يدفع الله عنهم ما يكرهون([689]).

 

وأخرج عبدالله فيه -أيضاً-، قال:

 

حدثنا أبو إسحاق الطبري، حدثنا هاشم بن القاسم، عن صالح المري، عن سعيد الربعي، عن مالك بن دينار، عن الأحنف، عن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أهل الكوفة، فذكر أنه ستنزل بهم بلايا عظام. ثم ذكر أهل البصرة، فذكر أنهم أفضل أهل الأمصار قبلة، وأكثرهم مؤذناً، يدفع عنهم ما يكرهون([690]).

 

وأخرج أبو نعيم في «الحلية» (6/249) -ومن طريقه الديلمي([691]) في «الفردوس» (1/ق341 - «زهر الفردوس») وابن الجوزي في «الواهيات» (1/312 رقم 500)- قال:

 

حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا محمد بن يونس، ثنا محمد بن عباد المهلبي، ثنا صالح المري، عن المغيرة بن حبيب صهر مالك، قال: قلت لمالك بن دينار([692]): يا أبا يحيى! لوذهبت بنا إلى بعض جزائر البحر، فكنا فيها حتى يسكن أمر الناس؟ فقال: ما كنت بالذي أفعل، حدثني الأحنف بن قيس، عن أبي ذر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعرف أرضاً يقال لها البصرة، أقومها قبلة، وأكثرها مساجد ومؤذنين، يدفع عنها من البلاء ما لم يدفع عن سائر البلاد»([693]).

 

قال أبو نعيم على إثره: «غريب من حديث المغيرة وصالح، رواه الجراح بن مخلد عن محمد بن عباد، رواه القاسم بن محمد بن عباد عن أبيه، مثله».

 

قلت: وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/419) من طريق رجاء بن محمد عن محمد بن عباد، به.

 

وسأل ابن أبي حاتم في «العلل» (2/435 رقم 2811) عن حديث رواه عمرو بن علي الصيرفي، عن محمد بن غسان، عن صالح المري، به،... أباه، فقال: «هذا حديث منكر، ليس بقوي».

 

وعزاه ابن عرّاق في «تنزيه الشريعة» (2/58 رقم 33) إلى ابن قانع([694]) من حديث أبي ذر، وقال: «فيه الكديمي».

 

وقال ابن الجوزي قبله في «الواهيات» (1/312) تحت عنوان (حديث في فضل البصرة): «هذا حديث لا يصح، وفيه محمد بن يونس الكديمي، قال ابن حبان([695]): كان يضع على الثقات الحديث وَضعاً، لعله قد وضع أكثر من ألف حديث».

 

قال أبو عبيدة: الأسانيد الثلاثة السابقة ضعيفة، وآخرها أضعفها، وصالح المري ضعيف، واضطرب فيه، فشيخه في الإسناد الثاني (سعيد بن سلمان    -أو سليمان- الرَّبعي) مقبول، وفي الذي بعده (المغيرة بن حبيب صهر مالك ابن دينار)، أورده الذهبي في «الميزان» لقول الأزدي فيه: «منكر الحديث»، وذكره ابن حبان في «الثقات» (7/466)، وقال: «يغرب»، وروى عنه جمع، فيما سمّىابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/220 رقم 991)، وابن حبان، «فمثله تطمئن النفس لحديثه، لرواية هذا الجمع من الثقات عنه، دون أن يعرف بما يسقِطُ حديثَه، وأما قول الأزدي: «منكر الحديث»؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه معروف بالتعنُّت في (التجريح)، فلعله من أجل ذلك لم يورده الذهبي في كتابه الآخر «الضعفاء» ولا في «ذيله»، والله أعلم»([696]).

 

ومالك بن دينار صدوق عابد.

 

فهذه الأسانيد ضعيفة، لا تنهض بالاحتجاج، ولا تتقوّى بتعدد الطرق، وتذكر للاستئناس عند الجمع، من باب تكثير العساكر والجيوش، وإن لم تكن بذاك، فالكثرة لها أثر في النفوس، على منهج أئمة الهدى في التصنيف في المواضيع المفردة في المسائل الخاصة، من باب التقميش الذي يتبعه التفتيش، كما حصل لابن القيم في «اجتماع الجيوش»، والذهبي في «العلو» و«العرش»، وغيرهما كثير كثير.

 

أخرج أبو داود([697]) في «سننه» في كتاب الملاحم (باب في ذكر البصرة) (4/113 رقم 4307):

 

حدثنا عبدالله بن الصباح، ثنا عبدالعزيز بن عبدالصمد، ثنا موسى الحناط، لا أعلمه إلا ذكره عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أنس! إن الناس يُمَصِّرون أمصاراً، وإن مصراً منها يقال له البصرة أو البصيرة، فإن أنت مررت بها، أو دخلتها؛ فإياك وسِباخَها وكِلاءَها وسوقَها وبابَ أمرائها، وعليك بضواحيها؛ فإنه يكون بها خَسْفٌ وقذْفٌ ورَجْفٌ، وقوم يبيتون يصبحون قردة وخنازير».

 

وإسناده صحيح.

 

وصححه شيخنا الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4307) و«مشكاة المصابيح» (3/1496 رقم 5433).

 

واعترض على هذا التصحيح بشك موسى الحناط في شيخه! قال المنذري في «مختصر سنن أبي داود» (6/170): «لم يجزم الراوي به، قال: لا أعلمه إلا ذكره عن موسى بن أنس»، وأعله به المعلمي اليماني في تعليقه على «الفوائد المجموعة»([698])، وزاد: «وهذا إذا انضم إلى كون المتن منكراً»!!

 

وسبقت الإجابة على النكرة، أما الشك فليس بعلة، وأجاب على ذلك ابن حجر في «أجوبته عن أحاديث المصابيح» (3/1787 - «المشكاة») (الحديث الخامس عشر)، قال عقب إيراده بسنده ومتنه: «ورجاله ثقات، ليس فيه إلا قول أنس: لا أعلمه إلا عن موسى بن أنس، ولا يلزم من شكه في شيخه الذي حدثه به أن يكون شيخه فيه ضعيفاً، فضلاً عن أن يكون كذاباً، وتفرد به، والواقع [أنه] لم ينفرد به، بل أخرج أبو داود -أيضاً- لأصله شاهداً بسند صحيح من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم»([699]).

 

قال أبو عبيدة: لم أظفر بحديث سفينة عند أبي داود، ولا غيره مع طول بحث وكثرة فتْش، ثم وجدتُ بعض الباحثين([700]) المعاصرين يقول في كتابه «النقد الصريح لأجوبة الحافظ ابن حجر من أحاديث المصابيح» (ص 88-89)، وأورد طريق النضر بن حفص الآتية، ثم قال: «وأما الشاهد الذي ذكره الحافظ ابن حجر في «أجوبته» من حديث سفينة؛ فلم أقف عليه عند أبي داود، ولا عند غيره، ولم أجد له ذكراً في (مسند سفينة) من «تحفة الأشراف» للحافظ المزي، وإنما له شاهد حسن من حديث أبي بكرة،...» وساق ما ذكرناه، وعزاه لأحمد والطيالسي وأبي داود فقط، وقال:

 

«وليس فيه التحذير من سباخها وكلائها وسوقها وباب أمرائها، ولا فيه ذكر القذف والخسف والرجف».

 

قلت: ولذلك شواهد كثيرة في الموقوف، مبثوثة في كتابنا هذا، ولله الحمد والمنة.

 

وأخرجه أبو يعلى في «معجمه» (ص 225 رقم 273 - ط. إرشاد، أو ص 305/رقم 273 - ط. أسد) -وعنه- كل من ابن عدي في «الكامل» (5/1731)، وأبي الشيخ في «الفتن» كما في «اللآلئ المصنوعة» (2/468) من طريق ابن عدي، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/61)- قال: حدثنا عمار بن زَرْبي أبو المعتمر، ثنا النضر بن حفص بن النضر بن أنس، عن أبيه، عن جده، عن أنس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله، وفيه:

 

«فإذا أنت أتيتَها، فسكنتَ فيها؛ فاجتنب مسجدها، وسوقها وفيضَها، وأحسبُه قال: «عليك بضواحيها، فسيكون بها خسف ومسخ».

 

وفي آخره: «قال أنس: فمن ها هنا سكنتُ القصر؛ يعني: قصر أنس     -رضي الله عنه-».

 

وهذا إسناد ضعيف جدّاً، عمار بن زربي، ترجمه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/392)، ونقل عن أبيه قوله فيه: «هو كذاب، متروك الحديث، وضرب على حديثه ولم يقرأه علينا».

 

وقال ابن عدي على إثر الحديث: «وهذا -أيضاً- غير محفوظ»، وقال عن (عمار): «لم يبلغني مما أنكرته من حديث عمار بن زربي غير هذه الأحاديث التي ذكرتها، وله غير هذا الشيء اليسير»، وأورد هذا الحديث في ترجمته.

 

وقال العقيلي في «ضعفائه» (3/327) عن (ابن زربي): «الغالب على حديثه الوهم»، وتركه عبدان الأهوازي، ورماه بالكذب، انظر: «لسان الميزان» (4/271 - ط. الهندية و4/312 - ط. الفكر و6/45 - ط. أبو غدة).

 

وذكره ابن حبان في «الثقات» (8/517)، وقال: «كان ضريراً يغرب ويخطئ»([701]).

 

وأخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/294): حدثنا أحمد بن عبدالله بن جرير بن جبلة، قال: حدثنا عمار بن زريق([702])، حدثني النضر بن حفص، به، مثله.

 

وأورده في ترجمة (النضر)، وقال عنه: «مجهول بالنقل حديثه غير محفوظ».

 

قال العلائي في «النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح» (ص 48/رقم 16)،وأورد هذا الحديث وكلام الأئمة في (عمار ابن زربي)، قال: «ولكن لم ينفرد عمار به، بل أخرجه أبو داود، وساق سنده، وقال: «وهذا الإسناد رجاله على شرط مسلم، احتجّ بهم جلّهم، وليس فيه سوى عدم الجزم باتصاله، بل هو بغلبة الظن، وذلك كافٍ كما صرح به أئمة الفن في أمثاله، والله أعلم».

 

وأورد كلامه وأقره: السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (2/468)، وابن عراق في «تنزيه الشريعة» (2/51/رقم 15)، والشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 434 رقم 13).

 

وله شواهد بمعانٍ مقاربة من المرفوع والموقوف، أورد منها السيوطي([703]) وتبعه ابن عرَّاق([704]) ثلاثة: واحد مرفوع، واثنان موقوفان؛ وهذا البيان([705]):

 

أولاً: أخرج الطبراني في «الأوسط» (6/167 رقم 6095 -  ط. الحرمين)، قال:

 

حدثني محمد بن عبدالرحمن -ثعلبٌ- البصري، قال: نا عليُّ بن الحسين الدرهمي، قال: نا عبدُالخالق أبو هانئ، قال: حدثني زياد بن([706]) الأبْرَص.

 

عن أنس بن مالك، قال: كانت أمّ سُليْم تُداوي الجرحىفي عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! لو دعوتَ الله لابني([707])، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُنيس؟» قالت: نعم، فأقعدني بين يديه، ومسح على رأسي، فقال: «يا أُنيس، إن المسلمين يتمصَّرون بعدي أمصاراً، مما يُمَصِّرون مصراً يقال لها: البصرة، فإن أنت وردْتَها فإياك وفيضها وسوقَها وبابَ سلطانِها، فإنها سيكون بها خسفٌ ومسْخٌ وقذف، آيةُ ذلك الزمان أن يموت العدل، ويَفشُو فيه الجَوْر ويكثر فيه الزِّنا، ويفشو فيه شهادة الزور».

 

قال الطبراني عقبه: «لا يُروى هذا الحديث عن زياد الأبرص إلا بهذا الإسناد».

 

وإسناده مظلم، قال الهيثمي في «المجمع» (8/11): «فيه جماعة لم أعرفهم».

 

قلت: لعله يريد: محمد بن عبدالرحمن (ثعلب البصري)([708])، وعبدالخالق أبو هانئ، وزياد الأبرص، فإني لم أظفر بكلام لأئمة الجرح والتعديل فيهم. ووجدتُ المعلمي يقول عن عبدالخالق وزياد: «لم أجدهما»([709]).

 

ثانياً: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/640 رقم 305) بسندٍ صحيح إلى غالب بن عجرد، قال: أتيتُ عبدالله بن عمرو أنا وصاحب لي، وهو يحدث الناس، فقال: ممن أنتما؟ فقلنا: من أهل البصرة، قال: فعليكما إذاً بضواحيها، فلما تفرق الناس عنه دَنوْنا منه، فقلنا: رأيتَ قولك: ممن أنتما، وقولك: عليكما بضواحيها إذاً؟ قال: إن دار مملكتها وما حولها مشوب بهم، قال ثابت (الراوي عن غالب): فكان غالب بن عجرد إذا دخل على الرحبة سعى حتى يخرج منها.

 

وأخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/252 رقم 20464) عن معمر، عن قتادة، أن عبدالله بن عمرو قال: «البصرة أخبث الأرض تراباً، وأسرعه خراباً»([710])، قال: «ويكون في البصرة خسف، فعليك بضواحيها، وإياك وسباخها» وإسناده منقطع؛ قتادة لم يسمع عبدالله بن عمرو، ولم يسمع إلا من أنس، كما قال أئمة هذا الشأن، وبعضهم يزيد معه سماعه من عبدالله بن سرجس.

 

ثالثاً: وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/640 رقم 306 - ط. دار الفكر) قال: حدثنا أبو معاوية عن عاصم، عن أبي عثمان، قال: جاء رجل إلى حذيفة، فقال: إني أريدُ الخروجَ إلى البصرة، فقال: إنْ كنتَ لا بد لك من الخروج؛ فانزل عَزَواتِها، ولا تنزل سُرَّتها.

 

وإسناده صحيح، أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو عثمان هو عبدالرحمن بن مَلّ النهدي، أدرك حذيفة، وكلهم ثقات.

 

ثم وجدته في موطن آخر من «مصنف ابن أبي شيبة» (7/555 رقم 4 - ط. الفكر، أو 12/189-190 رقم 12505 - ط. الهندية) بالسند واللفظ نفسه، وفيه: «فانزل عدوتها ولا تنزل سربها».

 

وكلاهما تصحيف([711])، وصوابه: «عَذَواتها».

 

أخرج أبو محمد السرقسطي في «الدلائل في غريب الحديث» (2/926 رقم 500): حدثنا إبراهيم -هو ابن نصر، ثقة- قال: أنا أبو الحسن -هو أحمد ابن عبدالله، ثقة إمام- قال: نا أبو حذيفة، قال: نا سفيان، عن عاصم الأحول، به، ولفظه:

 

«إن كنتَ لا بد فاعلاً([712])، فانزل بسُرَّتها، وتجنب عَذَواتها».

 

وقال: «وروى هذا الحديث عن شعبة عن عاصم، عن أبي عثمان، إلا أنه قال: فانزل عَذَواتها، ولا تنزل سُرَّتها».

 

وإسناده حسن لغيره([713])، وأبو حذيفة، موسى بن مسعود النهدي، قال العجلي: ثقة صدوق، وقال الترمذي: يضعّف في الحديث، وقال ابن حبان: يخطئ، وقال الفلاس: لا يحدّث عنه من يبصر الحديث، وقال الذهبي في «السير» (13/406): «هو صدوق في نفسه، وليس بمتقن». وقال ابن حجر: صدوق سيئ الحفظ([714]).

 

وأفاد السرقسطي: أنه يقال: أرض عذاة وعَذِية([715])؛ وهي: البعيدة من الماء، قال: «ومن ثم يقال: زرع عِذْي يشرب بماء السماء، ولا يدنو من المياه ولا من الأنهار»، قال: «وقد روي هذا الحرف بلفظ آخر: «فانزل عُدُواتها»، كأنه جمع عُدْوة...»، قال: «وقال بعضهم: عَدولاتها» فإن كان محفوظاً؛ فإنه أراد كلاءها ومرسى سفنها».

 

قلت: لفظ حديث أنس عند أبي داود([716]) يرجح أن المراد (العذية: البعيدة من الماء)، وله شواهد أوردها السرقسطي([717]).

 

وقد ورد بلفظ آخر، أخرجه أبو الحسين الحنائي في «الفوائد المنتقاة الصحاح والغرائب»([718]) (3/941 رقم 287 - بتحقيقي)، قال:

 

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي الحديد السلمي([719])، قال: أنبأ محمد بن جعفر بن محمد بن هشام بن ملاّس النُّمَيري، قثنا أبو جعفر محمد بن عمرو السوسي النميري، قثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أبي عثمان، قال: جاء رجل إلى حذيفة، فقال: إني أريد الخروج إلى البصرة، فقال: لا تخرج إليها، قال: إن لي بها حاجة، قال: لا تخرج، قال: لا بد لي من الخروج، قال: إن لي بها قرابة، قال: «إن كان لا بدَّ من الخروج، فانزل غربيها، ولا تنزل شرقيها».

 

وإسناده حسن لغيره، فيه محمد بن عمرو السوسي، قال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/111): «كان بمصر يذهب إلى الرفض، وحدّث بمناكير»، ونقله عنه الذهبي في «الميزان» (3/675) وابن حجر في «اللسان» (5/370)، ولخّص حاله في «ديوان الضعفاء» (3914) بقوله: «صاحب مناكير يترفض»([720]).

 

ويشهد  للفظ الأخير: «انزل غربيها ولا تنزل شرقيها» أثرٌ لجرير بن عبدالله البجلي.

 

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/363) عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير، قال: «إن أول الأرض خراباً يُسراها ثم تتبعها يُمناها»([721]).

 

وإسناده صحيح.

 

وهكذا رواه يحيى القطان، ويعلى، وأبو أسامة، عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير قوله، وهو الصواب، أفاده الدارقطني فيما حكاه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/853 رقم 1427).

 

وقد خالف حفص بن عمر الرقي فرواه عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النَّهدي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل، به، رفعه.

 

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3519) -وعنه أبو نعيم في «الحلية» (7/112)-، وتمام في «الفوائد» (5/145 رقم 1724 - ترتيبه «الروض البسام») -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/ق257) أو (52/45 و53/333 - ط. دار الفكر)-، وأبو يعلى الخليلي في «الإرشاد» (2/474 رقم 131)، والدارقطني في «العلل» -ومن طريقه ابن الجوزي في «الواهيات» (2/853 رقم 1427)-، وابن جميع الصيداوي في «معجم الشيوخ» (ص 258)، وابن المقرئ([722]) في «معجمه» (ص 283 رقم 929)؛ جميعهم من طريق حفص بن عمر الرّقّي، المعروف بـ(سِنْجَة)([723]): نا أبو حذيفة، به.

 

قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث موصولاً إلا أبو حذيفة»، وقال أبو نعيم: «غريب»، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/289): «فيه حفص بن عمر ابن الصباح الرّقّي، وثّقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح».

 

قلت: ليس كذلك، موسى بن مسعود سيئ الحفظ، وتقدم الكلام عليه قريباً، وكذا لم يخرج له البخاري إلا في المتابعات، وحفص بن عمر، قال الخليلي: «كان يحفظ وينفرد برفع الحديث»، وقال أبو أحمد الحاكم: «حدث بغير حديث لم يتابع عليه»، وقال ابن حبان: «ربما أخطأ»([724])، والمحفوظ في هذا اللفظ الوقف، وإن كان له حكم الرفع.

 

ثم وجدتُ أبا يعلى الخليلي أسنده في «الإرشاد» (2/474) من طريق هلال بن العلاء الرّقّي، عن أبي حذيفة موقوفاً، وقال: «وهذا أصح»([725]).

 

ومما يستفاد من هذا الأثر؛ أن الجهة اليسرى أو جهة الشرق من الأرض تخرب قبل اليمنى أو الغرب([726])،  وهذا يشهد لما ورد في حديث أبي هريرة: «منعت العراق... منعت الشام... منعت مصر...»، وأيّدنا هذا فيما مضى بقول جابر في «صحيح مسلم»: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم... يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي...»، و«يوشك»؛ معناه: «يسرع»، ففيه معنى الحدوث في الزمان، وذكرها قبل لفظة (خليفة) في آخر الزمان، يؤيّد ويقوي الترتيب، وتكاد تُجمع الآثار على الترتيب المذكور، ولا يوجد فيها ما يخالف ذلك، فضلاً على العموم الوارد في أثر حذيفة هذا، وظفرتُ بحديث وقع التصريح فيه بتأخير الفتن عن (مصر)؛ وهو:

 

ما أخرجه الطبراني في «الأوسط» (9/337-338 رقم 8735) و«الكبير»([727])، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/483) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (45/492-493)-، وابن عبدالحكم في «فتوح مصر» (ص 528 رقم 217 - ط. محمد الحجيري)، والبزار في «مسنده» (6/287 رقم 2311) أو (2/261 رقم 1656 - زوائده: «كشف الأستار»، أو 1/701 رقم 1297 - «مختصر الزوائد»)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (10/3711 رقم 1222) من طريق عبدالله بن صالح، نا أبو شريح، أنه سمع عميرة بن عبدالله المعافري يقول: حدثني أبي، أنه سمع عمرو بن الحَمِق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«تكون فتنة أسلم الناس فيها -أو قال: خير الناس فيها- الجند الغربي»، قال عمرو بن الحمق: فلذلك قدمت عليكم مصر([728]).

 

وعلقه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/314) عن عبدالله بن صالح، به، بلفظ: «ستكون فتنة، خير الناس فيها الجند الغربي».

 

وإسناده ضعيف، فيه عبدالله بن صالح، كاتب الليث بن سعد، صدوق كثير الغلط، ولم ينفرد به، بل توبع عليه.

 

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/448) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (45/492) من طريق ابن وهب([729]): حدثني أبو شريح، عن عمير([730]) بن عبدالله المعافري، عن أبيه، به.

 

وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في «التلخيص».

 

قلت: أبو شريح هو عبدالرحمن([731]) بن شريح، وقع التصريح به عند الفسوي والطبراني والبزار وابن عساكر، وليس هو (ضبارة بن مالك) المجهول، كما عينه الأستاذ حمدي الدمرداشي في تحقيقه لـ«معجم الصحابة» لابن قانع!

 

وعبدالرحمن بن شريح المعافري؛ ثقة من رجال الشيخين.

 

وعميرة بن عبدالله المعافري؛ قال الذهبي في «الميزان» (3/297 رقم 6494): «مصري، لا يُدرى من هو»، وساق هذا الحديث في ترجمته، ولم يزد ابن حجر في «اللسان» (6/237 رقم 5867) عليه شيئاً، وأقرّه، والعجب أن محقق «معجم الصحابة» لابن قانع قال عنه: «مقبول، تقدم في الحديث (14)»! ولم يتقدم، ولا أدري ما هو مستنده في حكمه؟! وله مثله كثير! ولا قوة إلا بالله!

 

وقال البزار: «لا نعلم له طريقاً إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن ابن شريح إلا عبدالله بن صالح»!!

 

وقال الطبراني: «لا يروى هذا الحديث عن ابن الحَمِق إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو شريح»!

 

قال أبو عبيدة: ظفرتُ له بطريق أخرى:

 

أخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة» (3/1116-1117):

 

حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا عبدالله بن وهب، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن عبدالكريم بن الحارث، عمن حدثه، عن عمرو بن الحَمِق الخُزَاعي: أنه قام عند المنبر بمصر -وذاك عند فتنة عثمان -رضي الله عنه-، فقال: أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ستكون فتنة، خيرُ الناس فيها الجند الغزَّى، وأنتم الجند الغُزَّى، فجئتكم لأكون معكم فيما أنتم فيه. قال الليث: فكان معهم في أشرِّ أمورهم.

 

قال أبو عبيدة: كذا فيه: «الغزّى» في الموطنين، وهو خطأ، صوابه: الغربي، وهذا الإسناد ضعيف؛ للإبهام الذي فيه، ويحتمل أن يكون هو المجهول في الإسناد الذي قبله، وسائر رواته ثقات.

 

وأخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/54 رقم 54) عن الوليد، قال: قال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكون فتنة، تشمل الناس كلَّهم، لا يسلم منها إلا الجند الغربي»([732]).

 

ويغني عن هذا المعنى:

 

ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (1925)، وأبو عوانة (5/109-110) وأبو يعلى (783) والشاشي (1/204 رقم 159) والبزار (152 - مسند سعد) أو «البحر الزخار» (رقم 1222) في «مسانيدهم»، والدّورقي في «مسند سعد» (ص 195 رقم 116)، وابن الأعرابي في «معجمه» (1/174و3/586-587 رقم 298، 1156)، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 467)، وأبو العرب في «طبقات علماء إفريقيا» (ص 10)، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (3/740-741 رقم 362)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/95-96) -وقال: «حديث ثابت مشهور»- من طرق عن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة».

 

واختلف الشراح في المراد بأهل الغرب: «قيل: أراد به: غرب الأرض. وهو ظاهر حديث سعد. ورواه عبد بن حميد وبقي بن مخلد: «لا يزال أهل المغرب»، لكن؛ أول المغرب بالنسبة إلى المدينة -مدينة النبي صلى الله عليه وسلم- إنما هو الشام، وآخره: حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى وما بينهما، كلُّ ذلك يقال له: مغرب. فهل أراد المغرب كلَّه، أو أوله؟ كلُّ ذلك محتمل؛ لا جرم قال معاذ في الحديث الآخر: هم أهل الشام. رواه الطبري وقال: هم ببيت المقدس. وقال أبو بكر الطرطوشي في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب، بعد أن أورد حديثاً في هذا المعنى قال -والله تعالى أعلم-: هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أراد بذلك جملةَ أهل المغرب؛ لما هم عليه من التمسُّك بالسُّنَّة والجماعة، وطهارتهم من البِدَع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؟ والله -تعالى- أعلم»([733]).

 

وساق السيوطي رواية عبد بن حميد وبقي بن مخلد، وزاد رواية للدارقطني بلفظ: «في الغرب»، وقال:

 

«قلت: لا يبعد أن يراد بالمغرب «مصر» فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق، وقد روى الطبراني والحاكمُ وصححه عن عمرو بن الحمق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون فتنة، أسلم الناس فيها الجند الغربي». قال ابنُ الحمق: «فلذلك قدمت عليكم مصر». وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في «مسند الصحابة الذين دخلوا مصر»، وزاد فيه: «وأنتم الجند الغربي». فهذه منقبة لمصر في صدر الملة ، واستمرت قليلة الفتن معافاةً طول الملة، لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار، وما زالت معدن العلم والدين، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال، ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر»([734]).

 

قال أبو عبيدة: حفظ الله مصرَ وأهلَها المتَّقين إلى يوم الدين، ولا شك أنّ المراد بـ(الغرب) أصالةً (الشَّام)، وسلامتها هي علامة (خير)، وعافيتها شارة (نصر) للأمة المرحومة، كما صرحت به الأحاديث الكثيرة الشهيرة الصريحة الصحيحة، وألّفت في هذا الباب كثير من المصنفات المفردة المليحة([735]).

 

قال شيخنا أسد السنة، ومحدث العصر الألباني -رحمه الله تعالى- بعد تخريجه حديث سعد بن أبي وقاص السابق، وبيان صحّته ما نصه:

 

«واعلم أن المراد بأهل الغرب في هذا الحديث أهل الشام؛ لأنهم يقعون في الجهة الغربية الشمالية بالنسبة للمدينة المنورة التي فيها نطق -عليه الصلاة والسلام- بهذا الحديث الشريف، وبهذا فسر الحديث الإمام أحمد   -رحمه الله-، وأيده شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة مواضع من «الفتاوى» (7/446 و27/41، 507 و28/531، 552)، وقد أبعد النجعة من فسره من المعاصرين ببلاد (المغرب) المعروفة اليوم في شمال إفريقيا؛ لأنه مما لا سلف له؛ مع مخالفته لإمام السنة وشيخ الإسلام.

 

وإذا عرفت هذا ففي الحديث بشارة عظيمة لمن كان في الشام من أنصار السنة المتمسكين بها، والذابين عنها، والصابرين في سبيل الدعوة إليها. نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم تحت لواء صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم»([736]).

 

قال أبو عبيدة: لا يبعد عندي أنّ (مصر) يتأخر خرابها عن (الشام)؛     -أعني: مَنْعَها إردبَّها ودينارها([737])-، ولم يذكر جابر([738]) (مصر) ألبتة، واقتصر على ذكر (العراق) و(الشام)، وأن (الشام) تخرب بعد منع مصر خيراتها مرة أخرى على وجه فيه ظهور، حتى تشتد الفتن بالمسلمين جدّاً، وحتى يرسل إلى المهدي جيش منها للمقاتلة، وبعد ذلك تعود (العافية) و(الإيمان) للشام، وعلى هذه الفترة تحمل النصوص التي فيها (هلاك العرب)([739])، ولم يبق منهم إلا بقية هم بالشام([740]).

 

قال ابن رجب شارحاً حديث سعد: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق..» ما نصه:

 

«وقد فسّر الإمام أحمد أهل الغرب في هذا الحديث بأهل الشام؛ فإن التشريق والتغريب أمر نسبي، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا بالمدينة، وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ نجد والعراق: أهل المشرق، فكذلك كانوا يسمُّون أهل الشام: أهل المغرب؛ لأن الشام تتغرَّب عن المدينة، كما أنّ نجداً تتشرَّق عنها»، قال:

 

«وقد وردت الأحاديث بأنّ العرب تهلك في آخر الزمان، فلا يبقى منهم بقية إلا بالشام، فيرجع الأمر إلى تفسير الحديث بأهل الشام»([741]) وساق جملة منها.

 

ويستأنس بتأخير مصر بما أخرجه ابن عبد الحكم في «فتوح مصر والمغرب» (ص 95-96 - ط. الحجيري، أو ص 49 - ط. عبدالمنعم عامر)، قال:

 

«حدثنا أبي عبدالله بن عبد الحكم، أبو الأسود، قالا: حدثنا ابن لهيعة، [عن أبي قبيل]([742])، عن عبدالرحمن بن غَنم([743]) الأشعري، ...................... أنه قدم من الشام([744]) إلى عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال له عبدالله بن عمرو([745]): ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: أنت. قال: لماذا؟ قال: كيف تحدثنا أن مصر أسرع الأرضين خراباً، ثم أراك قد اتخذت فيها الرباع، وبنيت فيها القصور، واطمأننت فيها؟!

 

فقال: إن مصر قد أوفت خرابها، حَطَمها بخت نصر، فلم يدع فيها إلا السباع والضباع، وقد مضى خرابها، فهي اليومَ أطيبُ الأرضين تراباً، وأبعده خراباً، ولن تزالَ فيها بركةٌ ما دام في شيء من الأرضين بركة([746]).

 

و(أبو قبيل)؛ هو: حيي بن هانئ المعافري، صدوق يهم، وابن غَنْم من كبار ثقات التابعين، وهذا الإسناد لا بأس به.

 

والشاهد منه: أنّ البركةَ فيها ما زالت في الشام بركةٌ، فإن زالتْ مِنَ الشام ذهبت عنها.

 

والمتأمل في مجموع ما ورد من أحاديث وآثار يتيقّن بما قدمناه، من أن الهلاك يبدأ بالمشرق (أهل العراق)، ثم ينتقل إلى (المغرب) (الشام ومصر)، والذي أُراه أن اقتران خراب (مصر) مع (البصرة)، الوارد في بعض الأخبار([747]) -إن صحت- إنما كان للتداخل الذي يجري في الأحداث عند هلاك (العراق)، فإنه يجعل (العجم) أو (الروم)([748]) يطمعون في (مصر) مطمعهم بـ(الشام)، بعد استيلائهم على خيرات (العراق).

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/248 رقم 710)، قال: حدثنا عبدالقدوس، عن عُفَير بن معدان، عن قتادة، عن أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

 

«أول الخراب بمصر والعراق، فإذا بلغ البناء لسَلْع([749]) فعليك يا أبا ذر بالشام»([750]).

 

وإسناده واهٍ بمرة، عبدالقدوس بن حبيب الكلاعي، كذبه ابن المبارك، وقال الفلاس: أجمعوا على ترك حديثه([751]).

 

وعفير بن معدان ضعيف([752]).

 

ولم ينسبه في «كنز العمال» (5/788 رقم 14388) إلا لنعيم، وقال السيوطي: «وفيه عبدالقدوس، متروك».

 

وأخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/334) عن معمر، عن قتادة، قال: لقي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا ذر وهو يحرك رأسه، فقال: يا رسول الله! أتعجب مني؟ قال: لا، ولكن مما تلقون من أمرائكم بعدي..» وساق حديثاً، في آخره: «واعلم أنّ أسرع أرض العرب خراباً الجناحان: مصر والعراق». وإسناده منقطع، قتادة لم يسمع من أحد من الصحابة، إلا من أنس.

 

وأخرج أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/907-908، 915 رقم 470، 476) بسندٍ فيه مجاهيل إلى عبدالله بن الصامت، قال: خرجتُ أنا وأبيٌّ من المسجد، فقال عبدالله: إنّ أسرعَ الأرَضينَ خراباً البصرةُ ومصرُ. فقلت: وما يخربهما، وفيهما عيون الرجال والأموال؟ فقال: يخربهما القتل الأحمر، والجوع الأغبر، كأني بالبصرة، كأنها نعامة جاثمة([753])، وأما مصر فإن نيلها ينضُب([754]). أو قال: ييبس. فيكون ذلك خرابها»([755]).

 

وأخرج  الديلميُّ من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم:

 

«ويبدأ الخراب في أطراف الأرض حتى تخربَ مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب البصرة، وخراب البصرة من العراق، وخراب مصر من جفاف النيل»، وفيه: «وخراب الأُبُلَّة من الحصار»، وآخره: «وخراب العراق من القحط»([756]).

 

ووجدته معزوّاً للديلمي في «تنزيه الشريعة» (2/351 رقم 19 مختصراً) بلفظ: «خراب الري من قبل الديلم، وخراب الديلم من قبل الأرض»، وقال: «قلت: لم يبيّن علته».

 

وأخرج أبو نعيم في «الحلية» (6/50) بسند حسن عن نوف البكالي، قال: «إنّ الدنيا مُثِّلَتْ على طير، فإذا انقطع جناحاه وقع، وإنَّ جناحَيِ الأرض: مصر والبصرة، فإذا خربتا ذهبت الدنيا».

 

وبنحوه عن إياس بن معاوية([757]) عند: ابن أبي الدنيا في «الإشراف» (رقم 213)، ووكيع في «أخبار القضاة» (1/355)، والدينوري في «المجالسة» (رقم 318) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/192-193)-.

 

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/639 رقم 303) بسند رجاله ثقات عن عبدالله بن عمرو، قال: «ويل للجناحين من الرأس، ويل للرأس من الجناحين». قال شعبة: فقلت: وما الجناحان؟ قال -أي: يعلى بن عطاء-: العراق([758]) ومصر، والرأس: الشام.

 

وإن كان الطمع في العراق يكون بالفرات، فإنما الخراب بمصر يقع بالاعتداء على النيل، كما يكون -أيضاً- بحسر الفرات عن جبل من ذهب، كما هو وارد في الأخبار التي وردت في أحداث ما قبل ظهور المهدي، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى- مفصّلاً لاحقاً، والله المستعان، لا رب سواه.

 

ولا يبعد أن يكون (المنع) الوارد في حديث أبي هريرة يبدأ بـ(القفيز) و(الدرهم) أو (المدي) و(الدينار) أو (الإردب) و(الدينار)، وينتهي بحسر الفرات والعمل على الاعتداء على (النيل)، ويكون ذلك من إرهاصات وأمارات خروج المهدي، وسيأتي لهذا مزيد بيان([759])، مع التنويه على ذكر المهدي في المرفوع([760]) عن جابر بعد ذكره منع العراق والشام القفيز والمدي.

 

فصل

 

في وصول الشر والفتن آخر الزمان كل مكان

 

مما ينبغي ذكره، أن السلف الصالح «كانوا يسمون (البصرة) (هنداً)؛ لأنها من جهة الهند، ومنها يُسلك إلى الهند»([761])، ودليله:

 

ما أخرجه أحمد في «المسند» (4/90)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (2/666 رقم 289)، والطبراني في «الكبير» (4/137 رقم 3841) و«الأوسط» (8/227 رقم 8479)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/115-116)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (3/1743-1744)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (11/ق300 أو 40/310 - ط. دار الفكر) من طرق عن أبي عوانة -وهو: الوضاح بن عبدالله اليشكري- عن عاصم    -وهو: ابن أبي النجود-، وأبو عبيد في «غريب الحديث» (4/29)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/116)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/281 رقم 819)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (3/1743)، وابن عساكر (40/310-311، 312-313) من طريق الأعمش؛ كلاهما عن أبي وائل    -وهو: شقيق بن سلمة-، عن عَزْرَة([762]) بن قيس:

 

عن خالد بن الوليد، قال: كتب إليّ أميرُ المؤمنين حين ألقى الشامُ بَوَانِيَه([763]): بَثْنِيَّةً([764]) ................................................................ وعسلاً -وشك عفانُ([765])، مرة قال: حين ألقى الشامُ كذا وكذا-، فأمرني أن أسيرَ إلى الهند -والهندُ في أنفُسنا يومئذٍ البصرة-، قال: وأنا لذلك كارهٌ، قال: فقام رجلٌ، فقال لي: يا أبا سليمان! اتق الله، فإنَّ الفِتَنَ قد ظهرت. قال: فقال: وابنُ الخطاب حيّ؟! إنما تكون بعدَه، والناسُ بذي بِلِيَّان -أو بذي بِلِّيان([766])- بمكان كذا وكذا، فينظرُ الرجلُ، فيتفكّرُ: هل يجد مكاناً لم ينزل به مثلَ ما نزلَ بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر فلا يجده، قال: وتلك الأيام التي ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بين يَدَي الساعة، أيام الهَرْج». فنعوذ بالله أن تدركنا تلك وإياكم الأيام.

 

قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن عاصم إلا أبو عوانة».

 

وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/307): «رواه أحمد والطبراني في «الكبير» و«الأوسط»، ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف».

 

قلت: يريد: (عَزْرَة البجلي)، وصرح به البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة) (10/191 رقم 9809)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة في «مسنده»، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/279) في (الطبقة الثانية)، وترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (7/65 رقم 299)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (7/21 رقم 109) وسكتا عنه، وقال الحسيني في «الإكمال» (294): «مجهول»، وفاتَ ابنَ حجرَ ترجمَتُه في «تعجيل المنفعة»، وهو على شرطه، وسبب جهالته ما قاله علي بن المديني: «إن أبا وائل -يعني: شقيق بن سلمة- تفرد عن جماعة مجهولين؛ منهم: عزرة بن قيس»([767]).

 

قلت: ذكر البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 348) أنه ولي في خلافة عمر، وغزا شهرزور منها، فلم يفتحها، حتى افتتحها عتبة بن فرقد، ورجل استعمله عمر يُمشَّى حديثه، إذ ما استخدمه إلا وقد بلغ مبلغه في الديانة، وإن لم يشتهر بالرواية.

 

وهذا سند حسن، ولا سيما في المتابعات والشواهد، كما قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (4/249 رقم 1682).

 

وتعجبني جدّاً مقولة ابن حجر في «الفتح» (13/17) عند ذكره (الهرج)، قال: «وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسندٍ حسن...» وساقه.

 

والخبر هذا لا نُكرة فيه، والهرج([768]) المجمل فيه مذكور في «الصحيحين»، وكذا ظهور الفتن، وسائر رواته ثقات رجال الشيخين، وغاية ما فيه أن تابعيّه -وهو من أواسطهم- غير معروف، ومضى معك قولُ الإمام الذهبيِّ الذهبيُّ:

 

«وأما المجهولون من الرواة، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم، احتمل حديثه، وتُلقِّيَ بحُسن الظنّ إذا سَلِمَ من مخالفةِ الأصول وركاكة الألفاظ»([769]).

 

والخبر الذي معنا؛ لا أقول: إنه لا يخالف الأصول، بل فيه ما هو مقرر في العقول في زمن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والغاية من إيراده أمور:

 

الأول: كثرة الخير الذي ظهر من الشام في زمن عمر للمسلمين([770])، وأجرى الله ذلك على يد عبده خالد بن الوليد، ويقول هنا ما معناه: «لما اطمأنّ الشام وهدأ وذهبت شوكته، وسكنت الحرب منه، وصار ليناً، لا مكروه فيه، فإنما هو خِصب كالحنطة والعسل عزلني عمر، واستعمل غيري»([771]).

 

ويدلك على هذا لفظ الأعمش؛ وهو: «إن عمر بعثني إلى الشام وهي بهمة».

 

الثاني: إن الهند كانت في نفوسهم البصرة، وبه تفهم سائر الأحاديث الواردِ فيها ذكرُ (الهند).

 

الثالث: الفتن ظهرت في زمن الصحابة، ولكن الذي يموج منها موج البحر يكون بعد وفاة عمر، وسبق تفصيل وتأصيل وتدليل هذا، ولله الحمد والمنة.

 

الرابع -وبيت القصيد-: إن الفتن آخر الزمان ستشتد، وتظهر بجلاء في جميع البلدان، «فينظر الرجل، فيتفكر: هل يجد مكاناً لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو فيه من الفتنة والشر، فلا يجده»، ويكون هذا وهم (بذي بليان)؛ أي: وهم طوائف وفرق من غير إمام، كما قدمناه، وإن كان خالد قد تعوذ أن تدركه تلك الأيام، فوالله إنا نعيشها ونحسّ بها، فنعوذ بالله من الخذلان، أو أن نردّ على أعقابنا، أو أن نفتن.

 

نعم؛ الفتن تظهر آخر الزمان على هيئة أمواج (تجيء) و(تنكشف)([772])، وهذه الأمواج لها أماكن، تكاد لا تسلم منها محلّة، ولكن ارتطامها المباشر يكون في بلدان معيّنة، وتبدأ بالمشرق، ثم تتحوّل إلى المغرب، وعندئذٍ تكون بدايات وإرهاصات الملاحم التي تسبق خروج المهدي.

 

أخرج البخاري في «التاريخ الكبير» (1/63)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/263 رقم 749)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/73 رقم 1389) -ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/2146 رقم 5385)-، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (7/63)، والطبراني في «المعجم الكبير» (17/187 رقم 502)، وابن عبدالبر في «الاستيعاب» (3/138-139 - بهامش «الإصابة»، أو 3/179 - ط. دار الكتب العلمية) من طريق حريز بن عثمان، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/265 رقم 758)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3/73 رقم 1388)، والطبراني([773]) في «الكبير» (17/187 رقم 501)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/2146 رقم 5384) من طريق صفوان بن عمرو. ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/263 رقم 748) من طريق أرطاة بن المنذر؛ ثلاثتهم عن الأزهر([774]) بن عبدالله، عن عصمة بن قيس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتعوّذ في صلاته من فتنة المغرب، لفظ حريز.

 

ولفظ صفوان: «أنه كان يتعوذ بالله من فتنة المشرق. فقيل له: كيف فتنة المغرب؟ قال: تلك أعظم وأعظم».

 

ولفظ أرطاة: «تلك أعظم وأطمّ».

 

قال الهيثمي في «المجمع» (7/220): «رجاله ثقات».

 

قلت: فيه أزهر الهوزني، شامي، ذكره ابن حبان (4/39) في (ثقات التابعين)، وعده أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (1/185 رقم 50) من (الصحابة)، وأسند برقم (128) من طريق مبشر بن إسماعيل عن جرير([775])، عن أبي الوليد أزهر بن قيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ في صلاته من فتنة المغرب.

 

وقال: «لا أعلم له غيره».

 

وأخرجه ابن شاهين -ومن طريقه أبو موسى في «الذيل»-: حدثنا عبدالله بن محمد البغوي، به. أفاده ابن حجر في «الإصابة» (1/228).

 

وترجم ابن عبدالبر في «الاستيعاب» (1/74) لأزهر بن قيس، وقال: «لم يرو عنه غير حريز بن عثمان -فيما علمت-، حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم([776]) أنه كان يتعوذ في صلاته من فتنة المغرب، لا أعلم له غيره»، وتابعه الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» (1/13 رقم 85)، وهذا وهم سببه سَقْطٌ في طريق البغوي، وتابعه عليه الآخرون، حتى الذهبي! وكشف ابن حجر في «الإصابة» (1/228-229 رقم 516) عن هذا الوهم وترجم (أزهر بن قيس) في (القسم الرابع)([777])، وقال:

 

«وقد تم الوهْمُ عليهم فيه جميعاً؛ وسببه أن الإسناد الذي ساقه البغوي سقط منه والدُ أزهر، واسم الصحابي، وبقي اسمُ أبيه، فتركيب هذه الترجمة من اسم أزهر ومن اسم والد أزهر، واسم الصحابي؛ ولا وجود لذلك في الخارج، وتبع البغوي ابن شاهين، وبقيَّة مَن جاء بعده من غير تأمُّل.

 

وإيضاح ذلك، أن حريز بن عثمان إنما رَوَى الحديث المذكور عن أزهر ابن راشد، وقيل: ابن عبدالله الهوزني، عن عصمة بن قيس، عن النبي     صلى الله عليه وسلم([778])(!!)، قال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا علي بن عيّاش، قال: حدثنا حريز ابن عثمان، عن أبي الوليد أزهر الهَوزني، عن عصمة بن قيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتعوّذ بالله من فتنة المغرب.

 

ورواه ابن سعد عمن أخبره، عن أبي اليمان، عن حريز.

 

وكذا رواه البخاري في «تاريخه» عن أبي اليمان. ورواه ابن أبي عاصم والطبراني وأبو نعيم من طريق إسماعيل بن عياش، عن حريز بن عثمان، عن أزهر بن عبدالله، عن عصمة بن قيس.

 

ويزيد ذلك وضوحاً، أن البخاري وغيره لما ذكروا ترجمة أزهر الهوزني، عرّفوه بأنه يروي عن عصمة بن قيس، وأن حريز بن عثمان يَرْوِي عنه.

 

قال البخاري: أزهر أبو الوليد الهوزني روى عن عصمة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه حريز.

 

وقال ابن أبي حاتم: أزهر بن راشد أبو الوليد الهوزني روى عن عصمة ابن قيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل عن ابن عباس، وسمع من سليم بن عامر. روى عنه حريز بن عثمان وغيره.

 

وقال ابن حبان في (ثقات التابعين): أزهر أبو الوليد الهوزني يروي عن رجل من الصحابة، روى عنه حريز بن عثمان.

 

فوضَح بهذا أن أزهر بن قيس لا وجودَ له في الخارج».

 

قلت: والشاهد أن الفتن تشتد آخر الزمان، وتزيد الصادق المخلص تألّماً وتوجّعاً، لما يترتب على انتشارها من غربة الإسلام والمسلمين، كما هو مُشاهدٌ الآن لكل مسلم في كل مكان، ولا قوة إلا بالله.

 

فصل

 

في الأخبار السابقة، هل مضت وانتهت؟

 

ظهر لنا من خلال ما مضى، أن الأخبار الواردة في الفتن، ذكرت العراق بعامة، والبصرة والكوفة بخاصة، وأن فتنة التتر والمغول التي قد ظهرتْ سابقاً، قد حملها العلماء على حديث: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، ...»([779]).

 

وهذا أمر مشهور عندهم، سبق أن نقلناه([780]) عن ابن تيمية وابن حجر والنووي.

 

ونزيد هذا الأمر وضوحاً، فنقول:

 

أولاً: ليست كل الأحاديث والآثار السابقة مضت وانتهت([781])، بل في بعضها مؤيِّدات ومرجِّحات إلى عدم وقوعها بعد، ولا سيما حديث: «منعت العراق...»، فإنه -فيما يبدو لي- لا صلة له بما مضى من فتنة المغول والتتر، وسيأتي لهذا مزيد بيان في فصل خاص.

 

ثانياً: لا شك أن لفتنة المغول والتتر صلة بحديث وأخبار سبقت، وتكاد تُجمِعُ كلمة العلماء (مؤرخين وشراح حديث) على ذلك، ونخص الفصل الآتي لنقولاتهم وكلامهم على اختلاف أعصارهم وأمصارهم.

 

ثالثاً: ما قيل سابقاً في الأحاديث يقال -أيضاً- في الآثار؛ فإنّ بعضها قد ظهر بعد زمانهم بمدة يسيرة، وبعضها لم يظهر، ويعجبني ما قاله أبو أحمد الحسن بن عبدالله العسكري (ت 382هـ) في كتابه «تصحيفات المحدثين» (1/82-83):

 

«سمعتُ شيخاً من شيوخ البصرة يحكي ولم يذكر إسناداً، قال: غَبَر المحدثون بالبصرة زماناً يروون، أن عليّاً -رضي الله عنه- قال: «ألا إن خراب بصرتكم هذه يكون بالريح». فما أقلعوا عن هذه التصحيفة إلا بعد مئتي سنة، عند معاينتهم أمر الزّنج».

 

قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (3/28): «دخل الزِّنج البصرة وقت الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومئتين، فأقاموا على القتل والإحراق ليلة السبت ويوم السبت، ثم عادوا لها يوم الإثنين، فدخلوها وقد تفرق الجند وهربوا، فنادَوْا بالأمان، فلما ظهر الناس قتلوهم، فلم يسلم منهم إلا النادر، واحترق الجامع ومن فيه»([782]).

 

قال البرزنجي في «الإشاعة» (ص 87 - ط. دار الهجرة):

 

«وفي أيام المعتمد في سنة ست وستين ومئتين دخلت الزنج البصرة وأعمالها وخربوها، وبذلوا السيف وسبوا وهم من الخوارج الذين قتلهم أمير المؤمنين عليّ، وأعقب ذلك الوباء العظيم فمات خلق كثير لا يحصون، ثم أعقبه هزات وزلازل فمات تحت الردم ألوف من الناس، واستمر القتال مع الزنج إلى سنة سبعين.

 

قال الصولي: إنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مئة آدمي، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاث مئة ألف، وكان له منبر في بلده يصعد عليه يسب عثمان وعليّاً ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة، وكان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة، وكان عند الواحد منهم العشرين من العلويات يستخدمهن، فقتل اللعين رئيس الزنج سنة سبعين، وكان اسمه يهبود، وكان يدّعي أنه أُرسِل إلى الخلق؛ فردَّ الرسالة، وإنه مطلع على المغيبات، ووقع في زمنه غلاء مفرط بالحجاز والعراق، وبلغ كُرُّ الحنطة ببغداد بمئة وخمسين ديناراً، والكُرّ ستة أحمال الحمير والبغال واثنا عشر وَسْقاً، وفي أيامه انبثق في نهر عيسى بَثْقٌ، فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف درهم، وفي زمنه ظهرت القرامطة بالكوفة، وهم نوع من الملاحدة وهم الباطنية يدّعون أنه لا غسيل من الجنابة، وأن الخمر حلال، وأن الصوم في السنة يومان، ويزيدون في أذانهم محمد ابن الحنفية رسول الله، وأن الحج والقبلة إلى بيت المقدس، وأشياء أُخر».

 

وأسند ابن المقرئ في «معجمه» (ص 353/رقم 1172) إلى ذي النون المصري الزاهد، قال -وأومأ إلى موضع بمصر-: «كأنك عن قليل ترى هذه المدينة عامرة، ويخرج منها الخيل المحذفة وقوم من عجم، وعن قليل تراها خراباً»، وعقبه: «قال أبو الحسن: ورأيناها عامرة، ورأيناه خراباً».

 

فصل

 

في فتنة التتر والمغول

 

فتنة المغول والتتر من أعظم الفتن التي اجتاحت المسلمين، فقد قُوِّضَتْ بسببها الخلافةُ العباسية سنة 656هـ، واستحلوا بغداد، وأبادوا خضراءها، واستحلوا بيضتها، وفعلوا فيها ما لا يمكن وصفه، ثم فعلوا نحواً من ذلك في حلب، وأخذوا دمشق سهلة سائغة، ثم فعلوا مثل ذلك في مصر -أيضاً-، حتى أمكن الله منهم في عام (658هـ) في موقعة (عين جالوت) على يد المظفر قطز بن عبدالله المعزي، وقائد جيشه الظاهر بيبرس، فلم ينج منهم إلا من وَلّى الأدبار، واختفى عن الأنظار.

 

قال ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية»([783]) في حوادث سنة (ست وخمسين وست مئة) ما نصُّه:

 

«فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.

 

استهلّت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صُحبةَ الأميرين اللذَيْن على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكوقان([784])، وجاءت إليهم أمدادُ صاحبِ الموصل يساعدونَهم على البغاددة ومِيرَتُه وهداياه وتحفُه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعةً لهم -قبحم الله تعالى-، وقد سُتِرَت بغداد، ونُصبت فيها المجانيقُ والعَرَّادَاتُ وغيرُها من آلات الممانعة التي لا تَرُدُّ من قدر الله -سبحانه وتعالى- شيئاً، كما ورد في الأثر: «لن يُغنِيَ حَذَرٌ من قَدَر»([785])، وكما قال -تعالى-: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّر} [نوح: 4]، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوم حَتى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهم وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بقوم سُوءاً فلا مَرَدَّ له وما لَهُم مِن دُونه مِن وَال} [الرعد: 11].

 

وأحاطت التتارُ بدار الخلافة يرشقونها بالنُّشَّاب من كل جانب، حتى أصيبت جاريةٌ كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جملة الحظايا، وكانت مُوَلَّدةً تُسمى عرفةَ، جاءها سهمٌ من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفةُ من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهمَ الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدرِه سلبَ ذوي العقول عقولَهم.

 

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرةِ الستائر على دار الخلافة، وكان قدوم هولاكوقان بجنوده كلِّها -وكانوا نحواً من مئتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عَشَرَ المُحَرَّمِ من هذه السنة، وهو شديدُ الحَنَق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدّره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكوقان لما كانَ أولُ بروزِه من هَمَذان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مُؤَيِّدُ الدِّين محمد بنُ العَلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِية؛ ليكون ذلك مداراةً عما يريده من قصد بلادهم، فخذَّل الخليفة عن ذلك دُوَيْدارُه([786]) الصغيرُ أَيْبَك وغيرُه، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث إليه بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا، فاحتقرها هولاكوقان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دُوَيْدارَه المذكورَ، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالى به حتى أزِف قدومُه، ووصل إلى بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يُؤمِن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجنودُ بغداد في غاية القلة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغون عشرةَ آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقيةُ الجيش كلُّهم قد صُرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثيرٌ منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كلُّه عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب شديدة، نُهبت فيها الكَرْخُ مَحَلَّةُ الرافضة، حتى نُهبت دورُ قَرابات الوزير، فاشتد حنقُه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يُؤَرَّخْ أشنعُ منه منذ بُنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات([787])، ولهذا كان أولَ من برز إلى التتار هو، فخرج في أهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكوقان -لعنه الله تعالى-، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفةُ إلى أن خرج في سبع مئة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوقان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونُهبت، وقُتلوا عن آخرهم، وأُحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنه اضطرب كلامُ الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجا نصيرٌ الطوسي -لعنة الله عليه-، والوزير ابن العلقمي وغيرُهما، والخليفةُ تحت الحَوْطة والمصادرة، فأحضَر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحُلِي والمَصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأُ من الرافضة     -لعنة الله عليهم- وغيرُهم من المنافقين على هولاكوقان أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعود الأمرُ إلى ما كان عليه قبل ذلك.

 

وحسّنوا له قتلَ الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكوقان أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزيرُ ابن العلقمي والنصيرُ الطوسيُّ، وكان النصير عند هولاكوقان قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الأَلْموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينتسبون إلى نزار بن المستنصر العُبَيدي، وانتخب هولاكوقان النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكوقان وتهيَّب من قتل الخليفة هوّن عليه الوزيران ذلك، فقتلوه رَفْساً وهو في جُوالق؛ لئلا يقع إلى الأرض شيءٌ من دمه، خافوا أن يُؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل: بل خنقٌ. ويقال: غُرِّق. فالله أعلم. فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاد بغداد، ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشُّبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقُنِيّ([788]) الوسخ، وكمَنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الفئام من الناس يجتمعون في الخانات، ويُغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتارُ إمّا بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المكان، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجريَ الميازيبُ من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحدٌ سوى أهلِ الذمة من اليهود والنصارى، ومَنِ التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٍ من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلِموا وسلِمت أموالهم، وعادت بغداد بعدما كانت آنَسَ المدنِ كلِّها كأنها خرابٌ ليسَ فيها أحدٌ إلا القليلُ من الناس، وهم في خوف وجوع وذِلّة وقِلة.

 

وكان الوزير ابنُ العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الدِّيوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مئة ألف مقاتل، فيهم من الأمراء مَن هو كالملوك الأكابر، فلم يَزَل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق إلا عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وجلَّى لهم حقيقةَ الحال، وكشف لهم ضعفَ الرجال، وذلك كلُّه طمعاً منه أن يُزيل السُّنَّةَ بالكلية، وأن يُظهِرَ البدعةَ الرافضية، وأن يقيم خليفةً من الفاطميّين، وأن يُبيد العلماءَ والمُفتِين، واللهُ غالبٌ على أمره، وقد ردَّ كيدَه في نحره، وأذلَّه بعد العزة القَعساء([789])، وجعله حوشكاشاً للتتار بعد ما كان وزيراً للخلفاء، واكتسب إثمَ من قُتل بمدينة بغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكمُ لله العليِّ الكبير ربِّ الأرض والسماء.

 

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريبٌ مما جرى على أهل بغداد، كما قصَّ اللهُ -تعالى- علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً . فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} [الإسراء: 4-5] الآيات.

 

وقد قتل من بني إسرائيل خلقٌ من الصُّلحاء، وأُسِر جماعةٌ من أولاد الأنبياء، وخُرِّب بيتُ المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزُّهَّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه، واهيَ البناء.

 

وقد اختلف الناسُ في كمية من قُتل ببغداد من المسلمين؛ فقيل: ثمان مئة ألف. وقيل: ألفُ ألف وثمانُ مئة ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم العلي العظيم.

 

وكان دخولُهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلَها أربعين صباحاً، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفَى قبرُه، وكان عمره يومئذ ستّاً وأربعين سنةً وأربعةَ أشهرٍ، ومدة خلافته خمسَ عشْرةَ سنة وثمانيةُ أشهرٍ وأيامٌ، وقُتل معه ولدُه الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قُتل ولدُه الأوسط أبو الفضل عبدُالرحمن، وله ثلاثٌ وعشرون سنة، وأُسر ولدُه الأصغر مبارك، وأُسرت أخواته الثلاث؛ فاطمة وخديجة ومريم، وأُسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألفَ بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

وقُتل أُستاذُدار([790]) الخلافة الشيخُ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدوَّ الوزير، وقُتل أولاده الثلاثة؛ عبدُالرحمن، وعبدُالله، وعبدُالكريم، وأكابرُ الدولة واحداً بعد واحد، منهم الدُّوَيْدارُ الصغير مجاهد الدين أيْبَك، وشهابُ الدين سليمان شاه، وجماعةٌ من أمراء السُّنَّةِ وأكابرِ البلد.

 

وكان الرجلُ يُستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرجُ بأولاده ونسائِه وجواريه، فيُذهَبُ به إلى مقبرة الخلاّل، تُجاهَ المَنْظَرَة، فيُذبح كما تُذبح الشاةُ، ويُؤسَرُ من يختارون من بناته وجواريه.

 

وقُتل شيخُ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النَّيَّار، وقُتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطّلت المساجدُ والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزيرُ ابن العلقمي -قبحه الله ولعنه- أن يُعطل المساجد والجوامع والمدارس والرُّبُطَ ببغداد، ويستمرَّ بالمشاهدِ ومحالِّ الرفض، وأن يبنيَ للرافضة مدرسةً هائلة ينشرون علمهم وعَلَمَهم بها وعليها، فلم يُقْدِرْه الله -تعالى- على ذلك، بل أزال نعمته عنه، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا -والله أعلم- في الدرك الأسفل من النار.

 

ولما انقضى أمدُ الأمر المقدور، وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنتِ البلدُ من جيفهم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدّى وسرَى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

ولما نُودي ببغداد بالأمان خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقُنِيِّ والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من القبور، وقد أنكر بعضُهم بعضاً، فلا يعرف الوالدُ ولدَه ولا الأخُ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا ولحقوا بمن سلف من القتلى، واجتمعوا في البِلَى تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

 

وكان رحيل السلطان المُسَلَّطِ هولاكوقان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوَّض أمر بغداد إلى الأمير علي بَهادُر، فوّض إليه الشِّحْنَكِيَّةَ([791]) بها وإلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي، فلم يُمهله الله ولا أهمله بعد، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلةٌ في الإنشاء، ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيّاً جلداً خبيثاً رافضيّاً، فمات كمداً وغمّاً وحزناً وندماً، إلى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعَم([792])، فَوَلِيَ بعده الوزارةَ ولدُه عزُّ الدين أبو الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.

 

وذكر أبو شامة وشيخُنا أبو عبدالله الذهبيُّ وقُطب الدين اليونينيُّ([793])، أنه أصاب الناسَ في هذه السنة بالشام وباءٌ شديد، وذكروا أن سببَ ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدَّى إلى بلاد الشام. فالله أعلم».

 

وهذا البيان فيه الهلاك العام، والمصيبة العظمى التي حلّت بالمسلمين، ونحوه كثير في كتب التاريخ، ولا سيما تلك التي أُفردت بخصوصِ هذه الواقعة([794])، ......................................................................  وراقم هذه السطور يرغب في إجراء دراسة تحليلية([795]) لما جرى آنذاك، وعرضِها مع ما ورد من صفات (بني قنطوراء) في الآثار الصحيحة المتقدمة، لنرى دقّة التطابق بين ما يذكره شراح الحديث -وستأتي أقوالهم في الفصل الآتي- وبين ما هو واقع من التتر والمغول.

 

ومن الجدير بالذكر هنا أمور:

 

أولاً: وردت في بعض الحوادث صفاتٌ تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرُها إنما هي في هذه الفتنة، منها ما ذكره صاحب كتاب «الحوادث»([796]) (حوادث سنة ست وخمسين وست مئة)، قال ما نصه:

 

«ذكرنا في سنة خمس وخمسين مسير السلطان هولاكوقان من بلاده نحو بغداد، وأنه أمر الأمير بايجو بالمسير إلى إرْبل وأن يعبر دجلة ويسير إلى بغداد من الجانب الغربي، ففعل ذلك، فلما بلغ الخليفة وصوله تقدم إلى الدُّويدار الصغير مجاهد الدين أيْبَك وجماعة من الأمراء بالتوجه إلى لقائه، فعبروا دجلةَ، فلما تجاوزوا قنطرة باب البصرة([797]) بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر، فالتقوا واقتتلوا يوم الأربعاء تاسع المحرم، فانكسرت عساكر المغول قصداً وخديعة، فتبعهم الدُّويدار وقتل منهم عدة كثيرة وحمل رؤوسهم إلى بغداد، وما زال يتبعهم بقية نهاره، فأشار عليه الأمير فتح الدين بن كُرّ([798]) بأن يثبت مكانه ولا يتبعهم، فلم يصغ إليه، فأدركه الليل وقد تجاوز نهر بشير بين دُجَيْل، فباتوا هناك.

 

فلما أصبحوا حَمَلت عليهم عساكر المغول وقاتلوهم قتالاً شديداً، فلم يثبت عساكر الدويدار، فانكسروا وكَرُّوا  راجعين إلى بغداد، فوجدوا نهر بَشِير قد فاض من الليل وملأ الصحراء، فعجزت الخيول عن سلوكه ووحلت فيه، فلم يخلص منه إلا من كانت فرسه شديدة، وألقى معظم العسكر نفسَه في دجلة فهلك منهم خلق كثير، ودخل من نجا منهم بغداد مع الدُّويدار على أقبح صورة، وتبعهم الأمير بايجو وعسكره يقتلون فيهم، وغنموا سوادهم وكل ما كان معهم، ونزلوا بالجانب الغربي، وقد خلا من أهله، فشرعوا بالرمي بالنشاب إلى الجانب الشرقي، فكانت السِّهام تصل إلى الآدُر الشَّطَّانية، وكان الخليفة جالساً في رواقه وبين يديه صغيرة من مولّدات العرب تسمى «عَرَفة»، كانت مُدَلَّلة مطبوعة مضحكة، فأصابها سهم دخل من بعض الشبابيك فقتلها، فانزعج الخليفةُ لذلك، وأحضر السهمَ بين يديه، فإذا عليه مكتوب: «إذا أراد اللهُ أن يُنفِذَ قضاءَه سَلَبَ ذوي العقول عقولَهم»، فأمر عند ذلك بعمل ما يحول بين شبابيك الدَّار وبين الرُّماة، فعملت ستائر من ألواح الخشب.

 

وأما السلطان هولاكوقان فإنه وصل إلى ظاهر بغداد في ثاني عشر المحرم في جيش لا يُحصى عدده ولا ينفذ مَدَده، وقد أُغلقت أبواب السُّور، فعرف بذلك ضعفهم عن لقائه، فأمر بحفر خندق، فحُفر وبُني بترابه سور محيط ببغداد وعُمل له أبواب ورُتّب عليها أمراء المغول، وشَرَعوا في عمل ستائر للمناجيق، ونصبوا مجانيق والعَرَّادات، واستظهروا غايةَ الاستظهار، والناسُ يُشاهدون ذلك من السور، وقد نصبوا -أيضاً- عليه المجانيق إلا أنها لم تصح ولا حصل بها انتفاع، ثم إن السلطان أمر بعقد جسر تحت بغداد ليمنع من ينحدر إلى واسط، فعُقِد تحت قرية العقاب([799])، ولم يعلم أهل بغداد به، فكانت السُّفن تصل إليه فيُؤخذ مَن بها، ويقتل، فقتل عنده خلق كثير، فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم، خرج الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي إلى خدمة السلطان في جماعة من مماليكه وأتباعه، وكانوا ينهون الناس عن الرَّمي بالنشاب ويقولون: سوف يقع الصلح -إن شاء الله- فلا تحاربوا.

 

هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي، وقد اجتمع منهم خلق كثير على بُرج العَجَمي([800]) ........................................................... الذي عن يمين باب سور الحَلبة([801])، ونصبوا عليه المجانيق، وواصلوا الرمي بالحجارة، فهدموا وصعدوا على السور في اليوم الحادي والعشرين من المحرم، وتمكنوا من البلد، وأمسكوا عن الرمي، وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشري([802]) من المحرم.

 

وقال للخليفة: قد تقدَّم السلطان أن تخرجَ إليه.

 

فأخرجَ ولدَه الأوسط -وهو: أبو الفضل عبدالرحمن- في الحال، فلم يقع الاقتناع به، فخرج الخليفة والوزير في يوم الإثنين ثامن عِشْري المحرم ومعه جمع كثير، فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه، وأفردوا له خيمة وأُسكن بها، وخرج مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير، وشهاب الدين سليمان شاه وسائر الأمراء في أول صفر، وخرج ابن الخليفة الأكبر أبو العباس أحمد يوم الجمعة ثاني صفر، ثم دخل الخليفة بغداد يوم الأحد رابع صفر ومعه جماعة من أمراء المغول وخواجه نصير الدين الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملةً عظيمة، ثم عاد مع الجماعة إلى ظاهر السور بقية ذلك اليوم، فأمر السلطان بقتله، فقُتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر، ولم يهرق دمه، بل جُعل في غراراة ورُفِسَ حتى مات، ودُفن وعُفي أثر قبره، وكان قد بلغ من العمر ستّاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً.

 

ثم قُتل ولده أبو العباس أحمد، وكان مولده سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وله من الأولاد: أبو الفضل محمد، ورابعة وهي التي تزوج بها خواجه هارون ابن الصاحب شمس الدين الجُويني، ومولدها يوم عيد النحر سنة خمس وخمسين، وأختها ست الملوك.

 

ثم قُتل ابن الخليفة الأوسط أبو الفضل عبدالرحمن، ومولده سنة ثلاث وثلاثين، وله من الأولاد: أبو القاسم محمد، وبنت واحدة.

 

وأما ولد الخليفة الأصغر مُبارك وأخواته فاطمة وخديجة ومريم فإنهم لم يقتلوا، بل أسروا.

 

ثم عُيّن على بعض الأمراء فدخل بغداد ومعه جماعة ونائب أستاذ الدار ابن الجوزي، وجاءوا إلى أعمام الخليفة وأنسابه الذين كانوا في دار الصَّخْر ودار الشجرة، وكانوا يُطلبون واحداً بعد واحد، فيخرج بأولاده وجواريه، فيُحمل إلى مقبرة الخلاّل([803]) التي تجاه المنظرة([804]) فيُقتل، فقُتلوا جميعهم عن آخرهم.

 

ثم قُتِل مجاهدُ الدين أيبك الدُّويدارُ الصغير، وأمير الحاج فَلَك الدين محمد ابن علاء الدين ألطبرس الدُّويدار الكبير، وشهاب الدين سليمان شاه ابن برجم، وفَلَك الدين محمد بن قَيْران الظَّاهري، وقُطب الدين سَنْجر البَكْلكي الذي كان شِحْنة بغداد وحج بالناس عدة سنين، وعز الدين أبقرا شحنة بغداد -أيضاً-، ومحيي الدين ابن الجوزي أستاذ الدار وولده جمال الدين عبدالرحمن، وأخوه شرف الدين عبدالله، وأخوه تاج الدين عبدالكريم، وشيخ الشيوخ صدر الدين علي بن النَّيّار، وشَرَف الدين عبدالله ابن أخيه، وبهاء الدين داود بن المختار، والنَّقيب الطاهر شمس الدين علي بن المختار، وشرف الدين محمد بن طاوس، وتقي الدين عبدالرحمن ابن الطَّبّال وكيل الخليفة.

 

وأُمر بحمل رأس الدويدار، وابن الدويدار الكبير، وسليمان شاه إلىالموصل، فحُمِلت وعُلِّقت ظاهر سور البلد.

 

ووضع السيف في أهل بغداد يوم الإثنين خامس صفر وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب، واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب، مدة أربعين يوماً، فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل، ما عدا النصارى فإنهم عُيّن لهم شِحَانٌ حرسوا بيوتهم، والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندهم، وكان ببغداد جماعة من التجار الذين يسافرون إلى خراسان وغيرها، قد تعلّقوا من قبل على أمراء المغول وكُتِب لهم فَرامين، فلما فُتحت بغداد خرجوا إلى الأمراء، وعادوا ومعهم من يحرس بيوتهم والتجأ إليهم     -أيضاً- جماعة  من جيرانهم وغيرهم فسلموا، وكذلك دار الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، فإنه سلم بها خلق كثير، ودار صاحب الديوان ابن الدَّامَغاني، ودار حاجب الباب ابن الدَّوامي، وما عَدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيه أحد إلا من مَن كان في الآبار والقَنَوات.

 

وأُحرِقَ معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره، واستولى الخَراب على البلد، وكانت القتلى في الدُّروب والأسواق كالتُّلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول، فاستحالت صُورهم وصاروا عبرة لمن يَرَى، ثم نودي بالأمان، فخرجَ من تَخَلَّف وقد تَغَيَّرت ألوانهم، وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يُعَبَّر عنها بلسان، وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد.

 

وأما أهل الحلة والكوفة فإنهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وما قدروا عليه من أموالهم، وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العَلَوي إلى حضرة السلطان وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم، وعَيَّن لهم شِحْنَةً فعادوا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح من الناس يُعَرِّفونهم ذلك، فحضروا بأهلهم وأموالهم، وجمعوا مالاً عظيماً، وحملوه إلى السلطان، فتصدق عليهم بنفوسهم.

 

وأما واسط؛ فإن الأمير بغاتمر انحدر إليها بعساكره، وانتهى فيها إلى قَريب البصرة، فقتل ونَهَب وسَبَى، وكان الولاة والنُّقباء وأكبار الناس قد انحدروا بأهلهم وأموالهم إلى البصرة والبطائح فَسَلِموا.

 

قيل: إنَّ عدة القتلى ببغداد زادت على ثمان مئة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القني والآبار وسراديب الموتى جوعاً وخوفاً، ووقع الوباء فيمن تخلَّف بعد القتل من شم روائح القتلى وشُرب الماء الممتزج في الجِيَف. وكان الناس يُكثرون من شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذُّباب فإنه ملأ الفضاء، وكان يسقط على المطعومات فيفسدها، وكان أهل الحلة والكوفة والسِّيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة، فانتفع الناسُ بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة والصُّفر المُطَعَّم وغيره من الأثاث بأوهى قيمة، فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم.

 

ورحل السلطان من بغداد في جُمادى الأولى عائداً إلى بلاده ومقر ملكه، وفوّض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها، وإلى الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، وصاحب الديوان فخر الدين ابن الدَّامَغاني، ونجم الدين أحمد بن عِمران وهو من أهل باجِسرى كان يخدم في زمن الخليفة عاملاً، فاتصل الآن ببعض الأمراء، وحَضَر بين يدي السلطان، وأنهى إليه من حال العراق ما أوجب تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية؛ وهي الخالص وطريق خُراسان والبَنْدَنيجين، وأن يتفق مع الوزير وصاحب الدِّيوان في الحكم ولُقِّب المَلِك، ونجم الدين عبدالغني بن الدَّرْنوس، وشرف الدين العَلَوي المعروف بالطَّويل. وكان تاج الدين علي ابن الدَّارمي حاجب الباب قد خرج مع الوزير إلى حضرة السلطان، فأمر له أن يكون صَدْرَ الأعمال الفُراتية، فلم تطل مدته وتوفي في ربيع الأول، فجعل ولده مجد الدين حسين عوضه. وحضر أقضى القضاة نظام الدين عبدالمنعم البَنْدَنيجي بين يدي السلطان، فأمر بأن يُقَرَّ على القضاء.

 

فلما عاد الوزير والجماعة من خدمة السلطان قرروا حالَ البلاد، ومهَّدوا قواعدَها وعينوا بها الصدور والنُّظار والنُّواب، فعينوا سراج الدين ابن البَجَلي([805]) في الأعمال الواسطية والبَصْرية، ونجم الدين بن المُعين صدر الأعمال الحِلّية والكوفية، وفخر الدين مبارك ابن المُخَرِّمي صدر دُجَيْل والمُسْتَنصري، وعز الدين بن أبي الحديد كاتب السلة، فلم تطل أيامه وتوفي، فرُتِّب عوضه ابن الجمل النصراني، وعزَّ الدين ابن الموسوي العَلوي نائب الشرطة، والشيخ عبدالصمد بن أبي الجيش إمام مسجد قُمْرية خازن الديوان، ورتبوا في جميع الأعمال نُواباً وشرعوا في عمارتها.

 

فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد ابن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة، ودُفن في مشهد موسى بن جعفر -عليه السلام-، فأمر السلطان أن يكون ابنُه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده، ووصل الأمير قَرَاغا بعد ذلك إلى بغداد، وعَيَّنَ عماد الدين عمر بن محمد القزويني نائباً عنه، فكان يحضر الديوان مع الجماعة وكان ذا دين ومروءة، عَيَّنَ علي شهاب الدين بن عبدالله صدراً في الوقوف، وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة، وكان قد أُحرق كما ذكرنا، ثم فتح المدارس والرُّبط، وأثبت الفقهاء والصوفية وأدرَّ عليهم الأخباز والمشاهرات، وسُلِّمَت مفاتيح دار الخليفة إلى مجد الدين محمد ابن الأثير، وجُعل أمر الفرّاشين والبوّابين إليه، وتقدم للجاثليق بسُكنى دار علاء الدين ألطبرس الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها، ودق الناقوس على أعلاها، واستولى على دار الفلك التي كانت رباطاً للنساء تجاه هذه الدار المذكورة، وعلى الرِّباط البشيري المجاور لها، وهَدَم الكتابة التي كانت على البابين، وكتب عوضها بالسّرياني!».

 

ولقد قال الشعراء في واقعة بغداد أشعاراً كثيرة([806])، منها ما قاله شمس الدين محمد بن عُبيدالله الكوفي الواعظ([807]):

 

بانُوا ولي أدمعٌ في الخَدّ تَشتَبكُ

 

 

 

ولوعةٌ في مجال الصَّدْر تَعتَركُ

 

بالرُّغم لا بالرِّضا مني فراقُهم

 

 

 

ساروا ولم أدر أيَّ الأرض قد سَلَكوا

 

يا صاحبي ما احتيالي بعد بُعدِهِمُ

 

 

 

أشِرْ عليَّ فإنَّ الرأي مُشتَرَكُ

 

عَزَّ اللقاءُ وضاقت دونه حِيَلي

 

 

 

فالقلبُ في أمره حَيْران مرتبكُ

 

يَعُوقني عن مُرادي ما بُليتُ به

 

 

 

كما يَعُوق جَناحَيْ طائرٍ شَرَكُ

 

أروم صَبراً وقلبي لا يُطاوعني

 

 

 

وكيف يَنهضُ من قد خانَه الورِكُ

 

إنْ كنتَ فاقد إلْفٍ نُحْ عليه معي

 

 

 

 

فإننا كلُّنا في ذاك نشتركُ

 

يا نكبةً ما نجا من صرفها أحدٌ

 

 

 

من الوَرَى فاستوى المملوكُ والمَلِكُ

 

تَمَكَّنَتْ بعد عِزٍّ في أحبَّتنا

 

 

 

أيْدي الأعادي فما أبْقوا ولا تَرَكوا

 

لو أنَّ ما نالهم يُفدَى فديتهم

 

 

 

بمُهجَتي وبما أصبَحْتُ أمتَلِكُ

 

رَبْع الهِدَاية أضحَى بعد بُعدهم

 

 

 

معَطَّلاً ودم الإسلام مُنسَفِكُ

 

أين الذين على كل الوَرَى حَكَمُوا

 

 

 

أين الذين اقتنوا أين الأُولَى ملكوا

 

وقفتُ من بَعدِهم في الدار أسألها

 

 

 

عنهم وعَمّا حَوَوْا فيها وما مَلَكُوا

 

أجابني الطَّلَلُ البالي ورَبعُهم الـ

 

 

 

ـخالي: نعم ها هنا كانوا وقد هَلَكوا

 

لا تَحسَبُوا الدَّمع ماءً في الخُدود جَرَى

 

 

 

وإنما هي رُوح الصَّب تَنسَبكُ

 

ولما شاهد تُرَب الرُّصافة وقد نُبشت قبور الخلفاء وأُحرقت تلك الأماكن، وأُبرزت العظام والرؤوس! كتب على بعض الحيطان([808]):

 

إن تَرِد عِبرَة فتلكَ بنو العبـ

 

 

 

ـاس حَلَّت عليهم الآفاتُ

 

استبيح الحَريم إذ قُتِلَ الأحـ

 

 

 

ـياء منهم وأُحرِقَ الأمواتُ

 

ومما قاله -أيضاً-([809]):

 

يا عُصبة الإسلام نُوحوا واندبوا

 

 

 

أَسَفاً على ما حَلَّ بالمُستَعصِمِ

 

دَسْت الوَزارة كان قبل زَمَانه

 

 

 

لابن الفُرات فصار لابن العَلقَمِي!»([810])

 

ولابن الشروي ضمن قصيدة فيما ذكر ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» (20/140-141):

 

وانزل على بغداد وانْدُب أهلَها

 

 

 

دار السلام وقل عليك سلامُ

 

فإذا رأيتَ وقد عفّت من أهلها

 

 

 

واعتادها بعد الضياء ظلامُ

 

فانشد هناك وقل بقلب والهٍ

 

 

 

يا دارُ ما صنعتْ بك الأيامُ

 

ويلاه! يا بغدادُ أورثتِ الحشا

 

 

 

ناراً لها بين الضّلوع ضرامُ([811])

 

قال أبو عبيدة: تأمل قوله: «فعبروا دجلة، فلما تجاوزوا قنطرة باب البصرة بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر، ...».

 

وهذا التطابق مع حديث أبي بكرة المرفوع: «ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطورا، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر». والحديث حسن، كما سبق بيانه بالتفصيل([812]).

 

وذهب إلى ما قررتُ جمعٌ من شراح الحديث، وهذه عباراتهم التي تدل على ذلك:

 

قال الطيبي في «شرحه على المشكاة»([813]) في (الفصل الثاني) من (باب الملاحم) في (كتاب الفتن) عند هذا الحديث، -وهو التاسع منه- ما نصه:

 

«الحديث التاسع عن أبي بكرة: قوله: «بغائط». الغائط: الوادي المطمئن، وغاط في الأرض يغوط ويغيط إذا غار. قوله: «عند نهر يقال له: دجلة»؛ أراد: النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة مدينة بغداد؛ فإن دجلة هي الشطّ، وجسرها في وسطها لا في وسط البصرة. وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم ببصرة؛ لأن بغداد [كانت] موضعاً خارجاً منه قريب من بابه يدعى بباب البصرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بغداد باسم بعضها، أو على حذف المضاف؛ كقوله -تعالى-: {وَاسْأَل القَريَةَ}. وبغداد ما كانت مبنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة ولا كان مصراً من الأمصار؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويكون من أمصار المسلمين» بلفظ المستقبل، بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قُرىً متفرقة سورت بعد ما خربت مدائن كسرى منسوبة إلى البصرة محسوبة من أعمالها، وأن أحداً لم يسمع إلى زماننا بدخول الترك بصرة قط على سبيل القتال والحرب. ومعنى الحديث: أن بعضاً من أمتي سينزلون عند دجلة فيتوطنون ثَمَّةَ، ويصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين، وهو بغداد، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء فتقاتل أهل بغداد. وقال بلفظ: «جاء» دون يجيء؛ إيذاناً بوقوعه، فكأنه قد وقع» انتهى.

 

وتأمل تتمة الحديث؛ وهو:

 

«فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون في أذناب البقر والبرية، هلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسم، وهلكوا، وفرقة يجلعون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم شهداء».

 

فقوله: «فرقة يأخذون في أذناب البقر»؛ أي: فرقة يعرضون عن المقاتلة هرباً منها وطلباً للخلاص، فيهيمون في البوادي ويهلكون فيها؛ أي: يعرضون عن المقاتلة، ويشتغلون بالزراعة ويتبعون البقر للحراثة. «وفرقة يأخذون لأنفسم»؛ أي: يطلبون الأمان من بني قنطوراء، وهلكوا بأيديهم.

 

ولعل المراد بهذه الفرقة «المستعصم بالله» ومن معه من المسلمين، طلبوا الأمان لأنفسم ولأهل بغداد، هلكوا بأيديهم عن آخرهم. وفرقة ثالثة هم الغازية المجاهدة في سبيل الله قاتلوا الترك قبل ظهورهم على أهل الإسلام فاستشهد معظمهم، نجت منهم شرذمة قليلون. قاله الطيبي([814]) -أيضاً-. وهذا ظاهر من خلال ما نقلناه عن ابن كثير وغيره.

 

ولِعَلي القاري شرح مفصّل لهذا الحديث في «المرقاة»([815])، نسوقه بتمامه، قال -رحمه الله-:

 

««ينزل أُناس» -بضم الهمزة، لغة- في ناس «من أمتي بغائط»؛ أي: بغائر من الأرض، ذكره شارح، وفي الفائق: أي: بواد مطمئن «يسمونه البَصرة» -بفتح الموحدة، وفي نسخة بكسرها، وفي «القاموس»: البصرة: بلدة معروفة، ويحرك ويكسر الصاد، أو هو معرب بسرة؛ أي: كثير الطرق([816])- «عند نهر»    -بفتح الهاء ويسكن- «يقال له: دِجلة» -بكسر الدال، ويفتح- نهر بغداد «يكون عليه جسر»؛ أي: قنطرة ومعبر، «يكثر أهلها»؛ أي: أهل البصرة، وفي «حاشية الشفاء» للعلبي: البصرة مثلث الباء، والفتح أفصح، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه-، ولم يعبد الصنم قط على ظهرها، والنسبة إليها بالكسر والفتح. قال «المغني»: والكسر في النسبة أفصح من الفتح. قلت: ولعله لمجاورة كسر الراء، هذا؛ وقد قال الأشرف: أراد صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة مدينة السلام بغداد، فإن دجلة هي البسط وجسرها في وسطها، لا في وسط البصرة، وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم ببصرة؛ لأن في بغداد موضعاً خارجياً منه قريباً من بابه، يدعى باب البصرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بغداد باسم بعضها، أو على حذف المضاف؛ كقوله -تعالى-: {واسئل القرية}. وبغداد ما كانت مبنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة ولا كان مصراً من الأمصار في عهده صلى الله عليه وسلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «ويكون من أمصار المسلمين» بلفظ الاستقبال، بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قُرىً متفرقة بعد ما خربت مدائن كسرى منسوبةً إلى البصرة محسوبةً من أعمالها، وهذا وإن أحداً لم يسمع في زماننا بدخول الترك بصرة قط على سبيل القتال والحرب، ومعنى الحديث: أن بعضاً من أمتي ينزلون عند دجلة ويتوطنون ثَمّةَ، ويصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين، وهو بغداد، «وإذا كان» -اسمه مضمر- «في آخر الزمان جاء بنو قَنطورا»      -بفتح القاف وسكون النون مقصوراً وقد يمد-؛ أي: يجيئون ليقاتلوا أهل بغداد، وقال بلفظ: «جاء» دون يجيء؛ إيذاناً بوقوعه، فكأنه قد وقع، وبنو قنطورا([817]) اسم أبي الترك، وقيل: اسم جارية كانت للخليل -عليه الصلاة والسلام-، ولدت له أولاداً، جاء من نسلهم الترك وفيه نظر؛ فإن الترك من أولاد يافث بن نوح، وهو قبل الخليل بكثير. كذا ذكره بعضهم، ويمكن دفعه بأن الجارية كانت من أولاد يافث، أو المراد بالجارية بنت منسوبة للخليل؛ لكونها من بنات أولاده وقد تزوجها واحد من أولاد يافث، فأتت بأبي هذا الجيل، فيرتفع الإشكال بهذا القال والقيل، ويصح انتسابهم إلى يافث والخليل «عراض الوجوه»، بدل أو عطف بيان، وكذا قوله: «صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق» -بكسر ففتح: جمع فرقة-، (فرقةٌ)   -بالرفع ويجوز نصبها- «يأخذون في أذناب البقر»؛ من أخذ في الشيء: شرع فيه، وقوله: «في البرية» تتميم وتذييل؛ لأن أخذ أذناب البقر لا يكون غالباً إلا في البرية الخارجة عن المدينة التي يعبر عنها بالبحرية، ومنه قوله -تعالى-: {ظهر الفساد في البر والبحر}، أو المراد بقوله: «في البرية»: اختيار العزلة، وإيثار الصحراء والخلاء على البلد، واجتماع الملأ، فعلى الأول: صفة أو حال، وعلى الثاني: بدل كل أو بعض، ويمكن أن تكون «في» تعليلية، وقوله: «وهلكوا» فذلك نتيجة لأفعالهم، والمعنى: أن فرقة يُعرِضُون عن المقاتلة هرباً منها وطلباً لخلاص أنفسهم، ومواشيهم، ويحملون على البقر فيهيمون في البوادي، ويهلكون فيها أو يعرضون عن المقاتلة، ويشتغلون بالزراعة ويتبعون البقر للحراثة إلى البلاد الشاسعة، فيهلكون. قال الطيبي -رحمه الله-: قوله: «يأخذون في أذناب البقر»، على معنى يوقعون الأخذ في الأذناب؛ كقوله:

 

بجرح في عراقيبها نصلى

 

وكأنهم يبالغون في الاشتغال ولا يعبئون بأمر آخر، أو يوغلون في السير خلفها إلى البلاد الشاسعة فيهلكون فيها، «وفرقة يأخذون»؛ أي: يطلبون أو يقبلون الأمان من بني قنطوراء، «لأنفسهم وهلكوا»؛ أي: بأيديهم، ولعل المراد بهذه الفرقة المستعصم بالله ومن معه من المسلمين، طلبوا الأمان لأنفسهم ولأهل بغداد، وهلكوا بأيديهم عن آخرهم. وقال شارح: أراد النبي صلى الله عليه وسلم بالبصرة بغداد؛ لأن بغداد كانت قرية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قرى البصرة، إطلاقاً لاسم الجزء على الكل، فالواقعة وقعت كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أراد البصرة المعهودة فلعله يقع بعد ذلك إذ لم يسمع أن الكفار نزلوا بها قط للقتال، «وفرقة يجعلون ذراريهم»؛ أي: أولادهم الصغار ونساءهم، «خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء»؛ أي: الكاملون، والمعنى: أن فرقة ثالثة هم الغازية المجاهدة في سبيل الله قاتلوا الترك قبل ظهروهم على أهل الإسلام، فاستشهد معظمهم، ونجت منهم شرذمة قليلون. كذا ذكره الأشرف. وقال غيره: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه وقع كما أخبر، وكانت هذه الواقعة في صفر سنة ست وخمسين وست مئة».

 

ثانياً: وقعت حوادث كثيرة قبل الاجتياح المذكور لبغداد، ثم الشام، ثم مصر، دلت على تفرق المسلمين وتشتتهم، وطمع الكفار بأطراف بلادهم، إذ كان أول خروج التتار قبل وصولهم إلى بغداد بخمسين سنة، فهم دخلوها سنة (656هـ)، وكان أول خروجهم سنة (606هـ) زمن طاغية التتار الأكبر (جنكيز خان).

 

قال ابن العماد في «شذرات الذهب» في حوادث سنة (624هـ):

 

«وفيها في رمضان قبل المصاف بأيام، اتفق موت جنكيز خان طاغيةُ التتار وسلطانهم الأعظمُ، الذي خرَّبَ البلاد، وأباد الأمم، وهو الذي جيّشَ الجيوشَ، وخرَجَ بهم من باديَةِ الصين، فدانَتْ له المغول، وعقدوا له عليهم، وأطاعوه -لا طاعة الأبرار للملك القهّار-، واسمه قبل الملك تمرحين (هكذا)، ومات على الكفر، وكان من دهاة العالم، وأفراد الدهر، وعقلاء الترك، وهو جد ابني العَمِّ بركة وهولاكو».

 

وقال الجلال السيوطي في «تاريخ الخلفاء»([818]) في الكلام على خلافة المستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين:

 

«أرضُ التتار بأطراف بلاد الصين، وهم سكان براري، ومشهورون بالشَّر والغدر، وسببُ ظهورهم أنّ إقليم الصين متسع، دَورُه ستةُ أشهر، وهو ستُّ  ممالك، ولهم ملك حاكم على الممالك الست، هو القان الأكبر المقيم بطمغاج، وهو كالخليفة للمسلمين، وكان سلطانُ إحدى الممالِك السِّت -وهو دوش خان- قد تزوجَ بعمَّةِ جنكيز خان، فحضر زائراً لعمته، وقد مات زوجُها، وكان قد حضر مع جنكيز خان كشلوخان، فأعلمَتْهُما أن الملك لم يخلف ولداً، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام وانضمَّ إليه خلقٌ من المغول، ثم سير التقادم إلى القان الأكبر، فاستشاط غيظاً، وأمر بقطْعِ أذناب الخيل التي أهدِيَتْ، وطردها، وقتْل الرسل؛ لكون التتار لم يتقدَّمْ لهم سابقةٌ بتملُّك، إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكيز خان وصاحبُه كشلوخان تحالفا على التعاضد، وأظهرا الخلاف للقان، وأتَتْهُما أممٌ كثيرة منَ التتار، وعلمَ القانُ قوَّتَهم وشرَّهم، فأرسل يؤانِسُهُم ويُظْهِرُ مع ذلك أنه ينذرُهُم ويهدِّدُهم، فلمْ يُغْن ذلك شيئاً، ثم قَصَدَهُم وقصدوه، فوقع بينهم ملحمةٌ عظيمةٌ، فكَسرُوا القانَ الأعظَم وملكوا بلاده، واستَفْحَل شرُّهم، واستمر المُلْك بين جنكيز خان وكشلوخان على المشاركة.

 

ثم سارا إلى بلاد شاقون([819]) من نواحي الصين فمَلَكَاها، فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستضعفه جنكيز خان، فوثب عليه وظفر به، واستقلَّ جنكيزُ خان، ودانَتْ له التتارُ، وانقادتْ له، واعتقدوا فيه الألوهية، وبالغوا في طاعته.

 

ثم كان أولُ خروجهم في سنةِ ستٍّ وستِّ مِئَةٍ من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسلَ خوارزمُ شاه محمدَ بنَ تكش صاحب خراسان الذي أبادَ الملوكَ، وأخذ الممالِكَ، وعزمَ على قصدِ الخليفة، فلمْ يتهيّأْ له، فأمرَ أهلَ فرغانة والشاش وكاسان وتلكَ البلادِ النّزِهَةِ العامرةِ بالجلاءِ والجَفَلَى إلى سَمْرَقند وغيرِها، ثم خرَّبَها جميعاً خوفاً من التتار أن يملِكُوها؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهم.

 

ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنةِ خمسَ عشْرةَ، فأرسل فيها جنكيزُ خان إلى السلطان خوارزم شاه رُسلاً وهدايا، وقال الرسول: إن القان الأعظم يسلِّمُ عليك، ويقول لك: ليسَ يَخْفَى عليَّ عِظَمُ شأْنِك، وما بلغْتَ من سلطانك، ونفوذِ حُكمِك على الأقاليم، وأنا أرى مسالمَتَك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثلُ أعزّ أولادي، وغيرُ خافٍ عليك أنني تملَّكتُ الصينَ، وأنتَ أخبرُ الناس ببلادي، وأنها مثاراتُ العساكرِ والخيول، ومعادنِ الذهبِ والفضةِ، وفيها كفايةٌ عن غيرها، فإن رأيتَ أن تعقد بيننا المودَّة، وتأمُرَ التجّار بالسفر لتعمَّ المصلحتين فعلت.

 

فأجابه خوارزمُ شاه إلى مُلتَمَسه، وبشَّر جنكيز خان بذلك، واستمرَّ الحالُ على المهادنة إلى أنْ وصل من بلاده تجّار.

 

وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرَهَتْ نفسُه إلى أموالِ التّجار، وكاتَب السلطانَ يقول: إن هؤلاء القومِ قدْ جاءوا بزيّ التجار، وما قصْدُهُم إلاّ التجسُّس، فإنْ أذِنْتَ لي فيهم، فأذِنَ له بالاحتياط عليهم، فقبَضَ عليهم وأخذَ أموالهَم([820])، فرَدَّتْ رسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه تقولُ: إنك أعطَيْتَ أمانَكَ التجارَ فَغدَرْتَ، والغدرُ قبيح، وهو من سلطان الإسلام أقبَح، فإن زعمتَ أنّ الذي فعله خالُكَ بغيرِ أمركَ فسلِّمْه إلينا، وإلا سَوف تشاهدُ مِني ما تَعرِفُني به، فحصلَ عند خوارزم شاه من الرعبِ ما خَامَر عقْلَه، فتجلّد وأمر بقتل الرسل، فقُتِلوا.

 

فيا لها من حركة لما أَهدَرَتْ من دماءِ المسلمين، وأجرَتْ بكلِّ نقطةٍ سيلاً من الدم.

 

ثم سار جنكيز خان إليه، فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور، ثم سار إلى برج همذان رعباً من التتار، فأحدق به العدو، فقتل كل من معه، ونجا هو بنفسه، فخاضَ الماءَ إلى جزيرة، ولحِقَته علّة ذات الجنب، فمات بها وحيداً فريداً، وكُفِّن في شاش فراش كان معه، وذلك في سنة (سبع عشرة وست مئة)، وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه».

 

وذكر ابن الأثير في «كامله»([821]) ما كان من أمر التتار إلى سنة (628)، وأبو الفدا([822]) ما كان منهم إلى حين وفاته.

 

ثم قال الجلال السيوطي([823]):

 

«ولما دخلت سنةُ ستٍّ وخمسين وصل التتار إلى بغداد، وهم مئتا ألف ويقدمهم هولاكو، فخرج إليهم عسكر الخليفة، فهُزِمَ العسكَرُ، ودخلوا بغداد يوم عاشوراء، فأشار الوزير -لعنه الله- على المستعصم بمصانعتهم، وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح، فخرج وتوثق بنفسه منهم، وورد إلى الخليفة، وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوّج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة، كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه، فليُجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن       بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه، فخرج إليه في جمع من الأعيان.

 

فأُنزِل في خيمةٍ، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضُروا العَقْد، فخرجوا من بغداد فَضُرِبَتْ أعناقُهم، وصار كذلك: تخرجُ طائفةٌ بعد طائفة، فتضربُ أعناقُهم، حتى قُتِل جميعُ من هُناك من العُلماء والأمراءِ والحُجّاب والكبار، ثم مُدَّ الجسرُ، وبُذل السيف في بغداد، واستمر القتلُ فيها نحوَ أربعين يوماً، فبلغَ القتلى أكثر من ألف ألف نَسمة، ولم يسلَم إلا مَن اختفى في بئرٍ أو قناة، وقُتِل الخليفة رفساً، قال الذهبي([824]): وما أظنه دُفن، وقُتل معه جماعةٌ من أولادِه وأعمامِه، وأسر بعضُهم، وكانَت بليّةٌ لم يُصَبِ الإسلامُ بمثلها، ولم يتمَّ للوزير ما أراد، وذاق من التتار الذلَّ والهوان، ولم تطُل أيامُه بعد ذلك».

 

ثم قال([825]):

 

«ولما فرغ هلاكو من قتل الخليفة وأهل بغداد وأقامَ على العراق نوّابَه، وكان ابنُ العلقميّ حسّن لهم أن يقيموا خليفةً علويّاً، فلم يوافقوه وطرحوه، وصار معهم في صورة بعض الغلمان، ومات كمداً -لا رحمه الله ولا عفا عنه-» اهـ.

 

ولخص علي بن موسى في خاتمة رسالته «في وصف المدينة»([826]) (ص 153-155) ما جرى في بغداد على وجهٍ أظهر فيه سبب قدوم التتار -عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة، ولا رحم فيهم مغرز إبرة-، فقال عن (أهل بغداد):

 

«وقصتهم مع التتار عجيبة مهولة، ولم يتفق مثلُها من قَبْلُ ولا من بَعْدُ، وتلخيصها على ما ذكره المؤرخون؛ أن وزيرَ الخليفة المعتصم بالله مؤيدُ الدين -بل هو خاذل الدين- ابنُ العلقميّ الرافضيّ، كان بينه وبين أبي بكر ابن المسعتصم والدوادار عداوةٌ عظيمةٌ لأذيّتهما لإخوانه الرافضة ونهب مَحَلَّتهم المسماة بالكرخ؛ فإنه كان قد وقع في سنة خمس وخمسين وست مئة فتنةٌ بين أهل السنة والرافضة ببغداد فأدَّتْ إلى نَهبِ وقتلِ جماعة، وذلت الرافضةُ إخوانُه وأوذوا، فكاتب التتار وحرَّضَهم على أخذ بغداد لأجل ما جرى على الرافضة من النهب والخزي، وظن المخذول أن الأمر يتم له، وأن يقيم خليفة علويّاً، فأرسل أخاه ومملوكه إلى هلاكو -أخزاه الله- يسهل عليه أخذ بغداد، وطلب أن يكون نائباً لهم عليها، فوعدوه بذلك، ثم ساروا ونزلوا على بغداد سنة ست وخمسين وست مئة، وفي كلام بعضهم أنه حلق رأس إنسان، وكتب الرسالة على رأسه بالوشم، وفي آخرها: إذا قرأتم الرقعة قطعوها. وتركه إلى أن ينبت شعره واستتر ذلك بالشعر بعث به إليهم، وقال له: مُرْهم يحلقوا رأسك ويقرأوا ما عليها، ففعلوا ذلك، ثم قتلوه امتثالاً لأمره، فلما نزلوا على بغداد أشار ابن العلقمي على المعتصم بالله أن يرسله إليهم في تقرير الصلح، فخرج الخبيث وتوثق لنفسه، ورجع فقال للمستعصم: إن الملك هلاكو قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر، وأن يكون الطاعة له كما كان أجدادك مع الملوك السلجوقية، ثم يرتحل عنك، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وخرج إليك الخليفة في أعيان الدولة، ثم استدعى الوزير العلماء والرؤساء، ليحضروا لعقد ابن عمه، فخرجوا إليه، فضُربَتْ رقابُهم، وصار يبعث إلى طائفته فتضرب أعناقهم، حتى بقيت الرعية بلا راع، ثم أمر هلاكو بالمستعصم وولده أبي بكر، فرُفِسا حتى ماتا، ثم دخلت التتار بغداد وبذلوا السيف في أهلها، واستمر القتل والسبي نيفاً وثلاثين([827]) يوماً، فقَلَّ من نجا، وعبارة ابن السبكي في «الطبقات الوسطى»: وقتل أمير المؤمنين وبعده سائر المسلمين، ورفع الصليب على جدران دور بني العباس، وسُمِع الناقوس من بيوت الخلفاء بني عم نبي الله محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وانتُهِكَتِ المحارم، وخُربت الجوامع، وعُطلت المساجد وصارت بلاقع».

 

وقال النجم سعيد الذهلي في «مقدمة تاريخه»: إن عسكر بغداد كان قد خرج إليهم أولاً، فهربوا وتبعهم عسكر بغداد، وقتل البغداديون منهم خلقاً، وأبعدت لأُوبُهُم إلى بغداد، فلما تَعدَّوْا نهر نشيرين من دُجَيل فتح عسكر هلاكو من نهر نشير المذكور، فحال بين عسكر بغداد والرجوع إليها، وحكى لي بعض الأعيان أن ابن العلقمي أنفذَ أحد أصحابه وفتح ذلك النهر على جيش المسلمين، والله أعلم، فدهمهم عسكرُ هلاكو ليس لهم منجى، فلم ينج منهم إلا من نجت به دابته من المياه والأوحال، وألقى عالَمٌ عظيمٌ أنفسَهم في دجلة طلباً للسلامة، فهلكوا لمّا نُقِلَ اللأمَةُ، وغلقت أبواب سور بغداد، ونصب عليه المجانيق([828])، وصَعَد من تخلّفَ ببغدادَ مِنَ الرَّمْيِ، ويقولون: الحالُ ينصلحُ -إن شاء الله- فلا تظهروا([829]) حرباً، فبقي أياماً كذلك، ثم عاد إلى بغداد، وعسكرُ هلاكو يبالغون ويرمون المجانيق(1)، حتى صعدوا على السور وتمكنوا من البلد، ثم ذكرَ خروجَ ابنِ العلقمي إليهم، ثم رجوعَه وخروجَ الخليفةِ وابنِه إليهم، ثم قَتْلَ الخليفةِ ووقوعَ السيفِ في بغدادَ، قال: وعمل السيفُ في بغداد مدّةَ شهرٍ وعشَرةِ أيام، ولم ينجُ إلا الطفيف من أهل بغداد، وإلا أهل الحلة والكوفة، فإن أكابرهم توصلوا إلى هلاكو في الطاعة والانقياد، وقضى الله سلامة أهل البصرة لعدم تمكُّنِ العسكر من العبور إليهم بطريق المد والجزر، ومَسحَ السيفُ من عداهُم من أهل الضياع وغيرهم سوى النصارى، وخلَتْ بغدادُ من أهلها، واستولى عليها الحريقُ فحرقت المحالُّ والأسواقُ، واحترقت دارُ الخليفة والجامعُ الكبير بها، حتى وصلت النار إلى خزائن الكتب الخاصة، وعمّ الحريقُ أكثر الأماكن حتى القصور البرانية؛ مثل الحلة وترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة، وشوهد يختُ مدفن الإمام المستنصر بالله عظام الخلفاء ورؤوسهم وآثار الحريق وشوهد على بعض حيطانها مكتوب:

 

إنْ تُرِد عبرةً فهذي بنو العباس دارت عليهم الدايرات

 

 

 

ء منهم وأُحرِقَ الأموات

 

 

 

استُبيحَ الحريمُ إذ قُتِل الأحيا

 

ولم يسلم من الحريق إلا ما سكَنَه عسكرُ هلاكو في الوقعة، وقد جافَتِ القتلى وامتزجت بالأوحال حتى لم يَبقَ للمارِّ في الأسواق موضعُ قدمٍ إلا على قتيل، ووجد في كثير من المواضع جثثُ القتلى كالتلول الكبار، وشاهد من سلم من الأهوال ما لا يُعبّرُ عنه، ثم عمّ الوباءُ وكثرةُ الموتِ والفَنا، وثار الذباب على الناس حتى غطى الجدران، ووصلت قوافل الحلّة بأنواعِ المأكول، وكانوا يتعرضون للكتب المجلدة النفيسة؛ كلّ مجلدٍ بفلس، فإن خزائن الوقوف نُهبَت، واحترقت الكتب، وأُلقيَتْ تحت أرجل الدواب، وشوهد بالمدرسة المستنصرية معالف للدواب مبنية بالكتب موضع اللبن، وكذا كان بباب سوق النظامية، قال: وبالجملة فلم يسمع في قديم الزمان بأعظم من هذه الحادثة، انتهى ملخصاً.

 

ويقال: إن هلاكو أمر بعدِّ القتلى، فبلغوا ألف ألف وثمان مئة ألف وكسر، فعند ذلك نودي بالأمان، ثم هلك ابن العلقمي في السنة المذكورة قبل شهر رجب، وخيَّب الله أمله، وانعكست عليه آراؤه، وأكل يده ندماً، فإنه بعد تلك الرتبة الرفيعة ووزارة العراق منفرداً أربع عشرة سنة منفرداً، ولي وزارة التتار مشاركاً لغيره وانحطت رتبته، حتى كان يركب كديشاً فصاحت عليه امرأة: يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين؟ وكان ذا حِقدٍ وغِلٍّ لأهل السنة، وكان المستعصمُ آخرَ الخلفاء العراقيين، وكانت دولتهم خمس مئة وأربعاً وعشرين سنة، وكان هذا الخليفةُ حليماً كريماً سليمَ الباطِن، لكنه كان لا يخرج عن رأي ابن العلقمي، فدبّر هذه المكيدة التي أهلكت المسلمين.

 

وكانت بغداد في ذلك الزمان فسطاط الإسلام ومَحَطَّ رحالِ العلماء وأهل الصلاح، فهلك غالبهم، وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين، ومن أحسن ما أنشد في ذلك قول ابن التعاويذي:

 

بِبَقاءِ مولانا الوزيرِ خرابُ

 

 

 

بادتْ وأهلُوها معاً فبُيوتُهم

 

ولا يَسَعُ مختصرُنا هذا من الكلام على هذه القصة أكثرَ من هذه النبذة، والله -تعالى- أعلم بالصواب».

 

فلا ريبَ أن تلك المصائب العظمى التي أزالتِ الدولةَ العباسية، وقتلت من المسلمين ما يربو عن أربعين مليوناً، وخربت تلك البلاد الزاهية العامرة، هي الشر الكبير، والمصيبة العظمى، والويل للعرب والمسلمين.

 

وقال ابن السبكي في «طبقات الشافعيةالكبرى»([830]) مبيّناً ما أصاب المسلمين آنذاك، وأفاض في ذلك على النحو الذي ذكرناه، ثم قال:

 

«وقيل: إن هولاكو أمر بعد ذلك بعدِّ القتلى، فكانوا ألفَ ألفٍ وثمان مئة، النصف من ذلك تسع مئة ألف، غير من لم يُعَدّ ومن غرق، ثم نودي بعد ذلك بالأمان، فخرج من كان مختبئاً، وقد مات الكثيرُ منهم تحت الأرض، بأنواع من البلايا، والذين خرجوا ذاقوا أنواع الهوان والذل، ثم حُفِرَتِ الدُّورُ، وأُخِذَتِ الدفائنُ والأموال التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وكانوا يدخلون الدارَ فيجدون الخبيئةَ فيها، وصاحبُ الدار يحلفُ أنّ له السنين العديدة فيها ما علم أن بها خبيئةً، ثم طلبتِ النصارى أن يقعَ الجهرُ بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وأن يَفعَل معهم المسلمون ذلك في شهر رمضان، فأُلزم المسلمون بالفطر في رمضان، وأكلِ الخنزير، وشربِ الخمر، ودخل هولاكو إلى دار الخليفة راكباً -لعنه الله-، واستمر على فرسه، إلى أن جاء إلى سُدَّة الخليفة، وهي التي تتضاءلُ عندها الأسودُ ويتناوله سَعْدُ السُّعودِ، كالمستهزئ بها، وانتهك الحُرَمَ من بيت الخليفة وغيرِه، وأعطى دار الخليفة لشخص من النصارى، وأُريقت الخمور في المساجد والجوامع، ومُنِع المسلمون من الإعلان بالأذان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

هذه بغدادُ، لم تكن دارَ كُفرٍ قَطُّ، جرى عليها هذا الذي لم يقع منذ قامت الدنيا مثلُه([831])، وقُتل الخليفةُ، وإن كان وقع في الدنيا أعظمُ منه إلا أنه أضيف له هوانُ الدِّين والبلاءُ الذي لم يختص، بل عمّ سائر المسلمين، وهذا أمرٌ قدره الله -تعالى-، فثبّط له عزم هذا الخليفة، ليقضِيَ الله ما قدره».

 

ثم ذكر ما حصل للمسلمين في الشام، ومما قال:

 

«وشمخت النصارى بدمشق، وصاروا يرفعون الصليب، ويمرون به في الأسواق، والخمر معهم يرشُّونه على المساجد والمصلين، ومن رأى الصليب ولا يقوم له عاقبوه»([832])!

 

ثالثاً: تتابعت غزوات التتار الذين أسسوا لهم عدةَ ممالك في بلاد الهند وبلخ وبخارى وغزنة والعراق، وصار منهم عدة ملوك فيها، ثم كان منهم ذلك الطاغية الجبار (تيمرلنك بن أيتمش) الذي ولد سنة (728هـ) بقرية تسمى (خواجا أبغار) من عمل (كش) إحدى مدائن (ما وراء النهر)، وهي تبعد عن سمرقند يوماً واحداً، وأمه من ذرية (جنكيز خان) اللعين، وكان منه ما كان في  طروقه لبلاد العراق وبلاد الدولة العثمانية، ثم البلاد السورية، وكان منه فيها ما كان، وذلك في سنة (803هـ)، ثم هلك في سنة (807هـ)([833]).

 

رابعاً: الناظر في كتب التأريخ، ولا سيما في الغارات التي حصلت سنة (803هـ)، وقبل ذلك بقليل على بلاد المسلمين؛ يعلم علم اليقين أنها أخت الغارات التي تحدثنا عنها سابقاً، والتي كانت سنة (656هـ) وسنة (658هـ)؛ لأنها أتمَّت تخريب هذه البلاد، وتقويض عمرانها، والقضاء على مدنيتها  الزاهرة، والمدارس والعلوم التي كانت مشيّدة وزاخرة فيها.

 

وهذا تفصيل للخطيب الجوهري علي بن داود الصيرفي في كتابه «نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان»([834]) قال تحت (فصل: فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة بعد الثمان مئة) مفصلاً ما وقع ببلاد المسلمين آنذاك من قبل (تيمورلنك)، أسوقه على طوله، وهو لا  يَقِلُّ عما أوردناه سابقاً من أمر (التتار)، وفي عباراته تألمّ وتوجّع واستشهاد بأشعار، وبعرضه على ما سمعنا ورأينا في بعض ديار المسلمين، نقول: (التاريخ يعيد نفسه)! ولا قوة إلاّ بالله، وإليه المشتكى.

 

وهذا نص كلامه، مقتصراً على ما وقع بالمسلمين في اختلاف أمصارهم، قال:

 

«وفي يوم الإثنين التاسع منه، حضر طغيتمر مقدم البريدية من الشام، وأخبر بأنّ تمرلنك قد أخذ سِيواسَ في آخِر السَّنةِ الماضِية، وأنّه قاصدٌ مملكة الشَّام، وكان تمرلنك قد جاء على سيواس من ناحية تبريز وأقامَ عليها وحاصَرها أشدَّ المحاصرة، وأذاقَ أهلها أشد العذاب، وفيها نائبٌ من جهة ابن عثمان يُسمَّى: أمير مصطفى، ومعه من العساكر ما يزيدُ على عشْرةِ آلاف نفر، ولم يُفد هؤلاء شيئاً، فآخر الأمر مُسِك نائبُها، واستَوْلى تمرلنك عليها، وقتل من أهلها ما ينوفُ على ثلاثة آلاف نفْس، وأخرب أسوارها، وحرقَ بقاعها، وأزالَ بهجَتها، وبدَّد جمعها، وفرَّق شملها، وأفسدَ عسْكَرُه فيها مفاسد عظيمةً، من نهبِ الأموالِ، وسفْكِ الدماء، وسبي الحريم، وأسر الأطفال، فأقاموا عليها نحوَ شهر أو فوقه وهم يفسدون، وفي أرجائها يعيثون.

 

ثم رحلوا منها وجاءوا على لارندة والبلستين، وأفسدوا فيها فساداً لا يُعدُّ ولا يُحْصَى.

 

ثم توجهوا إلى مَلْطية، ودخلوا فيها وأفسدوا فيها وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً، بعد أن أقاموا عليها فوق عشرة أيام.

 

ثم رجعوا منها وتوجهوا إلى بهسنا، وهم يفسدون في كل موضع ينزلون فيه، وفي أطراف كل بقعة وأرجائها، وأثناء كلِّ طريق وأنحائها، بحيث لم يَسلمْ منهم مقيم من أهل الحضر، ولا مسافرٌ من أهل الخبَا والوبَر، إلى أن نزلوا على بهسنا وأطرافها وأذاقوا أهلها العذاب من أوضاعِها وأشرافِها، وأفسدوا فيها فساداً عظيماً، وبغَوْا على أهلها بغْياً جَسيماً.

 

ثم رحلوا عنها بعد أن أقاموا عليها عشرين يوماً متوجهين إلى مدينة عينتاب، موصلين إلى أهل تلك البلاد من أنواع العذاب، فقدِمُوا عليها وأخرَبوا دُورها، وأحرقُوا أسواقها، وهدّوا أبراج قلعتها.

 

ثم رحلوا منها -بعد أن أقاموا عليها أربعة أيام- متوجهين إلى حلب، طالبين لأهلها جميع الشرّ والنّصَب، وكل ذلك في أوائل السنة».

 

وقال في (2/74-77) تحت عنوان (ذكرُ مجيء تمرلنك على حلب وأخذها):

 

«بتاريخ الحادي والعشرين من ربيع الأول، وصل بَريديٌّ من الشام إلى الأبواب الشريفة، وأخبر بأنَّ تمرلنك حضر إلى حلب، واحتاط بها يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول، معه العساكر ما لا يحصيهم إلا الله   -عزَّ وجلَّ- من سائر الطوائف: من الخراسانية، والسَّمْرَقندية، والقحطانية، والمغل، والتراكمين، وغيرهم من المفسدين والكفار ما لا يَعرِفون اللهَ        -تعالى- ولا رسوله، فنزلوا على حلبَ وأرجائِها، واشْتملُوا على أطرافها وأنحائها، بحيثُ صارَت بقعةُ حلبَ الشهباء مظلمةً كالليلة الدهماء، فَخرَجَتْ من العساكر المنصورة طائفةٌ بمثلها مقرونة، وتقاتلوا مع طلائعهم المفسدة، فتحاربوا وتشاجروا، وتخابطوا وتعابطوا، وتراموا بالحجارة والنبال، وتقابلت النساءُ والرجالُ، وارتفعت الأصواتُ كما يلبي العُمّار والحجيج، وجُرحَتْ ناسٌ كثيرون، وسُفكت دماءٌ غزيرة، فافترقوا على ذلك، وخواطِرُ المسلمين في همٍّ وغمٍّ من ذلك.

 

ولما كان يوم السبت الثالثَ عشَر من ربيع الأول، ركبَتْ عساكرُ تمرلنك وتكردسوا على المسلمين وركسوا، وصبرَ المسلمون على ذلك صبراً عظيماً، وابتُلُوا بلاءً مبيناً، ثم ضعُفَت قلوبُهم وبالهُم، وتشتّت شملهم وتلاشَت أحوالهُم، إلى أن ولَّوا مدبرين، وطلبوا أبواب المدينة هاربين، فتزاحموا على الدخول في الأبواب، حتى هلكَ خلقٌ كثيرٌ على الأعتاب، ووقع في المدينة الهرجُ والمرج، وارتفعتْ أصواتُهم بالنَّوح والضجّ، واجتمعت نساؤهم في الجامع الكبير، وتزاحم الكبير على الصغير؛ فكأنهم وقد نفخ فيهم الصور، وحُشروا إلى يوم النشور، فبينما هم في هذه الداهية الدهماء، وإذا هم بالتمرلنكية لحقوهم بالسيوف السود، وركبوا أقْفِيتهم إلى أنْ دخلوا مدينتهم، فتفرقوا في أزقَّتها وهم ينهبون، وشرعوا يقتلون ويأسرون، ويخربون ويحرقون، فأذاقوا أهل الشهباء من أنواع العذاب، من القتل والعصر والكي والعقاب، ولله درُّ من قال:

 

بأيدي تمرلنكَ ومغلَ وجقطاي

 

 

 

على حلبَ الشهباء حلّتْ مصائب

 

وإلغاز وقازان وبيد وطقطاي

 

 

 

مِنْ آل هلاوز وباطو وجنكز

 

نويس وصمغار وقيدو وبولاي

 

 

 

وطوسى وخربندا وننجى وكتبغا

 

وطولوا وسور وزيخى ونوغاي

 

 

 

وروس ونكداد وبلطد وطلسبا

 

ولم يزالوا في أزقَّتها جاثمين، وفي دماء المسلمين عائمين، فقتلوا خَلقاً لا يُحصى عددُهُم من الصغار والكبار، غيرَ من ماتَ من الأطفال تحت سنَابك الخيول من الدوس والعثار، وغير من مات من النساء في أبواب الجوامع وسوق البلاط، ومن مات من شدة الرعب وكثرة الصياح والعياط.

 

ثم اشتغلوا بنقْبِ القلعة وتخريبها، وصَرفِ المياه عنها وسيْبِها، وذلك بعد أن تحصّن بها أمراؤُها ونائبها، ونوابُ القلاع الشامية ممّن ذكَرناهم سالفاً، ونزل تمرلنك في السلطانية التي تجاه باب القلعة، ثم إنه أرسل للأمراء وغيرهم وغَشَّهُم، إلى أن اطمأنّوا إليه وأقبلوا عليه، فنزلوا واحداً بعد واحد، فأخلعَ على بعضهم خِلَعاً ظاهُرها رضىً وصفا، وباطُنها مكرٌ وجورٌ وجَفا، فلما تمثلوا كلَّهم بين يديه، أقبل يخاطبُ كل واحد بما لَديه، ثم أشار بمسك الجميع، بعد التهديد والتقريع، وأخذ جميع ما في القلعة من الحواصِل والأموال من الذهب والفضة والقماش والسلاح والأثقال، ومسك أعيان الشهباء وقضاتِها وكبراءَها وولاتها، واستخلَص منهم أموالاً تعجز عن حصرها العقولُ والأفهام، ويَكِلُّ عن ضبطها الحِسابُ بالأقلام، وأقام عليها عشرين يوماً يسقيهم عذاباً أليماً، ويعاقِبُهم عقاباً عظيماً، فصارت الشهباءُ عبرةً للنّاظرين، وموعظةً للمتذكرين، فكأنها وقد صاح بها صائح فإذا أهلُها خامدون، ولسان حالها يقول: يا حسرة على العباد الذين كانوا بالأمس في أمن راغدين، فـ:{إنّا للهِ وَإنَّا إليهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46].

 

فصار أغنياؤها فقراءَ يسألون، وتجارُها لابسين الأجلال، والأعدال يدورون، ومخدّراتُها عارياتٍ مأسورات، ثكْلى على أولادهن مكسورات، وجوامعُها ومساجدها عن الأذان والصلاة والخُطب خاليةً، ودورُها على أرضها خاويةً، ولسانُ حالها يقول: {مَا أغْنى عَنّي مَاليه . هَلَكَ عَنّي سُلطانية} [الحاقة: 28-29].

 

وقال في (2/82-86) تحت عنوان: (ذكر دخول السلطان دمشق وخروجه منها وما جرى عليه وعلى عسكره وعلى المسلمين) ما نصه:

 

«ولما كان بتاريخ يوم الخميس السادس من جمادى الأولى، دخل السلطان الملك الناصر وصحبته العساكر المنصورة المصريون إلى دمشق، واستقرّ ركابُه في القلعة، وكان تمرلنك قد أتى إلى تحت جبل الثلج.

 

وفي يوم السبت جاءت من عند تمرلنك طائفة زهاءَ عشرة آلاف فارس، ومقدّمتهم رجلٌ يقال له السلطان حسين، فتقدم إليهم من عسكر السلطان جماعة، فتقابلوا وقتلوا منهم خلقاً، فولّوا منهزمين، ولم يتحرّك تمرلنك من منزِله ذلك مدة أيام، وكان كلَّ يوم يخرج من عسكره شِرذمة إليهم ويقرُبُون منهم، ثم يرجعون، ثم أرسل تمرلنك إلى السلطان فطلب منه شخصاً يقال له أطلمش، وكان الملكُ الظاهرُ قد مَسَكه وحبَسَه، واستمرَّ محبوساً بقلعة الجبل من مدَّة سنينَ، وقال: «أرسلوا إليّ هذا وأنا أرحل!»، وذلك مكرٌ وخديعةٌ وكذِب.

 

ثم بعد أيام قلائل حضر للسلطان الملك الناصر حسينٌ المذكور طائعاً، وعلى رأسه تاج مرصع بالجوهر والفصوص، وهو شاب ذو صورة جميلة وقامة حسنة، فخلع عليه السلطان قباء بطرز زركش، وأنعمَ عليه بفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، وذكر عن تمرلنك أنه في التلاشي والهوان، ثم إنه تواخَى مع الأمير يشبك الدوادار، وقد قيل إنّ مجيئه كان بطريق النصيحة للمسلمين، والله أعلم بحقيقة ذلك.

 

وكان المذكورُ عند تمرلنك من الأمراء الكبار ومعه حاشيته فوق ألف نفس، وكانوا كلُّهم ينتهزون الفرصة للهروب والمجيء عند السلطان لأجل مخدومهم حسين، وكان ما تهيّأ لهم ذلك بسبب هروب العسكر المصري.

 

ثم بعد أيامٍ قلائل رحل تمرلنكَ من منزلته تلك وأخذ ناحية شُقحب من فوق جبل الكسوة، فلما رأت العساكرُ المصريةُ ذلك طمعوا فيهم وقالوا إنه يريدُ الهرب، فقام جماعةٌ من الأمراء وبرزوا إليهم حتى عدوا جسر الكسوة، وكان تمرلنك قد أكمن جماعة كثيرة وراء الجبل، ولم يظهر للمصريين منهم إلا أناسٌ قلائل، فهزت أنفسَهم أريحيَةُ الشجاعةِ، فحملوا عليهم، فعند ذلك ظهرت أناسٌ مثلُ قطع الليل المظلم، كردوساً بعد كردوس، وصفّاً بعد صف، إلى أن هجموا على المسلمين، فلما رأى المصريون ذلك شرَعوا في تولي الأدبار، ونوَوا الهروب والفرار، فرجعوا وهم يقاتلون مدافعةً عن أنفسهم، ولم يزالوا على ذلك إلى أن تفرقوا كلُّهم شغر بغَر، ودخلوا المدينة متفرقين، وقد أُخذَ منهم بعضُ ناسٍ من ورائهم ممن كان فرسُه ضعيفاً، وقُتِل من عسكر تمرلنك جماعة، ولم يزل عسكر تمرلنك في السوق وراءهم إلى أن وصلوا قريباً من قبَّة يلبغا الخاصكي، فنزلوا تحت جبال الكسوة مد البصر، فلما أظلم الليل أوقدوا نيراناً عظيمة، بحيث أوقعوا في قلوب الناس رعباً عظيماً.

 

فلما أصبحوا اصطفَّ الفريقان وتجهزوا للقتال، وكان ذلك يوم الخميس العشرين من جمادى الأولى، فقام تمرلنك وصفّف عسكره مدَّ البصر فوق سبعين صفّاً، واصطفت المصريون كذلك، وجعل الأمير نوروز الحافظي رأس الميمنة، ويشبك الدوادار رأس الميسرة، والسلطان واقف في القلب، فوقع بينهم بعضُ القتال من أطراف الطرفين، ولم يزالوا على ذلك إلى آخر النهار.

 

ثم وقع بين المصريين هرْج عظيم؛ لما قيل: إن بعض الأمراء الخاصكية قد هربوا من دمشق طالبين الديار المصرية، وكثر الكلامُ والقيل والقال، حتى وقع في قلوب الناس رعبٌ عظيم وخوف جسيم.

 

ولما كان نصف الليل -ليلة الجمعة الحادي والعشرين من جمادى الأولى- خرج السلطان وصحبته بعضُ المماليك، ويشبك الدوادار والأمير أقباي وقطلوبغا الكركي، فأخذوا طريق بعلبك، وساقوا من فوق جبل الثلج على طريق عكا، ولم يلتفتوا وراءهم، فعند ذلك وقع الجفل بين الأمراء المصريين، فلما تواترت الأخبار بذلك نهض كل منهم وساق، ولم يتخلف أحد من الأمراء الكبار والصغار إلا أربعةُ أنفس من العشرات؛ وهم: سودون البجاسي، وألطنبغا الحبشي، وآقبغا رأس نوبة، ومصطفى بن تكا.

 

ثم حضروا بعد أيام كثيرة ما خلا مصطفى المذكور، فإنه لحق بتمرلنك، وتخلفت غالب المماليك السلطانية هناك متفرقين، ولم يجىءْ في صحبته غير مقدار خمس مئة نفس من مماليكه ومماليك الأمراء، والجميع تركوا الخيول والهجن والجمَال والأسلحةَ والأثقال والخيام والبغال وسائر الأصناف من الذهب والفضة والدروع وغير ذلك، حتى ذكِر أنّ جملة ما خلفوه من الخيول ما يقاربُ ثلاثين ألفَ رأس، ومن البغال ما يقارب عشرين ألف رأس، ومن الجمال ما يقارب خمسين ألف رأس، ومن الهجن ما يقارب عشرة آلاف رأس، ثم إنهم قاسَوْا في الطريق من التعب والنصب والخوف والجوع والبرد ما لا يوصف، حتى ذكر أن منهم من أصبح صائماً ثلاثة أيام ولا يجد غير الماء، ومنهم من كان يأكلُ العشب والكلأ، ومنهم من مشى حافياً عارياً حتى تورمت قدماه، وغالبُهم قلعُوا دروعهم ورموها حتى أخذها العشير، وذكر أن منهم من حل سيفه ورمى به، ثم كلُّ من سمع من المماليك المتخلفة أن السلطان أخلى دمشق وطلب الديار المصرية ترك ثَقَله وخرج طالباً متوجهاً إليهم، فمنهم من أُسِر ومنهم من عُرِّي، وما عُرِّيَ أكثرهم إلا العشير من جبال صفد واللجون وقاقول وغير ذلك.

 

واختلفت طرقُهم؛ فمنهم من جاء من عقبة دمر، ومنهم من جاء من عكّا، ومنهم من جاء من وادي التيم، ومنهم من ركب البحر المالح من طرابلس، ومنهم من ذهب إلى ناحية حلب، ومنهم من ذهب إلى ناحية السواحل، ومنهم الأمير آقبغا الجمالي والأمير دمرداش نائب حلب، وتفرقت العساكر شَغَر بَغَر.

 

ولم يزل كلُّ يومٍ كان يدخل القاهرة جماعة من المماليك المسلحين بعد أخرى إلى أكثر من شهرين؛ فمنهم من جاء ماشياً وقد ورمت رجلاه، ومنهم من جاء راكباً على حمار، ومنهم من جاء على الجمال وعلى رؤوسهم الزموط الدنسة العتيقة، وعلى أكتافهم اللبابيد الدنسة المهرية، والبُسُط العُتُق، وكلٌّ من المذكُورين يذكر عن أفعال العشير أنها أنجس من أفعال تمرلنك في حق المسلمين، فإن عسكر تمرلنك -مع ما فعله قاتله الله- كانوا يشفقون على أسراهم بشيء من القُوت والكِسوة، بخلاف العَشير، ولا سيما في تلك الأيام الباردة، أيام الثلج والمطر والصقعة، مع الجوع والخوف الزائد».

 

وقال في (2/87-94) تحت عنوان: (ذكر استيلاء تمرلنك على دمشق وما أفسده فيها لعنه الله) ما نصه:

 

«لما أخْلت العساكرُ المصريَّة مدينة دمشق في التاريخ الذي ذكرناه، استولى تمرلنك بعسكره عليها، ونزلوا في حواليها.

 

وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين صبيحة الليلة التي رحل فيها السلطان، نهض الشاميون وقاتلوا مع عسكر تمرلنك قتالاً عظيماً، فقُتل منهم ناسٌ كثير، فلما كان يوم الإثنين الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ملَك تمرلنك دمشق وفتحوا الأبواب، وولى على كلِّ باب شِحْنَةً، ونادى بين الناس بالأمان والاطمئنان حتى سكن أهل المدينة، وكلُّ ذلك مكر منه وحيلة وخبث وخديعة، ثم شرَع في حصار القلعة، ونصب عليها مجانيق([835]) من نواحيها، فنصبوا منجنيقاً في وسط جامع بني أمية وقفلوا أبواب الجامع، ولم يُصَلَّ فيه الجمعةُ بعد دخول تمرلنك الشام إلا مرة واحدة، ونصبوا منجنيقاً آخر في ناحية حكر السماق، وآخر في ناحية الصالحية، وآخر في ناحية العقَبة، وآخر من ناحية التربة، ورسم بالنُّقوب، وصرف ماء الخندق، فنقبوا إلى أن علقوا البرج الذي عليه الطارمة وهدّوه، وزحفوا زحفاً عظيماً، فقُتل من جماعة تمرلنك خلق كثير تحت الردم، ثم لم يزل أهل القلعة في رمي المكاحل والمدافعِ والحجارةِ والقتال ليلاً ونهاراً مدة شهر، ثم لما تعبوا وضجروا وخافوا على أنفسهم لعدم من يساعدهم سلموا، فتسلَّمها تمرلنك يوم الجمعة الحادي والعشرين من رجب، فولى فيها شِحْنةً من جهَته، ومسَك جميعَ مَن فيها ونائِبَهم معهم، وهو الأمير يزدار، وقيّدهم ولم يقتل أحداً منهم.

 

ثم شرع في أخذ أموال الناس، فحوّل من القلعة أموالاً لا تُعدُّ ولا تحُصى ولا تحُصر، ما بين ذهب وفضة وقماش وسلاح وأثاث، وغير ذلك من أموال الشاميين والمصريين.

 

ثم إنه باع دمشق لأهلها ثلاث مرات، في كل مرة بجملة مستكثرة من الذهب والفضة، ...»، قال:

 

«ثم إنه رسم بهدِّ القلعة فهُدمَتْ وهدُّوا معها جامعَها، الذي تحيَّرت العقول في تكْوينه وكُنْهه وحُسنه، الذي لم يكن فيه عَيبٌ سوى أنه لم تَقَع العيونُ على نظيره، ولله درُّ مادِحه، فقد أجادَ في المقال:

 

وكلٌّ إلى وصْلِهَا مائِقُ

 

 

 

دمشقُ لها مَنْظرٌ فائق

 

أبى اللهُ والجامِع الفارقُ»

 

 

 

وكيفَ تُقَاسُ بها بلدةٌ

 

ثم فصَّل في ذكر محاسنِ جامع دمشق، وما قيل فيه، وقال بعد ذلك:

 

«فبينما المدينة بجامعها على هذه الصفة البهية، إذ وردت عليها الطغاة من التمرلنكية، فأزالوا بهجَتها بالهدّ والنيران، وغيّروا رسومها وآثارها من العمران، فصارت النيران كأنها قد نشرت في مدد الطعام ومعصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذباتُ ذوائبها.

 

تُحاولُ ثأراً عنِد بعضِ الكَواكب

 

 

 

ذوائبُ لجتْ في عُلُوٍّ كأنمَّا

 

وعلَتْ في الجوِّ كأنّها أعلامُ ملائكة النّصر، وكان الواقف في الميدان يراها وهي ترمي بشرَر كالقصر، فكَم زخر لذلك الدخان جاثيةٌ، وكم نفْسٌ كانت في النزعات وهي تتلو: {هَلْ أتَاكَ حَدِيْثُ الغَاشِيَة} [الغاشية: 1]، ولم تزلِ النارُ تأكلُ ما يليها، وتُفْني ما يُشعِلُها ويقليها، إلى أن شملَت على دُورها ومدارسها، وعلَتْ على أسواقها ومجالسها، فكادت تكون كنار القيامة، وقودُها الناسُ والحِجارة، وأصبحَ بابُ الساعات وهو من آيات الساعة، وخلت مصاطب الشهود من السُّنَّةِ والجماعة، وأصبحَت الدْهشَة وقد آل أمرُها إلى الوَحْشَة، كأن لم يكن بها شهيد ولا شهود، من ثيابها وقماشها جبة وحرير، وأصبحت الميادين وقد صارت كالعِهن المنفوش، ومحُيَتْ بأيدي النار سطورُ كلِّ جامٍ منقوش، وأصبح أصحابها كالحمام ينوح على أقفاصها، وتودُّ اللآلىء أنها لم تخرج إليهم من مغائصها، فما منهم إلا ربُّ نعمة سُلبت، وأصبح بعد الجديد في خَلَق، وغنيّ أمسى فقيراً يكدى في الخلق، ولله در الشاعر الماهر:

 

ليُظهر لي عِنْدَ البيانِ معاني

 

 

 

حريقُ دمشقَ قَدْ بدا لعَيانِ

 

كأنّ لها عندَ النُّجوم أمَاني

 

 

 

غدَتْ نارهُ في الجوِّ تعلُو وَتَرْتَقي

 

وخَبآتُها بادٍ لكلِّ بنَان

 

 

 

ولو لمَ تكُنْ نارُ الأعَادِي لما غَدَتْ

 

سروراً بها ولا طارَتْ بكل لسان

 

 

 

ولا صبَغَتْ بالزعفران قميصَها

 

فيا لَسيوف المكفن كيف باد، وفتتت به الأكباد، وأين بأسُه الشديد، ومنافعه التي لا تبيد، وبالسيوف الخيم كيف ذهب، وعدم النصر على الكافرين فتَبَّتْ يدا أبي لهب، لقد تمسكت النارُ بأطْنابه وتجلّدَ بها، والنار تحت ثيابه وياما حصل لها ولأهلها، من ضرْبٍ بسِياط كَشَطَ غِلَظَ جِلدِهم، وأوْهى قُوى شجاعتهم وجلَدهم، كم فيه من أَسوَدِ اللحية فتَق جلدَه الشيبُ، وخُطّ على جنبه ما كان مخبوءاً له في الغيب، وكم من عالم في الذل بالهزء واليد، وكم من تاجر يقاد وهو في قيد، وكم من شاب يستَغيبُ وهو ينقلُ التراب، وكم من شيخ يصيح وهو في العِقَاب، وكم من صغير تحت سنابك الخيل طريحٌ، وكم من فقير من الجوع يصِيح، وكم من بِكر قد أزيلَت عذرَتُها، وكم من مخدَّرة قد هُتك سِترها، وكم من غنيّ كان يُطعم الناسَ ويعطيهم، فصار اليوم يسألُ الناسَ ويسْتَعطِيهم، وكم من عزيز وصاحبِ رفْعَة وشأنٍ، صار اليوم في قهرٍ وخذلان، فصار أهلُها ما بين كسير وطريح، وأسير وجريح، فصاروا كبني إسرائيل في القضايا، سُلِّطَ عليهم أنواعُ البلايا، قهرُ تمرلنك وأسرُه وخرابُ الدور والبقاع، ووقوعُ الحريق في الأصقاع، وسبْيُ الحريم والأطفال، واستِعباد النساء والرجال، والغلاءُ المفرِطُ الشامل، والبردُ والثلجُ والمطر النازل.

 

ثم بعد ذلك كلِّه جرادٌ منتشر وموت ذريع، وخوف مستمر وضَنْكٌ منيع، آيات بينات فيها عبر وتنبيه، ولم تزل دمشقُ ترى أموراً عجاباً، ولسان حالها يقول: {يا لَيْتَني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]، فَلَعِبَتْ فيها التمرلنكية يميناً وشمالاً، في أرضها: وهاداً وجِبالاً، ولم يزل خيلُهم ورَجِلُهم تركض من باب الشَّهباء، إلى جسر الحديد، ومن جسر الحديد إلى جسر الشريعة الزهراء، إلى أن خرجوا في أوائل شعبان، بعد أن أخربوا العمران، وهدُّوا البنيان، فصارت أسوارُها كيماناً سوداً، ينعِق عليها غربانها جُرْداً.

 

ولما رحلوا أخذوا معهم غالب النساء الجميلة والجواري والعبيد والطواشية والصناع الحذاق من كل طائفة، وذهب معهم قاضي القضاة محيي الدين محمود ابن القاضي نجم الدين الحنفي وأخوه بهاء الدين محمد الشهيران بابني الكشك.

 

فلما قربوا من حلب جاء إليهم من كان تمرلنك خَلفَهُم فيها لحماية الأموال التي أخذوها، وهم ثلاثة آلاف نفس أو يزيدون، وذلك بعد أن أخربوا قلعة حلب، فأَرَمُوا أبراجها وأسوارها في الخندق.

 

ثم اجتمعوا وعدَّوْا من جسر البيرة، ولم يتعرضوا لنائبها وهو الأمير ناصر الدين محمد بن شهرى يُعرَفُ بصرق سيدي، وذلك لإظهار الطاعة إليهم، فقرره على أنه نائب غزة.

 

ثم ذهبوا وأخذوا طريق ماردين، فلما وصلوا إليها نازلوها واستنزلوا صاحبها وهو الملك الظاهر مجد الدين عيسى، وكان قد تحصن بقلعتها، فلم يسمع منهم ولا أصغى إليهم، فأقاموا مدة عشرين يوماً.

 

ثم لما رحلوا، أمرهم تمرلنك بتخريب المدينة فأخربوها كلها وطمّوا آبارها، وقلعوا أشجارها، وجعلوا أعاليها أسافِلَها، ولقد أخبر من الثقات جماعةٌ أنّ تمرلنك لما وصل إلى حلب وقرر رجوعه، أرسل شرذمة وراء طائفة من التركمان يقال لهم ابن كُبْك -بكافين أولاهما مضمومة، بينهما باء موحدة ساكنة-، وكانوا نازلين عند عينتاب من ناحية الشمال فناجزوهم بالكبس، وأخذوا أموالَهم وحريمَهم وأغنامَهم وجِمالَهم، وخلّوهم على الأرض السوداء.

 

ثمّ لما رجعوا دخلوا عينتاب مرة أخرى، وأخذوا كل امرأة جميلة فيها، وما ظفروا به من الأموال والأطفال، بل أخذوا مثل الزبيب ومثل الدبس ومثل الأرز، ونهبوا الأسواق، ثم لحقوا بتمرلنك، فعند ذلك وصلت غرارة القمح في دمشق إلى ثلاثةِ آلافِ درهمٍ فِضّةً، والغرارة ثلاثة أردَابٍّ مصرية، ووصلت كلُّ عَليقَةٍ إلى نصف دينار أو عشرين درهماً.

 

وأما أهل القرى فماتوا من الجوع والعري والبرد، وكانت التمرلنكية يأخذون لحوم الكلاب يطعمونها للجمال.

 

ولقد خربت في هذه السنة على أيدي التمرلنكية من البلاد الشمالية: ملطية، وأبلستين، ودرنده، وزبطرا، وكختا، وكركر، وحصن منصور، وبهسنا، وقلعة الروم، وعينتاب، وتل باشر، وكلت، وأغزاز، وحلب الشهباء، والباب، والرها، ومعرة النعمان، وحماة، وبعلبك، وأعظمها دمشق التي لم  يكن مثلها في البلاد من زمن إرم ذات العماد.

 

وأما التي أخذ منها الأموال، ووقع فيها الشتات والنكال: صفد وصيدا وبيروت وخحمي وإلبيرة.

 

وأما التي وقع فيها الحوادث وأُخلِيَ أهلُها منها: رواندان وتبريز وبيسة وحارم وسرمين وشيزر وكرك نوح وطرابلس، وكل ذلك بمقدور الله -تعالى- وصغر سن المقام الشريف، ورأي يشبك الدوادار ومن وافقه على ذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إذا أراد أمراً بلغه.

 

فمن جملة ما قيل في وصف هذه السنة؛ أعني: سنة ثلاث وثمان مئة المشهورة بأمور الشواطية:

 

عينٌ ولا سَمِعَتْ به أذنانِ

 

 

 

سَنةٌ بها أبصَرْتُ ما لا أبْصَرَتْ

 

تسليطِ شَيْطَانٍ على السُّلْطانِ

 

 

 

مِنْ نهْبِ أموالٍ وسَفْكِ دِمَا، ومن

 

وقال آخر:

 

أو ينشُقُونَ من الأسِنّة سَوسَنا

 

 

 

لا  يَشرَبُونَ سوى الدِّماءِ مَدامَةً

 

وقال غيره:

 

فلمّا رأيْتُ القومَ زدْتُ تخَوّفا

 

 

 

وخوّفني ذكْرُ الأسِير لوَصْفِهم

 

وقال آخر غيره:

 

فيها الأَسِنَّةُ مثلُ الشُّهب قد لمَعَتْ

 

 

 

عساكرُ كظَلامِ الليل مُقْبلَةٌ

 

والهامُ قَدْ سَجَدت والبيضُ قد رَكَعَتْ

 

 

 

الخيلُ قَد صَهَلَتْ والسُّمْرُ قَدْ نهَلَتْ

 

فتذكْرتُ قولَ من قال، فضمَمْتُه إلى هذا المقال:

 

مصائبُ قومٍ عنْد قومٍ فوائدُ

 

 

 

بذا قَضَت الأيام ما بين أهلِهَا

 

ووجدتُ بيتين لبعض الشعراء أنشَدَهُما كبيرٌ من كبراء حلب عندما طافت الشوطية ببلده، ثم فرَّ خارجاً منها، وكان مُتَرْجماً بالشجاعة والبسالة، لما عوتب على الهروب وهما في هذا المصراع الذي سيذكر؛ أعني: معناهما: «أعاير بذلك ولا أقتلا».

 

فأما الرملة فإن العشير أخربوها، وأفسدوا فيها وأخذوا أموالها، وزادوا في الطغيان أكثر من التمرلنكية، نعوذ بالله من ذلك».

 

خامساً: حمل بعض شراح الحديث ما حصل من التتار على أنهم هم يأجوج ومأجوج! قال الكرماني في شرحه لـ«صحيح البخاري» المسمى «الكواكب الدراري»([836]) عند شرحه حديثَ زينبَ بنتِ جحش، قالت: «استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمرّاً وجهُه، يقول:لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه»([837]).

 

وعقد سفيان([838]) (أحد رواة الحديث) تسعين أو مئة، قال -رحمه الله تعالى-:

 

«وقد وقع بعضُ ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقال: إن يأجوج هم الترك، وقد أهلكوا الخليفة المستعصم، وجرى ما جرى ببغداد».

 

وقبل هذا العينيُّ مرةً، وردّه أخرى، قال في في «عمدة القاري»([839]):

 

«وإنما خصّ العرب؛ لاحتمال، أنه أراد ما وقع من قتل عثمان بينهم، وقيل: يحتمل أنه أراد ما وقع من الترك من المفاسد العظيمة في بلاد المسلمين من نسل يأجوج ومأجوج» انتهى.

 

ثم نقل ما ذكره هنا عن الكرماني في كلامه السابق وتعقبه، فقال في موطن آخر من «العمدة»([840]) ما نصه:

 

«قال الكرماني: يقال: إن يأجوج ومأجوج هم التُّرك، وجرى ما جرى ببغدادَ منهم! قلت: هذا القول غير صحيح؛ لأن الترك ما لهم ردم، والردم بيننا وبين يأجوج ومأجوج، وهما من بني آدم من أولاد يافثَ بنِ نوح -عليه السلام-، والذي جـرى ببغداد كان من (هلاكو) من أولاد (جنكيز خان) فإنه هو الذي قتل الخليفــة المستعصم بالله العباسي، وأخرب بغداد في سنة ست وخمسين وست مئة» اهـ.

 

ووافق الكرمانيَّ شيخُ شيوخِنا محمد راغب الطباخ في كتابه «ذو القرنين وسد الصين»([841]) وخطّأ العيني، قال:

 

«فقول العيني: «هذا القول غير صحيح»، هو غير صحيح، وهُوَ قَدْ ناقضَ نفسَه حيثُ قال في شرحه للحديث الأول -كما تقدم-: «إن الترك هم من نسل يأجوج ومأجوج، والجميعُ عنصرٌ واحد، وهم من أولاد يافث بن نوح»، فيكون ما قاله الكرماني من أنّ يأجوجَ ومأجوجَ هم الترك، وقد جرى ما جرى ببغداد منهم هو الصَّواب والصحيح».

 

قال أبو عبيدة: اضطربت الأقوال في (يأجوج ومأجوج)، واختلفت أقوال العصريين فيهم على حدّ لا يمكن أن يكون مقبولاً، وقد ذكرتُ ذلك كله، مع تعقب ما ذهب إليه العلامة الطباخ -رحمه الله- في تعليقي على كتابه «ذو القرنين وسد الصين.. من هو.. وأين هو»([842])، وأطلْتُ النفس جدّاً في ذلك، ولا معنى لإيراد ذلك هنا، إلا هذا التنويه والتنبيه، والله الموفق للخيرات، والهادي إلىالصالحات.

 

سادساً: لا يفهم من خلال ما سبق أنّ مقاتَلةَ الأعداء المذكورين في الأحاديث النبوية بصفات معيّنة هي محصورة فيهم، وأنهم هم فقط الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فعلى شهرة ما وقع ببلاد المسلمين من التتار والمغول، وحمل العلماء الأحاديثَ عليهم؛ إلا أنّ في بعضها ما يُشعِر بأن الأمر سيتكرر، وفق سنة الله -عز وجل- الكونية.

 

فقد ورد في حديث بريدة السابق([843]) أنهم يسوقون المسلمين ثلاث مرات، وفيه: «أما السائقة الأولى فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي منهم».

 

ولا ندري هل تمت السياقات الثلاث أم لا؟! قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- في «التذكرة»([844]) عند حديث بريدة:

 

«والحديث يدل على خروجهم وقتالهم المسلمين وقتلهم، وقد وقع ذلك على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فخرج منهم في هذا الوقت أنهم لا يحميهم إلا الله، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم»، وقال -أيضاً-:

 

«قال الحافظ السيد ابن دحية -رضي الله عنه-: يخرج في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وست مئة جيشٌ من الترك يقال له الططر، عظُمَ في قتله الخطب والخطر، وقضى له من قتل النفوس المؤمنة الوطر، ولم تهتد إلى دفعه بالحيل الفطر، يقتلون من وراء النهر وما دونه من جميع البلاد بلاد  خراسان، ومحو رسوم ملك بنى ساسان، وهذا الجيش ممن يكفر بالرحمن، ويُرى أنّ الخالقَ المصورَ هما النيران، وملكهم يعرف بخان خاقان، وخربوا بيوت مدينة نشاور وأطلقوا فيها النيران، وخار عنهم من أهل خوارزم كل إنسان، ولم يبق منهم إلا من اختبأ في المغارات والكهفان؛ حتى وصلوا إليها وقتلوا وسبوا وخربوا البنيان، وأطلقوا الماء في المدينة من نهر جيحان، فغرق فيها مباني الذرا والأركان، ثم صيروا المشهد الرضوي بطوس أرضاً بعد أن كان، وقطعوا ما أمر الله -عز وجل- به أن يوصل من الدين بأخسر الأديان، إلى أن وصلوا بلاد قهستان، فخربوا مدينة الري وقزوين وأبهر وزنجبان، ومدينة أردبيل ومدينة مراغة كرسي بلاد أذربيجان، واستأصلوا شأفة من في هذه البلاد من العلماء  والأعيان، واستباحوا قتل النساء وذبح الولدان، ثم وصلوا إلى العراق الثاني وأعظم مدنه مدينة أصبهان، ودور سورها أربعون ألف ذراع في غاية الارتفاع والإتقان، وأهلها مشتغلون بعلم الحديث فحفظهم الله بهذا الشأن، وكَفَّ كَفَّ الكفر عنهم بإيمان الإيمان، وأنزل عليهم مواد التأييد والإحسان، فتلقوهم بصدور هي في الحقيقة صدور الشجعان، وحققوا الخبر بأنها بلد الفرسان، واجتمع فيها مئة ألف ألف إنسان، وخرجوا إليهم كأُسْد ولكن غاباتها عوامل الخرصان، وقد لبسوا البياض كالثغور الأقحوان، وعليهم دروع فضفاضة في صفاء الغدران، وهُيِّئت للمجاهدين درجاتُ الجنان، وأُعِدت للكافرين دركاتُ النيران، وبرز إلى الططر القتلُ في مضاجعهم، وساقهم القدر المحتوم إلى مصارعهم، فمروا عن أصبهان مروق السهم من الرِّمَى وأنشدوا:

 

إلى الوادي فطمّ على القرى

 

ففروا منهم فرار الشيطان يوم بدر له حصاص، ورأوا أنهم إن وقفوا لم يكن لهم من الهلاك محاص، وواصلوا السير بالسرى وهدوا من همدان الوهاد والذرى بعد أن قامت الحرب على ساق والأرواح في مساق، من ذبح مثله وضرب الأعناق، وصعدوا جبل أورند فقتلوا من فيه من جموع صلحاء المسلمين، وخربوا ما فيه من الجنات والبساتين، وانتهكوا منهم ومن نسائهم حرمات الدين، وكانت استطالتهم على مقدار ثلثي بلاد المشرق الأعلى، وقتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى، وقتلوا في العراق الثاني عدة تقرب أن يستقصى، وربطوا خيولهم في سواري المساجد والجوامع، كما جاء في الحديث المنذر لخروجهم الشارع الجامع، وأوغلوا في بلاد المشرق أي إيغال، ونادوا الجيوش إليها مقادة أبي رغال» في كلام له إلى أن قال:

 

«وقطعوا السبل وأخافوها وجاسوا خلال الديار، وطافوها وملأوا قلوب المؤمنين رعباً وسحبوا ذيل الغلبة على تلك البلاد سحباً، وحكموا سيوفهم في رقاب أهلها، وأطلقوا يد التخريب في وعرها وسهلها، ولا شك أنهم هم المنذر بهم في الحديث، وأن لهم ثلاث خرجات يصطلمون([845]) في الآخرة منها.

 

قال المؤلف -أي: القرطبي-رحمه الله-: فقد كملت -بحمد الله- خرجاتهم، ولم يبق إلا قتلهم وقتالهم، فخرجوا على العراق الأول والثاني كما ذكرنا، وخرجوا في هذا الوقت على العراق الثالث بغداد وما اتصل بها من البلاد، وقتلوا جميع من كان فيها من الملوك والعلماء والفضلاء والعباد، وحصروا ميَّافارقين واستباحوا جميع من فيها من الملوك والمسلمين، وعبروا الفرات إلى أن وصلوا إلى مدينة حلب فخربوها وقتلوا من فيها إلى أن تركوها خالية يباباً، ثم أوغلوا إلى أن ملكوا جميع الشام، في مدة يسيرة من الأيام، وفلقوا بسيوفهم الرؤوس والهام، ودخل رعبهم الديار المصرية، ولم يبق إلا اللحوق بالدار الأخروية، فخرج إليهم من مصر الملك المظفر الملقب بقطز  -رضي الله عنه- بجميع من معه من العسكر، وقد بلغت الحناجر القلوب والأنفس، بعزيمة صادقة ونية خالصة، إلى أن التقى بعين جالوت، فكان له عليهم من النصر والظفر كما كان لطالوت، فقُتِل منهم جَمعٌ كثير وعدد غزير، وانجلوا عن الشام من ساعتهم، ورجع جميعه كما كان إلى الإسلام وعبروا الفرات منهزمين، ورأوا ما لم يشاهدوه منذ زمان ولا حين، وراحوا خائبين خاسرين، مدحورين أذلاء صاغرين».

 

قال أبو عبيدة: حمل بعضُ العلماءِ الأحاديثَ على خروجهم الأول، ووصولهم بلاد قهستان، وخرابهم قزوين.

 

ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة، قال: صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، لم أكن في سنة أحرص على أن أعيَ الحديث مني فيهنّ، سمعته يقول -وقال هكذا بيديه-: «بين يدي الساعة تقاتلون قوماً نعالهم الشعر، وهو هذا البارِز. وقال سفيان([846]) مرة: وهم أهل البازر»([847]).

 

قال القزويني في كتابه «التدوين في أخبار قزوين»([848]):

 

«قوله: «لم أكن في شيء أحرص»، وفي بعض النسخ: «لم أكن في سني»، وهما صحيحان.

 

وقوله: «وقال هكذا بيده»؛ يعني: أشار، يقال: قال بيده، وقال بعينه، كأن السبب في التعبير عن الإشارة بالقول أن الإشارةَ تُفهِمُ المقصودَ إفهام اللفظ.

 

وقوله: «نعالهم الشعر»؛ أي: نعالهم من ضفائر الشعر، أو من جلود غير مدبوغة بقيت  عليها الشعور، وذكر أنه يحتمل أنه أشار به إلى وفور شعورهم، وانتهاء طولها إلى أن يطأوها بأقدامهم أو أن يقرب من الأرض.

 

قوله: وهو هذا البارز، ذكر الحافظ أبو إسحاق الحموي المغربي المعروف بابن قُرْقُول([849]): أن الراء في اللفظ مقدمة على الزاي، مفتوحة باتفاق الرواة، وأن بعضهم قال أنهم الديلم والبارز بلدهم، وحكى اختلافاً في اللفظ المحكية عن سفيان ثانياً، فذكر أن بعض الرواة نقلها بتقديم الراء -أيضاً-، لكن بكسرها.

 

قيل: على هذا أن المعنى هؤلاء البارزون لقتال الإسلام الظاهرون في البراز من الأرض، وأن بعضهم نقلها البازر بتقديم الزاي وفتحها، وأشعر ما ساقه بأن التفسير على هذا كتفسير البارز، وقضية ما ذكر أن البارز أو البازر بلد الديلم أن يكون ذلك اسماً لقزوين؛ لما اشتهر أنها بلد الديلم ومدينتهم».

 

قال: «واعلم أن إيراد جماعة من العلماء يشعر بحمل الحديث على الترك، على ما ورد في بعض روايات الحديث الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: تقاتلون بين يدي الساعة قوماً نعالهم الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين، وهذا نعت الترك، وقد أفصح به بعض الروايات([850])، فقال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتل المسلمون الترك قوماً وجوههم كالمجان المطرقة، ويلبسون الشعر، ويمشون في الشعر».

 

لكن في كثير من الروايات المدونة في الصحاح ما يدل على مقاتل قوم وراء الترك، كما روي أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة»([851]). وعلى هذا فيتّجه([852]) تفسير الأولين بالديلم والآخرين بالترك، ووصف الترك في الرواية السابقة بأن نعالهم الشعر لا يمنع من اختلاف الفريقين، أما إذا حملناه على أن نعالهم من الشعور أو من جلود بقيت عليها الشعور؛ فلأنهم في الأصل بعيداً من التّنعّم والترفُّه، فالترك سكان البوادي، والديلم سكان الشعاب والغياض، وأما إذا حملناه على كثرة الشعور وطولها؛ فلأنهم جميعاً مشغوفون بها، أما       الديلم فيعتنون بتوفيرها منشورة، وأما الترك فيعتنون بتطويلها مضفورة» انتهى كلامه.

 

فصل

 

في قتال الأكراد([853]) وأهل فارس

 

يحتمل أن يكون المراد بالأحاديث المتقدمة قريباً غير ما حصل سابقاً، إذ حملها بعضهم على أقوام غير الترك وأهل الديلم، بل وقع التصريح بذلك عند أبي نعيم الأصبهاني([854]) في «مستخرجه» من طريق سفيان، وقال في آخره: «قال أبو هريرة: وهم هذا البارز؛ يعني: الأكراد».

 

وقال ابن حجر([855]): «وقيل:  هي أرض فارس؛ لأن منهم من يجعل الفاء موحدة([856])، والزاي سيناً».

 

وقال قبله ابن الأثير([857]): «ويعني بأهل البارز أهل فارس، كذا هو بلغتهم، وهكذا جاء في لفظ الحديث، كأنه أبدل السين زاياً([858])، فيكون من باب (الباء والراء) لا من باب (الباء والزاي)، والله أعلم».

 

قلت: مع أنه ساق ذلك تحت (بزر) -بتقديم الزاي على الراء- تبعاً لأبي موسى المديني في كتابه «المجموع المغيث»([859])، فإنه قال ما نصه:

 

«قيل: بازر: ناحية قريبة من كرمان، بها جبال، وفي بعض الروايات: هم الأكراد، فإن كان من هذا، فكأنه أراد أهل البارز، أو يكونوا سمُّوا باسم بلادهم».

 

قال الكرماني في «الكواكب الدراري»([860]):

 

«قيل: المراد بالبارز: أرض فارس، وقيل: أهل البارز هم الأكراد الذين يسكنون في البارز؛ أي: الصحراء، ويحتمل أن يراد به الجبل؛ لأنه بارز عن وجه الأرض، وقيل: هم الديالمة». ونقله عنه العيني في «عمدة القاري»([861]) وأقره.

 

وقال القسطلاني في «إرشاد الساري»([862]):

 

«قيل: هم أهل فارس، أو الأكراد الذين يسكنون في البارز؛ أي: الصحراء، أو الديالمة».

 

قلت: لا يبعد عندي أن يكون المعنيّون أهل فارس والأكراد معاً، على وفق ما حصل ووقع من قريب، ولا سيما أن لفظ الحديث: «بين يدي الساعة تقاتلون قوماً نعالهم الشعر».

 

فظاهره أن مقاتلة هؤلاء تبدأ من المخاطبين، وهم العرب، ويشهد له ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خُوزاً وكرمان من الأعاجم»([863]).

 

و(خُوز)([864]) -بضم الخاء المعجمة، وبالزاي-، قال الكرماني: «هو بلاد الأهواز وتستر»([865]).

 

قال: «(كرمان) -بفتح الكاف وكسرها-، وهو المستعمل عند أهلها بين خراسان وبحر الهند، وبين عراق العجم وسجستان»([866]).

 

قال العيني: «والمعنى: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا أهل (خوز) وأهل (كرمان)، قوله: «من الأعاجم»([867])؛ يعني: هؤلاء الصنفين من الأعاجم».

 

ثم قال: «قيل: فيه إشكال؛ لأن هؤلاء ليسوا من الترك، ورُدَّ بأنه لا إشكال فيه؛ لأن هذا الحديث غير حديث قتال الترك»([868]).

 

وقال القسطلاني: «ويحتمل أن يكون هذا الحديث غير حديث قتال الترك»([869]).

 

وهذا المعنى يلتقي مع ما ورد في قتال (أهل البارز)، وهم -كما قدمنا- أهل فارس والأكراد.

 

ويؤكد ذلك؛ أن ابن حبان في «صحيحه» بوب عليه (ذكر الإخبار عن قتال المسلمين العجم من أهل خُوز وكرمان)([870])، ثم بوب على الأحاديث المتقدمة في ذكر (الترك)([871]) بعده مباشرة (ذكر الإخبار عن قتال المسلمين أعداء الله الترك)([872])، ومن دقته تبويبه بعد بابين من ذلك:

 

(باب الإخبار عن وصف الموضع الذي يكون ابتداء قتال المسلمين إياهم فيه)([873]).

 

وساقه بإسناد صحيح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين، كأنّ أعينهم حَدَقُ الجراد، عراض الوجوه، كأن وجوههم المَجَان المُطْرقة، يجيئون حتى يربطوا خيولهم بالنخل»([874]).

 

وهذا يوافق الآثار التي قدمناها عن غير واحد من الصحابة.

 

ويؤكدّه: أن البخاري قال في «صحيحه» على إثره بعد روايته من طريق يحي: ثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة... وساقه، قال: «تابعه غيره عن عبدالرزاق».

 

قال ابن حجر في «الفتح» (6/608): «وقد أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في «مسنديهما» عن عبدالرزاق، وجعله أحمد حديثين».

 

والشاهد: قوله: «جعله حديثين»، وهو عند أحمد([875]) (2/319) وإسحاق (1/431 رقم 499) في «مسنديهما»، وعزاه لهما ابن حجر في «تغليق التعليق» (4/55) و«هدي الساري» (ص 178)، وأخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/374-375 رقم 20782) ومن طريقه: ابن حبان (6743)، وأبو أحمد العسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/141)، والبيهقي (9/176) وفي «الدلائل» (6/336)، والبغوي في «شرح السنة» (4244)، ولؤلؤ في «جزئه» (رقم 7).

 

و(خُوز): هو إقليم (خوزستان) الآن، غربي إيران، «وتسمية هذا الإقليم بخوزستان قد بطلت، وصارت هذه الولاية التابعة لبلاد فارس تسمى (عربستان) ؛ أي: إقليم العرب»([876])، وفيه (نهر كارون)([877]).

 

وأما (كِرمان) فهو إقليم في الجنوب الشرقي من إيران -أيضاً-([878])، «بين خراسان وبحر الهند»([879]).

 

قال ابن العراقي بعد كلامه المسهب على (خوز) و(كرمان) وصفات هؤلاء القوم المذكورة في الحديث، قال:

 

«هذه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها صلى الله عليه وسلم: صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة، ينتعلون الشعر، فوجدوا بهذه الصفات كلها، وقاتلهم المسلمون مرات، فإلى الله عاقبة الأمور»([880]).

 

قلت: هم غير (الترك)، كما قدمناه بدلائله، ونحن أحق من ابن حجر بقوله([881]): «وقد ظهر مصداق هذا الخبر»، وعجلة الزمان لا تقف، والقصور في زماننا في تتبع وفهم أحاديث أشراط الساعة لائح، وهو من بابة هجران العلم، فشأنه كشأن بحث (النوازل) في الفقه، وكشأن (التجويد) في تحقيق (تراثنا) التليد، وغيره من ضروب وألوان العلم المفيد.

 

والذي يلاحظ بقوّة: أن أشراط الساعة لا تقبل القياس، وهي أخبار لا مجال لإعمال الرأي فيها، والعجلة في إنزالها في غير محالها، أو التكهن بها قبل وقتها يخرجها عن ظاهرها، ولا داعي لذلك كله.

 

بقي بعد ذلك إشكال يذكره الشراح، وهذه عبارة الكرماني([882]) في صياغته وجوابه: «فإن قلت: أهل هذين الإقليمين، ليسوا على هذه الصفة. قلت: إما أن بعضهم كانوا بهذه الأوصاف في ذلك الوقت أو سيصيرون كذلك فيما بعد، وإما أنهم بالنسبة إلى العرب كالتوابع للترك، وقيل: إنّ بلادَهم فيها موضعٌ اسمُه كِرمان، وقيل: ذلك لأنهم متوجهون من هاتين الجهتين. [قال] الطيبي: لعل المراد بهما صنفان من الترك؛ كان أحد أصول أحدهما من خوز، وأحد أصول الآخر من كرمان»([883]).

 

ويعجبني كلام للعيني فيه رد على من دمج بين ما ذكرناه من فتنة التتر والمغول وقتال الفرس والكرد، وفرق بينهما في معرض حديثه عن (التتر)، قال -رحمه الله تعالى-:

 

«كان أول خروج هذا الجنس متغلباً في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وست مئة، فعاثوا في البلاد، وأظهروا في الأرض الفساد، وخربوا جميع المدائن حتى بغداد، وربطوا خيولهم إلى سواري الجوامع، كما في الحديث، وعبروا الفرات، وملكوا أرض الشام في مدة يسيرة، وعزموا على دخولهم إلى مصر، فخرج إليهم ملكها قطز المظفر، فالتقوا بين جالوت، فكان له عليهم من النصر والظفر كما كان لطالوت، فانجلوا عن الشام منهزمين، ورأوا ما لم يشاهدوه منذ زمان ولا حين، وراحوا خاسرين أذلاء صاغرين، والحمد لله رب العالمين.

 

ثم إنهم في سنة ثمان وتسعين ملك عليهم رجل يسمى غازان، زعم أنه من أهل الإيمان، ملك جملة من بلاد الشام، وعاث جيشه فيها عيث عباد الأصنام، فخرج إليهم الملك الناصر محمد فكسرهم كسراً ليس معه انجبار، وتفلل جيش التتار وذهب معظمهم إلى النار وبئس القرار. انتهى كلام صاحب «التلويح».

 

قلت: هذا الذي ذكره ليس على الأصل والوجه؛ لأن هؤلاء الذين ذكرهم ليسوا من خوز ولا من كرمان، وإنما هؤلاء من أولاد جنكز خان، وكان ابتداء ملكه في سنة تسع وتسعين وخمس مئة، ولم يزل في الترقي إلى أن صار يركب في نحو ثمان مئة مقاتل، وأفسد في البلاد، وكان قد استولى على سمرقند وبخارى وخوارزم الذي كرسيها تبريز والري وهمدان، ولم يكن هو دخل بغداد، إنما خرب بغداد وقتل الخليفة هلاون بن طلوخان بن خرخان المذكور، وقتل الخليفة المستعصم بالله وقتل من أهله وقرابته خلق كثير وشعر بنصب الخلافة بعده وكان قتله في سنة ست وخمسين وست مئة، ثم بعد ذلك توجه هلاون إلى حلب في سنة سبع وخمسين وست مئة، ودخلها في أوائل سنة ثمان وخمسين وست مئة، وبقي السيف مبذولاً ودم الإسلام ممطولاً سبعة أيام ولياليها، وقتلوا من أهلها خلقاً لا يحصون، وسبوا من النساء والذراري زهاء مئة ألف، ثم رحل هلاون من حلب ونزل على حمص، وأرسل أكبر نوابه كتيعانو مع اثني عشر طومان، كل طومان عشرة آلاف إلى مصر ليأخذها، وكان صاحب مصر حينئذٍ الملك المظفر، فتجهز وخرج ومعه مقدار اثني عشر ألف نفس مقاتلين في سبيل الله، فتلاقوا على عين جالوت، فنصره الله -تعالى- على التتار، وهزمهم بعون الله ونصرته يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من سنة ثمان وخمسين وست مئة، وقتل كتيعانو في المعركة، وقتل غالب من معه، والذين هربوا قتلهم العرب في البراري والمفاوز.

 

وقال صاحب «التوضيح» تابعاً لصاحب «التلويح»: إنه في سنة ثمان مئة وتسعين، ويسمى غازان إلى آخر ما ذكرناه عن قريب. قلت: هذا -أيضاً- كلام فيه خباط، وهذا غازان -بالغين والزاي المعجمتين- يسمى -أيضاً- قازان    -بالقاف موضع الغين-، واسمه: محمود، تولى مملكة جنكزخان في العراقين وما والاهما بعد بيدوش طرغاي بن هلاون، وكان قتل لسوء سيرته، وقازان بن أرغون بن أبغا بن هلاون مات في سنة ثلاث وسبع مئة، والملك الناصر محمد بن قلاو لم يجتمع بقازان، ولا حصلت بينهما الملاقاة، ولا وقع بينهما حرب، نعم خرج الملك الناصر لأجل حركة قازان في سنة سبع مئة لأجل حركة التتار، وحصل القتال بينه وبين قطلوشاه من أكبر أمراء قازان، فنصر الله -تعالى- الناصر، وانهزم التتار، وعاد عسكر المسلمين منصوراً».

 

وقال ابن كثير بعد أن أورد أحاديث قتال الترك وأحاديث مقاتلة أهل فارس والأكراد:

 

«والمقصود؛ أن الترك قاتلهم الصحابة فهزموهم، وغنموهم، وسبوا نساءهم وأبناءهم.

 

وظاهر هذا الحديث يقتضي أن هذا يكون من أشراط الساعة، لا يكون إلا بين يديها قريباً، فقد يكون هذا واقعاً مدة عظيمة بين المسلمين وبين الترك، حتى يكون آخر ذلك خروج يأجوج ومأجوج، كما سيأتي ذكر أمرهم، وإن كان أشراط الساعة أعم من أن يكون بين يديها قريباً منها، أو يكون مما يقع في الجملة، حتى ولو تقدم قبلها بدهر طويل؛ إلا أنه مما وقع بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب»([884]).

 

فصل

 

حصار العراق الاقتصادي([885])

 

مضى معنا حديث أبي هريرة: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مُدْيها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم»([886]) شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمُه.

 

وكذلك حديث أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبدالله، فقال: يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم؛ يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم. ثم سكت هنيّة. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، لا يعدُّه عدّاً»([887]).

 

وسبق معنى (المنع) واختلاف (الشراح) فيه، وهل وقع أم لا؟! مع قولهم: إن معنى (منع): ستمنع، كما قدمناه عن غير واحد منهم.

 

ويعجبني صنيع ابن كثير إذ وضع هذا الحديث وغيره تحت عنوان (ذكر أنواع من الفتن وقعت وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان)([888]).

 

وإنْ حمل بعض العلماء هذا الحديث على حوادث مضت، فإنّ وقوعه هذه الأيام على وجهٍ أظهر وأشد لقرائن وأمارات كثيرة؛ منها:

 

أولاً: تبويبات بعض العلماء؛ مثل: ما صنعه ابن عساكر، بوّب عليه (باب ذكر بعض ما ورد من الملاحم والفتن مما له تعلّق بدمشق في غابر الزمان)([889])، وما صنعه أبو عمرو الداني، بوّب عليه (باب ما جاء في خروج الروم)([890]).

 

ثانياً: قال الداودي عند إيراده هذا الحديث: «يريد أن ذلك يكون في آخر الزمان»([891]) وقد حمله جمع على أمر قد تمّ؛ منهم:

 

ابن حزم، قال بعد كلام: «إنه -أي: هذا الحديث- إنذار منه -عليه السلام- بسوء العاقبة في آخر الأمر، وأنّ المسلمين سيمنعون حقوقهم في هذه البلاد، ويعودون كما بدأوا، وهذا -أيضاً- حق قد ظهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون»([892]).

 

وذكر ذلك بناءً على معنىً ذكره في مكان سابق لهذا الكلام، قال:

 

«وإنما قصد -عليه السلام- في هذا الحديث الإنذار بجلاء أيدي المفتتحين لهذه البلاد من أخذ طعامها ودراهمها ودنانيرها فقط، وقد ظهر ما أنذر به -عليه السلام-»([893]).

 

فكأنه أراد أن معنى (المنع): «سيرجعون من الطاعة، ويأبون مَنْ إذا ما  وُظِّفَ عليهم في أحدِ الأمر، وذلك أنهم يرتدون عن الإسلام، وعن أداء الجزية، ولم يكن ذلك في زمانه، ولكن أخبر أنهم سيفعلون ذلك»([894]).

 

وفي هذا المعنى نظر، قدمنا المؤاخذات عليه فيما مضى([895]).

 

وممن ذهب إلى هذا الرأي([896]) من الأقدمين -قبل ابن حزم-: الخطابي، قال -رحمه الله تعالى-:

 

«ومعنى الحديث، أنّ ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين، ويوضع عليها الخراج شيئاً مقدراً بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان، وخرج الأمر في ذلك على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم». وارتضاه ابن الجوزي([897]) وصاحب «عون المعبود»([898]) والبُجُمْعَوِي([899])، وزاد عليه: «قلت: فارتفع في زماننا، فهو من معجزات النبوة».

 

وسبق قول النووي([900]) -وارتضاه صاحب «عون المعبود»([901])-: «هذا قد وجد في زماننا في العراق».

 

وقال السيوطي شارحاً للحديث: «هذا قد وجد في زماننا، وهو الآن موجود لما غلبت عليه التتار»([902]).

 

بينما ذهب صديق حسن خان إلى أن ذلك وقع في زمانه، قال -رحمه الله تعالى- بعد كلام النووي على الحديث -وسبق إيرادنا إياه-:

 

«قلت: وقد وجد ذلك كله، في هذا الزمان الحاضر، في العراق والشام ومصر، واستولى الروم -يعني: النصارى- على أكثر البلاد، في هذه المئة الثالثة عشر، ولهم الاستيلاء على سائرها كل يوم، ولله الأمر من قبل ومن بعد»([903]).

 

وعلق عليه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- بقوله:

 

«قلت: وقد انسحبوا -والحمد لله- من البلاد المذكورة، فاستقلت سورية والعراق ومصر، ولكن الكفار قد خلفوا في هذه البلاد من ثقافاتهم وقوانينهم وعاداتهم، ما لا تزال البلاد تشكو من شرورها وويلاتها، كما لو كانوا لا يزالون فيها، أو شر من ذلك، فقد دبت الفرقة والخلافات الحزبية بين سكانها، وتعددت الانقلابات العسكرية فيها، والله يعلم متى يعود الهدوء إليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى الشرع: الكتاب والسنة»([904]).

 

وقد ذهب -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة»([905]) إلى تقوية المراد بـ(المنع) ما قاله النووي: «معناه: أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدّونه من الجزية والخراج وغير ذلك»([906])، قال بعده مباشرة:

 

«قلت: وهذا المعنى هو الظاهر المتبادر من لفظ «المنع»؛ بخلاف المعنى الأول، فهو عنه بعيد جدّاً؛ لأن من أسلم وسقطت عنه الجزية لا يصح أن يقال فيه: امتنع من أداء ما عليه؛ كما هو ظاهر بين.

 

ولقد كان الداعي إلى تخريج هذا الحديث؛ وبيان أن الموقوف منه في حكم المرفوع، وبيان معناه؛ أن بعض الناس اليوم ظنوا أن لهذا الحديث علاقة بالفتنة العمياء التي حلت على المسلمين بسبب اجتياح الجيش العراقي لدولة الكويت، وما فرض على العراق من الحصار البري والبحري والجوي؛ لمنع وصول المُؤَن والأرزاق إليها من البلاد المسالمة لها!

 

فكثر السؤال عن هذا الحديث بهذه المناسبة، وهل له علاقة أو ارتباط بهذا الحصار للعراق؟

 

فأجبت بالنفي، وبينت لهم معناه بنحو ما تقدم نقله عن الإمام النووي   -رحمه الله-.

 

كتبت هذا نهار الأربعاء: 1 صفر سنة 1411هـ. كفى الله المسلمين شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن».

 

بينما تردد بعض المعاصرين([907]) في ذلك، فقال:

 

«مسألة: في قول جابر -رضي الله عنه-: «يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم..» وهذا نور النبوة، ولا يُدرى هل وقع هذا الحصار لأهل العراق، ثم لأهل الشام؟ وهل يكون ما وقع من الحصار أيام الحروب الصليبية والتتار؟ أم لا يزال في علم الغيب، ويكون هذا الحصار أيام الملاحم قبل نزول عيسى -عليه السلام- والله -تعالى- أعلم».

 

وجزم آخرون بأنه الحصار الذي ضرب على العراق منذ سنتين، قال صاحب كتاب «عمر أمة الإسلام»([908]) في (الفصل الثاني: أهم علامات الساعة الصغرى)([909]):

 

«تُحاصر العراق ويمنع عنها الطعام والمساعدات.

 

ثم تحاصر الشام (سوريا - لبنان - الأردن - فلسطين) كذلك فيمنع عنها الطعام والمساعدات، وهاتان العلامتان السابقتان من أعجب ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر الزمان، فقد وقع هذا قريباً جدّاً، حوصرت العراق، ثم حوصرت فلسطين، وتحقق قول نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي ما ينطق عن الهوى إذ قال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل العجم؛ يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهلُ الشام أن لا يُجبى إليهم دينارٌ ولا مُدْي. قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قِبَل الروم...»»([910]).

 

ثالثاً: المتمعن في الكلام السابق يجد أن القائلين بأن الأمر قد ظهر تتفاوت أزمانهم، فأولهم الخطابي، وهو من وفيات سنة 388هـ، ثم ابن حزم، وهو من وفيات سنة 456هـ، مروراً بالنووي، وهو من وفيات سنة 676هـ، ثم السيوطي، وهو من وفيات سنة 911هـ، ثم البُجُمْعَوي([911])، وهو من وفيات سنة 1306هـ، ومثله صديق حسن خان، وهو من وفيات سنة 1307هـ، فهؤلاء على تفاوت سنيّ وفياتهم، كل منهم يقول: إن هذا المنع حصل في زمانه، وهذا يؤكد مقولة ابن كثير: «وقعت وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان»([912]).

 

رابعاً: في الحديث ما يشير إلى هذا التكرار، وأنّ وقوعه عند اشتداد غربة الإسلام([913]) في سائر الدّيار، عدا مدينة المختار -صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على دربه ما تعاقب الليل والنهار-.

 

وسبقت([914]) رواية مسلم، أن جابراً بعد أن ذكر «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم... يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم...» رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديث: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً، ولا يعدُّه عدّاً».

 

وكذا صنع في رواية البيهقي في «الدلائل» وغيره، وزاد قوله على إثره:

 

«والذي نفسي بيده، ليعودن الأمر كما بدأ، ليعودن كل إيمان إلى المدينة، كما بدأ منها، حتى يكون كل إيمان بالمدينة». ثم أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

 

«لا يخرج رجل من المدينة رغبةً عنها؛ إلا أبدلها الله خيراً منه، وليسمعن ناس برخص من أسعار ورزق يتبعونه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وإسناده صحيح([915]).

 

ويستفاد من هذا: إن منع خيرات العراق والشام يسبق المهدي، فالخليفة الذي يحثي المال حثياً، ولا يعده عدّاً هو المهدي، وترجم عليه أبو عمرو الداني في كتابه «الفتن» (5/1029، 1053) (باب ما جاء في المهدي)، وعلى هذا جمهور مَن ألّف في أشراط الساعة؛ مثل: القرطبي في «التذكرة»، فوضعه في (باب: في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي، وعلامة خروجه)([916])، وممن تحمّس لهذا: صديق حسن خان، قال:

 

«وهذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة، يكون لكثرة الأموال والغنائم، والفتوحات، مع سخاء نفسه.

 

قاله النووي([917])، ولم يزد على ذلك، ولم يبين المراد من هذا الخليفة، من هو؟ وهل مضى، أو يكون؟

 

«قال([918]): قلت لأبي نضرة، وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبدالعزيز؟» الخليفة الأموي، الذي كان خير الناس في زمنه، ويقال له: (عمر الثاني)([919])، لعدله وتقواه.

 

«فقالا: لا»([920])، وإنما أنكرا ذلك؛ لأن الحديث يدل على أن هذا الخليفة يكون في آخر أمته صلى الله عليه وسلم، ولم يكن زمن (ابن عبدالعزيز) آخر مدة هذه الأمة، لأحاديث أخرى وردت في بقائها، إلى مدة طويلة، وأمد بعيد.

 

وفي رواية أخرى، بلفظ: «يكون في أمتي خليفة، يحثُو المال في الناس حثْياً» أخرجه الدارقطني. قال الشوكاني -رحمه الله-: رجاله رجال الصحيح. انتهى.

 

وهذا محمول على حديث الباب، والظاهر أن المراد بهذا الخليفة؛ هو: (المهدي)([921]) الفاطمي، الموعود المنتظر، لتظاهر الأدلة على ذلك، وقد ذكرنا جملة الأحاديث الواردة فيه -عليه السلام-، في (اليقظة)؛ فراجعْهُ»([922]).

 

قال أبو عبيدة:

 

يدل عليه رواية داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وجابر، وذكراه مرفوعاً مختصراً بلفظ: «يكون في آخر الزمان خليفة، يقسم المال ولا يعده».

 

أخرجه مسلم (2913، 2914) بعد (69)، وأبو يعلى (1216)، وأحمد (3/333)، والحاكم (4/454).

 

وأخرجه أحمد (3/98) عن مجالد، عن أبي الوَدَّاك، عن أبي سعيد، قال:

 

قلت: والله ما يأتي علينا أمير إلا هو شرٌّ من الماضي، ولا عام إلا وهو شرٌّ من الماضي. قال:

 

لولا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت مثل ما تقول، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

«إن من أمرائكم أميراً يحثي المال حثياً، ولا يعدُّه عدّاً، يأتيه الرجل يسأَلُهُ، فيقول: خُذْ، فيبسُطُ الرجلُ ثوبَه فيحثي فيه -وبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحفةً غليظة، كانت عليه؛ يحكي صنيعَ الرجل-، ثم جمع إليه أكنافَها، فيأخذه، ثم ينطلق».

 

ومجالد -وهو: ابن سعيد- ليس بالقوي، وبقية رجاله ثقات.

 

وفي رواية أخرى عنده (3/37) من طريق المعلى بن زياد: ثنا العلاء ابن بشير، عن أبي الصِّدِّيق النّاجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«أبشِّرُكُم بالمهدي، يُبعثُ في أمتي على اختلافٍ من الناس وزلازلَ، فيملأُ الأرض قسطاً وعدلاً؛ كما مُلئت جَوراً وظُلماً، يَرضَى عنه ساكنُ السَّماء وساكن الأرض، يَقسِمُ المالَ صَحَاحاً». فقال له رجل: ما صَحَاحاً؟ قال: «بالسَّوية بين الناس». قال: «ويملأ الله قلوبَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم غنىً، ويسعُهُم عَدْلَه، حتى يأمرَ منادياً فينادي، فيقول: مَنْ له في مال حاجة؟ فما يقومُ من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السَّدّان (يعني: الخازن)، فقل له: إنّ المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: احثُ! حتى إذا جعله في حِجْره وأبرزه نَدِمَ، فيقول: كنت أجْشَعَ أمةِ محمد نَفْساً، أَوَعَجَزَ عني ما وَسِعَهُم؟! قال: فيرُدُّه فلا يُقبلُ منه، فيُقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه.

 

فيكون كذلك سبعَ سنين، أو ثمان سنين، أو تِسْعَ سنين، ثم لا خير في العيش بعده، أو قال: ثم لا خير في الحياة بعده».

 

قلت: ورجاله ثقات رجال مسلم؛ غير العلاء بن بشير -وهو المزني-، وهو مجهول؛ كما في «التقريب»، لم يرو عنه غير المعلى بن زياد القردوسي، لم يوثقه غير ابن حبان، لكن قد توبع على بعضه عند الحاكم (4/558).

 

ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً بلفظ:

 

«يخرج عند انقطاعٍ من الزمان، وظهورٍ من الفتن رجلٌ يقال له: (السَّفّاح)، فيكون إعطاؤه المال حثياً».

 

أخرجه أحمد (3/80)، وإسناده ضعيف؛ لضعف عطية([923])، وبقية رجاله ثقات.

 

وأخرجه ابن أبي شيبة (15/196)، وأبو يعلى (1105)، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/136) من طرق عن عطية، دون لفظ (السفاح)!

 

ولفظ ابن أبي شيبة: «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمن، وظهور من الفتن، يكون عطاؤه حثياً».

 

ولفظ أبي يعلى: «يكون في آخر الزمان على تظاهر العمر، وانقطاع من الزمان، إمام يكون أعطى الناس، يجيئه الرجل فيحثوا له في حجره، يهمّه من يقبل عنه صدقة ذلك المال ما بينه وبين أهله؛ لما يصيب الناس من الخير».

 

والشاهد أن قول جابر: «ليعودن الأمر كما بدأ، ليعودن كل إيمان إلى المدينة، كما بدأ منها» بعد ذكر منع خيرات (العراق) و(الشام) يدل على أنه سيكون على وجه ظاهر آخر الزمان، ويبدأ بالعراق، ثم ينتقل إلى الشام، ثم إلى مصر([924])، ويكون ذلك عند غربة الإسلام، وطمع الكفار فيهم، وأن الفتن آنذاك تعم البلاد جميعها، ويبقى الإيمان والدين الظاهر في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قول أبي هريرة بعد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها، منعت الشام مُدْيها ودينارها، منعت مصر إِرْدبَّها ودينارها»([925])، قال:

 

«وعدتم من حيث بدأتم»، وأكده بأمرين:

 

الأول: تكرار هذه المقولة ثلاثاً.

 

والآخر: قوله عقب التكرار: «شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه».

 

معناه: صدّق بهذا الحديث، وشهد بصدقه كل جزء في أبي هريرة، وهذا يستلزم بأن هذا الحديث حق في نفسه، ولا بد من وقوعه([926]).

 

و«هذا توثيق منه -رضي الله عنه- في أن الحديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، ولا شبهة طارئة عليه»([927]).

 

ومن الجدير بالذكر أن هذا الحديث ليس في ألفاظه إلا «منعت العراق...»، ولا يستفاد بأبي دلالة من الدلالات المعتبرة منه وقوع (الحصار)، وإن كان الواقع من جهة، والعقل السليم من جهة أخرى يستلزم من (منع) العراق خيراتها لأهلها، أن يكون ذلك من خلال قوة ضاغطة عليها، تحول دون ذلك، وقد يبتدئ ذلك بـ(الحصار)، وينتهي بـ(الاحتلال)، ويساعد على الثاني:

 

ما أخرجه ابن النجار([928]) -كما في «كنز العمال» (11/232 رقم 31348)- عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنكم براكبٍ قد أتاكم، فنزل، فقال: الأرض أرضُنا، والمصر مصرُنا، والفيء فيئنا، وإنما أنتم عبيدُنا، فحال بين الأرامل واليتامى وما أفاء الله عليهم».

 

وفي هذا الحديث ذكر لـ(مصر)، وقد جاءهم (الراكب) -على فرض صحة الحديث-، وسيعود لما دللنا عليه من أن منع الخيرات سيسبق المهدي، وظفرتُ بكلام للإمام ابن القيم في «أحكام أهل الذمة»([929]) فيه بيان وقوع الحديث على وجهٍ جليٍّ جدّاً، وهذا نص كلامه بحروفه:

 

«وكذلك في أيام الآمر بأمر الله امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف «بالراهب» ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفيّ الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريين، فصادر اللعين عامة مَنْ بالديار المصرية من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوفه بعض مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذّره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سبباً لهلاكه. وكان جماعة من كتاب مصر وقبطها في مجلسه، فقال مخاطباً له ومسمعاً للجماعة: نحن مُلاّك هذه الديار حرباً وخراجاً: ملكها المسلمون منا، وتغلبوا عليها، وغصبوها، واستملكوها من أيدينها، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلّ لنا، وبعض ما نستحقه عليهم، فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم. وأنشد:

 

وأهانوها فديست بالقدم

 

 

 

بنت كرم غصبوها أمَّها

 

ولَناهيكَ بخصم يحتكم

 

 

 

ثم عادوا حكّموها فيهمُ

 

فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضوا عليه بالنواجذ حتى قيل: إن الذي اختاطَّ عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مئتا ألف واثنان وسبعون ألفاً ما بين دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل، ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله.

 

ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضبَ لله غضبَ ناصرٍ للدين وبارٍّ بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار([930])، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله -تعالى- أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألا يولوا شيئاً من أعمال الإسلام، وأن ينشؤوا في ذلك كتاباً يقف عليه الخاص والعام، فكتب عنه ما نسخته: ...» وذكره بطوله.

 

فصل

 

المدينة النبوية ونصيبها من الفتن

 

في هذه الفترة التي يطمع بها الكفار في خيرات بلاد المسلمين، في (العراق) و(الشام) و(مصر) تعمر المدينة بالإيمان، وتشتد الفتن في غيرها بمضيّ الزمان، ويكون حال أهلها كالمرابط على الثغران.

 

أخرج أبو داود (4250، 4299) وتمام في «الفوائد» (5/157 رقم 1733 - ترتيبه «الروض البسام») والطبراني في «المعجم الصغير» (2/113 رقم 873 - «الروض الداني») والحاكم في «المستدرك» (4/511) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون آخر مسالح أمتي بسلاح من خيبر».

 

ولفظ أبي داود: «يوشك المسلمون أن يُحاصروا إلى المدينة، حتى يكون أبعد مسالحهم سَلاح»، وإسناده قوي.

 

وأخرجه هشام بن عمار في «حديثه» (ص 161 رقم 73) وأحمد في «المسند» (2/402) والطبراني في «المعجم الصغير» (1/385 رقم 644 - «الروض الداني») و«الأوسط» (7/24 رقم 6743 - ط. الحرمين) بسندٍ ضعيف عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يوشك أن يرجع الناس إلى المدينة، حتى تصير مسالحهم بسَلاح».

 

وأخرجه الحاكم (4/511) بسند صحيح عن أبي هريرة، قال: «يوشك أن يكون أقصى مسالح المسلمين سلاح»([931])، وسلاح قريب من خيبر([932]).

 

ومعنى (مسالح) جمع (مَسْلَحة)؛ «وهي كالثغر والمَرْقب، يكون فيه أقوام يرقبون العدو، لئلا يطرقهم غفلةً»([933]).

 

و(سَلاح) موضع أسفل خيبر([934])، وهو حد بينها وبين المدينة.

 

وظاهره أن المسلمين يحاصرون في المدينة إلى جهة خيبر، وأن خيبر وما وراءها تصيبها الغربة التي تحل بسائر الأقطار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

وفي هذا الوقت يخرج ناس من المدينة رغبة عنها، وطمعاً برزق ورخص فيتبعونه، ويبدلها الله خيراً منهم، والخروج من المدينة بالجملة يخالف (الأحاديث الواردة في الحث على سكناها)([935])، وهذا الخروج غير الخروج المذكور عند الفتوحات لبلادها المجاورة، الوارد في «الصحيحين» من حديث سفيان بن أبي زهير -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفتح اليمن، فيأتي قوم يَبُسّون([936])، فيتحَمَّلون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتح الشام، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتح العراق، فيأتي قومٌ يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون»([937]).

 

وغيرها مما هو في معناها وبابتها([938])، وإن كان هذا الخروج مرجوحاً مع انتشار الدين وفتوح البلدان، فهو -بلا شك- أسوأ منه حالاً عند الغربة واشتداد الفتن، و(المدينة) هي الدار التي تَبوّأَ فيها الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان، وهكذا تعود في حقبة من آخر الزمان، والله المستعان، وعليه التُّكلان.

 

فصل

 

في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «وعدتم من حيث بدأتم»

 

الناظر في (بدء) الإسلام، يجد أن «مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وابتداء النبوة له بها، ونزل الكتاب عليه بمكة، ثم أسري به إلى الشام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم رجع إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، ثم في آخر عمره كتب إلى الشام، وإلى هرقل، وإلى كثير من أتباعه، ثم غزا بنفسه غزوة تبوك، ثم رجع، ثم بعث سرية إلى مؤتة، ثم بعث جيش أسامة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجهم، ثم ابتدأ أبو بكر الصديق بفتوح الشام، واستكمل في زمن عمر -رضي الله عنه-»([939]).

 

أخرج السرقسطي في «الدلائل في غريب الحديث» (2/921) عن حذيفة، قال: «إن الله بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جزيرة العرب، فملأها قسطاً وعدلاً، ثم طعن بهم أبو بكر، فطعن بهم طعنة رغيبة، ثم طعن بهم عمر طعنة رغيبة حق رغيبة»([940]).

 

ومعناه: أن أبا بكر طعن بالناس طعنة رغيبة؛ وهي تسييره إياهم إلى الشام، وفتحه إياها بهم، وكذلك تسييرهم عمر -رضي الله عنه- إلى العراق وفتحها بهم، وجعلها حذيفة (رغيبة حق رغيبة) لكثرة الخير الذي ناله المسلمون آنذاك من العراق، وقد تقدم بيان ذلك([941]).

 

هذا معنى «بدأتم»، فما المراد يا ترى بـ«عدتم»؟

 

قال النووي([942]) -وعنه السيوطي([943]) وغيره- في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وعدتم من حيث بدأتم»: «فهو بمعنى الحديث الآخر: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ»».

 

وقد فصل أبو العباس القرطبي([944]) قليلاً، فقال: «أي: رجعتم على الحالة الأولى التي كنتم عليها من فساد الأمر، وافتراق الكلمة، وغلبة الأهواء، وذهاب الدين».

 

«وحاصل معناه: أن الإسلام بدأ في قلة من العَدد والعُدد، وسيعود إلى تلك الحالة في آخر الزمان»([945]).

 

وقال الشوكاني: «أي: رجعتم إلى الكفر بعد الإسلام»([946]).

 

وقال صديق حسن خان بعد كلام النووي السابق:

 

«وهذا -أيضاً- قد وجد على الوجه الأتم، وبلغت «غربة الإسلام» إلى أن لم يبق في أيديه حلٌّ ولا عقد، وصار أهله كالعبيد والأسراء في أيدي الروم([947])، كما كانت حال «بني إسرائيل» عند فرعون مصر، والناس ينتظرون ظهور المهدي ونزول عيسى -عليهما السلام-، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، فقد طال الزمان، وآذنت الدنيا بانصرامها، وظهرت جملة الأشراط، وكملت، ودنت هذه المئة إلى الختم، ولم يبق منها إلا شهران، وسنة واحدة، وملئت الدنيا جوراً، وظلماً، وعدواناً، وفسقاً، وفجوراً، وجمعت المنكرات كلها، في كل قطر من أقطار الأرض، وعمت الكبائر في العجم والعرب، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً»([948]).

 

وفصّل الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في هذا المعنى، وجعل (الغربة) في (المكان)؛ حيث قال:

 

«وفي قوله: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ إشارة إلى استحكام غربة الإسلام، ورجوعه إلى مقره الأول؛ كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها». رواه: الإمام أحمد، والشيخان، وابن ماجه؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-([949]). وفي رواية لأحمد: «إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها»([950]).

 

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها». رواه مسلم([951]).

 

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. رواه الإمام أحمد وغيره([952]).

 

وعن عبدالرحمن بن سنَّة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه         -أيضاً-. رواه عبدالله ابن الإمام أحمد، والطبراني([953]).

 

وعن عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك -أيضاً-. رواه الترمذي([954]).

 

وقد تقدمت هذه الأحاديث في باب غربة الإسلام، وما ذكر فيها من انضمام الإيمان إلى المدينة وما حولها لم يقع إلى الآن، ويوشك أن يقع، والله المستعان»([955]).

 

والمراد بالمسجدين: مسجد الكعبة ومسجد المدينة، قال النووي: «معناه أن الإيمان أولاً وآخراً بهذه الصفة؛ لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه أتى المدينة، إما مهاجراً أو مستوطناً، وإما متشوقاً إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعلماً منه ومتقرباً، ثم بعده هكذا في زمن الخلفاء كذلك»([956]).

 

قلت: ولا شك أن في قوله «وعدتم من حيث بدأتم» دقة متناهية؛ إذ (حيث) ظرف مكان، قال سيبويه:

 

«وأما (حيث)؛ فمكان، بمنزلة قولك: هو في المكان الذي فيه زيد»([957])، وهي مبنية «وعلّة بنائها احتياجها إلى جملة»([958])، و«إنما احتاجت إلى جملة من جهة أن وضعها لمكان منسوب إلى نسبة، وتلك النسبة لا تحصل إلا بالجملة»([959])، ونُسِبت في هذا الحديث إلى البدء، ففيه «حيث بدأتم».

 

و(البدء) كان في المدينة، وكانوا في غُربة، وهذا ما وقع التصريح به في حديث جابر في رواية البيهقي في «الدلائل»، فإنه لما ذكر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم درهم ولا قفيز...»، قال في آخره ورفعه: «والذي نفسي بيده ليعودنّ الأمر كما بدأ، ليعودنّ كل إيمان إلى المدينة كما بدأ منها، حتى يكون كل إيمان بالمدينة»([960]).

 

وظاهر أحاديث الغربة العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلّة، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد من الناس وقلة -أيضاً-، كما بدأ وجاء([961]).

 

وليس المراد ذهاب الإسلام بالكلية، قال الأوزاعي في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ»: «أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى منهم في البلد إلا رجل واحد» نقله عنه ابن رجب، وزاد: «ولهذا يوجد في كلام السلف -كثيراً- مدح السنة ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلّة»، قال بعد أن أورد نصوصاً:

 

«وفي هذا إشارة إلى قلّة عددهم، وقلّة المستجيبين لهم، والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم، والعاصين لهم»([962]).

 

وهؤلاء ولا سيما في وقت الفتنة في ديار الفتنة([963]) «هم الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدّاً سموا (غرباء)، فإن أكثر الناس على غير صفاتهم، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء»([964]).

 

وفي قوله: «وعدتم من حيث بدأتم» إشارة إلى عموم الفتن وغربة السنة؛ إلا في المدينة «وقد تكون الغربة في بعض شرائعه ما يصير به غريباً بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد»([965]).

 

وقد تشتد الغربة، فيكون «الغرباء هم الذين هجروا أوطانهم إلى الله    -تعالى-»([966]).

 

فصل

 

في خروج خيار أهل العراق منها

 

أخرج أحمد (5/249) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/97)-: حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد، عن الجُرَيري، عن أبي المشّاء    -وهو لقيط بن المشّاء- عن أبي أمامة، قال:

 

«لا تقوم الساعة حتى يتحوّل خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق».

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشام».

 

وأخرجه أبو المعالي المشرّف بن المرجي في «فضائل بيت المقدس» (ص 450-451) من طريق عبدالصمد بن عبدالوارث، به، ووقع في مطبوعه «أبو المسافر»، وهو تحريف عن «أبي المشاء».

 

وعزاه لأحمد: شهاب الدين المقدسي في «مثير الغرام» (ص 101)، وفي مطبوعه «أبو المساور»، وابن رجب في «فضائل الشام» (ص 55/رقم 49)، ومحمد بن عبدالهادي في «فضائل الشام» -أيضاً- (ص 23/رقم 7)، وفي مطبوعهما: «عن أبي المثنى -وهو لقيط بن المثنى»، وكذا وقع في الطبعة الميمنية من «المسند» (5/249)، وفي «تعجيل المنفعة» (355، 519([967]) - ط. الهندية)، وكله تحريف، صوابه ما أثبتناه، وهو على الجادة في كتب التراجم([968]) و«أطراف المسند» (6/35)، و«المسند» (36/461 - ط. مؤسسة الرسالة)، و«إتحاف المهرة» (6/258 رقم 6478).

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/631 رقم 1762): حدثنا ابن عبدالوارث، به.

 

وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/245 - ط. الهندية و8/701 رقم 97 - ط. دار الفكر) عن يزيد بن هارون، أخبرنا حماد، به، دون المرفوع([969]).

 

وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/316) من طريق معاذ بن هانئ، نا حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس([970])، عن أبي المشاء، عن أبي أُمامة، قال: «لا تقوم الساعة حتى تتحول أشرار الناس إلى العراق، وخيار أهل العراق إلى الشام، حتى تكون الشام شاماً، والعراق عراقاً».

 

وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح، غير أبي المشاء لقيط بن المشاء، روى عنه قُرة بن خالد والجُريري، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/344)، وقال: «يخطئ ويخالف».

 

وله شواهد كثيرة تدلل على صحته؛ منها:

 

ما أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/316) بسندٍ جيد عن شرحبيل بن مسلم، عن أبيه، قال: بلغنا أنه لن تقوم الساعة حتى يخرج خيار أهل العراق إلى الشام، ويخرج شرار أهل الشام إلى العراق.

 

ومنها: ما أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/373 رقم 20778)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (رقم 19438)، والحاكم في «المستدرك» (4/457)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/315) عن عبدالله بن عمرو، قال: «ليأتينّ على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا كان بالشام. وإسناده جيد.

 

وأخرجه المشرَّف بن المرجَّى في «فضائل بيت المقدس» (ص 450)، وابن عساكر (1/315-316) مرفوعاً، وقال: «وليس بالمحفوظ، والمحفوظ الموقوف». وأقره ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 45).

 

قلت: وله حكم الرفع([971])، وأسنده ابن عساكر (1/316) بعده عن ابن عمر قوله.

 

وفضائل الشام كثيرة، وكون جند الشام هم خير الناس([972]) شهيرة، ولكن هذا في غير الأوان الذي نحن بصدده، مع التنويه بأن هذا التحول إلى الشام يكون على وجه ظاهر في أتون الفتنة، وشدّتها، وانتشارها في أقطار الأرض([973]).

 

أخرج أحمد في «المسند» (5/33) وفي «فضائل الصحابة» (719)، والطيالسي في «المسند» (2/577-578 رقم 1345 - ط. هجر) -ومن طريقه أبو نعيم في «الإمامة والرد على الرافضة» (152)-، وابن أبي عاصم في «السنة» (1294)، والقطيعي في «زوائد الفضائل» (825) عن ابن حوالة ضمن حديث طويل، فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ابن حَوالة! كيف تصنع في فتنة تثور في أقطار الأرض، كأنها صياصي بقر؟ قال: قلت: أصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: عليك بالشام».

 

وإسناده صحيح، وعزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة» (10/159-160 رقم 9767) للطيالسي وابن أبي شيبة في «مسنديهما»([974])، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/225-226): «رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح».

 

وقوله: «كأنها صياصي بقر»؛ أي: قرونها، شبه الفتنة بها لشدتها، وصعوبة الأمر فيها([975]).

 

أخرج أبو داود في «السنن» في كتاب السنة (باب في الخلفاء) (5/32 رقم 4638 - ط. الدعّاس) -ومن طريقه برواية اللؤلؤي عنه: ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/245)- بسندٍ صحيح عن مكحول، قال:

 

لتَمخُرَنَّ الرومُ الشامَ أربعين صباحاً، لا يمتنع منها إلا دمشق وعَمّان.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/437 رقم 1257) مثله؛ إلا أن في آخره: «إلا دمشق وأعالي البلقاء».

 

وأخرج أبو داود -أيضاً- (5/32-33 رقم 4639 - ط. الدعاس)     -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/245)- عن أبي الأَعيس عبدالرحمن بن سلمان، قال:

 

«سيأتي مَلِكٌ من ملوك العجم، يظهر على المدائن كلها إلا دمشق».

 

وهذان الأثران موجودان في بعض نسخ «سنن أبي داود»([976]) دون بعض، وأثبتها الحافظ ابن حجر في حاشية نسخة، وعزا الثاني لرواية اللؤلؤي وحده، وهما في «عون المعبود» (12/390-391، 391 رقم 4614، 4615)، و«بذل المجهود» (18/161-162)، وفيه على الأثرين:

 

«كتب مولانا محمد يحيى المرحوم في «تقريره»: «ولا يدرى متى يكون ذلك»، وعلى الثاني: «وهذا -أيضاً- موقوف على أبي الأعيس، ولعله سمعه من بعض الصحابة، ولعله إشارة إلى ما وقع من تيمور على بلاد الإسلام»!

 

قلت: الظاهر خلافه، فإن تيمور اعتدى على دمشق، ولم تسلم منه، وهذا -والله أعلم- في آخر الزمان، وبوب عليه ابن عساكر مع أحاديث وآثار أخر (أنها -أي: دمشق- فسطاط المسلمين يوم الملحمة)([977]).

 

ثم وجدتُ عند نعيم بن حماد في «الفتن» (2/438 رقم 1258) بلفظ يدل على ما ذكرتُ؛ وهو: «يغلب ملك من ملوك الروم على الشام كله، إلا دمشق وعمان، ثم ينهزم، وتبنى قيسارية أرض الروم، فتصير جند من أجناد أهل الشام، ثم تظهر نار من عدن أبين». وأعاد آخره (2/628 رقم 1753).

 

ومعنى: «لتَمخُرَنَّ الروم الشام»؛ أراد: أنها تدخل الشام وتخوضه، وتجوس خلاله، وتتمكن منه، فشبهه بمخر السفينة البحر([978]).

 

ومع هذا؛ فالشام معقل للمسلمين من الفتن، وذلك عند اشتدادها بالعراق خاصة، وأما عند قيام الساعة، وخراب المدينة؛ فهي تعمر، ولا سيما فلسطين منها، وهي التي ينتقم الله بأهلها من الروم في الملاحم.

 

والظاهر مما ورد من الأخبار، أن الخروج من العراق يقع مرات، ويكثر ويعسر مع اشتداد اعتداء العجم عليها، وهذا البيان والدليل:

 

أولاً: مضى حديث أبي بكرة المرفوع، وفيه: «يفترق المسلمون ثلاث فرق: ...»([979]).

 

وجاء في مرسل أبي قلابة عند نعيم بن حماد في «الفتن» (2/678 رقم 1908): «وفرقة تلحق بالشام، وهي خير الفرق».

 

ثانياً: أخرج نعيم في «الفتن» -أيضاً- (2/678 رقم 1909) عن أبي هريرة، قال: «أعينهم كالودع، ووجوههم كالحجف، لهم وقعة بين الدجلة والفرات، ووقعة بمرج حمار، ووقعة بدجلة، حتى يكون الجواز أول النهار بمئة دينار للعبور إلى الشام([980])، ثم يزيد آخر النهار».

 

ثالثاً: أخرج عبدالرزاق في «المصنف» (11/373-374)، والحاكم في «المستدرك» (4/504 رقم 20779)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/313-314)، وابن العديم في «بغية الطلب» (1/367، 511) من طرق عن المسعودي، عن القاسم بن عبدالرحمن، قال: شكي إلى ابن مسعود الفرات، فقالوا: نخاف أن ينفتق علينا، فلو أرسلت من يَسْكُره([981])، فقال عبدالله: «لا نَسْكُره، فوالله ليأتين على الناس زمان لو التمستم فيه ملء طست من ماءٍ ما وجدتموه، وليرجعنّ كل ماء إلى عنصره، ويكون بقية الماء والمسلمين بالشام» لفظ عبدالرزاق.

 

ولفظ الحاكم: «يوشك أن تطلبوا بفراتكم([982]) هذا ماء فلا تجدونه...» بنحوه.

 

ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع.

 

وفي رواية الحاكم: «عن القاسم عن أبيه»، وقال:

 

«صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي، وأقرّهما شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (3078) بقوله:

 

«قلت: وهو كما قالا؛ فإن المسعودي هذا -واسمه: عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة-وإن كان قد اختلط؛ فقد ذكروا أن رواية سفيان-وهو: الثوري- عنه قبل الاختلاط؛ كما ذكروا أن أحاديثه عن القاسم صحيحة، وهذا من روايته عنه كما ترى، فراجع إن شئت ترجمته في «التهذيب» و«الكواكب النيرات» (ص 282-298).

 

والحديث وإن كان موقوفاً؛ فهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، كما هو ظاهر.

 

والحديث حمله مؤلف كتاب «المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى» (ص 214) على أنه يكون بعد القحط الذي قال: إنه يأتي بعده الدجال! وليس فيه، ولا في غيره -فيما أعلم- ما يدل على هذا التحديد([983])، فيمكن أن يكون قبل ذلك أو بعده، وهذا لعله هو الأقرب أن يكون بين يدي القيامة».

 

قال أبو عبيدة: سبب ما رجحه شيخنا العلامة الألباني هو تحريف وقع في رواية الحاكم: «يوشك أن تطلبوا بقريتكم([984]) هذه». ولم يعزه شيخنا        -رحمه الله- إلا للحاكم، وهذا الحديث من القسم الذي طبع ونشر بعد موته دون مراجعته.

 

وتبيّن لنا من خلال جمع طرقه وألفاظه أن الصواب: «يوشك أن تطلبوا فراتكم هذا»، وحينئذ ينبغي أن يفهم على ضوء الأحاديث الأخرى التي فيها انحسار الفرات عن (تل) أو (جزيرة) أو (كنز) أو (جبل) -على تعدد الروايات([985])، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك في فصل مستقل بالتفصيل.

 

بقي التنويهُ على أن للأثر متابعاً للمسعودي في روايته عن القاسم، فقد رواه الأعمش عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود متصلاً، وهو صحيح، ولفظه:

 

«شكونا إليه الفرات، وقلة الماء، فقال: يأتي عليكم زمان لا تجدون فيه ملء طست من ماء، ويرجع كل ماء إلى عنصره، ويبقى الماء والمؤمنون بالشام».

 

أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ»، ومن طريقه وطريق غيره: ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/314-315)، وابن العديم في «بغية الطلب» (1/511). ونقل ابن عساكر وابن العديم([986]) عن ابن المنادي قوله: «في رواية الأعمش هذه ذكر قلة الماء في الفرات، وفي رواية المسعودي ذكر كثرته فيه، ثم إن الروايتين على الاتفاق؛ أن الفرات يقل ماؤه قلة ضارة بالناس، والله أعلم».

 

قلت: وهذا يؤكد أن هذا التحوّل يكون قبل المهدي([987])؛ شأنه شأن الحصار، ووقته وقته.

 

ومن المفيد هنا أن أنقل إلى القراء ما جاء في كتاب «المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى» (ص 210) فيما يتعلق بنضوب المياه:

 

«أصدر معهد (وواردوانش) الأمريكي دراسة تشير إلى أن العالم استخرج كميات كبيرة من المياه الجوفية، وفي (تكساس) و(نيومكسيكو) أصبح هناك احتمال بنضوب المياه الجوفية تماماً في هذه المنطقة؛ وفي الأقاليم الشمالية يهبط مستوى المياه الجوفية بمقدار 12 قدماً كل عام([988]).

 

وأشارت دراسة في الولايات الأمريكية أن العالم سوف يتعرض لنقص في موارد المياه التي لا علاج لها، ولن تفيد الطرق التقليدية في توفير المياه؛ مثل: السدود والخزانات والقنوات([989]).

 

كما أعلن مركز تحليل المناخ الفيدرالي في الولايات المتحدة في بيان له أن درجة حرارة مياه المحيط الهادي آخذة في الارتفاع، وهذه الظاهرة تؤثر على الأحوال المناخية في جميع أنحاء العالم، وتؤدي إلى تفاقم حالة الجفاف في إفريقيا واستراليا، وفيضانات في الصين، وسيول رعدية في (بيرو) و(أكوادور)، وعواصف وأعاصير على الولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا([990]).

 

ولا يفهم من هذه الآثار السابقة أن الشام لا تصلها الفتن ألبتة؛ وإنما هي معْقل ومُتَنفّس لأهل الديانة، ولا سيما في فترة، وهي قاصمة للروم في الملاحم، إلا أن حصار الروم ينتقل إليها بعد حصار العجم للعراق، ويضيَّق على أهلها، ويخرجهم الروم من بعض مناطقها([991])، وأورد ابن عساكر في «تاريخ دمشق» في ذلك آثاراً ومقطوعات كثيرة، فيها ضعف، مجموعها يدلل على أن لذلك أصلاً([992])؛ مثل:

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (2/489 رقم 1374)، وابن المنادي في «الملاحم» -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/214) واللفظ له- عن خالد بن معدان، قال: «لا يذهب الليل والنهار حتى يطرد الروم أهل الشام، فيموت منهم ناس كثير من العيال بالفلاة، جوعاً وعطشاً».

 

وأخرج ابن عساكر (12/214) عن أبي الدرداء، قال: «ليخرجنكم الروم من الشام كَفْراً([993]) كفراً، حتى يوردونكم البلقاء، كذلك الدنيا تبيد([994]) وتفنى، والآخرة تدوم وتبقى».

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (ص 371/رقم 1390 -          ط. التوفيقية) مختصراً بإسنادٍ لين.

 

وأخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (2/468 رقم 1318)، وابن عساكر (2/214-215) عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: «ليخرجنكم الروم من الشام كَفراً كَفراً، حتى يوردونكم حِسْمى([995]) جذام، حتى يجعلوكم في ظُنبُوبٍ([996]) من الأرض».

 

وورد في بعض الآثار أن هذا الإخراج يتم والروم في العراق.

 

أخرج ابن عساكر (2/215) عن أبي هريرة، قال: «يا أهل الشام! ليخرجنكم الروم منها كَفْراً كَفراً، حتى تلحقوا بسُنْبُك([997]) من الأرض. قيل: وما ذاك السُّنْبُك؟ قال: حِسْمى جُذام، ولتسيرنّ الرومُ على كَوادنها([998]) مُتعلِّقي جعابَها([999]) بين بارق ولعلع».

 

و(بارق): ماء بالعراق، وهو الحد بين القادسية والبصرة، وهو من أعمال الكوفة، وقد ذكره الشعراء فأكثروا([1000]).

 

و(لعلع): منزل بين البصرة والكوفة، بينها وبين (بارق) عشرون ميلاً([1001]).

 

وانتقال خيار أهل العراق إلى الشام عامٌّ في الفتن التي تموج موج البحر كلِّها، ودل على ذلك:

 

ما أخرجه أحمد (2/84، 198-199) عن عبدالرزاق (20790) -ومن طريقه -أيضاً- الحاكم (4/486)، والبغوي (4008)، وابن عساكر (1/160)-، والطيالسي (2293) -ومن طريقه أحمد (2/209)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/53-54)، وابن عساكر (1/160-161)-، وإسحاق بن راهويه -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (6/66)-، وأبو داود في «السنن» (2482) -مختصراً دون الشاهد المذكور-، وابن عبدالحكم في «فتوح مصر» (ص 232)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (2/630، 632 رقم 1758، 1765)، والحاكم (4/510، 511) عن عبدالله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

«إنها ستكون هجرة بعد هجرة([1002])، ينحاز الناس إلى مُهاجَر إبراهيم»([1003]).

 

وفي رواية: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة، لخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم -عليه السلام-».

 

وهو حسن بمجموع طرقه([1004]).

 

قال ابن رجب بعد كلام في فضل الشام: «... وعقيبها جرت واقعة ببغداد، وقتل بها الخليفة وعامة من كان ببغداد، وتكامل خراب أرض العراق على أيدي التتار، وهاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ»([1005]).

 

وقال قبل ذلك بعد إيراده لجملة أحاديث وآثار في فضائل الشام:

 

«وأما إضاءة قصور بُصرى بالنور الذي خرج معه؛ فهو إشارة إلى ما خصّ الشام من نور نبوّته، فإنها دار مُلكه»، قال: «فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى الشام ينتهي ملكه، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر إبراهيم -عليه السلام- من قبله إلى الشام. قال بعض السلف: ما بعث الله نبيّاً إلا من الشام، فإن لم يبعث منها هاجر إليها، وفي آخر الزمان يستقرّ العلم والإيمان بالشام، فيكون نور النبوة فيها أظهرَ منه في سائر بلاد الدنيا»([1006]).

 

وقال بعد جملة أخرى من الأحاديث والآثار: «فهذا كله يدل على أن خيار الناس في آخر الزمان مهاجرون إلى مُهاجَر إبراهيم -عليه السلام-؛ وهي الشام طوعاً، فيجتمعون فيها»([1007]).

 

ولذا استحبّ الإمام أحمد سكنى الشام عند الفتن.

 

قال إبراهيم بن هانئ في «مسائل أحمد» (1/150 رقم 472):

 

«سئل عن الرجل إذا كره ما هو من مسكن بأرض، فإلى أين ترى له أن ينتقل؟

 

قال: إلى المدينة.

 

قال له: فغير المدينة؟

 

قال: مكة.

 

قيل له: فغير مكة؟

 

قال: أما الشام إلى دمشق؛ لأنها يجتمع إليها الناس إذا غلبت عليهم الروم».

 

وفي رواية المروزي التي نقلها الخلال في «الجامع»([1008])، قال:

 

«الشام، والشام أرض المحشر. ثم قال: دمشق؛ لأنها يجتمع إليها الناس إذا غلبت عليهم الروم».

 

ونقل أبو طالب عن أحمد قريباً من ذلك، وزاد أبو طالب:

 

«قلت له: فأصير إلى دمشق؟ قال : نعم. قلت: فالرملة؟ قال: لا؛ هي قريبة من الساحل».

 

ونقل حنبل عن أحمد، قال: إذا لم يكن للرجل حرمة، فالسّاحل والرباط أعظم للأجر، يردُّ عن المسلمين، والشام بلد مبارك.

 

ونقل أبو داود([1009]) عن أحمد أنه قيل له: هذه الأحاديث التي جاءت: «إن الله تكفل لي بالشام وأهله» ونحو هذا؟ قال: ما أكثر ما جاء في هذا! قيل له: فلعله في الثغور([1010])؟ قال: لا. وقال: أرض بيت المقدس أين هي؟ «ولا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق»؛ هم أهل الشام.

 

ونقل يعقوب بن بُخْتان، قال: سمعت أبا عبدالله -يعني: أحمد- يقول: كنت آمر بحمل الحريم إلى الشام، فأما اليوم فلا.

 

ونقل مُهَنّا وبَكر بن محمد وأبو الحارث عن أحمد نحوه، وزاد في روايتهما: قال: لأنّ الأمر قد اقترب.

 

زاد مُهنّا: قال: أخاف على الذّريّة من العدو.

 

وقال جعفر بن محمد: سألت أبا عبدالله عن الحُرمة: قلت: دمشق؟ فأعجبه ذلك، وأحسبه قال: نعم.

 

ونقل حنبل: قيل لأبي عبدالله: فأين أحبُّ إليك أن ينزل الرجل بأهله، وينتقل؟ قال: كلُّ مدينةٍ معقلٌ للمسلمين؛ مثل دمشق.

 

قال أبو بكر الخلال: كل ما ذكروه عن أبي عبدالله -يعني: أحمد- من معاقل المدن، ثم ذكرهم عنه -أيضاً-؛ فهذا لما يبلغه من الحوادث، فأما ذكرهم عنه دمشق فهي عنده معقل دون الشام ودون غيرها، إلا ما ذكر في أول الباب من محبته المدينة على غيرها. انتهى.

 

وحاصل ما نقل عن الإمام أحمد: أنه يَستَحِب سكنى الشام، والانتقال بالذرية والعيال إلى معاقلها؛ كدمشق، وأما أطرافها وثغورها القريبة من السّواحل فلا يستحب سكناها بالذرية؛ لما يُخشى عليهم من إغارة الكفار، وإنما يَستحب الإقامة بها للرِّباط بدون نقل النساء والذرية.

 

وكل ما كان من بلدانها أقرب إلى السواحل، وأشد خوفاً، فإنه يكره نقل الذرية إليه.

 

وأما الأحاديث في فضائل الشام فلا تختصُّ عنده بثغورها، بل هي عامة لجميع أرض الشام؛ كبيت المقدس وما والاه، ودمشق وغيرها. والله          -تعالى- أعلم([1011]).

 

ويلاحظ أنّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان في العراق عند سؤال السائل له عن التحوّل، فأرشد إلى الشام، هذا في زمنه، فما بالك في هذا الزمان؟ فماذا نقول؟ ولا سيما عند سؤال إخواننا العراقيين من أهل السنة والحديث لنا، وهم الغريبون -حقّاً- في الديار، وفي الظاهر([1012])، غير القادرين على ذكر أسماء أئمة الدين والهدى([1013]) في دروسهم ومساجدهم، فضلاً عن تداول مصنفاتهم، ونشر اختياراتهم، ليقع التواصي بالحق والصبر، الذي عليه -مع الإيمان والعمل الصالح- مدار النجاة، والله الهادي إلى الصالحات، والموفق للخيرات.

 

فصل ([1014])

 

فيما ورد من اجتماع جبابرة الأرض وإنفاق خزائنها لضرب بغداد

 

وذهابها في الأرض على وجه أسرع من الوتد الحديد في الأرض الرخوة

 

أخرج الخطيب في «تاريخه» (1/28 أو 1/325- 326 - ط. دار الغرب) -وعنه الديلمي في «الفردوس» (2/ق 50 - مع «الزهر»)- وهو في مطبوعه (2/73 رقم 411 -غير المسندة-) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/63-64)- من طريق خلف بن تميم، قال: حدثني عمار ابن سيف، عن عاصم، عن أبي عثمان، قال: مرَّ جرير بن عبدالله بقنطرة الصَّراة، فقيل: يا صاحب رسول الله! ألا تنزل فتصيب من الغداء؟ قال: فضرب خاصرة فرسه بسوطه، وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

«تُبنى مدينة([1015]).............................................................  بين دجلة ودُجَيل([1016])، وقُطْرَبُّل([1017]) والصَّراة([1018])، يُجبى إليها خزائن الأمصار وجبابرتها، يخسف بها وبمن فيها، فلهي أسرعُ ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة».

 

كذا رواه يوسف بن سعيد عن خلف، ورواه إبراهيم بن زياد عنه دون: «يخسف بها وبمن فيها». وقال: «الأرض»، بدل: «الأمصار»، وروايته عند الخطيب (1/325) ومن طريقه ابن الجوزي (1/63).

 

وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/1726) من طريق القاسم بن زكريا ابن دينار، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/459-460 - ط. الغرب) من طريق يحيى بن عبدالحميد الحِمّاني، وابن بشران في «الأمالي»([1019]) -وعنه الخطيب (1/326)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/63-64)- من طريق الحسن بن حماد؛ ثلاثتهم عن إسحاق بن منصور الأسدي، عن عمار بن سيف، به. ولفظه -وهو للحماني-: «عن أبي عثمان، قال:

 

كنا مع جرير في موضع يقال له: التُّلول، فقال لي: أين دجلة؟ قلت: هذه. قال: فأين الدُّجيل؟ قال: قلت: هذا. قال: فأين قُطربل؟ قال: قلت: هذه. قال: فأين الصَّراة؟ قال: قلت: هذه. قال: النجاء النجاء، فارتَحِل بنا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

«تبنى مدينة بين دجلة والدُّجيل، وقُطْربل والصَّراة، يجتمع فيها -أُراه قال: كلُّ جبار عنيد-، تُجبى إليها خزائن الأرض، يعملون فيها بأعمال، فإذا عملوا ذلك خُسف بهم، فلهي أسرع ذهاباً في الأرض من المِرْود الحديد يُضرب في أرض رخوة».

 

وأخرجه الخلال في «علله» (ص 298 رقم 197 - «منتخب ابن قدامة») من طريق الهيثم بن عبدالرحمن، عن عمار، به. إلا أن في مطبوعه: «عن عاصم عن أبيه»! وهو خطأ؛ صوابه: «عن عاصم عن أبي عثمان»، كما عند أبي عمرو الداني في «الفتن» (4/904-905 رقم 469 - ط. العاصمة، أو ص 217/رقم 470 - ط. بيت الأفكار)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (16/82 - ط. دار الغرب)، بنحو اللفظ الذي قبله.

 

قال ابن حجر في «زهر الفردوس» (2/ق 50) على إثره:

 

«ورواه أبو نعيم في «الدلائل» -وهو ليس في طبعتيه. وأصوله الخطية ناقصة- عن حبيب بن الحسن بن علي بن الوليد، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا عمار بن سيف، به.

 

قلت: وأخرجه الثعلبي في تفسيره المسمى «الكشف والبيان» (8/302) من طريق عبدالله بن مخلد، ثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، به.

 

وفي لفظ ابن حماد: «يخرج بها جبابرة أهل الدنيا، يُجبى إليهم الخراج، يخسف الله بها»، وفيه: «في الأرض النَّخِرة أو الخوّارة».

 

وأخرجه المحاملي في «أماليه» (رواية ابن الصَّرْصَري([1020]) (ص 350-351 رقم 143، 385 - رواية ابن البيع) -ومن طريقه الخطيب (1/326-327) ومن طريقه ابن الجوزي (2/64)- من طريق أبي غسان مالك بن إسماعيل، عن عمار بن سيف، به. وفيه: «يجبى إليها خزائن الأرض وجبابرتها، يُخْسف بأهلها، ...».

 

ورواه حسين الأشقر عن عمار بلفظ: «يجبى إليها خراج أهل الدنيا وجبابرتها». أخرجه الخطيب (1/326).

 

قال عمار بن سيف -في رواية ابن زياد عن خلف المتقدمة-: سمعتُ سفيان الثوري يسأل عاصماً الأحول عن هذا الحديث، فحدّثه عاصم، وأنا حاضر، عن أبي عثمان.

 

وقال في رواية ابن حماد عن ابن منصور: سمعتُ عاصماً الأحول وسأله سفيان عن أبي عثمان.

 

وقال في رواية القاسم بن زكريا عنه: سمعته يحدّث به في مجلس سفيان، وأعانني على بعضه.

 

وقال أبو غسان عقبه: «قال عمار: سمعته يحدّث به رجلاً»، قال أبو غسان: «فقلت له: أبا سفيان([1021])؟ فقال: قد أخذ عليَّ أن لا أسميه، ولم يقل لي: قال عمار، فشككتُ في بعضه فقوّمني فيه، وقد حفظتُ إسناده من عاصم، والحديث لا شيء».

 

وأسند أبو بكر محمد بن عمر الجِعابي -ومن طريقه الخطيب (1/327)- عن أحمد بن يعقوب المسعودي، قال: قلت لعمار بن سيف: سمعتَ هذا الحديث من عاصم؟ قال: لا، قلت: من حدّثك عن عاصم؟ قال: رجل ثقة كأنك تسمعه منه.

 

وهذا خلاف ما تقدم؛ لأن عماراً ذكر في تلك الرواية أنه حضر الثوري يسأل عاصماً عنه، وفي هذه الرواية أنكر أن يكون سمعه من عاصم، وقد يجاب عن هذا بوجوه:

 

الأول: أنه نسي تحديثه به، فهو من باب (من حدّث ونسي).

 

الثاني: أن المراد عدم سماعه لحديث آخر، إذ لم يرد ذكر للحديث في الرواية.

 

الثالث: رواية الجماعة مقدمة على رواية الجِعابي، ولا سيما أن الذهبي قال عنه في «الميزان» (3/670): «فاسق رقيق الدين»!

 

الرابع: أنه سمع لفظَ الحديث من سفيانَ لا من عاصمٍ، فيكون (سفيانُ) واسِطَتَه بالسماع منه. وشكَّ فيه؛ فراجَعَ (عاصماً)، فحفظ الإسناد منه، دون المتن إلا الشيء منه، كما صرح به أبو غسان فيما تقدم عنه.

 

ولذا كان يرويه عمار بن سيف عن سفيان -أيضاً-، وهذا البيان:

 

أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/324-325) من طريق محمد ابن واصل، عن عمار، عن سفيان، عن عاصم، به. وفيه: «يجتمع إليها جُباة الأرض وكنوزها».

 

وأخرجه المحاملي في «أماليه» (ص 351/رقم 386 - رواية ابن البيع)، قال: ثنا ابن إشكال، ثنا أبو جعفر الكوفي محمد بن فلان، ثنا عمار، به.

 

وأخرجه عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (2/370 رقم 2645) -وعنه أبو بكر الشافعي([1022])، ومن طريقه الخطيب (1/329)، ومن طريقه ابن الجوزي (2/65-66)-، وأبو عمرو الداني في «الفتن»          (ص 169-170 رقم 350 - ط. بيت الأفكار([1023])، أو 3/718-719 رقم 350): حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن عمار بن سيف، به. وفيه: «يجمع فيها خزائن الأرض، يخسف بها، فلَهي أسرع ذهاباً في الأرض من الحديد أو الحديدة في الأرض الخوّارة».

 

ولم يروه ابن معين على أنه صحيح، وإنما رواه على الذاكرة، ثم عرف محله من الوهاء، فقال عنه -كما سيأتي-: «هذا موضوع»، أو قال: «كذب».

 

وأخرجه الإسماعيلي([1024]) - ومن طريقه الخطيب (1/329)، ومن طريقه ابن الجوزي (2/66)-: أخبرني الحسن بن سفيان([1025]) وعمران بن موسى، قالا: حدثنا محمد بن الحسن الأعين أبو بكر، قال: حدثنا يحيى بن معين، به. ولفظه: «يكون خسف بين دجلة ودُجيل، وقُطْرَبُّل والصَّراة، بأمراء جبابرة يخسف الله بهم الأرض، ولهي أسرع بهم هُوِيّاً من الوتد اليابس في الأرض الرطبة».

 

وأعلّ هذا الحديث شديداً، بل نبز بالوضع، وعُلِّقت الجناية بـ(عمار بن سيف)!

 

قال يحيى بن معين على إثره: «هذا موضوع»، أو قال: «كذب».

 

مع أن إسناده لا يتحمل ذلك، فعمار: قال ابن معين في «تاريخ الدارمي» (ص 186/رقم 675) وفي «تاريخ الدوري» (2/423): «ثقة»، وقال الليث ابن عبدة عن ابن معين: «رجل صدق ثقة». وقال العجلي في «تاريخ الثقات» (ص 352 رقم 1205): «ثقة ثبت، متعبد، وكان صاحب سنة». وفي «الجرح والتعديل» (6/393): «إن عبدالله بن المبارك أثنى عليه خيراً، وقال عبيد بن إسحاق: كان شيخ صدق». كذا في «تهذيب الكمال» (21/195).

 

وقد ضعّفه بعض الأئمة، قال ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة: «ليس حديثه بشيء»، وقال أبو حاتم: «كان شيخاً صالحاً، وكان ضعيف الحديث، منكر الحديث»، وقال أبو زرعة: «ضعيف». كذا في «الجرح والتعديل» (6/393). وقال البزار: «ضعيف»، وقال في موضع آخر: «صالح». نقله مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (9/394)، وعنه -كعادته- ابن حجر في «التهذيب» (7/403)، وجمع بينهما بزيادة قوله بعد «صالح»: «في نفسه». وقال ابن عدي في «الكامل» (5/1727): «الضعف بيِّن على حديثه»، وقال قبله: «منكر الحديث»، وقال أبو داود في «سؤالات الآجري» (ص 124/رقم 65): «كان مغفَّلاً»، وقال الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (377): «متروك».

 

وهذا الضعف شديد، ومثله قول البخاري في «التاريخ الصغير» (2/225-226): «منكر، ذاهب»، وفي «التاريخ الأوسط»([1026]) (2/177 - رواية الخفاف): «حدثني عمرو بن محمد، ثنا عمار بن محمد أبو اليقظان، وكان أوثق من سيف ابن أخت سفيان الثوري، ومات عمار بن سيف الضبي، فيروي عنه عن سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان: في قطربل وصراة؛ قطربل: موضع عند باب بغداد، وصراة: نهر، لا يتابع عليه، منكر، ذاهب». وقول ابن حبان في «المجروحين» (2/195): «كان ممن يروي المناكير عن المشاهير، حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمّد لها، فبطل الاحتجاج به؛ لما أتى من المعضلات عن الثقات»، وقال:

 

«روى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث بواطيل، لا أصول لها، يطول الكتاب بذكرها».

 

وقال الحاكم في «المدخل إلى الصحيح» (183): «روى عن إسماعيل ابن أبي خالد والثوري المناكير»، ونقل مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (9/395) مثله عن أبي سعيد النقاش.

 

ومثله عند أبي نعيم في «ضعفائه» (172)، وزاد: «لا شيء».

 

ولخص حاله في «التقريب» بقوله: «ضعيف الحديث، عابد».

 

وسبب الحكم على الحديث بالوضع -مع أنّ صنيعَ المخرجين في ظاهرِ إسنادِه القولُ بالضعف- ما أفصح به العقيلي في «ضعفائه» (3/325)؛ قال:

 

«قال المخرمي: سمعتُ يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن آدم يقول: إنما أصاب عمار بن سيف هذا الحديث على ظهر كتاب فرواه».

 

وبيّن ذلك الخلال في «علله» (ص 298-299/«منتخب ابن قدامة»)، قال بعد أن أسند مقولة يحيى بن آدم بلفظ: «إنما أصاب عمار هذا الحديث فرواه»، قال:

 

«وروى عن يحيى بن آدم، قال: ما رواه أحدٌ إلا عمار بن سيف([1027]).

 

قال يحيى بن معين: ومنهم من يرويه عنه، عن سفيان، عن عاصم، وليس لهذا الحديث أصل([1028]).

 

أخبرنا عبدالله، قال: ذكر أبي حديث المحاربيّ، عن عاصم، عن أبي عثمان -يعني: هذا الحديث- فقال: ليس بصحيح -أو قال: كذب-، وكل من حدّث به فهو كذاب.

 

وقال: كان المحاربيّ جليساً لسيف بن محمد ابن أخت سفيان، وكان سيف كذاباً، فأرى المحاربيّ سمعه منه» انتهى.

 

قلت: «نَقْلُه عن عبدالله ابن الإمام أحمد موجودٌ في كتابه «العلل ومعرفة الرجال» (2/370 رقم 2644) بزيادة؛ ونص كلامه:

 

«ذكر أبي حديث المحاربي عن عاصم، عن أبي عثمان، حديث جرير: «تُبنى مدينة بين دجلة ودُجيل»، فقال: كان المحاربي جليساً لسيف بن محمد -ابن أخت سفيان-، وكان سيف كذاباً، فأظن المحاربي سمع منه، قيل له: إن عبدالعزيز بن أبان رواه عن سفيان، فقال: كل من حدّث به فهو كذاب -يعني: عن سفيان-.

 

قلت له: إن لُويناً حدثناه عن محمد بن جابر، فقال: كان محمد ربما ألحق في كتابه، أو يلحق في كتابه -يعني: الحديث-، وقال: هذا حديث ليس بصحيح، أو قال: كذب».

 

قلت: أما رواية المحاربي -واسمه: عبدالرحمن بن محمد بن زياد أبو محمد الكوفي-؛ فقد أخرجها الخطيب (1/35 - ط. القديمة، و1/334 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/68) من طريق عبدالله بن أحمد، وساق كلامه السابق.

 

والمحاربي ثقة يغرب، كما في «الكاشف» (2/163)، وفي «التقريب» (ص 349/رقم 3999): «لا بأس به، وكان يدلّس، قاله أحمد».

 

ونقل مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (9/395) في ترجمة (عمار ابن سيف) عن البخاري في «التاريخ الكبير» قوله:

 

«وروى المحاربي عن عمار، عن ابن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه... بطوله، يروي عنه سفيان عن([1029]) عاصم في الدجلة وقطربل، وهو حديث منكر، والأول -أيضاً- ليس بشيء».

 

ولم أظفر بهذا النقل في «التاريخ الكبير» (5/347 رقم 1102) في ترجمة (المحاربي)، ولا في ترجمة (عمار)([1030]).

 

وأما رواية سيف بن محمد الكوفي -ابن أخت سفيان الثوري- عن عاصم، به. فقد أخرجها العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/172)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (1/30 - ط. القديمة، أو 1/327-328 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/64-65)-.

 

وعلقه البخاري في «التاريخ الكبير» (4/172 رقم 2380) في ترجمة (سيف)، قال: «قاله محمد بن الصباح، نا سيف بن محمد»، وقال:

 

«لا يتابع عليه، وهو أخو عمار بن محمد، ضعّفه أحمد».

 

قلت: قال الدارمي في «تاريخه» (ص 118-119 رقم 367): «كان شيخاً ها هنا كذّاباً خبيثاً»، وفي «العلل» (1/88) لأحمد: «لا يكتب حديث سيف»، و«ليس سيف بشيء، وكان سيف يضع الحديث»، وفي «الجرح والتعديل» (4/277): «ضعيف، لا يكتب حديثه، ذاهب الحديث»، وفي «الضعفاء» للدارقطني (ص 241-242 رقم 281): «كوفي ضعيف متروك»، وفي «الكامل» لابن عدي (3/1271): «بيّن الضعف جدّاً»، وقال أبو داود: «كذاب»، وقال الساجي: «يضع الحديث». كذا في «تاريخ بغداد» (9/226-227)، وفي «المجروحين» (1/346-347): «كان شيخاً صالحاً متعبداً، إلا أنه يأتي عن المشاهير بالمناكير، كان ممن يُدخَل عليه فيجيب، إذا سمع المرءُ حديثه شهد عليه بالوضع»، وفي «الكاشف» (1/333): «كذاب، والعجب من الترمذي يحسِّن له»، وفي «التقريب» (رقم 2726): «كذّبوه».

 

وأما رواية عبدالعزيز بن أبان عن سفيان؛ فقد أخرجها الخطيب في «تاريخه» (1/31-32 - ط. القديمة، أو 1/330 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/66)-.

 

وعبدالعزيز بن أبان الأموي:

 

قال الدارمي في «تاريخه عن ابن معين» (ص 293/رقم 569): «ليس بثقة، قلت (الدارمي): من أين جاء ضعفه؟ فقال: كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها».

 

وشدد وأغلظ عليه في «سؤالات ابن الجنيد» (ص 293/رقم 82)، قال عنه: «كذاب خبيث، يضع الحديث»، وقال في رواية ابن أبي خيثمة: «وضع أحاديث عن سفيان، لم يكن بشيء». كذا في «الجرح والتعديل» (5/377)، و«تاريخ بغداد» (10/445)، و«تهذيب الكمال» (18/110)، وقال في «سؤالات ابن محرز» (رقم 5): «ليس حديثه بشيء، كان يكذب»، وقال (رقم 91): «كان يحدث بأحاديث موضوعة»، وقال في «تاريخ الدوري» (3/277): «ليس بشيء».

 

وكذبه محمد بن عبدالله بن نمير، قال عنه: «ما رأيت أحداً أبين أمراً منه، وهو كذاب».

 

وقال ابن عدي (5/1926-1927): «له عن الثوري غير ما ذكرت من البواطيل وعن غيره»، وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/30): «تركه أحمد»، وقال في «الضعفاء الصغير» (ص 151 رقم 224): «تركوه»، وقال النسائي في «ضعفائه» (168/رقم 413): «متروك الحديث»، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (5/377-378): «متروك الحديث، لا يشتغل به، تركوه، لا يكتب حديثه»، وقال ابن سعد (6/404): «كان كثير الرواية عن سفيان، ثم خلط بعد ذلك، فأمسكوا عن حديثه». وضعفه أبو زرعة؛ فذكره في «ضعفائه» (635)، ونقل (633) عن ابن نمير قوله فيه: «ما مات عبدالعزيز حتى قرأ ما ليس من حديثه»، وقال البزار في «مسنده» (3440 - «زوائده»): «ليس بالقوي»، وقال الخليلي في «الإرشاد» (2/485): «ضعفوه والحمل عليه»، وقال الدارقطني في «سننه» (4/264): «متروك الحديث»، وقال أبو نعيم في «ضعفائه» (ص 105 رقم 129): «يروي عن مسعر والثوري المناكير، لا شيء»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/140-141): «كان ممن يأخذ كتب الناس، فيرويها من غير سماع، ويسرق الأحاديث، ويأتي عن الثقات بالأشياء المعضلات»، وقال يعقوب بن شيبة: «هو عند أصحابنا جميعاً متروك، كثير الخطأ، كثير الغلط، وقد ذكروه بأكثر من هذا»، وقال ابن المديني: «ليس بذاك، وليس هو في شيء من كتبي». نقلهما الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/442، 445). وقال ابن حزم في «المحلى» (10/484): «متفق على ضعفه»، وقال الذهبي في «المغني» (2/369): «متروك متّهم»، وفي «التقريب» (رقم 4083): «متروك، وكذبه ابن معين وغيره».

 

وأسند الخطيب في «تاريخه» (1/333 - ط. دار الغرب) إلى عليّ بن الحسين بن حِبّان، قال: وجدتُ في كتاب أبي بخط يده: قال أبو زكريا -يعني: يحيى بن معين-: عبدالعزيز بن أبان كذاب خبيث. قلت له: بأي شيء استدللت على كذبه؟ قال: حدَّث عن سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير في دجلة ودجيل. فقلت له: فقد حدث به عمار بن سيف عن سفيان، قال: عمار كان رجلاً مُغفَّلاً لا يدري مِن سفيان سمعه أو من عاصم؟ كذا قال يحيى بن آدم.

 

وأما رواية لُوين -وهو لقبه([1031])، واسمه: محمد بن سليمان الأسَدي- عن محمد بن جابر الحنفي عن عاصم، به. فقد أخرجها أبو حيان في «الفتن»     -كما في «اللآلئ المصنوعة» (1/473)-، والخطيب في «تاريخه» (1/30 - ط. القديمة، أو 1/328 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/65)-.

 

ومحمد بن جابر بن سيَّار الحنفي اليماني، ضعيف، لقِّن هذا الحديث، أو ألحقه في كتبه، دلت على هذا أقوال النّقّاد فيه، وهذا البيان:

 

قال الدارمي في «تاريخه» (رقم 742)، والدوري في «تاريخ ابن معين» (2/507) عن ابن معين: «ليس بشيء»، وقال الدوري: «كان أعمى واختلط عليه حديثه، وكان كوفيّاً، فانتقل إلى اليمامة، وهو ضعيف»([1032])، وقال ابن طهمان (94، 375): «لا يكتب حديثه، ليس بثقة»، وقال ابن الجنيد في «سؤالاته» (رقم 232، 448): «ليس بثقة»، وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/53): «ليس بالقوي»، وكذا في «ضعفائه الصغير» (ص 204/رقم 313)، وزاد: «عندهم».

 

وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (7/219-220): «ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقَّن»، وقال: «كان يروي مناكير، وهو معروف بالسماع، جيد اللقاء، رأَوا في كتبه لَحَقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب»، وقال النسائي في «ضعفائه» (ص 217/رقم 559): «ضعيف»، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/41-42): «لا يتابع على عامة حديثه».

 

وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/270): «كان أعمى يُلحق في كتبه ما ليس من حديثه، ويسرق ما ذوكِر به، فيحدّث به».

 

قلت: حديثنا هذا يبرهن على صحة هذه المقولة.

 

وقال ابن عدي في «الكامل» (6/2158): «خالف في أحاديث، ومع ما تكلّم فيه من تكلم، يكتب حديثه»، وقال الذهبي في «الكاشف» (3/24): «سيئ الحفظ»، وقال ابن حجر في «التقريب» (ص 471/رقم 5777): «صدوق ذهبت كتبه، فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمي فصار يُلقَّن، ورجّحه أبو حاتم على ابن لهيعة».

 

وظفرتُ براوٍ له عن عاصم، ممن يحتمل حاله، ويمشّى حديثه؛ وهو:

 

* أبو شهاب الحنّاط عبد ربه بن نافع الكِناني([1033])، قال في «التقريب» (ص 335/رقم 3790) عنه: «صدوق يهم»، وقال الذهبي في «الكاشف» (2/137): «صدوق».

 

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/30-31 - ط. القديمة، أو 1/ 328-329 - ط. دار الغرب)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/65) من طريق الحسن بن الربيع، قال: نبأنا أبو شهاب عن عاصم، به.

 

وظاهر هذا الإسناد الحُسْن، ولم يقع تصريح من أبي شهاب بسماعه من عاصم، فتعلّق من أعلّه بسماع أبي شهاب له من عمار أو سيف، وأرجع هذا الطريق إلى أحد الطرق السابقة.

 

قال الخطيب البغدادي في «تاريخه» (1/36) في بيان علّة هذا الطريق: «وأما أبو شهاب الحنّاط؛ فقد كان صدوقاً، إلا أن يحيى بن سعيد القطّان لم يكن يرضى أمره، وكان يقول: لم يكن بالحافظ، وأحسب أنه وقع إليه حديث عاصم من جهة عمار بن سيف، أو سيف بن محمد، أو محمد بن جابر، فرواه عن عاصم مرسلاً؛ لأن الحسن بن الربيع لم يذكر عنه الخبر فيه، والله أعلم».

 

* ذكر سائر رواة الحديث عن سفيان الثوري عن عاصم وبيان حالهم:

 

أما من رواه عن سفيان من غير المذكورين سابقاً فكثير، وهذا ما وقفتُ عليه منهم، مع بيان حالهم بإيجاز، والله المستعان:

 

أولاً: إسماعيل بن أبان الغنوي الخياط.

 

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/31 - ط. القديمة، أو 1/329-330 - ط. دار الغرب) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/66).

 

وإسماعيل هذا متروك، رُمي بالوضع؛ كما في «التقريب» (ص 105/ رقم 411).

 

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/347): «متروك، تركه أحمد»، وفي «الضعفاء الصغير» (ص 32/رقم 16): «متروك الحديث»، وكذا قال النسائي في «الضعفاء» (ص 32/رقم 33)، والدارقطني في «الضعفاء»      (ص 132-133 رقم 75)، وقاله -أيضاً- أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/160) -وزاد: «وكان كذاباً»-، ومسلم بن الحجاج وزكريا بن يحيى الساجي -وزاد: «عنده مناكير»-. كذا في «تاريخ الخطيب» (6/242)، والبزار كما في «التهذيب» (1/270).

 

واتهمه ابن معين بالوضع؛ كما في «الجرح والتعديل» (2/160)، وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص 84/رقم 113): «ظُهر منه على الكذب»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/128): «كان يضع الحديث على الثقات»، وقال الخطيب البغدادي في «تاريخه» (6/240): «كان سيئ الحال في الرواية، وقدم بغداد، وحدث بها أحاديث تبيَّن الناس كذبه فيها، فتجنبوا السماع منه، واطرحوا الرواية عنه».

 

ونقل مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (2/141) عن ابن خلفون قوله: «أجمعوا على ترك حديثه»، وقال: «وذكره أبو العرب وابن شاهين في جملة الضعفاء».

 

وقال ابن عدي في «الكامل» (1/304): «ولإسماعيل بن أبان غير ما ذكرت من الروايات عن هشام بن عروة وغيره، وعامّتها لا يُتابع عليه، إما إسناداً وإما متناً».

 

وقال المزي في «تهذيب الكمال» (3/12): «وهو مجمع على ضعفه»، وتناوله الذهبي في «الميزان» (1/211-212)، ونقل عن الأئمة ما لا يقبل الشك بوهائه وضرورة تركه، وقال في «ديوان الضعفاء والمتروكين»             (1/79 رقم 369): «متروك».

 

ثانياً: إسماعيل بن عمرو([1034]) بن نَجيج الكوفي ثم الأصبهاني.

 

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/32 - ط. القديمة، أو 1/ 330 - ط. دار الغرب)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/66-67).

 

وإسماعيل هذا هو آفة هذا الطريق، تساهل ابن حبان بترجمته في «الثقات» (8/100)، وقال عنه: «يُغرب كثيراً»، بينما قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/190) عنه: «ضعيف الحديث»، وقال ابن عدي في «الكامل» (1/316، 317): «حدث عن... والثوري... بأحاديث لا يُتابع عليها»، وقال بعد إيراد شيء منها: «عامتها مما لا يتابع إسماعيل أحد عليها، وهو ضعيف»، وقال العقيلي في «ضعفائه» (1/86-87): «في حديثه مناكير، ويحيل على من لا يحتمل»، وقال أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/71-74): «غرائب حديث إسماعيل تكثر»، وأورد بعضاً منها.

 

وذكره الدارقطني في «ضعفائه» (ص 140 رقم 87)، وقال عنه: «ضعيف»، وقال الخطيب البغدادي في «تاريخه» (1/37): «إسماعيل بن نَجيح([1035])؛ هو إسماعيل بن عمرو بن نجيح البَجَلي، نُسب في الرواية إلى جده، وهو صاحب غرائب ومناكير عن سفيان الثوري وعن غيره»، ونقل عن الحافظ ابن عقدة قوله فيه: «ضعيف، ذاهب»([1036]).

 

ثالثاً: عبيدالله بن سفيان الغُداني.

 

أخرجه الخطيب في «تاريخه» (1/32 - ط. القديمة، أو 1/330-331 - ط. دار الغرب) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/67).

 

وعبيدالله بن سفيان بن عبيدالله بن رواحة الأَسَدي الغُداني الصوفي، أبو سفيان البصري الصواف، هو آفة هذا الطريق، قال الدوري في «تاريخ ابن معين» (2/382): «كان كذاباً»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/66): «كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، ويأتي عن الثقات بالمعضلات»، وأقرهما السمعاني في «الأنساب» (9/127-129)، والذهبي في «الميزان» (3/9). وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (5/318): «شيخ، ليس بالقوي»، وقال ابن عدي في «الكامل» (4/1638-1639): «في بعض أحاديثه بعض النُّكرة»، وذكره الساجي في «الضعفاء»، وقال: «لم ألق أحداً يحدث عنه»، ثم حكى عن ابن معين تكذيبه. كذا في «لسان الميزان» (5/330 - ط. أبو غدة)([1037]).

 

رابعاً: عبدالرزاق بن همام الصَّنعاني.

 

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/32-33 - ط. القديمة، أو 1/331 - ط. دار الغرب)، ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/67-68) من طريق أحمد بن محمد بن عمر اليمامي عن عبدالرزاق، به.

 

وآفة هذا الطريق أحمد بن محمد بن عمر، «وتفرد بروايته عن عبدالرزاق، وليس بمحل الحجة»([1038])، قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/71): «قدم علينا، وكان كذاباً، وكتبت عنه، ولا أحدث عنه»، وقال ابن عدي في «الكامل» (1/182-183): «حدث بأحاديث مناكير عن الثقات، وجدته ينسخ عن الثقات العجائب»، وقال: «وهو مُقارب الحال، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/143-144): «يروي عن عبدالرزاق وعمر بن يونس وغيرهما أشياء مقلوبة، لا يعجبنا الاحتجاج بخبره إذا انفرد».

 

وأسند ابن يونس في «تاريخ مصر» إلى علي بن أحمد بن سليمان علاّن، قال: كان سلمة بن شبيب يكذبه. كذا في «تاريخ دمشق» (5/424)، و«تاريخ بغداد» (5/66)، و«المقفى الكبير» (1/646 رقم 620).

 

وكان يحيى بن محمد بن صاعد يرميه بالكذب. كذا في «تاريخ بغداد» (5/66)، و«تاريخ دمشق» (5/426)، و«المقفى الكبير» (1/647)، وقال أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/75): «له أحاديث منكرات»، وسرد واحداً منها([1039]).

 

فهذه أحد عشر([1040]) طريقاً لحديث جرير بن عبدالله البجلي، مدارها على متّهمين أو متروكين، أو على من تكلم فيهم شديداً، أو على من هم أحسن حالاً من ذلك، ولكن كانت فيهم غفلة، ومَرَدُّ أحاديثهم على مَن قبلهم.

 

وقد سبق قول الإمام أحمد: «كل من حدث هذا الحديث عن سفيان فهو كذاب».

 

وقوله: «هذا الحديث ليس بصحيح. أو قال: كذب».

 

وأسند الخطيب في «تاريخه» (1/333 - ط. دار الغرب) إلى علي بن عبدالعزيز، قال: ذكرت لأحمد -يعني: ابن مَنيع- حديث عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير: تُبنى مدينة...، ففارقني، ثم رجع إليّ، فقال: ذَهبتُ إلى أحمد ابن حنبل فأخبرته به، فقال لي: يا أبا جعفر ليس لهذا الحديث أصل.

 

وهكذا قال -فيما نقلناه- ابن معين، في جمع آخرين نذكر أقوالهم -إن شاء الله تعالى- بعد سياق شواهد الحديث، والله الموفق، لا رب سواه.

 

شواهد حديث جرير بن عبدالله البَجَليّ:

 

ورد في معنى حديث جرير أحاديث عديدة، عن كل من: أنس بن مالك، وحذيفة، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن عمر -رضي الله عنهم جميعاً-، وهذا التفصيل:

 

* حديث أنس بن مالك.

 

أخرج ابن عدي في «الكامل» (4/1384)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (1/33 - ط. القديمة) -ومن طريقهما ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/62) من طريق أحمد([1041]) بن مُطَهَّر المصِّيصي عن صالح بن بيان، عن أبي عبيدة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل، لهي أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة».

 

قال ابن عدي عقبه: «أبو عبيدة هذا أظنه حميد الطويل، وقد روي عن الثوري هذا بإسناد آخر، وصالح بن بيان لا أعرف له إلا الشيء اليسير، وإنما ذكرت هذا الحديث لأنه منكر».

 

قلت: صالح بن بيان، هو المعروف بالسَّاحلي، كان قاضي سيراف، ترجمه الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/310)، وقال: «وكان ضعيفاً، يروي المناكير عن الثقات»، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/200): «يحدث بالمناكير عمن لا يحتمل، والغالب على حديثه الوهم»، وقال المستغفري في أواخر كتاب «الطب النبوي»([1042]) له: «كان يروي العجائب، وينفرد بالمناكير»، نقله ابن حجر في «اللسان» (4/282 - ط. أبو غدة)([1043])، وقال الدارقطني في «السنن» (1/185): «متروك»، وقال ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/333 رقم 1076): «لا يعرف»، ونقله عنه ابن العراقي في «ذيل ميزان الاعتدال» (ص 283/رقم 444).

 

وقال الذهبي في ترجمة (صالح) هذا في «الميزان» (2/290) -وأقره ابن حجر في «اللسان» (4/281)- عن هذا الحديث: «قلت: هذا الحديث باطل».

 

وأما الطريق الأخرى عن سفيان، فهي:

 

ما أخرجه الطبراني([1044]) -ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/33 - ط. القديمة، أو 1/331-332 - ط. دار الغرب) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/62)-: حدثنا إبراهيم بن محمد التُّسْتَريّ الدَّسْتوائي، والخطيب (1/33) -ومن طريقه ابن الجوزي (2/62)- من طريق جعفر بن أحمد بن يحيى المروزي المؤذّن؛ كلاهما قال: حدثنا سليمان بن الربيع، قال: حدثنا همام بن مسلم، قال: سمعتُ سفيان، به.

 

وإسناده ضعيف جدّاً، همام بن مسلم الزاهد، قال الدارقطني في «العلل»: «مجهول»، ونقله عنه ابن حجر في «اللسان» (6/199-200، أو8/344 - ط. أبو غدة)، وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/96-97): «كان ممن يسرق الحديث، ويحدِّث به، ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم على قلّة معرفته بصناعة الحديث، فلما فحش ذلك منه وكثر في روايته، بطل الاحتجاج به»([1045]).

 

والراوي عنه (سليمان بن الربيع بن هشام النَّهدي الكوفي)، قال الدارقطني فيه: «كان ضعيفاً»، وقال مرة: «روى أحاديث مناكير». كذا في «تاريخ بغداد» (9/54).

 

وترجمه الذهبي في «الميزان» (2/207)، وقال: «تركه أبو الحسن الدارقطني، وقال: غيَّر أسماء مشايخ، وروى البرقاني([1046]) عن الدارقطني: ضعيف». ونقله عنه ابن حجر في «اللسان» (4/152 رقم 3612 - ط. أبو غدة)([1047])، ولذا قال الخطيب على إثر الحديث بطريقيه: «أبو عبيدة، هو حُميد الطويل، وهذا الإسناد ليس بمحفوظ، وصالح بن بيان: ضعيف، وهمام بن مسلم: مجهول، والمحفوظ: حديث عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن جرير» انتهى.

 

فعاد هذا الحديث إلى حديث جرير.

 

قال الشوكاني([1048]) عن حديث أنس: «رواه الخطيب وابن عدي والطبراني عن أنس مرفوعاً، وفي إسناده متروك ومجهول، وقال في «الميزان»: باطل، وللحديث طرق كثيرة جدّاً، قد استوفاها صاحب «اللآلئ»، وفي بعضها التصريح بأنها بغداد».

 

* حديث حذيفة بن اليمان.

 

أخرج الخطيب([1049]) في «تاريخ بغداد» (1/38 - ط. القديمة، أو 1/338 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/61-62)- قال: حدثنا أبو بكر البَرْقاني -من كتابه-، قال: قرئ على: الحسين بن عليّ التميمي -وأنا أسمع-، حدَّثَكُم زَنْجُويَه بن محمد اللبّاد، قال: حدثنا سهل بن محمد بن يعيش الخُتَّلِيّ العسكري أو السَّرِيّ، قال: حدثنا عمر بن يحيى، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن رِبْعِي بن حِرَاش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون وقعة بين زوراء». قالوا: وما الزوراء يا رسول الله؟ قال: «مدينة بين أنهار في أرض جُوخَى([1050])، يسكنها جبابرة أمتي، تُعذّب بأربعة أصناف: بخسف، ومسخ، وقذف».

 

قال البرقاني: «ولم يذكر الرابع».

 

وعمر بن يحيى هو ابن عمر بن أبي سلمة بن عبدالرحمن، ترجمه الذهبي في «الميزان» (3/230)، ونقل عن أبي نعيم الأصبهاني([1051]) قوله فيه: «متروك الحديث»، وقال: «أتى بحديث شبه موضوع عن شعبة...» وذكر حديث: «قلوب بني آدم تلين في الشتاء»، وأورد ابن حجر في «اللسان» (6/157-158 - ط. أبو غدة) جملة من (منكراته)، وأورد ما يشعر أن الدارقطني ضعّفه، والخطيب جهله([1052]).

 

وذكره السيوطي([1053]) وبوب عليه: (باب إخباره صلى الله عليه وسلم ببناء بغداد) من حديث حذيفة بلفظ:

 

«ستبنى مدائن بين نهرين من المشرق، يحشر إليها خزائن الأرض، وكنوزها، يسكنها شرار خلق الله، يخسف الله بها بعد ما يعذب بالسيف». وعزاه إلى أبي نعيم([1054])، وقال:

 

«قلت: قد بُنيت -أي: بغداد- في القرن الثاني، وعذّبت بالسيف أشدّ العذاب من التتار في القرن السابع، وبقي الخسف».

 

فصل

 

في العراق والملاحم والسفياني

 

ورد في هذا الباب جملة من الأحاديث، وبعضها شاهد للحديث السابق، مثل:

 

* حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

 

أخرج الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/38 - ط. القديمة، أو 1/338-339 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/60-61)-: أخبرنا الحسن بن أبي بكر، قال: أخبرنا شُجاع بن جعفر الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغَلابي، قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن القاسم التَّيْمي، قال: حدثنا أبي، عن يحيى بن عبدالله بن حسن، عن أبيه، عن حسن بن حسن، عن محمد ابن الحنفية، قال([1055]): وحدثني عثمان بن عِمران العُجَيفي([1056])، عن نائل بن نَجيح، عن عمرو بن شِمر([1057])، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدُّؤلي، عن أبيه، قالا([1058]): قال عليّ بن أبي طالب: سمعتُ حبيبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون لبني عمي مدينة من قبل المشرق، بين دجلة ودُجَيْل وقُطْرَبُّل والصَّراة، يشيد فيها بالخشب والآجر والجص والذهب، يسكنها شرار خلق الله وجبابرة أمتي، أما إن هلاكها على يد السُّفياني كأني بها والله قد صارت خاويةً على عروشها».

 

وفي إسناده محمد بن زكريا الغلابي، قال الدارقطني في «سؤالات الحاكم» (ص 148/رقم 206): «يضع الحديث»، وهكذا قال في كتابه «الضعفاء» (ص 350/رقم 483).

 

وقال برهان الدين الحلبي في «كشف الحثيث» (ص 371-372 رقم 663): «قال الدارقطني ويحيى: يضع الحديث».

 

وألان ابن حبان الكلام فيه، لما قال في «الثقات» (9/154) عنه: «كان صاحب حكايات وأخبار، يُعتبر حديثه إذا روى عن الثقات؛ لأنه في روايته عن المجاهيل بعض المناكير»!

 

وقد علّق ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/418) جناية وضع خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم على تزويج فاطمة من علي به، وكذا صنع الذهبي في «الميزان» (3/550)؛ فإنه قال عنه: «ضعيف». قال: «وقال ابن منده: تُكُلِّم فيه». وسرد له حديثاً، وقال: «فهذا كذب على الغلابي».

 

وأعله ابن الجوزي (2/68-69) بالغلابي، وعمرو بن شمر.

 

وقال السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (1/477): «موضوع، آفته الغلابي».

 

وأما عمرو بن شِمْر الجُعفي الكوفي، فقال ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (6/380): «كان ضعيفاً جدّاً، متروك الحديث»، وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (6/344): «منكر الحديث»، وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص 56/رقم 44): «كذاب زائغ»، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (6/239-240): «منكر الحديث جدّاً، ضعيف الحديث، لا يشتغل به، تركوه»، ونقل عن الفلاس قوله فيه: «منكر الحديث، حدّث بأحاديث منكرة»، وقال ابن عدي في «الكامل» (5/1779-1780): «عامّة ما يرويه غير محفوظ»، وقال النسائي في «ضعفائه» (ص 185/رقم 475): «متروك الحديث»، وقال ابن معين في «تاريخ الدوري» (2/446): «ليس بثقة»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/75-76): «كان رافضيّاً يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن يروي الموضوعات عن الثقات في فضائل أهل البيت وغيرها، لا يحلُّ كتابة حديثه إلا على جهة التعجب». وجزم في «الثقات» (4/365) في ترجمة غيره -وأورد حديثاً هو في سنده- بأنه «كان رافضيّاً يكذب».

 

وفي الإسناد الثاني نائل بن نَجيح الحنفي البصري، وهو ضعيف، قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (8/512): «مجهول»([1059])، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (4/313): «لا أصل لحديثه»، وقال ابن عدي في «الكامل» (7/2520): «أحاديثه مظلمة جدّاً، وخاصة إذا روى عن الثوري»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/161): «شيخ يروي عن الثوري المقلوبات، وعن غيره من الثقات المُلْزَقَات، لا يعجبني الاحتجاج بخبره، إذا انفرد». وفي «الكاشف» (3/74) و«التقريب» (ص 559/رقم 8079): «ضعيف».

 

ولحديث علي -رضي الله عنه- طريق أخرى([1060])؛ هي:

 

ما أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/38-39 - ط. القديمة، أو 1/339 - ط. دار الغرب) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/613)-، قال:

 

أخبرنا أبو القاسم الزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن موسى، وأخبرنا الحسن بن علي الجوهري، قال: أخبرنا محمد بن العباس بن حيويه، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ابن المُنادي، قال: ذُكِرَ في إسناد شديد الضعف عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي قيس، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «تكون مدينةٌ بين الفُرات ودِجلة، يكون فيها مُلْك بني العباس، وهي الزَّوراء، يكون فيها حَرْب مُقْطعة يسبى فيها النساء ويذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم». قال أبو قيس: فقيل لعلي: يا أمير المؤمنين! لِمَ سَمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوراء؟ قال: لأن الحرب تدور في جوانبها حتى تطبقها.

 

وهذا الطريق «قد صرح ابن المنادي بشدة ضعفه فلا يعوّل عليه»([1061]).

 

وأبو قيس الأودي -واسمه: عبدالرحمن بن ثروان- «مختلف في عدالته»([1062])، وقال ابن حجر في «التقريب» (ص 337/رقم 3823): «صدوق، ربما خالف». وأما أبو إسحاق الشيباني فهو سليمان بن أبي سليمان الكوفي، ثقة.

 

والعلة فيه من الراوي عن سفيان، ولا يبعد عندي أن الحديث يعود على بعض الكذابين ممن رواه عنه وجعله من (مسند جرير بن عبدالله البجلي)، وتقدّم ذلك بتفصيل، ولله الحمد والمنة.

 

والهلاك المذكور في الطريقين الأوليين من حديث علي -رضي الله عنه-، جاء مفصّلاً في بعض الأحاديث الواهية([1063])، وهذا البيان، والله المستعان:

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/304-305 رقم 885) -ومن طريقه الطبراني([1064]) وعنه أبو نعيم([1065]) وعنه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/39 - ط. القديمة، أو 1/339-340 - ط. دار الغرب)-، قال: حدثنا أبو عمر      -صاحب لنا من أهل البصرة-، عن ابن لَهِيعَة، عن عبدالوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت، عن أبيه، عن الحارث، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عبر السفياني الفرات، وبلغ موضعاً يقال له: عاقَرْ قُوفَا، محا الله الإيمان من قلبه، فيقتل بها إلى نهر يقال له الدُّجَيْل سبعين ألفاً متقلّدين سيوفاً محلاّة، وما سواهم أكثر منهم، فيظهرون على بيت الذهب، فيقتلون المقاتلة والأبطال، ويبقرون بطون النساء، يقولون لعلها حبلى بغلام، وتستغيث نسوة من قريش على شاطئ دجلة([1066]) إلى المارة من أهل السفن، يطلُبْن إليهم أن يَحمِلُوهن حتى يلقوهن إلى الناس، فلا يحملوهن بغضاً ببني([1067]) هاشم، فلا تبغضوا بني هاشم، فإنَّ منهم نبي الرحمة، ومنهم الطيار في الجنة. فأما النساء فإذا جنهن([1068]) الليل، أوينَ إلى أغْوَرِها مكاناً مخافة الفساق، ثم يأتيهم المدد من البصرة([1069]) حتى يستنقذوا ما مع السفياني من الذراري والنساء من بغداد والكوفة».

 

وإسناده ضعيف جدّاً، مسلسل بالعلل، ففيه:

 

نعيم بن حماد، قال الذهبي في «السير» (10/609): «لا يجوز لأحد أن يحتج به، وقد صنَّف كتاب «الفتن»، فأتى فيه بعجائب ومناكير»، وقال فيه (10/600): «نُعيم من كبار أوعية العلم، لكنه لا تركن النفس إلى روايته».

 

وأبو عمر مجهول.

 

وابن لَهِيعة «العمل على تضعيف حديثه». قاله الذهبي في «الكاشف» (2/109).

 

وعبدالوهاب بن حسين، ترجمه ابن حجر في «اللسان» (5/303 - ط. أبو غدة)، وقال: «عن محمد بن ثابت وعنه ابن لهيعة، أخرج له الحاكم في (كتاب الأهوال) من «المستدرك»([1070]) حديثاً، وقال: «أخرجتُه تعجّباً، وعبدالوهاب مجهول»، قال الذهبي في «تلخيصه»: قلت: ذا الخبر موضوع».

 

وقال الدوري في «تاريخه» (2/507): «ليس بشيء»، وقال مرة: «صالح الحديث».

 

ومحمد بن ثابت بن أسلم؛ قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/50) عنه: «فيه نظر»، وقال الترمذي في «العلل الكبير» (2/797) عن البخاري: «لمحمد بن ثابت عجائب»، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (7/217): «يكتب حديثه، ولا يحتج به، منكر الحديث»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/252): «يروي عن أبيه ما ليس من حديثه، كأنه ثابت آخر، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه لقلّته». وضعفه النسائي([1071]) وأبو داود([1072]) والدارقطني، وقال الأزدي([1073]): «ساقط»، وقال ابن حجر في «التقريب» (ص 470/رقم 5767): «ضعيف».

 

والحارث غير منسوب، وكذا وقع في حديث عند الحاكم([1074]) (4/521-523)، ولم يعيّنه ابن حجر في «إتحاف المهرة» (10/173 رقم 12514).

 

وذكره ابنُ عرَّاق في «تنزيه الشريعة» في (الفصل الثالث) -وهو الفصل الذي ضمنه ابن عرّاق ما زاده السيوطي على ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» (2/350)-، وقال بعد عزوه له لـ(نعيم بن حماد): «وفيه مجهولون وضعفاء. قلت: هذا لا يقتضي الحكم عليه بالوضع، لكنه فيه رَكَّة ظاهرة، والله -تعالى- أعلم».

 

وأخبار (السُّفياني)([1075]) كثيرة، ونسج القصاص والأخباريون عنه أشياء خيالية، وتسابق الكذابون في التّزوّد عليه، وله -عندهم- في بغداد أحداث ومجريات، ومما هو على شرطنا([1076]) في هذا الباب:

 

ما أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/39-40 - ط. القديمة، أو 1/340-341 - ط. الغرب)، قال:

 

أخبرنا أبو القاسم عليّ بن محمد بن عيسى البزَّاز([1077])، قال: أنبأنا علي بن محمد بن أحمد المِصري، قال: أنبأنا عبدالملك بن يحيى بن عبدالله بن بُكَير أبو الوليد، قال: نبأنا يحيى([1078]) بن عبدالله بن بُكَير، قال: حدثني الهِقل بن زياد، قال: حدثني الأوزاعي([1079])، قال: حدَّث أبو أسماء الرَّحَبي أنه سمع ثوبان يُحدّث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج السُّفيانِيُّ حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشاً إلى المدينة خمسة عشر ألفاً، ينتهبون المدينة ثلاثة أيام ولياليهن، ثم يسيرون متوجهين إلى مكة». (وذكر الحديث).

 

وقال: «ثم يسير جيشه الآخر في ثلاثين ألفاً، وعليهم رجلٌ من كَلْبٍ، حتى يأتوا بغداد، فيقتلون بها ثلاث مئة كبش من ولد العبّاس، ويبقرون بها ثلاث مئة امرأة».

 

قال ثوبان: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وذلك بما قدّمت أيديهم، وما الله بظلاّم للعبيد. فيقتلون ببغداد أكثر من خمسة مئة ألف».

 

«وذكر حديثاً في الملاحم طويلاً كتبنا منه هذا».

 

قلت: وهذا إسناد منقطع، الأوزاعي لم يسمع أبا أسماء الرَّحبي، فأبو أسماء -واسمه: عمرو بن مَرْثَد- توفي في خلافة عبدالملك بن مروان([1080])، ووفاة الخليفة عبدالملك كانت سنة (86هـ)([1081])، وكانت ولايته ثلاثة عشر عاماً وشهرين ونصفاً»([1082])، ............................................................ وولادة الأوزاعي كانت سنة (88هـ)([1083])، فسنُّه لا يتحمل السماع؛ إذ ولادته كانت بعد وفاة أبي أسماء، ولذا قال في الإسناد: «حدّث أبو أسماء الرحبي».

 

وعبدالملك بن يحيى مذكور في ترجمة والده من الرواة عنه، ولم أجد من ترجمه، وأبوه صدوق، وسائر رجاله ثقات.

 

ولبعض ما فيه شاهد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-:

 

أخرج الحاكم([1084]) في «المستدرك» (4/520) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة        -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس، فيقتلها حتى لا يمنع ذَنَب تلْعَةٍ([1085])، ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرّة، فيبلغ السفياني، فيبعث إليه جنداً من جنده فيهزمهم، فيسير إليه السفياني بمن معه، حتى إذا صار ببيداء من الأرض خُسِف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبرُ عنهم».

 

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه». ووافقه الذهبي.

 

قلت: يحيى بن أبي كثير، ثقة، ثبت، لكنه يدلِّس ويرسل، كما في «التقريب» (ص 596/رقم 7632)، وروايته عن أبي سلمة -وهو ابن عبدالرحمن بن عوف- أخرجها الجماعة، كما في «تهذيب الكمال» (31/506).

 

والوليد بن مسلم، يدلس ويسوِّي([1086])، وصرح بالسماع من شيخه الأوزاعي، وفي مثله -حتى يكون الإسناد صحيحاً- لا بد من تصريح الأوزاعي -أيضاً- بالسماع، وهذا لم يحصل في إسنادنا هذا.

 

قال أبو مسهر في الوليد: «كان الوليد يأخذ من ابن أبي السفر حديث الأوزاعي، وكان ابن أبي السفر كذاباً، وهو يقول فيها: قال الأوزاعي»([1087]).

 

وقال أبو مسهر -أيضاً-: «كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين، ثم يدلسها عنهم»([1088]).

 

وقال الهيثم بن خارجة: «قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي.

 

قال: كيف؟!

 

قلت: تروي عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع عبدالله ابن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما، فما يحملك على هذا؟! قال: أُنَبِّلُ الأوزاعيَّ أن يروي عن مثل هؤلاء. قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء -وهؤلاء ضعفاء- أحاديث مناكير، فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات ضعف الأوزاعي. فلم يلتفت إلى قولي»([1089]).

 

وقال يحيى بن معين: «وكان الوليد بن مسلم مدلساً»([1090]).

 

وقال ابن حبان عنه: «ربما قَلَب الأسامي وغَيّرَ الكنى»([1091]).

 

وقال الدارقطني: «الوليد بن مسلم يرسل، يروي عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي؛ مثل نافع وعطاء والزهري، فيسقط أسماء الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن عطاء والزهري؛ يعني: مثل عبدالله بن عامر الأسلمي وإسماعيل بن مسلم»([1092]).

 

والذي يهمني هنا تقرير أن الوليد بن مسلم كان قد يروي عن الأوزاعي عن أحد الضعفاء عن ثقة، فيُسقِط الوليد الضعيف الذي روى عنه الأوزاعي، ويذكر (الأوزاعي عن الثقة)، دون التصريح بسماع الأوزاعي، وبإسقاط الضعيف، ويسمى هذا (تدليس التسوية).

 

قال الخطيب: «وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه، لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً يكون ضعيفاً في الرواية أو صغير السن، ويحسن الحديث بذلك، وكان سليمان الأعمش والثوري وبقية بن الوليد يفعلون مثل هذا»([1093]).

 

وقال العراقي: «وصورة هذا القسم من التدليس، أن يجيء المدلس([1094]) إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذٍ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل»([1095]).

 

وقال ابن الوزير: «قال الذهبي: إذا قال الوليد بن مسلم: «حدثنا» فهو حجة. قلت (القائل: هو ابن الوزير): ما تغني عنك حدثنا الأوزاعي، إذا جاء بلفظ محتمل بعد الأوزاعي، فلهذا قال العلائي: إن هذا الجنس أفحش أنواع التدليس وشرها. قلت (والقائل: هو الصنعاني): ولعل من جرح بالتدليس يحتج بأنه لا شك أن قصد المدلس الإيهام في موضع الخلاف، فلا يؤمن تدليس التسوية من كل مدلس، وإن لم يشعر به أحد، وذلك يقتضي رد ما فيه سمعت وحدثنا، وفي الإيهام في موضع الخلاف نوع من الجرح في الرواية، إن لم يجرح في الديانة»([1096]).

 

وقال الحافظ في «فتح الباري» (2/537) في كلام على حديث من رواية الوليد بن مسلم: «وقد صرح بتحديث الأوزاعي له وبتحديث نافع للأوزاعي، فأمن تدليس الوليد وتسويته» ا.هـ. وقال (1/49) في حديث رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: «وسيأتي الحديث من وجه آخر عن الوليد، وفيه تصريحه وتصريح الأوزاعي بالتحديث» ا.هـ. وقال -أيضاً- (3/529) في سياق كلام على حديث رواه الوليد: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: «في رواية مسلم عن زهير بن حرب، عن الوليد بسنده، حدثني أبو سلمة، حدثني أبو هريرة» ا.هـ. قلت: يريد الحافظ بذلك نفي علة تدليس الوليد وتسويته بالتصريح بالتحديث في طوال السند حتى الصحابي. وقال في «التلخيص الحبير» (2/43) على حديث لبقية: «إن سلم من وهم بقية ففيه تدليس التسوية؛ لأنه عنعن لشيخه». قلت: الحديث هو: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى...».

 

قال المعلِّمي -رحمه الله- في تعليقه على «الفوائد المجموعة» للشوكاني (ص 128) متعقباً الحافظ ابن حجر في قوله: «فهذا فيه التصريح من بقية بالتحديث، وهو ثقة إذا صرح بالتحديث»:

 

قال المعلمي: «أخشى أن يكون هذا خطأ، ومع ذلك فقد بقيت التسوية كما ذكره ابن حجر في آخر عبارته؛ لأن بقية ممن يفعلها».

 

وقال شيخنا العلامة محدث العصر ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الضعيفة» (3/409) الحديث رقم (1253): «وتدليس التسوية: هو أن يسقط من السند رجلاً من فوق شيخه، كأن يكون مثلاً بين مالك وسمّي رجل فيسقطه، فهذا الفعل يسمى تدليس التسوية عند المحدثين، والوليد معروف بذلك؛ فالمحققون لا يحتجون بما رواه الوليد إلا إذا كان مسلسلاً بالتحديث أو السماع، والله أعلم».

 

وقال -أيضاً- في «الضعيفة» (4/312): «والوليد -وهو ابن مسلم- كان يدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بالتحديث في جميع أماكن العنعنة». وانظر في «الضعيفة» الأحاديث (521، 622، 1830).

 

وقال في «الصحيحة» (1/459): «والوليد بن مسلم وإن كان من رجال الشيخين؛ فإنه كثير التدليس والتسوية، فيخشى أن يكون أسقط رجلاً بين سعيد (يعني: ابن عبدالعزيز شيخه) وإسماعيل (يعني: ابن عبدالله شيخ شيخه)، وعليه؛ فيحتمل أن يكون المسقط ضعيفاً».

 

وانظر في «الصحيحة» المواضع التالية: (1/324، 459، 548)، (2/556)، (4/561، 615) وغيرها([1097]).

 

والشاهد من هذا: إنّ علة هذا الطريق تسوية الوليد، وليس تدليس (يحيى بن أبي كثير)([1098]) فقط، وهذه علة قادحة، ولا غرابة في ذلك، قال العلامة المعلمي اليماني -رحمه الله تعالى-:

 

«إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة؛ فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا له علة قادحة مطلقاً حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقاً، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر...» ثم ذكر أمثلة على ذلك، ثم قال:

 

«وحجتهم في هذا، أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأن ذلك من النادر الذي يجيء الخلل من جهتها، وبهذا يتبين أن ما وقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر»([1099]).

 

* شواهد أخرى للأحاديث السابقة.

 

قال الإمام القرطبي في «تفسيره» (16/2) في أوائل تفسير (سورة الشورى):

 

«قال أرطاة بن المنذر: قال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قوله -تعالى-: {حم . عسق}؟ فأعرض عنه حتى أعاد عليه ثلاثاً، فأعرض عنه. فقال حذيفة بن اليمان: أنا أنبئك بها، قد عرفت لِمَ تركها؛ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له: عبدالإله أو عبدالله؛ ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقّاً، فإذا أراد الله زوال ملكهم وانقطاع دولتهم، بعث على إحداهما ناراً ليلاً، فتصبح سوداء مظلمة، فتحترق كلها كأنها لم تكن مكانها، فتصبح صاحبتها متعجبة، كيف قُلبت! فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً؛ فذلك قوله: {حم . عسق}. أي: عزمة من عزمات الله، وفتنة وقضاء حُمّ: حم. «ع»: عدلاً منه، «س»: سيكون، «ق»: واقع في هاتين المدينتين»، ثم قال:

 

«ونظير هذا التفسير([1100])، ما روى جرير بن عبدالله البَجَلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُبنَى مدينة بين دجلة ودُجيل وقُطْرَبُّل والصَّراة، يجتمع فيها جبابرة الأرض... إلخ».

 

قال أبو عبيدة:

 

أثر ابن عباس وحذيفة السابق، أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (25/11) -وعنه القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا في «الجليس الصالح» ومن طريقه الثعلبي في «الكشف والبيان» (8/302)-، قال: حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا عبدالوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة عبدالقدوس بن الحجاج.

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/305 رقم 886) -ومن طريقه الطبراني وعنه أبو نعيم ومن طريقهم الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/341-342 - ط. دار الغرب)- حدثنا عبدالقدوس، عن أرطاة بن المنذر، وزاد نعيم: «عمن حدثه، عن ابن عباس أنه أتاه رجل وعنده حذيفة، ...» بنحوه.

 

وزاد الخطيب عقبه: «قال أرطاة عن كعب: إذا بُنيت مدينة على شاطئ الفُرات، ثم أتتكم العواضل([1101]) والقواصم، وإذا بُنيت مدينة بين النهيرين بأرض منقطعة من أرض العراق أتتكم الدّهيماء»([1102]).

 

والأثر في «تفسير ابن أبي حاتم» (10/3274 رقم 18464) -دون إسناد([1103])- نقلاً عن «الدر المنثور» (7/335).

 

وإسناده ضعيف، إما لإرساله؛ كما في إسناد الطبري، وإما للمبهم الذي فيه؛ كما عند نعيم بن حماد. وقال ابن كثير في «تفسيره» (12/253 -       ط. أولاد الشيخ) قبل إيراد إسناد ابن جرير: «غريب عجيب منكر».

 

وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعاً.

 

أخرج الدارقطني في «غرائب مالك» -كما في «اللسان» ترجمة (جعفر ابن محمد الخراساني) (2/471-472 - ط. أبو غدة)-، والخطيب البغدادي في «رواة مالك» -كما في «اللآلئ المصنوعة»([1104]) (1/477)- من طريق أحمد بن يحيى الصَّدَفي: حدثنا جعفر بن محمد الخراساني، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُبنى مدينة بين جدولين عظيمين، لهي أسرع انكفاءً بأهلها من القِدر بما في أسفلها».

 

قال الذهبي في «الميزان» (1/415): «هذا باطل، قال أبو بكر الخطيب: الحمل فيه على جعفر وهو مجهول».

 

وقال ابن حجر في «اللسان» (2/472): «أورده الخطيب في «الرواة عن مالك» بسندٍ قوي إلى جعفر، وقال: «هذا حديث منكر، والحمل فيه...».

 

وورد نحوه عن جمع بأسانيد فيها مقال، وهذا التفصيل:

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/305 رقم 887): حدثنا غير واحد، عن عبدالحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم([1105])، قال:

 

تُوشكُ أمتان أن تقعدان على ثفال رَحا يطحنان، يُخسف بأحدهما، والأخرى تنظر، وسيكون حيان متجاوران، يشقُّ بينهما نهر يسقيان منه جميعاً، يقتبس بعضُهم من بعض، فيصبحان يوماً من الأيام قد خُسف بإحداهما، والأخرى تنظر.

 

وأخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/305-306 رقم 888) -ومن طريقه الطبراني وعنه أبو نعيم وعنه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/342 - ط. دار الغرب)-، قال: حدثنا نوح بن أبي مريم، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن حذيفة أنه سُئل عن: {حم . عسق} [الشورى: 1-2]، وعمر وعلي وابن مسعود وأُبي بن كعب وابن عباس وعدةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حُضورٌ، فقال حذيفة: العين: عذاب، والسين: السَّنَةُ والمجاعة، والقاف: قوم يقذفون في آخر الزمان. فقال له عمر: ممن هم؟ قال: من ولد العباس في مدينة يقال لها: الزَّوراء، ويُقتل فيها مَقتلة عظيمة وعليهم تقوم الساعة. قال ابن عباس: ليس ذلك فينا. ولكن القاف: قذفٌ وخسفٌ يكون. قال عمر لحذيفة: أما أنت فقد أصبتَ التفسير، وأصاب ابن عباس المعنى. فأصابت ابن عباس الحُمَّى حتى عاده عمر وعدةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مما سمع من حذيفة.

 

وإسناده موضوع، نوح بن أبي مريم، أبو عصمة المروزي، القرشي مولاهم، مشهور بكنيته، ويعرف بـ(الجامع)؛ لجمعه العلوم، لكن كذّبوه في الحديث، وقال ابن المبارك: كان يضع. كذا في «التقريب» (ص 567/رقم 7210).

 

ومقاتل بن سليمان، أبو الحسن البلخي، كذّبوه وهجروه، كما في «التقريب» (ص 545/رقم 6868) -أيضاً-.

 

قال الخطيب([1106]) بعد أن أورد جلّ ما ذكرناه في هذا الفصل: «قلت: وكل هذه الأحاديث التي ذكرناها، واهيةُ الأسانيد عند أهل العلم والمعرفة بالنقل، لا يثبت بأمثالها حجة، وأما متونُها فإنها غير محفوظة؛ إلا عن هذه الطرق الفاسدة، وأمرها إلى الله العالِمِ بها، لا معقب لأمره، ولا رادَّ لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد».

 

وأورد جلَّها -كما مضى- ابن الجوزي في «الموضوعات»، وتعقبه السيوطي في «اللآلئ» بأنها ضعيفة لتعدد طرقها.

 

والذي أُراه أن المرفوع واهٍ جدّاً، بينما مجموع ما ورد في الأحاديث يدلّل على أن (العراق) أرضُ الفتن، ستقع فيها قلاقل ومحن، وكان هذا الأمر مقرراً في أذهان السلف([1107]).

 

أخرج الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/342 - ط. دار الغرب) إلى سفيان بن عيينة، قال: رآني قيس بن الربيع على قنطرة الصَّراة، فقال: النجاء النجاء، فإنا كنا نتحدث أنّ هذا المكان الذي يُخسف به. قال سفيان: ورآني أبو بكر الهُذَلي ببغداد، فقال: بأي ذنب دخلت بغداد؟!

 

وأخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/215) بسنده إلى كعب الأحبار، قال: «سَتُعرَكُ العراق عَرْكَ الأديم([1108])، وتفتّ مصر فتّ البعر([1109]).

 

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعداه في آخر الزمان إلى كون (العراق) محلاًّ للحروب والمعارك([1110])، على وجه كثير وشهير، ويتداعى الناس إليها من أجل خيرات تظهر فيها، وتكون بينهم مَقاتِلُ وسفكُ دماءٍ، وزَهقُ أرواحٍ، وهذا ما سيظهر معنا في الفصل الآتي.

 

فصل

 

في حسر الفرات عن جبل من ذهب في الملاحم التي تكون

 

بين يدي ظهور المهدي وحصول مقتلة عظيمة آنذاك

 

أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب خروج النار) (رقم 7119)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب) (رقم 2894) بعد (30)، وأبو داود (4313)، والترمذي (2569)، وابن حبان (6693، 6694 - «الإحسان») -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/514)-، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (14/445 رقم 17976)-، والبزار في «مسنده» (ق160/أ-ب)، والدارقطني في «العلل» (10/277) من طريق حفص بن عاصم([1111]).

 

والبخاري (7119) ومسلم (2894) بعد (31)، وأبو داود (4314)، والترمذي (2570)، وابن حبان (6695 - «الإحسان») -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/514)-، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (14/445 رقم 17976)، والبزار في «مسنده» (ق201/ب) من طريق الأعرج([1112])؛ كلاهما عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«يوشك الفراتُ أن يَحسِرَ عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً» لفظ حفص.

 

وقال الأعرج: «يحسر عن جبل».

 

وهذا لفظ مجمل([1113])، جاء مفصّلاً في روايات أخرى.

 

أخرج عبدالرزاق في «المصنف» (20804) -وعنه أحمد (2/306)، ومن طريق عبدالرزاق: البغوي في «شرح السنة» (15/34 رقم 4240)-: أخبرنا معمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل الناسُ، فيُقتل من كل مئة تسعون -أو قال: تسعة وتسعون-، كلهم يرى أنه ينجو».

 

وأخرجه مسلم (2894) بعد (29) -ومن طريقه أبو عمرو الداني في «الفتن» (ص 227/رقم 497)- من طريق يعقوب بن عبدالرحمن القاري عن سهيل، به. ولفظه: «لا تقوم الساعة حتى يحسر الفراتُ عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لَعَلِّي أكون أنا الذي أنجو».

 

وكذلك جزم بالتسعة والتسعين من غير شك: يزيد بن زريع عن سهيل، مثل الذي قبله، وزاد([1114]): «فقال أبي: إن رأيته فلا تقربنّه». أخرجه مسلم (2894) بعد (29).

 

وكذلك رواه زهير بن معاوية عن سهيل، عند أحمد (2/332)، وابن حبان (6691)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (13/269 - ط. المصرية).

 

وفي آخره: «يا بني! فإن أدركته -وعند الخطيب: فإن أدركت ذلك الزمان- فلا تكونَنّ ممن يُقاتل عليه». وكذلك رواه علي بن عاصم عن سهيل، عند ابن العديم في «بغية الطلب» (1/512-513)، ولفظه: «لا تذهب الدنيا حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب...»، وفيه: «قال لي أبي: «يا بني! إنْ أدركته فلا تقربنه». قال علي بن عاصم: فحدّثتُ بهذا الحديث شعبةَ، فقال: إني قد سمعته من سهيل، ولكنْ لا أحفظ أنه قال: «يا بني إن أدركته فلا تقربنه»، استيقنت أنه قال: يا بني إن أدركته فلا تقربنه»؟ قلت: نعم. وقائل المقولة: «يا بني...»؛ هو أبو صالح ذكوان، والد سهيل.

 

ورواه خالد بن عبدالله الواسطي عن سهيل، به. دون مقولة أبي صالح عند: ابن العديم في «بغية الطلب» (1/513).

 

ورواه عن سهيل -أيضاً-: سفيان الثوري، واختلف عليه فيه، وهذا التفصيل:

 

رواه أبو أمية الطرسوسي -واسمه: محمد بن إبراهيم، صدوق، صاحب حديث، يهم-، عن عبيدالله بن موسى، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ولم يتابع عليه. قاله الدارقطني في «العلل» (10/189)، وزاد: «وخالفه أصحاب الثوري، رووه عن الثوري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، إلا أن الثوري شك في رفعه».

 

قال أبو عبيدة: ثم أخرجه الدارقطني (10/190): ثنا أحمد بن محمد ابن أبي الرجال، ثنا أبو أمية الطرسوسي (ح) وثنا محمد بن علي بن الحسن النقاش بتنّيس، قال: ثنا محمد بن عبدالله بن عبدالسلام ببيروت، ثنا محمد بن إبراهيم بن مسلم بن أمية، به. وفيه:

 

«عن أبي هريرة لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم». وقال ابن أبي الرجال: «لا أعلمه إلا قد رفعه. قال: يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون».

 

قلت: أما الرواة له عن سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ فهم:

 

* الحسين بن حفص الأصبهاني.

 

أخرجه الدارقطني في «العلل» (10/190) من طريق أسيد بن عاصم، وأبو نعيم في «الحلية» (7/141) من طريق عمران بن عبدالرحمن؛ كلاهما عنه([1115]) عن الثوري، به. قالا: «لا أعلمه إلا رفعه».

 

وعند أبي نعيم زيادة في آخره: «كفاراً»؛ أي: «فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون كفاراً، وقال:

 

«ورواه قبيصة وأبو حذيفة عن الثوري مرفوعاً من غير شك».

 

قلت: ولم يشك في رفعه -أيضاً-:

 

* شهاب بن خراش.

 

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (4/1350)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/143)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (23/207) من طرق عن هشام ابن عمار، عن شهاب، به. وزاد في آخره: «ولا تقوم الساعة إلا نهاراً».

 

واقتصر أبو نعيم على سياق هذه اللفظة، دون أصل الحديث.

 

قال ابن عدي عقبه: «وهذا عن الثوري قوله: «يحسر الفرات»، وهو مشهور، رواه عن الثوري جماعة، وقوله في الحديث: «ولا تقوم الساعة إلا نهاراً» هذه اللفظة ما أعلم أحداً رواه عن الثوري بهذا الإسناد غير شهاب بن خراش».

 

وقال الدارقطني في «العلل» (10/190) عن زيادة شهاب: «ووهم في ذلك».

 

وقال أبو نعيم: «تفرد به شهاب عن الثوري».

 

قلت: وسبب وهمه -والله أعلم- أن سفيان الثوري رواه عن سهيل، به. بلفظ: «لا تذهب الأيام والليالي حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، ويحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، وينجو واحد».

 

أخرجه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/512) من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، به.

 

وروى جمع عن سفيان القطعة الأولى منه إلى قوله: «وأنهاراً» مع زيادات أخرى، لا صله لها بحديثنا؛ مثل:

 

* إسماعيل بن زكريا، عند أحمد (2/371-372).

 

* يعقوب بن عبدالرحمن الإسكندراني، عند أحمد (2/417)، ومسلم (ص 70/رقم 60 وص 2215/رقم 18)، وأبي عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (14/573-574 رقم 18246)-، وابن حبان (6681).

 

* الحسين بن حفص، عند الحاكم (4/477).

 

فأخطأ شهاب بن خراش فيه، فقال: «لا تقوم الساعة إلا نهاراً»، وصوابه ما ذكرنا، والله أعلم.

 

وقال الدارقطني: «ورواه سليمان بن بلال، وزهير بن معاوية، ومعمر، وخالد الواسطي، ويعقوب الإسكندراني، وجرير بن عبدالحميد، وعبدالعزيز ابن أبي حازم، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً، ووقفه ابن عيينة عن سهيل»([1116]).

 

قلت: وتقدمت رواية بعض المذكورين، وظفرتُ -أيضاً- برواية يحيى ابن يمان عن سفيان الثوري، به مرفوعاً، ولفظه:

 

«لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتُكم عن جزيرة من ذهب، فيقتتلون عليه، فيُقْتل من كل مئة تسعة وتسعون».

 

أخرجه حنبل بن إسحاق في «جزئه» (ص 216/رقم 18): حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، عن ابن يمان، به.

 

وللمرفوع عن أبي هريرة طرق أخرى، هذا ما وقفت عليه منها:

 

أخرج أحمد (2/261): حدثنا يعلى و(2/346، 415): ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، وابن ماجه (4046) من طريق محمد بن بشر، وابن حبان (6692 - «الإحسان») من طريق الفضل بن موسى السيناني، وهشام بن عمار في «حديثه» (ص 191/رقم 90): حدثنا سعيد بن يحيى، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 72، 496 - ط. بيت الأفكار) من طريق المثنى بن بكر؛ جميعهم عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«يحسُرُ الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل الناسُ عليه، فيُقتل من كل عشرة تسعةٌ» لفظ يعلى.

 

ولفظ حماد: «يوشك أن يُحسِر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل([1117]) عليه الناس حتى يُقتَل من كل عشرة تسعة، ويبقى واحد».

 

* حديث أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه-.

 

أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب) (رقم 2895) بعد (32)، قال:

 

حدثنا أبو كامل، فضيل بن حسين وأبو معن الرَّقَاشيُّ (واللفظ لأبي معن)، قالا: حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبدالحميد بن جعفر، أخبرني أبي([1118])، عن سليمان بن يسار، عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، قال:

 

كنت واقفاً مع أبي بن كعب، فقال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم([1119]) في طلب الدنيا. قلت: أجل. قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناسَ يأخذون منه ليُذهَبَنَّ به كلِّه([1120]). قال: فيقتتلون عليه، فيُقتل من كل مئة تسعةٌ وتسعون».

 

قال أبو كامل في حديثه: قال: وقفت أنا وأُبي بن كعب في ظل أجمِ([1121]) حسّان.

 

قال أبو عبيدة: وكذلك قال عفان بن مسلم عن خالد بن الحارث به. فيما رواه عنه أحمد في «المسند» (5/139)، والهيثم بن كليب الشاشي في «مسنده» (3/361)، وأبو عوانة في «الفتن» -كما في «إتحاف المهرة» (1/220 رقم 63)-، ولفظه:

 

وقفتُ أنا وأُبي بن كعب في ظل أُجُم حسّان، فقال لي أُبي: ألا ترى الناس مختلفةً أعناقُهم في طلب الدنيا؟ قال: قلت: بلى. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكره مثله، وفي آخره: «والله لئن ترَكْنَا الناسَ يأخذون فيه ليذهبَنَّ، فيقتتل الناس، حتى يقتل من كل مئة تسعةٌ وتسعون».

 

ولفظ الشاشي: «يَحتَقُّون([1122]) أعناقهم»، و: «يوشك أن يحسر الفرات... فإذا سمع به الناس نادوا، فيقول من عنده... يأخذون ليذهبن به، فيقتتل الناس، فيُقتل من كل...».

 

ورواه عن خالد بن الحارث غير الثلاثة المذكورين، ووقفت على اثنين آخرين؛ هما:

 

الأول: قيس بن حفص.

 

أخرج البخاري في «التاريخ الكبير» (1/388 رقم 1241)، قال لي([1123]) قيس بن حفص، قال: حدثنا خالد بن الحارث، به. ولم يسق لفظه، واكتفى بقوله: «نحوه»، وكان قد ساق لفظ إسحاق بن العلاء عن عمرو بن الحارث الآتي ذكره.

 

والآخر: الصَّلت بن مسعود الجحدري.

 

أخرجه عبدالله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/139)، وأبو عوانة في «مسنده» -كما في «إتحاف المهرة» (1/220)-.

 

وتابع خالداً -فيما وقفتُ عليه- ثلاثة، فرووه عن عبدالحميد بن جعفر؛ هم:

 

الأول: أبو محمد بن أبي شيبة.

 

أخرج عبد بن حميد في «المنتخب» (ص 92/رقم 180) -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/513)-: أخبرني ابن أبي شيبة، قال: وجدتُ في كتاب أبي محمد بن أبي شيبة عن عبدالحميد بن جعفر، قال: أُخبرتُ عن سليمان بن يسار، فأرسله ولم يذكر ابن جعفر أباه! ولفظه مثل لفظ الجماعة عن خالد؛ إلا أن فيه: «فيقول الذين عنده»، وفيه: «يأخذون منه؛ ليذهبون به». ولم يذكر أجم حسّان، ولا قولة أُبيٍّ أوله.

 

الثاني: بكر بن بكار.

 

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/255) -ومن طريقه الذهبي في «السير» (1/393)- وفيه زيادة بعد قوله: «أطم حسان»: «والسوق سوق الفاكهة اليوم»، وذكر لفظ الجماعة؛ إلا أن فيه: «يأخذون منه، لا يدعون منه شيئاً، فيقتتل الناس [فيقتل]([1124]) من كل مئة...».

 

وقال أبو نعيم على إثره: «ورواه الزُّبيدي عن الزهري، عن إسحاق مولى المغيرة، عن أُبي»([1125]).

 

وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/111) من طريق آخر عن بكر بن بكار مقتصراً على المرفوع، ولفظه: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون ويبقى واحد».

 

والثالث: عبدالله بن حمران، وهو صدوق يخطئ قليلاً، واضطرب فيه؛ فرواه على الجادة تارة، وجعله تارة أخرى عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، قال: قال الحارث بن نوفل: سمعتُ أُبيّاً، فزاد (الحارث)! وهذا من أوهامه.

 

أخرجه عبدالله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/139-140): حدثنا شجاع بن مخلد وأبو خيثمة زهير بن حرب، والشاشي في «مسنده» (3/366-367 رقم 1488): حدثنا أبو قلابة الرقاشي؛ جميعهم عن عبدالله ابن حمران، به على الجادة بألفاظ متقاربة.

 

وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/388-389)، قال: قال لي محمد بن بشار: حدثنا عبدالله بن حمران، به. بزيادة الحارث بن نوفل، قال: سمعت أبيّ([1126]).

 

ثم وجدت ابن حمران رواه على لون آخر، وهذا من اضطرابه -أيضاً-؛ وهو:

 

ما أخرجه ابن عساكر (7/332-333) من طريق محمد بن بشار وابن معمر، قالا: نا عبدالله بن حمران، نا عبدالحميد بن جعفر، عن عبدالله بن الحكم بن رافع بن سنان، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عبدالله بن الحارث، قال: قال الحارث بن نوفل: وقفتُ أنا وأبيّ بن كعب في ظل أُطُم حسان، وسوق الناس يومئذ في موضع سوق الفاكهة اليوم... وذكره بنحوه.

 

ولحديث أُبيّ بن كعب طريق أخرى فيها مقال، جاء فيها: «فيقتل تسعة أعشارهم»، وهذا التفصيل، والله المستعان:

 

أخرج البخاري في «التاريخ الكبير» (1/388)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/315، 416) -ومن طريقه الخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (1/56)-، وابن حبان (6696 - «الإحسان») -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/515)-، والطبراني في «المعجم الكبير» (رقم 537) و«مسند الشاميين» (رقم 1789) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء: حدثنا عمرو بن الحارث، حدثنا عبدالله بن سالم، عن محمد بن الوليد الزُّبيدي، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني إسحاق مولى المغيرة بن نوفل، أن المغيرة بن نوفل أخبره، عن أُبيّ بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن تلّ من ذهب، فيقتتل عليه الناس، فيُقتل تسعة أعشارهم».

 

وإسناده ضعيف بهذا اللفظ، وله علتان:

 

الأولى: إسحاق([1127]) مولى المغيرة مجهول، وثقه ابن حبان (6/46)، وتبعه ابن قطلوبغا، فترجمه في كتابه «الثقات» (ق78/أ)، قال الخطيب في «الموضح» (1/55): «لا أعلم حدث عنه غير الزهري». وذكره مسلم في «المنفردات والوحدان» (ص 123/رقم 261) تحت عنوان (ومن روى عنه الزهري ممن لم يرو عنه أحد سواه فيما علمنا).

 

والثانية: إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزُّبيدي.

 

قال النسائي: «ليس بثقة عن عمرو بن الحارث([1128])» كذا في «تاريخ دمشق» (8/109)، وقال الآجري في «سؤالاته» (رقم 1682): «سئل أبو داود عنه، فقال: ليس هو بشيء. قال أبو داود: قال لي ابن عوف([1129]): ما أشك أن إسحاق بن إبراهيم بن زُريق يكذب».

 

وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/209): «كتب عنه أبي، سمعتُ أبي يقول:  سمعت يحيى بن معين وأثنى على إسحاق بن الزِّبْرِيق([1130]) خيراً، وقال: الفتى لا بأس به، ولكنهم يحسدونه». قال: وسئل أبي عن إسحاق ابن إبراهيم بن العلاء؟ فقال: شيخ»([1131]).

 

فقوله: «شيخ» ليس تعديلاً له، وإنما يعتبر حاله، قال الذهبي في ترجمة (العباس بن الفضل العدني) من «الميزان» (2/385): «قوله -أي: أبو حاتم-: هو شيخ، ليس هو بعبارة جرح، لهذا لم أذكر في كتابنا أحداً ممن قال فيه ذلك، ولكنها -أيضاً- ما هي عبارة توثيق، وبالاستقراء يلوح لك أنه ليس بحجة».

 

أما ألفاظ الأحاديث السابقة فهي محفوظة؛ عدا قوله: «من كل عشرة تسعة» أو «تسعة أعشارهم»؛ فهي رواية شاذة، والمحفوظ: «من كل مئة تسعة وتسعون». ويمكن الجمع باختلاف تقسيم الناس إلى قسمين([1132])، «ولو صحت حملت على التقريب وإلغاء الكسر في نسبة المقتولين إلى العشرة؛ لأن تسعة وتسعين في مئة، حينما تذكر بالنسبة إلى العشرة، تكون تسعة وكسراً، والعرب من عادتهم إلغاء الكسر»([1133]).

 

وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/335-336) من طرق أخرى ضعيفة عن أبي هريرة مرفوعاً -أيضاً-، بألفاظ فيها زيادة، وفي بعضها نُكْرة، وبوب عليها (باب آخر من علامات المهدي في خروجه)، وهذا التفصيل:

 

أخرج برقم (969)، قال: حدثني غير واحد عن ابن عياش، عن يحيى ابن أبي عمرو، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

«يحسر الفرات عن جبل من ذهب وفضة، فيُقتل عليه من كل تسعةٍ سبعةٌ، فإن أدركتموه فلا تقربوه».

 

وإسناده ضعيف؛ لجهالة شيوخه، ويحيى بن أبي عمرو، أبو زرعة السَّيباني الشامي الحمصي، ابن عم الأوزاعي، ثقة، ولكن لم يدرك أبا هريرة. ذكره ابن سعد في «طبقاته» (7/458) في (الطبقة الثانية) من أهل الشام، وذكره خليفة في «طبقاته» (315) في (الطبقة الرابعة)، ومات سنة ثمان وأربعين ومئة([1134])، وهو ابن خمس وثمانين سنة([1135])، فروايته عن الصحابة مرسلة، قال ابن عساكر([1136]): «قيل: إنه أدرك أبا الدرداء، وليس بصحيح».

 

وقوله: «فضة» شاذة، وكذا: «من كل تسعة سبعة».

 

وأخرج برقم (972): حدثنا يحيى بن سعيد، عن ضرار بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن أبي هريرة رفعه بلفظ:

 

«الفتنة الرابعة([1137]) ثمانية عشر عاماً([1138])، ثم تنجلي حين تنجلي، وقد انحسر الفراتُ عن جبل من ذهب، تكبُّ عليه الأُمّةُ، فيُقتل عليه من كل تسعة سبعةٌ»([1139]).

 

وإسناده واهٍ جدّاً، إسحاق؛ هو: ابن عبدالله بن أبي فروة، متروك، ولم يدرك أبا هريرة، بينهما واسطة، يظهر ذلك مما:

 

أخرجه نعيم نفسه في «الفتن» (1/55-56 رقم 89) -أيضاً- بالسند نفسه؛ إلا أنه جعله عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، عمن حدثه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تأتيكم بعدي أربع فتن؛ الأولى: يُستحل فيها الدماء. والثانية: يُستحل فيها الدماء والأموال. والثالثة: يُستحل فيها الدماء والأموال والفروج. والرابعة: صمّاء، عمياء، مطبقة، تمور مور الموج في البحر، حتى لا يجد أحدٌ من الناس منها ملجأً، تطيف بالشام، وتغشى العراق، وتخبط الجزيرة بيدها ورجلها، وتعرك الأمة فيها بالبلاء عركَ الأديم، ثم لا يستطيع أحدٌ من الناس يقول فيها: مه مه. ثم لا يرفعونها([1140]) من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى».

 

وشيخ نعيم في الحديثين ضعيف -أيضاً-، وهو يحيى بن سعيد العطار.

 

وأخرجه نعيم في «الفتن» (1/55 رقم 88) بسند رجاله ثقات؛ إلا أنه منقطع، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني، قال: قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع فتن تكون بعدي؛ الأولى: يُستحل فيها الدماء. والثانية: يُستحل فيها الدماءُ والأموال. والثالثة: يُستحل فيها الدماءُ والأموالُ والفروجُ. والرابعة: عمياء صمّاء تُعرك فيها أمتي عركَ الأديم»([1141]).

 

وورد موصولاً بسند فيه لين، بل كذاب.

 

أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/56 رقم 90)، قال: حدثنا عثمان ابن كثير بن دينار، عن محمد بن مُهاجر أخي عمرو بن مهاجر، قال: حدثني جُنيد بن ميمون، عن ضرار بن عمرو، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله -تعالى-: {أو يُلبسكم شيعاً}، قال: «أربع فتن، تأتي الفتنة الأولى فيُستحل فيها الدماء. والثانية: يُستحل فيها الدماءُ والأموال. والثالثة: يُستحل فيها الدماءُ والأموالُ والفروجُ. والرابعة: عمياء مظلمة، تمور مور البحر، تنتشر حتى لا يبقى بيتٌ من العرب إلا دخلته».

 

ومحمد بن مهاجر القرشي الكوفي، لين الحديث، كما في «التقريب» (ص 509/رقم 6332)، وضرار بن عمرو، متهم، وله مناكير كثيرة([1142])، ولا يعرف له سماع من أبي هريرة.

 

وجعله السيوطي في «الدر المنثور» (3/288) عن ضرار بن عمرو مرفوعاً! وعزاه فقط لنعيم في «الفتن»!

 

وهناك أحاديث عامة تدلل على اشتداد الفتن مع مرور الزّمن، وقد أورد نعيم بن حماد واحداً منها يلي ما سبق مباشرة، فيه تنصيص على أن «فتناً أربعاً تكون آخر الزمان»، وورد في «الصحيح» ما يشهد لعمومه، وإن لم يكن فيها ذكر حسر الفرات، كما في الأحاديث التي سقناها، وهذا البيان:

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/56-57 رقم 91)، قال: حدثنا الحكم بن نافع، عن أرطاة بن المنذر، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكون في أمتي أربع فتن، يصيب أمتي في آخرها فتن مترادفة، فالأولى تصيبهم فيها بلاء، حتى يقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف. والثانية حتى يقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف. والثالثة: كلما قيل: انقضت. تمادت. والفتنة الرابعة: تصيرون فيها إلى الكفر، إذا كانت الإمّعةُ مع هذا مرة، ومع هذا مرة بلا إمام ولا جماعة، ثم المسيح، ثم طلوع الشمس من مغربها، ودون الساعة اثنان وسبعون دجالاً، منهم من لا يتّبعه إلا رجل واحد».

 

وهذا معضل، أرطاة بن المنذر رواه بلاغاً، ولا نعرف الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وأرطاة هذا غير التابعي الحمصي، الذي أدرك ثوبان، وسمع من مجاهد والكبار، وإنما هذا آخر، بصري، يكنى أبا حاتم، ترجمه ابن عدي في «الكامل» (1/421-422)، وأورد له حديثين منكرين، وقال: «ولأرطاة أحاديث كثيرة، غير ما ذكرته في بعضها خطأ وغلط»([1143]).

 

ويشهد لبعض ما فيه: ما أخرجه مسلم في «صحيحه»([1144]) بسنده إلى عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة، قال: دخلت المسجد، فإذا عبدالله بن عمرو ابن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم، فجلستُ إليه، فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل([1145])، ومنا من هو في جشره([1146])؛ إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقّاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتُها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر.

 

فدنا عبدالرحمن من عبدالله بن عمرو بن العاص، وقال: أنشدك الله: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى عبدالله -رضي الله عنه- إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أُذُناي ووعاه قلبي.

 

نستفيد من هذا الحديث أموراً، الذي يخصنا منها هنا ما يلي:

 

الأول: اشتداد الفتن كلما مر الزمن، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً»؛ أي: يُصيِّرُ بعضُها بعضاً رقيقاً؛ أي: خفيفاً؛ لعظم ما بعده. فالثاني يجعل الأول رقيقاً، وهكذا.

 

الثاني: في هذا الحديث رد صريح على من قال: إن النبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ.

 

الثالث: ونستفيد من استحلاف عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة ما يلي:

 

أولاً: عدم أنفة الصحابة -رضي الله عنهم- على من شدد عليهم في التثبت فيما يخبرون به عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ثانياً: تثبت المسلمين الأولين في تلقي الأخبار، مع ثقتهم بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبأمانتهم في نقل الدين، ولا سيما فيما يخص المغيبات وأحاديث الفتن.

 

فاحرص يا أخي على الاقتداء بسلفك الصالح وتثبت في دينك؛ لأن مُدّعِي العلم قد كثروا اليوم.

 

رابعاً: أن الفتنة تصيب هذه الأمة على هيئة أمواج، تظهر وتختفي بين الفَيْنَة والفينة([1147]).

 

والشاهد أن في بلاغ أرطاة بن المنذر تفصيلاً يُستأنسُ به في الإجمال المذكور في هذا الحديث، ولا سيما أن معناه العامَّ واردٌ في أحاديثَ كثيرةٍ شهيرةٍ، بل ورد عن علي قولُه ما يشهد لهذا المعنى.

 

أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/57 رقم 94)، قال: حدثنا ابنُ وهب، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، قال: سمعت عبدالله بن زُرَير الغافقي، يقول:

 

سمعت عليّاً -رضي الله عنه- يقول: «الفتن أربعٌ: فتنة السراء، وفتنة الضراء، وفتنة كذا، فذكر معدنَ الذهب، ثم يخرج رجل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم، يُصلح الله على يديه أمرَهم».

 

وهذا إسناد جيد، الراوي عن ابن لهيعة عبدالله بن وهب، والحارث بن يزيد هو الحضرمي أبو عبدالكريم المصري، ثقة من الثقات. قاله أحمد، ووثقه أبو حاتم والنسائي والعجلي([1148]).

 

وعبدالله بن زُرير الغافقي، ثقة -أيضاً-، وثقه ابن سعد في «طبقاته» (7/510)، والعجلي في «ثقاته» (ص 257/رقم 811)، وابن حبان في «ثقاته» (5/24)، وابن خلفون في «ثقاته»، كما في «إكمال تهذيب الكمال» (7/356-357) لمغلطاي، ولم يجرحه أحد([1149]).

 

ونستفيد من هذا الأثر أموراً؛ هي:

 

أولاً: حسرُ الفرات عن جبلٍ من ذهب فتنةٌ.

 

ثانياً: أنّ المراد بالذهب المعدن، ففيه: «فذكر معدن الذهب»، وجَعْلُه كنايةً عن النفط أو غيره -كما يقول العقلانيون- فهذا إخراجٌ للفظ عن معناه، وحصرُه في وقت معين لم يقم عليه دليل، وفيه عدم مراعاةٍ لفهم المخاطَبِين عند سماعهم له([1150]).

 

ثالثاً: أن فتنةَ حسر الفرات تدخل في عموم الهرج الوارد في الأحاديث الكثيرة في «الصحيحين»([1151])، وغيرهما.

 

خامساً: إن هذه الفتنة من إرهاصات خروج المهدي آخر الزمان، وصرح بذلك علي -رضي الله عنه- لما قال: «ثم يخرج رجل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم يُصلح الله على يديه أمرهم».

 

قال البرزنجي في «الإشاعة» (ص 91) عند كلامه على (العلامات التي يعرف بها المهدي): «وأما الأمارات الدالة على خروجه؛ فمنها: أنه ينشقّ الفراتُ فينحسر عن جبل من ذهب»، وكرره بعده بورقة، وزاد: «فإذا سمع به الناس ساروا إليه، واجتمع ثلاثةٌ كلُّهم ابنُ خليفة، يقتتلون عنده، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم...».

 

قلت: يدلّ على ذلك حديث ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعاً؛ وهو:

 

ما أخرجه ابن ماجه في «السنن» (4084)، والبيهقي في «الدلائل» (6/ 515)، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (5/1032 رقم 548) من طريق عبدالرزاق، والحاكم في «المستدرك» (4/463-464) من طريق الحسين بن حفص؛ كلاهما عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان رفعه: «يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلُّهم ابنُ خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قومٌ» ثم ذكر شيئاً لا أحفظه، فقال: «فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفةُ الله المهديُّ». ورجاله ثقات رجال الصحيح، لكن خالف الثوريَّ في إسناده عبدُالوهاب بن عطاء، فأخرجه الحاكم (4/502)، وعنه البيهقي([1152]) في «الدلائل» (6/516) من طريق يحيى بن أبي طالب، عن عبدالوهاب بن عطاء، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسامة، عن ثوبان موقوفاً([1153]).

 

وأعلّه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الضعيفة» (رقم 85) بعنعنة أبي قلابة، قال بعد أن نقل أنّ الذهبي قال عن الحديث: «أراه منكراً»:

 

«وهذا هو الصواب، وقد ذهل من صححه عن علته، وهي عنعنة أبي قلابة، فإنه من المدلسين؛ كما تقدم نقله عن الذهبي وغيره في الحديث السابق، ولعله لذلك ضعف حديث ابن علية من طريق خالد، كما حكاه عنه أحمد في «العلل» (1/356)، وأقره.

 

لكن الحديث صحيح المعنى؛ دون قوله: «فإن فيها خليفة الله المهدي».

 

فقد أخرجه ابن ماجه (2/517-518) من طريق علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً نحو رواية ثوبان الثانية.

 

وإسناده حسن بما قبله، فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو مختلف فيه، فيصلح للاستشهاد به، وليس فيه -أيضاً- ذكر «خليفة الله»، ولا «خراسان».

 

وهذه الزيادة: «خليفة الله»؛ ليس لها طريق ثابت، ولا ما يصلح أن يكون شاهداً لها، فهي منكرة؛ كما يفيد كلام الذهبي السابق، ومن نكارتها أنه لا يجوز في الشرع أن يُقال: فلان خليفة الله. لما فيه من إيهام ما لا يليق بالله -تعالى- من النقص والعجز، وقد بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فقال في «الفتاوى» (2/461):

 

«وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربي، أن الخليفة هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، والله -تعالى- لا يجوز له خليفة، ولهذا «قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله! فقال: لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسبي ذلك»([1154])، بل هو -سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

 

«اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا»([1155]).

 

وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين، ليس له شريك ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف؛ بموت، أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف، سمي خليفة؛ لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله -تعالى-، وهو منزه عنها، فإنه حي قيوم، شهيد، لا يموت ولا يغيب... ولا يجوز أن يكون أحد خلفاً منه، ولا يقوم مقامه، إنه لا سَمِيَّ له، ولا كفء، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به».

 

ومما يدل على ذلك: ما أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/333 رقم 958) بسندٍ حسن عن ابن سيرين، قال: «لا يخرج المهدي حتى يُقتل من كلِّ تسعةٍ سبعةٌ». والقتل هذا هو المذكور في الأحاديث السابقة.

 

قال ابن حجر في «الفتح» (13/81) عند شرحه لهذا الحديث: «يوشك أن يحسر الفرات...» وأورد حديث ابن ماجه، وسكت عليه، وقال عقبه:

 

«فهذا إن كان المراد بالكنز فيه: الكنز الذي في حديث الباب، دلّ على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي، وذلك قبل نزول عيسى، وقبل خروج النار جزماً، والله أعلم».

 

وأقره عليه صديق حسن خان في «عون الباري» (6/422)، وصاحب «تكملة فتح الملهم» (6/288)، وأغرب بعضهم لما قال: «المراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة»!! فالذي يستخرج كنز الكعبة ذو السُّويقتين من الحبشة، والدليل عليه:

 

ما أخرجه أحمد (5/271) بسندٍ حسن في الشواهد من طريق أبي أمامة ابن سهل بن حُنيف، قال: سمعتُ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السُّويقتين من الحبشة»([1156]).

 

والحديث صحيح، أخرجه أبو داود (4309)، والحاكم (4/453)، والبيهقي (9/176)، وغيرهم من طريق أبي أمامة بن سهل عن عبدالله بن عمرو.

 

وورد من حديثه من طريق مجاهد عنه بلفظ: «يخرِّب الكعبة ذو السُّويقتين من الحبشة، ويسلُبُها حليَتَها، ويجرِّدها من كسوتها».

 

أخرجه أحمد (2/220)، والفاكهي في «أخبار مكة» (743، 744): «والأقرب في الكنز المذكور في حديث ثوبان -رضي الله عنه- أنه الكنز الذي يحسر عنه الفرات، وقد يكون غيره، والله أعلم»([1157])، ويؤكده:

 

ما أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/336): حدثنا عبدالله بن مروان، عن أرطاة، عن تبيع، عن كعب، قال: تكون ناحيةُ الفرات في ناحية الشام، أو بعدها بقليل مجتَمعٌ عظيمٌ، فيقتتلون على الأموال، فيُقتلُ من كلِّ تسعة سبعةٌ، وذاك بعد الهدَّةِ والواهيةِ، في شهر رمضان، وبعد الافتراق ثلاث رايات، يطلب كلُّ واحد منهم المُلك لنفسه، فيهم رجل اسمه: عبدُالله.

 

وإسناده قوي، وورد في الهدَّةِ والواهِيَةِ في رمضان أحاديثُ مرفوعةٌ أسانيدُها واهيةٌ جدّاً([1158])، وفي هذا الأثر مما يستأنس بأن الكنز في حديث ثوبان هو عينه الذي يحسر عنه الفرات، والله أعلم.

 

ولم تسلم أخبار هذه المقتلة التي تكون عند الفرات من دسّ الكذّابين، ولا سيما الرافضة، فقد اختلقوا أكاذيب حول هذه الملحمة، وهذا مثال منها:

 

أخرج ابن المنادي -كما في «كنز العمال» (14/592 رقم 39679)- من طريق سعد الإسكافي، عن الأصبغ بن نباتة، قال: خطب علي بن أبي طالب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ... وذكر خبراً طويلاً، فيه بعد كلام:

 

«ثم تكون بعده هنات([1159]) وأمور مشتبهات إلا من شط الفرات إلى النجفات باباً إلى القطفطانيات([1160]) في آيات وآفات متواليات يحدثن شكّاً بعد يقين، يقوم بعد حينٍ يبني المدائنَ ويفتحُ الخزائن ويجمع الأمم ينفذها شخصُ البصر، وطمح النظر، وعنت الوجوه، وكشفت البال حتى يرى مقبلاً مدبراً، فيا لهفي على ما أعلم. رجبٌ شهر ذكر، رمضان تمام السنين، شوال يشأل فيه أمر القوم، ذو القعدة يقتعِدون فيه، ذو الحجة الفتح من أول العشر، ألا إن العجب كل العجب بعد جمادى ورجب جمع أشتات وبعث أموات وحديثات هوناتِ هوناتِ، بينهنّ موتات رافعة ذيلها، داعية عولها معلنة قولها بدجلة أو حولها.

 

ألا إن منا قائماً عفيفةٌ أحسابه، سادةٌ أصحابه، ينادى عند اصطلام أعداءِ الله باسمه واسم أبيه في شهر رمضان ثلاثاً، بعد هرج وقتال وضنك وخُبال وقيامٍ من البلاء، على ساق وإني لأعلم إلى من تُخرِج الأرض ودائعها وتسلِّم إليه خزائنها، ولو شئتُ أن أضرب برجلي فأقول: أخرجي من ههنا بيضاً ودروعاً.

 

كيف أنتم يا ابن هناتٍ؟ إذا كانت سيوفكم بأيمانكم مصلتات، ثم رملتم رملات ليلة البيات، ليسختلفنّ الله خليفة يثبت على الهدى، ولا يأخذ على حكمه الرَّشاء، إذا دعا دعوات بعيدات المدى، دامغات للمنافقين، فارجات عن المؤمنين، ألا إن ذلك كائن على رغم الراغمين. والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين».

 

قال السيوطي عقبه: «وسعد والأصبغ متروكان».

 

قال أبو عبيدة: علامات الوضع ظاهرة على الحديث، أما سعد؛ فهو ابن طريف الإسكافي، متروك الحديث، واتهم، إذ رماه بعضهم بالوضع، وهذا تفصيل كلام النُّقاد عليه:

 

قال ابن معين في «تاريخ الدوري» (2/191): «لا يحل لأحد أن يروي عنه»، وقال مرة (2/191): «ليس بشيء»، وقال النسائي في «ضعفائه» (رقم 281): «متروك الحديث»، وقال الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (رقم 190): «كذاب»، وقال الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/64): «لا يذكر ولا يكتب حديثه إلا للمعرفة»، وقال ابن عدي في «الكامل» (3/1188): «ضعيف جدّاً»، وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/357): «كان يضع الحديث على الفور»، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (4/87 رقم 379): «منكر الحديث، ضعيف الحديث»، وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص 58/ رقم 51): «مذموم»، وقد ضعفه -أيضاً-: أحمد، وعمرو ابن علي الفلاس، وأبو زرعة، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، والبزار، والعقيلي، والأزدي، والعجلي، والساجي([1161]).

 

وأما الأصبغ؛ فهو ابن نُباتة: التميمي الحنظلي المجاشعي الكوفي، يكنى أبا القاسم متروك رمي بالرفض.

 

قال جرير بن عبدالحميد الضبي: «كان مغيرة لا يعبأ بحديثه»، وقال عمرو بن علي: «ما سمعت عبدالرحمن ولا يحيى حدثا عنه بشيء قط». نقلهما ابن عدي في «الكامل» (1/398). وقال أبو بكر بن عياش: «الأصبغ ابن نباتة وهيثم؛ هؤلاء الكذابين»([1162]). وقال ابن معين: «ليس يساوي حديثه شيئاً»([1163]). وقال -أيضاً-: «ليس بثقة»([1164]). وقال مرة: «ليس حديثه بشيء»([1165]).

 

وقال النسائي في «ضعفائه» (286): متروك الحديث. وقال مرة: ليس بثقة([1166]). وقال ابن حبان في «المجروحين» (1/174): «فتن بحب علي بن أبي طالب، فأتى بالطامات في الروايات؛ فاستحق من أجلها الترك».

 

وضعفه أبو حاتم، وابن سعد، وأبو داود، وأبو أحمد الحاكم، والبزار، والدارقطني، والساجي، وابن عدي، والعقيلي، والفسوي، ومحمد بن عمار، والبرقاني، وأبو العرب، وابن شاهين، وآخرون([1167]).

 

ونستفيدُ مما مضَى من أحاديثَ في هذا الباب:

 

أولاً: إن الفتن آخر الزمان قبل المهدي، عند الملاحم تبدأ من العراق، وهذا سبب غير مباشر لها، والسبب المباشر رفع الصليب في الشام بعد غدر الروم في ملحمة يأتي تفصيلها -إن شاء الله- في الكتاب الخاص عن (الملاحم).

 

ثانياً: إن الفرات ينحسر([1168]) عن (جبل)، أو (كنز)، أو (تل)، أو (جزيرة) من ذهب؛ أي: «ينكشف لذهاب مائه»([1169])، أو «يكشف عن الأرض وعن قراره»([1170])، أو «نضب عن الساحل»([1171])؛ والمراد: انشكاف نهر الفرات وانحساره، ويظهر في محله جبل من ذهب، ولازم الانحسار جفاف الماء منه([1172])، وقد يكون بسبب تحول مجراه، «وتَبْني الدولةُ التركيةُ من سنوات على نهر الفرات سدّاً عظيماً باسم الهالك (أتاتورك)، وهو من أضخم السدود في العالم، ولعلها تهدد بعض الدول بقطع المياه عنها، وفي هذا إرهاص لانحسار مياه هذا النهر، والله أعلم»([1173]).

 

ثالثاً: لا تعارض بين وصف الذي أُحسر عنه بـ(جبل)، أو (تل)، أو (كنز)، أو (جزيرة)، وتسميته (كنزاً) باعتبار حاله قبل أن ينكشف، وتسميته (جبلاً) أو (تلاًّ) للإشارة إلى كثرته([1174]).

 

قال علي القاري في «شرح المشكاة» (5/173):

 

«الظاهر أن القضية متحدة، والرواية متعددة، فالمعنى: عن كنز عظيم، مقدار جبل من ذهب، ويحتمل أن يكون هذا غير الأول، ويكون الجبل معدناً من ذهب».

 

قلت: يريد: يحتمل أن يكون ما يظهر جبلاً حقيقة فيه كنز من ذهب، ويحتمل أن يكون كنزاً سمِّي في هذه الرواية جبلاً لكثرة ما فيه من ذهب([1175])، ولم يرض صاحب «عون المعبود» (11/438) هذه التفرقة، وتعقب عليّاً القاريَّ بقوله فيه: «قلت: هذا الاحتمال غير ظاهر، والظاهر هو الأول، بل هو المتعيّن».

 

رابعاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً»، وهذا يشعر بأن الأخذ منه ممكن، وعلى هذا؛ فيجوز أن يكون دنانير، ويجوز أن يكون قطعاً، ويجوز أن يكون تبراً([1176])؛ إذ هذا الجبل أو الكنز مطمور في البحر، وهو غير معروف، فإذا ما تحول مجرى النهر، أو جفّ ماؤه لسبب من الأسباب انكشف هذا الجبل، وبيّن عما هو في باطنه.

 

خامساً: وعليه؛ فإن ما ذهب إليه بعض المعاصرين([1177]) من أن المراد من الذهب في الحديث هو النفط باطل وتكلُّف، وبعيد عن ظاهر النص، وردَّه المحققون من العلماء.

 

قال الشيخ العلامة حمود بن عبدالله التويجري -رحمه الله تعالى-:

 

«وقد زعم أبو عبية في تعليق له على حديث سهيل بن أبي صالح الذي تقدم ذكره، أن الفرات قد حسر عن الذهب البترولي الأسود.

 

والجواب عن هذا من وجوه:

 

أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ نصَّ على جبل الذهب نصّاً لا يحتمل التأويل، ومن حمل ذلك علىالبترول الأسود؛ فقد حمل الحديث على غير ما أريد به، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، يوضح ذلك:

 

الوجه الثاني: أن البترول ليس بذهب حقيقة ولا مجازاً، وأما تسمية بعض الناس له بالذهب الأسود؛ فليس مرادهم أنه نوع من أنواع الذهب، وإنما يقصدون بذلك أنه يحصل من ثمنه الذهب الكثير؛ فلذلك يطلقون عليه اسم الذهب الأسود؛ اعتباراً بما يستثمر منه.

 

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الفرات يحسر عن جبل من ذهب؛ أي: ينكشف عنه لذهاب مائه، فيظهر الجبل بارزاً على وجه الأرض، وهذا لم يكن إلى الآن، وسيكون فيما بعد بلا ريب، وبحور البترول الأسود لم ينحسر الفرات عنها، وليست في مجرى النهر، وإنما هي في باطن الأرض، واستخراجها إنما يكون بالتنقيب عنها بالآلات من مسافة بعيدة في بطن الأرض.

 

الوجه الرابع: أن الذي جاء في الحديث الصحيح هو حسر الفرات عن كنز من ذهب، وفي الرواية الأخرى: «عن جبل من ذهب»، وتخصيص الفرات بالنص ينفي أن يكون ذلك في غيره، ومن المعلوم أن بحور البترول ليست في نهر الفرات، وإنما هي في مواضع كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها، وهي في البلاد العربية المجاورة للعراق أكثر منها في العراق.

 

الوجه الخامس: أن البترول من المعادن السائلة، والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانحسار الفرات عنه هو الذهب المعروف عند الناس([1178])، وهو من المعادن الجامدة، ومن جعل المعدنين سواء؛ فقد ساوى بين شيئين مختلفين.

 

الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس إذا سمعوا بانحسار الفرات عن جبل الذهب؛ ساروا إليه، فيكون عنده مقتلة عظيمة، يقتل فيها من كل مئة تسعة وتسعون، وهذا لم يكن إلى الآن، ومن المعلوم أن البترول الأسود قد وجد في العراق منذ زمان طويل، ولم يَسِرِ الناسُ إليه عند ظهوره، ولم يكن بسبب خروجه قتال ألبتة.

 

الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من حضر جبل الذهب أن يأخذ منه شيئاً، ومن حمله على البترول الأسود؛ فلازم قوله أن يكون الناس منهيين عن الأخذ منه، وهذا معلوم البطلان بالضرورة»([1179]).

 

وهنالك مؤيدات كثيرة تدلل على أن المراد بالحديث الذهب الحقيقي، وأن الانحسار عن الفرات حقيقي وليس بالمعنوي، منها: ما قدمناه من آثار عن عدد من الصحابة في ذهاب ماء الفرات([1180]).

 

وأشار بعض([1181]) شراح الحديث أنه يدخل في الانحسار المذكور هنا:

 

ما أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها) (رقم 1013) بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله:

 

«تقيء الأرض أفلاذ كبدها([1182])، أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلتُ، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً».

 

ويحتمل أن يكون هذا القيء آخر الزمان، وأنه في غير وقت الانحسار([1183])، بدلالة ما أخرجه أبو يعلى في «المسند» (11/66-67 رقم 6203) -وعنه ابن حبان في «الصحيح» (15/266-267 رقم 6853 - «الإحسان»)- قال: حدثنا عبدالغفار بن عبدالله، قال: حدثنا علي بن مُسْهِرٍ، عن سعيد بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تُبعث ريحٌ حمراء من قبل اليمن، فيكفتَ الله بها كلَّ نفس تؤمن بالله واليوم الآخر، وما ينكرها الناس من قلة من يموت فيها: مات شيخ في بني فلان، وماتت عجوز في بني فلان، ويُسرى على كتاب الله، فيرفع إلى السماء، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها من الذهب والفضة، ولا يُنتفع بها بعد ذلك اليوم، يمر بها الرجل فيضربها برجله، ويقول: في هذه كان يَقْتَتِلُ من كان قبلنا، وأصبحت اليوم لا يُنتفع بها».

 

قال أبو هريرة: وإن أول قبائل العرب فناءً قريش، والذي نفسي بيده أوشَكَ أن يَمرَّ الرجلُ على النعل وهي ملقاة في الكُنَاسة فيأخذها بيده، ثم يقول: كانت هذه من نعال قريش في الناس([1184]).

 

فالقيء هذا داخل في عموم فيض المال في آخر الزمان، الوارد عن جماعة من الصحابة، ونكتفي هنا بذكر بعض ما في «الصحيحين» من أحاديث؛ منها:

 

أخرجا بسنديهما إلى أبي هريرة رفعه: «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال فيكم، فيفيضَ حتى يُهِمَّ ربُّ المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي فيه»([1185]).

 

وأخرجا بسنديهما إلى حارثة بن وهب رفعه: «تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس، لقبلتُها، فأما اليوم؛ فلا حاجة لي بها»([1186]).

 

والمتتبع للأحاديث في هذا المعنى يجد أن إفاضة المال تتكرر وتتعدد، منها ما ظهر ومنها ما سيظهر آخر الزمان، بقرائنَ لفظيةٍ مذكورةٍ في النصوص، مثل: ما أخرجه الشيخان بسنديهما إلى أبي موسى الأشعري رفعه:

 

«ليأتينَّ على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحداً يأخذها منه، ويُرى الرجلُ الواحد يتبعه أربعون امرأة يلُذْنَ به، من قلة الرجال وكثرة النساء»([1187]).

 

وما أخرجه البخاري في «صحيحه»([1188]) بسنده إلى عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجلان: أحدهما يشكو العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما قطع السبيل؛ فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرجَ العيرُ إلى مكة بغير خفير، وأما العيلة؛ فإن الساعة لا تقوم حتى يطوفَ أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه».

 

وأخرج أحمد وغيره -والحديث صحيح- عن عدي -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل تعلم مكان الحيرة؟» قال: قلت: قد سمعت بها ولم آتها. قال: «لتوشكن الظعينة أن تخرج منها بغير جوار، حتى تطوف بالكعبة، ولتوشكن كنوز كسرى بن هرمز أن تُفتح». قال: قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز». قال: قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز»؛ ثلاث مرات، «وليوشكن أن يبتغيَ مَنْ يقبلُ مالَه منه صدقةً؛ فلا يجد». قال: فلقد رأيت ثنتين: قد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، وكنت في الخيل التي أغارت على المدائن، وإيمُ الله؛ لتكونن الثالثة؛ إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه([1189]).

 

وفي رواية عند أحمد([1190]): «وليُبْذَلنّ المال حتى لا يقبله أحد».

 

وأخرج مسلم بسنده إلى يُسَيْر بن جابر أن عبدالله بن مسعود قال...، وذكر حديثاً طويلاً في الملاحم، فيه: «إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة»([1191]).

 

وذلك إما لكثرة الأموال، أو لعدم وجدان من يحسن قسمتها، حتى كان أحمد بن عبيدالله الشهاب السجيني([1192]) يقول: «ما دمت بين أظهركم فأنتم آمنون من ظهور الدجال»، وهذا الحديث وارد في مقتلة بين الروم وأهل الشام يتعادّ بنو الأب من المسلمين كانوا مئة، فلا يجدون بقي منهم غير الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح أو بأي ميراث يقسم.

 

فهذه الأحاديث وغيرها فيها تصريح بأن إفاضة المال ستكون في أكثر من وقت، وقد ظهر ذلك في زمن عمر بن عبدالعزيز([1193])، وحمل بعض العلماء([1194]) بعض الأحاديث([1195]) على زمنه، ولكن في بعضها الآخر -كحديث أبي موسى([1196])- فيه إشارة إلى أن الظهور سيكون في آخر الزمان.

 

* إفاضة المال في وقت الملاحم

 

والذي يهمني هنا تقرير أن إفاضة المال تكون عند الملاحم حتى لا يفرح بغنيمة، ويسبق ذلك الاقتتال على المال، ولذا ورد في رواية أبي يعلى وابن حبان السابقة من حديث أبي هريرة: «وتقيء الأرض أفلاذ كبدها من الذهب والفضة، ولا ينتفع بها بعد ذلك اليوم، يمر بها الرجل فيضربها برجله، ويقول: في هذه كان يقتتل من كان قبلنا، وأصبحت اليوم لا ينتفع بها».

 

ففي هذه الرواية التصريح بأن الناس يزهدون فيها لعدم انتفاعهم بها، بعد اقتتال من قبلهم عليها، وهذا يؤكد أن المراد بالجبل أو الكنز هو الذهب الحقيقي.

 

* ظهور معدن الذهب وحضور شرار الخلق له في أرض بني سُليم([1197])

 

سادساً: ويؤكد أن المراد بالذهب هو ما قررناه وليس (البترول) ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ظهور المعادن وحضور شرار الناس عندها، وهذا يلتقي مع ما نحن بصدده من حَسْرِ الفرات عن الذهب، وهذا ما وقفتُ عليه من أحاديث في ذلك:

 

أخرج أحمد في «المسند» (5/430): حدثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني سُليم، عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفضة، فقال: هذه من معدن لنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ستكون معادنُ يحضرها([1198]) شرارُ الناس».

 

وهذا حديث حسن بشواهده، رجاله ثقات عدا إبهام الرجل الذي من بني سُليم وجده.

 

قال شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (4/506 رقم 1885): «رجاله ثقات، رجال الشيخين غير الرجل؛ فإنه لم يسمّ».

 

وأخرج الطبراني في «المعجم الصغير» (رقم 426) وفي «الأوسط»([1199]) (رقم 3556) -ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/246-247)- من طريق سُعير بن الخميس، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقطعة من ذهب، كانت أول صدقة جاءته من معدن. فقال: ما هذه؟ قالوا: صدقة من معدن لنا. فقال:

 

«إنها ستكون معادن، وسيكون فيها شر خلق الله -عز وجل-».

 

قال الهيثمي في «المجمع» (3/78): «رواه الطبراني في «الصغير» و«الأوسط»، ورجاله رجال الصحيح».

 

وقال شيخنا الألباني: «رجاله ثقات».

 

وأخرج أبو يعلى في «المسند» (11/305 رقم 6421)، قال: حدثنا عمرو بن الضحاك، حدثنا أبي، أخبرنا عبدالحميد بن جعفر، قال: سمعت أبا الجهم القواس يحدث أبي -وكان رجلاً فارسيّاً ثقيل اللسان، وكان من أصحاب أبي هريرة-، قال:

 

سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يظهر معدن في أرض بني سُليم يقال له فِرعَوْنُ أو فِرعَان([1200]) -وذلك بلسان أبي الجهم قريبٌ من السواء-، يخرج إليه شرار الناس، أو يحشر إليه شرار الناس».

 

وإسناده رجاله ثقات؛ إلا أبا الجهم عاصم بن رؤبة، ترجمه البخاري في «التاريخ الكبير» (6/488)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/342)، ولم يوردا فيه جرحاً ولا تعديلاً([1201]).

 

وأخرج الطبراني في «الأوسط» (2/141 رقم 1509) من طريق يحيى ابن كثير أبي غسان العنبري، نا حفص المزني، قال: سمعت عبدالرحمن بن أبي عائشة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 

«لا تقوم الساعة حتى تظهر معادن كثيرة، لا يسكنها إلا رذال الناس».

 

قال الهيثمي في «المجمع» (7/331): «رواه الطبراني في «الأوسط»، وفيه من لم أعرفه».

 

وورد عن عبدالله بن عمرو قوله، وفيه التصريح بحسر الذهب، وأنه يقع ذلك بعد قدوم واحتلال شرار الناس له، يتبعه الخسف بهم.

 

أخرج الحاكم في «مستدركه»([1202]) (4/458) -وصححه ووافقه الذهبي في «التلخيص»-، قال: أخبرنا غيلان بن يزيد الدقاق بهمدان، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا ابن أبي ذئب، عن قارظ بن شيبة، عن أبي غطفان، قال: سمعت عبدالله بن عمرو يقول:

 

«تخرج معادن مختلفة، معدن منها قريب من الحجاز، يأتيه من شرار الناس، يقال له (فرعون)، فبينما هم يعملون فيه إذ حسر عن الذهب، فأعجبهم معتمله، إذ خُسف به وبهم».

 

ورجاله ثقات، وإبراهيم بن الحسين([1203]) هو ابن ديزيل، إمام، حافظ، ثقة؛ كما في «السير» (13/184). وقارظ بن شيبة، قال النسائي: «ليس به بأس»، ولم أر فيه تجريحاً، فإسناده جيد.

 

ثم وجدته عند نعيم بن حماد في «الفتن» (2/611 رقم 1694)، قال: حدثنا ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، به.

 

و(فُرعان) -وقع تسميته عند نعيم بن حماد: (فرعون ذهب)، اسم مكان، «من (الفرع)([1204])، وهو من كل شيء أعلاه: وهو جبل من ذي خُشب يتبدّى إليه الناس». كذا في «معجم البلدان» (4/252).

 

وقال البكري: «فُرْعان -بضم أوله، وإسكان ثانيه، على وزن (فُعْلان)-: جبل بين المدينة وذي خُشُب»([1205]).

 

وذكر الهمداني في «صفة جزيرة العرب» (ص 297) أن (فُرعان) من المنازل الحجازية التي تَصلَى طريقَ الكوفة.

 

ولعل صوابها (قُران)، فقد قال الزهري: «بعث رسول الله قبل أرض بني سُليم، وهو يومئذ ببئر معونة بجُرُف أبلى، بين الأرحضيّة وقُران، كذا ضبطه أبو نعيم. قاله الفيروز آبادي في «المغانم المطابة» (1/583). و(قُران) بالقاف المضمومة، قاله ياقوت في «معجم البلدان» (4/318)، وأفاد أنها بين مكة والمدينة بلصق أبلى، بينما ذكر في حرف الفاء (4/245): (فَران)، قال: «ماء لبني سليم، يقال له: معدّ فران، به ناس كثيرة». وقال الفيروز آبادي في «المغانم المطابة» (3/1096): «معدن بني سُليم -بضم السين- من أعمال المدينة، ويقال عنه: معدن فران، على طريق نجد».

 

وذكرت في بعض طرق الحديث السابقة كذلك؛ إذ فيها (ديار سُلَيم)، وهي الديار التي تواجهك عندما تمضي من المدينة مُصْعِداً إلى مكة، فتميل إلى وادٍ يقال له:  عُرَيفِطَان معن، ليس به ماء ولا مرعى، وحذاؤه جبال يقال لها: أُبلى، فيها مياهٌ؛ منها: بئر معونة، وذو ساعدة، وذو جماجم، أو حماحم، والوسباء، وهي قنان متّصلة بعضها ببعض([1206]).

 

وبالقرب من (الفُرع) قَلَهى وذي رولان([1207])، وهي اليوم من الشمال على الطريق من المهد إلى المدينة([1208]).

 

وهي الآن ضمن (محافظة مهد الذهب)([1209]).

 

وكان في هذه الديار -على حد تعبير الحربي في «المناسك» (ص 330)-: «ذهب كثير، يستخرج في قديم الدهر، ويحفر عليه في جبل يمنة الطريق للمصعد، فعظمت فيه المؤونة، وقال: «زعم ابن أبي سعد أنهم كانوا إذا استخرجوه جاءتهم الحريش وجعدة وقشير وأخذوه منهم، وغلبوهم عليه»، وقال: «وتراب البلد مخلوط بالذهب، والذي حملهم على تركه أنّ المؤونة أكثر مما يخرج منه»([1210]).

 

وبقيت هذه المعادن ظاهرة، يحضرها خيار الناس فيما مضى، فكانت لبلال وبنيه من بعده، ثم باعها بنو بلال عمر بن عبدالعزيز([1211])، ويذكر الطبري([1212]) أن الأمويين عيّنوا على معدن بني سليم عاملاً هو (كثير بن عبدالله)، وذلك في عام 128هـ - 745م.

 

وما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم سيكون آخر الزمان، بضميمة ما في أثر عبدالله بن عمرو، وفيه وقوع الخسف بهم، وهذا مما لم يسمع إلى الآن، وبقرينة حضور شرار الناس لهذه المعادن، وبأمارة قوله في حديث أبي هريرة: «يحشر إليه شرار الناس».

 

قال شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (4/507):

 

«(المعادن): المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض؛ كالذهب والفضة، والنحاس وغير ذلك، واحدها معدن. كذا في «النهاية».

 

قلت (الألباني): ومما لا شك فيه: أن شرار الناس إنما هم الكفار، فهو يشير إلى ما ابتلي به المسلمون اليوم من جلبهم للأوروبيين والأمريكان إلى بلادهم العربية لاستخراج معادنها وخيراتها، والله المستعان».

 

قال أبو عبيدة: في الحديث: «يحضرها شرار الخلق»، وفيه معنىً زائد عن استجلاب المسلمين لهم، وسيظهر أثر ذلك أظهر وأجلى بمرور الزمن، مع استحكام غربة الدين، ولا قوة إلا بالله.

 

ومن المفيد: التركيز هنا على التوجيه الأخير، وأن الكنز هذا ليس له صلة ظاهرة بانحسار الفرات، وهو حَدَث مستقل برأسه، قد يسبق الانحسار، ويحضره شرار الخلق، سواء كانوا من الأوربيين أو الأمريكان أو غيرهم، وهم -كما وردت صفاتهم في الأحاديث-: «رذال الناس»، و: «شر خلق الله»،    و: «شرار الناس»، وهؤلاء يخرجون إليه، أو يحشرون هناك، والمنطقة التي تقع فيها هذه الأحداث، هي اليوم -كما اتضح لنا- في البلاد السعودية، وبالقرب من المدينة النبوية -حرسها الله من الأشرار، وعمّرها بالأمن والإيمان، وزاد القائمين عليها توفيقاً وخيراً، وجمعنا مع أحبابنا فيها على أحسن حال، وأهدأ بال-، وقد حدَّد العلاّمة حمد الجاسر([1213]) مواقع قبيلة (بني سليم قديماً وحديثاً)، والذي يهمّنا منها: بيان موقعهم في زمن النبوة، قال     -رحمه الله تعالى-:

 

«ولقد كانت قبيلة سُليم عند ظهور الإسلام تنتشر في البلاد التي عُرِفت بها منذ تدوين تاريخ القبائل، وهي الأودية المنحدرة من سفوح جبال الحجاز وحرارة الشرقية المتصلة بعالية نجد، ممتدة من المدينة نحو الجنوب إلى سهول صحراء رَكَبة، بما في ذلك الحرة المعروفة بحرة بني سُلَيْم (حرة رُهَاط الآن)، ومنساحة شرقاً إلى ما يقرب من قرية الرَّبَذَة التي أُضيف إليها الحمى، وخربت في عهد القرامطة سنة 317، ومن أشهر مواطنها معدن بني سليم والسوارقية وصفينة، والدفينة وغيرها».

 

سابعاً: خلاصة ما مضى: إن انكشاف نهر الفرات وانحساره عن جبل من ذهب آية من الآيات التي تسبق ظهور المهدي، ويتبع ذلك اقتتال الناس عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، وهذه العلامة لم تظهر بعد، ومُخطِأ من حملها على ظهور (البترول)!

 

ثامناً: قوله: «فمن حضره([1214]) فلا يأخذ منه شيئاً» حمل على معانٍ متعددة؛ منها:

 

أولاً: إنما نهى عن الأخذ منه؛ لأنه للمسلمين؛ فلا يؤخذ إلا بحقه. قاله ابن التين([1215]).

 

ثانياً: من أخذه، وكثر المال ندم؛ لأخذه ما لا ينفعه، وإذا ظهر جبل من ذهب كَسَدَ الذهبُ، ولم يُرَدْ([1216]).

 

ثالثاً: لأنه ليس مُلكاً لأحد، وليس بمعدن (!!) ولا ركاز، فحقُّه أن يكون في بيت المال، ولأنه لا يوصل إليه إلا بقتل النفوس، فيحرم الإقدامُ على أخذه. قاله أبو العباس القرطبي([1217]).

 

رابعاً: يحتمل أن يكون (فلا يأخذ) نفياً، ويؤيده رواية: «فلا يأخذون منه شيئاً»([1218]).

 

خامساً: إنما نهى عن الأخذ منه؛ لأنه مال مغضوب عليه، كمال قارون، فيحرم الانتفاع به([1219]).

 

يحتمل أن يكون ذلك لتقارب الأمرين، وظهور أشراطه، فإن الركون إلى الدنيا والاحتشاد لها، مع ذلك جهل واغترار. ويحتمل أن يكون لأنه مجرى المعدن، فإذا أخذه، ثم لم يجد من يخرج حق الله -تعالى- إليه، لم يوفق بالبركة من الله -تعالى- فيه، فكان الانقباض عنه أولى. قاله الحليمي([1220]).

 

سادساً: الذي عليه جماهير الشراح: «إنما نهى عن أخذه؛ لأن أخذه شركة في الفتنة، لأنه يقع فيه اقتتال»([1221])، وعبر الشراح عن هذا المعنى بعبارات مختلفة، فقال جلهم: «والذي يظهر أن النهي عن أخذه [لما ينشأ عن أخذه] من الفتنة والقتال عليه»([1222]). وقال صاحب «المرقاة»([1223]): «فلا يأخذ -بصيغة النهي- منه شيئاً»؛ أي: لما يترتب على الأخذ منه من المقاتلة الكثيرة، والمنازعة الكبيرة». وقال العيني([1224]) وتبعه صاحب «مجمع بحار الأنوار»([1225]): «فلا تأخذ منه شيئاً؛ لأنه مستعقب للبليات، وهو آية من آيات الله». وقال ابن علان([1226]): «وذلك لأنه لا يصل إليه أحد إلا بعد التقاتل المذكور في الحديث، فلا يصل إليه حتى يقتل عدداً، وقد يقتل هو، وإذا لم يتوجه إليه وامتثل النهي سلم في نفسه، وسلم منه غيره».

 

قلت: هذا المعنى هو الصحيح، على أن (لا) للنهي، لا للنفي، وقد جاء في رواية: «فلا تقربنه». والنهي إنما جاء خشية الفتنة في طلب الدنيا، وحدوث القتال، وسفك الدماء، فقد حذر صلى الله عليه وسلم كل من حضَرَ انْحِسارَ نهر الفرات، أو بلغه ذلك، أن لا يغتر بذلك، ولا يأخذ من هذا الحطام شيئاً.

 

وهذا المعنى هو الذي فهمه تابعي الحديث أبو صالح ذكوان السمان، إذ قال على إثر روايته له: «يا بني! إنْ أدركته، فلا تكونن ممن يقاتل عليه»، وفي رواية: «إن رأيته، فلا تقربنَّه».

 

وفي حديث أُبيّ: «فإذا سمع به الناس، ساروا إليه، فيقول مَنْ عندَه: لئن تركنا الناس يأخذون منه، ليُذهَبَنّ به كلِّه، فيقتتلون عليه».

 

فلا حاجة إلى التكلف بعد ما ثبت في الحديث نفسه أن الكنز يبعث القتال والفتنة بين المسلمين، والذي يؤكّد ذلك ما ورد في آخر حديث أبي هريرة:

 

«ويقول كل رجل منهم: لَعَلِّي أكون أنا الذي أنجو»؛ يعني: أنه يقتحم القتال مع ما يرى من شدته؛ لأنه يرجو أن يكون هو الناجي، فيفوز بالكنز دون غيره.

 

«وفيه كناية؛ لأن الأصل أن يقال: أنا الذي أفوز به، فعدل إلى (أنجو)؛ لأنه إذا نجا من القتل يفوز بالمال وملكه»([1227])؛ «أي: يرجو كل واحد منهم أن يكون هو الناجي، فيقتل الباقي في الحال؛ رجاء أن ينجو في المآل، فيأخذ المال، وهذا من سوء الآمال، وتضييع الأعمال»([1228]).

 

أما زعم من قال: إن المنع من الأخذ؛ لأنه لا ينفع، وإذا ظهر جبل من ذهب كسد الذهب، فهو منقوض من وجوه؛ هي:

 

أولاً: هذا تأويل يخالف النص الذي فيه التصريح بالاقتتال.

 

ثانياً: نعم؛ يقع زهد بعد ذلك في المال بسبب فيضانه، وشعور الناس بقرب قيام الساعة، ويصرح بعضهم -كما عند ابن حبان([1229])- وهو مار بالذهب والفضة، ولا ينتفع بها آنذاك، فيضربها برجله، ويقول: في هذه كان يقتتل من كان قبلنا، وأصبحت اليوم لا ينتفع بها.

 

فالقول السابق حق، ولكنه وضع قبل وقته، يؤكده:

 

ثالثاً: يتم ما زعم من الكساد أن لو اقتسمه الناس بينهم بالسّويّة، ووسعهم كلهم، فاستغنوا أجمعين، فحينئذٍ تبطل الرغبة فيه، وأما إذا حواه قوم دون قوم، فحِرص من لم يحصل له منه شيء باقٍ على حاله([1230]).

 

وأخيراً... هنالك إشارات لظهور المعادن والكنوز في أخبار الملاحم آخر الزمان وردت في بعض الآثار؛ مثل:

 

ما أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (2/504 رقم 1421): حدثنا أبو معاوية، وابن الأعرابي في «المعجم» (3/1008-1009 رقم 2155 -     ط. دار ابن الجوزي) -ومن طريقه أبو عمرو الداني في «الفتن» (5/1113-1114 رقم 597)- من طريق محمد بن عبيد الطنافسي؛ كلاهما عن الأعمش، عن خيثمة، عن عبدالله بن عمرو، قال: «يجيش([1231]) الروم فيُخرجون أهلَ الشام من منازلهم فيستغيثون بكم؛ فتغيثوهم، فلا يتخلف عنهم مؤمن، فيقتتلون فيقتلون، فيكون بينهم قتل كثير، ثم يهزمونهم إلى أسطوانة إني لأعلم مكانها عليهم عندها الدنانير، فيكتالونها بالتراس([1232])، فيتلقاهم الصريخ بأن الدجال يحوش([1233]) ذراريكم؛ فيلقون ما في أيديهم، ثم يؤبون» لفظ الطنافسي.

 

ولفظ نعيم: «يجيش الروم، فيستمد أهل الشام ويستغيثون، فلا يتخلف عنهم مؤمن. قال: فيهزمون الروم، حتى ينتهوا بهم إلى أسطوانة، قد عرفت مكانها، فبينا هم عندها إذ جاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفكم في عيالكم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون نحوه».

 

ثم وجدته عند أبي عمرو الداني في «الفتن» (5/1161) من طريق علي ابن معبد، قال: حدثنا أبو معاوية، به. وعنده: «فيستمد أهل الإسلام، ... إلى أسطوانة قد عرفوا مكانها...». وهذا اللفظ أضبط وأصوب، والله أعلم.

 

وعزاه السلمي في «عقد الدرر» (ص 283/رقم 334) بنحوه إلى أبي الحسن بن المنادي.

 

وإسناده حسن([1234])، خيثمة هو عبدالرحمن ابن عبدالرحمن بن أبي سبرة الجعفي، ثقة، صرح بسماعه من عبدالله بن عمرو([1235]) في «صحيح مسلم» في كتاب الزكاة (باب فضل النفقة على العيال والمملوك) (رقم 996) بعد (40)، قال: كنا جلوساً مع عبدالله بن عمرو، إذ جاءه قهرمان له، فدخل، فقال: أعطيتَ الرقيقَ قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلِقْ فأعطِهم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته».

 

فالظاهر في هذا الخبر أن هذه (الأسطوانة) غير (الكنز أو الجبل أو الجزيرة من الذهب) الذي يحسر عنه فرات، ولكن يستفاد منه أن الأرض تبقى تقيء خيراتها، وتبتدأ الملاحم عند الفرات، ثم تنتقل إلى الشام في المنطقة القريبة منه([1236])، ثم تتحول إلى الشام، وخطاب ابن عمرو لأهل العراق([1237]): «فيستغيثون بكم، فلا يتخلَّفُ عنهم مؤمن»، ويكون هذا قُبَيل الدجال، كما وقع التصريح به في الخبر.

 

وأخيراً.. من التعجّل والتكلُّف والتعسُّف: إسقاط([1238]) ما حدث على أرض العراق، من احتلال أمريكا وحلفائها على هذا الحديث، والزعم بأن ذلك إنما كان من أجل هذا الذهب! والذي دعاني لهذا ما قرأته في جريدة «المدينة»([1239]) تحت عنوان (نظرات: فرات من ذهب)، قال صاحبه في أوله ما نصُّه:

 

«قصة سخيفة يرويها الغرب لأكثر من ألف مليون مسلم فيصدقونها! تلك هي قصة دخول جيوش أمريكا وبريطانيا أرض العراق لإخلائه من أسلحة الدمار الشامل! والأسخف منها أن منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر عالمية (أي: ليست غربية) تؤمن بنفس القصة وتعززها في العالم! أما الحقيقة وراءَ تحرُّكِ هذه الجيوش الجرارة نحو المنطقة، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في «الصحيحين» أن نهر الفرات سينحسر عن جبل من ذهب، وأنه سيتكالب عليه عدد مهول من الناس، كلٌّ يريد الفوز به، لتصبح أمته أغنى أمة. وهو ذهب يكفي لنشل أمريكا وأعوانها الغربيين من مأزق تكاليف الإمبراطورية المسلحة العظمى، التي يقودونها للسيطرة على العالم، إلا أنهم سيخيبون في الحصول على هذه الثروة من شدة القتل والخراب الذي سيحدث في الموقع، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل من كل مئة منهم تسعة وتسعون؛ أي: لن يبقى أحد إلا شرذمة تهرب بجلدها خوف الفناء، وإن كنا لنفرح بخيبة سعي أمريكا فيما تريد؛ إلا أننا سنحزن حزناً طويلاً لكثرة قتلى المسلمين في هذه الحوادث، ودمار المنقطة، وخراب بيوت من حولهم، إذ سيستميت العراقيون كذلك في الحصول على جبل الذهب ومنع الآخرين منه»!

 

قلت: الحادثة([1240]) حق، والزعم المذكور لا دليل عليه، وتسييسُ (الأحاديث) وإسقاطُها على (الأحداث) ليس من سبيل الموفّقين، والواجب على من يقوم بذلك أن يفقه الأحكام الكلية، ويتصور الوقائع، وينتظر تحققها، وأن يسلك سبيل المحققين من العلماء، مراعياً الضوابط الشرعية، والمصالح الضرورية، وسيأتي بيان مفصّل -إن شاء الله تعالى- لذلك([1241]).

 

فصل

 

في الفوائد المستنبطة من حديث: «منعت العراق...»

 

استنبط العلماء من هذا الحديث فوائدَ متعددةً في أبوابٍ شتّى من أبواب العلم، ومن الطريف؛ أن بعض أهل العلم استدل به على ترجيح أحد قولين في المسألة، واحتج به آخرون على القول المرجوح في المسألة عينها([1242])، وهذا مسرد عام للفوائد المستنبطة منه، وبالله -تعالى- التوفيق:

 

أولاً: قال يحيى بن آدم وغيره من أهل العلم: هذا من دلائل النبوة؛ حيث أخبر عما ضربه عمر على أرض العراق من الدراهم والقُفزان، وعما ضرب من الخراج بالشام ومصر قبل وجود ذلك -صلوات الله وسلامه عليه([1243])-.

 

قال الشيخ مقبل بن هادي -رحمه الله تعالى- في آخر «الصحيح المسند من دلائل النبوة» (ص 424): «فيه علامتان من علامات النبوة:

 

الأولى: إن هذه البلدان سيفتحها المسلمون([1244]).

 

الثانية: إن أهلها سيؤدون خراجاً للمسلمين ثم يمنعونه».

 

وقال المباركفوري في «منية المنعم» (4/351):

 

«وفي هذا الحديث ثلاثة أخبار عظيمة:

 

الأول: أنّ العراق والشام ومصر تفتح للمسلمين، وتدخل تحت حكمهم وطاعتهم، وتؤدي إليهم صدقاتها وجزيتها.

 

الثاني: أنّ كلاًّ من هذه البلاد تستقلّ، فتمنع أداء مالها إلى أهلها من المسلمين، وذلك إما بانقطاعها عن مركز خلافة المسلمين، أو بانقطاع الخلافة نفسها.

 

الثالث: أنّ العرب يعودون إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام أو في بدايته حيث كانوا مشتتين، لم تكن تأتيهم خيرات البلاد، وقد حصل كلٌّ من ذلك».

 

ثانياً: فيه صحة ما جاء في الأحاديث من توقيته صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحفَة، ولأهل اليمن يلملم، وهو في المتفق عليه([1245])، وما في «صحيح مسلم»([1246]) عن جابر: «ولأهل العراق ذات عرق». فهذا من دلائل النبوة؛ حيث أخبر عما وقع من حجّ أهل الشام واليمن والعراق         -صلوات الله وسلامه عليه([1247])-، وفيه ردٌّ على المعترض على هذا التوقيت بقوله: لم تكنِ العراقُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات إسلام([1248]).

 

ثالثاً: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم مكيال كلِّ قوم باسمه المعروف عندهم دليل على أنه كان يعرِفُ كلامَ الناس، وإنْ بعدت أقطارهم، واختلفت عباراتهم، وقد ثبت أنه كان يخاطب كلَّ قوم بلغتهم في غير موضع([1249]).

 

رابعاً: فيه بيان لبعض أحكام الأرضين المغنومة، إذ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بأن الصحابة يضعون الخراج على الأرض، ولم يرشدهم إلى خلاف ذلك، بل قرره، وحكاه لهم([1250]).

 

قال ابن المنذر: «وكل أرض افتتحت عنوة؛ فسبيلها إذا تركها أهلها لمن بعدهم، أو تركها الإمام على ما يجوز أن يتركها لمن بعدهم، كسبيل أرض السواد، وذلك كالأغلب من أرض مصر وكثير من أراضي الشام، أن للإمام أن يضع عليها الخراج، ويقبض ذلك ويصرفه في مصالح المسلمين وبينهم»([1251]).

 

والخراج: هو ما وُضِع على رقاب الأَرَضين من حقوقٍ تُؤَدّى عنها([1252])، أو هو جزيةُ الأرضِ وحقٌّ يتعلق برقبتها زرعت أم لم تزرع يؤخذ من الكفار على وجه الصغار سببه الكفر لا يكون إلا بعقد موافقة من الطرفين يصرف مصارف الجزية والفيء، يجب في كل حول مرة ويقدر كثرة الأرض وقلتها([1253]).

 

وبينَه وبينَ الجزية اتفاقٌ وافتراقٌ في وجوه.

 

ويطلق الخراج أحياناً، ويراد به معنىً عامٌّ بحيث يعني الأموال العامة أو إيراد الدولة، وهو المقصود من إطلاقه على كتابَيْ أبي يوسف([1254]) ويحيى بن آدم([1255]).

 

والخراج بمعنى ضريبة الأرض نوعان:

 

الأول: خراج الوظيفة؛ وهو المحدد بمقدار معين يدفع في كل سنة، وهو يتعلق بالتمكن من الانتفاع من الأرض، سواء انتفع أو لم ينتفع، وهذا ما أريد به في الحديث (دينار) و(درهم)، فيكون الواجب شيئاً في الذمة.

 

والثاني: خراج المقاسمة؛ وذلك إذا كان الواجب حسب الاتفاق بعض الخارج؛ كالربع والخمس، مما يُعَينه الإمام على قدر تحمل الأرض، وهذا أشبه ما يكون بفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وهذا ما أريد به في الحديث (القفيز) و(المدي) و(الإردب).

 

أما النوع الأول: فثبوته وتقديره اجتهادي في أيام عمر بن الخطاب      -رضي الله عنه-، والاختلاف في تقديره إنما هو راجع لاختلاف الروايات عن عمر -رضي الله عنه-، قال ابن هبيرة: «واختلافُ الروايات عن أمير المؤمنين عمر في ذلك كلِّه صحيحٌ، وإنما اختلفت لاختلاف النواحي، والله -تعالى- أعلم»([1256]).

 

خامساً: دلَّ الحديث على أن الأرض المفتوحة تكون للغانمين؛ لأن ما ملكه الغانمون، يكون فيه القفيز والدرهم([1257])، وهذه مسألة مهمة، وأكثر ما تظهر ثمرتها في هذه الصورة:

 

سادساً: ما حازه أهل الحرب من أموال المسلمين على وجه الإغارة، فإذا أسلم مَنْ هو في يده، كان ملكاً له، ولم يكن لمالكه الأول من المسلمين اعتراض عليه فيه، وهذا مذهب المالكية([1258]) والحنفية([1259]).

 

وقال الشافعية([1260]) والحنابلة([1261]): هو باقٍ على مِلك المسلم، وله أخذه منه بغير عوض.

 

واستدل المالكية والحنفية بهذا الحديث، وقالوا -أيضاً- في المسألة: لأنّ للكفار شبهةَ مِلكٍ على ما حازوه من أموال المسلمين، يدل عليه قوله     -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8]، فسماهم فقراء بعد هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم، ولأنه لا خلاف أنهم لو استهلكوه ثم أسلموا لم يضمنوه، ولو أتلفه مسلم على صاحبه للزمه غرمه، فدل ذلك على ثبوت شبهة المِلْك المشترك([1262]).

 

قلت: ورجح المحققون من العلماء مذهب الشافعية والحنابلة، ويدل عليه ما أخرج مسلم في «صحيحه» (رقم 1641)، وأحمد في «مسنده» (4/430) -والمذكور لفظه- وغيرهما: «عن عمران بن حصين، قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأُسِر الرجل وأخذت العضباء، فحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرحله، ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة، وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين، فكانوا إذا نزلوا أراحوا إبلهم بأفنيتهم، فقامت المرأة ذات ليلة بعدما ناموا، فجعلت كلما أتت على بعير رغا، حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة، ونذرت إنْ نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عُرِفَتِ الناقة، وقيل: ناقةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنذرها، أو أتته فأخبرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ما جَزَتْها إنِ اللهُ أنجاها عليها لتنحرنها». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».

 

فلو ملكها المشركون ما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطل نذرها، وقد بحث هذه المسألة أستاذنا فتحي الدريني وردها على أصولها وبيّنَها أحسن بيان، قال -حفظه الله([1263])-: «ولخطورة هذه المسألة، وأهميتها البالغة في كل من العلاقات الدولية، والقانون الدولي العام، لا بد أن نقرر ما هو الحقّ فيها، مؤيداً بالأدلة، وبروح التشريع الإسلامي.

 

إن منطق القوة لم يعهد في الشرع مزيلاً ليدٍ محقَّةٍ، ومقرِّراً ليدٍ مبطلَةٍ؛ لأنه محض بغي وعدوان، وذلك بالبداهة لا يصلح سنداً للملكية؛ لكونه محرماً في الشريعة تحريماً قاطعاً.

 

ولو أُقِرَّ مبدأُ العدوان هذا، لانخرم أصل الحق والعدل، ولاضطرب حبل الأمن في العالم كله، وما أنزلت الشرائع، وأرسل الرسل، إلا لاجتثاث أصول العدوان، ولإقرار الحق والعدل بين البشر؛ لقوله -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديث: 25].

 

وأيضاً لو كان الاستيلاءُ القهريُّ بقوة السلاح([1264]) من قبل الأعداء وسيلةً مُعتَرَفاً بها شرعاً، لامتلاكهم أموالَ المسلمين، واستيطانِ ديارهم بعد إخراجهم منها، لما وجب الجهاد -في مثل هذه الحالة- فرضاً عينيّاً على كل قادر على حمل السلاح رجالاً ونساءً، بالإجماع؛ من أجل استرداد ما استولى عليه العدو عنوة! والله -تعالى- يقول: {وَأَخْرِجُوهُمْ منْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].

 

وقد تضافرت نصوص القرآن الكريم على وجوب دفع العدوان قبل وقوعه بالجهاد بالأنفس والأموال، وعلى وجوب إزالته بعد الوقوع، ولم يعهد أنه سبيل لتملك الأعداء ديارَ المسلمين وأموالَهم.

 

قال -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

 

وإذا حرَّمَ الإسلام على أهله الاعتداء، فأحرى أن يحرم عدوان غيرهم عليهم، ولا يجعله سبيلاً لامتلاك أموالهم وديارهم!

 

وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].

 

لا يقال: إن الآية تدل على أن الله -تعالى- لن يجعل للأعداء سبيلاً على نفوس المسلمين دون أموالهم؛ لأنا نقول: إن كلمة {سبيلاً} نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل سبيل سواء أكان واقعاً على نفوسهم، أو أموالهم، أو ديارهم.

 

ولا يقال -كذلك-: إن الله لم يجعل للكافرين على المسلمين حجة؛ لأن الصيغة عامة فيجب إجراؤها على العموم -كما هو الأصل-؛ إذ لا دليل على التأويل أو التخصيص([1265]).

 

كذلك لا يقال: إنه لو كانتْ أموالُ المسلمين باقيةً على ملكهم، رغم إخراجهم من ديارهم، لأطلق عليهم القرآن الكريم كلمة (أبناء السبيل)، وهو من انقطعت بهم صلَتُهم بأموالِهم لبعدهم عنها، ولم يسمِّهم (فقراء)؛ فدل ذلك على أنهم فقراءُ حقيقةً قد زالت ملكيتُهم عنها؛ لأنا نقول: إن ابن السبيل هو (المسافر) الذي انقطعت به الطريق، ونفد ماله، وله طماعية في الرجوع إلى بلده؛ لتمكنه من ذلك، وهذا مفوم يختلف عمن أُخرج من دياره وأمواله عَنوَة، وليس في وُسعِه أن يعودَ إليها، لذا صحّ اعتباره كأنّه فقير، أضف إلى ذلك أنهم قد توطنوا بالمدينة([1266]).

 

ووصفُهم بكونِهم فقراءَ مجازاً، لا يُشعِرُ بزوالِ ملكيتهم عن ديارهم وأموالهم، بل يفيد ثبوتَها لهم، بقرينة إضافتها إليهم، ولأن في إطلاق هذه الكلمة عليهم، إثارةً للتعطف الداعي إلى رعايتهم، وتدبير مصالحهم، والاهتمام بشؤونهم؛ تخفيفاً لوطأة الظلم عنهم، وتحقيقاً لما تقتضيه الأخوّة نحوهم».

 

قلت: ونصر هذا الاختيار ابن القيم([1267])، ومن قبله ابنُ حزم([1268])، وابن تيمية([1269]) -رحم الله الجميع-.

 

سابعاً: في هذا الحديث ردٌّ على من ضعّف أحاديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق (ذات عرق)، وقال: إن العراق لم تكن فُتِحَت يومئذٍ! وجواب هذا الاعتراض:

 

«أن ذلك صَدَر منه صلى الله عليه وسلم مصدَرَ التعليم لأمّةِ الإسلام إلى يوم القيامة، فليس من الضروري أن تكون العراق قد فتحت يومئذٍ، فهي في هذا كبلاد الشام سواء، فلم تكن قد فتحت -أيضاً- كما هو معلوم، ولذلك قال الحافظ ابن عبدالبر([1270]):

 

«هذه غفلة من قائل هذا القول؛ لأنه -عليه السلام- هو الذي وقَّتَ لأهل العراق ذاتَ عرق، كما وقت لأهل الشام الجحفة، والشام يومئذٍ دار كفر كالعراق، فوقت المواقيت لأهل النواحي؛ لأنه علم أن الله سيفتح على أمته الشام والعراق وغيرهما، ولم يفتح الشام والعراق إلا على عهد عمر بلا خلاف، وقد قال -عليه السلام-: «منعت العراق درهمها وقفيزها...». الحديث معناه عند أهل العلم: ستمنع».

 

ونقله ابن التركماني في «الجوهر» (5/28-29)». قاله شيخنا الألباني في «حجة النبي صلى الله عليه وسلم» (ص 48).

 

ثامناً: قد يقال: ثبت في «صحيح البخاري»([1271]) أن عمر بن الخطاب      -رضي الله عنه- هو الذي وقت ذات عرق لأهل العراق، وهذا ينافي ما تقدم، فالجواب:

 

يمكن أن يكون ذلك من جملة (الموافقات) التي وافق عمر الشرع فيها([1272])، ولم يذكر هذا السيوطي في رسالته «قطف الثمر»([1273])، فلتستدرك عليه.

 

تاسعاً: دل هذا الحديث على رِضَى اللهِ عن عمر -رضي الله عنه- ما وظّفه على الكفرة من الجزَى في الأمصار([1274])، قال الذهبي: «فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم القفيز والدرهم قبل أن يضعَه عمرُ على الأرض»([1275])، وقال الحميدي: «وفيه -أيضاً- دليل على رضاه من عمر بما وظّفه على الكفرة في الأمصار من الجزية ومقدارها»([1276]).

 

وقال قبلهم أبو عبيد([1277]) ونقله عنه ابن المنذر([1278]): «فاسمع([1279]) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرهم والقفيز، كما فعل عمر بن الخطاب بالسواد [وهذا هو التثبّت]([1280])، وفي تأويل [فعل](7) عمر -أيضاً- حين وضع الخراج، ووظفه على أهله من العلم: أنه جعله شاملاً عامّاً على [كل](7) من([1281]) لزمته المساحة وصارت الأرض في يده، من رجل أو امرأة، أو صبي أو مكاتب أو عبد، فصاروا متساوين فيها، ألا تراه لم يستثن أحداً دون أحد، ومما يبين ذلك قول عمر لدهقانة نهر الملك حين أسلمت فقال: دعوها في أرضها تؤدى عنها الخراج، فأوجب عليها ما أوجب على الرجال».

 

عاشراً: يفهم بالإشارة من هذا الحديث التوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع للمسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد، فلم يجتب المسلمون منهم شيئاً، فتضيق أحوالهم([1282])، ودلّ على هذا على وجهٍ أصرحَ أثرُ أبي هريرة عند البخاري([1283]).

 

قال ابن بطال بعد إيراده له: «دل على أنّ الغدر لأهل الذمة لا يجوز، ألا ترى ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم من الذّمة والوفاء بها لأهلها من أجل إنماء معاش المسلمين، ورزق عيالهم، فأعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظُلِموا، منعوا ما في أيديهم، واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة، وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجتب المسلمون درهماً، فضاقت أحوالهم وساءت، وفيه من علامات النبوة»([1284]).

 

ومن اللطيف بهذا الصدد، ما أخرجه الدينوري في «المجالسة» (6/179 رقم 2525) بسند ضعيف عن ابن سيرين، قال: مر ابن عمر على رجل، فسلم عليه. فلما جاز، قيل له: إنه كافر. فرجع إليه، فقال: رُدَّ عليَّ السلام. فردّ عليه. فقال له: أكثر اللهُ مالك وولدَك. ثم التفت إلينا، فقال: «هذا أكثر للجزية».

 

حادي عشر: استنبط كثير من الفقهاء من هذا الحديث أن الأرض المغنومة لا تقسم ولا تباع([1285])، ونقل ابن تيمية هذا الحكم عن أهل المذاهب المتبوعة في الأرض التي فتحت عنوة، وقال: «ولكن المسلمون لما كثروا نقلوا أرض السواد في أوائل الدولة العباسية من (المخارجة)([1286]) إلى (المقاسمة)([1287])، ولذلك نقلوا مصر إلى أن استغلوها هم، كما هو الواقع اليوم، ولذلك رفع عنها الخراج»([1288]).

 

ونوضح كلام الفقهاء في هذه المسألة، فنقول، وبالله المستعان:

 

للأرض رقبة ومنفعة، فرقبتها هي أصلها، ومنفعتها هي استعمالها في الزراعة وغيرها، وقد أباح الإسلام ملكية رقبة الأرض، كما أباح ملكية منفعتها، ووضع أحكاماً لكل منهما. أما ملكية رقبة الأرض فينظر فيها، فإن كانت البلاد التي منها هذه الأرض قد فتحت بالحرب عنوة كانت رقبة الأرض ملكاً للدولة، واعتبرت أرضاً خراجية، ما عدا جزيرة العرب.

 

وإن فتحت صلحاً ينظر، فإن كان الصلح على أن الأرض لنا، وأن نقر أهلها عليها مقابل خراج يدفعونه، فإن هذا الخراج يبقى أبديّاً على الأرض، وتبقى أرضه خراجية إلى يوم القيامة ولو انتقلت إلى مسلمين بالإسلام، أو بالشراء أو بغيره([1289]).

 

أما إن كان الصلح على أن الأرض لهم، وأن تبقى في أيديهم، وأن يقرّوا عليها بخراج معلوم يضرب عليهم، فهذا الخراج يكون غير الجزية، ولا يسقط بإسلامهم، أو ببيعهم الأرض إلى مسلم، وإن باعوا الأرض إلى كافر فإن الخراج يكون باقياً من باب أولى؛ لأن الكافر من أهل الخراج والجزية، وإن كانت البلاد قد أسلم أهلها عليها مثل أندونيسيا، أو كانت من جزيرة العرب كانت رقبة الأرض ملكاً لأهلها، واعتبرت أرضاً عشرية، والسبب في ذلك أن الأرض بمنزلة المال، تعتبر غنيمة من الغنائم، التي تكسب في الحرب فهي حلال، وهي ملك لبيت المال.

 

والفرق بين الأرض وبين غيرها من الغنائم من الأموال، أن الأموال تقسم ويتصرف بها، وتعطى للناس، وأما الأرض فتبقى رقبتها تحت تصرف بيت المال حكماً، ولكنها تظل تحت يد أهلها ينتفعون بها، وكون الأرض باقية لبيت المال لا تقسم رقبتها، وإنما يمكّن الناس من الانتفاع بها([1290])، ظاهر في كونها غنائم عامة لجميع المسلمين، سواء مَنْ وجدوا حين الفتح، أو مَنْ وُجِد بعدهم. أما جزيرة العرب فإن أرضَها كلُّها عشرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عَنوَة، وتركها لأهلها، ولم يوظف عليها الخراج؛ ولأن الخراج على الأرض بمنزلة الجزية على  الرؤوس، فلا يثبت في أرض العرب، كما لا تثبت الجزية في رقابهم؛ وذلك لأن وضع الخراج على البلاد من شرطه أن يترك أهلها وما يعتقدون وما يعبدون، كما في سواد العراق. ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. قال -تعالى-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقال: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]. وما دام لم تؤخذ جزية منهم، فكذلك لا يؤخذ خراج على أرضهم.

 

وعلى هذا؛ فإن رقبة الأرض في جميع البلاد التي افتتحها الإسلام عنوة، أو صلحاً على أن الأرض لنا، تكون ملكاً للدولة، وتعتبر أرضاً خراجية، سواء أكانت لا تزال تحت يد الأمة الإسلامية؛ كمصر والعراق وتركيا، أم أصبحت تحت يد الكفار؛ كإسبانيا وأوكرانيا والقرم وألبانيا والهند ويوغسلافيا ونحوها. وكل أرض أسلم عليها أهلها كأندونيسيا، وكل أرض في جزيرة العرب هي ملك لأهلها، وتعتبر أرضاً عشرية.

 

أما منفعة الأرض فهي من الأملاك الفردية، سواء أكانت أرضاً خراجية، أم أرضاً عشرية، وسواء أَقْطَعَتْهُم إياها الدولة، أو تبادلوها بينهم، أو أحيوها، أو احتجروها. وهذه المنفعة تعطي المتصرف بالأرض من الحقوق ما يعطى لمالك العين، وله أن يبيعها ويهبها وتورث عنه؛ وذلك لأن للدولة أن تُقطِعَ (أي: تعطي) الأراضي للأفراد، سواء أكانت الأرضُ عشريةً، أم خراجيةً، إلا أن الإقطاع في الأرض الخراجية هو تمليك منفعة الأرض، مع بقاء رقبتها لبيت المال، وأما في الأرض العشرية فهو تمليكٌ لرقبة الأرض ومنفعتها.

 

والفرق بين العشر والخراج، هو أن العشر على ناتج الأرض، وهو أن تأخذ الدولة من الزراع للأرض عُشْرَ الناتج الفعلي، إن كانت تسقى بماء المطر، سقياً طبيعيّاً، وتأخذ نصف العشر عن الناتج الفعلي، إن كانت الأرض تسقى بالساقية، أو غيرها، سقياً اصطناعيّاً. روى مسلم([1291]) عن جابر، قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: «فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشر». وهذا العشر يعتبر زكاة، ويوضع في بيت المال، ولا يصرف إلا لأحد الأصناف الثمانية، المذكورين في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} [التوبة: 60] الآية. أخرج الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فقال: «لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر»([1292]).

 

وأما الخراج على الأرض؛ فهو: أن تأخد الدولة من صاحب الأرض قدراً معيناً تقدره وتحدده، بحسب إنتاج الأرض التقديري عادة، لا الإنتاج الفعلي. ويقدر على الأرض بقدر احتمالها حتى لا يُظلم صاحبُ الأرض، ولا بيت المال. ويُحَصَّلُ الخراجُ كلَّ سنة من صاحب الأرض، سواء زرعت الأرض أو لم تزرع، وسواء أخصبت أو أجدبت، ودليله: إن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- بعث عثمان بن حنيف على السواد، وأمره أن يمسحه، فوضع على كل جريب عامر أو غامر مما يعمل مثله درهماً وقفيزاً([1293]). ويوضع الخراج في بيت المال في غير باب الزكاة، ويصرف على جميع الوجوه التي تراها الدولة، كما يصرف سائر المال.

 

والأرض التي فتحت عنوة وضرب عليها الخراج يبقى خراجها أبد الدهر، فإن أسلم أهلها أو باعوها إلى مسلم لم يسقط خراجها؛ لأن صفتها من كونها فتحت عنوة باقية إلى آخر الزمان، ووجب عليهم دفع العشر مع الخراج؛ لأن الخراجَ حقٌّ وجب على الأرض، والعشرُ حقٌّ وجَبَ على ناتج أرض المسلم بالآيات والأحاديث، ولا تنافي بين الحقين؛ لأنهما وجبا بسببين مختلفين([1294])، وهذا ما نوضحه في:

 

ثاني عشر: قال البغوي في «شرح السنة» (11/178):

 

«وفيه مستدلٌّ لمن ذهب([1295]) إلى أنّ وجوب الخراج لا ينفي وجوب العُشر([1296])؛ لأنه جمع بين (القفزان) و(النقد)، و(العشر) يؤخذ بـ(القفزان)، و(الخراج) من (النقد)». وسبقه إليه الخطابي([1297]) في «معالم السنن» (3/35) وزاد على آخره: «إما دراهم وإما دنانير».

 

وقال النسفي في «طلبة الطلبة» (ص 96): «أراد بالقفيز: العشر، وبالدراهم: الخراج».

 

وقال أبو يعلى في «الأحكام السلطانية» (ص 216) بعد أن أورد الحديث: «فقد أثبت الجمع بين الدرهم والقفيز».

 

واستدل به الحنفية على عدم اجتماع (العشر) مع (الخراج) -على نقيض استدلال الأوّلين- ووجّهوه بأمرين([1298]):

 

الأول: عدم ذكر العشر في أرض الخراج.

 

والآخر: يستفاد من لازم النّص أن خراج العراق والشام ومصر سيُمنع آخر الزمان، ولازم هذا المنع أنه لا حقّ فيه سواه؛ مثل: العشر، وهذا معنى قول الجصاص:

 

«لو كان العشر واجباً فيما زرع من أرض الخراج، لاستحال أن يكون الخراج ممنوعاً منه والعشر غير ممنوع»([1299]).

 

وتوضيحه: «قالوا: أراد بمنع القفيز والدينار: الخراج([1300])، وكأنه ذم امتناعهم من أداء الخراج بعدما أسلموا عليه، وفي ذلك دلالة على أن الرجل إذا أسلم على خراج لم يسقط عنه الخراج بإسلامه»([1301]).

 

واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بهذا الحديث، قال:

 

«فلو كان في أرض الخراج شيء غير الخراج، لذكره -عليه السلام-». نقله عنه ابن حزم في «الإحكام»([1302]) (7/905)، ورد عليه بتطويل، قال:

 

«قال أبو محمد: فيقال للطحاوي: أرأيت إن قال لك قائل أن قوله -عليه السلام-: «فيما سقت السماء العشر» دليل على أن لا خراج على شيء من الأرض، لأنه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث! فإن قال: قد ذكر الخراج في الحديث الذي قدمناه آنفاً. قيل له: وقد ذكر العشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفاً. فإن قال قائل: ما تقولون في خطاب ورد من الله -تعالى- أو رسوله صلى الله عليه وسلم معلقاً بشرط؟ قيل له: ينظر، أتقدّمَتْ ذلكَ الخطابَ جملةٌ حاظرةٌ لما أباح ذلك الخِطاب، أو مبيحة لما حظر، أم لم يتقدمه جملة بشيء من ذلك، لكن تقدمته جملة تعمه وتعمّ معه غيره موافقة لما في ذلك النص؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه؛ لأن الجملة التي نص عليها بقوله        -تعالى-: {خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأرض جَميعاً} [البقرة: 29] مبيحة عامة، لا يشذ عنها إلا ما نص عليه وفصل بالتحريم، فلا سبيل إلى خروج شيء من النصوص عن هذه الجملة، ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكوراً فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم، فإن وجدنا النص الوارد  -وقد تقدمته جملة مخالفة له- استثنيناه منها، وتركنا سائر تلك الجملة على حالها، ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط، ولم نُبِحْ إلا ما أباح فقط، ولم نتعدَّه، وإن وجدناه موافقاً لجملة تقدمته أبحنا ما أباح ذلك الخطاب، وأبحنا  -أيضاً- ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه، أو حظرنا ما حظره ذلك الخطاب، وحظرنا -أيضاً- ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه، ولم  نسقط من أجل ذلك الشرط شيئاً مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره، وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم -عربهم وعجمهم-، ولا يجوز غير ذلك».

 

ورد البيهقي استدلالهم به، بقوله: «ولا حجة لهم فيه؛ لأن القفيز ظاهره المكيال، وإن كان يتناول الدينار، والعدول عن الظاهر بلا حجة محال، وإنما المراد به -والله أعلم- الحقوق التي تجب في مال المسلم من العشر، وسائر الزكوات، وتفسير هذا الحديث...» وأسند ما سقناه من حديث جابر([1303]): «يوشك أهل العراق لا يجبى إليهم درهم ولا قفيز. فقالوا: بم ذاك يا أبا عبدالله؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك...» بتمامه. ثم نقل عن الهروي في «الغريبيين» له أنه حمله على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما وظف على أهل المدينة من هذه البلاد في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من الجزية، وأنهم إذا أسلموا سقطت عنه بذلك الجزية، وقوله: «منعت»؛ معناه: ستمنع بإسلامهم ما وظف عليهم. ثم قال: «وفي هذا المعنى يصير الخبر حجة لنا في سقوط الخراج الذي يكون على طريق الجزية عن أراضي أهل الذمة إذا أسلموا، والله أعلم»([1304]).

 

ومما ينبغي التنبيه عليه هنا الضعف الشديد لحديث: «لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم»، وقد فصلت القول فيه في تعليقي على «الخلافيات» للبيهقي، يسر الله إتمامه([1305]).

 

ويعجبني هنا ما قدمناه عن النووي من قوله: «لو كان معنى الحديث ما زعموه للزم أن لا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة، وهذا لا يقول به أحد»([1306]).

 

ويعجبني -أيضاً- ما قاله أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه «الأموال» (ص 116/رقم 245): «ولا نعلم أحداً من الصحابة، قال: لا يجتمع عليه العشر والخراج، ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يروى عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان، يكنى أبا المنيب».

 

ثالث عشر: استدل به بعض أهل العلم([1307]) على أن الواحد قد يراد به الجمع عند الإضافة، بينما استدل به أبو المواهب العكبري للحنابلة على أن قدر الخراج في جريب الحنطة والشعير قفيز ودرهم([1308])، قال: «خلافاً للشافعي في قوله: في جريب الحنطة أربعة دراهم، وفي جريب الشعير درهمان»([1309]).

 

ثم ذكر الأدلة، ومن بينها: قوله محتجّاً لمذهبه:

 

«أنه يعضدها السنة...» وذكر الحديث، قال: «ومعناه: ستمنع، وهذا يدل على القفيز»([1310]).

 

رابع عشر: أخرج هذا الحديث كما قدمنا جماعة؛ منهم: الإمام أحمد، قال: حدثنا أبو كامل، حدثنا زهير، حدثنا سهيل، به.

 

وفي مطبوع «المسند» على إثره: «قال أبو عبدالرحمن: سمعت يحيى بن معين، وذكر أبا كامل، فقال: كنتُ آخذ منه ذا الشأن، وكان أبو كامل بغداديّاً من الأبناء».

 

وهذه العبارة تحتاج إلى شرح، فالقائل أبو عبدالرحمن هو عبدالله بن الإمام أحمد، وصرح بذلك الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/125)، وأسند العبارة المذكورة إليه.

 

وهذه الكلمة «ثناء عظيم من يحيى إمام الجرح والتعديل على أبي كامل مظفر بن مدرك الخراساني»، وقوله: «كنت آخذ منه هذا الشأن»؛ يريد به: صنعة الحديث، ومعرفة الرجال.

 

وأما قوله: «من الأبناء»؛ فيريد به: أنه من أبناء خراسان. أفاده العلامة أحمد شاكر في «شرحه على مسند أحمد» (13/292).

 

خامس عشر: أن الحصار الاقتصادي لا بد أن يصيب العراق، بحيث تمنع خيراتها (المكيال والنقد) أهلها، ويمنعها العجم ذلك، ويتبعه الحصار الذي يصيب الشام، وتمنع أهلها خيراتها كذلك، ولكن الذي يمنعها في هذه المرة هم الروم.

 

سادس عشر: وفي هذا دليل على التفرقة بين العجم من جهة، والروم من جهة أخرى كما بيناه([1311]).

 

سابع عشر: وفيه -أيضاً- أن القوّة المتحكّمة في المنع تختلف موازينها، وتنتقل القيادة العامة من الأمشاج والخليط الذي تجمعهم (العجمة) وعدم (العربية) إلى نسب ودين، وهم الروم.

 

ثامن عشر: وإن هذين الحصارين مقدمة للملحمة الكبرى التي تكون بين العجم والمسلمين؛ إذ وقع في «صحيح مسلم» ذكرٌ غيرُ صريحٍ للمهدي يعقُبُ هذا الحصار، والملاحم([1312]) تكون -كما هو معلوم- قبل ذلك، ومن بينها تلك التي سببُها انحسار الفرات عن كنز -أو جبل- من ذهب، فلا يبعد أن الحصار الذي فيه طمع للعجم أولاً، وللروم ثانياً بخيرات بلاد العراق والشام هو أمارة لذلك كله، والله أعلم.

 

تاسع عشر: من الأمور التي تستدعي التنبيه عليها، ومراعاتها وعدم إهمالها في دراسة الفتن: (الآثار) و(المقطوعات)([1313])؛ فإن فيها المفزع لتوضيح المبهم، وتعيين المجمل، والتوفيق بين ما ظاهره التعارض، ووجدتُ هذا الأمر واضحاً جليّاً في كتابي هذا، وفي ظني وتقديري أن (عقدة) البحث في هذا الباب، هو الجمع المستقصي الذي فيه الاستيعاب لهذه الآثار، فإنها مشتتة في بطون الدواوين على تنوعها: السنن، المصنفات، المسانيد، المعاجم، المشيخات، الأجزاء الحديثية، فضلاً عن الكتب الخاصة بالفتن.

 

فصل

 

في محاذير قراءة أحاديث الفتن لإسقاطها على الواقع

 

عشرون([1314]): من الزلات -بل الخطيآت- قراءة أحاديث الفتن لإسقاطها على الواقع، وفي هذا محاذيرُ كثيرةٌ من أهمِّها:

 

أولاً: عدم البحث عن صحتها، وقبولها على عواهنها، وإن كانت موضوعة أو واهية.

 

ثانياً: تحريف معانيها، وإخراجها عن مراد المتكلّم بها، من خلال معاناة وضغوط الواقع على الباحث فيها، أو القارئ لها([1315])، بحيث يأخذها أخذاً أوليّاً، بمعزل عن سائر ما ورد في الباب، أو يستنبط منها أشياء على غير قواعد أهل العلم في الاستدلال.

 

ثالثاً: من أسوأ أنواع هذا التحريف وأخطره التعدّي على المُسَلَّمات والقواعد الكليات، سواء فيما يخص الشرع بعامة، أو الفتن بخاصة؛ مثل: تحديد موعد قيام الساعة، أو موعد خروج المهدي([1316])، أو موعد زوال دولة يهود... وهكذا.

 

رابعاً: أخطر ما رأيت على الإطلاق في التعامل مع أحاديث الفتن([1317]) فهمها على قواعد أهل الباطل: اليهود وأهل الباطن، إذ أحاديث الفتن -قبل وقوعها- أشبه ما تكون بتأويل (المتشابه)، فيراعى في المؤول به أوصاف؛ هي:

 

1- كون الظاهر منها هو المفهوم العربي، فلا تشرع الزيادة على الجريان على اللسان العربي؛ مثل: حساب الجُمَّل، أو الإعجاز العددي.

 

ومن اشتغل بذلك فهو من باب التشبه باليهود([1318])، وقد يستدل عليه بما أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/208)، وابن جرير في «التفسير» (1/216 رقم 246 - ط. شاكر) -واللفظ له-، وأبو عمرو الداني في «البيان في عدّ آي القرآن» (ص 330-331) من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبدالله بن رِئاب، قال: «مر أبو ياسر بن أخطب [في رجال من اليهود] برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: {ألم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، فأتى أخاه حُيَي بن أخطب [في رجال] من يهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله -عز وجل- عليه: {ألم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}! فقالوا: أنت سمعتَه؟ قال: نعم. قال: فمشى حيُي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا له: يا محمد! ألم يُذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: {ألم . ذَلِكَ الْكِتَابُ}؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بُيِّنَ لنبيٍّ منهم مدةُ ملكه، وأجلُ أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال: الألف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون. أفتدخلون في دين نبي إنما مدةُ مُلكه وأجلُ أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! هل مع هذه غيره؟ قال: «نعم. قال: ماذا؟ قال: {ألمص} [الأعراف: 1]». قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون؛ فهذه إحدى وستون ومئة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم. قال: ماذا؟ قال: {ألر} [يوسف: 1]». قال: هذه -والله- أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان؛ فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة. فقال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: «نعم، {ألمر} [الرعد: 1]». قال: فهذه أثقل -والله- وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان؛ فهذه أحدى وسبعون ومئتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمد، حتى ما تُدرَى أقليلاً أُعطيت أم كثيراً. ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جُمع لمحمد هذا كله إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومئة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون؛ فذلك سبع مئة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره». والخبر بنحوه في «سيرة ابن هشام» (2/545).

 

وهذا الاستدلال باطل من جوه؛ هي:

 

إسناده ضعيف([1319])، فيه الكلبي، وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد، ومدار الحديث عليه. قاله ابن كثير في «تفسيره» (1/258 - ط. أولاد الشيخ)، والشوكاني في «فتح القدير» (1/20).

 

وأما على فرض صحته، فالجواب عليه من وجوه تأتي، وقد ظفرتُ برسالة للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في ورقتين([1320])، فيها جواب على مدى اعتبار حروف (الجمل)، قال بعد نقله ما في «القاموس المحيط»([1321]) عن (أبجد) وأنها اصطلاح لملوك مدين:

 

«فهذا أصل هذه الكلمات لغة، وفيه دلالة أن من جعل حروفها أعداداً ليس من وضع اللغة، وإنما هو أمر اصطلاحي، ويدل عليه اختلاف أهل الغرب وأهل الشرق في ذلك؛ فإنّ السين المهملة تعد ثلاث مئة عند الأولين، وستون عند الآخرين، والصاد -أي: المهملة- ستون عند أهل الغرب، وتسعون عند أهل الشرق؛ كما ذكره عنهم الحافظ ابن حجر([1322])، وإذا كان أمراً عرفيّاً فالأمر فيه سهل.

 

وأما أهل اللغة العربية فمعلوم أنهم لا يعرفون ذلك، ومن الآثار ما يشعر بأنه عُرف لليهود، ...» وساق الخبر الذي ذكرناه، وقال:

 

«فهذا دليل أن ذلك كان من عرف اليهود واصطلاحهم، ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن ذلك من لغة العرب، كما يعلم قطعاً أن العرب لم تعارض القرآن، فما هو إلا من علم اليهود ومن أوضاع أسحارهم، وقد ثبت عن ابن عباس النهي عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من السحر([1323])، وأما ما يفعل الشعراء من التاريخ بذلك العدد فلا بأس به، وغايته أنهم يختارون كلمة بذلك العدد، فيها حال يُطابق ما فعلوه له، والفأل الحسن لا بأس به، فذلك هو سنة، إذا كان على أسلوبه، إلا أن ما روي عن ابن عباس من النهي عنه ما يقضي بأنه لا يُفعل ذلك في شيء، وكلامنا في غير ما يفعلونه، وهو علم الأوفاق الذي ستعرفه.

 

فإن قلت: فقد أقر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حُيي بن أخطب على تفسير تلك الحروف بالأعداد!!

 

قلت([1324]):

 

أما أولاً: فمعلوم أن تلك الحروف ليست موضوعة للأعداد في العربية، وقد عُلم أنه -تعالى- أنزل القرآن عربيّاً فلا يُفسَّر العربي إلا بالأوضاع العربية لا بالأوضاع العبرانية.

 

وأما ثانياً: فقد عُلم مخالفته -صلى الله عليه وآله وسلم- لليهود في أفعالهم وأقوالهم؛ فسكوته عن الإنكار هذا كسكوته عن الإنكار إذا مروا إلى كنائسهم.

 

وأما ثالثاً: فلأنهم منكرون أنه كلام الله، فهم فسروا على تسليم أنه تفسير كلام كاذب عندهم.

 

وأما رابعاً: فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم وتحزينهم؛ فإنه يعلم أن بقاءه يوماً واحداً مما يسوءهم ويحزنهم فضلاً عن أعوام.

 

وأما خامساً: فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة قومه، فكأنه يقول: إذا كان عرفاً لكم أو لغة عندكم فأنتم تعلمون أنه ليس لغةً لنا ولا هو عُرفنا، وإنما هو شيء جئتم به من تلقاء أنفسكم، فلا يُنكر عليهم أن يتعارفوا بينهم بأي لفظ([1325]).

 

فإن قلت: ومن أين علمنا أنه ليس من لغته ولا لغة قومه؟!

 

قلت: عرفناه بأنه لم يأت حرف واحد عن صحابي ولا تابعي بهذا، مع أنه قد نقل إلينا تفاسيرهم لكلام الله، بل هذا معلوم يقيناً أنه ليس من لغة العرب فقد دونها أئمة اللغة وبذلوا فيها وسعهم وتتبعوها في البوادي وغيرها، ولا تجد كتاباً لغويّاً فيه شيء من هذا، وأن الحرف مُسَمَّاهُ كذا من العدد هذا أمر مقطوع بعدم وقوعه لغةً فتعين أنه أمر اصطلاحي لا حجر فيه ولا ضير على متعاطيه، ونهي ابن عباس عنه، وأنه من السحر يدلُّ أنه عَرَفَ أنه اصطلاحٌ لليهود يستعملونه في الأسحار» انتهى.

 

وقال العلامة السلفي ابن كثير في «تفسيره» (1/257 - ط. أولاد الشيخ) بصدد تفسيره للحروف المقطعة: «وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد([1326])، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادّعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف...» وأورد ما سقناه (قصة أبي ياسر بن أخطب).

 

وكلام ابن كثير -رحمه الله تعالى- فَصْلٌ في هذه المسألة، والدلالة المزعومة في القصة ليست دلالة عربية، وإنْ دافعَ البيضاوي عنها حين قرر: «فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك وهذه الدلالة، وإن لم تكن عربية، لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات؛ كالمشكاة والسجيل والقرطاس»([1327]) فإنه ينال من قوله ما سبق الحديث عنه من عربية القرآن مع ضميمة أن الجهة منفكة؛ إذ إن لهذا دلالة لغوية، ولما نحن فيه دلالة رياضية قد تمت للفلك بصلة لا للغة، وحساب الجمل وطرائقه قوام السحر وطلاسمه، ومن ثم قرر ابن حجر، وهذا باطل لا يُعتمَدُ عليه، فقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة»([1328]).

 

وفيم هذه الرواية؟ هل يحدث هذا بين رسول الإسلام، والحوار إنما هو رجم بالغيب إذ يكشف عن الرغبة في معرفة مدة بقاء هذه الأمة، تعييناً لموعد الساعة، وفرق بين أن نطلب التعرف على وقتها والوقوف على حينها، وبين أن نتلمس صفاتها وأحوالها كما صرح بذلك ابن تيمية([1329]).

 

ولم هذا السؤال؟ إن الغاية التي يبحثون عنها أو يراد الوصول إليها مساومة عجيبة، هي تحديد موقفهم من الإسلام بناءً على هذا اللون من التأويل، ومن ثم قال الشوكاني: «فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع {ألم . ذلك الكتاب} من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنىً يُعقَلُ ومدلولٌ يفهم؛ لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ بدء، حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم»([1330]).

 

ومثل هذا تماماً -ولا يختلف عنه ألبتة- الاستدلال بعدد الحروف في النصوص على أمور غيبية؛ كخرافة الاستدلال ببعض الآيات([1331]) على ما جرى في (أمريكا) من أحداث 11/9/سنة 2001م، الذي كان له أثر ظاهر في مجرى الأحداث فيما بعد، ولا سيما على (أفغانستان) و(العراق).

 

وهذه كذبة لها قرون -كما يقولون-، فالتوقيت الميلادي لا اعتبار له في شرعنا، والعد المزعوم كذب، فعدد الحروف ليس هو المزعوم في النظرية، ولا أدري لمصلحة من تروج هذه المعلومات الخاطئة؟! والعجب من جرأة بعضهم لما يؤيد مثل هذا اللون من الخرافة، ويطعن في كتب التفسير: «إن كتب التفسير كتب تقليدية، ولا تفي بمتطلبات العصر»([1332])!! ولماذا هذه الطلاسم والألغاز والأسرار، وهل فهمها على هذا النحو أحد من أهل العلم والديانة ممن هم قبلنا؟! أفلا يسعنا ما وسعهم، لنصل إلى ما وصلوا إليه، وليجتمع لنا خيرا الدنيا والآخرة؟!

 

فالمنهج القرآني([1333]) مع الأحداث لا يهتم بمثل هذا ولا بما هو فوقه من تعيين الأماكن والبلدان، وتسمية الأشخاص وبيان ألوانهم وأنسابهم، وإنما هذا من شغل أصحاب الأكاذيب والأراجيف، ومن في قلوبهم شك، أو في عقولهم خلل، أو لهم مآرب مشبوهة([1334])، فتركوا ما هو يقين، وأخذوا يبحثون بظن وتخمين، بطريقة غير مسلوكة ولا معروفة، لا عند الصحابة ولا التابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

 

وعجبي لا ينتهي من هؤلاء؛ إذ أنهم يتلاعبون بعقول الناس، فمثلاً صاحب كتاب «عجيبة تسعة عشر»([1335]) حسب حسابات معينة، فضرب تارة، وقسم أخرى، وجمع ثالثة، وخرج بأن دولة يهود ستزول سنة (2022م)!! ولو فعل غيره فعلته، وأبدل هذه العمليات، لخرجت معه نتائج أخرى، وهكذا الظنون والتخرصات، فإنها لا أصل لها ولا قواعد، وهذا الذي نعيبه على من سلك هذا المسلك([1336]).

 

ورحم الله ابن العربي المالكي، لما قال في «فوائد رحلته»([1337]):

 

«ومن الباطل([1338]): علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم، ولا يصل منها إلى فهم».

 

وأخيراً... فما «يسمى بالإعجاز العددي على الرغم من إعجاب كثير من الناس به، لا تجد له تلكم الفوائد العلمية، وذلكم الأثر الواقعي الذي من شأنه أن يهذب النفس، ويظهر مضمراته، أو يطلعنا على أسرار الكون، إنه أقرب ما يكون إلى الترف العقلي المجرد، وإني لأتعجب من كثير من الكاتبين الفضلاء الذي أرادوا أن يجعلوا للإعجاز العددي -كما يقولون- أصلاً في تراثنا الإعجازي!»([1339]).

 

والخلاصة: إن كلَّ معنىً مستنبطٍ من أحاديث الفتن غيرُ جارٍ على اللسان العربي، فليس من علوم الشريعة في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادّعى فيه ذلك، فهو في دعواه مبطل.

 

ويراعى في المؤول به وصف آخر؛ وهو:

 

2- أن يرجع إلى معنىً صحيحٍ في الاعتبار، ويكونُ اللفظُ المؤولُ به قابلاً له؛ وذلك أن الاحتمالَ المؤولَ به يقبله اللفظ بحسب اللغة، ويجري على المقاصد العربية، أو يكون له شاهدٌ نصّاً أو ظاهراً في محلٍّ آخرَ يشهدُ لصحته من غير معارض.

 

ذلك؛ إنه إن لم يكن كذلك صار جملة من (الدعاوى) التي تُدَّعى على الشريعة، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء، وبهذا يتبيّن بطلان ما عليه أهل الباطن، من الاستدلالات غير المعتبرة، التي لم تَجْرِ على مقتضى العلم، وجلُّ كلامهم([1340]) مما يتخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له.

 

ويتفرّع على هذا مما له صلة بموضوع كتابنا، ما يذكره غير المنضبطين بقواعد العلماء في الاستدلال والاستنباط من تحريف للأسماء الواردة في الأخبار -وجلها واهية غير ثابتة- بإسقاطات على شخصيات معاصرة([1341])، فلا هم على الصحيح اقتصروا، ولا قواعد العلماء اعتمدوا، وإنما قرأوا الأخبار  بعقلية فيها قناعاتٌ سابقةٌ، وعملوا على تنزيلٍ الأحاديثِ على أحداثٍ مُتَخيَّلَة متصورة، وتمحوروا حولها، وبحثوا عن استدلالات لها، على أي وجه كان، ومن أي مصدر، وأظهروا ذلك بلبوس أحاديث الملاحم والفتن، فلو بقيت على تنبآت أصحابها من غير أهل الديانة، لكان لها شأن آخر، ومعالجة بطريقة أخرى، ولكن إلى الله المشتكى، ويا مقلب القلوب والعقول ثبِّتْ قلوبَنا وعقولنا على دينك.

 

خامساً: ومن زلات قراءة أحاديث الفتن لإسقاطها على الواقع أمور خطيرة تؤثر بقوة على حجية المصادر التي ينبغي أن تؤخذ منها، وأن يوضع كلٌّ في محله ودرجته من حيث قوةُ الاحتجاج، فالذي نلاحظه بقوة في الآونة الأخيرة([1342]) الاعتماد الكلي، والأخذ التسليمي بما في كتب أهل الكتاب، وإشغال الناس بذلك، وكأنه أمر قطعي! وله عندهم من ظاهر صنيعهم قوة ما في القرآن الكريم وصحيح السنة! بل أصبحت الأخبار المأخوذة من هذه الكتب هي السائدة في المجالس العامة، وتتناقلها الألسنة، وأصبحت الأحاديث الصحيحة في بابتها مهجورة، ولا تكاد تسمع أحداً يذكر شيئاً منها، على الرغم ما فيها من خير وبركة، ولِمَا لذلك من أهمية وضرورة، ليس هذا موضع بسطها.

 

والأمر لم يقتصر في السوء على هذا الحد، بل تجاوزه إلى اعتماد ما ليس بمعتَمَدٍ، والاحتجاج بما لا زِمامَ له ولا خِطامَ، ولا سيما في وقت الفتن، فيخرج علينا فيها بين الحين والحين خبرٌ مصنوعٌ، مأخوذ من مصدر ساقط([1343])، ما أنزل الله به من سلطان، كما حصل في (فتنة الخليج الأولى) فيما يخص حديث (صادم)([1344])، ... وما أشبهه.

 

سادساً: ومن زلات ذلك الصنيع -أيضاً-: الهجوم بجرأة متناهية على أمور الغيب الوارد ذكرُها في نصوص الوحي وربطها بأحداث واقعيّة أو متوقّعة، دون أية أمارة أو إشارة إلى صحة هذا الربط، كما صنع غير واحد     -مثلاً- من ربط (مثلث برمودا) بالدجال، والجزم بذلك، وغيرُه ممن هو على شاكلته كثير([1345]).

 

فصل

 

في بيان أنواع العلوم والمناهج المتبعة للوصول إلى الحقائق

 

والواجب على كل باحث عن الحقيقة أن يخطَّ إليها منهجاً علميّاً لا يشوبه الظن والوهم، وأن يلتزم بالقواعد المسلوكة الموصلة إليها، واندفاع المسلم إلى ذلك مصحوب بشعور منه بأن ذلك واجب شرعي عليه، ولا سيما إذا كان فيما له تعلق بالآيات والأحاديث، وموضوع أي بحث إما أن يكون (خبراً) منقولاً، أو (دعوى) مزعومة([1346])، فالمنهج العلمي يقضي في (الخبر المنقول) بحصر تحقيق صحة نسبته إلى قائله، وإزاحة ما يمكن أن يكون مثاراً للدخيلة والاحتمال عنه، فإن زال ذلك، ترتب عليه حقيقة علمية معينة، وأما مع وجود الاحتمال والظن، فإنه لا يرقى أن يكون حقيقة مسلّمة أو مقبولة، كما هو شأن المستدلين بما سبق التنويه عليه قريباً.

 

والمنهج العلمي يقضي -أيضاً- فيما هو (دعوى) بالتوجه إلى (نوع الدليل) الذي يناسبها، فالدعاوى المتعلّقة بطبائع الأشياء المادية وجوهرها تحتاج إلى دليل علمي تجريبي محسوس، والدعاوى المتعلقة بالمجردات؛ كالأرقام، والنفس، والمنطق، تحتاج إلى براهينها القانونية المسلَّمة، والدعاوى المتعلقة بالحقوق والأمور  القضائية فيما يقع فيه خلاف بين المتنازعين لا ينفع معها إلا البيّنات والحجج المتفق على ضرورة ارتباطها معها، وهكذا لا تصبح الدعاوى حقائق علمية ثابتة إلا بعد أن يقترن بها الدليل الذي يناسبها، فالدليل في غير هذا الحال ليس له أية قيمة علمية.

 

ورحم الله ابن تيمية؛ فإنه قال في كتابه «الاستغاثة والرد على البكري» (2/628-629) بعد كلام:

 

«والعلم شيئان: إما نقل مصدَّق، وإما بحث محقَّق؛ وما سوى ذلك فهذيان مسروق، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم؛ من الهذيان([1347])، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده، وفيه ما لا ينقله على وجهه، ومنه ما يضعه في غير موضعه، وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه فمن العجائب، فلا يتحقق جنس الأدلة حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان»، قال:

 

«وقد قيل: (إنّما يُفسد الناسَ نصفُ متكلم، ونصفُ فقيه، ونصفُ نَحْوِيّ، ونصفُ طبيب؛ هذا يُفسد الأديان، وهذا يُفسد البلدان، وهذا يُفسد اللسان، وهذا يُفسد الأبدان)، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم».

 

وبناءً عليه؛ فإن ربط الأحاديث بأحداث على طريقة لا انسجام بينهما، ولا تعلق للدليل بالحادثة أو القضية المبحوثة إلا الاحتمال والظن رجم بالغيب، ولعب على العقول، وخروج عن المنهج العلمي الصحيح، وهذا الذي نقوله بكل طمأنينة عن الأبحاث والنشرات([1348]) والكتب([1349]) التي فيها إثارة ولفت نظر من خلال عناوين براقة جذابة، تصادف رغبة مركوزة في النفس لاستشراف شيء من الغيب بمعرفة ما سيحصل، ولا سيما عند حصول الآلام والنكبات والأزمات بمستقبل بلدٍ أو شعب ما.

 

وما لم نحرص على المنهج العلمي الذي نوّهنا به سابقاً؛ فإننا سنبقى في تخبُّط، ونعرِّض نصوص الوحي إلىالتكذيب، أو الاستهزاء، أو الانتقاص، أو التغيير والتبديل.

 

فصل

 

في عدم تطبيق أحاديث الفتن على الواقع الذي نعيش

 

ويعجبني بهذا الصدد ما قاله الشيخ العلامة المتفنِّن صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ في كتابه «الضوابط الشرعية لموقف المسلم من الفتن» (ص 52-53) في آخر تلك (الضوابط والقواعد):

 

«أن لا تطبق -أيها المسلم- أحاديث  الفتن على الواقع الذي تعيش فيه؛ فإنه يحلو للناس عند ظهور الفتن مراجعة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن، ويكثر في مجالسهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا؛ هذا وقتها، هذه هي الفتنة! ونحو ذلك.

 

والسلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزّل على واقع حاضر، وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها، مع الحذر من الفتن جميعاً.

 

فمثلاً: بعضهم فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الفتنة في آخر الزمان تكون من تحت رجل من أهل بيتي»؛ بأنه فلان ابن فلان، أو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع»؛ بأن المقصود به فلان ابن فلان، أو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يكون بينكم وبين الروم صلح آمن...» إلى آخر الحديث وما يحصل بعد ذلك؛ أنه في هذا الوقت.

 

وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع، وبث ذلك في المسلمين، ليس من منهج أهل السنة والجماعة.

 

وإنما أهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديث الفتن؛ محذِّرين منها، مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو عن القرب منها؛ لأجل أن لا يحصل بالمسلمين فتنة، ولأجل أن يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم»([1350]).

 

فصل

 

الاستفادة من أحاديث الفتن بمنهج علمي منضبط

 

وخطأ فرقتين جائرتين عن قصد السبيل

 

قال أبو عبيدة: لكن مع هذا؛ يجب علينا أن نستفيد من الأحاديث الواردة في الفتن، بمنهج علمي منضبط([1351])، وأن نتعامل معها بعد التأكّد من صحتها وثبوتها بعدل، فلا نظلم أنفسنا بإهدارها، ولا نظلمها بأن نتعجل وقوعها، بل الواجب التّعوّذ منها، والعمل على محاربتها بغزوها، فإننا إن لم نحارب الفتنة بتجفيف منابع تكوينها؛ أتتنا، وإن لم نحاربها؛ جاءتنا، والذي أُراه في التعامل مع أحاديث الفتن خطأ فرقتين، كلٌّ منهما جائرة عن قصد السبيل؛ هما:

 

الأولى: تلقّت هذه الأحاديث على منهج أهل الجبر، وتعجَّلت البلاء قبل وقوعه، ووقفت أمامها مكتوفة الأيدي، لا تحرك ساكناً فيما أمرها الله به من سلوك أسباب التغيير، والأخذ به، وهؤلاء عطّلوا المقصد الأصلي من أحاديث الفتن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها؛ لنحذرها ونحذِّر منها، ولنحفّز قوانا النفسيّة للاستعداد لها، بحيث تأتي الشدائد فيقول المؤمن: «هذه مهلكتي»([1352]) لا يغيِّر ولا يبدِّل، ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يبقوا بعيدين عن الفتن العُمِّية التي تقع فيما بينهم، وأن يتوجّهوا في ذلك الوقت للعبادة، وبيّنَ دعاةَ الفتنةِ وأوصافَهم، وما سيطرأ من أثر لهم في المجتمع من الداخل، وكذلك ما سيكون بين المسلمين وأعدائهم من الروم وغيرهم من الملاحم من الخارج، وبالغ صلى الله عليه وسلم جدّاً في التحذير من الدجال وبيان صفاته وسبل الوقاية منه.

 

ولذا كان من الضوابط العلمية في التعامل مع الفتنة -ما قدمناه- من عدم تطبيقها على الواقع الحاضر؛ بمعنى: أن لا نكون قدريين في فهمها، وانتظار حلولها؛ ذلك أن الله -تعالى- أراد منا، وأراد بنا، فالسعيد من انشغل بماذا أراد الله منه، وحذر أن يراد به ما لا يرضاه ولا يحبه، والمخذول من انشغل بماذا أراد الله به عن الذي أراده منه.

 

وأبرز مثال يذكر على هذا: (المهدي) -عليه السلام-، فالناس السذج يتصورون أن معه قوة خارقة، وعصاً سحريةً بواسطتها تتغير الأمور، ويقود العالم، وينشر الإسلام، ولا شك أنه -عليه السلام- مُؤيَّد من الله -عز وجل-، ولكنه يأخذ بالأسباب بحنكة وعلم ومعرفة لما يلزم، ويهديه الله إليها، ومن خلال ذلك تقع البركة على يديه.

 

وكشف عن ذلك شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في كثير من مجالسه وكتبه، وأقتصر على نقلين عنه -رحمه الله- يوضِّحان المراد:

 

قال في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (4/42-43):

 

«واعلم -يا أخي المسلم- أنّ كثيراً من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع؛ فمنهم من استقر في نفسه أنّ دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً، بل هي كلها لا تخرج عن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مئة سنة -كما صح عنه صلى الله عليه وسلم-، فكما أنّ ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه وترك الاستعداد والعمل لإقامة حكم الله في الأرض، بل العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعياً من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ظل ثلاثاً وعشرين عاماً وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته، فماذا عسى أنْ يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً، وعلماءهم -إلا القليل منهم- اتخذهم الناس رؤوساً! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا -بلا شك- يحتاج إلى زمنٍ مديدٍ اللهُ أعلم به، فالشرع والعقل معاً يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين، حتى إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر، وإن لم يخرج فقد قاموا بواجبهم، والله يقول: {وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُه} [التوبة: 105].

 

ومنهم -وفيهم بعض الخاصة- من علم أنّ ما حكيناه عن العامة أنه خرافة، ولكنه توهم أنها لازمة لعقيدة خروج المهدي فبادر إلى إنكارها، على حد قول من قال: «وداوني بالتي كانت هي الداء»! وما مثلهم إلا كمثل المعتزلة الذين أنكروا القدر لما رأوا أنّ طائفة من المسلمين استلزموا منه الجبر!! فهم بذلك أبطلوا ما يجب اعتقاده، وما استطاعوا أن يقضوا على الجبر!

 

وطائفة منهم رأوا أنّ عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالاً سيئاً، فادعاها كثير من المغرضين، أوالمهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة كان من آخرها فتنة مهدي (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأو أنّ قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة! وإلى ذلك يشير الشيخ الغزالي عقب كلامه السابق!

 

وما مثل هؤلاء إلى كمثل من ينكر عقيدة نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة؛ لأن بعض الدجاجلة ادعاها؛ مثل: ميرزا غلام أحمد القادياني، وقد أنكرها بعضهم فعلاً صراحة؛ كالشيخ شلتوت([1353])، وأكاد أقطع أن كل من أنكر عقيدة المهدي ينكرها -أيضاً-، وبعضهم يظهر ذلك من فلتات لسانه، وإن كان لا يبين، وما مثل هؤلاء المنكرين جميعاً عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله -عز وجل- بدعوى أنه ادعاها بعض الفراعنة! {فَهَل مِن مُدَّكِر} [القمر: 15]».

 

وقال في كتابه «قصة المسيح الدجال» (ص36-38) بعد كلام:

 

«لا يجوز للمسلمين اليوم أنْ يتركوا العمل للإسلام وإقامة دولته على وجه الأرض؛ انتظاراً منهم لخروج المهدي ونزول عيسى -عليهما الصلاة والسلام- يأساً منهم، أو توهماً أنّ ذلك غير ممكن قبلهما! فإنّ هذا توهم باطل، ويأس عاطل، فإنّ الله -تعالى- أو رسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمانهما، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك؛ لقوله        -تعالى-: {إنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُم ويُثَبِّت أقدَامَكم} [محمد: 7]، وقوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُه إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزيز} [الحج: 40].

 

ولقد كان هذا التوهم من أقوى الأسباب التي حملت بعض الأساتذة المرشدين والكُتّاب المعاصرين على إنكار أحاديث المهدي وعيسى -عليهما السلام-على كثرتها وتواترها- لما رأوا أنها عند المتوهمين مدعاة للتواكل عليها وترك العمل لعز الإسلام من أجلها! فأخطؤوا في ذلك أشد الخطأ من وجهين:

 

الأول: أنهم أقرّوهم على هذا التوهم؛ على اعتبار أنّ مصدره تلك الأحاديث المشار إليها؛ وإلا لم يبادروا إلى إنكارها!

 

والآخر: أنهم لم يعرفوا كيف ينبغي عليهم أن يعالجوا التوهم المذكور؟

 

وذلك بإثبات الأحاديث، وإبطال المفاهيم الخاطئة من حولها، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل من أنكر عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشره؛ لأنّ بعض المؤمنين به فهموا منه أن لازمه الجبر، وأن المكلف لا كسب له ولا اختيار، ولما كان هذا الفهم باطلاً بداهة سارعوا إلى إنكاره، ولكنهم أنكروا معه القدر -أيضاً-؛ لتوهمهم -أيضاً مع المتوهمين- أنه يعني الجبر، فوافقوهم في خطئهم في التوهم المذكور، ثم زادوا عليهم خطأً آخر -فراراً من الأول- وهو إنكارهم القدر نفسه! فلولا أنهم شاركوهم في فهمهم منه الجبر لما أنكروه!

 

وهذا هو عين ما صنعه البعض المشار إليه من الأساتذة والكُتّاب، فإنهم لما رأوا تواكل المسلمين -إلا قليلاً منهم- على أحاديث المهدي وعيسى؛ بادروا إلى إنكارها لتخليصهم بزعمهم من التواكل المذكور! فلم يصنعوا شيئاً؛ لأنهم لم يستطيعوا تخليصهم بذلك من جهة؛ ولا هم كانوا على هدىً في إنكارهم للأحاديث الصحيحة من جهة أخرى.

 

والحقيقة أنّ هؤلاء المنكرين -الذين يفهمون من هذه الأحاديث ما لا تدل عليه من التواكل المزعوم، ولذلك يبادرون إلى إنكارها تخلّصاً منه- قد جمعوا بين المصيبتين: الضلال في الفهم، والكفر بالنص! ولكنهم عرفوا أن الفهم المذكور ضلال في نفسه؛ فأنكروه بإنكار النص الذي فهموا ذلك منه! وعكس ذلك العامة؛ فآمنوا بالنص مع الفهم المذكور، فمع كل من الفريقين هدىً وضلال، والحق الأخذ بهدى كل منهما، ونبذ الضلال الذي عندهما؛ وذلك بالإيمان بالنص دون ذلك الفهم الخاطئ.

 

وما مثل هؤلاء وهؤلاء إلا كمثل المعتزلة من جهة؛ والمشبِّهة من جهة أخرى، فإن الأولين تأولوا آيات وأحاديث الصفات بتأويلات باطلة أودت بهم إلى إنكار الصفات الإلهية، وما حملهم على ذلك إلا فرارهم من التشبيه الذي وقع فيه المشَبهة، والحقيقة أن المعتزلة أنفسهم شاركوا المشبِّهة في فهم التشبيه من آيات الصفات، ولكنهم افترقوا عنهم بإنكار التشبيه بطريق التأويل الذي هو باطل -أيضاً-؛ كالتشبيه؛ لما لزم منه من إنكار الصفات الإلهية، وأما المشبِّهة فلم يقعوا في هذا الباطل، ولكنهم ثبتوا على التشبيه، والحق الجمع بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورد باطل هؤلاء وهؤلاء؛ وذلك بالإثبات والتنزيه؛ كما قال الله -تعالى-:{لَيسَ كَمِثْلِه شيءٌ وهو السّميع البَصير} [الشورى: 11].

 

وكذلك أقول في أحاديث نزول عيسى -عليه السلام- وغيرها؛ فإن الواجب فيها إنما هو الإيمان بها، وردّ ما توهمه المتوهمون منها؛ من ترك العمل والاستعداد الذي يجب القيام به في كل زمان ومكان، وبذلك نكون قد جمعنا بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورددنا باطل هؤلاء وهؤلاء، والله المستعان».

 

وعالج غير واحد من المعاصرين([1354]) (التصور الساذج للمهدي) عند كثير من الناس، والركون إلى قدومه من غير عمل بالواجبات المتحتمة على المسلمين لمرضاة ربهم، والخروج عما هم فيه من الذل والصَّغار، وصَوّر المودودي تصوُّرَ هؤلاء على وجه يوجد في أذهان بعض العامة اليوم بحكم انتشار الخزعبلات والجهل، وقربهم من أصحاب الطرق، قال في كتابه «تجديد الدين وإحيائه»([1355]) (ص 37-40):

 

«على أنّ الذين يقولون من المسلمين بظهور المهدي، ليسوا أقل خطأً في فهمهم، وعقيدتهم هذه من المتجددين الذين ينكرون ظهوره، فهم يتصورون أن الإمام المهدي سيكون رجلاً من نمط قدماء المشايخ والصوفية الذين يفضلون أورادهم وأذكارهم على أوراد وأذكار المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذين يزيدون في الدين نوعاً من تزكية النفس كما يدعون. لأن الذي نزلت عليه الآية الكريمة {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم} [المائدة: 3](!). قصّر بهذا فأتت أمته بدون خزعبلاتهم قاسية القلوب رققوها وهذبوها بما استوردوه من ديانات الهند والسند، ومن رقصات السامبا والتويست، وغاب عن ذهنهم أن تزكية النفوس بالجهاد والحركة المستمرة الدؤوب».

 

فلا يسمع به الناس إلا وقد ظهر من معهد قديم، أو خرج من زاوية اعتكاف يصرف السبحة بيده ويتلو الأوراد بلسانه، ويعلن على الخلق: «أنا المهدي أيها الناس(!)» وإذا العلماء والمشايخ يهرولون إليه حاملين بأيديهم الكتب والأسفار، يقابلون هيئته وهندامه بما ورد فيها من سماته وعلاماته، فيعرفونه، ثم تكون البيعة العامة ويتبعها إعلان الجهاد، وهنالك يبادر جميع الدراويش المعتكفين في خلواتهم... وأما إذا قام الجهاد ووقع القتال، فلا يستعمل فيه السيف إلا تحلة القسم، وإنما تعمل البركة والتصرفات الروحية عملها في المعارك، ويحاز الظفر والانتصار بفضل النفثات والأوراد...» إلى قوله:

 

«فهذا هو مثل تصورات عامة المسلمين في ظهور الإمام المهدي، ولكن الذي أفهمه في أمره -هو أنّ الحقيقة على عكس ذلك كله، فالذي أقدّره وأتصوره أنّ الإمام المنتظر سيكون زعيماً من الطراز الأحدث في زمانه، بصيراً بالعلوم الجديدة، بصر المجتهد المطلع، ويكون جيد الفهم لمسائل الحياة، ويبرهن للعالمين رجاحة عقله وفكره، وبراعة تفكيره السياسي وكمال حذقه لفنون الحرب، ويبز كل أبناء زمانه الجدد في تقدمه وارتقائه...» إلى قوله:

 

«والمهدي سيسير على أسس الإسلام الخالص، ويقلب عقلية الناس، ويبعث حركة قوة، تكون ثقافية وسياسية...، ولكنه سيوفق آخر الأمر للقضاء على سلطة الجاهلية، ويشيد دولة إسلامية موطدة الدعائم، تجري في هيكلها روح الإسلام الخالصة، ويبلغ رقيها في العلوم التجريبية والطبيعية ذروة الكمال».

 

قال أبو عبيدة: واقع المسلمين اليوم يحتاج إلى علم شرعي صحيح، وعمل خالص نافع، ويحتاج إلى قادة دعاة يحسنون معرفة واجب الوقت، ويشغلون الناس به، ويصلون من خلال ما يستطيعون إلى ما لا يستطيعون، ويبقى الخير يتّسع -بتوفيق الله- أمامهم، حتى يكافئهم ربُّهم -عز وجل- بنصر من عنده.

 

أما أن نكون قدريين، أو غير واقعيين، أو نتصرف بمعزل عن واجب الوقت، معتمدين على أخبار آخر الزمان، فهذا من عجائب هذا الزمان، وهو من نفخ الشيطان في الآذان، ولم يعرفه المسلمون الأوائل، فلما -مثلاً- أُنبئوا بفتح البلدان، لم يقل واحد منهم -مثل محمد الفاتح السلطان-: إن فتح القسطنطينية ليس وقتها الآن، بل امتثل ما أوجبه الله عليه، فرزقه الله الفتح المبين، الذي كان  -وما زال- مفخرة للمسلمين.

 

وهكذا المهدي؛ فإنه لا ينصره أناس خاملون، ولا يخرج إلى قوم قاعدين، وإنما له تباشير وتقادير وفق سنن الله -عز وجل- في التغيير.

 

ويعجبني بهذا الصّدد قول بعضهم([1356]):

 

«لقد تبين لنا أن اليهود والنصارى ينطلقون من خلال نبوءاتهم التي دخلها كثير من التحريف إلى وضع تصوراتٍ عمليةٍ لما يمكن أن تدار على أساسه الصراعات، وإلى بذل الوسع من أجل الوصول إلى أهدافٍ دينيةٍ تَسَلُّطِيَّةٍ على العالم، ولم يمنعهم الاقتناع ذهنيّاً بهذه الأمور من الانصراف     -أيضاً- إلى بناء الحضارة، وتوسيع العمران، وزيادة الإعداد والاستعداد للمستقبل، فماذا أقول؟! أأقول إنهم يفهمون الروح المقصودة من التدين أكثر منا وهم على غير دين صحيح، أأقول إنهم إلى جانب فهمهم للدنيا، وكيفية التعامل معها يفهمون؛ وهم على ضلال أن ما يجيء به الدين هو قضايا من صُلْب الحياة، وصميم الواقع؟!!

 

إن اليهود والنصارى بين أيديهم أخبارٌ غير موثوقة، وتفسيراتٌ غير مأمونة، وعقائدُ مضطربةٌ تزيدها التأويلاتُ اضطراباً، واختلافاتٌ فيما بينهم في الأصول والفروع، يستحيل معها الجمع بين الأقوال، ومع كل ذلك فهم جعلوا هذه الأخبار، وتلك النبوءات، مناراً يسيرون على ضوئه خلال أحقاب طويلة؛ ففي مسيرة اليهود خلال الألفي سنة الخالية لم تكن تدفعهم إلا نبوءات «العهد القديم»، ولم تَستَحثَّ آمالهم إلا أخبار الأنبياء السابقين، ولم تستنهض هممهم إلا أمانٍ بعيدة في العودة، والعلو، والسيطرة.

 

وفي المقابل نرى من بعض قومنا مَن إذا أخذ بأخبار من الدين عن المستقبل فإنه يجعلها سدّاً أمام الحركة، وعائقاً في وجه التقدم، ويتخذ منها وسادة وثيرة ينام عليها، أو أريكة وطيئة يقتعدها».

 

وفي الحقيقة أنّ آفة هؤلاء: (الضلال) الذي هم فيه، وهو ناشئ عن سوء فهم، وقصور همة، ذلك أنهم محبطون بسبب ما سبق إلى خواطرهم من ظاهر النصوص التي بَلَغَتهم، ففهموها على وفق تأثير عصرهم، وتربّص عدوهم، وضعف قومهم، والنفس تحب أن تسد نقصها، وتُمنِّي صاحبها، فعاش هؤلاء على الآمال، وتبلّد حسهم بكثرة الآلام، وتعاملوا مع أحاديث الفتن بطريقة سلبية، سواء ما كان فيها من تحذير من شر، أو تبشير بخير، فهم يمارسون الشر بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنه، وقاعدون -بل مثبطون- عن الخير، بأنه سيقع لا محالة، فالفتنة اقترنت بهم، ولازمتهم، ولم تنفك عنهم.

 

الفرقة الثانية: تنكّبت أحاديث الفتن، وعملت بنصوص الوحي، ولم تنتبه إلى ما يحيط بها من أمور يجب أن تراعى في أخذ الحكم الشرعي في واجب الوقت في النوازل التي تقع وستقع، فأخذت من نصوص الشرع (من آية أو حديث صحيح) ما هو (حق)، ووضعته في غير مكانه أو محله، فلم توفق إلى (العدل)؛ الذي لا يتم الخير إلا بمصاحبته له.

 

فوقائع الدنيا -بما فيها الفتن التي تموج موج البحر التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم- كما نسمعها ونقرؤها في كتب التاريخ، ثمرتها في الظاهر: غلبة أمة على أمة، وظهور الخير والشر، والنعيم والبؤس، والشرف والهبوط في المجتمعات، ولكن لهذه الوقائع أسباب، فالطمع بنتائج قبل أوانها، وربط الوقائع بغير أسبابها، ظاهرة غير صحيحة، يندرج تحتها ما وصل إليه المسلمون اليوم بعامة، وما يقوم به من لم يكن (فقيه نفس) ممن يتصدّى للحديث في (الأحداث الجسام) و(المسائل الكبار) التي تخص الأمة بأجمعها، من (الصِّغار) من أهل (الصَّغَار) و(الناشئة) و(المتطفلين) على موائد العلماء، ممن يتسمون بـ(أهل الفكر) و(المفكرين).

 

وإنْ كان التاريخ حكاية أحوال البشر، وجمع الواقعات بالترتيب الزماني، من غير بيان الربط بينها، وطلب الأسباب والآثار لها، فإن الفتن -بعد وقوعها- ستصبح من التاريخ، وتدوّن أحداثها فيه، ولكنها قبل ذلك: هي معلومة لنا، ولا بد من وقوعها، دون معرفتنا بتحديد وقتها، مع درايتنا بأسباب نشوئها، والواجب علينا أن نجهد في درئها، وأن نتعلم أسبابها، وأن نراعي الأحكام المترتبة عليها، أو المرافقة لها.

 

فصل

 

في ضرورة تعلم أحاديث الفتن، واليقين على ما صح فيها

 

على المقصد الذي سيقت من أجله

 

فالمهم في الفتن: أنْ نعلمها، ونحسن جمعها، وتمييز صحيحها من واهيها، وأنْ نعلم سنة الله الكونية من خلال الأخبار التي فيها عصمة منها، إذ أخباره صلى الله عليه وسلم عنها لا شك فيها، والواجب علينا تصديق كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا الباب؛ كما آمن وصدق أبو بكر -رضي الله عنه- بخبر الإسراء، عندما لم تتحمله عقول كفار قريش -الذين قاسوا قدرة الله بعقولهم-، بخلاف الصديق -رضي الله عنه-؛ فإنَّه علم صدق القائل: {وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى} [النجم: 3]، وعلم أن الله لا يُعجزه شيءٌ كما أخبر عن نفسه: {وَكانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: 27]؛ فمن علم قدرة ربه -عزَّ وجلَّ-، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لم يضق عقله عن قبول خبره صلى الله عليه وسلم، فاحذر من تعطيل النصوص التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بما سوف يقع، كما أخبر به، من غير زيادة أو نقصان.

 

واعلم أنّ مِن تعطيلها: أنْ تُصرَفَ عن ظاهرها؛ لأنّ الشرع لم يأتِ بألغاز تَحَارُ فيه العقول، بل أوضح مراده بلسان عربي مبين، قال الله -تعالى-: {وَما أَرسَلنا مِن رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَومِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم} [إبراهيم: 4].

 

ولا ينبغي أنْ يدفعنا واقع عصرنا، ونمط حياتنا، والثورة العلمية التي بين ظهرانينا إلى تأويل شيء من علامات الساعة التي لم تقع؛ فمجريات الأحداث غيب، والأيام حُبالى، ولا ندري ماذا سيكون، والعصمة: الوقوف مع الأخبار الصحيحة، ولا يقع هذا الأمر على النحو المذكور إلا لنفر قليل؛ ممن رزقه الله اليقين، ورفع درجته بالعلم النافع، والإيمان القوي الذي يتولَّد عنده تصور صحيح، وتيقظ، وتَخوُّف على الأمة من قصورها وذنوبها، ولذا كان حُذيفة   -رضي الله عنه- يقول:

 

«لوددتُ أنّ عندي مئة رجل قلوبهم من ذهب، فأصعد على صخرة، فأحدّثهم حديثاً، لا يضرهم بعده فتنةٌ أبداً، ثم أذهب فلا أراهم، ولا يروني أبداً».

 

أخرجه أبو داود في «الزهد» (ص 265-266/رقم 27)، وابن أبي الدنيا في «العزلة» (ص 148/رقم 168 - بتحقيقي)، ونُعيم بن حمَّاد في «الفتن» (رقم 129) من طريق الأعمش، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن زرِّ ابن حُبيش عنه، به. وإسناد صحيح.

 

يُستفاد مِن هذا الأثر: أنّ العلم اليقيني بالفتن سببٌ مِن أسباب البُعد عنها([1357])، ولذا يُسيء كثير من الناس فهم أحاديث الفتن، ويعكسون الغرض من الإخبار عنها، وقد سمعنا غير واحد منهم يحتجُّون بها على أنّ الأمر ميؤوس منه، وأنّ سبيل الإصلاح مسدود!

 

فالفتن واشتدادها مع مضي الزمن -كما قررناه من النصوص- لا يعني نوعاً من الجبر، أو القَدَر الذي يحيق بالناس، دون أنْ يكون لهم ذنب فيها، أو أنْ يقدموا الأسباب أو البدايات لها، وهذا الفهم -على النحو المذكور آنفاً- بدعيٌّ، دخيلٌ على أفهام الصحابة -رضوان الله عليهم-، وفيه تعدٍّ على حقائق مسلَّمة، وسننٍ لله -عزَّ وجلَّ-.

 

فصل

 

المراهقون وأحاديث الفتن

 

والأشد بدعة منه -وفيه خروج عن منهج السلف الصالح، وعن قواعد العلماء المسلوكة، وعن العقل السليم- ما قام ويقوم به مجموعة من (المراهقين) بأفكارهم، المتشبعون بما لم يعطوا، المنزلون (الأحداث) التي تجري على (أحاديث وآثار) بمقامرة، واحتمالات، وحديث نفس، ووساوس شيطان، والجزم -بذلك- من غير تلكؤ، وتسمية الأشخاص -وجُلُّهم من الساسة والأعلام- والبلدان والوقائع، وبعضهم يُحدِّد أزمنةً لذلك، وهذا من الخذلان؛ فإنّ الوقت الذي حددوه، والأحداث التي عينوا مجرياتها وأبطالها، قد ظهر كذبهم في بعضها، وينتظر تحقق كذبهم في الباقي، والله الواقي.

 

فصل

 

الكذب والدجل، والوضع الجديد في الأحاديث الواردة في الفتن

 

ويبقى ما سبق -على سوئه وخطورته- أهون من ظاهرة وجدتها في بعض المؤلفات التي طبعت حديثاً في هذا الباب؛ وهي: الكذب والاختراع والتدجيل، إذ زعم واحد من أصحابها أنه رأى مخطوطات، ونقل منها، وسمَّى بعضها، وأماكنها، مما ليس له في الحقيقة وجود، وهو -واللهِ الذي لا إله إلا هو- يعلم أنه كاذب في ذلك.

 

فهل سمع أحد في الدنيا بهذه المخطوطات وأصحابها؟!:

 

* «أسمى المسالك لأيام المهدي الملك لكل الدنيا بأمر الله المالك»([1358]) لكندة بن زيد بن بركة.

 

* «حرب آخر الزمان» لمحمد بن كريم الدين الأشهب.

 

* «القول الفصل في الحرب الأخيرة بين المسلمين واليهود» لخير الدين الكارم.

 

* «الحقيقة السجينة» لمهدي بن خياط.

 

* «نصيحة حكام آخر الزمان حماية من الديان» لخير الدين بن الريس.

 

* «آخر حرب في يهودا والسامرا والقدس» لحمدون الخيال.

 

هذه المخطوطات -وغيرها كثير- ذكرها محمد عيسى داود في كتابه «المهدي المنتظر على الأبواب» -على الترتيب- (ص 131، 118، 150-151، 152، 138، 206- حاشية).

 

وهذه العناوين مع مؤلفيها موضوعة مكذوبه، أسماؤها ركيكة، وهي من وضعِ مصريٍّ كذوب، والرجل مهووس في أخبار آخر الزمان، ويضع عناوين كثيرة على هذه الشاكلة، ويأبى الله إلاّ أن يفضحه، فقد حدد أماكن بعضها ليرفع عنه -عند السذج- الكذب، وأنى له ذلك، اسمع له وهو يذكر (ص 219) مخطوطاً للحداد بن داود بن عرفة بعنوان: «زاد الطالب إلى آخر المطالب»، قال: «في مكتبة روما»، وفي الصفحة نفسها: «سِلْم وحَرْب في آخر زمن الربّ» للحارث بن سلام بن معاذ بن مذحان المدني، قال: «في كتابخانة الترك بإسلامبول»، وفي (ص 242) مخطوطاً بعنوان: «آخر الكرة الأرضية من جهة الشمال.. في آخر زمن الربّ» لابن حرشل اليهودي الرومي، قال: «مخطوط بالفاتيكان»، و(ص 275): «خبر البرية في آخر زمن البشرية» لخير الدين بن علم حنين المدني، قال: «بمكتبة دار الإفتاء الإسلامية في أنقرة»؛ فالرجل مولع بالغرائب، يعشق الكذب والدجل، اسمع إليه (ص 153-154) وهو يذكر «مخطوطاً في غرفة البابا يوحنا السرية»، ويذكر (ص 183) من مخطوط بالفارسية لكسرى الثالث، ويذكر (ص 185-186) من مخطوط بمكتبة كارل جوستاف ملك السويد، لابن العربي، ويذكر (ص 197) من المخطوطات التي باعها الإيطاليون لـ(ربولا)، ويذكر (ص 160) مخطوطاً في القرن الرابع الميلادي!! لشاس بن كربل، ويذكر (ص 141) مخطوطاً -على حد تعبيره-: «نادر من المخطوطات الحبشية»، ويذكر (ص 119) مخطوطاً بالمكتبة العراقية الكبرى للمناوي بن عرفة، ويذكر (ص 62) مخطوطاً بمكتبة أغادير العامّة بالمغرب لكاهن أرض الجزيرة، هكذا إبهامات، وعماء في عماء، وأماكن دون تفصيل، ومخطوطات دون وصف أو أرقام، دون أسماء نُسَّاخ، ولا إحالة على فهارس الدور سواء الخاصة منها، أو الجامعة، ولم يذكرها أحد قبله، ولن يذكرها أحد بعده أبداً!

 

وتنكشف فضيحته على وجه التمام والكمال: لمّا ذكر في كتابه «المهدي المنتظر على الأبواب» (ص 210) أن مخطوط «سِلْم وحَرْب في آخر زمن الربّ» لتابعي من التابعين اسمه الحارث بن سلام بن معاذ بن مذحان المدني، وذكر أنه في القرن الثالث الهجري! وهذا -واللهِ- من بنات أفكاره، وآخر الصحابة وفاة سنة (111هـ)، فكيف يكون المذكور تابعيّاً، وهو في القرن الثالث هجري؟!

 

وذكر فيه (ص 119) مخطوطاً لتابعي آخر اسمه (الميناوي بن عرفة) المكنى بـ(ابن السر الأمين)! وهذا لا وجود له ألبتة.

 

ويا ليت الأمر اقتصر على الإكثار([1359]) من هذا الكذب، بل اخترع قصصاً لأُصول بعض هذه المخطوطات، أراني مضطراً لذكر واحدة منها([1360])؛ لتتيقن كذبه، قال في كتابه «المهدي المنتظر» (ص 58) على إثر حديث:

 

«هذا الحديث ورد فيما جاء عن المهدي في مخطوط اشتراه ملك السويد (كارل جوستاف) السادس عشر الحالي في مكتبةٍ بإنجلترا، خاصة بأحد المفكرين الإنجليز، وهو (G.H. ASRAEL) بعد وفاته، حيث بيعت مكتبته في مزاد!! وهذا المخطوط لعالم عربي قديم من القرن الرابع الهجري، واسمه (جاد المولى خير الدين الأمين) من أبناء المدينة المنورة...، وقد سرق مخطوطه أيام الحملة التركية على المدينة المنورة أيام الأشراف الحجازيين، وأخذه الأتراك إلى إسلامبول، وهناك سرق من مكان الأمين بمكتبة الباب العالي بواسطة يهود أعلنوا إسلامهم من قبل، ووصل إلى الكاتب الإنجليزي اليهودي الأصل، الذي حرّف من معلوماته الكثير، وحققه ونشر ترجمة له بالإنجليزية، كلها معلومات خاطئة ومزورة، وأراد الله أنْ تصل النسخة الأصلية إلى يد الملك السويدي (كارل جوستاف)، وفيها أمور كثيرة تمسّ مستقبل العالم الإسلامي، والملك يحتفظ بها في مكتبة قصره باستوكهولم.

 

ولكن حدث أننا اطلعنا على بعض مما جاء في هذا المخطوط أثناء مكاتبات بين إدارة المخطوطات العالمية -وهي مختصة بمتابعة أنباء التراث العالمي كله، وهي تابعة لهيئة الأمم المتحدة- وبين إدارة المكتبة الملكية في استوكهولم، وقد سُرِّبت مكالمة من خلال ثرثرة بعض المسؤولين في القصر الملكي السويدى معلومات هامة، والتقط المعلومات رجال سخرهم الله لخدمة دينه»([1361]). انتهى كلامه.

 

هكذا قصصه وأخباره؛ كلها عجائب، فيها صنع عقدة، ثم العمل على حلها، شأن القصّاصين والروائيين، بطريقة خيالية، ليس فيها ما يفيد الحقيقة، فجميع قصصه مدارها على «رجال سخرهم الله لخدمة دينه»، ومن خلالهم اطلع هذا الأفاك الأثيم على الغيب بواسطة هذه المخطوطات التي حوت الأخبار والآثار التي تنبئ عما يجري قرب الساعة.

 

نعم؛ هو لم يقتصر على النقل واعتماد (المخطوطات) المدّعاة! ولكنه اعتمد شيئاً أخطر بكثير من هذا، صرّح به في كتابه «احذروا المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودة» (ص 183)، قال: «قد يسأل قارئي الحبيب: وكيف اهتديت إلى كل هذه المعلومات بلا مصادر؟

 

وأقول: بل هناك مصادر، «فالقراءة الواعية»، ثم «استقراء الأحداث»، و«رفع درجات حدة الحدس والاستبصار»، ثم «التدبر»، و«التأمل»، ثم يصف هذه «المصادر» بأنها: «جهاز استقبال» لخواطر يمكن أنْ يقف أمامها التحليل العلمي والفلسفة عاجزين.

 

وكثير من «فكري» «ومضات من البرق»، و«استنارات فجائية» إن لم أتداركها بالتسجيل أو التدوين تصبح بدداً بلا بقاء» اهـ.

 

انظر -أخي الحبيب- مصادره، وتأمل جيداً؛ فإنك -إنْ فعلت- قلت: إن وراء الأكمة ما وراءها! وأحسن ما يصل إليه العاقل -إن تغافل عن بعض الحقائق- إنه على شاكلة الطرقيين والقصّاصين قديماً؛ ليتأكل بالدِّين([1362])، ويصطاد في الماء العكر -كما يقولون- السُّذَّج والمساكين فيصبحوا من قرّاءه!! الذين يُعَدّون بالملايين!!

 

فصل

 

فتنة العراق في كتب الفتن الحديثة

 

الذي يهمني -بعد ما سبق-: تركيز الضوء على أخبار (العراق) و(الفتن) من خلال هذه الكتب؛ ليحذر الناس منها، ولا سيما قد شاعت في المجالس العامة والخاصة، والصحف السيارة، والفضائيات، وشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، بحيث يخيل للناس أنّ (المهدي) على (الأبواب)، وهُيِّء (المناخ) لتفريخ (مهدي) موهوم، أو (منقذ) دجال، ولا يبعد -عندي- أنْ يشتد ذلك بمضي الزمان، ويظهر دجاجلة كثر([1363]) ............................... يزعم كل منهم أنه المهدي([1364])، أو (المخلّص)([1365])، ويتطابق ذلك مع ما في (مخيّلات) الضلال ممن هم منتسبون -زوراً- للإسلام، أو لغيره من الأديان، فالويل كل الويل -يومئذ- لمن لم يعتصم بالسنة والكتاب، والله الهادي والواقي.

 

فصل

 

جولة سريعة مع «هرمجدون»، وما هو على شاكلته،

 

وما ذكروه عن (فتنة العراق)

 

لست بصدد التحليل التفصيلي لظاهرة تعلق الناس بـ«هرمجدون»       -وأمثاله وما هو على شاكلته-، ولا لتفنيد ما في هذا الكتاب من (أباطيل)، والذي يخصني منه -الآن- موضوع (العراق)! ولست بمبالغ إنْ قلت: إنّ سبب انتشار هذا الكتاب ما جرى على أرض (العراق) من أحداث، وتسارع ذلك في وقت قصير!

 

ومن القواعد المقررة عند علماء الجرح والتعديل: (فضح الكذابين بالتاريخ).

 

قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: لمّا استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ([1366]).

 

وقال حفص بن غياث: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين([1367]).

 

وقال حسان بن زيد: لم نستعن على الكذّابين بمثل التاريخ([1368]).

 

وإنْ كان مراد العلماء في هذه الآثار وغيرها حِسْبَة سِنّ الراوي والمروي عنه، وكشف الزيف من خلال ذلك، كما حصل لعفير الكلاعي وإسماعيل بن عياش لما أظهر -كل على حدة- كذب راوٍ كان يحدث عن خالد بن معدان، ادّعى سماعه منه بعد موته بسبع سنين([1369])! فإنهم ألحقوا بهذا الصنف -كما قال الخطيب-: «إذا أخبر الراوي عن نفسه بأمر مستحيل، سقطت روايته»([1370]).

 

وإذا كان هذا فيما حصل ومضى؛ فمِن باب أولى أنْ يدخل تحته مَن تكهن بوقوع شيء على نَحْوٍ وحَالٍ وفي وقت معين، ثم لم يقع، أو وقع على حال آخر، أو على نقيض ما أخبر؛ فهذا هو الكذب المصحوب بـ(الكهانة)، ويعظم على قَدْر خطره وأثره في الأمة.

 

وسأسوق لك([1371]) جملة من (تكهنات) صاحب «هرمجدون»، نقل بعضها من (مخطوطاته) المدّعاة، وصرح ببعضها الآخر من خلال (رفع درجات حدة الحدس والاستبصار)، و(التدبر) و(التأمل)! لديه فيما يخص (العراق).

 

ذكر صاحب «هرمجدون» في مواطن منه أن (صدام حسين) -الرئيس العراقي المنخلع- هو السفياني، وأنّ له ذِكْراً في مخطوط: «أسمى المسالك لأيام المهدي الملك لكل الدنيا بأمر الله المالك»([1372])، وفيه -على زعمه- (ص 216): «وفي عراق الشام رجل متجبر... وسفياني في إحدى عينيه كسل قليل، واسمه من الصدام، وهو صدام لمن عارضه، الدنيا جمعت له في كوت صغير، دخلها وهو مرهون، ولا خير في السفياني إلاّ بالإسلام، وهو خير وشر، والويل لخائن المهدي الأمين».

 

يعلق صاحب «هرمجدون» (ص 22) على هذا النص بقوله:

 

«وفي هذا النص ذِكْر اسم حاكم العراق الجبار بالتحديد اسماً ووصفاً أنه السفياني، وسيأتى مزيد من أوصافه في البيان الخاص به، وفيه أنه دخل الكويت، وهو مخدوع قد مُكر به وخُدِعَ حتى يغزوها؛ فيتخذ الروم ذلك ذريعة لما فعلوه وسيفعلوه، والسفياني صدام هو السفياني الأول، وسيليه السفياني الثاني المُشَوّه وهو ابنه، والذي يعمل برصيد أبيه كما سنبين ذلك    -بإذن الله-.

 

والسفياني (صدام) فيه خير وشر؛ فإذا ظهر المهدي ذهب عنه كل خير، وكان شرّاً كله، وحارب المهدي مما يجعل المهدي يأمر بقتله، وتخليص الناس من شره».

 

فواضع النص المنسوب لـ«أسمى المسالك» أذكى من المعلّق عليه، إذ في كلام المعلق تفصيل يكذبه الواقع، اللهم إلاّ إن كانت (أمريكا) هي المهدي عنده! فإذاً صدام حسين عند هذا هو (السيفاني) يُقتل بأمر المهدي، ويخلص الناس من شره، فلننظر إلى تفصيل ما سيقع على يديه، إذ أجمل البداية والنهاية! وفصّل فيما بينهما، قال (ص 24) تحت عنوان: (ضرب قوات التحالف للعراق، ثم حصاره في الجولة الأولى من الحرب العالمية) ما نصه:

 

«الحرب العالمية الثالثة «هرمجدون» لها جولتان، بل جولات؛ الأولى:

 

ضرب العراق بقوات التحالف (الجماعة)؛ 37 دولة تضرب العراق!!!

 

ثم ماذا؟

 

لم يهزموا العراق؛ فنظامه باقٍ، وشعبه ما ازداد لرئيسه إلاّ حبّاً مع غزارة الدم المهراق، فقد فشل التحالف في تحقيق أهدافه من القضاء على صدام ونظامه، وتركيع شعب العراق، ولعمر الله! إنّ هذا لنصر كبير للعراق في الجولة الأولى من الحرب العالمية الثالثة، والتي لم تنته بضرب العراق بكل أنواع السلاح المتاح، بل هي مستمرة منذ ذلك الحين بحصار لعين وغارات يومية حمقاء لم تنجح في تركيع الشعب العراقي، ولا في إذلال كبرياء نظامه وقيادته.

 

واعلموا أنّ هذا الحصار المستمر لن ينتهي حتى تبدأ الجولة الثانية من الحرب العالمية، والتى سيكون للعراق فيها صولة وجولة في إشعال نارها.

 

وإليكم ما جاء في ذلك من نصوص...».

 

وساق أحاديث من بينها الحديث الذي ذكرناه: «يوشك أهل العراق أنْ لا يجبى إليهم...»، ولا صلة للنصوص التي ساقها بالأحداث التي سردها، ثم قال:

 

«أما دليل أنّ الحرب الثالثة العالمية هي جولات؛ فما رواه نعيم بن حماد في «كتاب الفتن» (ص 178) بسنده عن خالد بن معدان، قال:

 

«يهزم السفياني الجماعة مرتين ثم يهلك».

 

فهذا التحالف الحديث الذي حشدته أمريكا كَرَدّ فعلٍ للتدمير الذي تعرضت له في نيويورك وواشنطن، لا بد وأنه سيضرب العراق مرة أخرى بعد الانتهاء من ضرب أفغانستان بحجة ملاحقة الإرهابيين، والقضاء على الإرهاب.

 

وهذه المرة سَيُهْزَم التحالفُ كذلك كما هُزِمَ أول مرّة، وسيفشل في تحقيق أهدافه للمرة الثانية، وهنا ينفجر الموقف، وتتسع دائرة المواجهات حتى تعرك المنطقة كلها عرك الأديم، في الجولة الأخيرة من أعنف حروب التاريخ»!

 

قلتُ: ليس صاحب «هرمجدون» بموفق، لا في الدليل، ولا في طريقة الاستدلال، ولا في تكهنه، وأُصِيب بالهزيمة([1373]) كعادته فيما يستشرف؛ فهو كثير الأغلاط، بل أغلاطه غريبة لها مجمع ومكان تصبُّ فيه، ولا نشتغل بتبين الغلط والكذب في نقله السابق، ولكن لا نسمح له أنْ يسْرَحَ فيما يخوض فيه إلى أنْ ينفد ما في جعبته في هذا الموضوع، ونكتفي بلفت نظره إلى أنه لا تنقذه من ورطته في سائر كتبه موافقة طائفة من السذج له!

 

وذكر (ص 49) -بعد أنْ قرر أنه كان حريصاً في كتابه السابق «عُمْر أمة الإسلام» ألاّ يتورط في تنزيل الأحاديث على الواقع- قال: «أما الآن -وبعد أن أصبح الناس كلهم، أو جلهم يتوقعون حروباً وملاحم، تتجمع أسبابها وتتسارع وتيرتها، وتكاد تدق الأبواب-؛ فإني لا أجد غضاضة، ولا حرجاً في ذكر ما أعلم وتنزيل الأحاديث على الواقع، بل أستطيع أن أُقسم على ذلك»([1374])، وتأمل تنزيله (السفياني) على (صدام)، ومستنده في ذلك، قال:

 

«إنني أظن أن حاكم العراق الحالي «صدام حسين» هو ذلك الرجل الملقب بالسفياني في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

 

والسفياني هو الذي يمتد نسبه إلى خالد بن يزيد بن أبي سفيان؛ فهو أموي وأمه كلبية، فأخواله من قبيلة كلب، وقد سكنت قبيلة كلب بشمال دجلة، والمعروف أن (صدام) من محافظة «تكريت» بشمال دجلة.

 

* ولكن ما الذي حملني على هذا القول؟

 

قرائن كثيرة تجمعت لي فتشابكت فصارت عندي حقيقة أو تكاد، ولولا أنني على يقين من أمري ما تورطت في أمر كهذا...».

 

ونعت قوله -هذا- بأنه: «مسبوق فيه غير سابق، وحَمَلَه عليه قرائنُ كثيرة لا تقصر بمجموعها عن إفادة العلم الظني».

 

قلتُ: لي تعليق مجمل وآخر مفصل.

 

أمّا المجمل؛ فهو ينطبق على جُلِّ ما نقلناه عنه آنفاً ولاحقاً، وهو كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية على واحد من المخرفين، قال مبيناً عوار مسلكه الجملي:

 

«هو كلامُ مَنْ نَظَرَ في كلام شارحي الحديث، ولم يميز بين حق ذلك وباطله، وأخذ من ذلك ما ظنه موافقاً لدعواه، فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها، ولا له معرفة بطرق الاستدلال، فلا ذاكر لكلام منقول، ولا مبين لمعنى مقبول، ولا نقل ولا توجيه، لا ذكر ولا أثر»([1375]).

 

وأما التعليق التفصيلي؛ فألخصه في النقاط الآتية:

 

أولاً: الظنّ ليس بعلم، ويحتفظ به صاحبه حتى يتحقق، وإلاّ؛ فالعلم فضّاح للأدعياء.

 

ثانياً: كتابك قائم على هذه الأحداث على التصور المذكور، وذكرت الظن هنا، ولكنه أصبح في (البيانات اللاحقة) يقيناً، ودَارَ الكتابُ بجملته عليه، وبسقوطه يسقط تسلسل الأحداث، ويتغير مجراها، ويحتاج إلى بيانات على نحو جديد، ولكن -لعله- في (مسلسل آخر) فريد، أو منقّح مزيد.

 

ثالثاً: مستنده فيما ذكره من آثار في صفة السفياني، أوردها (ص 54) من كتابه؛ هي:

 

ما أخرجه نعيم بن حمّاد في «الفتن» (رقم 814) بسند ضعيف جدّاً عن الحارث الأعور، قال: «يخرج رجل من ولد أبي سفيان في الوادي اليابس في رايات حمر، دقيق الساعدين والساقين، طويل العنق، شديد الصفرة، به أثر العبادة».

 

وهذا فيه ابن لهيعة، ومحمد بن ثابت البناني، وهو كلام لرافضي صحت عنه أقوال خبيثة‍‍‍‍‍‍([1376])!

 

وما أخرجه نعيم -أيضاً- (رقم 812) بسند مُظلم عن جعفر بن علي، قال: «السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان؛ رجل ضخم الهامة، بوجهه آثار جدري، وبعينه نكتة بياض، يخرج من ناحية مدينة دمشق، في وادٍ يقال له: وادي اليابس، يخرج في سبعة نفر مع رجل منهم لواء معقود، يعرفون في لوائه النصر، يسيرون بين يديه على ثلاثين ميلاً، لا يرى ذلك العلم أحد إلاّ انهزم».

 

يا هذا! ماشأننا بهذا الباطل؟! وكيف يروج على الناس؟! اقرأ -أخي الكريم- وإياك أنْ تعجب؛ فالعجب لا حدّ له عند من يقرأ بتأمل! أو يعامل ما يقرأ على أنّه يقبل الرد، فكيف إنْ علم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنّ عقول الناس تنتزع عند الفتنة([1377])، وانظر إلى مصداق ذلك ما في «هرمجدون» (ص 52-53): تحت (الصفات الواردة في الآثار المشتركة بين «السفياني»، و«صدام») أنه:

 

- ضخم الهامة (كبير الرأس)، وهو كذلك فعلاً.

 

- بوجهه آثار جدري (نكت أو ندوب في وجهه).

 

- بعينه نكتة بيضاء وكسل قليل.

 

- يميل لونه إلى البياض مع الصفرة.

 

- جعد الشعر.

 

- دقيق الساعدين والساقين.

 

(وأخبرني([1378]) من رآه أن ساعديه دقيقان مفتولان)، وهذا كله كذب؛ فالسفياني لم يصح فيه حديث كما قدمناه عن أئمة الصنعة الحديثية، وأسانيد هذه الآثار مظلمة وواهية، وهو يأخذ منها ما يحلو له، فأسقط من الأثر الثاني عن عمد: «يخرج من ناحية مدينة دمشق...» إلى آخره، وهنالك في الكتاب نفسه أخبار عن السفياني أهملها، ويمكن أن يُتَخَيل من خلالها مسلسلات أخرى، ولا أستبعد أن يخرج علينا واحد في قابل الأيام بشيء من ذلك.

 

ومما يلفت النظر: إهماله صفة «به أثر العبادة» مع وروده في الأثر، وفي نقله له -أيضاً-وكان ينبغي أن يحذفه- على منهجه فيما وقع له في مواطن مما هو شبيه به، ونسأله بسبب إيراده له -فحسب-: ما هو نصيب (صدام) من هذه الصفة؟! ولا يفوتنا أن نسأله -أيضاً-: أين الرايات الحمر، ومن هم السبعة نفر، وأين هو العَلَم، وكيف يصح الاستدلال بجزء من أثر، وتركه الجزء الآخر؟!! هذا هو التشهي والتحكم عند العلماء، وإلاّ؛ يمكن أنْ يقال: إنّ هامة صدام كسائر الناس، وأين الجدري في وجهه، والنكتة في عينه؟! مكابرة في المرئي، وبتر في اللفظ، وتزوير في المعنى، والقراء هم الضحية! ولا تنسى أنه يرى (أمير الكويت) هو من بني أُمية([1379]) -أيضاً-، وهذا اكتشاف خطير، لعله كان يساعد على إعادة اللحمة بين (صدام) و(أمير الكويت)؛ فهما من أسرة واحدة، ولا داعي لما حصل!!

 

وأحداث (العراق) عند صاحب «هرمجدون» لا تنتهي، بل الحروب    -كما صرح فيه (ص 64)-: «جولات، بدأت بضرب العراق، وتنتهي بالملحمة الكبرى»، وأعاد ذلك (ص 68).

 

وأكدّ (ص 70) على أنّ: «ظهور المهدي بعد سنتين أو ثلاث على الأكثر من اليوم، وهذا ما نرجحه، والله الموفق».

 

قلتُ: وهو -سبحانه- مُوعِدُ الكذابين بالخزي والعار، ومضت المدة التي حدّدتها يا أمين، فماذا تقول؟! وكيف تسوغ هذا الإسقاط، وكذا قولك بعدها (ص 76) فيما يخص موضوعنا:

 

«وقلنا: إنّ المهدي يبايع له عند الكعبة في مكة المكرمة، وعلامة ظهوره الأكيدة أنْ يخسف بذلك الجيش الذي يرسله السفياني (صدام) للقضاء على المهدي، بمجرد ظهوره، كما جاء في أحاديث متفق عليها في «الصحيحين»» انتهى بحروفه.

 

قلتُ: السفياني أحاديثه موضوعة، ولا ذكر له في «الصحيحين»، ولا في دواوين السنة المشهورة، وقد قدمنا كلام الحفاظ عنه، فلماذا هذه المداخلات بين النصوص، والإسقاطات على ما رسم لك؟! أما تعلم أنّه (لا أمير في العلم إلاّ العلم)، وأن مِن أحسن حسناته أنّه فضّاح للأدعياء؟! أما كنت تتوقع -يا مُسَيْكِين! ولو بالحدس والاستبصار والتدبر والتأمل-كعادتك التي ادعيتها- أنّ عجلة الأحداث تدور على خلاف ما في مخيلتك؟! أَمَا وقد حصل ذلك؛ فما هو جوابك؟ قل لي بربك: أين وجهك بين الناس، وصوتك في المحافل، وصورتك عند قارئيك الذين تهافتوا على ما خطت يداك؟! أرجو أن تصرح بالتوبة عن الإسقاطات التي وقعت منك، أو مُرِّرَت من خلالك!

 

وليس صاحب «هرمجدون» أحسن حظّاً من غيره من الخائضين في (أحداث العراق) و(الفتن) التي جرت حديثاً على أرضها!

 

وهذه جولة توضح لك اضطراب هؤلاء القوم، وأنهم يتكلمون بجهل، ويدونون ما سيقع بمجرد ما يُلقَى في (إلهاماتهم)! ويسنح في (خيالاتهم)، ويخوضون في ذلك بأكاذيبهم وترّهاتهم.

 

نقل سعيد أيوب في كتابه «المسيح الدجال قراءة سياسية في أصول الديانات الكبرى» (ص 317) عن كعب الأحبار، أنه وجد المهدي مكتوباً في أسفار الأنبياء: «ما في عمله ظلم، ولا عيب».

 

قال عقبه: «وأقول: وأنا أشهد بأنني وجدته مثل ذلك». نعم؛ هو -على زعمه- يعرفه جيداً، ليس في عمله ظلم ولا عيب، فكأنه جليسه وخليله، ولكن كيف، هذا مصري، و(المفاجأة) أنّ (المهدي) عنده (صدام حسين) العراقي! ويجب عليك أنْ تقبل ذلك منه دون أي نقاش، فهي (حقيقة) قال عنها (ص 172):

 

«أتوجه بها للذين لم يقتل التراث فيهم متابعة الواقع؛ فالمسلم مطالب بأنْ يسير ويرى، ولا يفصل حسه عن الوجود»، وهذه مقتطفات من كلام طويل له عن (الآشوري) -وهو المهدي عنده-.

 

صرح (ص 317): «ستكون عاصمة عمله القدس وما حولها، وسوف يدخل الغرب في دين الشرق، ويأتي إليه الشباب من كل مكان ليعملوا تحت إمرته، وأنه سيملك قوة دعائية جبارة»([1380]).

 

قال (ص 164) عن حدود دولة (الآشوري) -هذا-: «الفرات هو الحدّ الطبيعي بين اليهود والآشوري»، وقال عن مهمته في الصفحة نفسها:

 

«يد الله! هي التي ستضرب بواسطة الآشوري، وسيكون هو عدو إسرائيل آخر الزمان»، ونقل ذلك عن كتب أهل الكتاب!

 

هذه مراجعهم! تصريحات الساسة، وأخبار الجرائد، وكتب الرافضة: الجفر،... وكتب اليهود([1381]) والنصارى، ويصبح ذلك من المسلمات البديهيات!

 

وبناءً عليه؛ فالأخبار عندهم مفصّلة جدّاً -وهذا الذي يجعل العاقل يتحسب ويتخوّف-؛ فاسمع إلى حلفاء هذا (الآشوري)؛ لتعلم الكذب والجرأة:

 

قال (ص 166): «ستكون القوّة داخل حلفه مكوّنة من: إيران، وسوريا، وليبيا، والسودان، وصور (جنوب لبنان)، وشعوب منطقة الشرق الأدنى، وقبائل بحر قزوين، والبحر الأسود، والإسماعيليين، والهاجرين».

 

وأما عن (جنده) وصفاتهم، قال (ص 164):

 

«شعبه قوي، لم يكن له نظير من الأزل([1382])!! ولا يكون بعده، قدامه نار تأكل، وخلفه لهيب يحرق، وأمامه جنة عدن (أي: الشهادة)، يجرون كالأبطال، رجال حرب، يمشون كل واحد في طريقه، ولا يغيرون سبلهم، ولا يزاحم بعضهم بعضاً، وبين الأسلحة يقعون ولا ينكسرون».

 

حقّ لصدّام أنْ يقع في بلبلة، ولعله -في يوم من الأيام- كاد أنْ يصدق بذلك([1383])؛ إذ أعلن أنه من أهل البيت، وكان ذلك قبل غزو الكويت، وكان يردد -دائماً- عبارة: «سأحرق نصف إسرائيل»، ونقل ابن أيوب عن (الآشوري)   -المهدي الذي يراه- (ص 168):

 

«إنه هو الذي سيستخدمه الرب في القضاء على الشعب اليهودي، وسيحتل الآشوري نصف إسرائيل في أول أيامه»، ويعلق ابن أيوب على (نصف إسرائيل)([1384]) بقوله:

 

«ومن سير الأحداث؛ فإنّ هذا النّصف هو الضّفة الغربية، وقطاع غزّة، مروراً بصحراء النقب المتاخمة لسيناء»!

 

* وقفة مع بعض كتابات فاروق الدسوقي في فتنة العراق

 

قال أبو عبيدة: نترك هذه الجولة دون تعليق، ونأتي لجولة ثالثة، شبيهة بالأولى!

 

وهذه الجولة هذه المرة مع الدكتور فاروق الدسوقي في كتابه «البيان النبوي بانتصار العراقيين على الروم والترك، وتدمير إسرائيل وتحرير الأقصى»([1385]).

 

واغوثاه! هكذا بجزم وحسم: (انتصار العراقيين)! و(تدمير إسرائيل!)   -ويا ليت الأمر كان كذلك- ألم يكن بوسعه أن يختار لمسلسله -عفواً لكتابه- غير هذا الاسم؟!

 

لماذا هذه الجرأة على الغيب؟!

 

ألم يكن بتصوره أنْ تدور الأحداث على خلاف بيانه الذي نسبه للنبي صلى الله عليه وسلم؟!

 

لو كان البيان بيانه؛ فهذا شأنه، مع أنه لا يليق([1386]) بصاحب الكتاب الجيد «القضاء والقدر» المطبوع في ثلاثة أجزاء! أما أن ينسبه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فواللهِ إن هذا هو الكذب الصراح؛ فقد انقشعت الغيمة، وذاب الجليد، وظهرت الخيبة، فيا حسرة!

 

قرّر فيه -بالاعتماد على مصادره- «السفياني سينتصر على كل من يُحاربه، ويملك بعد دخول فلسطين، وتحرير القدس مثل مُلْكِ بختنصر ملك بابل القديم، الذي حكم المنطقة كلها».

 

ثم يقول فيه (ص 84) بناءً على هذه المقدمة، ومقدمة أُخرى هي: (السفياني) هو (صدام)، لتعلم المسافةَ الشاسعةَ بين الحقيقة وتوقعه حكمَ المنطقةِ كلِّها -هكذا دون استثناء-:

 

«فهل هذا هو مُلك الرئيس العراقي صدّام حسين، جابر قلوب الأمة الإسلامية المنكسرة، الأزهر، سليل الفاتحين، محرر القدس في زمان الإفسادة الأخيرة؟ المبعوث من شاطئ دجلة (تكريت) ليطهر بمائه القدس من رجاسات اليهود؟».

 

ويقول -أيضاً- (ص 20):

 

«فهو -أي: السفياني- من أعظم شخصيات التاريخ الإسلامي؛ إذ يأتي في زمن ضعف الأمة وذلها، فيعزها الله -تعالى- على يديه بتحرير الأقصى، وتطهيره من رجس اليهود، ومن ثم جاء وصفه بأنه «الجابر» الذي يجبر الله  -تعالى- على يديه قلوب أمة الإسلام المنكسرة، كما جاء وصفه بأنه (الأزهر) لعلوّ نجمه».

 

قال -فُضّ فوه-: «وهذا كله ينطبق على الرئيس العراقي صدام حسين».

 

ولذا أهدى كتابه إليه، فقال (ص 5): «إلى فخامة الرئيس العراقي صدام حسين، أيها الجابر، أيها الأزهر، قائد أولي البأس الشديد».

 

قلتُ: انتهى الموجُ، ووصل إلى حالة الجزر، وزالت الظُّلَّةُ([1387]) التي تكون مع الفتنة، وركبتَ يا دسوقي! الموج في أوجه في حال مدِّه، وظهرت للعُميان الحقائق، فهل يا ترى نقرأُ منك توبة، أو يُنهى إلينا عنك تراجعٌ علميٌّ، وتحريضٌ للنشأ في أن لا يخوض في الفتنة بلا عدّة، والله إنّ الكلام السابق في ميزان الشرع الصحيح فتنة ما بعده فتنة! ولا سيما من أمثال الدكتور الدسوقي الذي كنا نحسبه على خير من قبل.

 

علماء الدين يا ملح البلد

 

 

 

مَن يُصلح الملح إذا الملح فسد

 

* مع كتاب «القيامة الصغرى على الأبواب»

 

هذا كتاب آخر للدكتور فاروق الدسوقي، أنقل منه فقرات عن (العراق)، و(الفتنة):

 

«ولقد أذعنت أكثر الناس وأقوى الدول المشركة لهم -أي: لليهود-، كما أذعن لهم كثير من دول الأمة الإسلامية -إلاّ من رحم الله عزَّ وجلَّ-، وعلى رأسهم العراق البطل، الذي هاجمته قوى الشر مجتمعة لمدة أربعين يوماً من 16 يناير 1991م حتى 25 فبراير 1991م لسحقه، ولكنه خرج       -بفضل الله تعالى- رافع الرأس، وستقوم الجولة الثانية من هذه الحرب -بعد الحصار القاسي- لكي يدمروا الجيش الوحيد الذي يشكل خطراً عليهم، لكن الله -عزَّ وجلَّ- سيخزيهم بدخول العراقيين أولي البأس الشديد المسجد عليهم {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتْبِيراً} [الإسراء: 7]».

 

ما شاء الله! مغالطات وظلمات!! (صدام) لم يذعن للمشركين واليهود!!!

 

لو كان ذلك كذلك؛ فلماذا يا دسوقي؟! ألعزّته بالله ورسوله؟! أم لشيء لا يخفى على أحد؟! والأمور بخواتيمها، وعَلِمَ الجميع ماذا حلّ بالعراق، وأنه عاد محتلاًّ كفلسطين، أعادهما الله إلى حظيرة الإسلام والمسلمين.

 

وكلامه السابق خطأ مكشوف، ظهر لكل ذي عينين، سببه عبثه بالنصوص التي جاءت في ذكر أشراط الساعة، من مثل قوله (ص 271):

 

«وأخرج البخاري -رحمه الله- عن الحشر نحوه عن أبي هريرة مرفوعاً: «يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا».

 

قال فاروق الدكتور فيما لم يسبق إليه، وهي فلتة بسبب ظروف سياسية عامة، ونفسية خاصة، اعتراها غموض، مما جعله يفسر هذا الحديث بقوله:

 

«وهذه الرواية أوضح تصوراً، وهي مطابقة لِمَا حدث في الحرب العالمية العراقية الأخيرة؛ لأنّ الحديث وضّح أنّ الناس خرجوا صنفين:

 

راهبين؛ وهم أهل الكويت الذين لم يخرجوا من بلادهم إلاَّ خوفاً.

 

وراغبين؛ وهم الذين كانوا يعملون في الكويت من بلاد أخرى، فهم راغبون في الوصول إلى أهليهم وأوطانهم.

 

واثنان على بعير؛ أي: يركبان سيارة خاصة، وثلاثة -أيضاً-، وأربعة، وهذا مما تحتمله السيارات الخاصة، وبعد ذلك عشرة على بعير إشارة إلى السيارات الخاصة الكبيرة مثل «الجيمس»، وما في حجمها إذ تحمل عشر ركاب»([1388]) انتهى.

 

قال صديقنا أبو العينين -حفظه الله تعالى-:

 

«فانظر إلى تحريف كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «على بعير»، وهو يقول: على سيارة.

 

وأما قوله: «والدليل على صحة هذا الفهم أنّ البعير لا يمكن أنْ يركبه عشرة، كما لا يمكن أنْ يركبه أربعة، ولما كان البعير هو وسيلة السفر قديماً، وحلّت السيارات محله؛ ذكر البعير كناية عن السيارات الحديثة».

 

قلت: هذا -كما يقولون- عذرٌ أقبح من ذنب؛ فإنّ اعتراضه على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم البعير بكون العشرة لا يمكن أنْ يركبوا على بعير، فكلام ساقط؛ لأنه يقيس على حالة الاختيار، وهم في حال خوف وهلع، فالواحد منهم كالغريق الذي يتعلق بأي شيء حتى ولو بقشة، ويحتمل -أيضاً- أنهم يتعاقبون عليه؛ فتدبر!!»([1389]) انتهى.

 

وفي (ص 247)، قال: «جاء في «كشف الأستار عن زوائد البزار» ما نصه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذهب الدنيا حتى تكون رابطة من المسلمين بموضع يقال له: بولان، حتى يقاتلوا([1390]) بني الأصفر، يجاهدون في سبيل الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، حتى يفتح الله عليهم قسطنطينية، ورومية بالتسبيح والتكبير؛ فيهدم حصنها، وحتى يقتسمون المال بالأترسة، يصرخ صارخ: يا أهل الإسلام! قد خرج المسيح الدجال في بلادكم ودياركم، فيقولون: من هذا الصارخ؟ فلا يعلمون من هو، فيبعثون طليعة تنظر: هل هو المسيح؟ فيرجعون إليهم فيقولون: لم نر شيئاً، ولم نسمعه، فيقولون: واللهِ إنه والله ما صرخ الصارخ إلاّ من السماء أو من الأرض، قالوا: نخرج بأجمعنا، فإنْ يكن المسيح بها نقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه، وهو خير الحاكمين، وإنْ تكن الأخرى؛ فإنها بلادكم وعساكركم وعشائركم رجعتم إليها»([1391]).

 

قال الدكتور: «فإذا ثبت([1392]) لنا بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ هذا الحدث هو معركة الكويت التي هي الحرب العالمية الثالثة؛ فإننا الآن نكون يقيناً في انتظار الزلزال العظيم الذي هو علة الخسوف الثلاثة التي هي الآيات الثلاث الأولى من الآيات العشر».

 

قلتُ: يظهر في تفسير الدكتور لهذا الحديث -مع ضعفه- أثر الفكرة التي ذكرها في مقدمة كتابه([1393])، وهي أنّ حرب الكويت مذكورة في السُّنة، حتى إنه لم يلتفت أو لم ينتبه إلى ما ينقض تفسيره للحديث في الحديث نفسه؛ فإنّ الحديث ناطقٌ بأنّ القتال الدائر بين المسلمين والنصارى يُسفر عن فتح القسطنطينية وروما -عاصمة إيطاليا- بالتسبيح والتكبير، ويكون ذلك في عهد المهدي -الذي يظهر في عهده الدجال- كما هو مذكور في الحديث -أيضاً-، فأين هذا من حرب الكويت التي مضى عليها أكثر من أحد عشر عاماً، ولم يحدث شيءٌ من ذلك، ولكنها سيطرة الفكرة على صاحبها، والله المستعان.

 

وفي (ص 256) قال: «عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون رجل من بني أمية بمصر يلي سلطاناً، ثم يُغلب على سلطانه، أو ينزع منه، فيفر إلى الروم، فيأتي بالروم إلى أهل الإسلام، فتلك أول الملاحم»([1394]).

 

ثم قال: «فقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون رجل من بني أمية بمصر يلي سلطاناً»؛ أي: بمصرٍ من الأمصار، وليست مصر النيل، أما كون حاكم الكويت وأسرته من بني أمية؛ فإنه من الثابت أنهم من عنيزة، وهذه الأخيرة قد سكنها الأمويون.

 

قوله صلى الله عليه وسلم: «... ثم يغلب على سلطانه، أو ينزع منه» إشارة إلى زوال هذا السلطان عنه بالقوة، وهذا هو ما حدث لحاكم الكويت بغزو العراق لبلده، إذ صار لاجئاً بلا سلطان...» إلى آخر ما قال.

 

فانظر تكلفه وتعسفه في حمل الحديث على وقعة الكويت لسيطرتها عليه؛ فالحديث أولاً ضعيف لا يعتمد عليه، وهو لا يبالي بذلك، ثم في الحديث أنّ ذلك الحاكم على مصر، فيقول: (بمصر: بلد من البلدان، وليست مصر النيل)، ثم يتجاسر على نسبة حاكم الكويت جابر الصباح إلى بني أمية، مع أنّ هؤلاء من العرب، وأنسابهم محفوظة، ولم يدّعوا ذلك في أنفسهم، لكنها الفكرة عند الدكتور! تدفعه ليقول لهم: (أنا أَعرَف بنسبكم منكم، أنتم من بني أمية).

 

ثم في الحديث ما ينقض كلامه من أصله في قوله: «فيأتي بالروم إلى أهل الإسلام، فتلك أول الملاحم»؛ فالملاحم هي التي تكون في عهد المهدي الذي يظهر في عهده الدجال، ثم عيسى ابن مريم؛ ففي «صحيح مسلم» (2897): عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق -أو بدابق-؛ فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم؛ فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إنّ المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يُسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته».

 

وروى مسلم عن ابن مسعود مرفوعاً نحو هذا المعنى.

 

وروى الإمام أحمد (4/91) عن ذي مخمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تصالحون الروم صلحاً آمناً، وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم فتسلمون، وتغنمون، ثم تنزلون بمرج ذي تلول، فيقوم إليه رجل من الروم فيرفع الصليب، ويقول: ألا غلب الصليب، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله، فعند ذلك تغدر الروم، وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم، فيأتونكم في ثمانين غاية، مع كل غاية عشرة آلاف».

 

ورواه أبو داود (4292)، وابن ماجه (4089) وغيرهم.

 

قلت: إسناده صحيح.

 

ففيه أنّ المسلمين يقاتلون مع النصارى عدوّاً مشتركاً، ثم تغدر النصارى، فيكون القتال بين المسلمين والنصارى، فهل وقع ذلك بعد حرب الكويت؟!

 

لقد مضى على تلك الحرب المشؤومة أحد عشر عاماً، وما رأينا شيئاً من ذلك([1395]).

 

قال أبو عبيدة: الدسوقي واحد من عصابة تواطأت في شروحها على كون (فتنة السراء) غزو صدام للكويت! وإلى هنا تكون الفضيحة مستورة، وأما القول بانتصار صدام، وأنّ هذه الجولة هي الأولى من الحرب العالمية الثالثة، المسماة «هرمجدون»، كما في كتاب «هرمجدون» -أيضاً- (ص 19)؛ فهذا مما لا يقبله عاقل الآن.

 

* مع الهواة والمقلّدين

 

وقبل أنْ أترك التمثيل للتأصيل، أُراني مضطراً إلى التنويه بمراهقة فريق من الخائضين في الفتن، أُجِلُّ تلك العصابة عن قبولهم في صفوفهم؛ لأنّ هؤلاء ما زالوا في فترة الطيش والتدريب([1396])، أما أولئك فمنهم (الدهاقنة) و(الأساتذة)، وهم في تأصيلاتهم وأطروحاتهم عن الفتن (رأس الفتنة) و(حربتها)، التي خدمت أعداء الله كثيراً، علموا أو لم يعلموا!

 

وعلى رأس هؤلاء: فهد سالم في كتابه([1397]) «أسرار الساعة وهجوم الغرب»؛ فهو يعلن بصراحة، وعلى رؤوس الأشهاد تحت عنوان: (السيناريو([1398]) المحتمل لتسلسل حوادث الفتن)؛ فيقول (ص 141 وما بعد):

 

«في عام 1998 يُشغل الناس باللعب واللهو في أولميباد باريس، ثم تفاجئهم علامات الساعة الكبرى، وهم في غفلتهم يلعبون...

 

في 1/1/1999، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 15 رمضان 1419هـ، يتم ارتكاب العمل الكوني المفزع؛ وهو تفجير المسجد الأقصى، وفي نفس اليوم تصل طلائع القوات الغربية، وتنزل في الأردن، وتحاصر بيت المقدس».

 

ويقول (ص 136):

 

«بعد تفجير الأقصى مباشرة يتم دخول الجيوش الغربية الأردن وفلسطين، وتطوق القدس حماية لليهود، حتى يكملوا بناء الهيكل مكان المسجد».

 

ويكتمل مسلسله بما صرّح به (ص 84)؛ فقد زعم: أنّ المهدي يظهر في يوم الثلاثاء الموافق 25 محرم 1420هـ، ويحدد المدة بين ظهور المهدي ونزول عيسى -عليه السلام- بأنها ثمانية أشهر.

 

وزعم (ص 146) ما يلي:

 

في 1 ربيع الثاني 1420هـ، الموافق 14/7/1999م ينطلق صارو خ نووي من الخليج إلى أوروبا مستهدفاً الفاتيكان حسب الخطة المرسومة.

 

وزعم في الصفحة نفسها:

 

في أغسطس 1999م، الموافق 19 ربيع الثاني 1420هـ، تبسط إيران سيطرتها على معظم دول الخليج، وبعد ذلك يتم إلقاء قنبلة نووية أمريكية تدمر إيران بعد أن دمرت الخليج.

 

وزعم فيها -أيضاً- ما يلي:

 

في جمادى ورجب وشعبان (أي: 1420هـ) الموافق من شهر سبتمبر 1999م حتى نوفمبر؛ تبدأ الملحمة الكبرى من مقر قيادة المسلمين في دمشق تحت قيادة المهدي -عليه السلام-.

 

في 15 شعبان 1420هـ، الموافق 23 نوفمبر 1999م يخرج المسيح الدجال([1399]) بفتنته الكبرى؛ حيث يدعي الألوهية، ويظهر المعجزات لفتنة الناس.

 

وزعم في الصفحة التي بعدها (ص 147) أنه:

 

في يوم الجمعة 1/1/2000م، الموافق 25 رمضان 1420هـ تشرق الأرض بنور النبي والرسول العظيم عيسى -عليه السلام-، ينزل في القدس، والمسلمون بقيادة المهدي، يحاصرهم الدجال هناك.

 

يدعي أنّ عيسى -عليه السلام- ينزل إلى الأرض سنة 2000م، ثم يقول:

 

«وهذه النتيجة تكاد تتفق تماماً مع ما يعلنه ويبشر به أهل الكتاب عن طريق الحساب الموجود في كتبهم، وهو ما يعتقده كثير من الرهبان والقادة الكبار في العالم الغربي، وقد توصلنا إلى ذلك -ولله الحمد- عن طريق الاعتماد على أحاديث رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم!!

 

وعندما يراه الدجال؛ يهرب من القدس متوجهاً إلى أكبر مطارات إسرائيل، وهو مطار اللد الدولي، ولكن عيسى يلحق به قبل أن يقلع بطائرته، ويقتله قرب باب اللد».

 

ويدعي (ص 70):

 

أنّ وفاة عيسى -عليه السلام- ستكون عام 2007م، وأنّ نهاية عمر الدنيا ستكون -بإذن الله- عند طلوع الشمس من مغربها في عام 2010م.

 

وأمّا جرأته على تعيين شخصيات هذه الأحداث؛ فأمر عجيب:

 

فهو يرى أنّ «الأبقع» هو ياسر عرفات، وأنّ الرجل «المشوه» هو الشيخ أحمد ياسين -حفظه الله-، وأنّ «الأصهب» حافظ الأسد، وأنّ «السفياني» هو  ملك الأردن (الملك حسين)، الذي سيبعث جيوشه إلى العراق والمدينة([1400])، وأنّ «صدام حسين» سيقتل في الكوفة([1401])، وأنّ «عمر البشير» حاكم السودان هو الحاكم العادل المقصود بحديث: «يكون بأفريقية أميراً اثنتي عشرة سنة، ثم تكون بعده فتنة، ثم يملك رجل أسمر يملؤها عدلاً، ثم يسير إلى المهدي، فيؤدي إليه الطاعة، ويقاتل عنه» رواه نعيم بن حمّاد في كتاب «الفتن»([1402]).

 

ومن هذه المراهقة:

 

ما زعمه أبو محمد جمال بن محمد بن الشامي في كتابه «العالم ينتظر ثلاثاً» (ص 69-70) عن (الدجال) -وقال كلاماً هجراً-، ومما فيه مما يخالف العقل والمحسوس قوله:

 

«وجود صورة المسيح الدجال على ظهر فئة الواحد دولار»!!

 

وزعم مراهق آخر في (موقع القلعة العربي) بتاريخ 15/11/1421هـ، وسمى نفسه (نور الدين)! أنها ستكون أحداث بين أمريكا والصين في وقت قريب، وتنتهي بظهور المهدي من (تايوان)! هكذا... المهدي (تايواني)، قاتل الله الدّجالين!

 

فصل

 

في تفسير هذه الظاهرة مع الأدلّة

 

لا تفسير لهذه الظاهرة -على فرض صدق نوايا أصحابها- إلاَّ بما ورد في مجموعة من النصوص من نزع عقول الناس آخر الزمان عند هبوب الفتن.

 

أخرج أحمد (4/391-392، 406، 414) -واللفظ له-، والبخاري في «الأدب المفرد» (118) وفي «التاريخ الكبير» (2/12)، وابن ماجه (3959)، وأبو يعلى (7228، 7234)، ونعيم بن حمّاد في «الفتن» (1/30، 41 رقم 10، 11، 48، 68) بسندٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنَّ بين يدي الساعة الهَرْج»، قالوا: وما الهرج؟ قال: «القَتْل»، قالوا: أكثر مما نَقْتُل؟ إنا لنقتلُ كلَّ عام أكثر من سبعين ألفاً، قال: «إنَّه ليس بقَتْلِكُم المشركين، ولكن قَتْل بعضكم بعضاً»، قالو: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: «إنَّه لتُنزعُ عقولُ أهل ذلك الزمان، ويَخْلُفُ له هباءٌ من الناس، يَحْسَبُ أكثرُهُم أنّهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ».

 

قال أبو موسى: والذي نفسي بيده، ما أجدُ لي ولكم منها مخرجاً إن أدركتني وإيَّاكم، إلاَّ أنْ نخرُجَ منها كما دَخَلْنا فيها، لم نُصِبْ منها دماً ولا مالاً.

 

وعزاه الهيثمي في «المجمع» (7/324) للطبراني في «الكبير»، وقال: «وفيه من لم يُسمَّ»! وفاته العزو إلى أبي يعلى وأحمد!

 

قلتُ: الحديث له طرق، وهو صحيح، كما تراه في «السلسلة الصحيحة» (1682) تحت عنوان: (من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم).

 

وسبق([1403]) قول علي -رضي الله عنه-: «جعل الله -عزَّ وجلَّ- في هذه الأمة خمس فتن...» وذكر الأخيرة، وقال: «ثم تجيء فتنة سوداء مظلمة؛ فيصير الناس فيها كالبهائم».

 

ووصف حذيفة فيما ثبت عنه([1404]) هذه الفتنة بأنها: (دهماء مجلّلة)؛ فهي سوداء مظلمة، تدهم الناس جميعاً، يعتريها غموض وخفاء، فكأنّها غُطّت وجُلِّلت، من أشخص إليها، وتعجّل أحداثها، أذهبت عقله، ونسفته نسفاً.

 

أخرج عبدالرزاق في «المصنف» (11/359 رقم 20740)، ومن طريقه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/140، 177 رقم 343، 472) والطبراني، وعنه أبو نعيم في «الحلية» (1/273)، والحاكم (4/448): أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عُمارة بن عُمير([1405])، عن حذيفة، قال:

 

«إيّاكم والفتن؛ لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلاّ نسفته، كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة مقبلة، حتى يقول الجاهل: هذه تشبه...، وتبين مدبرة».

 

وهذا إسناد رجاله ثقات، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبدالله السبيعي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

 

فالفتنة: مظلمة، ودهماء، مجلّلة، مشبهة، مقبلة، تجعل الناس كالبهائم، والجاهل من الناس من يتعرض لإسقاط هذا النوع من الفتن على الأحداث، فتُشَبَّه عليه عند إقبالها بالذي يجري، وعند إدبارها تبين على حقيقتها! والسعيد من جنّبها، وحفظ عقله حتى يتبين ويتثبت؛ لأنها كالخمر.

 

أخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/274) عن حذيفة -رضي الله تعالى عنه-، قال: «ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة».

 

وتأمل قول أبي موسى على إثر ما رفعه في الحديث المتقدم قريباً: «والذي نفسي بيده! ما أجد لي ولكم منها مخرجاً إن أدركتني وإياكم إلاّ أن نخرج منها كما دخلنا فيها».

 

وهذا هو معيار السلامة منها، وأما من أُركس فيها، فعلامته:

 

ما أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/272-273) -أيضاً- بسنده إلى حذيفة على إثر حديث صحيح، قال: «... فمن أحب منكم أنْ يعلم أَصَابَتْهُ الفتنةُ أم لا؟ فلينظر! فإنْ كان يرى حراماً ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حراماً؛ فقد أصابته الفتنة»، وهذا ضابط كلي مهم، من خلاله يُعْرَفُ المفتونون، ويجب على العلماء وطلبة العلم النبهاء، والدعاة الصادقون العملُ على كشفهم، وتقويم اعوجاجهم، والتحذير من سمّهم.

 

فهم -كما في حديث أبي موسى- مَنْزُوعو العقول، و«يخلف لهم هَبَاء([1406]) من الناس»، وهم حثالة على كثرتهم -لا بارك الله فيهم، ولا رحم فيهم مغرز إبرة-، صفتهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يحسب أكثرُهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء».

 

فالفتن التي ستظهر آخر الزمان تُذهب عقولَ طائفة كبيرة من الرجال([1407])، وتصبح هذه العقول معوجَّة([1408])، لا اتّزان فيها، ولا عدل ولا إنصاف، تقتحم المهالك، وتخوض في الفتنة بالفتنة، دون علم ولا حلم، ورحم الله الحسن البصري القائل:

 

«إنّ الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»([1409]).

 

فـ«الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن تجيء تقارع المؤمن عن دينه» هكذا قال مطرف بن عبدالله بن الشخير، فيما أسند عنه أبو نعيم في «الحلية» (2/204) وغيره.

 

فغفل هؤلاء العابثون في أحاديث الفتن، الخائضون فيها للرُّكب عن هذه الحقيقة؛ فظنوا أنها جاءت لهدايتهم! وغفلوا عن أنها قرعت عقولهم، وأذهبتها وأضعفت دينهم وأوهنته، ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!

 

فصل

 

في تحليل هذه الظاهرة وتأريخها

 

في أجواء الحوادث الجسام، والفتن العاصفات، تتحفّز القوى النفسيّة لاسْتِكْناه الغيب، والوقوف على ما سيجري.

 

وفي السنة النبوية أحاديث صحيحة كثيرة عن الفتن، وفيها الكثير الكثير من الدّخيل، بل هذا النوع من الأحاديث (أحاديث الملاحم والفتن) كان سبباً لوضع الوضّاعين! لاشتراك الفتن مع الأسباب التي نشأ عنها الوضع؛ مثل: العصبية للفرق المبتدعه، وبعض البلدان أو الأشخاص، من حيث نصرة الآراء والدعاوى، أو الثلب في المناوئ، والرأي المخالف.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «منهاج السنة النبوية» (1/306-308):

 

«... وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، الموافق لصحيح المنقول، وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ووقعت الفتنة، فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة على حين فُرْقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»([1410]).

 

وكان مروقها لما حكّم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق.

 

وحدثت -أيضاً- بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلهية عليٍّ، والمدعين النص على عليٍّ -رضي الله عنه-، السابِّين لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-...).

 

ثم يقول -رحمه الله-: «فهاتان البدعتان؛ بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة.

 

ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية والمرجئة؛ فأنكر ذلك الصحابة والتابعون، كعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وواثلة بن الأسقع...».

 

لقد تمخضت الفتنة عن شيعة ينتصرون لعليٍّ -رضي الله عنه-، وعثمانية ينتصرون لعثمان -رضي الله عنه-، وخوارج يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية.

 

فلما لم تسعفهم نصوص القرآن الكريم والحديث دائماً، استباح بعضهم انتحال الكذب، ولجؤوا إلى الوضع في الحديث الذي تأخر جمعه عن القرآن الكريم، حيث ما دون منه حتى نهاية الخلافة الراشدة كان أقل بكثير مما لم يدون، فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء، وأولهم الشيعة إلى تحقيق أغراضهم، وكان أول باب طرقه الواضعون هو فضائل الأشخاص، ومثالبهم، ثم أوسعوا بعد ذلك في شتى المعاني»([1411]).

 

والحديث في الوضع والوضّاعين كثير، ومثله الكلام على القصص والقصّاصين، وأُفردت لذلك مصنفات، والذي يهُمّني منها -هنا- في تحليل ظاهرة انتشار الكلام على (الملاحم) و(الفتن) التي برزت أخيراً.

 

والتركيز على «الدور الذي لعبه القُصّاص في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان كبيراً، والقصص التي تنقل عنهم تشعر بذلك حتى أدى ذلك إلى اتهام غالب القُصّاص، حيث جمْعُ المال غايتُهم، والكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداتُهم ووسيلتُهم، ولقد رويت عنهم أخبار تحاكي الخيال، وحوادث تشبه الخرافات والأساطير»([1412]).

 

ومن الطرق التي ذكرها ابن حبان في مقدمة كتابه «المجروحين» (1/72) عن واحد منهم؛ ممن يختلق ويكذب، وعنده مستند في ذلك، قال:

 

«دخلت باجروان -مدينة بين الرقة وحران-، فحضرت مسجد الجامع، فلما فرغنا من الصلاة قام بين أيدينا شاب، فقال: حدثنا أبو خليفة، حدثنا الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى لمسلم حاجة فعل الله به كذا...» وذكر كلاماً طويلاً، فلما فرغ من كلامه، دَعَوْتُه، فقلت: من أين أنت؟ قال: من أهل بردعة. قلت: دخلت البصرة؟ فقال: لا. قلت([1413]): رأيت أبا خليفة؟ قال: لا. قلت: فكيف تروي عنه وأنت لم تره؟ فقال: إنّ المناقشة معنا من قلة المروءة، أنا أحفظ هذا الإسناد الواحد، فكلما سمعت حديثاً ضممته إلى هذا الإسناد فرويته، فقمت وتركته»([1414]).

 

وأخبار القُصّاص التي ذكرها علماؤنا([1415]) تعكس مدى تجرئهم على الله ورسوله، ووقوعهم في الكذب والتخرص، ولم يكتف هؤلاء القصاص بالقيام عقب الصلوات، وإراقة ماء الوجه والاسترزاق بالكذب حتى طرقوا باب التأليف وصناعة الكتابة في تنفيق كذبهم ونشر أباطيلهم؛ فقد ذكر ابن الجوزي أنّ قَصّاصاً معاصراً([1416]) له صنف كتاباً في تلك الترّهات، وذكر من كذبه: أن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو مشغول، فلما فرغ من شغله، رفع رأسه، فرآهما، فقام فقبلهما، ووهب لكل واحد منهما ألفاً، وقال: اجعلاني في حل، فما عرفت دخولكما، فرجعا وشكرا بين يدي أبيهما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقال عليٌّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر بن الخطاب نور في الإسلام، وسراج لأهل الجنة»، فرجعا فحدّثاه، فدعا بدواة وقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثني سيدا شباب أهل الجنة، عن أبيهما المرتضى، عن جدهما المصطفى أنه قال: «عمر نور في الإسلام في الدنيا، وسراج أهل الجنة»، وأوصى أنْ تجعل في كفنه على صدره، فوضع، فلما أصبحوا وجدوه على قبره، وفيه: صدق الحسن والحسين، وصدق أبوهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمر نور الإسلام، وسراج لأهل الجنة»([1417]).

 

ومن العجب أنْ تبلغ الوقاحة بمثل هؤلاء القصاص حتى يسودوا الصحائف بمثل هذا الكذب البارد، الذي يشير كل حرف منه على منزلة مؤلفه، وأعجب منه أنْ يتجرأ هذا الكاذب فيعرض كتابه على كبار فقهاء عصره ليكتبوا عليه تصويب ذلك المصنف، وصدق ابن الجوزي إذ يقول: «فلا هو عرف أن مثل هذا محال، ولا هم عرفوا، وهذا جهل متوفر عُلِم به أنه من أجهل الجهَّال الذين ما شمُّوا ريح النقل، ولعله قد سمعه من بعض الطُّرقيين»([1418]).

 

هذه بعض بصمات القُصّاص التي يظهر فيها الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوضع في الحديث، وقد تركت أثراً سيئاً على المجتمع مما استنفذ جهد السلف في كشفها وبيان عوارها، كما حصل -تماماً- في هذا الزمان مع هذه الدراسات العابثة الغُثائية، غير الجادة، واللا مسؤولة، ورحم الله ابن الجوزي لما قال:

 

«معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصّاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقلّ في هذا»([1419]).

 

قال: «وما أكثر ما يعرض عليَّ أحاديث ذكرها قصاص الزمان، فأرُدّها عليهم، ويحقدون عليَّ، فأُرسل أقول لهم: ما يتهيّأ لكم مع وجود هذا الناقد إنفاقُ زائف»([1420]).

 

قلتُ: هذا في زمان ابن الجوزي، والنقاد والعلماء متوافرون، وأما في زماننا، فواغوثاه! وقد امتنع شعبة بن الحجاج من تحديث القصاص، فلما سئل عن ذلك، أجاب بقوله: «يأخذون الحديث منّا شبراً فيجعلونه ذراعاً»([1421]).

 

وقال أيوب السختياني: «ما أفسد على الناس حديثهم إلا القُصَّاص»([1422]).

 

ومما يلحق بصنيع القَصَّاصين قديماً -إلقاءً وتصنيفاً- ما قام ويقوم به بعضهم من التنقير عن نصوص في كتب فيها تعدٍّ جريء على الغيب؛ مثل: «الجفر»([1423])، وكتب النبوءات، وما في الإسرائيليات، وإسقاطها على الواقع، دون وجود أدله صريحة صحيحة، وأمارات قوية رجيحة.

 

وصاحَبَ ذلك: شيوعُ المنكرات، وغربةُ الإسلام، وتحقُّقُ بعض ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي فيها ذكر الفساد الخلقي وغيره، والاضطهاد العالمي للمسلمين، والطمع في خيرات بلادهم، وتدهور حال الأمة، وتداعي الكفار عليهم؛ ففزع فريق من الناس -مع قلّة ضبط، وكثرة خبط- إلى أخبار يبحثون فيها عن حَلٍّ، وخروج من الأزمة!

 

وليس هذا الأمر وليد هذا العصر، بل هو قديم! وكم من راوٍ فضح أمره بمثل هذا الاعتداء على الغيب([1424])! وكم من مُدَّعٍ -قديماً- للمهدوية! وشكى منهم ابن خلدون([1425])، وذكر توقّعات أمثال هؤلاء ممن يتكهنون ويستشرفون الغيب، وقرر قاعدة مهمة، تنطبق على ما رأينا من خوض في أحاديث الفتن بالظنون، فقال بعد نقله نحو ما ذكرنا من نماذج سابقة -فيها تخرص وتكهن-: «إلى كلام من أمثال هذا، يُعَيِّنون فيه الوقت، والرجل، والمكان، بأدلة واهية، وتحكُّمات مختلفة، فينقضي الزمانُ، ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخرَ مُنْتَحل كما تراه من مفهومات لغوية، وأشياءَ تخيليّة، وأحكام نجوميّة، في هذا انقضت أعمارُ الأَوَّلِ منهم والآخر»([1426]).

 

وهناك مظاهر عديدة تشترك في زماننا هذا مع ما ظهر قديماً من أحداث شبيهة تتنزل عليها النصوص؛ منها:

 

أولاً: أنها تنبؤات فردية وشخصية، تلازم أناساً معينين، لعوامل نفسية، وقد تكون مشبوهة، أو لأطماع دنيوية، تشغل عوام الناس.

 

وذكر ابن خلدون في مطلع «تاريخه» (1/418-420) نماذج عديدة من صنيع هؤلاء، وكُشِفوا بمضيّ الزمن، قال:

 

«ذكر شاذان البلخي: أنّ الملَّة تنتهي إلى ثلاث مئة وعشرين، وقد ظهر كذب هذا القول، وقال أبو مَعْشر: يظهر بعد المئة والخمسين منها اختلاف كثير، ولم يصح ذلك».

 

وذكر كلاماً طويلاً عن (الملاحم)، ووضع بعض الناس مؤلفات لها: نظماً، وزجلاً، ونثراً، وأنها كانت -آنذاك- مشهورة عند أهل المغرب، بل قال (1/420): «إنّ في بعضها تفصيلاً فيه مطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه، وكذب ما بعده».

 

فالسابقون للأحداث؛ يهمهم ما هم فيه، ويفصّلون فيما سيجري([1427])، ويخدعون الناس في ذلك؛ «لِمَا جُبلت عليه النفوس من حُبّ التنقّل في الأشياء المتجدّدة، التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة»([1428]).

 

ثانياً: هذه النبؤات ليست قائمة على أصول علمية، وقواعد مطردة، ترجع إلى تعليل أو تحقيق، بل يقطع بها عابثون مراهقون، وقد تسبب زيادة طمع الأعداء، ووقوع التربص بهم وببلدانهم، وهي لا تظهر إلا في الساعات الحرجة من تاريخ الأمة، ولما تقف على مفترق الطرق، فهؤلاء يُمهّدون للأعداء بتهيئة النفوس وترويضها إلى نصر دون عناء، وفتح بلاد غير الأعداء! وكَشَفَ عن هذا ابن خلدون، فقال -بعد كلام عن استكناه الغيب، وتطلب معرفته، وبطلان ذلك من النصوص-:

 

«فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع، وضَعْفُ مداركها مع ذلك من طريق العقل، مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتّفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل، ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له، ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها، وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها.

 

ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء والمتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة، وقد شاهدنا من ذلك كثيراً، فينبغي أنْ تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران؛ لِمَا ينشأ عنها من المضار في الدين والدول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّاً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم.

 

فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه، ودفع أسباب الشر والمضار، هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره، ولْيَعلَمْ من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحداً من أهل الملّة تحصيلُ علمها ولا ملَكَتها، بل إنْ نَظَر فيها ناظِرٌ، وظن الإحاطة بها؛ فهو في غاية القصور في نفس الأمر؛ فإنّ الشريعة لما حَظَرَت النظر فيها، فُقِدَ الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها، وصار المولع بها من الناس -وهم الأقلّ، وأقلّ من الأقلّ- إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كِسْر بيته، متستراً عن الناس، وتحت رِبْقَة الجمهور، مع تشعب الصناعة، وكثرة فروعها واعتِياصِها على الفهم، فكيف يحصل منها على طائل؟! ونحن نجد الفقه الذي عمّ نفعه ديناً ودنيا، وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة، وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه، ثم بُعْدُ التحقيق والتجميع، وطول المدارسة، وكثرة المجالس، وتعدُّدُها إنما يحذُق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال، فكيف يُعلَمُ مهجور للشريعة مضروب دونه سَدُّ الخطر والتحريم، مكتومٌ عن الجمهور صعبُ المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه، إلى مزيد حَدْس وتخمين يكتنفان به من الناظر؟! فأين التحصيل والحِذقُ فيه مع هذه كلها؟! ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه، ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنِّ بين أهل الملّة، وقلّة حمَلَته.

 

فَاعْتَبِرْ ذلك؛ يتبيّن لك صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً.

 

ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العربُ عساكرَ السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقَيْروان، وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء، وقال في ذلك أبو القاسم الرُّوحِيُّ -من شعراء أهل تونس-:

 

أستغفر الله كل حين

 

 

 

قد ذهب العيش والهناء

 

أُصبِحُ في تونس وأُمسي

 

 

 

والصبح للَّه والمساء

 

الخوف والجوع والمنايا

 

 

 

يُحدِثُها الهرج والوباء

 

والناس في مِريَةٍ وحرب

 

 

 

وما عسى ينفع المِرَاء

 

فأحمديٌّ يرى عَليّاً

 

 

 

حلَّ به الهُلْكُ والتَّوَّاء

 

وآخر قال سوف يأتي

 

 

 

به إليكم صَباً رخَاء

 

واللهُ من فوق ذا وهذا

 

 

 

يقضي لعبدَيْه ما يشاء

 

يا راصد الخُنَّس الجواري

 

 

 

ما فعَلَتْ هذه السماء

 

مطَلْتُمونا وقد زعَمْتم

 

 

 

أنكم اليوم أمِليَاء

 

مَرَّ خميسٌ على خميس

 

 

 

وجاء سبتٌ وأربعاء

 

ونصف شهر وعُشْرُ ثان

 

 

 

وثالث ضَمَّه القضاء

 

ولا نرى غيرَ زورِ قول

 

 

 

أذاك جهلٌ أمِ ازدراء

 

إنا إلى الله قد علمنا

 

 

 

أن ليس يُستَدْفَع القضاء

 

رضِيتُ بالله لي إلهاً

 

 

 

حسبُكُم البدرُ أو ذُكَاء

 

ما هذه الأنجُمُ السواري

 

 

 

إلاَّ عَبَاديد أو إماء

 

يُقضَى عليها وليس تَقضِي

 

 

 

وما لها في الورى اقتضاء

 

ضلت عقول ترى قديماً

 

 

 

ما شأنُهُ الجُرم والفناء

 

وحكَمَتْ في الوجود طبعاً

 

 

 

يُحدِثُه الماء والهواء

 

لم تر حلواً إزاء مُرّ

 

 

 

تغذُوهم تربة وماء

 

الله ربي ولست أدري

 

 

 

ما الجوهر الفرد والخلاء

 

ولا الهَيُولى التي تنادي

 

 

 

ما لي عن صورة عراء

 

ولا وجودٌ ولا انعِدام

 

 

 

ولا ثُبوتٌ ولا انتفَاء

 

والكَسْب لم أدر فيه إلا

 

 

 

ما جلَبَ البيع والشراء

 

وإنما مذهبي وديني

 

 

 

ما كان للناس أولياء

 

إذ لا فصولٌ ولا أصول

 

 

 

ولا جدال ولا رياء

 

ما تبِعَ الصَّدْر واقتفينا

 

 

 

يا حبذا كان الاقتفاء

 

كانوا كما يعلَمُون منهم

 

 

 

ولم يكن ذلك الهَذَاء

 

يا أشعَرِيَّ الزمان إني

 

 

 

أشعَرَني الصيفُ والشتاء

 

لم أُجْزَ بالشر غير شر

 

 

 

والخَيرُ عن مثله جزاء

 

وإنني إن أكن مطيعاً

 

 

 

فلست أَعصِي ولي رجاء

 

وإنني تحت حُكْم بار

 

 

 

أطاعه العرش والثراء

 

ليس انتصارٌ بكم ولكن

 

 

 

أتاحه الحُكْم والقضاء

 

لو حُدِّث الأشعريُّ عَمَّن

 

 

 

له إلى رأيه انتماء

 

لقال أخبِرْهُم بأني

 

 

 

مما يقولونه براء»([1429])

 

قال أبو عبيدة: فهذه التنبؤات لها صلة بالغيب، والمسلم يبرأ من التخرصات والرجم بالغيب، ويعتقد أنّ هذا خلل كبير في عقيدته، قد يخرجه من ملّة الإسلام، وعليه؛ فلا دور للعقل في قبول هذه التنبؤات([1430])، وإنْ وقع صِدْقُ بعض المخبرين، فهو فَلْتَةٌ، وليس بناءً على قواعد علمية مطردة، قائمة على بحث وتعليل وتحليل.

 

ثالثاً: كثير من هذه التنبؤات لا مستند لها من الأخبار والآثار الصحيحة، بل هي منقولة من أخبار القَصَّاصين الأقدمين، وجاء المعاصرون، وتعاملوا معها على أساس غير علمي، سواء في الإسقاط وطريقته([1431])، فضلاً عن التثبت من صحة أصل هذه الأخبار.

 

ووجه الشبه -في زماننا- في هذه الظاهرة مع من قبلنا:

 

إنّ هذه الأحداث، تحت إلحاح سؤال العامة، وميل النفس البشرية بطبيعتها إلى معرفة المخبوء تفرز تصوّراً لمجريات ما سيحدث، ويتلمّس لهذا التصوّر صبغة القبول والإذعان وعدم ردّه أو المناقشة فيه، من خلال إلصاقه بالشرع بانضوائه تحت الأحاديث التي فيها ذكر للفتن، فيقع الكذب الصراح على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وعلى الرغم من أنّ هذا الدس الرخيص كاد أنْ يتوقّف، إلا أنّ أسبابه لما تجدّدت عاد فظهر في هذه الآونة، وبسبب انتشار القلم -اليوم-؛ فإنّ واضعي هذا الدس مطالبون بمستند، والكتب المطبوعة موجودة في المكتبات العامة، وبإمكان أي واحد الوقوف عليها، فلم يبق متعلَّق لهؤلاء إلا المخطوطات، وهي كثيرة، موزعة في أرجاء المعمورة، والخبراء بها قلّة من الباحثين، فتسلل بعض الكذابين المعاصرين لواذاً إلى هذا الميدان، واقتحموه بهلكة، واخترعوا أسماء مخطوطات ومؤلّفين([1432])، ما لهم وجود، ونقلوا منها أخباراً صاغوها بعبارات ركيكة، بنوا عليها تنبؤات، سرعان ما ظهر كذبها.

 

ثمة أمر مهم؛ وهو: أنّ الكذابين طبقات؛ من حيث زمن الوجود، ومن حيث اصطناع الخبر، وتقصّده، وراج على متأخّريهم -دون قصد منهم للكذب- كذبُ متقدِّميهم.

 

قال ابن الجوزي: «وفي القُصّاص من يسمع الأحاديث الموضوعة فيرويها، ولا يعلم أنها كذب، فيؤذي بها الناس، وقد صنّف جماعة لا عِلْمَ لهم بالنقل كُتباً في الوعظ والتفسير ملؤوها بالأحاديث الباطلة»([1433]).

 

قال: «وإذا كان القُصَّاص كذلك، فكيف لا يُذَمُّون»([1434]).

 

قال: «وأكبر أسبابه: أنه قد يعاني هذه الصناعة جهّال بالنقل، يقبلون ما وجدوه مكتوباً، ولا يعلمون الصدق من الكذب، فهم يبيعون على سوق الوقت، واتّفق أنهم يخاطبون الجهّال من العوام، الذين هم في عداد البهائم، فلا ينكرون ما يقولون، ويخرجون فيقولون: قال العالم؛ فالعالم عند العوام من صعد المنبر»([1435]).

 

قال أبو عبيدة: وقام العابثون الخائضون -هذه الأيام- في أحاديث الفتن مقام القصاصين قديماً، ولا نعلم لواحد من هؤلاء مشاركات جادة في العلم، والبحث عن الأسانيد، وتخريج الأحاديث، وِفْق قواعد أهل الصنعة الحديثية، وراجت بضاعتهم عند العوام، وظنوهم علماء العصر([1436])! فاشتدت الفتنة، وخرّ بعضهم صريعاً على اليدين والفم!

 

ولعل منشأ اهتمام هؤلاء الخائضين بما وجدوه في بطون الكتب؛ توهمهم أنّ كل ما كُتِبَ وقَدُمَ عهده يصير مُسَلَّماً به، مقطوعاً بصحّته!

 

وهذا خطأ منهجي؛ فالصواب أنّ ما كتبه الناس في الزمان الماضي، هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه في الزمن الآتي، منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه ما يكتب عن علم، وما يكتب عن ظنٍّ، وعن جهل!

 

والقاعدة المقررة: أنّ المكتوب كالمسموع، لا يوثق به إلاّ إذا جاء بسند متّصل، يحتج برواته، ويوثق بهم للعلم بعدالتهم، فما عساه يوجد في الكتب التي ينقل منها هؤلاء الخائضون، من أحاديث وأحداث، تكشف عن المكنون، وتهتك حجب الغيب؟!

 

فما يوجد فيها -بعد التأكد من صحة ذلك- يعرض على المعلوم من ديننا، وعلى طرق الاستدلال، وصحة الخبر؛ فما وافقه كان له حكمه بقدره، وإلا ضربنا به عرض الحائط، ولا نراه شبهة على المعروف عندنا، بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على ما في هذه الكتب من كذب، لا قيمة له في التاريخ فيما ظهر في شبهه ومثله!

 

«وكيف يثق القلب بنقل مَن كثر منهم الكذب، قبل أنْ يعرف صدق الناقل، وقد تعدى شر»([1437]) هؤلاء الخائضين إلى غيرهم من العامة، الذين لا يضبطون ولا يتقنون!

 

ومن أوجه الشبه بين هؤلاء الخائضين وأولئك القصاصين -وبضاعتهم واحدة، وسوقهم رائجة، لكن لا يفلحون، وسرعان ما ينكشفون-: عدم الواقعية والمعقولية في النقل والتوقع؛ فهما يغربون في الخيال إلى حدِّ تزييف الخبر وتشويهه، وهم لا يسلمون من الغموض والاضطراب([1438]) في أحداث الوقائع، أو المعلومات التاريخية، وهذا يجعلهم يخلطون الغثّ بالسمين، ولا يقتصرون على مصادر المعرفة المنهجية، التي تفرض على أصحابها المحافظة على سلامة المعتقد، وصيانة الشريعة من كل إفراط أو تفريط، أو اعوجاج يخرجهم عن جادة الطريق!

 

وهذه نماذج قليلة، أسوقها لإخواني القراء؛ ليعلموا صنيع علمائنا مع هؤلاء، وتصنيفهم لهم، وحكمهم عليهم؛ ليلحقوا النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه:

 

أخرج الخطيب في «الجامع» (2/162 رقم 1492) بسنده إلى ابن حبان، قال:

 

«وجدت في كتاب أَبِي بخطّ يده: قال أبو زكريا -يعني: يحيى بن معين-: كان أبو اليمان يقول لنا: «الحقوا ألواحاً؛ فإنه يجيء ههنا الآن خليفة بسَلَمْيَةَ([1439])، فيتزوج ابنة هذا القرشي الذي عندنا، ويفتح باب ههنا، وتكون فتنة عظيمة».

 

قال أبو زكريا: «فما كان من هذا شيء، وكان كله باطل([1440])، قال زكريا: «وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلها كذب([1441]) وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء»».

 

ثم ذكر بإسناد صحيح عن أحمد بن حنبل يقول: «ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير»([1442]).

 

وقال: «وهذا الكلام محمول على وجه؛ وهو: أنّ المراد به كُتُبٌ مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير مُعْتَمَد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصَنِّفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصّاص فيها.

 

فأما كتب الملاحم؛ فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المُرْتَقبة، والفتن المُنْتَظرة غير أحاديث يسيرة اتّصَلَتْ أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضيّة، وطرق واضحة جليّة».

 

فهذه الظاهرة قديمة، لها كتبها، ومُروّجوها، وأعلامها، وأساليبها، والعِلْم الصحيح -بقواعده ومنهجيته- بريء منها، وأعلامنا وعلماؤنا، وعلى رأسهم المحدِّثون منهم قالوا كلمتهم فيها، فها هو أبو الخطاب بن دحية يقول على إثر خبر من وضع هؤلاء:

 

«ومن أسند مثل هذا إلى نبي، عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد سقطت عدالته، إلاّ أن يبين وضعه؛ لتصح أمانته، وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم، وما كان من الحوادث، وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أعرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يُكَذِّبُ آخِرُهَا أوَّلَها، ويتعذر على المتأول لها تأويلها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة، ومن تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، أنّ في سنة ثلاث مئة يظهر الدجَّال من يهودية أصبهان، وقد طعنَّا في أوائل سبع مئة في هذا الزمان، وذلك شيء ما وقع ولا كان، ومن الموضوع فيه المصنوع، والتهافت الموضوع، الحديث الطويل الذي استفتح به كِتَابَهُ؛ فهلاّ اتقى الله، وخاف عِقَابَهُ، وإنّ من أفضح فضيحة في الدين نقلَ مثل هذه الإسرائيليات عن المتهودين؛ فإنه لا طريق فيما ذُكِرَ عن دانيال إلا عنهم، ولا رواية تُؤْخَذُ في ذلك إلا منهم»([1443]).

 

ونحن نردّد خطاب أبي الخطاب، ونوجِّههه لصاحب كتاب «هرمجدون» وأمثاله، ومَنْ صدّق به في يوم من الأيام، لعلهم يرعوون! ونسوق جملةً من صنيع هؤلاء الممخرقين التي تذكرنا بكتاب بـ(هرمجدون)، لعلهم يتوبون!

 

قال ابن خلدون بعد ذكره لمعرفة الناس بالمغرب جزءاً منسوباً يسمونه: «الجفر الصغير»، وما ظهر في دولة بني العباس من المنجِّمين، مَن لهم عناية مميزة بـ(الملاحم)، وما سيقع في قابل الأيام:

 

«ثم كتب الناس من بعد ذلك في حَدَثَان الدول منظوماً ومنثوراً ورَجَزاً -ما شاء الله- أن يكتبوه، وبأيدي الناس متفرقة كثير منها، وتسمى الملاحم.

 

وبعضها في حدثان الملّة على العموم، وبعضها في دولة على الخصوص، وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة، وليس منها أصل يُعتمَد على روايته عن واضعه المنسوب إليه.

 

فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مُرّانَة من بحر الطويل على رَوِيّ الراء، وهي مُتداوَلة بين الناس، وتحسب العامة أنها من الحدثان العام؛ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل، والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولةِ لِمْتُونَةَ؛ لأنّ الرجل كان قُبيل دولتهم، وذكر فيها استيلاءهم على سَبْتَةَ من يد موالي بني حَمُّود ومُلكِهم لِعُدْوة الأندلس، ومن الملاحم بيد أهل المغرب -أيضاً- قصيدة تسمّى التبعيّة أوّلها:

 

طربتُ وما ذاك مني طَرَب

 

 

 

وقد يطربُ الطائرُ المغتَصَب

 

وما ذاك مني لِلَهْوٍ أراه

 

 

 

ولكن لتذكار بعض السبب

 

قريباً من خمس مئة بيت أو ألف فيما يقال، ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين، وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره، والظاهر أنها مصنوعة، ومن الملاحم بالمغرب -أيضاً- مُلَعِّبَة من الشِّعْرِ الزجَلي([1444]) منسوبة لبعض اليهود، ذكر فيها أحكام القِرَانات لعصره العَلَويين والنَّحْسَيْن وغيرِهما، وذكر ميتته قتيلاً بفاس، وكان كذلك فيما زعموه...»([1445]) إلى قوله:

 

«ومن ملاحم المغرب -أيضاً- قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار.

 

وقال لي قاضي قُسَنْطينيَّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس، وكان بصيراً بما يقوله، وله قَدَم في التنجيم، فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مَقْتُولَ المستنصر، وإنما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ، وكان والدي -رحمه الله تعالى- يُنشِدُ هذه الأبيات من هذه الملحمة، وبقي بعضها في حفظي...»([1446]).

 

في كلام كثير له -فيه ذكر لكثير من الملاحم، التي وضعت لسرقة عقول الناس؛ لترويج أمرٍ ما في زمن الفتنة، مِن مثل قوله:

 

«ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص -هؤلاء- بتونس، فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذِكْرُ محمدٍ أخيه مِن بعده يقول فيها:

 

وبعد أبي عبدِ الإله شقيقُه

 

 

 

ويُعرَف بالوثَّاب في نسخة الأصل

 

إلا أنّ هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه، وكان يمنِّي بذلك نفسه إلى أن هلك...»([1447]).

 

رابعاً: قد يقول قائل: ليست جميع الأحاديث التي يستدل بها هؤلاء كما زعمتَ، فبعضها حكم عليها أصحاب الصنعة الحديثية بالصّحة؟!

 

فأقول: نعم؛ عندهم قليل من هذا الصنف، ولكنه مسوق في أجواء تلك الأخبار التي لا أزمّة لها ولا خطام، وموضوع بين ذاك الركام، على وجه فيه تحريف للكلام، ولعب على عقول السذج العوام، وهاكم معالم هذا التحريف على التمام:

 

أولاً: فَهِمَ هؤلاء الخائضون العابثون أحاديث الفتن على غير منهج السلف الكرام، وجعلوها أداةً للخنوع والاستسلام، وانتظار ما سيقع بالناس من الفتن العظام، وأخرجوها عن المقصد الأصلي لقائلها -عليه الصلاة والسلام-، من التحذير والحرص على عدم التلبّس بأسبابها، والوقوع في إرهاصاتها، والعمل على البُعد عنها وإبعادها، فقلبوها وغيّروها وحرفوها.

 

ثانياً: أما التحريف؛ فيشمل: تحريف الألفاظ، وتحريف المعاني.

 

أما تحريف الألفاظ؛ فواقع عند هؤلاء من أجل المعاني السابقة في أذهانهم، جاهزة الصنع في (مختبراتهم)، وهذا المثال([1448]) -من القديم والحديث- ليتّضح المقال:

 

قال ابن خلدون في «تاريخه» (1/423) -وهو يتكلم عن (الملاحم)-:

 

«ومن الملاحم في المغرب -أيضاً- (المُلَعِّبَة) المنسوبة إلى (الهَوْثَنيّ) على لغة العامة في عرُوض البلد» وساق ستة من أبياتها، وقال عنها (1/423-424):

 

«وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى، والغالب عليها الوضع؛ لأنه لم يصح منها قولٌ إلاّ على تأويل تحرّفه العامّة أو الحَارِفُ فيه من ينتحلها من الخاصّة، ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلاَّ الله لتَحَلُّله إلى أوفاق عددية، ورموز مَلْغُوزة وأشكال حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة وتماثيل من حيوانات غريبة، وفي آخرها قصيدة على رَوِيِّ اللام، والغالب أنها كلها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي».

 

فهذه (الملاحم) و(أصحابها)، تشبه (الكتب) التي راجت أخيراً و(أصحابها)؛ فلا يصحّ قولٌ فيها! إلا على تأويل تحرفه العامة، أو الحارف فيه من ينتحلها وينسبها إلى نفسه، ويسوق أحداثاً لم تنشأ عن أصل علمي في الاستدلال.

 

ومثّل ابن خلدون في «تاريخه» (1/424-425) على هذا بما كان في (المشرق) في زمانه، قال:

 

«ووقفت بالمشرق -أيضاً- على ملحمة من حدثان دولة الترك، منسوبة إلى رجل من الصوفية يُسمّى البَاجِرْبَقِيَّ، وكلها إِلْغَاز بالحروف، أوَّلها:

 

إن شئتَ تكسِفُ سر الجَفْر يا سائلي

 

 

 

مِن عِلْم جَفْرٍ وَصِيٍّ والد الحسن

 

فافهم وكن واعياً حَرْفاً وجملَتَه

 

 

 

والوصفَ فافْهَم كفعل الحاذِق الفَطِن

 

أما الذي قبل عصري لستُ أذكُره

 

 

 

لكنني أذكُر الآتي من الزمن

 

بشَهْر بِيبَرْسَ يبقى بَعد خَمسَتِها

 

 

 

بحاءٍ ميمٍ بَطِيشٌ نامَ في الكُنَن

 

شينٌ له أَثَر من تحت سُرّته

 

 

 

له القضاء قضى أي ذلك المنن

 

فمصر والشام مع أرض العراق له

 

 

 

وأذْرَبيجان في مُلْكٍ إلى اليمن

 

ومنها:

 

وآلُ بورانَ لما نال طاهِرُهم

 

 

 

الفاتكُ الباتِكُ المعنيّ بالسِمَن

 

لخلع سينٍ ضعيف السن سينٌ أتى

 

 

 

لا لو فاقَ ونوت ذي قرن

 

قوم شجاع له عقل ومشورة

 

 

 

يبقى بحاءٍ وأين بعدُ ذو سمن

 

ومنها:

 

من بعد باءٍ من الأعوام قَتْلتُه

 

 

 

يلي المشورةَ ميمُ الملك ذو اللسن

 

ومنها:

 

هذا هو الأعرجُ الكلبيُّ فاعن به

 

 

 

في عصره فتَنٌ ناهيك من فتن

 

يأتي من الشرق في جيش يقدِّمُهم

 

 

 

عارٍ عن القاف قاف جدَّ بالفتن

 

بقتل دال ومثلُ الشام أجمَعُها

 

 

 

أبدت بشجو على الأهلين والوطن

 

إذا أتى زُلزِلت يا ويح مصر مــ

 

 

 

ــن الزلزال ما زالَ حاءٌ غير مُقْتَطِن

 

طاءٌ وظاءٌ وعينٌ كلُّهم حُبِسوا

 

 

 

هُلكاً ويُنْفِقُ أموالاً بلا ثمن

 

يسير القافُ قافاً عند جمعهم

 

 

 

هَوِّنْ به إنَّ ذاك الحصنَ في سكن

 

وينصبون أخاه وهو صالِحُهم

 

 

 

لا سَلَّمَ الألف سينٌ لذاك بُني

 

تمَّت ولايتُهم بالحاء لا أحد

 

 

 

من السنين يُداني المُلْك في الزمن

 

ويُقال: إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:

 

يأتي إليه أبوه بعد هُجرته

 

 

 

وطول غيبته والشَّظْفِ والزَرَن

 

وأبياتها كثيرة والغالبُ أنها موضوعة، ومثل صنعتها كان في القديم كثير، ومعروف الانتحال».

 

قال أبو عبيدة: ويلحق بهذه (القائمة السوداء) الكتب التي سمَّيناها لك، وما هو على شاكلتها، مما فيه اعتداء على الغيب، ظاهر الصَّنعة، منحول، معروف الانتحال عند أهل العلم خلافًا للجهال!

 

ومن لطيف ما تُلفَت الأنظار إليه، قول هذا المنتحل في إلغازه:

 

«هذا هو الأعرجُ الكلبيُّ فاعن به

 

 

 

في عصره فتن ناهيك من فتن

 

يأتي من الشرق في جيش يقدِّمُهم

 

 

 

عارٍ عن القاف قاف جدَّ بالفتن

 

بقتل دال ومثل الشام أجمعها

 

 

 

أبدت بشجو على الأهلين والوطن

 

...».

 

ونطلب من معاصرينا([1449]) توظيف هذه الأبيات، وإسقاطها على الأحداث؛ فإنها -وغيرها مثلها كثير كثير- فاتتهم، والأيام حبالى، ولا ندري ما هي نظرتهم إليها، وكيف يفهمونها؟!

 

ولكن؛ لا تعجل عليَّ -أخي القارئ- سأخبرك الخبر، اقرأ معي ما في كتاب «هرمجون» (ص 36) -تعليقًا وإسقاطًا على مقولةٍ لكعب الأحبار-:

 

«علامة خروج المهدي: ألوية تُقْبل من المغرب، عليها رجل أعرج من كندة»([1450])، قال -بالحرف-:

 

«ما كنت أظن أن يختار الأمريكان رجلاً أعرج فيجعلوه في منصب رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، بل كنت أقول في نفسي: لعل المقصود بكلمة أعرج أي ضعيف -مثلاً-، أو رأيه عاجز؛ لأنه كان أبعد شيء في ظني أن يسوغ لهم أنْ يجعلوا قائد أعظم قوات عسكرية في العالم أعرج، حتى من باب التشاؤم أن تكون القوات عرجاء عاجزة كقائدها.

 

فلما رأيت الجنرال: «ريتشارد مايرز» يقبل على عكازين ليعلن للشعب الأمريكي بدء عمليات القوات المشتركة الجويّة والبريّة والبحريّة ضد أفغانستان، قلت: الله أكبر! صدقت يا رسول الله (!!).

 

إنّ خروج ألوية القوات المشتركة لجيش الغرب (الرايات الصليبية) تحت قيادة الأعرج الكندي لهو بدء الملاحم، وهو -لعمر الله- علامة خروج المهدي -عليه السلام-، وإنْ كنا قد عجبنا من رئيس الأركان الأمريكي الأعرج، فلنعجب من نص آخر رواه نعيم -أيضاً- (ص 174) يصف الأعرج -هذا- بأنه: «ثم يظهر الكندي (الأعرج) في شارة حسنة»؛ فإذا نظرت إلى «الأعرج» بلباسه العسكرية([1451]) الحسنة، وما عليه من نياشين وشارات، لا تملك إلاَّ أنْ تقول: سبحان الله!

 

حقّاً ظهور المهدي على الأبواب؛ فقد ظهر القائد الكندي الجنرال الأعرج».

 

قال أبو عبيدة: (الأعرج) هذا (مهم) عند (الخائضين) (المفتونين)؛ فإنه يوافق مشربهم وطريقة تفكيرهم، فالأول: (كلبي)، والثاني: (كندي)! أي: عربي صليبة؛ فهو (كلبي)، و«هذه النسبة إلى قبائل كلب اليمن([1452])، أو (كِنْدي) -بكسر الكاف وسكون النون([1453])-، و«هذه النسبة إلى كِنْدَة، وهي قبيلة مشهورة في اليمن، تفرّقت في البلاد»([1454])!

 

فالخبر المذكور عن كعب -في أحسن أحواله- لا يعدو ذكره لمجرد الإخبار دون تصديق ولا تكذيب، أما اعتقاده، واعتباره حقيقةً مسلّمة، والبحث له عن محل في الحقبة التي نعيش؛ فهذا لا يمكن إلاّ بتحريف، وهكذا كان، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

 

وهذا التحريف واللعب والعبث بالنصوص هو السّمة الظاهرة لهؤلاء، وهذه أمثلة تدلل على ذلك:

 

نقل الطبري في «تاريخه» (8/145-146) في (حوادث سنة 163) عن أبي بُدَيل -وكان من أصحاب صناعة الدولة-، قال: بعث إليَّ -أي: الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه- قال: فجئتُ وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة.

 

قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سِني المهدي؛ فإذا هي عشر سنين، قال: فقلتُ: ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أنّ خبر هذا الغلام يخفى، وأنّ هذا الكتاب يستتر! قالا: كلاّ.

 

قلتُ: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنيه ما نقص، أفلستم أوّل من نعى إليه نفسه! قال: فتبلّدوا والله، وسُقط في أيديهما!

 

فقالا: فما الحيلة؟

 

قلتُ: يا غلام! عليّ بعنبسة -يعني: الوراق الأعرابي، مولى آل أبي بديل-، فأتى به، فقلت له: خطّ مثل هذا الخطّ، وورقة مثل هذه الورقة، وصيّر مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة.

 

قال: فوالله لولا أني رأيت العشر في تلك، والأربعين في هذه ما شككت أنّ الخطَّ ذلك الخط، وأنّ الورقة تلك الورقة.

 

قال أبو عبيدة: فهذا أبو بُديل لقَّن هؤلاء ما يُرضي أمير المؤمنين آنذاك، فزوّر (عشر سنين) إلى (أربعين سنة)! وراجت الأُكذوبة بحسن تقليد الخطّ، فكان ماذا؟ حبلُ كذبٍ قصير، ظهر بعد مدة من التزوير، وشغل أصحابُه العامَّةَ بما يناسبهم من القال والقيل، وملأوا المجالس بالصراخ والنوح والعويل، كما ذكره أبو عثمان سعيد بن عمرو البَرْذَعي في «النصف الثاني من «الضعفاء والكذابين والمتروكين من رواة الحديث»([1455]) (2/565)، قال:

 

«شهدت أبا زرعة، وأتاه أبو العباس الهسنجاني، فكلمه أنْ يَقْبَل يحيى ابن معاذ رجل كان بالري، يتكلم بكلام يشبه كلام منصور بن عمار، أو نحو ذلك، فقال: إنه يقول: أنا على مذهبك؛ فأنا رجل نواح أنوح.

 

فقال أبو زرعة: إنما النوح لمن يدخل بيته، ويغلق بابه، وينوح على ذنوبه؛ فأما مَن يخرج إلى أصبهان، وفارس، ويجول في الأمصار في النوح، فإنا لا نَقْبَل هذا منه، هذا من فعال المستأكلة الذين يطلبون الدراهم، والدنانير، ولم يقبله».

 

فهذا هو منهج هؤلاء: أدعياء العلم والتحقيق، الحائزين على قصب السبق لما يطلبه المستمعون، لا لما يفيدهم، أو يعينهم على مواجهة الفتن بالعلم النافع، والعمل الصالح؛ فهم ينوحون، وترتفع أصواتهم، وتبحُّ حناجرهم بالويل والثبور، والنوح على ما سيقع بالمسلمين.

 

فهم يدّعون أنهم: ما زالوا مخلصين للإسلام، وهم في حقيقة أمرهم، وسوء صنيعهم وطريقة استدلالهم، ومنهجهم في التعامل مع النصوص مثل مَن يضرب بمعوله في أساس صرح شامخ، ثم يزعم أنه حريص على سلامته، عامل على رفع قواعده!

 

اسمع -بالله عليك- إلى واحدٍ من هؤلاء، وهو يقول -متهدّداً لمن لم يُصدّقه-:

 

«ومن لم يُصدّقني؛ فسيكون حاله ومآله كشعب (زرقاء اليمامة)، حينما أبصرت ما لا يبصرون، فأنذرت وحذرت، وكُذِّبت، فكان ما كان مما يمكن أنْ يتكرر مع مطلع شمس يوم قادم، نسأل الله منه السلامة»([1456]).

 

قلتُ: هذا التنويع والتلون -الذي شهدناه مؤخراً- في أسماء الكتب، وملاحقة الأحداث، ومسابقتها، وتطويع النصوص، وليّ أعناقها، مع التحريف والتغيير في المضمون أو الشكل إنما هو من أجل (الأكل) ليس إلا، وليس فيه نذارة أو تحذير، لا من قبيل ولا دبير، وإنما هو على نهج (الدَّاناليّ)، وهذا خبره:

 

حَكَى المؤرّخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيّام المقتدر ورّاقٌ ذكيٌّ يُعرف بـ(الدَّاناليِّ)؛ يَبِلُّ الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمزُ فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه، كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من الدنيا، وإنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكرَّرة ثلاث مرات، وجاء به إلى مُفلِح مولى المقتدر، فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر، وذكر عنه ما يرضَاه، وينالُه من الدولة، ونَصَبَ لذلك علامات يُمَوِّهُ بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مُفلِح هذا، وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف، وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعداء، وتعمر الدنيا في أيّامه، وأوقف مُفْلحاً هذا على الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى، وملاحم من هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع، ونسب جميعه إلى دانيال؛ فأعجب به مفلحٌ، ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز، والظاهر أنّ هذه الحيلة التي ينسبونها إلى الباجَرْبِقِيّ من هذا النوع.

 

ولقد سألتُ([1457]) أكملَ الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالدّيار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية -وهو الباجربقيّ-وكان عارفاً بطرائقهم-، فقال: كان من القلَنْدَرِيَّة المُبتدعة في حَلْق اللحية، وكان يتحدّث عما يكون بطريق الكشف، ويومي إلى رجالٍ معيّنين عنده، ويُلغِزُ عليهم بحروف يُعيِّنُها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبياتٍ قليلة كان يتعاهدها؛ فَتُنُوقِلَتْ عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة، وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كل عصر، وشغل العامة بفكّ رموزها، وهو أمر ممتنع؛ إذ الرّمزُ إنما يهدي إلى كشفه قانونٌ يُعرفُ قبلَه، ويُوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم، لا يتجاوزوه.

 

فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاءً لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة، {وَمَا كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، والله -سبحانه وتعالى أعلم-، وبه التوفيق»([1458]).

 

فصل

 

تأريخ إسقاط النصوص على الحوادث في العصر الحديث وتقويمها

 

نعم؛ ظاهرةُ تنزيل النصوص -إنْ صحت، أو لم تصح عند وجودها، أو اختراعها- على الحوادث والأشخاص البارزة قديمةٌ، ولكنها غابت في تاريخنا الحديث، وأخذت بالظهور التدريجي في العقد الأخير، ولا سيما في حرب الخليج الثانية([1459]) والثالثة، وكان لها مظاهر متعدّدة، بدأت بتناقل بعض الأخبار من كتب غير موثقة، كادت أنْ تنحصر في المجالس، مع زيادات -كالعادة- عليها من بعض الإخباريين! ثم دُعِّم ذلك بتوثيق هذه الأخبار من الكتب مع تحريفٍ في النقل، أو تطويع له على حسب ما يجري.

 

وكان أشهر مثال -آنذاك- ذكر (صادم) -ويراد به عند هؤلاء دون نقاش (صدام)-، وهو حاكم العراق المنخلع عند سقوط بغداد باحتلال أمريكا وحليفاتها في كتاب «الجفر»!

 

وعند الرجوع إلى النسخ الخطية من «الجفر»، نجد أنّ الكلام كان في ذكر صفات سيف (علي) -رضي الله عنه-، ضمن بيت شعر، وأنه (صارم)([1460]) بالراء لا بالدال، فحُرِّف إلى الدال، ثم فسِّر به حاكم العراق.

 

ثم توالت الأخبار وتدفّقت على وجه مثير للغاية، تارة يذكرون (السفياني) وصفاته، ويتكهنون بإسقاطه على ما جرى من (احتلال الكويت) من قبل العراق برئاسة صدام، وإسقاط ذلك عليه!

 

وأخذوا يتلمّسون ذكر (أمير الكويت) في النصوص، وتعلّقوا بأشياء عدم([1461])، لا وزن لها في البحث المنهجي العلمي القائم على الجمع والسبر والفحص والفتش بمعايير أهل النَّقد، وتعدّى ذلك إلى شيء كاد([1462]) أنْ يستقر عليه هؤلاء الخائضون؛ وهو أنّ (صدام حسين) هو (السفياني)، وأسهبوا وأفاضوا في ذكر ذلك، وهذه متعلّقاتهم وشبهاتهم([1463]):

 

أولاً: ينسب صدام حسين إلى خالد بن يزيد بن أبي سفيان -كما صرح هو بهذا صراحة-، ولذلك فإنه سيطلق عليه السفياني.

 

وأما أمه؛ فهي من قبيلة كلب، ويلقب بالأزهر؛ لأنه سيعيد كرامة المسلمين انتقاماً من اليهود، ومن ضمن ما يطلق عليه من الأسماء في كتب السنة أي السفياني، وبالرغم من أن أحاديث السفياني معظمها ضعيفة، ولكن ليست موضوعة؛ فأخذها بعين الاعتبار لا يضر أصلاً من الأصول، وخصوصاً في التوسمات وعِلْم توضيح المستقبل حتى لا نقع في حفر الفتن، وما حذرت منه النصوص، وأحاديث الفتن لها أسباب من عدم قوتها، لا بد أنْ تؤخذ في الاعتبار بسبب قلة الصحابة الذين رووا أحاديث الفتن وعلامات الصحابة؛ أمثال حذيفة -رضي الله عنه-، وعبدالله بن عمرو؛ الذين كانوا يقولون عما أخبر به المصطفى من المغيبات: ... فحفظه من حفظه، ونسيه من نسيه! وأنّ معظم الصحابة كان يهتم بالأعمال؛ لأنهم كانوا في خير القرون وخير الأزمان، وكانوا يدركون ذلك، وأنهم لم يدركوا زمن الفتن العظام.

 

ومنهم مَن أمسك عن أحاديث، ولم يحدث بها إلا عند موته؛ إشفاقاً على الأمة، وأنهم في كل الأحوال كانوا في زمن الرضوان، وعلّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كل شيء إلى أن تقوم الساعة.

 

إذاً؛ فالحديث الضعيف يختلف اختلافاً كبيراً عن الحديث الذي لا أصل له، أو الموضوع، أو غير الموجود في كتب الحديث والسنة؛ لأنّ تضعيف العلماء للحديث قد يكون بسبب نسيان أحد رواته، أو شيخوخته، أو كِبَر سنه وخرفه، أو لشروط جامع الحديث أو غيره.

 

ثانياً: ولد صدام حسين في تكريت، وهي منطقة آشور سابقاً، والذي هو منها كما كان بختنصر، ومذكور -أيضاً- أنه يعظم مدينة ملك بابل، وقد أعاد صدام بناءها عام 1987م - 1407هـ!!!

 

ثالثاً: اسمه مكون من 8 حروف -كما ورد-... يُطلق عليه: الجابر، ومنصور، وسيدوس اليهود كطين الأزقة، وهو اسم  السفياني، وهو اسم صدام حسين، وهو 8 حروف!!!

 

رابعاً: يغير مجرى نهرالفرات -كما ورد-... وقد حدث أنْ غير مجرى الفرات عام 1993م - 1413هـ!!!

 

خامساً: يخرج عليه رجل من أهل بيته  كاسم أبيه -كماورد-... وقد خرج عليه ابن عمه وزوج ابنته حسين كامل... وسيعدمهما([1464]) جميعاً، ثم ينتقم من ابن عمه، وقد حدث بالفعل!!!

 

سادساً: يحدث حصار العراق في زمنه -كما ورد -... وهذا ما حصل منذ سنة 1990م - 1411هـ!!!

 

سابعاً: من أوصافه الجسديه -كما ورد- : أنه عريض الجبهة، أبيض اللون مع اصفرار قليل، جعد الشعر، في إحدى عينيه كسل، وبوجهه بعض آثار الجدري -وتأمل صورته لترى العجب-!!!

 

ثامناً: يخرج سابع سبعة -كما ورد-... وهو بالفعل قد خرج في سبعة عند قيام ثورة 1968م - 1388هـ بالعراق، منهم: حسن البكر أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة!!!

 

تاسعاً: ترقى في عهده([1465]) الظلمة -كما ورد-... وبالفعل ملئت سماء الكويت أياماً وليالي([1466]) من اشتعال آبار البترول، وتحولت السماء إلى دخان كثيف تحجب الشمس أثر ظلمه، وعدوانه على الكويت، وبمكيدة لصوص الأقصى!!!

 

عاشراً: ولقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن السفياني: يدخل الأقصى، وهو شديد الحقد غضبان، فيُمعن فيهم قتلاً، ويعمل فيهم ما لم يحدثه ملك بابل الذي دخلها أول مرة كما ذكر في القرآن.

 

حادي عشر: يتعرض لحرب أربعينة؛ تظل هذه الحرب أربعين يوماً، يجمع  له منها من بلاد العالم، ثم تنفض الحرب بلا خاسر أو رابح، ثم يلتحموا مرةً أخرى، قد يستخدم فيها أعداءه ما لا يعرفه العقل من الأسلحة، فيحدثون دماراً شديداً في العراق، لكن لن يهدأ لهم بال إلا بعد أنْ يظفروا به في شخصه، فإذا نزلوا أرض العراق برّاً والتحم الجيشان أمده الله بالنصر عليهم.

 

ثاني عشر: وتقع بينه وبينهم معركتان:

 

[الأولى]: بمنطقة اسمها (عاقركوف):

 

وهي محل [في] بغداد الآن، وهي مدينة الزوراء الآن، وسيضرب الروم فيها ضربةً شديدةً حتى يظنوا أنّ السفياني ليس له أثر، وكذبوا، وسيضربون بغداد مدينة يقسمها النهر فينظر أحدهما فلا يجد ما كان في الجهة الأخرى فيقولون: كان هنا بالأمس مدينة. ولكن سيعقد الله في لوائه النصر توطيداً لتسليمها للمهدي في آخر الزمان، وستصطلح الأمة على المهدي بعد خسف جيش السفياني.

 

ثالث عشر: في آية عظيمة يأتيه بعدها كل أجناس الأرض: عصائب أهل العراق، ونجباء مصر، وأبدال الشام، حتى يأتيه من أوربا من بني إسحاق سبعين ألف([1467])، يفتحون رومية بالتكبير والتهليل.

 

رابع عشر: و[الثانية]: (قرقيساء):

 

وهي تقع على الحدود السورية العراقية الأردنية عند نهر الخابور؛ فيفتح الله عليه، وينصره عليهم في معركة يقتل فيها أكثر من مئة ألف.

 

خامس عشر: ثم يدخل عمّون، ويقتل الهاشمي القصير، ويلتف، ويدخل الأقصى في يوم واحد؛ فيقضي على من يقابله من اليهود في معركة ليس فيها أسرى، ويقتلهم قتل عاد؛ فيستعيد القدس، ويأتلف هذا الجيش الصنديد، وينتقم من بني إسرائيل -كما وعدهم الله-.

 

وفي التوراة تفصيل كثير عن علوّهم وفسادهم في الأرض مرتين، وتسليط أهل بابل عليهم([1468])، ولكن ذكر الله لنا ذلك في سورة الإسراء بنص عام، والتفصيل كما ذكرالله في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين...} الآيات.

 

ولذلك فإنّ عجوزاً يهودية كانت تبكي بكاءً شديداً عام 1948م - 1368هـ، في حين كان اليهود يرقصون باحتفال إنشاء وطن لهم، فسألوها عن بكائها، فجائت بالتوراة، وقالت: بدأ -الآن- العدّ التنازلي لزوال بني إسرائيل، وحسبت من هذا التاريخ (60) عاماً.

 

وفي التوراة: (وأنت يا ابن إسرائيل عيّن لنفسك طريقين لمجيء الملك من أرض واحدة تخرج الاثنتان...).

 

ولذلك فإنّ اليهود يعرفون صدام حسين جيداً، وقد ذكروا في مذكرات حرب الخليج ما استطاعوا من إشعال هذه الحرب عن طريق الروس اليهود  -الذين كانوا في الجيش العراقي-، واليهود الأمريكان في الكويت من إشعال فتيل الحرب حتى يتخلصوا منه لخوفهم من تحقيق النبوءة المذكورة عندهم!!!

 

إنه لا يستطيع بشر أنْ يصف حرب (هرمجدون)؛ فهي حرب لا يتخيلها عقل... سيُضرب صدام ضربة عنيفة، وتضرب بغداد ضربة لم تخطر على بال!!! ولكن هل سيقضون على صدام؟ الجواب: لا لا؛ لأنهم يعرفون أنه بلحمه وشحمه وصفاته هو الذي سيدوسهم كطين الأزقة، وهو البابلي الذي سيأتي من نفس مكان من انتقم منهم شر انتقام وهو بختنصر: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة...} الآية.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه -الآن- هو: إذا كان بختنصر كافراً، ويعبد النار، وسلّطه الله عليهم، فلا يمانع أنْ يسلط الله على اليهود رجلاً جبّاراً فاجراً يُحدِث فيهم القتل بغير رحمة ولا شفقة، ما لم يتصوره عقل، حتى يدفنوا فيهم شهراً.

 

وسيشهد التاريخ أنّ الملك الجبار-سبحانه وتعالى- سيسلط على الصهاينة صداماً، ولم يفلحوا هذه المرة -كما اعترفوا سابقاً- توجيهه إلى الدول العربية ليُمضي الله قدره، وما تخبئه الأيام ليس ببعيد!!!

 

وسيفعل بهم مذابح، وقتلاً في معركة ليس فيها أسرى، وسيمثل بهم أشد مما فعل بهم بختنصر، وأشد مما فعل بهم هتلر هو وأهل بابل، والمذكور عندهم في الكتاب، وستزداد شعبية صدام لما يتلهف الناس عليه من مخلص يخلصهم من الذل الذي لم يحدث للأمة من قبل.

 

وينصر هذا الدين بكل بر وفاجر! «وإنّ الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»([1469]) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.

 

وما شاء اللّه لا راد لقضائه في الكتاب، ولا معقب لحكمه، ولا لقدره، ولا لِمَا أخبر به في كتبه وعلى لسان رسله -سبحانه- كيف شاء وبما شاء، فإذا كان ورقة بن نوفل أخبر الرسول بأشياء في الكتاب، وأنه هو رسول الله، وأنّ جبريل هو الناموس الذي  أُنزل على موسى وعيسى، وقال له: (ليتني كنت فيها جذعاً... ليتني معك إذ يخرجك قومك...)؛ فكذلك السفياني الذي أخبرت عنه التوراة والنبوءات، والتي تنطبق على صدام حسين، وتؤيدها الأحاديث التي ضعفت بسبب ضعف بعض الرواة، والوعد والقدر قبل أنْ يخلق الله السماوات والأرض.

 

قال أبو عبيدة: هكذا الاستدلال؟! يورد معلومات عن السفياني على أنها أحاديث، وإسقاط دون خجل على شخصية ما([1470]) على حسب ما يعنّ للمستدِلّ! وذَكَر عمومات: أحاديث ضعيفة، وتقرير أنها غير الأحاديث الموضوعة! وينسى المُسَيْكين أنّ الصفات الواردة جُلها لم ترد في أحاديث أصلاً! وإنْ وردت فهي في أحاديث موضوعة، ولا أصل لها، والتطويل في إثبات ذلك يحتاج إلى تصنيف مفرد([1471]).

 

وهؤلاء عابثون غير جادين، تراه مرة يقرر، ومرة يظن، وإنْ رددت عليه يقول: أنا قلتُ: ربما، لعله، أظن، ومع ذلك يتطاولون، ويردّون على من يناقشهم، فواحد يقول: «لا أُريد أن أُطيل، فهذا الكتاب بين أيديكم، وقد كفيتكم الرد عليه بأفصح لغة علمية، وهي لغة الأرقام، وبأقوى وأصدق المواعيد وهي التاريخ([1472])، وليس على المرجفين أو المتشككين إلا الانتظار لعدة شهور فقط، وتظهر الحقيقة أمام الجميع، إما مع الكتاب أو ضده، فعليهم بالصمت والترقب حتى لا يحرموا غيرهم من فائدة مرجوّة قبل ظهور آية الدخان...»([1473])، هكذا بكل وقاحة، يكتب هذا عام 1998م، ومضى نحو ست سنوات، وظهر زيفه ودجله، وبعدها سكوت وسكوت([1474])، لا مراجعة؛ لأنّ الناس ينسون، ولا حسيب ولا رقيب!

 

إنّ من أسوء ما يُصاب به المرء: أنْ لا يشعر بما مُنيَ به من الشذوذ والخطأ، فيزداد سقوطاً بتمرّده واستكباره عن قبول الحق، وبرميه جماعة أهل العلم بدائه، قاعداً تحت المثل السائر: (أوسعتُهم سبّاً، وأَوْدَوا بالإبل)، وهو مطمئن إلى أننا لا نستطيع أن نساجله في ذلك، وله الحق في هذا الاطمئنان!

 

وآخر يقول: «لم يعرف العالم كله -بفضل الله- كاتباً أو مُفكراً قال بنظرية وجود المسيخ الدجال في مثلث برمودة، وأنه صاحب الأطباق الطائرة، سوى الكاتب الصحفي محمد عيسى داود»، وهذه الاختراعات لها (حق) و(براءة) مسجلة، وقد اعتدى عليها بعضهم؛ فقام بسرقتها، وانتحلها لنفسه، وذلك ثابت بكتابين له، تم إبلاغ النيابة العامة عنهما، والويل لك إن لم تصدِّق، فالذي يرفض هذه الاختراعات (الأغبياء والضالون)، كما صرح بذلك في مقال له نشر في جريدة «صوت آل البيت» عدد شعبان/سنة 1421هـ، (ص 5)، وفي كتابه «احذروا المسيخ الدجال» (ص 142).

 

وليس الحكم على أُناس بأنهم (أغبياء ضالون) من شأن الغبي الضال، والغبي الضال إنما يعلم ذلك منه الذكي العارف، بيد أن الجاهل جهلاً مكعباً -بجهله للشيء، وبجهله لجهله له، وبحسبانه مع ذلك أنه يعلمه فوق علم كل عالم- لا يتحاشى عن تجهيل الأمة بأسرها من صدر الإسلام إلى اليوم، وشذّ هو عن قواعد أهل العلم وتطبيقات العلماء.

 

وهذا الرجل؛ مهّد المناخ لقبول الناس بفكرة المهدي المنتظر هذه الأيام، ويعمل جهده -مع فريق العمل من البارعين والهواة والمقلدين([1475])- لتكريس هذا المعتقد، ويدعمه في ذلك الرافضة، والمحور الذي تدور كتبه عليه تركب على هذا المعتقد، ومن آخرها كتاب: «القنبلة»، وقرأتُ عنه في شبكة (الإنترنت)، ما يلي:

 

«أخيراً سمحت السلطات المصرية بإصدار الكتاب الذي يحمل اسم (القنبلة) (الذي لا يتجاوز عدد صفحاته 260 صفحة - مطبعة مدبولي صغير) للمفكر الأديب محمد عيسى داود المتخصص في دراسة الآثار، والتبحر في الإسرائيليات، وتمكنه من عدة لغات منها العبرية، والمستشار الرسمي للمجلس الأعلى لرعاية آل البيت -عليهم السلام- في مصر، والذي يستعد حاليّاً لرئاسة تحرير جريدة صوت آل البيت -عليهم السلام- التي يرأس مجلس إدراتها السيد محمد الدريني.

 

ويتناول الكتاب قضية الإمام المهدي المنتظر -عجل الله -تعالى- فرجه الشريف-، ونجاح فدائيون([1476]) من فلسطين وخبراء آثار من تصوير اليهود الذين مسخهم الله في كهف بأم الرشراش المصرية (إيلات المحتلة من قبل إسرائيل)، ويؤكد الكاتب المفكر إن أم الرشراش هي القرية الوارد ذكرها في القرآن الكريم (القرية التي كانت حاضرة البحر)!

 

ومرفق مع الكتاب إسطوانة كمبيوترية تتضمن تصوير الكهف من الداخل.

 

وتعود أهمية هذا العمل المتقن إلى كون كاتبه من الشخصيات اللامعة، والمتخصصة في حقل تعود إلى الجهات الرسمية، (فهو مكتشف نظرية الأطباق الطائرة، والمسيخ الدجال، ومؤلف سلسلة كتب عن الإمام المهدي  -عجل الله فرجه الشريف-، ومن أبرزها: (المهدي على الأبواب)، واكتشاف أمريكا جبل الذهب بنهر الفرات، كما يؤكد أن صدام حسين هو السفياني عدو آل البيت -عليهم السلام-، وله مؤلف في غاية الأهمية عن علم الجفر، وتستضيفه جامعات عالمية لإلقاء محاضرات في هذا الشأن.

 

هذا؛ وقد ذكر في (العدد الأخير للجيل)، أنّ الكيان الصهيوني عرض في الأسابيع الماضية على شركات السياحة المصرية لاستخدام ميناء أم الرشراش التي تطلق عليه (إيلات)، بدلاً من استخدام ميناء العقبة.

 

والجدير بالذكر، أنه تشكلت في مصر منذ سنوات جبهة من كافة القوى الوطنية، ومن المجلس الأعلى لرعاية آل البيت -عليهم السلام- من خلال ملتقى بواشق الحسين -عليه السلام- لاستعادة أم الرشراش المصرية المحتلة (إيلات)».

 

فهؤلاء الخائضون غالوا في إسقاط الأحاديث على الوقائع، وتعسّفوا في ذلك؛ خدمة لمآرب مشبوهة، واعتمدوا في ذلك على حساب الجُمَّل، ومرويات الرافضة([1477])، والإسرائيليات القديمة والحديثة.

 

وبقي الأمر على هذا الحال، تُلقى بين الفينة والفينة على مسامع الناس أشياء تدهشهم، وهم على أقسام: المكذِّب -وهم خيرهم وأكثرهم علماً وحلماً-، والمتردد المتشكك، والمُصدّق؛ ومنهم من كان يتنطح في المجالس، ويهرف بما لا يعرف، ويردد غير الذي قرأ أو سمع([1478])!

 

وتشبّع المصدِّقون بمنامات([1479])، .......................................... وتقوى بها الخائضون العابثون([1480])، وكانوا من خلال ذلك كلِّه يُروِّجون لنصر واقعٍ لا محالة للعراق، وخاب الأمل -للأسف-، ووقعت الكارثة، وسقطت بغداد([1481])، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

ولا يسعنا إلاّ أنْ نردد مع ابن الأثير قوله في «الكامل في التاريخ» (12/358-359):

 

«لقد بقيتُ عدّة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها؛ فأنا أقدّم إليه رجلاً، وأُؤخّر أخرى، فمَن الذي يسهل عليه أنْ يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومَن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟!

 

فيا ليت أمّي لم تلدني، ويا ليتني مِتّ قبل حدوثها، وكنتُ نَسياً منسيّاً، إلا أني حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا مُتوقّف، ثم رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمّن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقّت الأيّام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إنّ العالم مذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم وإلى الآن، لم يُبْتَلَوا بمثلها، لكان صادقاً، فإنّ التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يُدانيها.

 

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث: ما فعله بخْت نَصّر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدّس، وما البيت المقدّس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدّس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مَن قتلوا، فإنّ أهل المدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.

 

وأمّا الدجال؛ فإنه يُبقي على مَن اتّبعه، ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم».

 

وقال عن مجيء (التتر) في (12/375-376):

 

«ولقد جرى لهؤلاء ما لم يُسمَع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة([1482]) حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شكّ أنّ من يجيء بعدنا، إذا بَعُد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة يُنكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك، فلينظر أننا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسّر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دُفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدّى همّته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذًى وشدّة مُذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دُفعوا إليه الآن».

 

فصل

 

ظاهرة إسقاط الأحاديث الواردة في الفتن على وقائع معينة:

 

تكييفها، وضوابطها، والتحذير من عبث الخائضين فيها، وتقويم أشهر دراساتهم([1483]) التي ظهرت حديثاً في فتنة العراق بأزمنتها المتلاحقة

 

الذي رأيتُه من خلال تتبعي لظاهرة إسقاط الأحاديث على أحداث الفتن: إنّ أصوب الناس فيها أصحاب الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب؛ كان تعامله مع هذه الظاهرة أصوب، وكلما كان عن الحديث أبعد؛ ازداد تورّطاً، وتخبُّطاً، وانكسافاً، وانخسافاً، ونزولاً، وتردّياً، وجهلاً.

 

* معنى الإسقاط ومرادنا من هذه الظاهرة

 

الإسقاط في اللغة مأخوذ من سقط الشيء، يسقط سقوطاً، فهو ساقط وسقوط([1484])، والإسقاط تأتي بمعان عديدة؛ منها:

 

1- بمعنى الخطأ في القول والحساب والكتاب: والسَّقَطُ والسَّقاطُ: الخطأ في القول والحساب والكتاب، وأسقط وسقط في كلامه وبكلامه سقوطاً: أخطأ.

 

وتكلم بكلام فما أسقط كلمة، وما أسقط حرفاً، وما أسقط في كلمة وما سقط بها؛ أي: ما أخطأ فيها. يقال: أسقط في كلامه، وتكلم بكلام فما سقط بحرف، وما أسقط حرفاً([1485]).

 

2- بمعنى العثرة والزلة: والسَّقطة: العثرة والزلة، وكذلك السِّقاطُ، يقال: لا يخلو أحد من سقطة، وفلان يتتبع السقطات ويعد الفرطات، والكامل من عدت سقطاته وهو مجاز، ويقال: فلان قليل السقاط، كما يقال: قليل العثار([1486]).

 

3- بمعنى عثر: سقط على ضالته: عثر على موضعها ووقع فيها، كما يقع الطائر على وكره. وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله -عز وجل- أفرحُ بتوبة عبدِه مِن أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة»([1487])؛ معناه: يعثر على موضعه ويقع عليه؛ أي: صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به([1488]).

 

4- بمعنى النزول: سقط القوم إليَّ سقوطاً: نزلو عليَّ وأقبلوا، ومنه حديث: «فأما أبو سَمَّال فسقط إلى جيران له»؛ أي: أتاهم فأعاذوه وستروه.

 

وسقط الحَرُّ يسقُطُ سُقُوطاً: يكنى به عن النزول، قال النابغة الجعدي:

 

إذا الوحشُ ضمَّ الوحشَ في ظُلُلاتها

 

 

 

سواقطُ من حَرٍّ، وقد كان أظهرا([1489])

 

5- بمعنى وقع: سقط الشيء من يدي سُقوطاً بالضم، ومَسقطاً بالفتح، وقع على الأرض، وكل من وقع في مهواة يقال: وقع وسقط([1490]).

 

وفي المثل السائر (على الخبير سقطت)؛ أي: على العارف به وقعت.

 

ويقال: سقط الشيء سقوطاً: وقع من أعلى إلى أسفل، كسقوط الإنسان من السطح، ويقال: سقط من كذا في كذا، كسقوط الشخص في حفرة حفرها الغير في طريق عام، وفي المثل: (سقط العشاءُ به على سِرحان). يضرب للرجل يبغي البُغية فيقع في أمر يهلكه([1491]).

 

6- بمعنى الرفع والإزالة: أسقط اسمه من الديوان: رفعه وأزاله، ويقال: سقط عنا الحر: إذا زال وأقلع، وسقط الرجل: إذا وقع اسمه من الديوان. وقول الفقهاء: سقط الفرض؛ أي: سقط طلبه والأمر به، ومنه قولهم: سقوط الحد بالشبهة؛ أي: امتناع إقامته بسبب الشبهة([1492]).

 

بالنظر في هذه المعاني؛ نجد أن المعنى الرابع([1493]) والخامس يدلان على معنى الظاهرة التي نتكلّم عنها؛ إذ مرادنا منها: إيقاع الأحاديث والآثار التي فيها إخبار عن أحداث ووقائع مستقبليّة على واحدة نازلة منها، بحيث لا يكون المراد بها إلا هذه النازلة دون سائرها، وكأن هذه النازلة رفعت وأزالت المعاني المتوقعة عن المحل الذي يُنزَّل فيه النص.

 

ويمكن أن نعرف هذه الظاهرة بتنزيل الأحاديث وما في حكمها، على أحداث لم تقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقعت بعد موته -عليه الصلاة والسلام-، سواء كان هذا التنزيل على حادثة تم وقوعها، أو ظهرت مخايل ذلك.

 

وتكون هذه (النازلة) أو (الحادثة) عامة تصيب أمّة أو قطراً، وينجم عنها آثار ظاهرة، ونتائج مهمّة، وقد تكون هذه النتائج -إن صدق التنزيل- منصوصاً عليها، معروفة بالخبر، إذ المراد من هذا التنزيل غالباً استشراف مجريات أحداث بدت مقدماتها، وظهرت على السطح، وخفيت غالباً حال التنزيل ثمارها وما تتمخّض عنه، استجابة لقوة مركوزة في النفس، تتطلع لمعرفة ما يقع وما سيجري في المستقبل.

 

ولا صلة لمعنى هذه الظاهرة في مبحثنا هذا بـ(الإسقاط) المذكور في كتب الفقهاء من «إزالة الملك أو الحق لا إلى مالك ولا إلى مستحق، وتسقط بذلك المطالبة به»([1494]).

 

* أهمية المعالم والضوابط لهذه الظاهرة

 

هنالك معالم وضوابط لا بُدّ من معرفتها في التعامل مع الفتن الحادثة؛ حتَّى يصح الزعم أنّ النصوص تشملها، أو تراد بها؛ وهذه المعالم والضوابط هي المبادئ والخطوات المنهجيّة المترابطة المنبثقة عن خصائص النصّ الشرعي، وطريقة تنزيله؛ بغية الوصول إلى فهم سديد لمراد الله -عز وجل- من النصّ، مع حُسن التعامل مع النصوص بما لا يخرجنا عن المعتقد الصحيح، والمسلّم الثابت في النصوص، ولا يبعدنا عن المقاصد الشرعية، ولا بُد من هذه الضوابط والمعالم لتوفير أرضيّة تعصم -بإذن اللَّه- من الزلل والتعسف والتكلف في فهم مراد الشارع من هذه النصوص.

 

* تكييف (الإسقاط) وبيان أنه من (ملح) العلم لا من (صلبه)

 

عمليّة الإسقاط اجتهاد، تشبه تماماً (الاجتهاد التنزيلي)([1495]) في مباحث (أصول الفقه)، مع التنويه بأنّ المعاني في المسائل الاجتهادية ظاهرة، والمقاصد غير خفيَّة، والأشباه والنظائر -غالباً- متوفّرة، والجهود قائمة، بخلاف الغيب المطلق الذي تتفاوت أحداثه وحوادثه؛ فيعسُر -أو يستحيل- حصرها في قواعد كليَّة مضبوطة، وهذا النوع من العلوم سمَّاه الشاطبيُّ: (ملح العلم)([1496])، وهو ما لم يكن قطعيّاً، ولا راجعاً إلى أصل قطعيٍّ، بل إلى ظنّيٍّ، أو كان راجعاً إلى قطعي؛ إلا أنَّه تخلَّف عنه خاصة من خواص القطعي، أو أكثر من خاصَّة واحدة، فهو مُخَيَّل، ومما يستفزّ العقل ببادئ الرأي والنَّظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلالٌ بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صحَّ أن يُعَدَّ في (الملح) لا في (الصلب)؛ لتخلّف خواصِّ (الصلب) في مثله، ومن أهم ذلك:

 

أولاً: عدم الاطِّراد والعموم؛ فمفردات الحوادث التي قد يصدق عليها نصٌّ ثابت في الفتن ليست مطَّردة ولا عامة في سائرها، وهذا قادح في عدّه من (صلب) العلم؛ لأنّ عدم الاطّراد يقوِّي جانب الإبعاد، ويُضعف جانب الاعتبار، ويقرّبه من الأمور الواقعة  فلتة، فلا يوثق به بحيث يُبنى عليه.

 

ثانياً: عدم الثبوت؛ فإنه إذا حُكم في مفردة أو حادثة صَدَقَ عليها النّص في زمان أو قضيّة أو بلدة، فإنّه لا يطرد في كل حادثة إلا بقرينة، ومن فعل فقد أخطأ، وصنع باطلاً؛ إذ أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عمّ فيما ليس كذلك، فالقيود والأوصاف والأزمنة والأمكنة لها اعتبار في أحاديث الفتن، بها تخص وتقيّد وتعتبر، ولذا فالناظر في أحاديث الفتن يعدم الوثوق بثبوت الحكم واطّراده، وذلك معنى خروجها عن (صلب) العلم.

 

ثالثاً: عدم الحكم والبناء عليه؛ فالصلب يكون حاكماً لا محكوماً عليه، ويُبنى ويُخرَّج ويُفَرَّع عليه، أما مفردات الوقائع من الحوادث فتفيد الواقف عليها فائدة حاضرة، لا يمكن من خلالها أن يجعلها حاكمة، أو يتوصل إلى مثيلاتٍ لها من خلال ما يمكن أن يتفرع عنها؛ فإنها أصالة ليست موضوعة لذلك.

 

* الإسقاط يعتريه خفاء وغموض، وبيان خطورته

 

من خلال ما مضى؛ يتبيَّن لنا أن الإسقاط لا يكون إلا من مجتهد، وهذا الاجتهاد يجري في محلٍّ فيه غموض وخفاء، ويحتاج إلى علم واسعٍ بالرواية، واستحضار لألفاظ المرويات، دون خلط بين النّص وحقيقته من جهة، والحدث الواقع من جهة أخرى؛ فقد يمكن أن يكون الغرضُ من الإسقاط مدروساً لصنع تصوّر ما، أو يتّخذ وسيلة لتثبيت تصور وقناعة للوصول إلى هدف معين مدروس، وغرض مقصود([1497])، فبدلاً من أن يستنار بهذه الأحاديث في ظلمات الأحداث، إذ تُستبدل لتوظّف في صنع الظلمات، والوقوع في البلبلة والجهالات، وتمرر من خلالها المخططات والمؤامرات!

 

والأمر المريب فيما قرأنا وسمعنا من أعمال المراهقين العابثين الخائضين: الحزم والجزم بما سيقع على هيئة (بيانات)، وتجريدها عن الكشف وصحة البحث عما سيقع، واستسلام السذج المطلق لها، وصنع نفسيَّة معيّنة بناءً عليها، وليس مجرد التحفظ، أو حصول حدث ما، ثم البحث عن النص -بعد وقوع الحدث- وإسقاطه عليه، لا؛ إنما هو تخرص وتكهن بالغيب، وبثّ أخبار مصنوعة بين أبناء المسلمين القارئين غير الواعين العالمين، وعزوها إلى مراجع وهمية، غير حقيقية([1498])، وخروجها  فجأة، إن كان لها وجود -أي وجود- بالتحريف([1499])، أو التشويه، أو الحذف والبتر، وسبق أن ذكرتُ لك أمثلة على ذلك.

 

لا يظنّ أحد أنني أتّهم كل من استعجل فأسقط حدثاً على حديث، أو أنني أُبرّئ الصادقين من الوقوع في مثل هذا الخطأ، ولكني أشير بأصابع الاتّهام لمن يؤصّل لذلك على فهم سقيم، واستدلال أعوج بين يدي الأحداث الجسام، وقامت القرائن القوية على تقصد كذبه، وحصول تخطي النصوص عنده دائماً على محور محصور، وإخضاعها لما يجري دون أي معايير علمية، من غير مبالاة لتقويم ما أظهرته الأحداث بمضي الزمان من أخطاء؛ فهذه مظاهر تدعو إلى القلق والانزعاج، وتكدّر صفاء الرؤية الشرعية العقدية، وتشذّ عن مألوف الدين ومعروفه، وما عليه الصادقون من أهل العلم في تعاملهم مع هذه النصوص؛ لأنها جعلت النصوص الشرعية المتعلّقة بعالم الغيب، خاضعة لمحك الواقع، وربطته بعامِلَي الزمان والمكان، وحوّلت النص بقداسته وصدقه إلى واقع محسوس متجسد بواقعة معينة، فإن خاب الظن، وأخطأ الهجس والحدس، فإن ضعاف الإيمان والعقول ينكرون النص؛ إذ قام في مخيلتهم بناء على التسليم بهذا التنزيل، أن مصداقية النص خاضعة لسلطان الواقع، وكانوا أسارى له بفعل قوته الوهمية لا الحقيقية، القائمة على التخيّل، فكيف إنْ صاحب ذلك دعوى إلى حد التهور إلى ضرورة قبول بعض الأخبار المحكوم عليها بالبطلان([1500]) من غير اعتبار قواعد أهل الصنعة الحديثية، ففي هذا كله دعوة إلى التعامل مع النصوص -إثباتاً واستنباطاً- دون منهج علمي، ودعوة إلى الافتئات على النصوص، وربطها بأمور تجريبية تتأثر بالضغوط والقناعات المذهبية، والتصورات الشخصية.

 

فصل

 

قيود وضوابط الإسقاط

 

إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق؛ وهي: إنّ هناك قيوداً وضوابطَ، يمكن مِن خلالها القول بجواز إسقاط النص على الحدث، أحصرها في النقاط الآتية:

 

أولاً: لا بُدّ من التحقق من صحة النّص، والتثبت من ألفاظه وحصر مروياته؛ لتمكن معرفة معانيه على ضوء ذلك.

 

ومهما بذل الناظر من جُهدٍ في فهم النص، وأخلص وتفانى في سعيه إلى التوصل إلى المراد منه، أو إسقاطه على حدث ما؛ فإنّ سعيَه كلَّه يظلُّ جهداً غير معتبر ولا مفيد، إذا تبيّن أن النّصّ غير ثابت، ولذلك؛ فلكي يستفيد الباحث من وقته وجهده فلا بُدّ له من مراعاة هذا الضابط المهم، وهو أساس كل شيء.

 

وهكذا يقال في ضرورة جمع الألفاظ والروايات؛ فإن المنصوص عليه مقدّم على الاستنباط، ومهما سعى واجتهد الشارح في توجيه النص وتنزيله؛ فإنه بمجرد ثبوت لفظة أو جملة في رواية أخرى تخالف هذا التوجيه والتنزيل، تجعله في حكم العدم، وهو على أحسن حالاته: اجتهاد مخالف للنص؛ فلا عبرة به، ولا يفرح له!

 

ونستطيع أنْ نقرر هنا: أنّ هذا الضابط المنهجي مغيَّب تماماً عن كثير من الدراسات التي ظهرت أخيراً عن أشراط الساعة والملاحم؛ إذ رام أصحابها إسقاط هذه الأحاديث على وقائع معيّنة قام في ذهنهم أنها هي المعنية بالنصوص([1501])، فأخذوا يفتشون في بطون الكتب بغية الإسقاط، فأقاموا بناءً على مقدمات غير مسلم بها، ولم يتم -بعدُ- التحقيق في صحتها وثبوتها، فأضاعوا جزءاً وفيراً من أوقاتهم، وأوقات الرادِّين عليهم، المنبِّهين على اعوجاج طريقتهم بسبب عدم مراعاة هذا الضابط الأساس.

 

ومما ينبغي التأكيد عليه بخصوص هذا (الضابط)، أنه عند التأكد من عدم ثبوت النص، فإن عمليه الإسقاط تلغى ولا يقام لها وزن.

 

ثانياً: ترك الاستدلال باللوازم وغير الظاهر، والبعد عن الاجتهاد في ترتيب الأحداث الواردة في النصوص دون دليل، إذ الإسقاط من (ملح العلم)، مُتخلِّف عنه الثبوت والاطّراد والحكم والبناء عليه، كما قدمناه قريباً.

 

ومن الواجب: عدم الاعتماد على ترتيب الحوادث التي صحت فيها الأحاديث على تنبؤات الكهنة، وكتب الرافضة، والإسرائيليات؛ فالحوادث شيء، وترتيبها دون دليل بتسلسل معين، شيءٌ آخر، لا بُدّ من التفرقة بينهما، وهذا ملحظ لم ينتبه له كثير من الخائضين، فضلاً عمن لهم مشاركة، ولا سيما في المقالات أو المقابلات عبر (الفضائيات)، وهذا (الضابط) يناقش فرضية رفض إعطاء مسوّغات ضعيفة وهزيلة باسم عدم تحقق شروط التنزيل لوقائع ظاهر الأمر فيها عدم الالتزام بمفهوم النص، وليس لعدم توفر شروط التنزيل([1502]).

 

ثالثاً: أن يبقى هذا الإسقاط في دائرة التوقّع المظنون، دون أن نتكلَّف إيجادها بإجراءات من عند أنفسنا؛ لأن الوقائع والأحداث أمور كونية قدرية واقعة لا محالة، ولم نخاطب باستخراجها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة([1503]).

 

رابعاً: أن لا يؤثّر هذا الإسقاط، والترقّب الذي يترتب عليه، على أداء واجب الوقت، وتكاليف الشرع([1504]).

 

وهذا -مع الذي قبله- تحصيل حاصل، وثمرة حتمية لكون (الإسقاط) من (الملح) لا من (الصلب)، ويتأكد (القيد الرابع) بحال الصحابة -رضوان الله عليهم-، وسيأتيك قريباً تحت عنوان (كيف ينبغي أن نفهم أحاديث الفتن؟) مزيد إيضاح وبيان.

 

وأما (القيد الثالث) فهو ثمرة لكون الإسقاط هو (تنزيل)، كما ذكرناه عند الكلام على (تكييف الإسقاط)، وبالتالي هو استنتاج قابل للخطأ والصواب، و«لأن أحاديث الفتن لا تحدد الزمان لخروجها، فلو حددت الأحاديث سنوات خروجها لما أصبحت فتناً، ولما وقع فيها الناس وامتحنوا، ولهذا فإن (الفتن) لا تُعرف إلا بعد حدوثها، أما خلال فترة الوقوع فلا يتم تميّزها ومعرفة حقيقتها؛ لهذا يقع الإنسان فيها من حيث لا يدري، ويتم امتحانه، وبالتالي تتحقق سنة الله التي جعلها غاية لوجود هذه الفتن»([1505]).

 

خامساً: الذي يقوم بالإسقاط عالِم مشهود([1506]) له، إذ الإسقاط أدقّ تفسيرٍ وشرحٍ للنَّص، فهو حصرٌ لمعنىً في حادثة معيّنة، ولهذه الحادثة نظائر فيما مضى، وقد يتخلّف عنها وصف، أو ذكر زمان أو مكان، أو شخص له ذكر في النص؛ فالهجوم بمجرد المشابهة والتخيُّل دون التأنّي ليس من المنهج العلمي، ولا سيما أنّ الحوادث لا تنتهي!

 

وينبغي أنْ يراعي مَن يقوم بذلك: التزام التجرد والموضوعية في فهم النصوص؛ بمعنى: «يجب أنْ لا يخضع [النص] لأيّة مقررات سابقة، أو رواسب قديمة، أو مواقف ممهّدةٍ سلفاً، بل يجب أن ينطلق فهم هذا النص من النص نفسه، وينبغي أنْ يستمد أيُّ فهمٍ صلاحيتَه وسلامتَه من النظر الأمين فيه، وليس مقبولاً أنْ يكونَ فهمُ هذا النص أسيرَ المواقف والرواسب والمقررات السابقة القديمة؛ وذلك لأنّ الأفهامَ التي تنطلق في أساسها من مواقف موافقةٌ، أو مناوئةٌ، من النادر أنْ يُوفَّق إلى الوصول إلى المراد الإلهي من نصّه، بل كثيراً ما تتميز بالإسقاطات والتكلف، ولهذا فإنه لكي يسلم الاجتهاد في فهم النص الشرعي؛ فإنّ على المجتهد أنْ يلتزم بهذا الضابط المنهجي: التجرّد والموضوعيّة.

 

ومرادنا من (التجرد): هو تخلي المجتهد عن جميع مقرراته السابقة، ومواقفه المتعددة، وتوجهُه إلى النص الشرعي بعقلية نزيهة، تهدف إلى التوصل إلى المراد الإلهي بغض النظر أن يكون ذلك المراد الذي سيتوصل إليه موافقاً لمقرراته السابقة، أو مناوئاً لها.

 

وأمّا مرادنا بـ(الموضوعية): فهي تجرّد المجتهد مِن الذّاتية، ومِن التحيّز لآرائه السابقة، ومقرراته القديمة، وتميزه بالأمانة والاستقامة عند الاجتهاد في فهم نص من النصوص؛ بحيث يجعل التوصل إلى المراد الإلهي من نصه هدفه ومرماه في اجتهاده.

 

وتكمن أهمية هذا الضابط المنهجي في كونه الضابط المظلوم([1507]) ضمن ضوابط الاجتهاد في فهم النص المنهجية، إذ إنه كثيراً ما يُغْفَل، ويُهْمَل ولا يُذكرُ إلا نادراً، وبسبب إهماله شاع التفسير السياسيّ والمذهبيّ للنص الشرعي -قرآناً وحديثاً-، ولو استُحْضِر هذا الضَّابط المنهجي المهمّ عند الاجتهاد في فهم نص من نصوص الوحي -كتاباً وسنة-؛ لما انتشر بين المسلمين التفاسير الخادمة للتوجهات، والأفكار، والمذاهب، والمشارب...، بل إنّ أهمية هذا الضابط تتجلى أكثر في كونه المنهج الذي التزمه الأصحاب -رضي الله عنهم- عند تعاملهم مع النص الشرعي، ممّا جعل فهمهم له فهماً لا يُدارى، ولا يُضاهى؛ إذ كان الصحابي يبذل ما وَسِعَه من جهد في فهم النص الشرعي، دون أنْ يجعل مواقفه أو اتجاهه حاكماً على فهمه، بل كان النص الشرعي هو الذي يكوِّن له مواقفه، ومقرراته، وهو الذي على ضوئه يتخير مذهباً، أو ينتهج منهجاً معيَّناً([1508])، ولذلك سلم فهمُهُم لمراد الشارع من نصوصه، ولم يظهر في أيامهم ولا في تفاسيرهم أيُّ لون من ألوان التفسير السياسي، أو المذهبي للنص القرآني أو النبوي، وإنّما ظلّت أفهامُهم للآيات غيرَ متأثرةٍ بأيِّ موقف من المواقف المؤيدة أو المناوئة...

 

وعليه؛ فإذا ما تجاوز المجتهد في اجتهاده هذا الضابط المنهجي، فحدِّثْ ولا حرج عن التأويلات الجائرة الخائرة في البُعْد عن مراد الشارع من نصوص وحيه -كتاباً وسنةً-، بل إنّ مجتهداً يأتي إلى النص الشرعي ورأسُه مليء بطائفة من التصورات والمواقف والمقررات والرواسب؛ فإن الفهم الذي يتوصل إليه لا يعدو سوى أنْ يكون جملة مِن تصوراته، أو طائفة مِن مقرراته، ولا يمكن أنْ يَهدِيَه ذلك الفهمُ إلى مراد الشارع -جلَّ جلاله-.

 

إنَّ هذا الأمر مُشاهد على مستوى الكتب البشرية؛ نعني: أنه لو أنّ مؤلفاً نظر في كتاب -وفي خلده أفكارٌ، وتصوراتٌ مقررة- فإنّ فهمه لذلك الكتاب سيتأثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة بأحكامه الأولية المقررة، وتصوراته الموجّهة لتفكيره ومنهجه، مما يُفقده القدرة على التوصل إلى حقائق ما يحمله ذلك الكتاب. وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، فما بالك لو كان ذلك النص الذي ينظر فيه الإنسان نصّاً شرعيّاً يتميز بأسلوب مرن يمكن للمرء أن يخضعه تعسفاً لمقرراته وتصوراته، ويمكن لغيره -هو الآخر- أنْ يجعله مؤيِّداً وسَنَداً لاتجاهاته وأفكاره.

 

لذا؛ فإنّنا نرى أنّه لا مَفَرَّ للمجتهد الذي يسعى إلى التوصل إلى حسن فهم الوحي -كتاباً وسنةً- من التقيد والالتزام بهذا الضابط المنهجي، ولا سبيل إلى الوصول إلى المراد الإلهي من النص سوى اتباع هذا الضابط، وسوى تجريد الفهم والاستنباطات من الذاتية، والتحيز، والاستدلالية، وبهذا وحده يجد المجتهد نصّاً قادراً على انتشال البشرية من براثن الضياع والتخلف، والأمراض الخلقية والنفسية، والأزمات الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية!

 

إنَّ غياب هذا الضابط في تعاملات كثير من متعصبي الفرق والمذاهب والاتجاهات مع النصوص الشرعية، أدَّى إلى استجرار النص الشرعي إلى جميع ساحات الصراع الفكرية والعلمية والسياسية... إلخ استجراراً تعسفيّاً لتأييد مذهبٍ، أو منهجٍ فكري، أو عقدي، أو فقهي، وما ذلك إلا بسبب عدم تجرد المتفهّم من الذاتية والتحيز والتعصب»([1509]).

 

ويجد المتمعِّن في كثير من دراسات المعاصرين في إسقاط الأحاديث على الأحداث، أو على ما استجد من اختراعات؛ أنّ أصحابها ما استناروا بهذا الضابط المنهجي، ولم يجرِّدوا أنفسهم من صبواتهم ورغباتهم، ولذا نجدهم أخضعوا النصوص لتصورات ومُنْطَلَقات وأفكار وتخرّصات راجت في أوقاتهم بتأويل جائر خائر بائر حائر، خالفت المقاصدَ الشرعيّة الكليّة، والضوابط المنهجيّة للتعامل مع النص، ولم يحققوا الغاية المأمولة من تجسيد معاني هذه النصوص بحسن تصوّر، وإنما كان ديدنهم وشعارهم إسقاطاً لشيء بيّتوه في أنفسهم في وقت صعب بتهوّر.

 

ومن الأهمية بمكان: أنْ يراعي المجتهدُ العدلَ في فهمه؛ بحيث يُبقي على مراتب النصوص كما وصلتنا، وأن يلحظ تعدد الأفهام والاجتهادات في تفسير النصوص التي ربّما قد تتدخل الظروف والبيئات في تكوينها وإفرازها، كما سبق بيانه.

 

«وبما أنّ الظروف والبيئات والحياة نفسها في تغيُّر مستمر، وتطوّر دائم، فإنه ليس من المقبول منهجيّاً إلباس فهم متأثر بظروفه وبيئته بلباس الديمومة، والعصمة، والأبدية، والحيلولة دون أي فهم آخر منبثق عن بيئة وظروف متغايرة، ومختلفة عن ظروف وبيئة الفهم الأول، ولن يكون للمرونة والسَّعة أيُّ معنًى إذا تحول النص الظنيُّ -بسبب اجتهادٍ- إلى نصّ قطعيٍّ في حق غير المجتهد... وبالمقابل ينبغي الإبقاء على النصوص القطعية قطعيّةً؛ فلا ينالها يد التغيير والتبديل فيتحول بسبب اجتهادٍ إلى نصوص ظنيّة، بعد أن كانت في أصلها نصوصاً قطعيةً.

 

والسبب في هذا هو أن القطعي من النصوص الشرعية ثابتٌ وغير متغير، ولا يحقُّ لسُنَّة التغيّر والتبدُّلِ والتّحوُّرِ والتطوُّر لأن تجري عليه؛ لأنه من وراء تلك السنة، وجيء به مخاطباً وراء البيئات والظروف والأحوال والعوائد، ولذلك لا يؤثر فيه أي من هذه الأمور، وإذا ما تعامل معه المجتهد مثل تعامله مع الظني من النصوص، فإن مآلَ ذلك إعادةُ النظر في جميع أحكام الدين، ونقضُه من أساسه، والانتهاءُ في نهاية المطاف إلى المروق من هذا الدين، وتبديله بشطحات العقول، وبائسات الأفكار والتأويلات الجائرة الحائرة الخائرة!

 

إنّ إدراك هذا الضابط المنهجي في فهم النص الشرعي ينبغي أنْ يقوم على إدراك البعد الزمنيّ للأفهام، والتمييز بين ما كان من الأفهام ظرفيّاً، وما كان منها فوق ظرفيّ، وما لم يتمكن المجتهد من إدراك هذا الأمر؛ فإنّ اجتهاده يظل ذا صفة تخبطية غير موضوعيّة، ولا منهجيّة»([1510]).

 

ونُقرر هنا بكل أريحية؛ أنّ كثيراً مِن الدراسات التي اعتنت أخيراً        -وسبق ذكرٌ لبعضها- في إسقاط الأحداث على الأحاديث -أو العكس- بعيدةٌ عن هذا الضابط: (الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا)، ولذا وجدنا فيها تخبطاً ولا موضوعية، والأمثلة السابقة أكبر شاهد على ذلك، واللَّه الموفّق.

 

إذا عُلِمَ هذا؛ تقرر تعذُّر الرسم التفصيلي لمعرفة مجريات الأحداث آخر الزمان، وبالتالي لا يمكن التخطيط وفق ما سيقع، إلا فلتات يكون لمن وصَفَهم حذيفة بـ: «قلوبهم من ذهب»([1511])، من غير إشغال الأمة بهذا، أو جعله من المسلَّمات([1512])! ومنه يُعلم غلوُّ جماعةٍ من الغيورين لَمّا راحوا يُقرِّرون ضرورة امتداد الاجتهاد إلى جميع مجالات الحياة، واستشراف المستقبل من خلالها([1513])، وهذا أنموذج من ذلك:

 

يقول بعض الباحثين بعد إيراده مجموعة من أحاديث الفتن:

 

«فإنّي لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أنْ أستقصي أو أنْ أستوعب، وإنّما هي شذرات منها أردت أنْ أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه أحاديث الفتن، وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.

 

لقد ألف كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ولكن مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل مَن أوتي فهماً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصيرةً في أحداث التاريخ والواقع.

 

لقد ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ولعل قائلاً يقول: أيُّ فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط والتنظيم الدقيق؟! أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع، أو الاستنامة على نبؤاتٍ، الله أعلم بها متى تقع؟!

 

وأقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم يُلحَّ في الحديث عن الفتن لتُسَوَّد بها صفحاتٌ من كتب الحديث، أو لتفرد في مؤلفات تُقرَأ للبركة، وتبين صدق نبوته -عليه الصلاة والسلام-فحسب-!

 

وإنما قالها ليفقهها عنه المسلمون المعنيّون بها في كل عصر من العصور؛ أنَّها جزء من الرسالة التي حمَّلَها وأشهد عليها بقوله: «ألا هل بلغت؟»، والمطلوب من المسلمين فهمها كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تُفهم، والعمل بالوصايا التي ضمّنها إيّاها.

 

إنّ كثيراً مِنَ الأحاديث إنّما هي أشبه بالرؤيا، ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا مَن آتاه الله علمَ تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشح لدراسة هذه الأحاديث وفقه ما فيها، وبثّ هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس، ويتبع بغنمه شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفرّ بدينه من الفتن.

 

وعلينا أنْ نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون بدينهم، ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون به؟

 

إنّ البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده، بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام؛ لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي عمل إسلاميّ لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظلّ -في رأيي- غائمَ الوجهة والأساليب، بل إنّ فقهَ أحاديث الفتن ضروريٌّ للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريبٍ الحديثُ الذي بين أنّ المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو مشترك، وإنّ مَن يفقه أحاديث الفتن يستطيع مِن خلال إدراكه لروح العصر أنْ يمتلك وعياً سياسيّاً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد.

 

وأضرب على ذلك مثلاً سمعته من أحد الثقات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن؛ هو الشيخ الدبّاغ، لقد كان هذا الشيخ يقول للناس -ويقسم-: إنّ بريطانيا وحلفاءَها سينتصرون في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك، بل لقد أسرّ إليه بعض المقربين أنّ الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا!!!

 

وقد بين الشيخ -رحمه اللَّه- الأساس الذي بنى عليه يقينه؛ وهو أنه ربط بين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بيّن أنّ المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة، وبين أحداث عصره؛ فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور، وما تلا ذلك من أحداث، ولن تقوم لليهود دولة إلا إذا انتصرت بريطانيا، ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة.

 

وقد كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسّر به أحداث عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أنْ يكون.

 

وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرةَ الروم (أي: النصارى) في آخر الزمان، وقتال المسلمين لهم، ومواضعَ هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية وروميّة، ونصر اليهود للدجّال، وقتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- له في باب اللدّ في فلسطين، ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام -أفراداً، وجماعاتٍ، ودُولاً-.

 

إنّ البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل، وليس من باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط، والتفكير، والتدبير المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

 

والنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث، وما فيها من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن، مما سبق ذكره، ومما هو مفصل في كتب الصحاح... ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نُوكَل إلى نفوسنا، وتخطيط عقولنا، أم نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟!

 

فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي، والتاريخ، وفقه الواقع المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين؛ ليكون هداية لهم، وليعرفوا مدى حب النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وحرصه على نجاتهم من الفتن، ويجدوا -وهم يقرؤون- ذلك تفسيراً عمليّاً لقول الله -عزَّ وجلَّ- في وصف نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيه مَا عَنِتم حَريصٌ عَلَيكم بِالمُؤمنين رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]»([1514]).

 

قال أبو عبيدة: أُطَمْئنُ الأخ الكاتب أنه لن يجد من أهل العلم والتبصر من يتصدّى لما اقترحه، نعم؛ ذلك ممكن ومتصوّر لو كان (الإسقاط) و(التخطيط) و(التفكير) و(التدبير) المبنيّ عليها من صلب([1515]) (العلم)، والأمر -كما قدمناه- ليس كذلك، ولا بُدّ من التنويه بأمور مهمّة تخصّ مقاله:

 

الأول: قوله: «ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم» غير دقيق؛ وها هو «البداية والنهاية» و«نهاية النهاية» -وهو «الملاحم والفتن» له- لم نجد الربط المذكور، ولا يُتَصوَّر إطلاقُه، وجاء بعده كثير من العلماء، فلم يفعل أحد قبله ولا بعده ذلك، وإنّما هي فكرةٌ استقرت في ذهن صاحبها، وأخذ يُدلل عليها قبل أنْ يفحصها، وتعلّق بما لا يصح متعلَّقاً، ومثّل بشيء لا يصلح أنْ يكون مثالاً.

 

ثانياً: نعم؛ هنالك ومضات وإفاضات من كلام ابن كثير تدلل على حرصِه، وتخوُّفِه على قومه، وهي مِن إفاضاته فيما يخص حوادثَ عصره، تفيد توسع مدلول النصوص الواردة في الفتن، ولكن الربط المدّعى غير واقع أصلاً، فضلاً عن الزعم -فيما يبدو للقارئ- أنّه فعل ذلك من البداية إلى عصره، فهذا غير واقع من غير دافع، وهذا نقل عنه يصلح أنْ يكون أنموذجاً في الإسقاط الصحيح، بضوابطه المعتبرة.

 

قال -رحمه الله تعالى- في «البداية والنهاية» (13/119) عند كلامه عن (فتنة التتر):

 

«وقد قَتَل جنكيزخان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من «خوارزم شاه»؛ فإنه لما أرسل جنكيزخان تُجَّاراً من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه؛ هل وقع هذا من الأمر عن رضًى منه، أو أنه لا يعلم به؟ فأنكره.

 

وقال فيما أرسل إليه: «من المعهود من الملوك أنّ التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إنّ هؤلاء التّجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإنْ كان أمراً أمرتَ به؛ طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ وتقتصُّ من نائبك»، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان، لم يكن له جوابٌ سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ؛ فأساء التدبير، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُّه، وقد ورد الحديث: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم»([1516])، فلما بلغ ذلك جنكيزخان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بلاده؛ فكان بقَدَر الله -تعالى- ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغربَ منها، ولا أبشعَ».

 

فذكر ابن كثيرٍ رحمه الله -تعالى- لفتةً دقيقةً، وهي أنّ المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أُصيبوا بفاجعة فظيعة، وكانت العاقبة مريرة، حيث اجتاح التتار ديارهم في صورة بشعة لم يشهد التاريخ لها مثيل، وقدّمنا كلام العلماء ونقولاتهم في ذلك([1517])، والله الواقي من المهالك.

 

واللفتة نفسها نبّه عليها في (حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة)، قال في (13/168): «وفي هذه السنة كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين جيش الخليفة وبين التتار -لعنهم اللَّه-؛ فكسرهم المسلمون كسرةً عظيمةً، وفَرَّقوا شملهم، وهُزِمُوا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم، ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم».».

 

وهذا الأمر ليس خاصّاً به، وإنما هو منهج تَلَقّاه عن علماء عصره، وعلى رأسهم شيخه ابن تيمية؛ فها هو يقول:

 

«ثبتَ للشامِ وأهلِه مناقبُ بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتار، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت العسكر الشامي فيه، وقد جرت في ذلك فصول متعددة»([1518]).

 

ثالثاً: الذي غرَّ الكاتب ما عنون عليه ابن كثير في «البداية والنهاية» (6/199-212) (فصل: في ترتيب الأخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم)([1519])، و(6/214-221) (باب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة في أيام عثمان وخلافة علي -رضي الله عنهما-)، و(6/221) (إخباره صلى الله عليه وسلم عن الحَكَمين اللذَيْن بُعثا في زمن علي)، و(6/222-223) (إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم)، و(6/223-224) (إخباره بمقتل علي بن أبي طالب فكان كما أخبر)، وما أشبه هذا، واقتصر على ذكر النصوص، وتكلّم على الواهي منها، ولم يفعل([1520]) ما طلبه الكاتب الفاضل من العلماء، ولم يعمل على إسقاط النصوص على الحوادث قبل وقوعها.

 

رابعاً: هذه الظاهرة لو كانت مطردةً وكليةً وثابتةً لكثُرت فيها جهودُ الأقدمين، ولما تركوها لخوض العابثين من المعاصرين([1521])، ولكنها تُذكر وتوظَّفُ عندهم على نحو إيجابيٍّ، وتعطي النصوص شمولاً([1522]) في المعاني من غير الزعم أنها محصورةٌ في حادثة معينة، وهذا ما لمسناه من صنيع ابن كثير الماضي، ومن قبله شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه عالج (فتنة التتار) في رسالة وجهها إلى الملك الناصر تدلل على فهم عميق لأحاديث الفتن، لا تلغي المحكم من الواجبات الشرعيّة المنوطة بالراعي والرعية، وها أنذا أسوق الرسالة على طولها لأهميتها:

 

فصل

 

رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار

 

«إلى سلطان المسلمين؛ نصرَ الله به الدين، وقمعَ به الكفّار والمنافقين، وأعزَّ به الجند المؤمنين، وأدالَهم به على القوم المفسدين.

 

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسألُه أن يُصلِّيَ على محمدٍ عبدِهِ ورسولِهِ، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً.

 

أمَّا بعد؛ فإنَّ الله قد تَكفَّل بنَصْر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهوره على الدين كلِّه، وشهد بذلك، وكفى باللَّه شهيداً، وأخبر الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلهم إلى يوم القيامة([1523])، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة([1524])، وهي أرضُ الشام وما يليها.

 

كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعةُ حتى تقاتلوا التُّركَ، قوماً صِغارَ الأعينِ دُلْفِ الآنُفِ، ينتعلون الشَّعْرَ، كأن وجوههم المِجَانُّ المُطرقة([1525]).

 

وأخبر أنّ أمتَه لا يزالون يقاتلون الأُمم حتى يقاتلوا الأعورَ الدجَّال([1526])، حين ينزل عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شَرْقِيَّ دمشق، فيَقتُل المسلمون جُنْدَه القادمَ معه من يهود أصبهان وغيرهم.

 

وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مئة سنة مَن يُجَدِّدُ دينَها([1527])، ولا يكون التجديد إلاّ بعد استهدام.

 

وقال: «سألتُ ربّي أنْ لا يُسلِّطَ على أمتي عدوّاً من غيرهم فيجتاحُهم، فأعطانيها، وسألتُه أنْ لا يُهلِكهم بسَنةٍ عامَّةٍ، فأعطانيها»([1528]).

 

وما زالت دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم تَظهر شيئاً بعد شيءٍ، وقد أظهر الله في هذه الفتنة([1529]) من رحمته بهذه الأمة وجُنْدِها ما فيه عبرةٌ، حيث ابتلاهم بما يُكفِّر به من خطاياهم، ويُقبِل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على وليّ أمرِهم، ويَنزِعُ الفُرقةَ والاختلافَ من بينهم، ويُحرِّكُ عَزَماتِهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله.

 

فإنّ هذه الفتنة التي جَرتْ -وإن كانت مُؤلمةً للقلوب- فما هي -إن شاء اللَّه- إلاّ كالدواء الذي يُسقَاه المريضُ ليحصل له الشِّفاءُ والقوة، وقد كان في النفوس من الكِبْر والجهل والظلم ما لو حَصَل معه ما تشتهيه من العِزّ لأعقَبها ذلك بلاءً عظيماً.

 

فرحم الله عبادَه برحمتِه التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شَرْقاً وغَرْباً حقيقةُ حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام، وإن تكلَّموا بالشهادتين، وعَلِمَ مَن لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبُعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحَنَّتْ إلى العساكر الإسلامية نفوسٌ كانت مُعرِضةً عنهم، ولاَنَتْ لهم قلوبٌ كانت قاسيةً عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته ما لم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت نفوسُ أهل الإيمان ببَذْلِ النفوس والأموال للجهاد في سبيل اللَّه، وأعدُّوا العدَّة لجهاد عدوِّ الله وعدوِّهم، وانتبهوا من سِنَتِهم، واستيقظوا من رَقْدَتِهم، وحمدوا الله على ما أنعمَ به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله.

 

فإنّ الله فَرَضَ على المسلمين الجهادَ بالأموال والأنفس، والجهادُ واجبٌ على كل مسلم قادرٍ، ومَن لم يَقْدِرْ أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مالٌ يتسع لذلك؛ فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس، ومَن كَنَزَ الأموالَ عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجار أو الصُّنَّاع أو الجند أو غيرهم؛ فهو داخلٌ في قوله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35]، خصوصاً إن كانت الأموالُ من أموال بيت المال، أو أموالٍ أُخِذتْ بالربا ونحوه، أو لم تُؤدَّ زكاتُها ولم تُخرَج حقوقُ الله منها.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحضُّ المسلمين على الإنفاق في سبيل اللَّه، حتَّى إنه في غَزَاة تبوك حَضَّهُم، وكان المسلمون في حاجةٍ شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألفِ راحلة من ماله في سبيل الله بأَحْلاسِها وأَقْتابِها، وأعوزَتْ خمسين راحلة فكمَّلها بخمسين فرساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليوم»([1530]).

 

وذمَّ الله المخلَّفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذّمِّ حين قال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39].

 

فمن ترك الجهاد عذَّبه اللهُ عذاباً أليماً بالذُّلِّ وغيره، ونزعَ الأمرَ منه فأعطاه لغيره؛ فإنّ هذا الدِّين لمن ذَبَّ عنه.

 

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجهاد؛ فإنه بابٌ من أبواب الجنة، يُذهب الله به عن النفوس الهمَّ والغمَّ»([1531])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يُغلَب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ وقتالٍ، واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العُسْر يُسراً»([1532]).

 

ومتى جاهدَتِ الأمَّةُ عدوَّها؛ ألَّف الله بين قلوبها، وإنْ تركتِ الجهادَ؛ شَغَلَ بعضَها ببعض.

 

ومن نِعَمِ الله على الأمة؛ أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إنّ المؤمنين مِن أهل المشرق قد تحرَّكت قلوبهم انتظاراً لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدوِّ إذا جمعوا، ثُمَّ إمَّا أنْ يقفز عنهم، وإمَّا أنْ يُوقع بهم.

 

والقلوبُ الساعةَ محترقةٌ مهتزَّةٌ لنصر الله([1533]) على القوم المفسدين، حتى إنّ بالموصل والجزيرة وجبال الأكراد خَلْقاً عظيماً مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدوُّ أو لم يتحرك.

 

وكذلك قدمت بنتُ بَيْدَرَا (وكان من ملوك التتار)، وكانت مأسورةً في بيت قازان، فأخبرتْ بما جرى بينه وبين أخيه وأمّه مما يؤيّد ذلك، وهي الساعة في نِيَّتِها تذهبُ إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدَّةً إلى نصف شوَّال على ما ذكرتْ.

 

وسواءٌ ألقَى الله بينهم الفرقةَ والاختلافَ وأهلكَ رؤساءَهم أو لم يكن؛ فإنّ الأمر إذا كان كذلك فهذا عونٌ عظيمٌ من الله للمسلمين، وقد اتصل بالداعي أخبارٌ صادقةٌ من جهاتٍ يُوثَقُ بها بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولا بُدّ أنّ السلطان يُطالعُ بذلك من تلك البلاد؛ فإنّ هناك قومٌ صالحون ساعون في مصالح المسلمين؛ كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد.

 

وجاءتنا أخبارٌ مع غير واحد بأنّ الخَرْبَنْدا أخا قازان قد قَدِمَ الرومَ وهو يجمع العساكر للقدوم، وقدمتْ بنتٌ لبَيْدَرا كانت مأسورةً في بيت قازان، وذكرتْ أحوالاً من الكلام بين قازان وأخيه الخَرْبَنْدا وأمّه، تَدُلُّ على ذلك، وأنّ الخربندا هو في نية فاسدة للمسلمين، وأمُّه تنهاه عن ذلك، وهو لا يقبل، ويُوقع بينهم فتنةً.

 

فليس من الواجب أنْ يُترك نَصْرُ الله([1534]) والجهادُ في سبيل الله إذا كان عدوُّ الله وعدوُّ المسلمين قد وقع البأسُ بينهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يَحِلّ للمسلمين أنْ ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أوّل؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إلاّ ذُلُّوا»([1535]).

 

واللَّه قد فرضَ على المسلمين الجهاد لمَن خرجَ عن دينه وإنْ لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يُجهّزون الجيوش إلى العدوّ وإن كان العدوُّ لا يَقصِدُهم، حتى إنَّه لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نَفَّذَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جيشَ أسامة بن زيد الذي كان قد أمَّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف، فلمّا رآهم العدوُّ فَزِعوا، وقالوا: لو كان هؤلاء... ([1536]) ما بعثوا جيشاً.

 

وكذلك أبو بكر الصديق لما حضرتْه الوفاةُ قال لعمر بن الخطاب: «لا يَشغلكم مصيبتكم بي عن جهادِ عدوِّكم»([1537])، وكانوا هم قاصدين للعدو لا مقصودين.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته وهو يقول: «نَفِّذوا جيش أسامة، نَفِّذوا جيش أسامة»، لا يَشغلُه ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدوّ، وكذلك أبو بكر.

 

والساعةَ لما ذهب أميرٌ بحلب بعسكرٍ إلى الجزيرة وتصيَّد هناك، طارَ الصيتُ في تلك البلاد بمَجِيءِ العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي رعباً، حتى صاروا يريدون أنْ يُظهِروا زيَّ المسلمين لئلاّ يُؤخَذوا، وفي قلوب العدوّ رُعبٌ لا يعلمه إلاّ اللَّه، وقد هُيِّئ لهم في البلاد إقاماتٌ كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أنْ يكون رزقَ المسلمين.

 

وأقلُّ ما يجب على المسلمين أنْ يجاهدوا عدوَّهم في كلّ عام مرةً، وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عَصَوا الله ورسولَه، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدوُّ أرضَ الإسلام، والتجربةُ تدل على ذلك؛ فإنه لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نَوبتَيْ حمص الأولى والثانية لمّا مَكّنُوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبةِ أنْ ينكسروا لولا أنْ ثَبَّتَ الله، وجَرى في هذه المدة ما جرى، وما قَصَدَهم المسلمون قَطُّ إلا نُصِروا، كنوبةِ عين جالوت والفرات والروم، ونحن نرجوا أنْ يستأصلهم الله -تعالى-، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه؛ فإنّ البشارات متوفّرةٌ على ذلك.

 

وقد حدثنا أبي -رحمه الله- أنه كان عندهم كتاب عتيق([1538]) وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: «والتتار يُقلِعهم المصريون»، وقد رأى المسلمون أنواعاً من المبشرات بنصر الله([1539])، وهذا لا شكّ منه -إن شاء الله-.

 

وليست هذه النوبة كتلك؛ فإنّ تلك المرة كان فيها أمورٌ لا يليق ذكرُها  -عفا الله عنها-، وما فعلَه الله بالمسلمين كان أحمدَ في حقّهم.

 

ثمَّ لا شك أنّ الله يَنصُر دينَه، وينتقمُ من أعدائه، وقد قال -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ الله لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبْعَضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 4-7].

 

ثم في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

 

إحداها: طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا، وإلا فما دامت القلوب خائفة لا يستقيم الحال.

 

الثانية: أنّ البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خيرٌ كثيرٌ ورزقٌ عظيمٌ ينتفع به العسكر.

 

الفائدة الثالثة: أنّه يُقوِّي قلوبَ المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدوُّ رُعباً، وإنْ لم تَحصُلْ حركةٌ فَتَرت القلوب، وربما انقلب قومٌ فصاروا مع العدوّ؛ فإنّ الناس مع القائم.

 

ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثَّغْر كان في غاية الجودة.

 

الفائدة الرابعة: أنهم إنْ ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإنْ ساروا قاطنين متمكنين نَزَلتْ إليهم أمراءُ تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة؛ فإنّ غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلا الكفار من النصارى ونحوهم، وإلاّ الروافض؛ فإنّ أكثر الروافض ونحوهم مِن أهل البدع هواهم مع العدوّ؛ فإنّهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتة بجمهور المسلمين، وهذا معروفٌ لهم من نَوبةِ بغداد وحلب([1540])، وهذه النوبة -أيضاً- كما فعلَ أهل الجبلِ الجرد والكِسْرَوان، ولهذا خَرَجنا في غزوهم لما خَرَجَ إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرةٌ عظيمةٌ للمسلمين.

 

فإذا كانت عامّةُ القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله -سبحانه- وأيَّده وأمدَّه بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدوّ في غاية الرعب منه، واللهِ! لقد رأى الداعي من رُعْبِهم ما يوصف، حتى إنّ وزيرَهم يحيى قال قُدَّام الداعي ومولاي يسمع: واحدٌ منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدّاً، فمن نعمة الله على المسلمين أنْ يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك، وما ذلك على الله بعزيز.

 

وليس من شريعة الإسلام أنّ المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر اللهُ به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكنْ يجب على المسلمين أنْ يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإنْ بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديار المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله -تعالى- يختار للمسلمين في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

والحمد لله وحده، وصلَّى الله على محمد عبده ورسوله.» انتهى.

 

فصل

 

الجهاد في زمن الفتنة

 

قال أبو عبيدة: فما في هذه الرسالة هو تقرير المحكم من الدين، وما أوجبه الله علينا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا؛ فإنه ذكر واقعة التتار وجعلها كالدواء المؤلم الذي يحصل به الشفاء، وبيان ما استفاد المسلمون منها، ومع هذا فهو -رحمه الله تعالى- ما تنكّب أحاديث الفتن، ولم يهمل ما يجب أنْ يُراعَى عند وجودها، وقد كشف عن ذلك بكلام يفرح به المتعقّلون من المصلحين ممن يعمل من وراء تقريرات العلماء، قال في «الاستغاثة في الرد على البكري» (2/631) -وهو يتكلم عن حال المسلمين عند قدوم التتر عليهم، مصوّراً مخالفاتهم العقدية-:

 

«وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنّما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه؛ فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إنّ العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:

 

يا خائفين من التتر

 

 

 

لوذوا بقبر أبي عمر

 

أو قال:

 

عوذوا بقبر أبي عمر

 

 

 

ينجيكم من الضرر».

 

قال:

 

«فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد؛ فإنه كان قد قضى أنّ العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله -عزَّ وجلَّ- في ذلك».

 

ثم قال -وهذا هو موطن الشاهد-:

 

«ولهذا كان أهل المعرفة بالدِّين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِمَا يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لمن عرف هذا وهذا، وإنْ كان كثيرٌ من المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعيّاً أُجرُوا على نياتهم([1541]).

 

فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال -تعالى- يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُم} [سورة الأنفال: 9]...»، وقال:

 

«فلما أصلح الناسُ أمورَهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لِمَا صحَّ من تحقيق توحيده، وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك؛ فإنّ الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»([1542]). انتهى.

 

فصل

 

كيف ينبغي أنْ نفهم أحاديث الفتن؟

 

ظاهرة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن (المغيبات) و(النبوءات) تستدعي شغف وانتباه أي مطالع لكتب السنة: ماذا تعني؟ ما غاياتها؟ ما آثارها التربوية في النفس الإنسانية؟ ما أثرها في العقيدة الإسلامية، وانطلاقة المسلم نحو الدعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ-، والتزام الإسلام في الحياة؟

 

لمعرفة شيءٍ من هذا كله؛ لا بُدَّ من تحليل هذه الظاهرة تحليلاً شرعيّاً نابعاً من المبادئ القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، والتصورات الإسلامية الأصيلة، ومِن ثَمَّ تخريجها على تلك الأصول الكلية، وتحليل غاياتها في بناء الشخصية الإسلامية.

 

هذه الظاهرة تلفت نظرنا باستمرار لمعرفة ماذا يمكن أنْ نستفيد من هذا الحشد الهائل من الأحاديث النبوية التي تحدثت عن الفتن وأشراط الساعة، ولعله من السابق لأوانه أنْ نسارع فنقول: إنّ هذه الظاهرة تحتاج لدراسة تحليلية قيمة يقوم بها مختصون مهتمون بالعلوم الاجتماعية والإنسانية والنفسية.

 

ولكن؛ هذا لن يمنعنا في هذه العجالة من إلقاء بعض الضوء على بعض النقاط المتصلة بسبب ما نحن بصدده، والتلميح إلى مزالق خطيرة يقع فريستها كثير من المسلمين -اليوم- بفهمهم الخاطئ لمعاني الأحاديث والنبوءات.

 

إنها مسألة خطيرة لما وجدناه عند كثير من الشباب المسلم -الذين كان الأجدر بهم أنْ يكونوا أبعد المسلمين عن هذه المزالق الفكرية الخطيرة- من تسويغ للواقع، وتسليم للأقدار -كما يقولون-، وبُعْد عن البحث والتنقيب في الأسباب الحقيقية والعوامل الخفية التي تُسيّر حركة التاريخ، وتغير مسار الحركة الاجتماعية في أي مجتمع كان.

 

كثير من المسلمين اليوم -خاصة عند قراءة هذه الأحاديث أو النبوءات- يصاب بعقم وسلبية وانعزال في العمل الإسلامي.

 

عقم في مجال البحث والاستقصاء، والتتبع والكشف عن المجهول.

 

وسلبية في الحركة والدعوة والعمل.

 

وانعزال عن الواقع والمجتمع والاكتفاء بالادعاء بإصلاح النفس، ذلك الإصلاح البارد السلبي التقَوْقعي، الذي هو أقرب إلى الهروب من الواقع منه إلى الإصلاح.

 

وهؤلاء القاعدون الذين لم يحددوا أسباب الواقع المرير، ولم يعرفوا العوامل والسنن في تغيير المجتمع والأنفس ليسوا بأفضل حالاً منهم أولئك الخائضون في متاع الحياة الدنيا وزينتها، أولئك الذين أحبطوا في مجال التغيير النفسي والاجتماعي فانصرفوا إلى تفجير طاقاتهم الفعالة في مجال التنافس على الدنيا والاهتمام بلذاتها، بعد أنْ رأوا الأمور فوق طاقتهم حسب زعمهم.

 

ولعلنا لا نصاب بالدهشة إنْ رأينا أنّ أصحاب تلك القناعات الفكرية في البُعْد عن الفتنة -حسب تعبيرهم- المنعزلين عن الحياة، إذا رأيناهم يلقون كل شيء على القضاء والقدر، فلا قوة عندهم على مقاومة الواقع السيئ؛ لأن ذلك -حسب ما تربوا عليه- هو فتن حتمية تحدّث عنها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للخروج عليها؛ لأنها من إرادة الله -تعالى-.

 

ولا نعجب -أيضاً- إذا علمنا أنّ أولئك المسوغين المتواكلين هم من مخلفات عصور الانغلاق الفكري، الذين لم يتربوا على الأسس الصحيحة للتصورات الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآثار الصحابة الكرام، ولم يتفهموا عوامل التغيير التاريخية الإنسانية عامة، والإسلامية خاصة.

 

وإنّما عاشوا يتلقفون أحاديث متناثرة عن القضاء والقدر، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، والدجال، .... إلخ، مع بُعد كامل عن تفهم المقاصد الحقيقية للشريعة الإسلامية، وحركة التغيير في حياة الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم-.

 

إنّ أولَ ما يلفت نظري -وأنا بصدد أحاديث الفتن والملاحم- هو التركيزُ الشديدُ على فاعلية الإنسان في هذه الحياة، وأثرِه الكبير في عملية التغيير، وتعمير الكون واستعماره.

 

ويتجلى ذلك في فهمنا الحقيقي لمعاني الجهاد في الإسلام، الجهاد بمعناه الواسع العريض، وتعيين المهمة الأساسية للإنسان المسلم في الحياة: وهي بذل الجهد -كل الجهد- لإعلاء كلمة الله في الأرض.

 

ثم التركيز القرآني على إيجاد اليقين الجازم بعقيدة التوحيد (لا إله إلا اللَّه)، والقناعة التامة أنّ التبعة يوم القيام إنما هي تبعة فردية، وإن كل إنسان مأخوذ بعمله.

 

وكل ذلك إنما يشكل جزءاً كبيراً من الوسائل للوصول إلى الشخصية الإسلامية المؤثرة؛ الشخصية التي لا تعتذر بالواقع السيئ وتدعي أنّ هذا هو أوان (أنْ يعض المسلم على جذع شجرة ويبتعد عن الفتن)...، ومِن ثم يحكم على نفسه بالإعدام قبل أنْ يحكم أحدٌ عليه، ولا الشخصية المتواكلة المترددة المنهزمة داخليّاً.

 

الشخصية التي لا ترد كل شيء إلى الظروف والبيئة، وكأنها بريئة هي من العيوب والنقائص.

 

الشخصية التي لا تعطل القوى التي وهبها الله إياها بدورها في إعمار هذا الكون وإصلاحه.

 

بل الشخصية المتفاعلة في مواقع الحياة، الآخذة والمعطية، البانية الهادفة، إنها شخصية تقتبس من نور الله، وتستلهم خطوات الأنبياء والمجددين، وتنير دربها بنماذج حيّةٍ من حياة الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن حياة كل الترجمات العملية للعقيدة الإسلامية عبر تاريخ المسلمين الطويل([1543]).

 

وإنّ الفتن التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ليست نوعاً من الجبر، أو القدرية الإلزامية التي تحيق بالناس دون أنْ يكون لهم ذنب فيها، أو دون أنْ يقدِّموا من الأسباب والبدايات ما يجعلها تصيبهم بنتائجها، لا ليس الفتن إلاَّ بما كسب الناس أنفسهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ومن ثَمَّ فإنّ عمليّة التغيير وإنكار المنكر وقيام الناس بدفع أسباب الفتن وعللها سيساعد كثيراً في الاعتصام منها والبُعد عنها.

 

إنّ الفتن التي تحدّث عنها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست نوعاً من الجبر بقدر ما هي إخبار بمغيبات ستقع تبعاً لعوامل نفسية داخلية، وعوامل اجتماعية؛ أي: بمثابة قوانين وسنن وقع الناس في أتونها فكان لزاماً عليهم أنْ تنطبق عليهم نتائجها.

 

وقناعتنا أنّ هذه العوامل محددة فعلاً وواقعية، هذا هو الذي يملي علينا نوعية العمل المطلوب منّا تنفيذه لنعصم أنفسنا من مواطن عقوبة الله وسخطه.

 

وبهذا الفهم لحقيقة السنن الكونية ولطلاقة المشيئة الإلهية -أيضاً- يمكن أنْ نرسم الخطَّ الذي يجب أنْ نسير عليه، خاصة وأنه غالباً لا توجد عندنا الدلائل الكافية -العلمية- التي تؤكِّد أنّ تلك الأسباب واقعة فعلاً؛ لنجزم مِن ثم بوقوع نتائجها من الفتن والبلايا والمصائب بشكل حتمي قاطع.

 

من هناك يظهر سخف تلك النظرة التشاؤمية البعيدة عن واقع الحياة المنعزلة عن إصلاح تيار الحياة البشرية.

 

ومن هنا؛ فلا مجال لتلك النفسية المترددة، خاصةً وأنّ الرؤية غير سليمة...

 

ورغم هذا كله... وهَبْها كانت واقعة فعلاً، ولنفرض أنّ العوامل كلها تشير إلى الفتنة الآتية القريبة، وأنّ الناس قد تُوُدِّع منهم، ولنفرض جدلاً أننا تحققنا -من خلال المقدمات- حتميةَ وقوع النتائج؛ فهل يعني ذلك التسليم للفتن والاستسلام لها، وركوبَ أمواجها بلا سفينة أو شراع، وبلا مقاومة أو اعتراض؟! وهل ننصاع لتياراتها الصاخبة بلا أدنى مقاومة؟!!

 

هل هي هذه مهمة المسلم التي كلفه الله بها؟! وهل يعذر أمام ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!! وهل يرضى منه الله هذه السلبية القاتلة، حتى يصل المستوى بنا لعدم القدرة حتى على تغيير أنفسنا على أقل تقدير؟!!!

 

إنَّه لم يعد بمقدور المسلم أنْ يغير مجتمعه ذلك التغيير الجذري المنشود، فلا أقل من أنْ يلتزم هو في خاصة نفسه بسنن ذلك التغيير، ويسعى جاهداً للحفاظ على أقرب الأقربين منه، ويحميهم من غوائل الفتنة.

 

أما السلبية والقعود والاستسلام للمخالفات الشرعية وضغط الواقع ثم الانصياع لمطالبها والغرق في أحوالها؛ فهذا ليس من هذا الدين في قريب أو بعيد.

 

وبَعْدُ؛ لعل في هذا كله ما يقنع أولئك المسوغين المتقاعسين أنْ يعودوا لممارسة دورهم الخطير في حياة الناس والبشرية قاطبة وينتشلوهم من هذه الهوّة السحيقة التي ينحدرون إليها، ولعلنا في ضوء ذلك نفهم معنى الفتنة، وكيف تحيق بالناس، وأنها إنّما تحيق بهم وِفْقَ سنن وقوانين، وأنها إنما تحيق بهم لنسيانهم حقائق كثيرة، أو لتجاهلهم إياها، ولغفلتهم عنها أنها تعمل بقوة في واقع حياتهم؛ فالفتنة والفتن كما أنها من قدر الله كأي حدث على ظهر هذه الأرض؛ إلاّ أنّ لها ارتباطاً على قاعدة العلة والمعلول بمقدمات أدّت إلى تلك النتائج {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}.

 

بهذا الفهم لهذا الدين ولمعنى الفتنة؛ نعصم أنفسنا من أنْ نكون ككثيرٍ من العوام الذين لا يحركون ساكناً، زاعمين أنهم في مواجهة فتنة عمياء، ولا (أبو بكر) لها، وليس للمسلم أمامها إلاّ العزلة والتقوقع والاستسلام.

 

وهذا الفهم لمعنى الإيمان، وطريق عمل هذا الدين في حياة البشر يطالبنا بالصمود أمام الفتن، وليس هذا فحسب، بل تغيير الواقع الاجتماعي، وقبله النفسي؛ لتغيير اتجاه هذه الحال، ورد الواقع البشري إلى ما يرضي الله -سبحانه-.

 

وسواءٌ فشلنا أم نجحنا؛ فالمهم أننا نؤدي مهمتنا التي خُلِقْنا من أجلها؛ أي: أنْ لا نكون سلبيين في مواجهة الواقع، أنْ نعمل ونعمل، وإنْ لم نقطف ثمار عملنا هنا؛ فثمار عملنا نقطفها في الجنة.

 

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].

 

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].

 

والفتن التي حدثت قديماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ولن تكون مسوغاً للمتقاعسين ليقنعونا بالقعود والتواكل؛ فالمنهج هو الأصل، والتاريخ الإسلامي ليس إلاّ تطبيقاً للمنهج، قد يوافقه كثيراً، ويخالفه ويخرج عنه أحياناً.

 

وقد كان لا بُدّ -في الختام- من هذا الكلمة على هذه الصورة حتى لا يُساء فهم النصوص والاستفادة منها عند البعض، ولتكون عاملاً للتنبه والحذر، والعمل المعاكس لتيار الفتن لا الانقياد لها، والتسليم والإذعان.

 

وهي إنما كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم إخباراً بمغيبات، ودليلاً على صدق نبوته، وتحذيراً للمسلمين عن الانحطاط في الفتنة، أو التمهيد لها، أو المساعدة على نشوئها واستمرارها، ولكي يأخذ الصحابة -رضي الله عنهم- حذرهم لكل طارئ، وتدبيراً لهم على الاحتياط والإعداد لكل مفاجئ([1544]).

 

فصل

 

عودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،

 

ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها

 

مما ينبغي أنْ يذكر تجاه هذه الظاهرة أنّ الدراسات الجذرية المعتنية بها قليلة، وذكرها المعاصرون في معرض الأخذ والرد([1545])، وإنَّ ربطنا إياها بالنوع الثاني من العلوم عند الشاطبي -وهو (الملح)- جعلنا نقرر قبولها بضوابط ومعالم، وقد أشار إليها بعض المعاصرين بإجمال، فقال تحت عنوان: (لا يمكن إسقاط النصوص التي يَطْرُقُها الاحتمال على واقعٍ مُعيّن إلاّ بعد وقوعها وانقضائها) ما نصه:

 

«فقد كان من هدي السلف -رحمهم الله- أنهم لا يُنَزِّلون أحاديث الفتن على واقع حاضر، وإنما يرون أصدق تفسير لها، ووقوعها مطابقة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نلاحظ أنّ عامّة شارحي الأحاديث الشريفة كانوا يُفيضون في شرحها، واستنباط الأحكام منها، حتى إذا أتوا على أبواب الفتن وأشراط الساعة أمسكوا أو اقتصدوا في شرحها للغاية، وربما اقتصروا على تحقيق الحديث، واكتفوا بشرح غريبه، بخلاف ما يحصل من بعض المتعجلين المتكلفين اليوم؛ فإنه بمجرد ظهور بوادر لأحداث معينة -سياسية كانت، أو عسكرية؛ محلية، أو عالمية- تستخفهم البُداءات، وتستفزهم الانفعالات، فيُسقطون الأحاديث على أشخاص معينين، أو وقائع معينة، ثم لا تلبث الحقيقة أنْ تبين، ويكتشفوا أنهم تهوروا وتعجلوا.

 

وربما كان دافعهم نبيلاً؛ فَهُم يحسبون أنّ إسقاط النبوءات على الواقع مما يزيد يقين المسلمين، ويقوي إيمانهم، ويمكنهم من إقامة الحجة على المكذبين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تأييدٌ لدين الحق!

 

نقول: نعم؛ ولكن بالشرط المذكور آنفاً؛ لأنّ العجلة في مثل ذلك قد تأتي بعكس ما يشتهون؛ إذ لو خيبت الأحداث -إذا اكتملت- ظنهم؛ ربما كانت النتيجة عكسية عند الكفار، وعند ضعاف المسلمين.

 

ولا بُدّ من أنْ تكون النصوص التي يطبق عليها هذا الضابط مما يطرق دلالته الاحتمالُ، بخلاف النصوص المحكمة التي دلَّ الدليل على المراد منها؛ بحيث لا تلتبس على أحد، فإنها لا تخضع لهذا الضابط؛ مثل نزول المسيح  -عليه السلام- من السماء عند المنارة البيضاء بدمشق، وصلاته الصبح خلف المهدي؛ ومثل خروج الدجال بصفته التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم»([1546]).

 

ويقول باحث آخر عن الموضوع نفسه ضمن (التوصيات والمقترحات) التي توصل إليها بحثه المعنون بـ«موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنة» (ص 574) ما نصه:

 

«عدم تطبيق ما ورد في الفتن -من نصوص- على الواقع المعاصر:

 

تزداد شهوة الكلام عند حلول الفتن، وتظهر جرأة كثير من ضغام الناس وقتها، فيحلو لهم آنذاك استرجاع أحاديث الفتن وتقليب صفحاتها، ويربو ذلك ويزداد في اجتماعاتهم في المنتديات والمجالس، فتجدهم ينزِّلون تلك الأحاديث على واقعهم الآني، ويلوون أعناقها لتوافق ما يعتريهم ويصيبهم من فتن، فيقولون: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم... كذا... هو المراد بهذه الفتنة التي نحن فيها الآن، أو المراد به الفتنة التي حدثت في الوقت الفلاني أو البلد الفلاني... وهكذا يفسرون ويطلقون المراد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه عن الفتن، بتحديد أزمانها وأماكنها وتطبيقها على واقعهم وزمنهم الآني، كل ذلك ليس عندهم فيه من الله برهان.

 

وهذا خطأ فادح، على خلاف منهج السلف الصالح -من أهل السنة والجماعة-؛ فإن منهجهم إبَّان حلول الفتنة، هو عدم تنزيل أحاديثها على واقع حاضر، وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنبأ وحدث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها، مع تنبيه الناس وتحذيرهم من الفتن عامة، ومن تطبيقها على الواقع الحالي خاصة».

 

قال أبو عبيدة: كَشْفُ خطأ الكذّابين عند أهل النقد والصَّنعة الحديثية سهل ميسور، أمّا الصعب الذي يحتاج إلى دقة فهم، وكثرة جمع وعرض، وقدح ذهن؛ فهو خطأ الثقة.

 

وهكذا يقال عن إسقاط الحدث قبل إتمام وقوعه، وبمجرد وجود إرهاصاته، أو مقدماته، أو تخييلاته، فضلاً عن التنبؤ والتكهن به؛ فهذا النوع سرعان ما يظهر كذبه([1547])، وهو منهج دخيل على أهل العلم؛ أعني: جعله مطرداً كليّاً ثابتاً حاكماً يُبنى عليه.

 

وأما إسقاط الأحاديث على حدثٍ قد وقع فعلاً، فممكن، وقد سبق بيان بعض الضوابط التي يجب مراعاتها عند ذلك، وأنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من الاطلاع الواسع على الحديث، وجمع ألفاظه وطرقه، وإذا أردت أنْ تقف على أهمية هذا الأمر؛ فتأمل ما أسنده الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/212 رقم 1640) عن أحمد بن حنبل، قال:

 

«الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً».

 

وما أخرجه -أيضاً- (2/212 رقم 1641) عن علي بن المديني، قال: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيَّن خطؤه».

 

كما أنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من معرفة وقائع التاريخ وأحداثه، وما ثبت منها أو كان منتحلاً، ولا بُدّ له من مراعاة العربية، ومعرفة أساليبها، وطرق دلالاتها، وفهم النصوص على ضوء ذلك، فالمولعون بالإسقاط اليوم أهملوا ذلك، ومضت نماذج من أخطائهم، يمكن أنْ يكون بعضها ملحقاً بـ(بدع التفسير)، و(مسالك أهل البدع في الاستنباط)، بل لا أجاوز الحقيقة إنْ قلت: إنّ بعضها يصح أنْ يكون ملحقاً بـكتاب «أخبار الحمقى والمغفّلين»!

 

ولا بُدّ  بهذا الصدد من التذكير بـ(ضرورة إثبات صحة الواقعة التاريخية إثباتاً يقينيّاً جازماً)، «وذلك يعني: اتفاق المؤرخين الثقات على الواقعة التاريخية»([1548])، ولو توافقت الواقعات، أو تشابهت، فلا بُدّ من التروِّي وعدم التسرع في الإسقاط، حتى يتبرهن عنده شدة الانطباق، ويزول الشك، ولقد سبق القول مني: إنّ الإسقاط اجتهاد، وقد تختلف وجهات الأنظار، وهذا ما نجده في كتب الشروح.

 

ومما ينبغي التركيز عليه هنا: إنّ إسقاط النصوص على وقائع متخيَّلةٍ، غير واقعة بعد، لا يمتّ بصلة إلى منهج علمي مطرد، وإنما هي أشياء تنقدح في أذهان البشر، وتجري على أفهامهم، والخطأ فيها أكثر من الصواب.

 

وأزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:

 

في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، أو قبل وقوعها، وتجدد إحساس الإنسان للصور المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيّلاً.

 

وللتخيل أسباب، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس: المماثلة (أنْ يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة)، ويليه التضاد (أنْ يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل)، ثم (الوحدة المكانية، والوحدة الزمانية).

 

والوحدة الزمانية: أنْ تحس الشيئين في زمن واحد؛ فإذا وقع بصر الإنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بَعدُ؛ تذكَّرَ الآخرَ، بل إذا حدّثَ عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورةٌ في قوته الحافظة، ثم رأى أحدهما، أو جرى ذكرُه في المجلس، حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر.

 

ويدخل في هذا الباب تذكر الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند ذكر أسبابها؛ كتذكر النار عند ذكر الحرارة أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عد علماء البلاغة من علاقات المجاز السببية والمسببية.

 

وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط؛ ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة آخر، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصورة المماثلة، أو المتضادة، أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد.

 

فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليها، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقهما في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات، فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.

 

وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء، فأفكار البدو لا يطول تسلسلها؛ لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور، بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلته صارت بعيدة المدى؛ فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل -أيضاً- من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات.

 

وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تُحسُّ أحدَهما ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر ما في ذلك الأمر الذي أحسَّتْه من معنى يجلب اهتماماً شديداً، وتأثراً بالغاً.

 

ثم إنّ المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض، ومن غير أنْ تكون تحت رعاية العقل؛ فتسمى مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها صادراً عن إرادة ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقة؛ فتسمى مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة؛ فتسمى مخيلة إبداعية.

 

فالمخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلىجهة خاصة أو غرض معين؛ كأن يحصل للإنسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى إلى آخر، ويجول في جملة من صور الأشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام ولا قصد إلى استنتاج.

 

ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة، حيث يزول الانتباه ولا يبقى للإرادة سلطان؛ فتجري المخيلة طَلِقةً من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبةً، أو لذيذةً، أو مؤلمة، ومن المرائي ما هو إلهام إلهي، كما ثبت في نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.

 

والمخيلة العلمية هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها -على قانون المنطق إدراك- حقيقة كانت خافية، ويقول المتحدثون عن العالم «نيوتن»: إنّ مخيلته العلمية قد انتقلت به       من مشاهدة تفاحة سقطت على الأرض وانساقت به إلى النظر في قانون الجاذبية.

 

والمخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة؛ إمّا محسوسة -كما يفعل الصانع الماهر-، أو معنوية -كما يفعل الشاعر المجيد-، فالصانع يفسح المجال لمخيلته فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء، ويساعده ذوقه على أنْ ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة([1549]).

 

وكذلك حصل مع هؤلاء الخائضين؛ فإنهم بعثوا مخيلتهم، وأطلقوا لها العنان، وما زالت تقع على تصور بعد آخر من الحوادث، حتى اجتمعت عندهم ما مكّنهم من تركيب مسلسل لا عهد لأحد به من قبل.

 

واجتمعت عندهم جميع أنواع المخيلات السابقة: العلمية؛ إذ راحوا يستدلون ويبحثون وينظرون ويوثقون من غير منهج، وبطريقة غريبة لا علمية، وإبداعية بإسقاط ما حصلوا عليه من أحاديث وأخبار في زعمهم على أحداث وأشخاص، وآلية سارت بهم إلى جهة خاصة، وغرض معين، ولكن بقصدٍ، بحكم التداخل الحاصل.

 

وهذا يؤكد ما قدّمناه من أنّ الإسقاط القائم على التصور هو من (ملح العلم)، إذ هو غير محكوم بقواعد مطردة، ولا هي ثابتة ولا عامة.

 

ويؤكد -أيضاً- الخلاف الجذري بين هؤلاء الخائضين في بعض الإسقاطات؛ مثل: شخصية السفياني، وكذا في تحديد كثير من الأوقات؛ مثل: وقت ظهور المهدي، وانتهاء دولة اليهود.

 

ولا بُدّ -من جهة أخرى- من مراعاة التطابق والتشابه بين فريق من هؤلاء الخائضين([1550])، ولا يعود هذا إلى كون ما بحثوه من (صلب العلم)، وتوفر خصائصه في أبحاثهم، لا واللهِ! وإنّما لأسباب أخرى؛ مِن أهمها:

 

1- الذين أشغلوا الناس، وأثاروا الضجيج في الإسقاط نفر يسير، لا يتجازون عدد أصابع اليد الواحدة.

 

2- أنّ اللاحق يتبع السابق.

 

3- التواطؤ المسبق بينهم([1551])، مما يثير الريبة في صنيعهم، ولا سيما عند تكرار الكذبات التي لا نصيب لها من الصحة بمعايير النقد.

 

4- الهمُّ في كثير من هذه الدراسات الربح المادي، والسبق الصحفي، ولذا أخذ بعضها من بعض، بل صرح بعضهم أنه حصل اعتداء وسرقة على كتبه، وصرح بأنه مختَرِع وله سبْقٌ في هذا الباب([1552])!

 

5- جُلُّ الخائضين من بلدة واحدة -وهي: مصر-، وظهرت تخرصاتهم في أوقات متقاربة حول أحداث متلاحقة محورها (العراق)، وما عداها فيخص (فلسطين) والغاصبين لها، وبعضهم ربط بينهما، وزاد آخرون المهديَّ وصلتَه بما يجري، وأضاف بعضهم عنصراً آخر، وهو تأريخ زوال دولة (يهود)([1553])!!

 

وإذا استعمل المحدِّثون قديماً المعلومات التاريخية الثابتة مقياساً لتمييز المقبول من المردود من الروايات؛ فإنّ هذا يفيدنا جدّاً في محاكمة نفرٍ من هؤلاء الخائضين العابثين، الذين قرروا وقوع أحداث، وعيَّنوا لها تأريخاً من عند أنفسهم، وجاء وقتها، وتبرهن عدم وقوعها([1554])، وأسقط هؤلاء أنفسهم والناس في فتنة، وازدادت أتونها بعدم وجود ضوابط ومعالم كليّة للتعامل مع أحاديث الفتن وأشراط الساعة عند الخاصة فضلاً عن العامة، ويا للأسف! لم تظهر هذه الضوابط -أيضاً- على صفحات كثير من الردود التي تصدّت لهؤلاء الخائضين، وكان القارئ لها بتمعن يخرج منها وقد ظهر له الكذب الذي فيها([1555])، دون تحصيله لضوابط علمية، وهذه الضوابط -بالجملة- موجودة في تطبيقات علمائنا الثقات الربانيين، وهي متفرعة عن أصول الأقدمين العلمية المنهجيّة، ولكنها مبعثرة في كتبهم، وليست حاكمة على جميع أجزاء الأحداث المستقبليَّة، وتسلل الخائضون بغفلةِ أهل المراقبة والتقويم إلى مساحاتٍ الأضواءُ فيها خافتة، والجهودُ غير مركّزة، وكان عندهم شَرَهٌ في التقميش دون التفتيش، ووجدوا بغيتهم في الانتقاء من ركامٍ كثير، ومزجوه بتصريحات الساسة، وما هو متداول في وسائل الإعلام، ومع تأزّم الأحداث صنعت (سيناريو)([1556]) لها، وشارك هؤلاء -بقصد أو دون قصد- فيها، وانتهت الأحداث([1557])، وأسقطت غربال النقد عنها([1558])، وأسهم ذلك عن ضرورة تقويم الدراسات التي ظهرت، ولا شك أن الأخطاء المنهجية فيها قد أثقلت العبء على الصادقين في ضرورة ترسّم المعالم التي تضبط السير في المهيع الصحيح.

 

وسبق أن ذكرتُ شيئاً من هذه الضوابط، وأذكر هنا بعض المعالم التي تزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:

 

مما ينبغي أنْ يُعلم بهذا الصدد:

 

1- إنّ الإسقاط أمرٌ يمكن القول به، وتقرير صحته، ولكنا من خلال تتبع وقوعه عند العلماء نجدهم يقولون به -في الغالب- من غير جزم ويقين، وإنما على وجه الظن والتّخمين.

 

2- إنّ عباراتهم ليس فيها إلزام أنّ النص لا يحتمل إلا هذه الحادثة، ولا اعتبروا مخالفيهم مخالفين للدين، بل غايته أنه معنًى انقدح في نفوسهم، وعرضوه على ما عندهم من علمٍ، وما في مخيلاتهم من أحداث، فوجدوه حقّاً وصدقاً، فذكروه على هذا الوجه، وعرضوه على أنه معنًى محتمل لاحَ لهم، وخيَّروا الواقفين عليه بين القبول والردّ، وعلى تتابع الزمان، وكثرة النظر فيه بإمعان، من قِبَلِ أهل الشأن، يتمحص الحقّ، ويظهر الخير، ويزول الشرّ.

 

3- لم يقم في تصوّر علمائنا الأقدمين ألبتة أنهم ملزمون بإجراء هذا الإسقاط([1559])!

 

4- لقلّة التوفيق في هذا الإسقاط، ولكون هذا النوع (الإسقاط) من (الملح)([1560]) لا من (الصلب)؛ لم نجد عنايةً متميزةً به من حيث ذكر الضوابط([1561])، ولكثرة عبث الخائضين فيه أخيراً؛ ارتفعت أصوات بعض المعاصرين([1562]) من المخلصين بذمه، وضرورة نبذه وهجره، وتجد -بالتتبع- في كلام الأقدمين استعماله بقدره، وهذا حق، وهذا حق؛ إنْ رُوعيت الشروط والضوابط، وجوداً وعدماً.

 

5- من نافلة القول: إنّ عدم توفر شروط تنزيل النص على حادثة ومحل في الواقع؛ لا يفهم منه البطلان والضعف([1563]).

 

6- إنّ الجزم بعدم وقوع الحادثة الواردة في النَّص([1564]) -بعد- أمر مستقيم، كثير الوجود عند علمائنا، ومثله نفي تنزيل حديث ما على واقعة ما([1565]).

 

7- تنزيل أكثر من حادثة على نص واحد أمر موجود في كلام الشراح، ويبقى الأمر في عداد الاحتمال، ما لم تظهر أمارة لائحة على تحديد المراد، ومثاله ما قدمناه من أقوال الشراح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق...» الحديث.

 

8- يمكن أنْ يستفاد مِن الوقائع الحادثة، ولا سيما تلك التي لم يكن لها شبيه عند السلف في توسيع مدلول النصوص، مع ضرورة مراعاة عدم التعسف ولا التكلف في ذلك، وضرورة عدم قصر النص على هذا المدلول([1566])، فضلاً عن حصره في واقعة معينة؛ قابلة للخطإ والصواب، والتعديل والتبديل([1567])؛ فإنّ بعض المتعجلين يسارعون إلى المطابقة على حوادث محصورة محدودة، بقصد بيان ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تنبؤات! فيرغمون النصوص على أنْ تحمل معاني وتأويلات بعيدة عن مدلولها، ولا يفهمها العرب ألبتة، ولا يمكن أن تجتمع العقول الصحيحة ولا الأفهام السليمة التي تعرف الدلالات الشرعية عليها!

 

وأرى أنّ هذه النقطة تحتاج إلى مزيد تجلية([1568])؛ فأقول:

 

إنّ الذي أراه سائغاً؛ أنْ تكون العلاقة بين بعض (النصوص) وما (يستجدُّ من أحداث) علاقة أمر كلي: (النص)، بأمر آخر جزئي: (الحدث)؛ بمعنى: أنّ النص كلي في مضامينه، ولكن ما استجد من نوازل ارتبط بأمر جزئي في مضامينه؛ بمعنى: أنه ما كان ورود النص يتوقف على وجود هذا الحدث الجزئي، وهذه الوجهة تختلف تماماً عن وجهة أولئك الخائضين المطابقين بين (النص) و(الحدث)، الزاعمين أنّ ورود النص أصالة جاء لهذا الحدث، محصوراً فيه، غير متجاوز إيّاه([1569]).

 

ولا يخفى أنّ الذي ذهبنا إليه، يجعل النص متعالياً على الأشخاص، والزمان، والمكان، ويجعل الحدث داخلاً ضمن المضامين الكلية، والمعاني العامة الشاملة لمفردات كثيرة، وحوادث غير متناهية، يمكن أنْ تنطبق عليها النصوص.

 

فمثلاً؛ أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن (الهرج) في آخر الزمان، فلو رحنا نعدد الوقائع التي يشملها النص، لوجدناها كثيرة، وكلها داخلة في مضامينه الكلية، وأما أنْ يزعم شخص ما أنَّ هذا (الهرج) هو واقعة معينة، يحصره فيها، ويطابقه عليها، من غير قرائن معيّنة لهذه الواقعة؛ فهذا أمر بعيد عن الموضوعية والعلمية، فإنّ النصوص فوق ذات التاريخ، ولا تخضع لما تخضع له الأسباب التاريخية؛ من النسبية والجزئية الحقيقية، وإلاّ لانتهى بنا الأمر إلى إلغاء النصوص باعتبار أنها وقعت وانتهت، ويتوقف إدراكها إدراكاً حسناً على ما يستجد من أحداث، ولعلها تكون في يوم من الأيام أدوات معينات ومساعدات مهمات على حسن فهم النص، وإدراك مراميه وأبعاده.

 

ويعجبني كلام ابن عقيل الظاهري([1570])، ظفرت به بعد تدوين هذه السطور(1)، قال: «أنه سيكون للأمة تمكين وقوة قبل أوان الملاحم التي يتعجل محاضرو الأشرطة بربطها بأحداث جزئية في الرقعة، مع أنّ سياق تلك الأحاديث بخلاف واقع الأحداث الجزئية.

 

قال أبو عبدالرحمن: ومع الحذر من حمل أحاديث الملاحم على الأحداث الجزئية في مثل الوضعية التي ذكرتها؛ فهذا لا يعني إلغاء الدلالة إذا وجدت.

 

ألا ترون كثرة القتل في الأمة بأيدي المضلين من أبناء جلدتنا باسم الثورة الانقلابية، أو الثورة التصحيحية، أو القانون العلماني، أو الهمجي كقانون العقوبات الذي يذبح به (صدام حسين) أبناء الأمة».

 

9- ينبغي أن يكون في الحسبان أنّ الحوادث التي نعيش؛ لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ما مضى، وما سيأتي، ولعل هذا يعطينا الأمان في التمهل والتروِّي.

 

10- ينبغي عدم الخلط -ولا سيما في وقت الفتن والأزمات- بين النص الذي فيه عصمة، وهو ثابت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند المحققين من المحدثين، وغيره مما اعتراه تغيير أو تحريف من كتب الديانات الأُخرى، فضلاً عن الكتب المفتراة على آل البيت، أو كتب التنبؤات، وهي أشبه بكلام الكهنة والمشعوذين، وتأتيهم به الشياطين، وهم «ليسوا بشيء»([1571]).

 

والعجب من صنيع الخائضين أخيراً، فيا ليتهم اقتصروا على الخلط المذكور، ولكنهم زادوا إليه تصريحات بعض الساسة في الغرب أو في الشرق، وكلام بعض الصحفيين، ونزعوا منه -وهو كثير قليل البركة([1572])- ما تخيّلوه، ووجدوا ضالتهم فيه مجموعاً! ولو أنهم تثبتوا، ولم يخلطوا، لأراحوا واستراحوا.

 

11- الواجب عند الإسقاط فحص الأحداث وسبرها مع ما يحتف بها من أمور، وليس الفحص فقط لصحة وقوعها، وإنما يشمله -أيضاً- معرفة الوقائع السابقة والمجريات المشابهة، وسنن الله الجارية في الكون، وألمح ابن خلدون إلى ذلك بقوله:

 

«إنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم على مجرد النقل؛ غثّاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعايير الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار»([1573]).

 

وهذا الكلام متين رزين، ومهم غاية، ويوظّفه المتبصّرون في الأزمات في كشف الانتحال والتهور والكذبات، والعمل على إبعاد الآفات والنكبات على شخوصهم ومجتمعاتهم قدر مكنتهم، والله الواقي من الشرور والمنكرات، والموفق والهادي للصالحات.

 

ويتأكد لك ما قلناه، وتتبرهن صحة دعواه بعرض ما سطرناه على ما في كتب الشروح حول (الهرج) -مثلاً- ومداه.

 

قال ابن بطال (المتوفى سنة 449هـ) في شرح ما أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب ظهور الفتن)ب (رقم 7061) بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقَّى الشّح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج»:

 

«هذا كله إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عياناً، وأدركناها؛ فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشح في القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل»([1574]).

 

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (المتوفى سنة 852هـ) معلقاً على قول ابن بطال هذا:

 

«قلتُ: الذي يظهر أنّ الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث: استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلاّ النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك...، وكذا القول في باقي الصفات، والواقع أنّ الصفات المذكورة وُجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاث مئة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث الباب الذي بعده: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه»([1575])»([1576]).

 

وإذا كان الحافظ -رحمه الله- قد ذكر أنّ كلام ابن بطال -والمتضمن أنّ جميع الصفات المذكورة في هذا الحديث قد وقعت ورؤيت عياناً- قد مضى عليه نحواً من ثلاث مئة وخمسين سنة، ثم ذكر أنّ هذه الصفات في ازدياد، وذلك حسبما ظهر في عصره وازداد، فما بالك في عصرنا هذا المُحْزِن الذي تدمع له الأعين وتدمى له القلوب، وبينه وبين عصر ابن حجر مدة مديدة، وأزمنة بعيدة؛ فإنّ الحافظ -رحمه الله- قد توفي في منتصف القرن التاسع؛ وبالتحديد في سنة 852هـ، ونحن الآن في أواخر سنة 1424هـ، فتبين أنّ بين عصره -رحمه الله- وعصرنا بون شاسع، وفرق واسع، يقرب من نحو خمسة قرون ونصف القرن؛ وبالتحديد اثنتان وسبعون وخمس مئة سنة (572)، والله المستعان، وعليه التكلان.

 

والشاهد من هذا: أنّ (الهرج) -على اختلاف الأمصار والأعصار- يشمله عموم الحديث، وليس محصوراً بواقعة معينة، وبهذه النظرة نحسن ربط ما توصّلنا إليه بخصائص النص الشرعي؛ من الإيجاز والإعجاز في أسلوبه، وما فيه من خاصية المرونة والسَّعة.

 

12- لا بُدَّ من معرفة شخصية مَن يكتب في هذا الباب، وجمع المعلومات العلمية عنه، وعن كتبه، وإنْ كان المؤرّخون لا يثقون بالخبر إلا بتعيين شخص المؤلف الذي دوّن الواقعة، ويعتبرون ذلك من «إحدى أهم قواعد التحقيق العلمي الصحيح»([1577])، فلا جرم أن هذا الباب أولى بهذه العناية، ولا سيما أنَّا  وجدنا أخباراً مختلقة، أو محرفة([1578])؛ صنعت -أو حُرِّفت- خصيصاً لهذا الإسقاط.

 

ويعجبني كلام لبعض المؤرخين المعاصرين، قال فيه: «إنّ قيمة المعلومات التي يوردها المؤلف ترتبط كل الارتباط بشخصيته، ومدى فهمه للحوادث، وبكل الظروف التي تحيط به على وجه العموم»([1579]).

 

13- وأخيراً... من الضرورة بمكان أنْ نتيقّن على أنّ الأحاديث الصحيحة في الفتن إنّما هي من الغيب الذي أطلعنا الله عليه، وبالتالي هي تتصف بصفة كونها من الله -عزَّ وجلَّ-، ومعنى أنّ هذا: إن الله -عزَّ وجلَّ- لمَّا أوحاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن غافلاً عما سيؤول إليه الأمر، وهو يورد جزءاً من نصٍّ كليٍّ يُمهِّد به إيراد جميع أجزاء النصّ في مرحلة معينة، وذلك لأنه لا يخفى عليه ما كان، وما يكون، وما سيكون، وليس ثمَّ صاحب نص يتصف بهذا الأمر، بل جُلُّ النصوص البشرية المصدر تأتي إما لوصف أمر مضى، أو لوصف أمر قائم، أو استشراف أمر مستقبل، ولكنه لا يستطيع أنْ يأخذ في الاعتبار هذه الأمور الثلاثة في آنٍ واحد، ويتحقق كلها كما توقعها وافترضها.

 

وعليه؛ فإنَّ متفهّم النص الشرعي، ينبغي له أن يُراعي هذه الخاصية، وينظر في النصوص نظرةً موضوعيّة شموليّة تكامليّة؛ بحيث يفصِّل ما ورد مجملاً بما ورد مفصّلاً، ويخصّص ما ورد عامّاً بما ورد خاصّاً، ويحمل ما ورد مطلقاً على ما ورد مُقيّداً، وبهذا ينجو المرء من ضرب النصوص بعضها ببعض، ومن التعسف في فهم مقاصد الشريعة وراء التنجيم والتفاوت في التنزيل والورود»([1580]).

 

ولو أنّ الخائضين المتعسفين انتبهوا إلى هذه الخاصية؛ لأقلعوا عن صنيعهم بالجملة، ولساروا في قافلة الخير؛ باتباعهم منهج العلماء، وطريقتهم في التعامل مع أحاديث الفتن، وشروحها، وربطها بما يجري من واقعات.

 

ولقد كنتُ -واللهِ- بصدد الإعراض عن الخوض والكلام في هذه المسألة؛ لأنّ متقدّمي علمائنا قد كفونا مؤنة الاستفادة من الأحاديث، والذي نحتاجه: أنْ نتبع طريقتهم، متيقنين أنّ عجلة الزمان تدور، والأحداث -سواء التي تشملها النصوص، أو التي تعنيها بخصوصها- لم تتوقف، ولكن الرغبة في أنْ لا ينخدع الناس بما جاء به الخائضون الجدد([1581])، والحرص على أنْ لا يفهم مَن يميل إليهم ممن غلبت عليهم العجمة؛ أنّ مجتهدي وعلماء هذه الأمة، وسلفها الصالح لم يلتفتوا إلى ما التفت هؤلاء إليه.

 

كل ذلك دعانا إلى العناية بهذه الضوابط والمعالم، وبيان وجه الصواب فيها، ومِن الله -سبحانه- العصمةُ والتوفيقُ.

 

«جعلنا الله ممن تكلّف الجهد في حِفظ السُّنن ونشرِها، وتمييزِ صحيحِها من سقيمها، والتّفقهِ فيها، والذَّبِّ عنها، إنّه المَانُّ على أوليائه بمنازل المقرّبين، والمتفضّلُ على أحبابه درجة الفائزين، والحمدُ لله رب العالمين»([1582]).

 

([1]) قطعة من حديث صحيح، يأتي تخريجه (ص 14).

 

([2]) نعم؛ بعضهم كذلك، وأحلف بالله -عز وجل- غير حانث أنَّ واحداً منهم -ممن له مؤلفات اشتهرت أخيراً بشّدة- يكذب ويخترع من رأسه أسماءً لعشرات المخطوطات، ينقل منها أكاذيبه وترهاته وبواطيله، ولا وجود لها ألبتة في (الخارج)، ويعمّي ويلعب و(يدور) على السذج من المساكين من عباد الله لابتزاز أموالهم، وسيأتيك مزيد تفصيل لذلك، والله الموعد.

 

([3]) لي وقفة مع جملة منها في آخر كتابنا (ص 632 وما بعد).

 

([4]) استدل بعض أهل البدع والهوى بأحاديث الفتن على إثبات الغيب لرسول الله ×، وهذا جهل من هؤلاء؛ لأنّ علم الغيب مختص بالله -تعالى-، وما وقع منه على لسان رسول الله × فمن الله بوحي، والشاهد لهذا قوله -تعالى- {عَالم الغَيب فَلا يُظهِر على غَيبِهِ أحداً . إلا مَن ارتضى مِنْ رَسُول} [الجن: 26-27]؛ أي: ليكون معجزة له. فكل ما ورد عنه × من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به إعلاماً على ثبوت نبوته، ودليلاً على صدق رسالته ×.

 

قال علي القاري في «شرحه الفقه الأكبر» (ص 123): «إن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما أعلمهم الله أحيانا، وذكر الحنفية تصريحاً بالتكفير باعتقاد أن النبي × يعلم الغيب لمعارضته قوله -تعالى-: {قُل لاَ يَعلَمُ مَن في السّماوات والأرض الغيبَ إلا الله} [النمل: 65]».

 

وفي «عون المعبود» (11/306): «وبالجملة لا يجوز أن يقال لأحد إنه يعلم الغيب. نعم الإخبار بالغيب بتعليم الله -تعالى- جائز، وطريق هذا التعليم إما الوحي أو الإلهام عند من يجعله طريقاً إلى علم الغيب».

 

وفيه: «وفي «البحر الرائق»: لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي × يعلم الغيب».

 

قلت: إذا كان هذا في حق رسول الله ×، فما بالك بالأوباش الذين تعدوا على علم الغيب، وخاضوا فيما لا يعلمون ولا يحسنون، وزعموا أن النصر على اليهود سيكون في وقت كذا، وخروج المهدي أو الدجال في وقت كذا، وهكذا! وانظر: «تفسير المنار» (9/391-392).

 

([5]) كانت -بداية- خاصة بحديث: «منعت العراق...»، ثم رأيت أن مقتضى الفهم الصحيح للحديث: جمع ما ورد عن العراق من أحاديث وآثار، فكانت بهذه الصورة التي بين يدي القراء الكرام، وللحديث المذكور نصيب كبير فيها: تخريجاً وشرحاً، مع ذكر تبويبات العلماء عليه، واستخراجهم فوائده الفقهية والعلمية، بل خصصت فوائده المستنبطة بفصل مفرد، والله الموفّق.

 

([6]) لعل ذلك عقدة الكتاب عند بعض القراء، ولكن لا فائدة من الكتاب دون هذا العمل؛ إذ الآثار هي جل مادة الكتاب، وتخريجها وإثبات صحتها يحتاج إلى مثل هذا الجهد.

 

([7]) مما هو في دائرة (اليقين)، دون الوقوع في دائرة (الظن والتخمين)، والبعد عن العجلة في الإسقاط على وجه (مشين)، والله الهادي والواقي. وانظر: الآتي (رابعاً).

 

([8]) أومأتُ إلى ما وقع زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- من فتن دون تفصيل.

 

([9]) جميع الألفاظ المذكورة واردة في أحاديث، وسيأتيك بيان ذلك في محله من هذه الدراسة -إن شاء الله تعالى-.

 

([10]) إسقاط المتعارف عليه عند المتأخرين على نصوص الوحي، أو الآثار، دون التنبه لهذا المدرك غفلة، تنتج عنه زلات خطيرة، كشف عن كثير منها في (باب التوحيد) ابن تيمية وغيره، وهذا الباب يحتاج إلى استقصاء وتتبع في جميع الأبواب، وهو مفيد، والعناية بـ(الاصطلاحات): تأريخاً وحصراً للجهود التي بذلت فيها، مع بيان مناهج أصحابها، وتمييز الأصيل من الدخيل، والسابق من اللاحق؛ باب مهم، يحتاج إلى تفصيل في تصنيف مفرد، يسر الله له شاداً جادّاً من طلبة العلم الربانيين.

 

([11]) وهو ابن سعد، وروايته عن نافع به مختصرة، أخرجها: البخاري (7093)، وأحمد (2/92) وأبو عوانة في «المسند» -كما في «إتحاف المهرة» (9/268 رقم 11096)-، وأبو الجهم العلاء الباهلي في «جزئه» (ص 41/رقم 53) -ومن طريقه أبو إسحاق التنوخي في «نظم اللآلي بالمئة العوالي» (ص 96/رقم 59)- وابن قطلوبغا في «عوالي الليث بن سعد» (ص70/رقم 11).

 

([12]) هو عبيدالله بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، ثقة ثبت، روايته عند: أحمد (2/18)، وأبي عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (9/226 رقم 10954)-، والبزار في «البحر الزخار» (12/73 رقم 5521 - بمراجعتي)، وأبي عمرو الداني في «الفتن» (1/245).

 

ورواه جمع باختصار عن نافع، وهذا ما وقفت عليه:                                         =

 

=        * جويرية بنت أسماء، أخرجه البخاري (3104).

 

* موسى بن عقبة، أخرجه البزار في «البحر الزخار» (12/74 رقم 5522 - بمراجعتي).

 

* صالح بن كيسان، أخرجه -أيضاً- البزار (رقم 5523 - بمراجعتي).

 

* عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، أخرجه أبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (8/352 رقم 9541)- وروايته عن نافع مقرونة بسالم.

 

وله عن نافع طرق أخرى في ألفاظها كلام، سيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله تعالى-.

 

([13]) قال شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (5/653) في هذه اللفظة: «وهي شاذة عندي»!!

 

([14]) صدرنا الباب بألفاظه، فانظرها.

 

([15]) قال الذهبي في «السير» (15/356) عنه: «هذا حديث صحيح الإسناد غريب».

 

([16]) انظر: «تخريج أحاديث فضائل الشام» (ص 25-27) لشيخنا الألباني؛ ففيه كلام مفصّل عليه.

 

([17]) ذكر عبد الحسين (!!) الشيعي في «المراجعات» (ص 254) هذا الحديث ضمن طعونات له -عامله الله بما يستحق- لعائشة، وأوهم القراء أن إشارته × إنما هي لمسكن عائشة، قال في معرض كلامه عنها -رضي الله عنها-: «ها هنا الفتنة، ها هنا الفتنة، حيث جابت في حرب أمير المؤمنين - يريد: عليّاً رضي الله عنه- الأمصار، وقادت في انتزاع ملكه وإلغاء دولته ذلك= =العسكر الجرار»!

 

فهذا الكلام يوهم أن عائشة هي الفتنة، وبرأها الله من ذلك، كما برأها من المنافقين من قبل!

 

قال شيخنا الألباني في «السلسلة الصحيحة» (5/657) تحت رقم (2494) ما نصه:

 

«والجواب: أن هذا هو صنيع اليهود الذين يحرفون الكلم من بعد مواضعه، فإن قوله في الرواية الأولى: «فأشار نحو مسكن عائشة»، قد فهمه الشيعي كما لو كان النص بلفظ: «فأشار إلى مسكن عائشة»! فقوله: «نحو» دون «إلى» نص قاطع في إبطال مقصوده الباطل، ولا سيما أن أكثر الروايات صرحت بأنه أشار إلى المشرق، وفي بعضها العراق، والواقع التاريخي يشهد لذلك.

 

وأما رواية عكرمة فهي شاذة، ولو قيل بصحتها، فهي مختصرة جدّاً اختصاراً مخلاًّ، استغله الشيعي استغلالاً مرّاً، كما يدل عليه مجموع روايات الحديث، فالمعنى:

 

خرج رسول الله × من بيت عائشة -رضي الله عنها-، فصلى الفجر، ثم قام خطيباً إلى جنب المنبر (وفي رواية: عند باب عائشة)، فاستقبل مطلع الشمس، فأشار بيده، نحو المشرق (وفي رواية للبخاري: نحو مسكن عائشة)، وفي أخرى لأحمد: يشير بيده يؤم العراق.

 

فإذا أمعن المنصف المتجرد عن الهوى في هذا المجموع قطع ببطلان ما رمى إليه الشيعي من الطعن في السيدة عائشة -رضي الله عنها-، عامله الله بما يستحق».

 

قال أبو عبيدة: ونحوه في «السلسلة الضعيفة» (10/714-715 رقم 4969)، والأحبُّ إليّ أن يقال: إن الرواية مجملة، وليست اللفظة بشاذّة، والله أعلم.

 

([18]) انظر تفصيلها في «إتحاف المهرة» (8/497 رقم 9845).

 

([19]) صنيع ابن حجر في «إتحاف المهرة» (8/274 رقم 9364) يقضي بأنهما واحد!

 

([20]) في «أعلام الحديث» (3/1521-1522).

 

([21]) فَدَّ يَفدُّ: إذا رفع صوته، وما زالت هذه اللفظة دارجة على ألسنة العوام في بلادنا.

 

([22]) وقد تقدم قريباً.

 

([23]) أخطأ فيه بعض الرواة -كما عند ابن عساكر- فجعله (عثمان بن عطاء)، قال ابن عساكر (1/136): «وإنما هو عبدالرحمن بن عطاء بن كعب، مصري».

 

([24]) قال عنه في كتابه «الأسامي والكنى» (2/302): «منكر الحديث»، ونقل عن البخاري في «التاريخ الكبير» (3/1/178) قوله عنه: «منكر، ليس من أهل الحديث».

 

([25]) ضبط في مطبوع «تاريخ بغداد» بضم الحاء وفتح اللام! والصواب ما أثبتناه، كما في «الأنساب»، و«الإكمال»، وهو منسوب إلى (حليمة السعدية) التي أرضعت النبي ×.

 

([26]) انظر: «تهذيب الكمال» (8/168).

 

([27]) وهو كذلك في مخطوطة «فضائل بيت المقدس» (ق 325 - نسخة دار الكتب المصرية).

 

([28]) سقط من مطبوع «المعرفة».

 

([29]) عند ابن عساكر: «فإن فيها»!

 

([30]) عند ابن عساكر: «حاجاتنا»!

 

([31])عند ابن عساكر: «بها يطلع».

 

([32]) عند ابن عساكر: «وهنالك».

 

([33]) هو المطبوع بعنوان «أعلام الحديث»، وخلاف التسمية باختلاف النسخ، فهو قديم.

 

([34]) أخرج الحاكم في «المستدرك» (3/366)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/ ق316 - نسخة الظاهرية) من طرق عن أبي حرب بن أبي الأسود، قال: شهدتُ عليّاً والزبير -لما رجع الزبير على دابته- يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبدالله، فقال له: ما لك؟ فقال: ذكر لي عليّ حديثاً سمعته من رسول الله ×، يقول: «لتُقاتِلَنَّه وأنت ظالمٌ له».

 

وحسن إسناده شيخنا الألباني في «الصحيحة» (2659).

 

وورد نحوه من طرق عن علي، قال الحاكم على إثره: «وقد روي إقرار الزبير لعلي -رضي الله عنهما- بذلك من غير هذه الوجوه والروايات».

 

قلت: وهذا ما وقفت عليه من طرق عن علي -رضي الله عنه- خاصة، رواه عنه كل من:

 

* أبي جرو المازني

 

أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/300 و3/35)، والحاكم في «المستدرك»= =(3/367)، والبيهقي في «الدلائل» (6/415)، وأبو العرب التميمي في «الفتن» (ص 108)، وابن الجوزي في «الواهيات» (رقم 1418).

 

* عبدالسلام بن عبدالله بن جابر الأحمسي

 

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/283 رقم 19673)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ق385)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (رقم 1417).

 

وطرقه فيها كلام شديد، بل بعضها من اضطراب الرواة، ومع هذا فقد صححه شيخنا الألباني -رحمه الله- بها! وأورد له طرقاً أخرى.

 

([35]) وهو من الغيب الذي أطلعه الله -عز وجل- عليه، وقد خرجته بتفصيل في تعليقي على «المجالسة» (2/155-160 رقم 282)؛ فانظره.

 

([36]) انظر -على سبيل المثال-: «إرشاد الساري» (10/181)، «فتح الباري» (13/47)، وهذا ما تجده في مادة (نجد) في (المعاجم العربية)؛ كـ«القاموس»، و«اللسان»، وكتب (الغريب)؛ كـ«النهاية»، و«الفائق».

 

([37]) انظرها في: «معجم البلدان» (5/265)، «تاج العروس» (2/509)، «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث» (الفهارس) (8/339).

 

([38]) انظر: (ص 357).

 

([39]) وكذلك ظهور الفرق البدعيّة الضالة؛ كالخوارج الذين ظهروا من (الحروراء) -وهي قرية على نحو ميلين من الكوفة-، والروافض -ولا زال وجودهم فيها قويّاً-، وسائر الفرق؛ كالمعتزلة، والجهمية، والقدرية، فإنّ أول ظهورهم كان في العراق؛ كما في أول حديث في «صحيح مسلم».

 

والناظر في تاريخ نشوء الفرق الكفرية والضالة -ولا سيما تلك التي هاجت وماجت وانتقلت إلى بلاد المسلمين الأخرى- قديماً وحديثاً، يجد أنّ (العراق) لها نصيب الأسد منها!

 

([40]) سواء بالمحاصرة الاقتصادية، أو الاحتلال العسكري.

 

([41]) مثل: الحداد في «مصباح الأنام» (ص 5-7)، والعاجلي في «كشف الارتياب» (ص 120)، ودحلان في «الدرر السنية في الرد على الوهابية» (ص 54)، ومحمد حسن الموسوي في «البراهين الجلية» (ص 71)، والنبهاني في «الرائية الصغرى» (ص 27)، وللدجوي في مجلة «الأزهر» (م5/ص 329) كلام طويل فيه ترداد لهذه الفرية بتعصب وعناد، وكذا وجدتها في مواطن من «جؤنة العطار» لأحمد الغماري! ثم وجدت له كلاماً في كتابه «مطابقة الاختراعات العصريّة لما أخبر به سيّد البريّة» (ص 50) لا يقوى على اعتقاده إلا شقيّ غبي، جريء على الله= =ورسوله ×، وهذا نصه بحروفه، قال تحت عنوان (إخباره × بالإهمال الواقع من النجديّين للمدينة المنورة الذي سيؤول بها إلى الخراب) ما نصّه: «روى أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله ×: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة، وفتح القسطنطينية خروج الدجال».

 

فعمران بيت المقدس قد ابتدأ وظهر إن لم يكن تم بإنشاء دولة اليهود، فإنهم عمروه ولا زالوا جادِّين في عمارته.

 

والمدينة المنورة في طريق الخراب لمحاربة (القرنيين) لها، وسعيهم في القضاء عليها بعدم التفاتهم إليها وإلى إصلاحها، مع إهمالهم لأهلها ومعاكستهم لمن يريد الإقامة بها، وصرفهم النظر عن سكانها وعدم مساعدتهم ومد يد المعونة إليهم لتخرب، ولا يبقى بها ساكن ولا مجاور لسيد الخلق ×، بغضاً منهم في جانبه الشريف، واعتقاداً منهم -قبحهم الله- أن زيارته ومجاورته وتعظيمه بدعة وضلال، فهم يسعون لذلك في خرابها، حتى ينصرف الناس عن المجاورة والزيارة، وخرابها كما ترى من أشراط الساعة».

 

قال أبو عبيدة: هكذا يفعل الكذب بأهله، فالعمران الذي أخبر عنه النبي × لبيت المقدس مقرون بخراب يثرب، ووقع الأول -على زعمه-، فأين الثاني؟! والمدينة لا تزال عامرة على وجه لا يشك فيه عاقل! وفي كلامه ظلم للقائمين على الحرمين الشريفين -زادها الله عمارة وشرفاً وتعظيماً-. وفيه -أيضاً- كذب على علماء الدعوة النجدية، ببغضهم للنبي ×، ومن الذي يحارب المدينة، ويسعى في القضاء عليها وعلى أهلها؟! وكل من يعرف المدينة ويزورها؛ يعلم أن هذا من المَيْن والزور والكذب الذي له قرون!

 

([42]) دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب دعوة سلفية خالصة، أُلصِقت بها تهم وبواطيل، وافتراءات وأكاذيب، وأصبح الخصوم والأعداء من القبوريين والطرقيين ينعتون الدعاة إلى التوحيد والكتاب والسنة بـ(الوهابيين)؛ حنقاً وحقداً على التوحيد وأهله وأئمته! ولا قوة إلا بالله.

 

وكلمة (وهّابي) -على حد عبارات النابزين- تسمية غريبة، لم تنقل عن أحد من أئمة الدعوة الأول، وإنما نقلت عن خصومهم، وإلا؛ فنعم الانتساب إلى (الوهاب) -جل جلاله-:

 

يا رَبِّ! فاشهد أنني وَهّابي

 

 

 

إن كان توحيد الإله توهباً

 

وهاك نصَّيْن من كلام الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في بيان معتقده ومنهجه: =

 

=       الأول: ففي «مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب» -القسم الخامس (الرسائل الشخصية) (ص 252)- ما نصه:

 

«لست -ولله الحمد- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم؛ مثل: ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله × التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله ×؛ فإنه لا يقول إلا الحق...».

 

والآخر: جاء في رسالته لعبدالرحمن بن عبدالله السويدي أحد علماء العراق يذكر الإمام -رحمه الله- حقيقة دعوته، ومن ذلك قوله -كما في «مؤلفات الشيخ الإمام» (الرسائل الشخصية) (5/36)-:

 

«أخبرك أني -ولله الحمد- مُتَّبِعٌ، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين؛ مثل: الأئمة الأربعة، وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بيّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يُعبَد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود، وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة».

 

وهناك نقولات عديدة عن الإمام المجدد، وغيره من أئمة الدعوة المباركة في الاتباع، والاقتصار على الدليل، ونبذ ما يخالفه. تراها في رسالة «الإقناع بما جاء عن أئمة الدعوة من الأقوال في الاتباع».

 

وأما عن الشبه التي تثار في وجه هذه الدعوة، فقد تصدى لها بالدراسة والرد على وجه حسن غايةً: الأخ الباحث الشيخ عبدالعزيز العبداللطيف في كتابه «دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، عرض ونقد».

 

وأما عن المؤلفات التي طبعت وفيها سموم وبواطيل حول هذه الدعوة، فقد كدتُ استيعابها والتحذير منها في كتابي «كتب حذر منها العلماء» (المجموعة الأولى) (1/250-287)، فانظره، فإنه مفيد -إن شاء الله تعالى-.

 

وكتب -حديثاً- بعض إخواننا ومحبينا الشيخ مالك شعبان في مجلتنا (الأصالة) ثلاث حلقات عن أسوأ كتاب ظهر عن حياة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب، وفنّد أباطيله، وهو= =«مذكرات همفر»، انظر الأعداد (31، 32، 33)، وللمحدث الشيخ مقبل بن هادي -رحمه الله- مقالة بعنوان «حول كلمة وهابي» نشرناها في «الأصالة» -أيضاً- (العدد 34/ص 28-33)؛ فلتنظر.

 

([43]) وفيها جميعاً ما يؤكّد أنّ المراد بـ(نجد): (العراق)، وهذا هو سبب إيراد هذه النقولات.

 

([44]) ورد في ذلك حديث صحيح بشواهده، أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/98 رقم 19214)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/308-309 رقم 427)، وأحمد (1/85) والبزار (884) وأبو يعلى (363) في «مسانيدهم»، والطبراني (2811) من طريق عبدالله بن نُجيّ عن أبيه: أنه سار مع علي، وكان صاحبَ مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، فنادى عليّ: اصبر أبا عبدالله، اصبر أبا عبدالله، بشط الفرات. قلت: وما ذا؟ قال: دخلت على النبي × ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبيَّ الله! أغضبك أحد، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: «بل قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أنّ الحسين يُقتل بشط الفرات»، قال: فقال: «هل لك إلى أن أُشِمَّكَ من تربته؟» قال: قلت: نعم. فمد يده، فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عَيْنَيَّ أن فاضتا.                                                                                      =

 

=       وإسناده ضعيف، نجي والد عبدالله، لم يرو عنه غير ابنه، ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال: «لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد».

 

وقال البزار: «وعبدالله بن نجي وأبوه سمعا من علي».

 

وله طرق أخرى عن علي، وبعضها موقوفة عليه، لكن لها حكم الرفع. انظر: «المعجم الكبير» للطبراني (3/117-118 رقم 2823، 2824، 2825، 2826).

 

والحديث له شواهد عديدة، أشار إليها الهيثمي بقوله في «المجمع» (9/187) على إثر هذا الحديث: «رجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا».

 

قلت: ورد نحوه من حديث أنس، أخرجه أحمد (3/242، 265) والبزار (2642 - «زوائده») وأبو يعلى (3402) في «مسانيدهم»، وابن حبان (6742)، والطبراني (2813)، وأبو نعيم في «الدلائل» (2/709 رقم 492) من طريق عُمارة بن زاذان: حدثنا ثابت، عن أنس بنحوه، وفي آخره: «قال ثابت: بلغنا أنها كربلاء».

 

وعمارة يروي عن ثابت عن أنس مناكير، وتفرد بهذا الحديث.

 

وورد من حديث أم الفضل بنت الحارث، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/176-177)، والطبراني مختصراً في «الكبير» (25/رقم 42) من طريق محمد بن مصعب عن الأوزاعي، عن أبي عمار شداد بن عبدالله، عن أم الفضل بنحوه.

 

وأخرجه جمع من الطريق نفسه دون موطن الشاهد.

 

وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: «بل منقطع ضعيف، فإنّ شداداً لم يدرك أم الفضل، ومحمد بن مصعب ضعيف».

 

وورد من حديث عائشة، أخرجه أحمد (6/294) في «الفضائل» (2/770 رقم 1357)، والطبراني في «الكبير» (3/3/113-114 رقم 2814، 2815)، ووقع عند أحمد (عن عائشة أو أم سلمة) بالشك.

 

وأما حديث أم سلمة، فأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (4/288)، والقطيعي في «زياداته على فضائل الصحابة» (2/782 رقم 1391)، والطبراني في «الكبير» (3/114، 115 رقم 2817، 2818، 2819، 2820، 2821).

 

وفي الباب عن أنس بن الحارث رفعه: «إن ابني هذا يقتل بأرض العراق».

 

أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/243 رقم 97) و«الدلائل» (2/710 رقم 493)، والبغوي في «معجم الصحابة» (1/63-64 رقم 46)، وابن السكن -كما في «الإصابة» (1/68)-، وابن الأثير في «أسد الغابة» (1/146)، وعن الحسين نفسه ومعاذ وزينب بنت= =جحش، أخرجها -بالترتيب-: الطبراني في «الكبير» (3/112 رقم 2812 و3/129 رقم 2861 و24/54-55، 57 رقم 141، 147) وفيه مجاهيل، وعن ابن عباس عند البزار، ورجاله ثقات،  وفي بعضهم خلاف، وعن أبي الطفيل عند الطبراني، وإسناده حسن. قاله الهيثمي في «المجمع» (9/190، 191-192).

 

والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه. انظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 1171) وفاته ما ذكرناه بعد حديث أم سلمة.

 

ومما ينبغي ذكره هنا: إن ابن أبي الدنيا أفرد «مقتل الحسين» بمصنف مفرد مطبوع في طهران، ونشر عن دار الأوراد في الكويت بتحقيق محمد شجاع ضيف الله: «مقتل الحسين» للطبراني، وهو قطعة من «المعجم الكبير»! وألّف في هذا الباب غير واحد، وجلهم من الرافضة! وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (4/556 وما بعد) أن الذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب، ومثّل على ذلك، فانظر كلامه، إن أردت الاستزادة؛ فإنه مهم.

 

([45]) من أجوبته المسكتة: ما حكاه في «مصباح الظلام» (ص 237)، وعنه صاحب «الضياء» الشارق في الرد على شبهات الماذق المارق» (ص 45)، قال: «قد قال لي بعض= =الأزهريين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم. فقلت: وفرعون اللعين رئيس مصركم. فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون».

 

([46]) يريد: دحلان (أحمد زيني) (ت 1304هـ)، حيث أورد الحديث هكذا: «الفتنة من ههنا»، وصوابه -كما قدمناه-: «الفتنة ههنا، من حيث يطلع...»، وفرق كبير في المعنى بينهما!

 

([47]) يريد: دحلان.

 

([48]) سيأتيك هذا مفصلاً (ص 357) تحت عنوان (فصل في وصول الشر والفتن آخر الزمان كل مكان).

 

([49]) «مصباح الظلام» (336).

 

([50]) «منهاج التأسيس والتقديس» (ص 92).

 

([51]) سيأتيك تفصيل وتأصيل لهذا.

 

([52]) «لله أبوك»: كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، فإن الإضافة إلى العظيم تشريف، ولهذا يقال: بيت الله وناقة الله. قال صاحب «التحرير»: فإذا وُجد من الولد ما يحمد، قيل له: لله أبوك حيث أتى بمثلك. قاله النووي في «شرح صحيح مسلم» (2/226).

 

([53]) «تعرض الفتن»؛ أي: تلصق بعرض القلوب -أي: جانبها- كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به. قاله النووي (2/226).

 

([54]) «عوداً عوداً»، قال النووي: هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه؛ أظهرها وأشهرها: عُوداً عُوداً. والثاني: عَوداً عَوداً. والثالث: عَوذاً عوذاً. ولم يذكر صاحب «التحرير» غير الأول. وأما القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم، واختار الأول     -أيضاً-. انظر: «شرح النووي» (2/226)، «إكمال المعلم» (1/452).

 

([55]) «فأي قلب أشربها»؛ أي: دخلت فيه دخولاً تامّاً وألزمها، وحلت منه محل الشراب. ومنه قوله -تعالى-: {وأُشرِبُوا في قُلوبِهم العِجل} [البقرة: 93]؛ أي: حب العجل. ومنه قولهم: ثوب مشرب بحمرة؛ أي: خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها. قاله عياض (1/453)، والنووي (2/227).

 

([56]) «نكت فيه نكتة»؛ أي: نقط نقطة. قال ابن دريد وغيره: كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت. قاله عياض (1/453)، والنووي (2/227).

 

([57]) «أنكرها»: ردّها.

 

([58]) «مثل الصفا»، قال القاضي عياض -رحمه الله- (1/453): ليس تشبيهه بالصفا بياناً لبياضه، لكن صفة أخرى؛ لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه؛ كالصفا؛ وهو: الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، ونقله النووي (2/227).

 

([59]) «مربادّاً»، قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- (2/227): كذا هو في روايتنا، وأصول بلادنا، وهو منصوب على الحال. وذكر القاضي عياض [1/454] خلافاً في ضبطه، وإن منهم من ضبطه كما ذكرنا، ومنهم من رواه مربئدّ. قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا. وأصله أن لا يهمز، ويكون مربدّ؛ مثل: مسودّ ومحمرّ. وكذا ذكره أبو عبيد الهروي [في «غريبه» (4/121)]، وصححه بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سرّاج؛ لأنه من اربدّ، إلا على لغة من قال: احمأرّ، بهمزة بعد ميم لالتقاء الساكنين. فيقال: اربأد ومربئد، والدال مشددة على القولين، وسيأتي تفسيره.

 

([60]) «مجخياً»؛ معناه: مائلاً. كذا قاله الهروي وغيره. وفسره الراوي في الكتاب بقوله:= =منكوساً. وهو قريب من معنى المائل. قال القاضي عياض: قال ابن سرّاج: ليس قوله كالكوز مجخياً تشبيهاً لما تقدم من سواده، بل هو وصف آخر من أوصافه، بأنه قُلب ونُكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة. ومثله بالكوز المجخّي، وبيّنه بقوله: لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.

 

انظر: «إكمال المعلم» (1/454)، «شرح النووي» (2/227-228).

 

([61]) «إن بينك وبينها»؛ معناه: أن تلك الفتن لا يخرج شيء منها في حياتك.

 

([62]) «يوشك»؛ أي: يقرب.

 

([63]) «أكسراً»؛ أي: أيكسر كسراً. فإن المكسور لا يمكن إعادته بخلاف المفتوح، ولأن الكسر لا يكون غالباً إلا عن إكراه وغلبة وخلاف عادة. قاله النووي (2/229).

 

([64]) «لا أبا لك»، قال صاحب «التحرير»: هذه كلمة تذكرها العرب للحث على الشيء، ومعناها: إن الإنسان إذا كان له أب، وحزبه أمر، ووقع في شدة، عاونه أبوه ورفع عنه بعض الكلّ، فلا يحتاج من الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون. فإذا قيل: لا أبا لك؛ فمعناه: جدّ في هذا الأمر وشمّر وتأهب تأهبَ من ليس له معاون، والله أعلم. أفاده النووي (2/229).

 

([65]) «ليس بالأغاليط» جمع أغلوطة؛ وهي التي يغالط بها؛ فمعناه: حدثته حديثاً صدقاً محققاً، ليس هو من صحف الكتابيين، ولا من اجتهاد ذي الرأي، بل من حديث النبي ×. أفاده عياض (1/456)، والنووي (2/229).

 

([66]) «فتح الباري» (6/700).

 

([67]) المصدر السابق. وكلامه في «بهجة النفوس».

 

([68]) «فتح المنعم بشرح صحيح مسلم» (10/507).

 

([69]) الفتن تظهر على هيئة أمواج، وهذه الأمواج منها القصير ومنها الطويل، وكله يعصف، ومصداقه ما أخرجه مسلم (2891) بسنده إلى حذيفة، قال: قال رسول الله × وهو يعدُّ الفتن: «منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار» ولعل الثلاثة المذكورات موزعات في أوقات مختلفات، و(رياح الصيف) ويريد فيها بعض الشدة، وإنما خص رياح الصيف، لأنّ رياح الشتاء أقوى» قاله ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/29).

 

وشبهها برياح الصيف «لتفاوت زمنها، وسرعة مجيئها وذهابها، وكذلك التفاوت في الشدة، والآثار التي تحدثها، والله أعلم»، كذا في «الفتنن والآثار والسنن» (ص54-55) و(الفتن التي تموج موج البحر) هن اللاتي «لايكدن لا يذرن شيئا»، وهن (الفتن العامة) الواردة في جملة من الآثار -وستأتي- ، ويمتاز هذا النوع بأن شرها يصل إلى جميع الناس، وتصيدهم كالأنعام، وورد ذلك في أحاديث سيأتي بعضها -أيضاً-.

 

ومن هذا النوع: الفتن التي تدخل بيت كل مسلم، قيل فيها: هي واقعة التتار، الآتي وصفها (ص 369 وما بعد)، إذ لم يقع في الإسلام، ولا في غيره مثلها! كذا في «فيض القدير» (4/95).

 

قلت: واقعة التتر مفردة من مفرداتها، وإلا فهي كثيرة، وقد تدخل الفتن الخاصة ببلدة معينة صغيرة، تخص فئة، أو عامة تشمل الناس جميعاً.

 

والفتن العامة، عاصفة، تموج وتضطرب، كما يموج البحر ويضطرب عند هيجانه، ويدفع بعضه بعضاً، ولا يمكن لأحد الوقوف أمامها، وقد لا ينجو منها إلا من اعتزلها، ولذا وصفت في بعض الآثار الآتية بأنها (صماء عمياء مطبقة)، ذلك أن هذا النوع من (الفتن) إن وقع تكون له (ظلل)، و لذا جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد (3/477)، والطيالسي (1290)، والحميدي (574) في «مسانيدهم»، وابن أبي شيبة (15/13)، وعبد الرزاق (20747)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2305، 2306)، والبزار (3353، 3354، 3355 - «زوائده»)، والطبراني في «الكبير» ( 19/رقم442-446)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (12/رقم 1628-1632 -  ط. الباز)، وابن حبان (5956)، والحاكم في «المستدرك» (1/34 و4/454-455)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص152)، وابن عبد البر في «التمهيد» (10/172)، والبغوي في «شرح السنة» (4235)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/2409-2410 رقم 5895، 5896) عن كرز= =ابن علقمة -رضي الله عنه- قال: قال رجل يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ قال: «أيّما أهل بيت -وقال في موضع آخر: قال: نعم، أيُّما أهل بيت -من العرب أو العجم، أراد الله بهم خيراً، أدخل عليهم الإسلام». قال: ثم مه؟ قال: «ثم تقع الفتنن كأنها الظُّلل»، قال: كلا، والله إن شاء الله. قال: «بلى، والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أسَاود صُباً يضرب بعضكم رقاب بعض، فخير الناس يومئذٍ: مؤمن معتزل في شعب من الشعاب، يتقي الله، ويذر الناس من شره»، وهو صحيح، كما في «السلسلة الصحيحة» (رقم51)

 

ففي هذا الحديث فائدة مهمة، وهي أن الفتن تقع وكأنها (الظلل) وهي السحاب ، تحيط بالناس من كل جهة، وأن الناس سيضرب بعضهم رقاب بعض، كما تنصب وترتفع الحية السوداء على الملدوغ فتلدغه، وهذا تفسير سفيان عند أحمد، وكذا شيخه الزهري، عند الحميدي والبيهقي وابن عبد البر.

 

فالفتن لها ظلل تنال من دين الخائض فيها، ولا سيما وهي (سوداء) و (عمياء) و (مطبقة) لا يظهر لها قبل من دبر، ولا ظهر من وجه، وكأنها حيات مصبوبة على الناس من السماء (وأساود: حيات، جمع أسود، إذا أرادت أن تنهش ارتفعت هكذا، ثم انصبت، وقال القرطبي في «التذكرة» (625) نقلاً عن ابن دحية: «وهو الذي يميل ويلتوي وقت النهش، ليكون أنكى في اللدغ وأشد صبّاً للسُّم»، وشبهت بها الفتن لشدة سوادها وكثرتها، وعظم شأنها، وأنها يتبع بعضها بعضاً، فهي متراكمة كالظلل، وأكثر ما يظهر ذلك عند تقاتل المسلمين، وسفك بعضهم دماء بعض، كما حصل في سلسلة الحروب التي ظهرت في (العراق)، وانقسم المسلمون على إثرها إلى مؤيد ومعارض، وخيمت الفتنة فترة من الزمن، وظهرت شجاعة المسلمين على بعضهم البعض،وهم أذلاء جبناء مع عدوهم، فإلى الله المشتكى، ولا قوة إلا بالله العظيم!

 

([70]) سيأتي تخريجه، وفي الباب أحاديث كثيرة. خرجت بعضاً منها في تعليقي على «العزلة والانفراد» (رقم 15، 16، 17،18).

 

([71]) «موقف المسلم من الفتن» (ص107-108).

 

([72]) «فتح الباري» (6/701).

 

([73]) أشار النووي في «شرحه على صحيح مسلم» (2/171) إلى قول حذيفة «فأسكت القوم» بسبب أنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة، وإنما حفظوا النوع الأول. وورد في حديث عبدالله بن عمرو الطويل: «وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها»، وسيأتي ذكره وتخريجه وبيان فوائده، والحمد لله على آلائه ونعمائه.

 

([74]) بنوعها الثاني (التي تموج موج البحر)

 

([75]) محلها القلب، وتفصيل أثر الفتنة على القلب ليس من مقصد دراستنا هذه؛ ولذا أغفلناه، والله الموفق. وانظر وَمْضة وإلماحة في (ص 750).

 

([76]) سيأتي بطوله مع تخريجه (ص 358-360) تحت (فصل في وصول الشر والفتن آخر الزمان كل مكان).

 

([77]) تحقيق سكينة الشهابي، نشر مؤسسة الرسالة.

 

([78]) «شرح النووي» (2/174)، ونحوه في «الفتح» (6/701).

 

([79]) «الفتح» (6/701).

 

([80]) «النهاية في الفتن» (1/15).

 

([81]) «النهاية في الفتن» (1/14).

 

([82]) أُرعدت -على البناء للمجهول-؛ أي: أخذها الاضطراب.

 

([83]) القِرن -بكسر القاف، وسكون الراء- : المقاوم لك في أيِّ شيء كان.

 

([84]) أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (10/155 رقم 18674) عن يزيد الرقاشي مرسلاً.

 

([85]) فُوق السهم: موضع الوتر منه. كذا في «النهاية».

 

([86]) اتخذه الموسوي في «مراجعاته» (ص326) متكأً في الطعن بأبي بكر وعمر، وسبقه أحمد ابن سعيد الدرجيني الإباضي (ت670هـ) في كتابه «طبقات المشايخ بالمغرب» (2/204)، وأقرهما ناصر السابعي الإباضي في كتابه «الخوارج والحقيقة الغائبة»، وأطال الكلام على رد الحديث -انظر كتابه (ص327-345)- دون قواعد أهل الصنعة، وإنما بتعسّف ظاهر، فلا تغرك جعاجعه وشبهاته حوله!

 

([87]) أخرجه الأموي في «مغازيه» كما في «فتح الباري».

 

([88]) ثم وجدت لفظه في «المسند» (38/334 رقم 23304 - ط. مؤسسة الرسالة): «إلا تتضع لفتنة الدجال»، بزيادة: «تتضع»، وهي عند ابن حبان والبزار في إحدى روايتيه.

 

([89]) الحديث صحيح على فرض عدم السماع بالطرق الأخرى، وانظر تفصيل ذلك في «السلسلة الصحيحة» (3082).

 

([90]) قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (1/547): «زيد بن حصين الطائي ثم الشبيبي، ذكره الهيثم بن عدي عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر الهمداني أنه كان عامل عمر بن الخطاب على حدود الكوفة. أخرجه محمد بن قدامة في «أخبار الخوارج» له.

 

(قلت): وقد قدَّمْتُ غير مرة أنهم كانوا لا يُؤمِّرون في ذلك الزمان إلا الصحابة»

 

([91]) قال ياقوت في «المعجم» (2/207): «جُوخَا: بالضم والقصر، وقد يُفتح: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه الراذانان، وهو خانقين وخوزستان».

 

([92]) وهاجروا فيما بعد منها إلى (حروراء)، وشبهوا ذلك بهجرة الرسول × من مكة إلى المدينة!

 

([93]) أخرجه النسائي في «المجتبى» (7/119-120 رقم 4103)، وابن أبي شيبة= =(10/536 رقم 37904) مختصراً،  والطيالسي (923)، وأحمد (4/421-422)، والبزار (9/294 رقم 3846) بسند ضعيف، فيه الأزرق بن قيس، وشريك بن شهاب لم يوثقه غير ابن حبان، وأصله ثابت في «الصحيحين» وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وهذا المعنى صحيح، يشهد له ما أخرج البخاري (361)، ومسلم (1066)، وغيرهما من حديث علي رفعه: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية...». وهذه كلمات وصفات لا تنطبق على الذين خرجوا على علي أول الأمر، ففي هذا الحديث قال: «في آخر الزمان»، والأحاديث الكثيرة في الخوارج لم يذكر فيها «في آخر الزمان»، بل ذكر فيها: «سيخرج قوم...» فقط، وهنا قال: «في آخر الزمان»، ومن المعلوم أنّ الذين خرجوا على علي كانوا في أول الزمان.

 

وانظر: «الخوارج والفكر المتجدد» (ص 33)، وما سيأتي قريباً من حديث ابن عمر.

 

وانظر: «مجمع الزوائد» (6/299).

 

([94]) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/496)، وانظره (28/499).

 

([95]) انظر مزيد بسط لهذا فيما يأتي قريباً عن الفرق بين (الجهاد) و (الثورة).

 

([96]) من أول زيارات شيخنا الألباني -رحمه الله- إلى الأردن: مجيئه سنة 1973م لمناقشة هؤلاء، ووصل من دمشق إلى نواحي (عمان) بعد العشاء، وأخذ على الفور -بعد الصلاة- في مناقشتهم، واستمر ذلك إلى الفجر، وعادوا جميعاً عن رأيهم إلا واحد بقي على سوئه، حتى أصبح -والعياذ بالله- فيما بعد ملحداً مرتداً، يتنصل من الإسلام، ويتندّر به، وكان بعض الراجعين -ببركة هذا البيان- يعلن أمام طلبته -حتى في دروسه النظامية- رجوعه وتوبته.

 

([97]) انظرها بتمامها في «تاريخ دمشق» (17/ق478-479)، و«سير أعلام النبلاء» (4/553-555)، و«تهذيب الكمال» (31/150-156)، وقد نشرها أخونا الشيخ عبدالسلام برجس بعنوان: (مناصحة الإمام وهب لرجل تأثّر بمذهب الخوارج).

 

([98]) إي والله! والتاريخ الحديث شاهد على ذلك، وهذان مثالان مستعجلان:

 

الأول: اقترح داعية -منسوب يا للأسف للسلفية- في الجزائر -في خطبة جمعة ألقاها في وقت أزمة الخليج- الذهاب إلى بيت الله الحرام، والاعتصام هناك، قال بالحرف: «في هذا الحج نمشي جميعاً إلى البيت الحرام، ونعتصم به، فلا نخرج حتى تخرج أمريكا من الخليج».

 

والآخر: قام رأس من رؤوس الإخوان المسلمين في الأردن -وهو: أحمد الأزايدة رحمه الله تعالى وغفر له- أمام حشد هائل في مهرجان خطابي، دعى فيه المسلمين إلى (مقاطعة) الحج إلى بيت الله الحرام، حتى يخرج الأمريكان من الخليج.

 

ولا أدري  أيهما أخذ الفكرة من الآخر، وقل لي بربك -وتأمل قبل الجواب-! أيهما أفقه من الآخر؟!                                                                                             =

 

=       ومن اللطيف أنّ بعضهم -آنذاك- كان ينقل عن شيخنا الألباني وجوب المقاتلة مع العراق، ونشرت ذلك (إذاعة اليهود)، وقد سأل بعض الجزائريين شيخنا عن ذلك، فأمرهم الشيخ بقوّة أن يتصدوا لذلك (الشاب) المفتي، قال: «كي لا يلحد في الحرمين الشريفين». انظر: «مدارك النظر» (ص412).

 

([99]) وهكذا حصل مع أهل الجزائر في فتنة عمياء، سيأتي ذكر طرف من ذلك، وقانا الله الشرور والمهالك، وجنّبنا الردى، وركوب ما لا يرتضى، وأعاذنا من الهوى.

 

([100]) «تاريخ الطبري» (5/313).

 

([101]) «تاريخ الطبري» (5/613).

 

([102]) انظر: «تاريخ ابن جرير» (6/174).

 

([103]) انظر: «تاريخ ابن جرير» (6/195)

 

([104]) انظر: «البداية والنهاية» (10/306).

 

([105]) «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (4/190).

 

([106]) «الفرق الإسلامية» (ص 49) لمحمود البشبيشي.

 

([107]) «الأخلاق والسير» (ص 84).

 

([108]) من كلام المعلق على «الأخلاق والسير»، وهو أخونا الباحث عبدالحق التركماني     -حفظه الله-.

 

([109]) لا يلزم منها التطابق التام بين (أصحابها) و(الخوارج)، وإنما خصَّت للمشابهة في (المسلك) و(الطريقة) فحسب.

 

([110]) وعليه تعطلت في هذه الفتنة شعيرة الأذان على مآذن الحرم اثنتين وثمانين مرة.

 

([111]) سيأتي -إن شاء الله تعالى- تأصيل في (الإسقاط) وضوابطه ومعالمه، ومما ينبغي أن يذكر: أنّ لـ(جهيمان) عناية قوية بأحاديث (الفتن)، وله فيها رسالة مفردة مطبوعة، وله شطحات في التنزيل والإسقاط، كانت من الأسباب الرئيسة لوقوعه في (فتنة البغي على الحرم)، فضلاً عن غمزه وطعنه في العلماء، والتقدّم بين أيديهم في فهمها. انظر نماذج من ذلك في رسالته «الإمارة والبيعة والطاعة» (ص22-23)، و«الميزان لحياة الإنسان وسبب الخروج عن الصراط المستقيم والموقف الصحيح في بيان الحق»، وانظر كتاب أخينا إبراهيم أبو العينين «تحذير ذوي الفطن» (ص 59-67)، و«الخوارج الحروريّون» (ص 70-72).

 

([112]) انظر تصريحات للملك فهد -وكان آنذاك وليّاً للعهد- نشرت في جريدة «الرياض» يوم الأحد/25صفر/سنة 1400هـ، الموافق 13/يناير/سنة 1980م.

 

([113]) الأرقام المثبتة أعلاه من تصريح لوزير الداخلية، نشر في جريدة «الرياض» في 22 صفر سنة 1400هـ، الموافق 10/يناير/1980م.

 

([114]) انظر عنهم: «الخوارج الحروريّون ومقارنة مبادئهم بمبادئ الفرق الإسلامية» (ص 68-92).

 

([115]) «الإمارة والبيعة والطاعة» (ص 14).

 

([116]) «الإمارة والبيعة والطاعة» (ص 29)

 

([117]) انظر الرسالة نفسها (ص 12 وما بعد).

 

([118]) وسموا جماعتهم بـ(السلفية)! وأصبحت (السلفية) قميصاً يتسربل به كثير من الأدعياء والدخلاء على هذه الدعوة المباركة، ومن أوجب الواجبات على أهلها في جميع البلدان، ولا سيما الذين وُضِعوا فيها موضع القدوة، وعرفوا على أنهم رموز لها: أنْ (يتمايزوا) عن هؤلاء، وا أسفاه وا غوثاه بالله من دعوة (سلفية) اتخذت (المنامات) أصلاً لها في هذا (الخروج)،واعتمد أبناؤها على التقليد، فهذا شأن (الصوفية) و(التبليغ)، لا الدعوة الرشيدة المعتمدة على الكتاب والسنة، وتقريرات العلماء بالأدلة والزبر والبينات، ورحم الله العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، فإنه رد عليهم آنذاك، بقوله: «أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي، فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان؛ لأنّ المَرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله -سبحانه- أكمل لنبينا محمد × ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته -عليه الصلاة والسلام-، ثم إنّ المهدي قد أخبر النبي × أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق؟». من جريدة عكاظ، 18 من المحرم 1400هـ.

 

([119]) قطعة من حديث أخرجه البخاري (361)، ومسلم (1066)، وغيرهما من حديث علي رفعه: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية،= =يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة».

 

وتأمل «آخر الزمان»، فالذين خرجوا على علي أول الزمان، و«حدثاء الأسنان»، والذين خرجوا على علي كانوا من كبار السن، و«سفهاء الأحلام»، والذين خرجوا على علي كانوا من ذوي العقول، و«يقولون من قول خير البرية»، وفسِّر هذا: أنهم يقولون من قول النبي ×، وهو الصحيح لبعض شراح الحديث. انظر: «عون المعبود» (13/80). والخوارج كانوا يقولون: حسبنا كتاب ربنا.

 

([120]) أخرجه أحمد (2/351)، والطيالسي (2373)، وابن أبي شيبة (7/462)، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (2810)، وابن حبان (6827)، والحاكم (4/500)، وإسناده صحيح. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (579).

 

([121]) اسمع شريطاً مسجلاً له في (سلسلة الهدى والنور) (751/1).

 

([122]) علماً أنّ بعض المرجفين ردد حينها أنّ الألباني من وراء جهيمان، أو نحوه من الكذب والبهتان، وليس هذا صنيع العلماء الراسخين الربانيين، وأشاعوا حينها -أيضاً- أنّ (محمد بن عبدالله) لم يقتل، ولم يقدروا عليه، وفرَّ إلى الجبال، وسيكون له خروج قريب، مع أنّ الجهات المسؤولة نشرت آنذاك صورته؛ لقطع هذه الأراجيف.

 

([123]) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/31).

 

([124]) حصر أخونا الشيخ محمد أحمد إسماعيل المقدّم في كتابه «المهدي وفقه أشراط الساعة» مدّعي (المهدوية)، وتكلَّم عليهم بتفصيل حسن؛ فانظره فإنه مفيد.

 

([125]) مقولة للخليل بن أحمد، أسندها عنه الزبيدي في «طبقات النحويين واللغويين» (ص 48)، والمعافى النهرواني في «الجليس الصالح» (3/177)، وذكرها الزمخشري في «ربيع الأبرار» (3/210).

 

([126]) في «طبقاته» (7/526 - ط. الخانجي).

 

([127]) هذا صوابها، وفي مطبوع «الطبقات» :«وظهر»! فلتصحح.

 

([128]) أصدر آنذاك مجموعة من الباحثين في المكتب الإعلامي للإخوان المسلمين كتاباً سموه «حماة مأساة العصر»، فصَّلُوا فيه أحداث الوقائع وما جرى بالتفصيل، مع ذكر أسماء الضحايا، وكتب على طرته: «من منشورات: التحالف الوطني لتحرير سورية»!! والعجيب أنّ خطباء المساجد آنذاك -وقد سمعتُ ذلك- كانوا يذكرون الاعتداء على النساء، وهتك أعراضهن، مع تسمية بعضهن، وهن -لبعض المخاطبين- معروفات بأعيانهن! ولا قوة إلا بالله!

 

([129]) أرّخ عمر عبدالحكيم ذلك في كتابه «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا»، وهو في جزأين (الجزء الأول: التجربة والعبرة، آلام وآمال، والجزء الثاني: الفكر والمنهج)، قال عن أوله (ص 19): «يتحدث في معظمه عن تاريخ وتسلسل الأحداث في الثورة الجهادية المسلحة في سوريا كما حصلت وكما عايشتها بنفسي، وشاركت فيها بما قسمه الله، وأسأله القبول، فمعظم ما رويته هي أحداث عايشتها ساعة بساعة، أو تفاصيل سمعتها من أصحابها المجاهدين الثقات»!

 

وقال في الصفحة نفسها: «مما أكمل معرفتي التي حصلتها من خلال احتكاكي بالشريحة القيادية في رأس الهرم التنظيمي للإخوان المسلمين الدوليين، وللطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، وإني إذ أدلي بشهادتي الحية هذه، لم أرقب إلا الله -تعالى-، مدركاً أبعاد هذه المغامرة، بقولي الحقيقة، والإدلاء بها علناً، مع كل ما يراد لها من الطمس والتجهيل»، وأورد منه= =أموراً تقشعر منها الأبدان، وتشيب لها الولدان، ولست بصدد الخروج عن (اليقين) إلى دائرة (الظن) و(التخمين)، فمنهجي في كتابي هذا إبعاد المحتملات وإقصاؤه، ولكن نكبات... وصدمات... ومذابح... ومآسي يدفع الصادقون السذج الثمن، وتطوى دون دراسة وتقويم، بله التاريخ والتدوين، وتنتقل المأساة من بلد إلى آخر، مراهقون يجرِّبون، لعلهم يصلون، ولله سنة لا تتغير ولا تتبدّل: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) طريق العلماء الربانيين، والبعد عن سبيل المجرمين، وسيأتيك مزيد بيان فيما يسنح به المقام، وما أريد -والله- إلا الإصلاح!

 

ولا يفوتني هنا أمور:

 

الأول: الانقسامات التي واجهتها جماعة الإخوان المسلمين في سورية قديمة، أظهرها سنة (1970م)، وأخطرها ما حصل سنة 1986م، على ما ذكر الشيخ سعيد حوى في كتابه «هذه تجربتي وهذه شهادتي» (ص 163).

 

الثاني: من بين هذه الانقسامات المبكرة، انقسام ظهر على إثر الخلاف الحاصل بعد وفاة مصطفى السباعي بين أقطاب دعوتهم، وبرز تكتلان: أحدهما دمشقي حول (عصام العطار)، وآخر (حموي - حلبي) حول كل من عبدالفتاح أبي غدة في حلب، وسعيد حوى في حماة. وسمي الأخير (الحلبي الحموي): (التنظيم الدولي)، والآخر: (جناح دمشق)، وكان فيه نَفَسٌ سلفي، وكان شيخنا الألباني يتردد على (دورهم) و(مجالسهم)، وكان من بينهم رموز، ظهرت منهم مناصرة قوية للدعوة السلفية في العقيدة وضرورة الاحتجاج بالحديث، والاقتصار على الصحيح، ونبذ التعصب المذهبي دون الحزبي! ثم رحل العطار لألمانيا مؤسساً (حركة الطلائع)، وبقي مترئساً لجناحه في سوريا، معتبراً نفسه رئيساً لجماعة الإخوان المسلمين، وبهذا اللقب كان يصدر بياناته.

 

وانشق عن جناح العطار المتبقي في سوريا شِقٌّ ظهر فيها بين عامي (1975-1977م)، وكان على هيئة كتلة صغيرة، تزعمها (محمد سرور زين العابدين)، وظهر نتيجة ملاحظات على المنهج والإدارة التي خلّفها عصام وراءه، ودعيت هذه الكتلة بـ: (السروريين) باسم مؤسسها الذي ارتحل إلى الخليج، وأوجد لجماعته فيما بعد امتداداً في أقطار أخرى، حول منهج حاول فيه صاحبه: الاستفادة من تجربته الإخوانية، وأطر تنظيمهم، وعملهم المخطط الحزبي، مع العقيدة السلفية، وترعرع هذا التنظيم واشتد، من خلال تأثر رموز من طلبة العلم المتقدمين والدعاة العاملين بأطروحاتهم، ولم يكن لهذه المجموعة أثر يذكر في أحداث سورية، إلا مشاركات فردية، وما لبثوا إلا أن غادروا سورية كغيرهم.

 

ولمحمد سرور في كتابه «قل هو من عند أنفسكم» (ص 96-98) كلام يتكلم فيه على سوء حال القائمين على فتنة حماة. انظر: (ص 67، 72، 90-91، 92-93، 100 وما بعد) من= =كتابه هذا.

 

الثالث: أخذت هذه الانقسامات -ولا سيما في أثناء الأحداث- بُعداً خطيراً، وعمت المشكلة، وجعلوه في بعض أشكاله غسيلاً منشوراً في الصحف، وترى نماذج من ذلك في «مجلة المجتمع» (العدد571) رجب 1402هـ الموافق 18/5/1982م، وجريدة «اللواء» الأردنية العدد (484) بتاريخ 9/6/1982م.

 

([130]) انظر «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا» (1/69، 96-97، 105، 256 وما بعد)، وعقد الإخوان المسلمون مع حزب البعث العراقي والاشتراكيين العرب والوحدويين الاشتراكيين (تحالفاً وطنيّاً)، واضطربت (الفتاوى) بشأنه، وتحمس بعضهم فكتب في تلك الأجواء «التحالف السياسي في الإسلام»، وتحمّس مجموعة من الشباب في بيان حكمه، وكانت (مجموعة محمد سرور) من الرافضين له بقوّة، وأظهروا مجموعة من (الفتاوى) بخصوصه للشيخ ابن باز والألباني و(محمد قطب)! وهذا نص فَتَوَيِ الشيخين ابن باز والألباني -رحمهما الله تعالى-:

 

فتوى الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز

 

السؤال: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: زعم بعض الناس وأشاعوا أنكم أفتيتموهم بجواز التحالف مع الكفار من وطنيين وعروبيين وقوميين واشتراكيين... فهل يجوز التعاون معهم أو التحالف لإسقاط طاغية، ومن ثم إقامة دولة دينها الإسلام وتقوم على حرية الاعتقاد، وحرية الأحزاب السياسية؟

 

الإحابة: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

 

أما بعد؛ فلم يصدر مني فتوى في جواز التحالف مع كفرة، سواء كانوا من العرب أو كانوا من العجم، بل الذي صدر مني هو أنه لا يجوز التحالف مع أي كافر... وإنما سئلت عمن أراد أن يرجع عما هو عليه من النحل الكافرة، وأن يتوب منها وأن يتعاون مع المسلمين في جهاد فئة من الكفرة، ثبوت له لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، من تاب من كفره وشركه وأحب أن يجاهد مع إخوانه المسلمين جهاداً شرعيّاً فلا بأس، التوبة تجبُّ ما قبلها... أما أن يتحالف مع كافر شيوعي أو يهودي أو نصراني أو أي كافر، فلا يجوز التعاون مع هؤلاء والتحالف معهم؛ لأنه ثبت عن النبي × أنه أتى إليه في غزوة بدر رجل، فقال: «يا رسول الله! أريد أقاتل معك. قال: أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك».

 

بيّن النبي × أنه لا يستعين بالمشركين، في قتال قريش، فهكذا لا يستعان بالمشركين= =والكفار في قتال أي طائفة؛ لأنهم لا يؤمنون، إنما يستعان بأهل الإيمان والهدى والإسلام ولو كان فيهم معاصي، أما الكفرة فلا يستعان بهم ولا نتحالف معهم في جهاد أي شخص كان أو جهة كانت، أو أي طائفة كانت؛ لأن الكافر مهما كان لا يؤمن سواء كان يهوديّاً أو نصرانيّاً، أو شيوعيّاً أو إباحيّاً، أو غير ذلك، ولأن الرسول × بين لنا أنه لا يستعان بأهل الشرك في قتال الكفرة؛ لأنهم إخوانهم لا يؤمنون، قال -الله تعالى-: {يَا أيّها الّذين آمنوا لا تَتّخذوا بِطَانةً مِن دونكم لا يَألونكم خَبَالاً وَدّوا ما عَنِتّم قد بدت البغضاء مِن أفواههم وَما تُخفي صدورهم أكبر قَد بيّنا لكم الآيات إنْ كُنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تُحبّونهم وَلا يُحبّونكم وَتُؤمنون بِالكتاب كُلِّه وإذا لَقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عَضّوا عليكم الأنامل مِن الغَيظ قُل مُوتوا بغيظكم إنّ اللهَ عَلِيمُ بذات الصُّدور}.

 

بيّن -سبحانه- أنه لا يجوز لنا أنْ نتخذ بطانةً من الكفرة؛ لأنهم يودون عَنَتَنا ومشَقَّتنا وضرنا، ولا يألون خبالاً؛ أي: تخريباً وتدميراً وإفساداً، فلهذا وجب الحذر منهم، ولا يستعان إلا بأهل الإسلام، ولا يتحالف إلا مع أهل الإسلام، لا مع الكفرة اللئام، وأسأل الله أنْ يصلح أحوال المسلمين، وأن يوفقهم لما فيه رضاه، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح قادة المسلمين أينما كانوا، وأن يردهم للصواب، وأن يعيذهم من طاعة الهوى والشيطان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

 

فتوى الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني

 

السؤال: فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني: سمعتم منذ مدة عن قيام تحالف وطني بين الإخوان المسلمين والبعثيين والاشتراكيين والناصريين، في إطار ما سمي بالتحالف الوطني لتحرير سورية، ما حكم الإسلام في هذا الأمر؛ نرجوا أنْ تبينوا لنا ذلك، جزاكم الله خيراً...

 

الإجابة: الذي أعتقده بعد حمد الله والصلاة على رسول الله ×:

 

أنّ هذا التحالف لا شبيه له في الإسلام، ولم يقع مثله لا فيما بعد الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فضلاً عن زمنه -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك لسببين اثنين:

 

أولاً: إنه تحالف من جماعة لا يمثلون إلا أنفسهم، لا يمثلون المسلمين، ولا يكون أي تحالف -إذا كان التحالف مشروعاً- إلا من حاكم مسلم نصب على المسلمين باختيارهم وليس بالرغم عنهم.

 

ثانياً: أنّ في هذا التحالف أموراً واضحة ليس من صالح الإسلام، ذلك؛ لأن المتحالَفَ معه قوي في عدده وفي سلاحه، أما المتحالف فهو ضعيف، فستكون النتيحة أن يتغلب ولو بعد زمن يسير هذا القوي على الضعيف، وتضمحل شخصية الضعيف، ويكون الحكم كما هو القائم الآن بغير ما أنزل الله، فهذا التحالف الذي وقع بينهما -أي: بين الفريقين- هو حبر على ورق كما يقال.

 

([131]) معاذ الله أن نجوّز لكافر قتل مسلم وإهراق دمه، فكلام ابن خلدون على (الحكام المسلطين) آنذاك، وليس على الواقع الذي جرت فيه هذه الفتنة!

 

([132]) «مقدمة ابن خلدون» (ص 159).

 

([133]) أمثال ابن تيمية وابن القيم، ومن تخرج من هذه المدرسة المباركة، وستأتيك قريباً نقولات مهمة بهذا الخصوص عن الأول، وأمّا ابن القيم، فقد وجدت له في «إعلام الموقعين» (4/337-338 - بتحقيقي) كلمة طويلة عجيبة، نافعة ماتعة، في أنّ الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ثم ذكر أمثلة على ذلك، وفيها: (إنكار المنكر وشروطه)، قال:

 

«إنّ النبي × شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه و أبغض إلىالله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله».

 

ومثل على ذلك بما هو الشاهد، قال: «وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر، وفتنة إلى آخر الدهر...». وانظر -غير مأمور- بقيّة كلامه -رحمه الله تعالى-.

 

([134]) انظر ما سيأتي لاحقاً عن (الثورة) و(الجهاد) والخلط بينهما، والآثار المدمرة المهلكة المترتبة على ذلك.

 

([135]) كما ورد في الحديث الذي تقدم تخريجه مفصلاً (ص 53-58).

 

([136]) انظر ما سيأتي قريباً تحت عنوان: (العراق والفتنة وإبليس).

 

([137]) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (19/89).

 

([138]) عالج ذلك بوجه تفصيلي حسن، وتتبُّع قويّ لموقف هؤلاء -فرداً فرداً-، مع نقل كلام أئمة السلف، وتنزيله على ما جرى، باستئناس بفهم علماء الوقت: أخونا عبدالمالك بن أحمد رمضاني الجزائري، وذلك في كتابه «مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسيّة»، وقرأه وقرظه شيخنا العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، والعلامة الشيخ عبدالمحسن بن حمد العباد -حفظه الله-.

 

([139]) سئل الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- في 26/ذي الحجة/عام 1414هـ في مكة المكرمة ما نصه:

 

الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر تقر لكم بأنكم تؤيدون ما تقوم به من اغتيالات الشرطة وحمل السلاح عموماً، هل هذا صحيح؟ وما حكم فعلهم مع ذكر ما أمكن من الأدلة جزاكم الله خيراً؟

 

فأجاب -رحمه الله تعالى- ما نصه:

 

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

 

فقد نصحنا إخواننا جميعاً في كل مكان -أعني: الدعاة-، نصحناهم أنْ يكونوا على علم وعلى بصيرة، وأن ينصحوا الناس بالعبارات الحسنة والأسلوب الحسن والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن!

 

عملاً بقول الله -سبحانه وتعالى-: {ادْع إلى سَبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحَسَنة وَجَادِلهم بالّتي هي أَحْسن}[النحل: 125]، وقوله -سبحانه-: {وَلا تُجادلوا أَهلَ الكتاب إلا بالّتي هِي أَحسن إلا الّذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46].

 

فالله -جل جلاله- أمر العباد بالدعوة إليه، وأرشدهم إلى الطريقة الحكيمة، والدعوة بالحكمة تعني الدعوة بالعلم: قال الله، قال رسوله، بالموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، عند الشبهة يحصل الجدال بالتي هي أحسن، والأسلوب الحسن حتى تزول الشبهة!           =

 

=وإن كان أحد من الدعاة في الجزائر قال عَنِّي بأني قلت لهم: يغتالون الشرطة أو يستعملون السلاح في الدعوة إلى الله هذا غلط! ليس بصحيح!! بل هو كذب، وإنما تكون الدعوة بالأسلوب الحسن: قال الله، قال رسوله!

 

كما كان عليه النبي × وأصحابه في مكة المكرمة، قبل أن يكون لهم سلطان، ما كانوا يدعون الناس بالسلاح، يدعون الناس بالآيات القرآنية والكلام الطيب والأسلوب الحسن؛ لأن هذا أقرب إلى الصلاح وأقرب إلى قبول الحق!

 

أما الدعوة بالاغتيالات أو بالقتل أو بالضرب فليس هذا من سنة النبي ×، ولا من سنَّة أصحابه!!

 

لكن لما ولاّه الله المدينة وانتقل إليها مهاجراً، وكان السلطان له في المدينة، شرع الله الجهاد وإقامة الحدود، فجاهد -عليه الصلاة والسلام- المشركين وأقام الحدود بعد ما أمر الله بذلك!

 

فالدعاة إلى الله عليهم أن يدعوا إلى الله بالأسلوب الحسن: بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وإذا لم تجد الدعوة قبولاً رفعوا الأمر للسلطان ونصحوا السلطان.

 

السلطان هو الذي ينفذ، يرفعون الأمر إليه فينصحونه بأن الواجب كذا والواجب كذا، حتى يحصل التّعاون بين العلماء وبين الرؤساء من الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريات، الدعاة يرفعون الأمر إليهم في الأشياء التي تحتاج إلى فعل: إلى سجن، إلى قتل، إلى إقامة حدّ، وينصحون ولاة الأمور ويوجهونهم إلى الخير بالأسلوب الحسن والكلام الطيب!!!

 

ولهذا قال -جل وعلا-: {وَلا تُجادِلوا أَهلَ الكِتاب إلاّ بالّتي هي أَحسن إلا الّذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46]، فلو ظلم أحد من أهل الكتاب أو غيرهم، فعلى ولي الأمر أن يعامله بما يستحق.

 

أما الدعاة إلى الله؛ فعليهم بالرفق والحكمة لقول النبي ×: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله» [رواه مسلم].

 

فعليهم أن يعظوا الناس بالآيات، والأحاديث، ويذكّروهم بالعذاب، ومن كان عنده شبهة يجادلونه بالتي هي أحسن، الآية معناها كذا، الحديث معناه كذا، قال الله كذا، قال رسوله كذا، حتى تزول الشّبهة، وحتى يظهر الحق!!!

 

هذا هو الواجب على إخواننا في الجزائر وغير الجزائر، الواجب عليهم أن يسلكوا مسلك الرسول -عليه الصلاة والسلام- وصحابته حينما كانوا في مكة، وذلك بالكلام الطيب والأسلوب الحسن!!!       =

 

=       لأن السلطان ليس لهم الآن لغيرهم، وعليهم أن ينصحوا السلطان والمسؤولين بالحكمة والكلام الطيب، والزّيارات بالنية الطيبة حتى يتعاونوا على إقامة أمر الله في أرض الله!

 

وحتى يتعاون الجميع في ردع المجرم وإقامة الحق، فالأمراء والرّؤساء عليهم التنفيذ، والعلماء والدعاة إلى الله عليهم النصيحة، والبلاغ والبيان، نسأل الله للجميع الهداية.

 

ونشرت هذه الفتوى مع غيرها في كثير من الصحف والمجلات.

 

([140]) هم: أخونا الشيخ حسين بن عيد العوايشة، وأخونا الأستاذ طاهر عصفور، وكاتب هذه السطور، وقد حاولنا التمنّع من إبداء الرأي، وأننا لا نقدم بين يدي الشيخ، وأصرّ الشيخ -رحمه الله تعالى- على ضرورة إبداء رأينا عند قراءته لكل سؤال من الأسئلة الستة، وكان يدوّن رؤوس ما نقول، ويناقش، ويستشكل؛ ليعلِّم، حتى صاغ الأجوبة كلها بقلمه.

 

([141]) نشرت -فتاواه- هذه في غير مجلة وصحيفة وكتاب -ومنها مجلتنا «الأصالة» (العدد الرابع) (ص 15-22)- في كثير من البلدان الإسلامية، وقد أودعتها في كتابي «مقالات الألباني»، ولأخينا محمد بن عبدالله الإمام كتاب جيد ينصح بقراءته، بعنوان: «تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات». ومن الجدير بالذكر أن بعض النواب في بلادنا الأردن قد تعلق بفتوى الشيخ هذه، وقال: إن الشيخ الألباني يرى أنني أولى الناس وأحقهم بالانتخاب، فبلغ الشيخ قوله، فعجب، واستنكر، وقال: أبلغوه أن عليه بفعله هذا إثمه وإثم من لحقه فيه إلى يوم الدين.

 

([142]) حديث ثابت، رواه أبو يعلى والبيهقي. انظر: «الصحيحة» برقم (1795). (منه).

 

([143]) «عيون البصائر» (ص 382-383).

 

([144]) يسميه الناس: (الفاكس)!

 

([145]) ذكرت إذاعة لندن في محرم سنة 1416هـ أن الذين قتلوا من الجزائريين في خلال ثلاث سنوات أربعون ألفاً. قاله الشيخ ابن عثيمين، وعلق عليه أخونا عبدالمالك الجزائري الرمضاني في كتابه «فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر» (ص 139): «هذا قبل أربع سنوات، أما اليوم فقد ذكرت الإحصائيات الرسمية أنها زادت على هذا العدد ثلاث مرات، والله أعلم بمن لم يُعرف عنه خبر، ولا وُجد له أثر».

 

([146]) ستأتي أقسامهم على ألسنتهم أنفسهم ضمن كلام مطول للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- معهم.

 

([147]) اعتنت الصحف بتوبة هؤلاء، ونشرت تصريحات لبعضهم، تجد طرفاً من ذلك في جريدة «القبس» الكويتية، العدد (9544) (8شوال/1420هـ - 14/1/2000م)، وجريدة «الخبر» الجزائرية، بتاريخ 21/12/1419هـ الموافق 7/4/1999م، وبلغنا ذلك من ثقات منهم. وانظر: «فتاوى العلماء الأكابر» (ص 48-59).

 

([148]) هي جريدة «الصحافة» الجزائرية، في العدد (112) بتاريخ 2 جمادى الثانية سنة 1420هـ، الموافق 12/9/1999م.

 

([149]) لا تنس ما قدمناه عنه قريباً (ص 82-84).

 

([150]) سئل الشيخ -رحمه الله- في شوال سنة 1414هـ: هل أنكم قلتم باستمرار المواجهة ضد النظام بالجزائر؟ فأجاب: «ما قلنا بشيء من ذلك». وسئل في 13/صفر/سنة 1420هـ وفي بيته بمدينة عنيزة: ما حكم ما ينسب إليكم -حفظكم الله- من تأييد الجماعات المسلحة الخارجة على الحكومة الجزائرية؟ وأنكم معهم إلا أنكم عاجزون عن التصريح بذلك، لأسباب أمنية وسياسية؟

 

الجواب: «هذا ليس بصحيح، ولا يمكن أن نؤلب أحداً على الحكومة؛ لأنّ هذا تحصل به فتنة كبيرة، إذ أنّ هؤلاء الذين يريدون أن يقابلوا الحكومة ليس عندهم من القدرة ما يمكن أن يغلبوا الحكومة به، فما يبقى إلا القتل وإراقة الدماء والفتنة، كما هو الواقع، وما أكثر ما ينسب إلينا هنا في السعودية أو خارج السعودية، وليس له أصل عنا! والحامل لذلك -والله أعلم- أن الناس لهم أهواء، فإذا هَووا شيئاً نسبوه إلى عالم من العلماء؛ من أجل أن يكون له قبول، وهذه المسألة خطيرة».

 

([151]) من شريط مسجل ضمن «سلسلة الهدى والنور» (رقم 830/1)، وعنوانه: «من منهج الخوارج».

 

([152]) من سؤال وجه له في بيته عصر يوم الجمعة، بتاريخ 13/صفر/1420هـ الموافق 28/5/1999م. وانظر: «فتاوى العلماء الكبار فيما أهدر من دماء في الجزائر» (ص 146).

 

([153]) ولا مشاحة في الاصطلاح، كما هو مقرر عند العلماء.

 

([154]) وهذا هو سبب ذكري لهذه الحوادث في كتاب مفرد عن (فتن العراق)!

 

([155]) تم هذا الحوار عبر (الهاتف).

 

([156]) أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679).

 

([157]) هذا الذي وعدت به سابقاً.

 

([158]) أخرجه البخاري (7056)، ومسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت.

 

([159]) ليس هذا بصحيح ألبتة!

 

([160]) أخرجه البخاري (6309) ببعضه، ومسلم (2747) من حديث أنس -رضي الله عنه-.

 

([161]) أخرجه البخاري (3478)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما -رضي الله عنهم-، وخرجته بتفصيل في كتابي «من قصص الماضين» (ص 239-246).

 

([162]) الويل لمن يعمل من أمام العلماء وتقريراتهم، ولا سيما إن كان شابّاً متهوراً، محبّاً للزعامة، قليل التجربة، قلقاً في أمور معاشه وحياته!

 

([163]) أخرجه البخاري (6104)، ومسلم (60) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

 

([164]) أخرجها البخاري (4269، 6872)، ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.

 

([165]) أخرجه البخاري (48)، ومسلم (116) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

 

([166]) أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.

 

([167]) أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

 

([168]) «فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر» (ص 149-166).

 

([169]) مضى تخريجه (ص 53-58).

 

([170]) كانت الخوارج بكثرة في الكوفة في زمن التابعين، قال العجلي في «تاريخ الثقات» (ص 517): «نزل الكوفة ألف وخمس مئة من أصحاب النبي ×»، وقال الذهبي في «الأمصار ذوات الآثار» (ص 174-175): «نزل جماعة من الصحابة» وسمى أعيانهم، قال: «ثم كان بها من التابعين» وسمى أعيانهم، قال: «وما زال العلم متوفراً إلى زمن ابن عقدة، ثم تناقص شيئاً فشيئاً، وتلاشى، وهي الآن دار الروافض»، وقال في «تذكرة الحفاظ» (3/840): «الكوفة تغلي بالتشيع وتفور، والسُّني فيها طرفة».

 

([171]) هم قوم تحتمشهم النار، وتصل منهم على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها إلى الجنة.

 

([172]) هكذا وقع للمسلمين في فتنة (جهيمان) ووظفت (الرؤى) -أيضاً- في أحداث (حماة). وانظر: «هذه تجربتي هذه شهادتي» (ص 138).

 

([173]) انظر بعضها في «قضايا فقهية معاصرة» (2/165) للبوطي.

 

([174]) انظر -لزاماً- ما سيأتي عن ابن تيمية (ص 747-748) وتعليقنا عليه.

 

([175]) فكيف إن صاحب ذلك: اتّهام وغمز وطعن بهم؟!

 

([176]) «قل هو من عند أنفسكم» (ص 96-98).

 

([177]) «قل هو من عند أنفسكم» (ص 101-103).

 

([178]) فهي على وزان (لا أصل له) في الأحاديث المكذوبة.

 

([179]) ورد في هذا أثر عن الحسن البصري، انظره (ص 672).

 

([180]) «قضايا فقهية معاصرة» (2/166، 180).

 

([181]) «قضايا فقهية معاصرة» (2/166، 180).

 

([182]) كما وقع كثيراً في الجزائر (المسكينة)!

 

([183]) يسر الله لي تحقيق كتاب ابن المناصف «الإنجاد في أحكام الجهاد»، وهو كتاب سلفي يبيّن الأحكام  التفصيلية لمسائل (الجهاد) بالأدلة.

 

([184]) «منهاج السنة النبوية» (4/504).

 

([185]) بسبب جماعات التكفير والهجرة وأفراخها!

 

([186]) من شريط مسجل يوم 29/ جمادى الأولى/ سنة1416هـ - الموافق 23/10/1995م، وهو في (سلسلة الهدى والنور) (رقم 830/أ) بعنوان: (من منهج الخوارج).

 

([187]) من شريط مسجل يوم 29/ جمادى الأولى/ سنة1416هـ - الموافق= =23/10/1995م، وهو في (سلسلة الهدى والنور) رقم (830/أ) بعنوان (من منهج الخوارج).

 

([188]) من شريط مسجل يوم 29/ جمادى الأولى/ سنة1416هـ - الموافق 23/10/1995م، وهو في (سلسلة الهدى والنور) رقم (830/أ) بعنوان (من منهج الخوارج).

 

([189]) من شريط مسجل يوم 29/ جمادى الأولى/ سنة1416هـ - الموافق 23/10/1995م، وهو في (سلسلة الهدى والنور) رقم (830/أ) بعنوان (من منهج الخوارج).

 

([190]) في جريدة «المسلمون» عدد (556) (ص 7) بتاريخ 5/5/1416هـ وكذا في مجلة «البحوث الإسلامية» (49/373-377).

 

([191]) نشرت في جريدة «المسلمون» -أيضاً- عدد (557) (ص 7) بتاريخ 12/5/1416هـ.

 

([192]) أعني: حالهم كحال المشتغلين بالسياسة اليوم، من ركوب الموجات، والدخول في= =الدهاليز، والتخطيط للوصول إلى المصالح الشخصية لهم، وإن كانوا (أصوليين) في الهدف المعلن -وفي هذا شك عندما يطول الطريق- إلا أنهم (وصوليون) في كيفية تحصيله، ولا سيما عند (الأزمات) و(الورطات)! والشاهد قائم في كلام محمد سرور السابق، وغيره مما هو مشاهد ملموس كثير كثير.

 

([193]) «الصراط السوي»، عدد رمضان - سنة 1352هـ، (رقم 15).

 

([194]) أخرجه البخاري (2672)، ومسلم (174) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

 

([195]) «منهاج السنة النبوية» (4/540-542).

 

([196]) وهي بمثابة المقدمات الممهدات للكلام عن فتنة عظيمة جدّاً، فاقت التي قبلها ورققتها، وقد سمعتُ شيخنا الألباني -رحمه الله- يقول عن (فتنة الخليج الأولى) ما معناه: «ما مر بالمسلمين -على تاريخهم الطويل- فتنة أعظم منها». وما كانت هذه الفتنة -التي ستأتي - مع فتنة (الخليج الأولى) إلا وسائل لتحقيق (احتلال العراق) ولا قوة إلا بالله العظيم.

 

([197]) ليعلم أن المأمور به قد تجتمع جهات عديدة به، كالرحم الجار العالم، فهذا له ثلاثة حقوق، وبالعكس -كما قال الإمام أحمد عن لحم الخنزير الميت: «هو حرام من وجهين»، فإن غصبه أو سرقه من نصراني، صار حراماً من ثلاثة أوجه، فالتحريم يقوى ويضعف بحسب قوة المفاسد وضعفها، وبحسب تعدد أسبابه. قاله ابن القيم في «الفروسية» (ص 315 - بتحقيقي).

 

([198]) انظر مواقف تقشعر لها الأبدان، وتشيب لها الرؤوس -وقد شابت- في: «مدارك النظر» (ص 415 وما بعد).

 

([199]) أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109) وغيره.

 

([200]) لبعض المعاصرين دراسة منشورة مفردة عنها.

 

([201]) انظر: «تاريخ الطبري» (9/135-139، 190 - ط. المعارف)، «طبقات الحنابلة» (1/80-82)، «طبقات الشافعية الكبرى» (2/51)، «تاريخ بغداد» (5/173-176)، «سير أعلام النبلاء» (11/166)، «البداية والنهاية» (10/303-307).

 

([202]) قد يكون (خروج) دون اعتقادٍ من جميع الوجوه لمذهب (الخوارج)، وسيأتي مصرحاً بهذا في كلام ابن تيمية.

 

([203]) أكّد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا المعنى في كثير من كتبه، وفي غير موطن من «المنهاج»؛ أبرزها ما فيه (3/374)، قال:

 

«وهذا دأب الرافضة دائماً؛ يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين، في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك».

 

وقال عنهم في (3/377):

 

«ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق، فقاتلوا المسلمين، وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضةُ معاونةً لهم على قتال المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي، هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة، كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال= =المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام، كانت الرافضة من أعظم أعوانهم».

 

وقال بعد ذلك مباشرة كلاماً مهماً غاية، يستحق أنْ يُعتنى به، وأنْ يُنشر في المجالس والصحف السيّارة:

 

«وكذلك إذا صار لليهود دولةٌ بالعراق وغيره، تكون الرافضة من أعظم أعوانهم؛ فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم». انتهى.

 

قلت: قاله بناءً على ما في نبوءاتهم وكتبهم، من أنّ دولتهم من (الفرات) إلى (النيل)، وهم جادّون في السعي لتحصيل ذلك. نشرت جريدة «المسلمون»: السنة الثالثة عشرة، العدد (468): الجمعة 29/صفر/1418هـ - 4/يوليو/1997م، تحت عنوان: (طقوس يهودية على نهر الفرات)، تحته ما نصه:

 

«كشف تقرير مثير ومرفق بالصور الفوتوغرافية نشرته صحيفة «هاآرتس» الصهيونية في ملحقها الأسبوعي، عن قيام جماعة يهودية متطرفة تدعى (حباد) بإحياء طقوس يهودية قديمة على ضفاف نهر الفرات، في منطقة تقع بالقرب من الحدود التركية السورية؛ وذلك في نطاق إيمان هذه المجموعة -التي تلقى الدعم الكامل من حكومة (نتنياهو)- بما وصفته بـ«الحدود التوراتية لأرض إسرائيل الكبرى»، التي تمتد من الفرات إلى النيل.

 

وأوضح التقرير أن مجموعة من أنصار هذه الحركة اليهودية العنصرية المتطرفة، منهم طيارون وضباط في احتياط الجيش الصهيوني، توجهوا مؤخراً في رحلة خاصة إلى ضفاف نهر الفرات عن طريق تركيا، حيث وصلت الجماعة بطائرة استقلوها من مطار (اللد) في فلسطين المحتلة، إلى قرية نائية شرقي تركيا (ميران) تبعد حوالي 20كم عن الحدود التركية مع سوريا.

 

وأضاف أن المجموعة التي كانت بقيادة الطيار الاحتياط (غيدي شارون) 46 عاماً نزلوا هناك مزودين ببوق النفخ الذي يستخدم حسب طقوس اليهود في الإيذان ببدء طقوسهم اليهودية، حيث قام أعضاء الجماعة بإحياء طقوس يهودية قديمة أعادوا في نطاقها طباعة 240 نسخة من توراة قديمة على ضفة نهر الفرات بوصفه الحدود الشمالية (لأرض إسرائيل)، وذلك وفق الحدود التي رسمتها التوراة الموضوعة لما يسمى بـ(أرض إسرائيل)».

 

والعجب اليوم ممن يدعو إلى التقارب مع الرافضة! وقد قرأت مقالة في بعض صحفنا الأردنية بعنوان (للفتنة مئة رأس)، كتبها بعضهم بعد موت الشيعي (باقر الحكيم) بانفجار النجف، وقرر فيه: أن مثل كلام ابن تيمية هذا يغذي الفتنة!! قلت: في هذا تعدٍّ على استقراء الأحداث التي وقعت في التاريخ ... وعلى هذه القواعد التي قعّدها العلماء الربانيون، ولو أننا تدبرنا بعمق الآثار وقواعد العلماء لأرحنا واسترحنا، وفقهنا كيف نتعامل مع (الفتنة) بلا (فتنة)!

 

([204]) وتعلُّقُ بعض المتأخرين بما حصل مع هؤلاء إنما هو من باب الهوى فحسب! ولشيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (8/522-523) تفريق مهمٌّ بين الجمل وصفين، وأنه ليس من القتال المأمور به، بل تَرْكه أفضل من الدخول فيه، بخلاف قتال الحرورية والخوارج، قال: «فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي ×، وباتفاق الصحابة، وعلماء السنة».

 

([205]) «منهاج السنة النبوية» (4/536-539).

 

([206]) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/307-308)، وعبدالرزاق في «المصنف» (18663)، والحميدي في «المسند» (908)، والطيالسي في «المسند» (رقم 1136)، وأحمد في «المسند» (5/253، 256)، والترمذي في «الجامع» (رقم 3000)، وابن ماجه في «السنن» (رقم 176)، والطبراني في «الكبير» (15/327-328، 328 رقم 8033-5036، 8049، 8056)، و«الأوسط»، و«الصغير» (2/117)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6/338-339 رقم 2519)، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 68)، وابن نصر في «السنة» (ص 16-17)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1429 رقم 8150)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/188)، واللالكائي في «السنة» (151، 152)، والآجري في «الشريعة» (ص 35، 36)، وابن الجوزي في «الواهيات» (1/163 رقم 262)، وابن المنذر في «التفسير» -كما في «الدر المنثور» (2/291)- من طرق عن أبي غالب، به. بألفاظ متقاربة، وبعضهم اختصره.

 

قال الترمذي: «هذا حديث حسن».

 

قلت: أبو غالب حزوّر البصري، صاحب أبي أمامة، ضعيف، يعتبر به في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه:

 

* صفوان بن سُلَيم -وهو ثقة-، عند أحمد في «المسند» (5/269)، وابنه عبدالله في «السنة» (رقم 1546)؛ وسنده صحيح.

 

* سيار الأموي -وثقه ابن حبان (4/335) -في التابعين- وأعاده! (6/423)-في أتباع التابعين-، وفي «التقريب»: صدوق، ومن منهجه في مثله قوله: مقبول- عند أحمد في «المسند» (5/250) -أيضاً-. ولقوله: «شر قتلى...»، «كلاب أهل النار» شاهد من حديث عبدالله بن أبي أوفى. انظر: «مسند عبدالله بن أبي أوفى» لابن صاعد (رقم 39، 40)، «الحنائيات» (225) وتعليقنا عليه، ففيه بقية التخريج.

 

([207]) «الصحيحة» (549). (منه)

 

([208]) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-.

 

([209]) فالذي ذكره من ضرورة (الطاعة والنصح) و(الصبر على الاستئثار) حتى تصلح الأحوال من سنن الله الثابتة في الأمم، وهي لا تتغير ولا تتبدل.

 

([210]) «منهاج السنة النبويه» (4/542-544).

 

([211]) «منهاج السنة النبوية» (4/545).

 

([212]) أخرجه أحمد (4/105-106، 109 و 5/33، 288) -ومن طريقه ابن الأثير في «أسد الغابة» (3/220)-، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/89 - ط. الغرباء) من حديث عبدالله بن حوالة، وإسناده حسن.

 

وفي الباب عن عقبة بن عامر، أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/رقم 794)، وفيه إبراهيم ابن يزيد المصري، قال الهيثمي في «المجمع» (7/334-335): «لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات».

 

وانظر عن فتنة مقتل عثمان: (ص 142، 166)، وكتاب «استشهاد عثمان ووقعة الجمل» للدكتور خالد الغيث، و«فتنة مقتل عثمان» للدكتور محمد الغبَّان.

 

([213]) جزء من حديث سبق تخريجه.

 

([214]) أخرجه البخاري (2651، 3650، 6428، 6695)، ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين.

 

([215]) الحديث لم يثبت، انظر «السلسلة الضعيفة» (رقم 320).

 

([216]) أخرجه تمام في «فوائده» (3/109-110 رقم 912 - ترتيبه «الروض البسام»)، والطبراني في «الأوسط» (9/9 رقم 8962 - الحرمين) -وعنه أبو نعيم في «الحلية» (2/389)، وابن حبان في «المجروحين» (3/76)، وابن طولون في «الأربعين في فضل الرحمة والراحمين» (55-56 رقم 21) من طريق وهب بن راشد، عن مالك بن دينار، عن خلاس بن عمرو، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ×: قال الله -تعالى- به.

 

وإسناده ضعيف جدّاً، فيه وهب بن راشد.

 

قال الطبراني: «لم يروه عن مالك بن دينار إلا وهب».

 

وقال أبو نعيم: «غريب من حديث مالك مرفوعاً، تفرد به علي بن معبد عن وهب بن راشد».  =

 

=        وقال السخاوي في «تخريج أحاديث العادلين» (ص 158 - ط. الثانية - بتحقيقي): «ووهب ضعيف جدّاً، ولا يصح هذا الحديث مرفوعاً».

 

قلت: وهب غمز فيه غير واحد، قال ابن عدي: «ليس حديثه بالمستقيم، أحاديثه كلها فيها نظر»، وقال الدارقطني: «متروك»، وقال ابن حبان: «لا يحل الاحتجاج به بحال». انظر: «ميزان الاعتدال» (4/351-352)، و«المجروحين» (3/75)، و«الكامل في الضعفاء» (7/2529)، و«الضعفاء الكبير» (4/322)، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» (5/249) وقال عنه: «متروك»، وتحرف فيه (وهب) إلى (إبراهيم)؛ فليصحح.

 

قلت: والراوي له عنه هو المقدام بن داود، وهو مثل وهب في الضعف، وخلاس لم يسمع من أبي الدرداء.

 

ونقل ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/768) عن الدارقطني قوله: «وهب بن راشد ضعيف جدّاً، متروك الحديث، ولا يصح هذا الحديث مرفوعاً»، قال: «فرواه جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، أنه قرأ في الكتب هذا الكلام، وهو أشبه بالصواب»، ونقله السخاوي في «تخريج أحاديث العادلين» (ص 158 - بتحقيقي).

 

قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (رقم 30)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/172) عن صالح المرّي، وأبو نعيم (2/378) عن موسى بن خلف؛ كلاهما عن مالك بن دينار، قال: «قرأتُ في بعض الحكمة: إني أنا الله...» (وساقه).

 

وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/187، 203) بسند صحيح إلى مالك بن مغول، قال: «كان في زبور داود: إني أنا الله لا إله إلا أنا...» (وساق نحوه)، فهذا هو الصحيح في هذا الباب، والله أعلم.

 

([217]) «منهاج السنة النبوية» (4/545-547).

 

([218]) ورد هذا في الحديث الذي قدمناه (ص 53-58).

 

([219]) سيأتي بيان ذلك عنه (ص 166).

 

([220]) أخرجه السراج -وعلقه عنه الخطابي في «الغريب» (2/203)- بسنده إلى علي: أن قوماً أتوه، فاستأمروه في قتل عثمان، فنهاهم، وقال: «إن تفعلوا، فبيضاً فلتُفْرخُنّه».

 

قال الخطابي: «هذا مَثَل، يقول: إن قتلتموه نَتجْتم فتنةً ولوداً، وشبَّهها بالبيض الذي يخرجُ منه الفراخ، قال الأعشى [في «ديوانه» (307)]:

 

فتُفقأ وتبقى بيضةٌ لا أخالها»

 

 

 

وفي كل عام بيضةٌ تفْقَؤونها

 

وأخرج ابن سعد (3/65) إلى عمرو بن الأصم، قال: كنت فيمن أُرسلوا من جيش ذي خُشُب، قال: قالوا لنا:  سَلُوا أصحاب رسول الله ×، واجعلوا آخر من تسألون عليّاً، أنَقْدَم؟ قال: فسألناهم، فقال: اقذفوا، إلا عليّاً، قال: لا آمرُكم، فإن أبيتم فبيض، فليُفْرخ».

 

([221]) هنالك أدلة عديدة على هذا، انظر منها -على سبيل المثال- ما سيأتي (ص 538).

 

([222]) قلت: ويؤيده الحديث الذي فيه: «وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلِكَتي. ثم تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه». وسيأتي بتمامه (ص 537-538).

 

وأثر الحسن: أخرجه الدينوري في «المجالسة» (5/129-130 رقم 1950) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/175)، وابن العديم في «بغية الطلب» (5/2059).

 

([223]) أخرجه الدارمي في «السنن» (1/65)، والطبراني في «الكبير» (9/109 رقم 8551)، وابن وضاح في «البدع» (رقم 78، 248)، وابن أبي زمنين في «السنة» (رقم 10)، والداني في «الفتن» (رقم 210، 211)، والفسوي في «المعرفة» (3/393)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/182)، وابن بطة في «الإبانة» (1/ق 26/ب)، والبيهقي في «المدخل» (رقم 205)، وابن عبدالبر في «الجامع» (رقم 2007، 2008، 2009، 2010)، والهروي في «ذم الكلام»= =(2/129 رقم 280) من طرق مدارها على مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود، به.

 

وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في «المجمع» (1/180): «وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط». ومع هذا؛ فقد جوّده ابن حجر في «فتح الباري» (13/20).

 

نعم؛ هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، وهي التي نقلناها عنه.

 

([224]) «فتح الباري» (133/21) مع حذف بعض العبارات وزيادة اليسير عليها.

 

([225]) «منهاج السنة النبوية» (4/343).

 

([226]) بسبب استحلالهم الخروج والسفك والقتل، والتخريب والدمار، وهذا من الفساد المشاهد الظاهر لكل أحد، ما أدري ما هي آراء هؤلاء، ولا سيما القادة والكبراء، بعد الفراغ من الفتن الدهماء، أيبقون على مواقفهم، أو يخفى عليهم سوء ما جنته أيديهم، أم أعمى الله أبصارهم لفرط أهوائهم، حتى خفي عليهم؟!!

 

([227]) كذا في «النهاية» (5/28).

 

([228]) سيأتيك وصف لفتن الغرب في أحاديث النبي ×. انظر: (ص 345 وما بعد).

 

([229]) كان سبب ذلك: أنّ كثيراً من هذا الشباب -ولاسيما المتهمين بغزوتي نيويورك وواشنطن!!- من بلاد التوحيد، فصارت التهمة متوجهة للسلفيين ولأهل السنة والجماعة!!

 

([230]) لا يبعد عندي أنها من (المهيجات) العراقية! الواردة في الأحاديث النبوية المتقدّمة، وعلى أية حال؛ فقد انكشفت، وكان على إثرها غزو العراق واحتلاله في أبشع وأشنع ما طرق السمع، ورأى النظر من (فتن) وسفك دماء، ودمار بلدان.

 

([231]) وقامت جهود في توضيح ذلك، من خلال البحوث والندوات، وجرى الحديث في وسائل الإعلام، وظهرت الحقيقة جلية في بيان حقيقة هؤلاء، وأنّ أعمالهم لا صلة لها بمنهج السلف في التغيير، وما زال الأمر بحاجة إلى المزيد والمزيد من البيان والتأكيد.

 

([232]) المذكورون في أثر حذيفة السابق.

 

([233]) المذكورون في أثر حذيفة السابق.

 

([234]) هو الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي -سدده الله، ووفَّقه لمرضاته، وحفظه-.

 

([235]) ظهرت عنهم دراسة بعنوان: «حركة الطالبان وحصان طروادة» لعدنان محمد عبدالرزاق، قبل الأحداث الجسام، وذلك سنة 1417هـ -1996م، توقع فيها ما حصل بعد،= =وانظر عنهم مقالاً بعنوان: (شهادة على تجربة طالبان في حوار مع فضيلة الشيخ رحمتي -نائب الشيخ جميل الرحمن-رحمه الله-)، المنشور في مجلة «البيان» (العدد 170، ص 86-95). علماً بأن أخانا الشيخ شمس الدين السلفي الأفغاني -رحمه الله- كان يطعن في عقيدتهم ومنهجهم! وهو أعلم بهم من غيره.

 

([236]) كانت هذه التفجيرات في كثير من بلاد المسلمين، حتى وصلت بلاد الحرمين الشريفين، بل كادت أنْ تصل مكة نفسها! وظهرت في أوقات مختلفة قبل أحداث أمريكا وبعدها، وابتدأت من انفجارات مدينة (الخبر)، التي استنكرتها هيئة كبار العلماء برئاسة العلامة الشيخ ابن باز -رحمه الله- في 2/4/1419هـ، وتلتها انفجارات مدينة الرياض -حرسها الله-، واستنكرتها الهيئة نفسها برئاسة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -حفظه الله- في 13/3/1424هـ، ومما جاء في آخر هذا البيان:

 

«ثم ليعلم الجميع، أنّ الأمة الإسلامية اليوم تعاني من تسلُّط الأعداء عليها من كل جانب، وهم يفرحون بالذرائع التي تسوِّغ لهم التسلُّط على أهل الإسلام و إذلالهم، واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم، وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغراً لهم، فقد أعان على انتقاص المسلمين، والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الجُرم».

 

وصدر -أيضاً- في 15/3/1424هـ بيان عن أكثر من أربعين عالماً وداعياً، أدانوا فيه هذا الفعل الشنيع، وعزوا أصحابه إلى «الأفكار المنحرفة التي تمهّد للعدوان على الدماء، والأموال، والأعراض، بالشُّبه، والتأويلات الباطلة».

 

وصدرت في الصحف آنذاك مقالات وبيانات تستنكر هذه الأعمال، وتعزوها إلى الغلو والانحراف العقدي والمنهجي. انظر -على سبيل المثال-: جريدة «المدينة»: الثلاثاء، العدد (12087)، السنة الواحدة والستون، 27/ذو الحجة/سنة 1416هـ، وصحيفة «الوطن» السعودية بتاريخ 16/ربيع الأول/سنة1424هـ، و«فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة» (ص 11-41، 133-142)، و«كيف نعالج واقعنا الأليم» (ص 135-143).

 

وكل ذلك يتفق مع ما قررناه من صلة هذه الأحداث بهذا الفكر الخارجي، وصرح بذلك خطباء الحرمين الشريفين آنذاك، -زادهم الله توفيقاً وحفظاً-. وانظر: (فاتحة القول) من مجلتنا «الأصالة» العدد (43)، بعنوان: (ماذا ينقمون من بلاد الحرمين).

 

ومما ينبغي أن يشار إليه: أنّ هذه التفجيرات ليست خاصة ببلاد المملكة العربية السعودية،= =وإنما ظهرت -أيضاً- في كثير من البلدان؛ مثل: المغرب، والأردن، واليمن، ومصر، وأندونيسيا!

 

وأخيراً... لا بد في هذ المقام من همسة في آذان القائمين بهذه التفجيرات، بل همسات، تنفذ من الأذن فتصل إلى القلب، فتخالطه وتلامس شغافه، وتبلِّل جفافه:

 

يا هؤلاء!

 

أتعرفون أسلافكم في أعمالكم، أتعرفون من ذهب ضحيتها، أتعرفون الهيئة التي تقومون فيها؟

 

ألم يذهب الضحية في غالب هذه التفجيرات إخواننا، وهم ينطقون بالشهادتين، ويصلُّون صلاتنا، ويأكلون ذبيحتنا، ولهم ما لنا، وعليهم ما علينا؟

 

ألم يكن بعضكم -من قريب- مثل هؤلاء؟

 

وأسألكم -بالله عليكم-: ما الفارق بينكم وبينهم؟! لم لا تعودون إلى الوراء قليلاً، وتذكرون أنّ الذي فتح عيونكم على حقيقة الإسلام أخذ بأيديكم برفق ولين؟!

 

والله! لقد احترتُ فيما أكتب إليكم، ولكن بعد تفكر وتروٍّ سأذكر لكم أسطورة، فتأمّلوها لعلها تنفعكم، فأقول لكم:

 

لعلكم سمعتم أو قرأتم القصة الرمزية (الأسطورة)، التي تتحدث عن المنافسة بين الشمس والريح، في مقدرة كل منهما على إجبار بدوي في الصحراء على خلع ردائه، فقالت الريح: أنا أقدر منك، وقالت الشمس: بل أنا أقدر منك، فدخلتا في تنافس، فأعطت الشمس الفرصة للريح، فغابت عن الكون، واختفت خلف السحب، وبدأت الريح تهب، وتزداد شدة وعنفاً، والبدوي متمسك بردائه، وكلما اشتدت؛ زاد تمسكه بردائه، وتلفلفه به، حتى عجزت الريح رغم عنفها وقوتها وأعاصيرها، فلما بان عجزها واستسلمت؛ سكنت وأعطت المجال للشمس، فأخذتْ تطلُّ بوجهها برفق من بين الغيوم، فدفىء الكون، ودخل الدفء (برفق) إلى جسد البدوي، وبدأت الشمس تزيد من حرارتها رويداً رويداً بتدرج (رفيق)، لم يعد البدوي يطيق رداءه، فخلعه وألقاه جانباً...

 

([237]) وكان كما توقع الشيخ -حفظه الله-: وراح الشبان والنساء والشيوخ والأطفال في حرب سعرها عليهم (الأمريكان) بسبب مَنْ تحدث عنهم.

 

([238]) «العدالة الاجتماعية» (183-184).

 

([239]) «في ظلال القرآن» (2/1057). وفي هذا الكلام تكفير واضح للأمة الإسلامية كلها، وحكم عليها بالردة، وأنهم أشد الكفار عذاباً؛ لأنهم ارتدوا بعد ما تبيّن لهم الهدى.

 

([240]) «في ظلال القرآن» (2/1125).

 

([241]) «في ظلال القرآن» (4/2122). وقد كتب هذا الكلام وهو يعلم جيداً بأن الدولة أسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- قد قامت على عقيدة التوحيد، وتطبيق الشريعة، لكن لا عجب أن يذهب سيد قطب إلى تكفيرها -أيضاً-؛ لأنها رفضت المنهج الاشتراكي الذي اعتنقه سيد قطب، وذهب بسببه إلى الطعن في أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين، ذي النُّورين: عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، واعتبر خلافته باطلة وفجوة في تاريخ الإسلام؛ كما في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»!

 

([242]) «في ظلال القرآن» (3/1735)، وراجع الهامش السابق.

 

([243]) «في ظلال القرآن» (4/2009).

 

([244]) الذين يسمِّيهم سيِّد: (رجال الدِّين)، ويريد بهم -كما يدلُّ عليه سياق كلامه-: الجنس، وليس النوع؛ فتنبه.

 

([245]) «معركة الإسلام والرأسمالية» (63).

 

([246]) «معركة الإسلام والرأسمالية» (84). وهكذا يغازل سيد قطب (رجال الفكر والفن) من كل كاتب أو أديب متحرر، أو فيلسوف مارق، أو رسام تلاحقه اللعنة، أو ممثل وممثلة، أو مطرب ومطربة، وغيرهم من المفسدين في الأرض، ويعدهم إن قامت دولته أن تكون لهم الصولة والجولة، ويكون مصير علماء الإسلام الذين ينبزهم برجال الدين؛ أن يجنَّدوا في عمل منتج، هم ومن ذكرهم من أحلاس المقاهي، والمواخير، والحانات، فـ: (رجال الدين) في نظره لا يقلون سوءاً وضرراً على المجتمع من أولئك السفهاء الساقطين، فكلُّهم سواء!!

 

وقد فطن العلامة محمود شاكر -رحمه الله- إلى أخطاء (سيد)، فرد عليه في مجموعة مقالات في عدة مجلات مصرية قديمة، وجمعتُ مقالاته في هذا الصدد بكتاب مفرد، يسر الله ظهوره ونشره بخير وعافية.

 

([247]) وكأنّ الالتزام بالإسلام متوقف على وجود الحكومة الإسلامية؛ وليس واجباً فرديّاً، ومسؤولية شخصية، يحاسب عليها الإنسان بين يدي الله -تعالى- وحده، إنّ مثل هذا النص قد يعيننا على فهم ما صدر من بعض أتباع هذا المنهج في بعض البلاد الإسلامية وغير الإسلامية؛ من استباحة الدماء، والأعراض، والأموال.

 

([248]) «في ظلال القرآن» (4/2010).

 

([249]) انظر -لزاماً- (فتاوى العلماء) حول هذا المصطلح وجعله من (أنواع التوحيد)! في جريدة «المسلمون»، العدد (639)، الجمعة 25/ذو الحجة/1417هـ.

 

([250]) من كلام أخينا الباحث عبد الحق التركماني في مقدمته لتحقيق كتاب ابن حزم «التلخيص لوجوه التخليص» (ص 30 وما بعد).

 

([251]) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (20/161): «فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك».

 

([252]) «مجموع الفتاوى» (4/255).

 

([253]) «مجموع الفتاوى» (19/89).

 

([254]) الواردة في الأحاديث المتقدمة.

 

([255]) «المصارعة» (ص 401-402). وانظر: «موقف المسلم من الفتن» (ص 162-163).

 

([256]) (الأقيال) جمع (قَيل)؛ وهو: الملك من ملوك حمير، يتقَيَّل مَنْ قبْلَه من ملوكهم؛ أي: يشبهه. و(الأنكال) جمع (نَكَل)؛ وهو: الرجل القوي المجرِّب الشجاع، وتحرف في مطبوع «المعرفة والتاريخ» إلى «الأنفال»!! فليصحح.

 

([257]) انظر: «مجمع الزوائد» (10/43، 44).

 

([258]) أخرجه الدينوري في «المجالسة» (2/164 رقم 286 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (ص 459 - ترجمة عثمان)- من طريق زيد بن وهب، عن حذيفة، به. وله تتمة استنكرها الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/769) من أجلها، وتعقبه الذهبي في «الميزان» (2/107) بقوله: «فهذا الذي استنكره الفسوي من حديثه ما سبق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا، لرددنا كثيراً من السنن الثابتة بالوهم الفاسد».

 

وأخرج البخاري (7060)، ومسلم (2885) بسنديهما إلى أسامة بن زيد، قال: أشرف النبي × على أُطُم من آطام المدينة، فقال: «هل ترون ما أرى؟» قالوا: لا. قال: «فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كموقع القطر».

 

قال ابن حجر في «الفتح» (13/16) في شرحه: «شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان وهلم جراً، ولا سيما يوم الحرة».

 

وقال -أيضاً-: «إنما اختصت المدينة بذلك؛ لأن قتل عثمان -رضي الله عنه- كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان، كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه، ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق، وهي من جهة المشرق... وحسن التشبيه بالمطر لإرادة التعميم؛ لأنه إذا وقع في أرض معينة عمها ولو في بعض جهاتها».                                   =

 

=        قال أبو عبيدة: كان لفتنة قتل عثمان أثراً بارزاً في ظهور كثير من الفرق، انظر تفصيل ذلك في: «العواصم والقواصم» لابن العربي (ص 173)، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (13/32)، «فتح الباري» (12/283-284)، «دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين الخوارج والشيعة» (ص 45-61)، و«الخوارج دراسة ونقد لمذهبهم» (ص 48-67)، وما سبق (ص 138) من كلام ابن تيمية.

 

([259]) «التمهيد» (16/229 - ط. الفاروق).

 

([260]) اعتنى العلماء -قديماً وحديثاً في (خطط مدينة بغداد) وتأسيسها، وتعرضوا فيها إلى حدود (العراق)، وتجد ذلك في كتب البلدان -أيضاً-، فقال البكري -مثلاً- في «معجم ما استعجم» (3/929) ما نصه:

 

«العِراق: هو ما بين هِيتَ إلى السند والصين، إلى الرَّي وخُراسان، إلى الديلم والجبال، وأصبهان سُرَّةُ العراق، وتُسمّى عراقاً؛ لأنه على شاطئ دجلة والفرات عِدَاء تباعاً حتى يتصل بالبحر. والعراق في كلام العرب: الشاطئ على طوله، والماء شبيه بعراق القِرْبَة الذي يُثنى منه، فتُخْرَز به. وقال آخرون: العراق: فِناء الدار، فهو متوسط بين الدار والطريق. وكذلك العراق متوسط بين الرِّيف والبَرِّية، وقيل: هو من قولهم لخَرْزِ المزادة: عِرَاق؛ لأنه متوسّط من جانبَيْها».

 

وانظر: (العراق) في «معجم البلدان» (4/93-95)، كتاب «الجغرافيا» (ص 156) لابن سعيد المغربي، «مراصد الاطلاع» (2/926-927).

 

([261]) مما يؤكد إعمال العموم: ما يروونه: «أناخ بكم الشُّرُف الجُونُ».

 

و«الشُّرُف» -مضمومة الشين والراء- جمع (شارف)، والجيم من (الجُون) مضمومة       -أيضاً-؛ يريد: الإبل المسَانَّ. والجُون: السُّود، شَبَّه بها الفتن. وقد يروى (الشُّرُق الجون)          -بالقاف-؛ أي: الجائية من قبل المشرق. قاله الخطابي في «غريب الحديث» (3/243).

 

وزاد العسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/324): «أراد × فتنة أو حرباً». ونقل عن ابن قتيبة، قال: «أمور تأتي من قبل المشرق». وانظر: «غريب الحديث» (2/90) لأبي عبيد،= =«النهاية» (2/463) لابن الأثير، و«تاج العروس» (6/153).

 

والحديث أخرجه نعيم في «الفتن» (رقم 6)، والطبراني والعسكري في «الأمثال» -كما في «كنز العمال» (11/245 و14/228)- وسنده ضعيف، وفيه مجاهيل، ولفظه: «إذا تقارب الزمان، أناخ بكم الشُّرُف الجُون، فتن كقطع الليل المظلم»، وفيه رشدين بن سعد، وشيخه ابن لهيعة، والراوي عن أبي هريرة: أبو عثمان الأصبحي مجهول.

 

وانظر: «الأحاديث المسندة المرفوعة من كتاب الفتن» (ص 78).

 

([262]) دلت أحاديث وآثار كثيرة صحيحة على خروج الدجال من (خُراسان) و(أصبهان)، وهبوطه (خوز) و(كرمان) -وهي جميعاً الآن في (إيران)، وسيأتي التعريف بها-، وينزل قرية (كوثا) -وهي في نحو منتصف الطريق بين (المحاويل) و(الصويرة)، وهي على (26) كيلو متراً من الأولى، وتعرف اليوم بـ(تل إبراهيم) و(تل جبل إبراهيم)؛ لوجود مرقد عليه قُبة في أعلى التل ينسب إلى إبراهيم.

 

انظر: «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 94-95).

 

وسمي بـ(خلة) بين العراق والشام، ويدخل الأردن، ويبدأ هلاكه بـ(عقبة أفيق) وهي قرية من حوران في طريق (الغور)، والعامة تقول: (فيق)، تنزل هذه العقبة إلى (الغور) وهو الأردن، وهي عقبة طويلة نحو ميلين. أفاده ياقوت في «معجم البلدان» (1/233). ثم يتحول إلى فلسطين، ويتم هلاكه في مدينة (اللد)، ويسبقها -والله أعلم- إتيانه الحجاز، ونزوله بسبخة في المدينة -هي (سبخة الجرف) غربي جبل أحد-، وتفصيل ذلك حديثيّاً يطول، وأكتفي بالإحالة على المصادر الآتية: «مسند أحمد» (1/4، 7 و5/221)، «جامع الترمذي» (2237)، «سنن ابن ماجه» (4072)، «المنتخب من مسند عبد بن حميد» (رقم 4)، «مصنف ابن أبي شيبة» (15/137، 145-162 - الهندية، 85/654 - دار الفكر)، «مصنف عبدالرزاق (11/395-396)، و«مسند أبي بكر الصديق» للمروزي (99)، «مسند أبي يعلى» (1/39-40)، «الفتن» لحنبل بن إسحاق (رقم 22، 23، 24، 27، 29، 36، 49، 50)، «الفتن» للداني (629)، «الفتن» لنعيم بن حماد (2/530-532 - ط. الزهيري، ص 394-396 - ط. التوفيقية) (باب من أين مخرج الدجال)،= =وانظر منه -أيضاً-: (باب المعقل من الدجال)، «تاريخ بغداد» (13/111 و14/68)، «المتفق والمفترق» للخطيب (3/1428)، «غريب الحديث» للحربي (3/1127)، «المعجم الكبير» (7/98)، «مسند الروياني» (1/439)، «الكامل» لابن عدي (2/846)، «الكنى» للدولابي (1/98)، «أخبار الدجال» لعبدالغني المقدسي (ص 73).

 

وانظر -أيضاً-: «مجمع الزوائد» (7/338، 340-350)، «كنز العمال» (14/311-312)، و«الفتن والملاحم» (1/72 وما بعد) لابن كثير، «جامع الأصول» (10/346)، و«إتحاف الخيرة المهرة» (10/292-294) (باب من أين يخرج الدجال وما جاء في نزوله (خوز) و(كرمان))، «قصة المسيح الدجال» (95، 144).

 

بقي بعد هذا: التنبيه على أن سعيد بن المسيب لم يدرك أبا بكر، وأن في بعض هذه المواطن ذكراً لـ(العراق) مقروناً بـ(الدجال)، وليس من همي تتبع ذلك على وجه فيه تفصيل، وتكفي هذه الإشارة. وانظر: الأثر اللاحق، والله الموفق.

 

وانظر في (العراق) و(المهدي): «مسند أبي يعلى» (6940)، «إتحاف الخيرة المهرة» (10/283-284 رقم 9973).

 

وورد في ذلك آثار عديدة -أيضاً-، منها ما أخرجه مسدد -كما في «إتحاف الخيرة» (10/209 رقم 9835)- عن عبدالله الملطي: «شاطئ الفرات طريق بقية المؤمنين هراباً من الدجال».

 

([263]) عقبة أفيق-بفتح أوله وكسر ثانيه-، أخرج أحمد (5/221)، وابن أبي شيبة (15/117)، والحربي في «غريبه» (3/1127)، والروياني (1/439)، وحنبل بن إسحاق في «الفتن» (رقم 27)، والطبراني في «الكبير» (7/98 رقم 6445)، وأبو القاسم البغوي في= =«معجم الصحابة» (3/254 رقم 1193)، والدولابي في «الكنى» (1/98)، وابن عدي (2/846)، وابن عساكر (2/229)، وعبدالغني المقدسي في «أخبار الدجال» (ص 73) بسند حسن من حديث سفينة، ضمن حديث أوله: «ألا إنه لم يأت نبي قبلي إلا حذر أمته الدجال...»، وفيه عن الدجال: «ثم يسير حتى يأتي الشام، فيهلكه الله عند عقبة أفيق». وإسناده لا بأس به. قاله ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/97)، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/340): «رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر». وانظر: «إتحاف المهرة» (5/547 رقم 5910)، «كنز العمال» (14/311-312) وعزاه للطيالسي.

 

([264]) ترجمته مطولة في «تاريخ دمشق» (62/303-313).

 

([265]) انظر: «معجم البلدان» (3/260)، «معجم ما استعجم» (2/758).

 

([266]) في بعض النقولات الاقتصار على بيان أن (العراق) هي المعنية بالمحلة والجهة المذكورة في الحديث، وهو المطلوب من هذا الاستطراد، والله الموفق.

 

([267]) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/182 - ط. دار الفكر)، والدينوري في «المجالسة» (4/69-70 رقم 1238 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150)- عن أبي خالد، عن يحيى بن سعيد، عن عبدالله بن هبيرة، به.

 

وأخرجه أبو القاسم البغوي -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150)-: نا داود بن عمرو، نا أبو شهاب الحناط، عن يحيى بن سعيد، به مطولاً.

 

وأخرجه عبدالله بن أحمد في «زوائد الزهد» (2/90 - ط. دار النهضة) -وعنه وكيع في «أخبار القضاة» (3/200)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/205)-: حدثني مصعب بن عبدالله، حدثني مالك بن أنس، أن أبا الدرداء كتب... وذكره مطولاً.

 

وهذا مرسل، فيه عبدالله بن هبيرة ولد سنة الجماعة (صلح الحسن ومعاوية سنة إحدى وأربعين)، ومات سنة ست وعشرين ومئة؛ فأنى له شهود مثل هذا الخبر؟ انظر: «تهذيب الكمال» (16/243-244).

 

([268]) تراها مجموعة في فهرس خاص في (آخر الكتاب) -إن شاء الله تعالى-.

 

([269]) نقله محمد بن عبدالهادي في كتابه «فضائل الشام» (ص 27/رقم 16) وعزاه للطبراني، ووقع الحديث في مطبوعه خطأً عن (عمران)! فليصحح.

 

([270]) بساق: عقبة بين (التيه) و(إيلة). انظر: «معجم البلدان» (1/413).

 

([271]) عبقريه، من (العبقر)؛ وهو: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من جودة صنعته وقوته، فقال: عبقريّ، وهو واحد وجمع، والأنثى: عبقرية، يقال: ثياب عبقرية.

 

([272]) ذكرها ابن الجوزي، وفاته الأخيرة منها، وهي العلة الحقيقية لهذا الأثر.

 

([273]) «شروط الأئمة الخمسة» (ص 60)، وانظر: «شرح علل الترمذي» (2/613).

 

([274]) ضيعة الرجل: ما يكون منها معاشه؛ كالصنعة والتجارة والزراعة. «النهاية» (3/108)، والمراد بها هنا: البستان.

 

([275]) عن «الجرح والتعديل» (7/43).

 

([276]) عن «الجرح والتعديل» (7/43).

 

([277]) «التاريخ» برواية الدوري (3/116).

 

([278]) «السير» (6/301).

 

([279]) «تقريب التهذيب» (ص 396/رقم 4665).

 

([280]) «مرويات الإمام الزهري المعلة في كتاب «العلل» للدارقطني» (1/185).

 

([281]) انظر التفصيل في: «تهذيب الكمال» (14/145)، «إكمال تهذيب الكمال» (7/178).

 

([282]) ذكر السيوطي في «اللآلئ» (2/466-467) شاهداً آخر للحديث عن ابن عباس رفعه: «مكة آية الشرف، والمدينة معدن الدين، والكوفة فسطاط الإسلام، والبصرة فخر العابدين، والشام معدن الإسلام، ومصر عش إبليس وكهفه ومستقره، ...» وعزاه لابن عساكر فقط.

 

قال أبو عبيدة: أخرجه أبو الحسن الرّبعي في «فضائل الشام ودمشق» (رقم 24) -ومن= =طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/294-295)-، قال شيخنا الألباني في «تخريج أحاديث فضائل الشام»: «حديث منكر، تفرد بروايته المصنف عن شيخه أبي الحسن علي [بن الحسن] بن القاسم الطرسوسي، وقد ترجمه الخطيب في «تاريخه» (11/377)، وكذا ابن عساكر، ولم يذكرا فيه توثيقاً، فهو مجهول الحال، وكذا شيخه أبو علي الحسن بن عبدالله بن محمد الأزهري، فإني لم أجد له ترجمة».

 

قلت: الذي ترجم له الخطيب طُوسي وليس بطرسوسي، وهو متقدم على هذا الراوي الذي ترجمه الذهبي في «الميزان» (3/122)، وقال عنه: «صوفي، وضع حكاية عن الإمام أحمد في تحسين أحوال الصوفية».

 

قلت: انظرها في: «اللسان» (4/220).

 

فالحديث آفته الطرسوسي هذا، فإنه حدث بالأباطيل، وهذا منها.

 

وروي عن ابن عباس قوله، أخرجه ابن المرجى في «فضائل بيت المقدس» (ص 453-454) وسنده ضعيف جدّاً.

 

([283]) انظر ترجمته في: «التاريخ الكبير» (2/12)، و«توضيح المشتبه» (1/213-214).

 

([284]) «فضائل الشام» (ص 60).

 

([285]) أخرجه ابن عساكر من طرق (1/120-121، 121، 121-122، 159)، وفي جلها ثناء على (الشام)، وفصلت في تخريج ذلك في تعليقي على «الحنائيات»، يسر الله نشره.

 

وفي بعضها ذكر للعراق؛ كقوله (1/121): «أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من العراق؛ فإنها أرض المكر وأرض السحر، وبها تسعة أعشار الشر، وبها كل داء عضال، وبها كل شيطان مارد».

 

وأخرجه -أيضاً- ابن المرجى في «فضائل بيت المقدس» (ص 64-65، 442-443).

 

([286]) ورد هذا في أثر، سبق تخريجه.

 

([287]) «الاستذكار» (27/248-249).

 

([288]) كما في الاقتتال الواقع آخر الزمان عند انحسار الفرات عن كنز من ذهب، والظاهر أن ذلك يكون في العراق ويحتمل أن يكون في سورية! وفي الأحاديث والآثار ما يشير إلى هذا وذاك، وسيأتيك قسم منها في محله -إن شاء الله تعالى- (وانظر: ص 535).

 

([289]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/34)، ونحوه في «الفتح» (6/406) وغيره، كما تقدم.

 

([290]) «موقف المسلم من الفتن» (167)، ونحوه في كتاب «العقلانيون ومشكلتهم مع أحاديث الفتن» (ص 33)، وزاد: «ومن المتوقع أن تثور الصين لتحرير بعض جزرها المتمردة عليها، كما صرح بذلك وزير الدفاع الأمريكي في كتاب «الحرب القادمة والصين» من قبل المشرق...»!!

 

وفي كتاب «استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري،= =دراسة نقدية» للدكتور خالد الغيث مباحث كثيرة عن (العراق) و(الفتنة)، وذلك فيما جرى بين الصحابة خاصة قبيل وعند استشهاد عثمان -رضي الله عنه-، ففيه (ص 43): (دور الكوفة في الفتنة)، و(ص 170): (موقف أهل البصرة من أصحاب الجمل).

 

([291]) فاته فيه جملة من (انفرادات مسلم)، وفيه -أيضاً- بعض ما أخرجه البخاري، وبيّنتُ ذلك في طبعة لي لـ«صحيح مسلم»، تظهر -إن شاء الله تعالى- قريباً عن مكتبة المعارف، الرياض.

 

([292]) وهو مشهور جدّاً عنه، رواه عنه جماعات لا فائدة من تعدادهم، إذ لم أقف على خلاف عليهم فيه؛ لا في السند، ولا في اللفظ؛ فالتطويل بالسرد لا طائل تحته، والمصادر مذكورة، فالراغب في ذلك يقف عليه دون أيّةِ معاناة!

 

([293]) وهنالك متابع آخر، يأتي -إن شاء الله تعالى- قريباً، وآخر لكنه خالف!

 

([294]) كذا هنا في الطبعتين، وفيهما -أنفسهما- في الموطن السابق -كما تقدم-: «الحسين ابن محمد المديني»!

 

([295]) كذا في طبعة دار الكتب العلمية، وهو الصواب. وفي طبعة دار الفكر: «عن عياش= =عن ابن عياش»!

 

([296]) كذا في طبعة دار الكتب العلمية، وهو الصواب. وفي طبعة دار الفكر: «المدي»!

 

([297]) كذا في طبعة دار الكتب العلمية، وهو الصواب. وفي طبعة دار الفكر: «مديهم»!

 

([298]) ذكر أبو الفضل بن طاهر في كتاب «المنثور»: «قال عبدالغني: إذا روى العبادلة: ابن وهب وابن المبارك والمقرئ عن ابن لهيعة؛ فهو سند صحيح». كذا في «إكمال تهذيب الكمال» (8/144).

 

([299]) طبع في ليدن قديماً، ثم ظهر في جلدين عن دار ابن الجوزي في نشرة غير جيدة، وفهارسها سقيمة، ولكتابه هذا ثلاث نسخ خطية في المكتبة العتيقة بالقيروان، لم ينشر الكتاب عنها بعد، وهي نفيسة جدّاً بخط عبدالله بن مسرور بن أبي هاشم التجيبي (ت 346هـ) تحوي على تفسير القرآن الكريم، وفيها أجزاء مبتورة أخرى تحتوي على أبواب أخرى من هذا «الجامع»؛ كلها برواية سحنون بن سعيد عن ابن وهب، يسّر الله لها من يخرجها إلى عالم النور في أقرب وقت، وعلى أحسن حال، وفي أجمل حُلّةٍ وأزهاها، وما ذلك على الله بعزيز.

 

([300]) هنالك جماعة من الرواة خلط الناس في أسمائهم، بل لعله لا وجود -ألبتة- لبعضهم، وإنما خُصُّوا وسُمُّوا بسبب سوء فهمٍ لبعض النصوص، أو عدم معرفة منهج أهل العلم في مؤلفاتهم، ونبه على هذا ابنُ حجر في «تعجيل المنفعة» في مواطن من كتابه، وتعقب الحسيني في «الإكمال» كثيراً، والهيثمي في «المجمع» قليلاً، وكشف عن أسماء ذكروها لا وجود لها عند التحقيق، فتنبهْ لهذا.

 

([301]) وكذا وقع في كثير من الكتب غير الحديثية؛ مثل: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/662 و29/206)، وكذلك وقع في «صحيح الجامع الصغير» (2/1125 رقم 6623) مع ملاحظة أنه ليس في أصل «الجامع الصغير»، وإنما هو في «زياداته» للنبهاني.

 

([302]) ذكر هذا كثيراً ابن عبدالبر، وعزاه مرة للطحاوي -وسيأتي كلامه تحت سياقنا كلام الجصاص- ومرة للعلماء، وردده غير واحد كما ستأتي النقولات بذلك.

 

([303]) «بذل المجهود في حل أبي داود» (13/374)، ونحوه في «تكملة فتح الملهم» (6/291)، وللبيهقي نحوه في كلمة له تأتي (ص 225-226).

 

([304]) انظر عنه لزاماً: ما سيأتي (ص 260)، والمذكور من قول أبي هريرة.

 

([305]) نحوه في «التذكرة» لتلميذه القرطبي المفسّر (3/213 - ط. دار ابن كثير).

 

([306]) كذلك أثبت في نسخة ابن خير الإشبيلي من «صحيح مسلم» (ق264)، وهي أصح النسخ على الإطلاق.

 

وهي من محفوظات مكتبة القرويين بفاس إلى الآن، قابلها ابن خير مراراً، وسمع فيها، وأسمع، بحيث يعدُّ أعظمَ أصلٍ موجود من «صحيح مسلم» في إفريقية، وهو بخط الشيخ الأديب الكاتب أبي القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر الأموي الإشبيلي المالكي، فرغ منه سنة (573هـ)، وعليه بخط ابن خير أنه عارضه بأصول ثلاثة معارضةً بنسخة الحافظ أبي علي الجياني -شيخ عياض- وغيره من الأعلام، وكتب بهامشه كثيراً من الطّرَرِ والفوائد والشرح لغريب ألفاظه، وشروح بعض معانيه، وفرغ من ذلك سنة (573هـ)، أفاده الكتاني في «فهرس الفهارس والأثبات»= =(1/385). وانظر: كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح» (1/377).

 

وكذا -أيضاً- في «إكمال المعلم» (8/426 - ط. الوفاء) للقاضي عياض، و«إكمال إكمال المعلم» للأبّي (7/242)، و«الأحكام السلطانية» (ص 166) لأبي يعلى الفراء، و«مختصر صحيح مسلم» للمنذري (ص 538 رقم 2033)، وصوبه (!!) شيخنا، فأثبته في المتن دونها، وعلق في الهامش: «الأصل «إذا منعت»، والتصويب من مسلم»!! و«القناعة فيما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة» (ص 106 - تحقيق الأخ الشيخ محمد العقيل).

 

([307]) هذا صدر البيت، وعجزه:

 

..............................................

 

 

 

بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ

 

والبيت في «ديوان امرئ القيس» (ص 15، أو ص 22 - شرح النحاس)، «موائد الحيس» (ص 136).

 

([308]) «فتح المنعم» (10/512).

 

([309]) تكملة «فتح الملهم» (6/292)، ورأيت محقق «طلبة الطلبة» (ص 96) الأستاذ خالد عبدالرحمن العك، ضبطه هكذا.

 

([310]) «فقه الملوك ومفتاح الرتاج» (1/68).

 

([311]) كذا عند جل شراح «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود». وقال أبو العباس العزفي في «إثبات ما ليس منه بدّ لمن أراد الوقوف على حقيقة الدينار والدرهم والصاع والمد» (ص 131): «القفيز: ثمانية مكاكيك، ذكر ذلك أبو عبيد الهروي والخطابي».

 

قلت: نعم، هو عند أبي عبيد في «الغريبين» (1/139)، والخطابي في «معالم السنن» (3/35). وانظر: «النهاية» (4/90).

 

ومن المفيد ذكره هنا: أن ابن الفقيه الهمداني ذكر في أول كتابه «بغداد مدينة السلام» (ص 27-28) عند ذكر تسمية (بغداد) (دار السلام)، قال: «وقد جرى لها هذا الاسم على ضرب الدنانير والدراهم، وما تقع به الأشرية في الكتب، ويتبايع به الناس، وما يقع فيها من غلات الطساسيج من الحنطة والشعير، وما يسمى به القفيز، فيقال: قفيز مدينة السلام».

 

([312]) انظر: «شذور العقود في ذكر النقود» للمقريزي (ص 170 - كلام المحقق د. محمد عبدالستار عثمان)، وفصل الدكتور سامح عبدالرحمن فهمي في كتابه «المكاييل في صدر الإسلام» (ص 38) في ذلك، فذكر أن الحجمين المذكورين عُرِفَا في القرن الرابع الهجري في العراق، قال: «أما القفيز الصغير فكانوا يتعاملون به في البصرة وواسط»، وقال عن (الكبير) -وهو المعنيّ هنا-: «يستعمل في بغداد والكوفة».

 

وانظر: «فقه الملوك» (1/268) و«المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري» (ص 66) لفالتر هنتس، ترجمه عن الألمانية د. كامل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية.

 

([313]) هو الدكتور محمد ضياءالدين الريس في كتابه «الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية» (ص 334-336).

 

([314]) صح عنه أنه وضع عند فتح العراق على كل جريب (والمراد به هنا مقياس للأرض) درهماً وقفيزاً. وانظر: «الاستخراج لأحكام الخراج» (ص 294 - تحقيق محمد الناصر) لابن رجب.

 

([315]) برود منسوبة إلى (معافر)؛ قبيلة باليمن.

 

([316]) انظر: «النقود العربية وعلم النميات» (52) للكرملي.

 

([317]) في «ديوانه» (ص 26) ضمن قصيدة طويلة يمدح فيها هرم بن ضمضم المري، وهي في أول «ديوانه» في ستين بيتاً، وبيتنا هذا هو الثالث والثلاثون، ومعناه: أي فتغل لكم غلة ليست كغلة قرى العراق من الحب الذي يكال بالقفيز، أو من ثمن الغلة، وهي الدراهم، وإنما تغل لكم غلة من الموت والهلاك.

 

([318]) انظر: «الميزان في الأقيسة والأوزان» لعلي باشا مبارك (ص 146-147)، و«المكاييل في صدر الإسلام» (38) لسامح فهمي.

 

وذهب فالتر هنتس في كتابه «المكاييل والأوزان الإسلامية» (ص 66) أن مقدار (القفيز) القديم يساوي (48.75) كغم، قال: «ونقدره في المعدل بـ(60) لتراً». فالأقوال متقاربة. وانظر: (الفصل الثالث: فصل الضرائب الزراعية) (ص 172 وما بعد) من كتاب «الزراعة في العراق خلال القرن الثالث».

 

([319]) انظر: «الخراج» (ص 31 - ط. بولاق)، و«الأحكام السلطانية» (ص 149-150) للماوردي، و«الخراج وصنعة الكتابة» لقدامة بن جعفر (المنزلة السابعة)، و«فتوح البلدان» (181) للبلاذري، و«تاريخ العرب» (8/426).

 

([320]) قال القاضي عياض في «مشارق الأنوار» (1/376) والشوكاني في «نيل الأوطار» (8/164): «المدي: مئة مد واثنان وتسعون مدّاً»، زاد القاضي: «بمدّ النبي ×»، وزاد الشوكاني: «وهو صاع أهل العراق».

 

([321]) انظر: «الخراج» لأبي يوسف (27)، «أحسن التقاسيم» (181) للمقدسي، «الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية» (338-340)، «إثبات ما ليس منه بد» (ص 132)، «المكاييل والأوزان الإسلامية» لفالتر هنتس (ص 61).

 

وفي «المصباح المنير» (130 مادة جرب): «جريب جمعها (أجربة) و(جُربات) -بالضم- ويختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم، كاختلافهم في مقدار الرطل والكيل والذراع».

 

([322]) انظر: «الأموال» له (ص 519).

 

([323]) وذهب إليه أبو محمد البغوي في «شرح السنة» (11/178)، فقال: «والمُدي: مكيال لأهل الشام يسع خمسة وأربعين رطلاً». وفي «طلبة الطلبة» (96) للنسفي: «المدي: مكيال يَأخُذُ جريباً».

 

([324]) انظر: «المكاييل في صدر الإسلام» (ص 35) لسامح فهمي، و«الخراج والنظم المالية» (350) للريس.

 

([325]) انظر: تعليق الشيخ محمد خليل هراس على «الأموال» لأبي عبيد (ص 91) وما سيأتي قريباً من كلام القرطبي في «تفسيره» (16/35).

 

([326]) انظر: «الفتوح» للبلاذري (ص 263)، «تحقيق تعريب الكلمة الأعجمية» لابن كمال باشا (ص 43-44 - ط. دار الجيل).

 

([327]) في قوله -تعالى-: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20]، ولم يرد في القرآن في غير هذا الموطن. انظر: «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن» (ص 257).

 

([328]) انظر: «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي» (2/123-125).

 

وورد كذلك في بعض الآثار، فأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/665 رقم 215 - ط. دار الفكر) بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: «كان ابن عمر يقول: «رحم الله ابن الزبير، أراد دنانير الشام، رحم الله مروان أراد دراهم العراق»».

 

([329]) انظر: «الأموال» (ص 525) لأبي عبيد، و«النقود والمكاييل والموازين» للمناوي (ص 35 وما بعد)، و«الأموال في دولة الخلافة» لعبد القديم زلوم (ص 200-204) -وفيه: «أما =الدراهم؛ فقد كانت مختلفة الأوزان... وكانت وزن المثقال من الذهب؛ أي: ثمانية دوانق، والدانق= =قيراطان ونصف، فتكون عشرين قيراطاً، وقد ضُرِبَتْ بهذا الوزن في العهد الساساني وعهد الخلفاء الراشدين والأمويين». قلت: وعليه؛ فهذا هو مقدارها في هذه (اللفظة) -وإن كان المراد به ما هو من جنسها على الجمع كما قدمناه-، و«فقه الملوك ومفتاح الرتاج» (1/206، 581)، و«مقدمة ابن خلدون» (ص 261-262 - ط. دار القلم، بيروت) -وفيه كلام بديع محرر على مقداره-، و«النقود واستبدال العملات» لعلي السالوس (ص 30-33)، و«شذور العقود في ذكر النقود» (ص 110 وما بعد - ط. محمد عبدالستار عثمان)، و«الميزان في الأقيسة والأوزان» (ص 55)  -وفيه ما يعادل الدراهم على اختلاف أوزانها وتعدد أنواعها بالغرام-، و«النقود» (ص 14-15) لحسين عبدالرحمن، و«موسوعة النقود العربية وعلم النميات، فجر السكة العربية» لعبدالرحمن فهمي (ص 29)، و«تاريخ الإسلام» (2/212).

 

([330]) «مقدمة ابن خلدون» (261)، وفيه تفصيل لتأريخ ضرب (الدنانير)، وما كتب عليها.

 

([331]) البيت في «ديوانه» (183 - تحقيق د. إحسان عباس).

 

([332]) انظر: «إثبات ما ليس منه بد» (ص 140)، «تخريج الدلالات السمعية» (608)،= =«التراتيب الإدارية» (1/416)، «موسوعة النقود العربية» (30) لعبدالرحمن فهمي، «الدينار الإسلامي» (11) لناصر النقشبندي، «النقود واستبدال العملات» لسالوس (ص 27-33)، «النقود العباسية» (100) ليوسف غنيمة، «الميزان في الأقيسة والأوزان» (48)، «المكاييل والأوزان الإسلامية» (9)، «تاريخ التمدن الإسلامي» (1/141)، ومقالة موسى المازندراني «تاريخ النقود الإسلامية» منشورة في مجلة «الاجتهاد» ببيروت، العددان (34، 35)، سنة1997م، (ص 446 وما بعد)، وما قدمناه في الإحالات على التعريف بـ(الدرهم).

 

([333]) (14/104).

 

([334]) انظر: «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/567)، «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28 - ط. قرطبة)، «معالم السنن» (4/248)، «الديباج على صحيح مسلم» (6/223)، «تكملة فتح الملهم» (6/292)، «السراج الوهاج» (11/367)، «النهاية في غريب الحديث» (1/37).

 

([335]) «بذل المجهود» (13/374) و«درجات مرقاة الصعود» (ص 128).

 

([336]) يُعتقَدُ أن القدماء المصريين هم الذين وضعوا هذا المكيال، انظر: «النقود العربية وعلم النميات» (ص 52-53) للكرملي.

 

([337]) هو: علي باشا مبارك في كتابه «الميزان في الأقيسة والأوزان» (ص 139 وما بعد).

 

([338]) انظر: «المكاييل في صدر الإسلام» (41-42)، و«رسالة في المقاييس» (ص 13) لمحمود الفلكي، و«الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية» (341-343)، و«المكاييل والأوزان».

 

وزاد المناوي قوله: «وذلك أربعة وعشرون صاعاً بصاع المصطفى ×». والظاهر أن هذا المعيار كان يختلف باختلاف الأزمنة، فذكر -مثلاً- المقدسي في «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» (ص 204 - ط. الثانية) أن الإردب يَسَعُ (15) منّاً من الحنطة؛ ولعله لهذا السبب قال النسفي في «طلبة الطلبة» (96): «الإرْدَب: مكيال ضخم».

 

([339]) من المعلوم أن (تبويبات صحيح مسلم) اختلفت باختلاف مذاهب وفهوم شُرّاحها، وأن مسلماً لم يصنع ذلك، ولذا كانت لنا هذه الجولة مع (شروحاته)، والله الموفق.

 

([340]) وهو قوله ×: «يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً».

 

([341]) سبق وصفها (ص 195).

 

([342]) لم يظهر له تبويب متميز في «فتح المنعم» للأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين حيث ساقه (10/496) مع أحاديث عديدة قبله وبعده تحت عنوان (باب اقتران الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، والجيش الذي يخسف به، وتواجه المسلمين بسيفيهما، وبعض أشراط الساعة).

 

([343]) معنى تَرجمَتِه: أي: تركُ قسمَتِها بين الغانِمين، وإبقائُها لمصالح المسلمين، وما ينوب الإمام من النوائب والحاجات، كذا في «بذل المجهود» (13/373).

 

([344]) انظر: «الأموال» لأبي عبيد (ص 92)، و«عون المعبود» (7/280-281، 284-285)، «بذل المجهود» (13/373)، و«نيل الأوطار» (8/161)، و«بستان الأخبار» (2/437).

 

([345]) نحوه في «التمهيد» (15/141) و«الاستذكار» (11/78)، كلاهما لابن عبدالبر، و«الجوهر النقي» لابن التركماني (5/28)؛ فانظرهما.

 

([346]) مع مراعاة تكرار المعاني بألفاظٍ متغايرة قد تخدم في تحديد المراد منه.

 

([347]) وكذا في كتابه «الإحكام»، وسيأتي نقل ما فيه (ص 594)، فانظره -غير مأمور-.

 

([348]) الكتاب مفقود، وحُفِظَ لنا باختصارِ أبي جعفر الطحاوي له، وهو مطبوع بتحقيق د. عبدالله نذير أحمد، عن دار البشائر، في أربعة مجلدات، بعنوان «مختصر اختلاف العلماء»، والنقل منه.

 

([349]) وهو قولهم: أن العشر والخراج لا يجتمعان. انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن (2/143 - ط. أبو الوفاء الأفغاني)، وسيأتي لهذه  الفائدة ذكر في (فصل: في الفوائد المستنبطة من الحديث) تحت (ثاني عشر).

 

([350]) في الأصل: «لاستمال»! وهو خطأ.

 

([351]) سيأتي توضيحه وبيان ما فيه. واستنبط بعض أهل العلم من لفظ الحديث جواز الجمع بدلالة اللازم، انظر: ما سنذكره تحت (الفوائد المستنبطة من الحديث).

 

([352]) يحتمل من خلال التأمل في السياق أن يكون المستدل هو (المختصِر: أبو جعفر الطحاوي)؛ لا الجصاص.

 

([353]) لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامٌ حول الاستدلال بالحديث على هذه المسألة، سيأتي.

 

([354]) وقع في مطبوع «أحكام القرآن»: «ومنعت الشام مدّاها»! وهو خطأ، فليصوب.

 

([355]) مع ملاحظة أنه أسنده في موطن من «التمهيد»، ولكنه لا تبويب له، فوضعنا كلامه هنا، فاقتضى التنويه.

 

([356]) وهو شرح ماتع جدّاً لـ«الموطأ»، وهو غير «الاستذكار»، وأقعد منه وأحسن، قال ابن حزم: «لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه».

 

وعلق الذهبي على مقولة العز بن عبدالسلام: «ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل «المحلى» لابن حزم، وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدين» بقوله: «قلتُ: لقد صدق الشيخ عزالدين، وثالثهما: «السنن الكبير» للبيهقي، ورابعها: «التمهيد» لابن عبدالبر، فمن حصَّل هذه الدواوين، وكان من أذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها؛ فهو العالم حقّاً».

 

انظر: «السير» (18/157-158، 193).

 

واسم الكتاب: «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد».

 

([357]) إلا أن لفظ الحديث فيه هنا: «منعت العراق دينارها ودرهمها، ومنعت الشام      إردبّها ومديها وقفيزها»، وهو غير محفوظ ألبتة بهذا اللفظ! وقال عقبه: «بمعنى ستمنع عند أهل العلم».

 

([358]) هو غير القرطبي المذكور في الشروحات الحديثية؛ كـ«فتح الباري»، وغيره، ذاك أبو العباس شيخ هذا.

 

([359]) هو جد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو والموفق بن قدامة (الشيخان) عند الحنابلة.

 

([360]) الحديث عند مسلم، وفي البخاري معناه، وفي هذا العزو تجوّز، وسبق التنبيه على ذلك، والله الموفق.

 

([361]) ستأتي عنهم نقولاتٌ كثيرة في مباحثِ الكتاب، وفي آخره، مما له تعلقٌ بفوائد الحديث.

 

([362]) انظر ما ورد عنه في هذا الباب: «الخراج» (43) لأبي يوسف، و(45-48) ليحيى بن آدم، «الموطأ» (1/281)، «مصنف عبدالرزاق» (6/10، 45 و10/33، 337)، «الرد على سير الأوزاعي» (92)، «الأموال» (1/216-217) لابن زنجويه، «السنن الكبرى» (9/134، 136، 140)، «مسند الفاروق» (2/498-510) لابن كثير، «الأحكام السلطانية» (ص 166) لأبي يعلى الفراء، و«الخراج وصناعة الكتابة» (ص 225، 362-363)، وقد خرجناه بتفصيل في تعليقنا على «الإنجاد في أحكام الجهاد» لابن المناصف، يسر الله نشره بمنّه وكرمه.

 

([363]) ونقل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/212) ما قاله عقبه فقط.

 

([364]) ذهب إلى نحوه أبو يعلى الفراء في «الأحكام السلطانية» (ص 166)، فإنه لما ذكر المقدار الذي أخذه عمر من أهل الجزية، قال: «ويشهد لهذا...» وأورد حديث أبي هريرة الذي معنا.

 

وذكر (ص 185) أنه «بلغ خراجه -أي: السواد- في أيامه -أي: عمر- مئة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم».

 

قلت: ولا غرابة في ذلك، فإن تربة العراق يزيد من خصوبتها طمي نهري دجلة والفرات، وكانت تدر في تلك الأزمان من محصول (الرز) و(الشعير) ما لا يقل عن (200) نوع. انظر للتفصيل: «ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها» (1/31).

 

بل وصلت في عهد عمر بن عبدالعزيز إلى أكثر من ذلك، وانظر عن مقدارها في سائر العصور في: «أطراف بغداد تاريخ الاستيطان في سهول ديالي» (ص 274-275).

 

([365]) ما بين المعقوفتين سقط من مطبوع «الدلائل»، وأثبته من «تاريخ دمشق» لابن عساكر (2/211).

 

([366]) لصديقنا يوسف العتيق -حفظه الله- «التعريف بما أُفرد من الأحاديث بالتصنيف»،= =طبعت (المجموعة الأولى) منه.

 

([367]) ومثله ما في «منية المنعم» (4/351): «والمراد بمنع الدرهم والقفيز: منع خيرات البلاد من الزكاة والعشر والجزية والخراج».

 

([368]) انظر: «معجم مقاييس اللغة» (5/278)، «القاموس المحيط» (ص 988 - ط. مؤسسة الرسالة).

 

([369]) مثل: النووي في «منهاجه» (18/28 - ط. قرطبة)، وعنه صدِّيق حسن خان في «السراج الوهاج» (11/367، 368).

 

([370]) قاله بنحوه البيهقي في «الدلائل» (6/330)، ومضى كلامه قريباً.

 

([371]) في «السراج الوهاج» (11/367).

 

([372]) ينقصه (العدل)، والخير كله في اجتماع الأمرين، فافهم!

 

([373]) انظر: ما سيأتي عنه (ص 451).

 

([374]) انظر: (ص 225-226).

 

([375]) سيأتي كلامه برمته (ص 249-250)، إذ السياق الذي في الكلام المزبور له دلالة توضح معناه.

 

([376]) انظر: النقل الآتي قريباً عن الحميدي.

 

([377]) ولم يزد عليه شيئاً الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك في كتابه «بستان الأخبار مختصر نيل الأوطار» (2/437).

 

([378]) في كتابه «كشف المشكل عن حديث الصحيحين» (3/566-567)، وسيأتي كلامه بتمامه (ص 265-266).

 

([379]) في «السلسلة الصحيحة» (7/199)، وسيأتي كلامه بتمامه (ص 437).

 

([380]) سيأتي تخريجه مفصلاً (ص 260).

 

([381]) «تفسير غريب ما في الصحيحين» (ص 363).

 

([382]) «شرح السنة» (11/178).

 

([383]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28 - ط. قرطبة)، وعنه صاحب «عون المعبود» (8/282).

 

([384]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28-29)، وعنه صاحب «عون المعبود» (8/282).

 

([385]) «السراج الوهاج» (11/368).

 

([386]) (ص 68/هامش 1)، وبنحوه قال الأستاذ صبحي الصالح -رحمه الله- في تعليقه على «أحكام أهل الذمة» (1/113 هامش 2)، قال: «وهذا الحديث من كلام النبوة، فإن هذه الأقطار الثلاثة لم تكن قد فُتِحَتْ في عصر النبوة، ولعل أبا هريرة قد أدرك خطر هذه النبوءة وأهميتها حين قال: «شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه»»، وأحال على «خراج يحيى»، ولم يخرج ما في هامش (2) من «أحكام أهل الذمة» (1/266 - ط. رمادي) على المذكور، إلا أنه لا عزو فيه!

 

وقال الدكتور مصطفى ديب البغا في تعليقه على «مختصر سنن أبي داود» (ص 437/ هامش 29 على حديث رقم 3035):

 

«المراد استيلاء الكفار على هذه البلاد آخر الزمان، ومنعهم عن المسلمين ما كان يردهم من خيرات هذه البلاد».

 

([387]) الأرزاء -جمع رزيئة-: هي المصيبة. كما في «القاموس» (ص 52 - ط. الرسالة).

 

([388]) أخرجه البخاري (1876)، ومسلم (147) في «صحيحيهما» من حديث أبي هريرة    -رضي الله عنه-.

 

([389]) (ص 91/ هامش 4).

 

([390]) (4/248 - مع «مختصر السنن») أو (3/35 - ط. الطباخ)، ونقلها عنه السهارنفوري في «بذل المجهود» (6/375) وصاحب «عون المعبود» (8/283).

 

([391]) لم يتنبه لهذا من جعلَه عينَه، وصرح بذلك جمعٌ؛ منهم: العلامةُ الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في «إتحاف الجماعة» (2/234) وصاحب «تكملة فتح الملهم» (6/291-292).

 

([392]) في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/567).

 

([393]) في «درجات مرقاة الصعود» (ص 128).

 

([394]) أي: جُمِعَتْ، يقال: انزوى القومُ وتدانَوْا وتضاموا، قاله المازري في «المعلم بفوائد مسلم» (3/208 - ط. دار الغرب).

 

([395]) أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان -رضي الله عنه- رفعه.

 

([396]) (8/425-426 - ط. دار الوفاء)، وسيأتي له كلام (ص 253) على الحديث مختصر دقيق.

 

(فائدة مهمة): أكملَ القاضي عياضٌ في شرحه هذا «المعلم» للمازري، ومعنى (إكماله) أنه ذكر فيه ما فات المازريَّ من مباحثَ مهمّةٍ، وذكر فيه تعقباتٍ واستدراكاتٍ مفيدةً، وإلا فالمازري قد شرح جميع «صحيح مسلم» ولم يبق منه شيء.

 

([397]) هي مدينة على ساحل بحر المغرب مقابل الجزيرة الخضراء من البر الأعظم أو بلاد بربر، بينها وبين «سبتة» مسيرة يوم، وهي آخر حدود أفريقيا من جهة الغرب، وقد وصلها الفتح الإسلامي في العهد الأموي بفتوحات عقبة بن نافع، وطارق بن زياد، وموسى بن نصير، انظر: «مراصد الاطلاع» (2/894).

 

([398]) هي قرى متصلة خلال الأشجار والبساتين من سمرقند إلى قريب من بخارى. انظر: «مراصد الاطلاع» (2/842).

 

([399]) أخرجه مسلم (2918) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه، ولفظه: «قد مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتُنْفَقنَّ كنوزهما في سبيل الله».

 

([400]) أخرجه مسلم (2919) بعد (78) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-رفعه.

 

([401]) أخرجه أحمد (4/303)، والنسائي في «الكبرى» (8878)، وأبو يعلى في «المسند» (1685) من حديث البراء بن عازب رفعه، وهو طويل، «غريب، تفرد به ميمون بن أستاذ».=    =قاله ابن كثير في «السيرة» (3/194-195)، وحسّنه ابن حجر في «الفتح» (7/397)!

 

قلت: إسناده ضعيف، لميمون أبي عبدالله، نقل الأثرم عن أحمد قوله عنه: أحاديثه مناكير، وقال ابن معين: لا شيء، وقال أبو داود: تكلم فيه، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/418)، وقال: «كان يحيى القطان يسيء الرأي فيه». ولذا قال الهيثمي في «المجمع» (6/130-131): «رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبدالله، وثّقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات».

 

قلت: وفي «صحيح البخاري» (4101) أصله دون الزيادات التي فيه.

 

([402]) قطعة من الحديث السابق.

 

([403]) (7/312)، وبنحوه في «مكمل إكمال الإكمال» (7/242) للسنوسي.

 

([404]) هذه رواية ابن ماهان من «صحيح مسلم» كما قدمناه، وانظر عنها: كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح» (1/368)، ففيه كلام مستوعب جيد على (رواة الصحيح)، قلّ أن تجده في كتاب، والحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة.

 

([405]) كذا في الأصل! وسقط منه «قفيزها و...».

 

([406]) انظر: (ص 195-196).

 

([407]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28).

 

([408]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28)، وعنه السيوطي في «الديباج» (6/222)، ومثله في «القناعة» (ص 106) للسخاوي، وصاحب «عون المعبود» (8/282) وصاحب «السراج الوهاج» (11/367).

 

([409]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28)، وعنه صاحب «عون المعبود» (8/282) وصاحب «السراج الوهاج» (11/367).

 

([410]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/28)، وعنه السيوطي في «الديباج» (6/223) -وزاد عليه «لما غلبت عليه التتار»-، وصاحب «عون المعبود» (8/282) -وحذَفَ «وهو الآن موجود»- وصاحب «السراج الوهاج» (11/368).

 

([411]) برقم (2913) بعد (67)، واللفظ المذكور هو الذي صدره للحديث.

 

([412]) يجبى -بسكون الجيم-: جبيتُ الخراج وجَبَوْته جمعته، كذا في «المشارق» (1/138)، و«مطالع الأنوار» (1/ق92/أ) -نسخة الملك عبدالعزيز-، ولم يقع فيه خلاف، إذ لم يذكراه في (الاختلاف والوهم)، ووقع في بعض المصادر والشروح «يجيء»؛ وهو تصحيف.

 

([413]) أسكت؛ معناه: أطرق، وقيل: سكت وأسكت بمعنى صمت، وقيل: أسكت: أعرض، قاله القاضي عياض في «إكمال المعلم» (8/457)، وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (18/53): «أما (أسكت)؛ فهو بالألف في جميع نسخ بلادنا، وذكر القاضي أنهم رووه بحذفها وإثباتها، وأشار إلى أن الأكثرين حذفوها». قلت: نعم، في «الإكمال»: «عند ابن عيسى: أسكت»، وفي هذا إشارة إلى أنها دون الألف عند غيره، وانظر: «مشارق الأنوار» (2/215 - ط. تونس).

 

([414]) بتشديد الياء بلا همز، قال القاضي: رواه لنا الصدفي بالهمزة، وهو غلط، ومعناه: شيئاً، انظر: «إكمال المعلم» (8/457) و«مشارق الأنوار» (2/271) و«شرح النووي على صحيح مسلم» (18/53).

 

([415]) ذكره مسلم في (الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة) من كتابه «الطبقات» (1/341 رقم 1784 - بتحقيقي). وانظر: «تحفة الأشراف» (2/379 - ط. عبدالصمد) و«إتحاف المهرة» (3/576) ففيه (رواية الجريري عن أبي نضرة عن جابر).

 

([416]) انظر: «الضعفاء» للنسائي (271)، «تهذيب التهذيب» (4/6)، و«تهذيب الكمال» (10/341)، «المستخرج من مصنفات النسائي في الجرح والتعديل» (ص 66).

 

([417]) انظر: «الجرح والتعديل» (3/2). وانظر: «بحر الدم» (ص 170 رقم 349).

 

([418]) «الجرح والتعديل» (3/2).

 

([419]) «عمل اليوم والليلة» (ص 275 رقم 310) للنسائي، و«النكت الظراف» (3/458)، و«تهذيب الكمال» (10/340-341)، و«السير» (6/154).

 

([420]) «الثقات» (6/351).

 

([421]) في «الشذا الفياح» (النوع الثاني والستون) (2/753).

 

([422]) ولذا ترجمه الفيروز آبادي في رسالته «تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه» (1/112، 114، ضمن «نوادر المخطوطات»).

 

([423]) في «سؤالاته» (1/404 رقم 797).

 

([424]) في «الشذا الفياح» (2/753).

 

([425]) ترجمه في (المختلطين) غير واحد؛ منهم: ابن الكيال في «الكواكب النيرات» (ص 178 وما بعد رقم 24)، والعلائي في «المختلطين» (ص 37 رقم 16)، وسبط ابن العجمي في «الاغتباط» (ص 59 رقم 43). وانظر: «نهاية الاغتباط» (ص 127 رقم 39).

 

([426]) ورواية مسلم المتقدمة من طريقه.

 

([427]) هي غير رواية «المسند» المطبوعة، وطبع «المسند» برواية أبي عمرو بن حمدان، وهي مختصرة ليس فيها مسانيد أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-. ورواية ابن حبان السابقة عن أبي يعلى -أيضاً-.

 

([428]) سمع من الجريري قبل الاختلاط، فيما ذكر الأبناسي في «الشذا الفياح» (2/753)، وعنه ابن الكيال في «الكواكب النيرات» (ص 183)، ومن شيوخ عبدالوهاب: (أيوب السختياني)، وروايته عنه عند الجماعة، كما في «تهذيب الكمال» (18/503)، وتقدم كلام أبي داود السجستاني أن كل من أدرك أيوب، فسماعه من الجريري جيد.

 

([429]) أرى من الأهمية بمكان إخراجُ ألفاظ الروايات التي أبهمها مسلم ولم يسُقْ ألفاظها، من الكتب الحديثية، ولا سيما باستخدام نظام (الحاسوب) العصري، وإبراز منهجه في ذلك على وجه تفصيلي تأصيلي.

 

([430]) لقبه (بُندار). وسيأتي التصريح باللقب.

 

([431]) هو محمد بن المثنى.

 

([432]) في الأصل: «بن» دون ألف، وهذا خطأ، لا يعين على فهم المراد، إذ انفرد بندار عن أبي موسى بذكر اسم والد الجريري، فقال: «ابن إياس».

 

([433]) في «الخلافيات»: «بم».

 

([434]) في «الخلافيات»: «هنيئة».

 

([435]) سقط من «الخلافيات».

 

([436]) في «الخلافيات»: «قالوا: بم...».

 

([437]) سقط من «الخلافيات».

 

([438]) في مطبوع «الدلائل»: «بهما»! والمثبت من «الخلافيات».

 

([439]) بعدها في مطبوع «الدلائل»: «لا يخرج رجل من المدينة، ثم قال رسول الله ×» وهذه الجملة مكررة فحذفتُها.

 

([440]) في «سير أعلام النبلاء» (10/596).

 

([441]) «تهذيب التهذيب» (10/412).

 

([442]) لم يصرح الأبناسي ولا ابن الكيال؛ هل روايته عن الجريري كانت قبل أو بعد، ولم يخرج أصحاب الكتب «الستة» شيئاً من روايته عنه، ولم يَرْوِ فيها شيئاً عن أيوب السختياني.= =وعليه، فهو ممن سمع منه بعد الاختلاط. انظر: «تهذيب الكمال» (18/509). ثم وجدت في «تقدمة الجرح والتعديل» (ص 324) عن ابن نمير قوله: «عبدالوهاب بن عطاء قد حدّث عن أصحابنا، وكان أصحاب الحديث يقولون: إنه سمع من سعيد بأخرة، كان شبه المتروك».

 

قلت: فصحّ ما استَظْهَرتُه، ولله الحمد والمنة.

 

ولكن روايته المطوّلة هذه؛ تابعه عليها من سمع من الجريري قبل اختلاطه، ولم يتفرد بها، فهي صحيحة، والحمد لله.

 

([443]) في مطبوع «المستدرك»: «عن»، وهو خطأ، والتصويب من «إتحاف المهرة» (3/576 رقم 3782)، وكتب الرجال.

 

([444]) في مطبوع «المستدرك»: «يجيء»!

 

([445]) في مطبوعه «أسعار وريف» بدل «وأسعار ورزق».

 

([446]) ذكر مسلم إسناد هذه السياقة دون لفظها، وقد ساق طرقاً لبعض الأحاديث في= =متونها عللٌ نبّه هو عليها في كتابه «التمييز». وانظر: كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح» (2/540-548).

 

([447]) كذا في مطبوع «المستدرك»! وصوابه: «يحثي».

 

([448]) كذا في الأصل؛ وهو تحريف، وصوابه «عبدالمجيد».

 

([449]) في «السلسلة الصحيحة» (7/القسم الأول/197-198).

 

([450]) هو ابن عبدالوارث، كما صرح به أحمد في موطن آخر من «المسند» (3/38).

 

([451]) قال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (5/440 رقم 5728) بعد رواية الحاكم «عن جابر أو أبي سعيد»: «كذا قال، وهو في «مسلم» من حديث جابر وأبي سعيد جميعاً».

 

([452]) هذه من زيادات مسلم، أَشعَرَ بها قارئَ «صحيحِه» أنها من كيسه، وليست من قول الرواة، وهذا من دقته -رحمه الله-.

 

([453]) هذه من زيادات مسلم، أشعَرَ بها قارئَ «صحيحه» أنها من كيسه، وليست من قول الرواة، وهذا من دقته -رحمه الله-.

 

([454]) انظر: «تحفة الأشراف» (2/381 رقم 3107 و3/456-457 رقم 4321).

 

والملاحظ أن الحديث عند مسلم «عن أبي سعيد» وحده، و«عن جابر» وحده، وعنهما معاً، فكلمة الذهبي: «عن أبي سعيد»، وكلمة ابن حجر: «من حديث جابر وأبي سعيد جميعاً» صحيحتان.

 

([455]) يقال: حثى يحثي ويحثو حَثْواً وحَثْياً، وقد وقع الفعلان والمصدر في الأصل،وضبطه الأسدي: «حِثيّاً» بكسر الثاء وتشديد الياء. و«الحثو» هو الحفن باليدين، الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الأموال والغنائم. انظر: «إكمال المعلم» (8/457)، «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/53-54)، «مشارق الأنوار» (1/180)، «الديباج» (6/234)، وهو -على التحقيق- المهدي، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل فيما يأتي (ص 440).

 

([456]) هو شيخه علي، واللفظ السابق لشيخه نصر بن علي الجهضمي، وهذه الممايزة من دقة مسلم -أيضاً-.

 

([457]) انظر: (ص 440).

 

([458]) القائل: أبو نضرة، واسمه المنذر بن مالك بن قُطعة العبدي.

 

([459]) سبق تخريجه.

 

([460]) انظرهما: (ص 226).

 

([461]) ونقل كلامه ولم يتعقبه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/211)، ولكنه أخرج أثر جابر من سياق آخر.

 

([462]) رقم (146).

 

([463]) أعني قوله ×: «يكون في آخر أمتي خليفة...».

 

([464]) «البداية والنهاية» (6/203).

 

([465]) انظر لزاماً: ما قدمناه (ص 226).

 

([466]) وأما أهل مصر؛ فمسكوت عنه في كلام جابر، ومصرح به في الحديث المرفوع الذي نحن بصدده، والظاهر أنه متأخر عنهما، ولكن نحتاج إلى معرفة من يقوم به.

 

([467]) «إكمال المعلم» (8/457)، و«شرح النووي على صحيح مسلم» (18/53).

 

([468]) «دستور العلماء» (2/217 - ط. دار الكتب العلمية).

 

([469]) «معجم مصطلحات أصول الفقه» (ص 280) لقطب سانو.

 

([470]) «الزاهر في معاني كلمات الناس» (2/61 - ط. العراقية) تحقيق حاتم الضامن.

 

([471]) القائل -كما يأتي- هو النووي، ويريد: أهل الشام من العرب.

 

([472]) «تهذيب الأسماء واللغات» (3/130)، وذُكر في أسباب تسميتهم أمورٌ أخرى؛ انظرها في «معجم البلدان» (3/97)، و«لسان العرب» (12/258)، و«مختار الصحاح» (ص 264).

 

([473]) لراقم هذه السطور رسالة مفردة في (الملاحم)، فيها البيان التفصيلي لهذا الإجمال، يسر الله إتمامها وإظهارها.

 

([474]) سيأتي مزيد بيان لهذا في (فصل: حصار العراق الاقتصادي).

 

([475]) ومثله صنع صديق حسن خان في «السراج الوهاج» (11/380).

 

([476]) «السراج الوهاج» (11/368). وسيأتي تفصيل قوله: «قد وجد ذلك كله في هذا الزمان الحاضر».

 

([477]) (ص 176-178).

 

([478]) (ص 154-155).

 

([479]) كذا في المطبوع، وصوابه: «مُدْيها».

 

([480]) (2/233-234 - ط. الصميعي).

 

([481]) في «الدلائل» (6/330)، وسبق كلامه.

 

([482]) (4/248 - مع «مختصر السنن»)، وفي هذا نظر، انظر ما قدمناه (ص 250).

 

([483]) مضى تخريجه مفصلاً.

 

([484]) سيأتي تخريجه.

 

([485]) من المقرر في علم المصطلح أنّ قول الصحابي فيما يخصّ الغيب -ومنه أشراط الساعة- له حكم الرفع، ما لم يأخذ عن أهل الكتاب. انظر: «النكت على ابن الصلاح» (2/ 531)، «فتح المغيث» (2/132).

 

([486]) انظر: «النهاية في الفتن والملاحم» (1/38-39 - ط. الشيخ إسماعيل الأنصاري).

 

([487]) انظر: «فتح الباري» (6/280)، وفي مطبوعه: «ولمسلم عن جابر -أيضاً- مرفوعاً!!: يوشك أهل العراق...» كذا في الطبعة السلفية: (مرفوعاً)! وهو خطأ، وكذا وقفتُ عليه في جميع= =الطبعات التي في مكتبتي؛ وهي: (7/787 - ط. دار أبي حيان) و(6/419 - ط. دار الفكر، و2/1500 - ط. بيت الأفكار، و6/324 - ط. العبيكان). وكذا وقع -أيضاً- في «عمدة القاري» (15/102 - ط. المنيرية) للعيني.

 

([488]) مما ينبغي أن يُتَنبَّه له: أن لشيخنا الألباني كتابين بهذا العنوان، أحدهما: تام، وهو مختصر، وعليه الأحكام فقط، والآخر: ناقص، مطوّل، جوّده بتخريجات وتعليقات مسهبة، طبع بعد وفاته في (11) مجلداً عن (دار غراس) الكويت.

 

([489]) مع التنويه على أن موطن الشاهد منه ما سبق اللفظ المرفوع، وهو من قول جابر      -رضي الله عنه-.

 

([490]) ممن فرق بينهما -خلافاً لجماهير الشراح- المباركفوري في «منية المنعم» (4/362)، فقال عند قول جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم...»: «ففي هذا الحديث  -كذا، وهو أثر- أن العجم يمنعون أداء أموالهم إلى العراق، والروم يمنعوها من أهل الشام، وفي الحديث السابق أن العراق والشام ومصر تمنع أداء أموالها إلى المخاطبين، وهم أهل الحجاز خاصة، أو سكان جزيرة العرب عامة، ففي الحديثين خبران مستقلان!! وقد وقعا كلاهما، والله المستعان!!

 

قلت: وكلامه متعقَّب، بما مضى من معنى (المنع)، والحديث الأول فيه ما يدل على حصار العجم للعراق ومنع وصول الخيرات لها، وليس كما قاله! وانظر أثر عبدالله بن عمرو (ص 296).

 

([491]) «رد السهام عن كتاب عمر أمة الإسلام» (ص 59-60).

 

([492]) الجباية: الأخذ، سواء كان جزية أم خراجاً، وفي «النهاية» (1/238): «الاجتباء: افتعال من الجباية، وهو استخراج الأموال من مظانها». وانظر: «عمدة القاري» (15/102)، و«إرشاد الساري» (5/243)، و«شرح الكرماني على صحيح البخاري» (13/143)، و«فيض الباري» (3/478)، و«إتحاف القاري» (2/720)، و«التوشيح» (5/2080)، و«عون الباري» (3/646).

 

([493]) معني: الصادق ظاهر، و(المصدوق) هو الذي لم يُقَلْ له إلا الصدق، يعني أن جبريل -عليه الصلاة والسلام-مثلاً- لم يخبره إلا بالصدق، وقال الكرماني (13/143): أو المُصدَّق بلفظ المفعول؛ كذا في «عمدة القاري» (15/102). وانظر: «تحفة الباري» (6/408)، و«إرشاد الساري» (5/244).

 

([494]) أي: عن أي شيء ينشأ ذلك.

 

([495]) أي: يرتكب ما لا يَحلُّ من الجور والظلم وإتيان المعاصي. وقال ابن الجوزي في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/547): «أي: يُستباح ما لا يحل». انظر: «عمدة القاري» (15/102)، و«تحفة الباري» (6/408)، و«شرح الكرماني» (15/143)، و«إرشاد الساري» (5/244)، و«التوشيح» (5/2080)، و«عون الباري» (3/646)، و«التنقيح» (2/487).

 

([496]) يقوّيها وينتزع منها مهابَتَكُم. وانظر: «فيض الباري» (3/478).

 

([497]) مما وجب عليهم من الجزية وغيرها. انظر: «عمدة القاري» (15/102)، «إتحاف القاري» (2/720)، و«التوشيح» (5/2081)، و«إرشاد الساري» (5/244).

 

([498]) لفظه في «إتحاف المهرة» (14/721 رقم 18589) -ولم يعزه إلا له-: «تجتبوا ديناراً أو درهماً»، ولفظه في «أطراف المسند» (7/256 رقم 2451): «تجتبوا ديناراً أو درهماً»، وفي مطبوع «المسند» مثل اللفظ السابق.

 

([499]) وافقه على هذه الرواية أخوه خالد بن سعيد، أخرجه الإسماعيلي من طريقه بنحوه، قاله ابن حجر في «الفتح» (6/280). ثم وجدتُ من تابعهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/639 رقم 297 - ط. دار الفكر)، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن أبي عمرو، عن أبي هريرة، قال: «كيف أنتم إذا لم يُجْبَ لكم دينار ولا درهم ولا قفيز؟!».

 

([500]) لم يعزه ابن حجر في «هدي الساري» (ص 48) -وتبعه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «مختصر صحيح البخاري» (2/376 رقم 502)- إلا له!

 

([501]) في «الكفاية» (4190)، وقال ابن الصلاح في «علوم الحديث» (ص 72): «صورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، وليس خارجاً من الصحيح إلى الضعيف».

 

([502]) (6/407)، ونحوه في «إرشاد الساري» (5/243).

 

([503]) أي: جمع بين أحاديث الصحيحين، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى-.

 

([504]) وهو الحديث الذي نحن بصدد شرحه: «منعت العراق...».

 

([505]) وهو قوله: «يوشك أهل العراق لا يجبى إليهم درهم...»، وقد نصصا على أنه مرفوع، وليس كذلك؛ فالمرفوع منه آخره، كما سبق وأن بيّنّاه، وذكرنا تخريجه مفصلاً، نعم؛ له حكم الرفع، وفرق بين (المرفوع) وبين (الذي له حكم الرفع).

 

([506]) انظر: «فتح الباري» (6/280)، و«عمدة القاري» (15/102).

 

ومن المفيد: التنبيه على أن ابن حجر في «هدي الساري» (ص 77) أورد لفظة (إرْدَبَّها) في (الفصل الخامس: في سياق ما في الكتاب -أي: «صحيح البخاري»- من الألفاظ الغريبة على ترتيب الحروف مشروحاً)، ولا وجود لهذه المادة ألبتة في «صحيح البخاري»! ولعله نقل ذلك من الحميدي في بيانه غريب المتفق عليه!

 

([507]) منهجه فيه أنه رتب أحاديث «الصحيحين» على (المسانيد)؛ بحيث يجمع أحاديث كل صحابي من «الصحيحين» في موضع واحد، وقد قسمه إلى خمسة أقسام:

 

الأول: مسانيد العشرة المبشرين بالجنة، وبدأه بمسند الصديق، ثم الخلفاء الثلاثة بعده.

 

الثاني: مسانيد المقدمين بعد العشرة، بدأه بمسند ابن مسعود، وختمه بمسند سلمة بن الأكوع، وعدد الصحابة في هذا القسم أربعة وستون.

 

والقسم الثالث: فهو لمسانيد المكثرين من الصحابة، وهم ستة: ابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبو سعيد، وأنس، وأبو هريرة. وهذا القسم هو أكبر الأقسام، ويقرب من نصف الكتاب.

 

والقسم الرابع: لمسانيد المقلين، وفيه واحد وأربعون مسنداً، وفي آخر هذا القسم ذكر مسانيد الصحابة الذين أخرج لهم البخاري دون مسلم (وهم خمسة وثلاثون)، ثم الذين أخرج لهم مسلم دون البخاري (وعددهم خمسة وخمسون).                                                       =

 

=        وأما القسم الخامس -والأخير-: فهو لمسانيد النساء، بدأه بمسند عائشة، ثم بمسند فاطمة، ثم مسانيد سائر أزواج النبي ×، ثم الصحابيات اللواتي اتفق الشيخان على الإخراج لهن، وعددهن كلهن (أربع وعشرون)، ثم أورد (ستة) مسانيد للصحابيات التي انفرد بهن البخاري دون مسلم، ثم (سبع) صحابيات أخرج لهن مسلم دون البخاري.

 

وداخل كل مسند من المسانيد السابقة يبدأ المؤلف بذكر ما اتفق عليه الإمامان، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم من ذلك المسند.

 

وفي كل قسم من هذه الثلاثة يجعلُ الحميديُّ لكلِّ معنىً حديثاً، وإن اختلف في بعض ألفاظه قليلاً أو كثيراً، سواء أكان ذلك الاختلاف بين الشيخين، أو روايات الشيخ نفسه. أفاده محقق «الجمع بين الصحيحين» الدكتور علي حسين البواب في تقديمه له (1/11-13).

 

([508]) قوله في الموطنين: «أخرج» و«تعليقاً» بينهما تعارض، ويعجبني بهذا الصدد تعقب العلامة المباركفوري في كتابه «إبكار المنن» (ص 58) على النيموي في كتابه «آثار السنن» لما قال: «قال النيموي في عدة مواضع من هذا الكتاب: روى البخاري تعليقاً!! والصواب أن يقول: ذكر البخاري تعليقاً». وقال -أيضاً- (ص 60):

 

«والصواب أن يقول النيموي: ذكره البخاري تعليقاً، أو يقول: علقه البخاري، فإنه لا يقال في مثل هذا: رواه البخاري تعليقاً، كما تقدم».

 

قال أبو عبيدة: تنبيهه هذا مسبوق بما في «نصب الراية» (2/458) عند أثر البخاري المعلق: «كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر...»، قال الزيلعي: «وجهل من قال: رواه البخاري، وإنما يقال في مثل هذا: ذكره، ولا يقال: رواه».

 

والتعبير بـ(أخرجه) شائع، كما سبق نقله عن ابن فتوح الحميدي، ومثله وقع لجمعٍ من المحققين، كما تراه عند حديث أبي هريرة: «إذا قرأ فأنصتوا»، فقد علقه مسلم، وقال ابن تيمية في «الفتاوى» (2/142)، وقبله جده في «المنتقى» (2/107)، وابن قدامة في «المغني» (2/261 -   ط. هجر)، وصاحب «المشكاة» (1/263)، قالوا: رواه، بل صنيع الحاكم في «المستدرك» يدل عليه في مواطن عديدة. انظر -مثلاً-: (3/58).

 

([509]) انظر الهامش السابق.

 

([510]) عزاه صاحب «كنز العمال» (11/131 رقم 30912) وكذا في «زوائد الجامع الصغير» (4589 - صحيحه) لـ(ق)؛ وهو رمز المتفق عليه، وكذلك فعل بعض المعاصرين؛ مثل: مصطفى البغا في تعليقه على «صحيح البخاري» (3/1161/هامش حديث رقم 3009).

 

([511]) من كلام شيخنا الألباني في «تحريم آلات الطرب» (ص 39)، وما سيأتي من كلام فمنه، إلا أن سياق كلامه على (هشام بن عمار) وليس على (أبي موسى)؛ وكلاهما من شيوخ البخاري، فدفاعه -رحمه الله- ينطبق تماماً على روايتنا من حيثية تخريج البخاري لها.

 

([512]) ذكره الحافظ ابن عدي في كتابه «أسامي من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري من مشايخه الذين ذكرهم في جامعه الصحيح» (ص 177/رقم 193)، ورضيّ الدين الصَّغاني في كتابه «أسامي شيوخ أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري» (ق58/ب)، قال: «روى عنه البخاري في باب حلاوة الإيمان، وفي الفتن، وغير موضع»، وذكر أبو علي الجياني في كتابه «التعريف بشيوخ حدّث عنهم محمد بن إسماعيل البخاري وأهمل أنسابهم، وذكر ما يعرفون به من قبائل وبلدانهم» شيخه هذا في مواطن منه، انظرها: (ص 66/رقم 94 وص 67 رقم 96 وص 69 رقم 98 وص70 رقم 106، 107 وص 73-74 رقم 111،112،113 وص75 رقم 115)، هذه مواطن ذكر فيها (محمد) مهملاً هكذا، وحمل على أنه ابن المثنى، وفي هوامش المعلق غيرها. وانظر: «فتح الباري» (13/298) في كتاب الاعتصام (باب 13)، وذكره -أيضاً- أبو الوليد الباجي في «التعديل والتجريح» (2/647 رقم 508/60)، وقال: «أخرجه البخاري في الإيمان والفتن وغير موضع»، وانظر: كلام المعلق والمحقق د. أبو لبابة حسين، وقال الجياني في «المعلم بشيوخ البخاري ومسلم» (ص 242 رقم 211): «روى عنه البخاري في الإيمان وغير موضع».

 

([513]) روى عنه البخاري في «صحيحه» مئة وسبعة أحاديث.

 

([514]) (تنبيه) للفظ ابن أبي شيبة الموقوف على أبي هريرة -(سيأتي ص 271)-، ففيه زيادة على ما عند البخاري لفظة «قفيز»، وهي في لفظ مسلم -أيضاً-، وهذا يؤكد أن أصل الحديث واحد، ولكن قد ينشط الراوي فيفصّل ويرفع، وقد يقتصر مرة أخرى على الوقف أو الإيجاز.

 

([515]) «فتح المغيث» (1/40).

 

([516]) (ص 26).

 

([517]) (1/16)، وكذا في «الخلافيات» (1/194 رقم 53 - بتحقيقي)، وكذا صنع المزي في «تحفة الأشراف» (5/53)، وتعقبه ابن حجر في «النكت الظراف»، فراجعه.

 

([518]) في «صحيحه» (رقم 366) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

 

([519]) «نصب الراية» (1/116). وانظر في هذه النقولات وغيرها مع توجيهها: «نقد تعليقات الألباني على شرح الطحاوية» (ص 14-28) للعلامة الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله-، مع تعقبات أخينا الشيخ سمير الزهيري -حفظه الله- عليه في كتابه «فتح الباري في الذب عن الألباني» (ص 9-13).

 

([520]) الشيح: نبات له أنواع، كلها طيب الرائحة، منه نوع ينبت في بلاد العرب، ترعاه الماشية، انظر: «المعجم الوسيط» (1/502) و«إحياء التذكرة» (404-405)، وأطال الكلام على أنواعه.

 

([521]) «الكواكب النيرات» (ص 347).

 

([522]) هو ابن قدامة أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت صاحب سنة، ترجمته في «التهذيب» (3/306)، و«الكاشف» (1/317).

 

([523]) «الكواكب النيرات» (ص 350).

 

([524]) «الكواكب النيرات» (350) و«التقييد» للعراقي (ص 446).

 

([525]) «التاريخ الكبير» (2/46-47 رقم 1638) للبخاري.

 

([526]) في أول (الفصل) الآتي.

 

([527]) انظر: «مجمع الزوائد» (10/330).

 

([528]) في «القاموس»: «أُذُن شرفاء: طويلة»، و«شَرِفَ الأذنان: ارتفعا».

 

([529]) «تهذيب الكمال» (14/40).

 

([530]) «تهذيب الكمال» (5/510).

 

([531]) كالعلائي في «جامع التحصيل» وابن العراقي في «تحفة التحصيل»، فضلاً عن المتقدمين.

 

([532]) وهو يحتوي على: «الموطأ»، «الأم»، «مسند أحمد» و«زوائد عبدالله» عليه، و«سنن الدارمي»، و«المنتقى» لابن الجارود، و«صحيح ابن خزيمة»، و«مسند أبي عوانة»، و«شرح معاني الآثار» للطحاوي، و«صحيح ابن حبان»، و«سنن الدارقطني»، و«المستدرك».

 

([533]) جُوخا: بالضم، والقصر، وقد يفتح: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه (الراذانان)، وهو ما بين (خانقين) و(خوزستان)، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة (جوخا)، كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم، حتى صرفت دجلة عنها، فخربت، وأصابهم بعد ذلك طاعون (شيروَيه)، فأتى عليهم، ولم يزل السواد وفارس في إدبار منذ كان طاعون (شيرويه). قاله ياقوت في «معجم البلدان» (2/178).

 

([534]) عزاه في «كنز العمال» (14/239) لابن قانع بلفظ: «يوشك خيل الترك مخرمة أن تُربط بسعفِ نخل نجدٍ».

 

([535]) لفظه «ستشد خيل ترك، أو تربط بسعف نخل».

 

([536]) في مطبوع «المستدرك»: «عن الأعمش وأبجر عن عبدالرحمن بن سعيد»! والمثبت من «إتحاف المهرة» (4/239 رقم 4182).

 

([537]) في الموطن الأول من «المصنف»: «ليسافر منها».

 

([538]) هو ابن عتيبة أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، إلا أنه ربما دلس، كذا في «التقريب» (ص 175/رقم 1453).

 

([539]) انظر: «التاريخ الكبير» (7/264 رقم 1117)، و«التقريب» (ص 649/رقم 8167).

 

([540]) انظر: «تهذيب الكمال» (9/145-146 رقم 1888) و«التاريخ الكبير» (3/281 رقم 966).

 

([541]) لم أظفر به في مطبوع «الفتن» لنعيم، ولا عند الطبراني في «المعجم الكبير»، وأخشى أن يكون سقط وقع فيه، أو تداخلت الطرق والأسانيد، فليحرر.

 

([542]) بعدها في «المعجم الكبير»: «قد أتتكم»، والمراد بهم المغول القادمون من أواسط آسيا، وليس الأتراك المنسوبين إلى (تركيا) المعروفة الآن في شمال سورية.

 

([543]) هو من الجذم؛ وهو القطع، انظر: «النهاية» (1/215)، وفي مطبوع «الفتن»: «مخرمة»!! وفي مطبوع «المعجم الكبير»: «محزمة»! قلت: تحتمل «مخرمة» بالخاء المعجمة= =والراء المهملة من (الخرم)، وهو الثقب والشق. انظر: «النهاية» (2/27).

 

([544]) «تحفة التحصيل» (ص 278).

 

([545]) ووقع هذا الوصف في طريق شداد بن معقل عن ابن مسعود، ومن طريق بسر عن حذيفة.

 

([546]) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد والسير (باب قتال الترك) (رقم 2928)، و(باب قتال الذين ينتعلون الشعر) (رقم 2929)، وكتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3587، 3590، 3591).

 

([547]) أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن وأشراط الساعة (باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت) (رقم 2912).

 

([548]) قال القزويني في «التدوين» (1/39-40): «وقوله: «نعالهم الشعر»؛ أي: نعالهم من ضفائر الشعر، أو من جلود غير مدبوغة بقيت عليها الشعور. وذكر أنه يحتمل أنه أشار به إلى وفور شعورهم، وانتهاء طولها إلى أن يطؤوها بأقدامهم، أو أن يقرب من الأرض».

 

([549]) (الترك): يقول الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/104): «اختلف في أصل الترك، فقال الخطابي: هم بنو قنطوراء أَمَة كانت لإبراهيم -عليه السلام-، وقال كراع: هم الديلم، وتُعُقِّب بأنهم جنس من الترك، وكذلك الغُزُّ [في «القاموس»: جنس من الترك]، وقال أبو عمرو: هم من أولاد يافث، وهم أجناس كثيرة، وقال وهب بن منبه في كتابه «التيجان» (ص 109 - ط. مركز الدراسات والأبحاث اليمنية): هم بنو عم يأجوج ومأجوج، لمّا بنى ذو القرنين السد كان بعض يأجوج ومأجوج غائبين، فتُرِكُوا لم يدخلوا مع قومهم، فسُموا الترك...».

 

«وقد جمع الحافظ ضياءالدين المقدسي جزءاً في خروج التروك» قاله السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 17)، وزاد: «سمعناه»، وقال في «القناعة» (121): «وقتال الترك وفي أخبارهم تصنيف سمعناه»، وذكره له ابن فهد في «معجمه» (205) بعنوان: «خروج الترك»، وسماه الذهبي في «السير» (23/128): «قتال الترك»، وانظر: «معجم الموضوعات المطروقة» (1/283-284).

 

وانظر -للاستزادة-: «البداية والنهاية» (2/161 - ط. دار أبي حيان)، و«النهاية»= =(1/184)؛ كلاهما لابن كثير، و«معجم البلدان» (2/23-24)، و«ذو القرنين وسد الصين» لشيخ مشايخنا محمد راغب الطباخ -رحمه الله- (ص 184، 185، 188، 189، 193 - بتحقيقي)، و«مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» للعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز (5/357 - جمع وإشراف الشويعر).

 

([550]) (ذلف الأنوف): الاستواء في طرف الأنف، وليس بالغليظ الكبير. وقيل: تشمير الأنف عن الشفة العليا، وقيل: ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته، وقيل: قصره مع انبطاحه، أفاده ابن حجر في «الفتح» (6/608).

 

([551]) (المجان المطرقة): التروس المجلدة طبقاً فوق طبق، وشبه وجوههم بذلك لبسطها وتدويرها وكثرة لحمها. انظر: «شرح السنة» (15/37)، و«تحفة الأحوذي» (6/461).

 

([552]) انظر: «العلل» للدارقطني (9/182-183 رقم 1704) و«الصحيح المسند من دلائل النبوة» (ص 370-372).

 

([553]) في «صحيحه» في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (رقم 3590)، وأخرجها: أحمد (2/319) -ومن طريقه الحاكم (4/476)-، والعسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/141)، وابن حبان (6743)، والبيهقي (9/176)، وفي «الدلائل» (6/336)، والبغوي (4244)؛ جميعهم عن عبدالرزاق -وهو في «مصنفه» (82/211)- عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، رفعه، وهو في «صحيفة همام» (رقم 126).

 

([554]) خوز وكرمان، وروي: خوز كرمان -بالإضافة- والمراد: أهل خوز وأهل كرمان. فأما خوز؛ ففي «القاموس»: «جيل من الناس، واسم لجميع بلاد خوزستان»، وإقليم خوزستان الآن غربي إيران، وأما كرمان؛ فهو إقليم في الجنوب الشرقي من إيران -أيضاً-. انظر: «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 19، 37، 337، 349).

 

([555]) فطس: بضم فسكون، جمع (أفطس): وهو الذي في قصبة أنفه انخفاض وافتراش.

 

([556]) في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت) (رقم 2912) بعد (65).

 

وأخرجه -أيضاً-: أبو داود (4304)، والترمذي (2215)، وابن ماجه (4096)، وأحمد (2/239، 271، 398، 475، 493، 530 و3/31 و5/70)، والحميدي (1100)، وابن أبي شيبة (15/92)، وأبو يعلى (5878)، وابن حبان (6745)، وغيرهم.

 

([557]) الظاهر أنهم يتخذون من الشعر نعالاً يلبسونها.

 

([558]) «الجواب الصحيح» (3/161 - ط. العاصمة).

 

([559]) «شرح النووي على صحيح مسلم»: (18/52 - ط. قرطبة)، ونقله السخاوي في «القناعة» (ص 122)، والمذكور لفظه.

 

([560]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/223-224 رقم 10389)، و«الأوسط» (6/7 رقم 5634)، والخلال في «أصحاب ابن منده» (ق152/ب)، عن ابن مسعود رفعه: «اتركوا الترك ما تركتم، فإن أول من يسلب أمتي ما خوّلهم الله بنو قنطوراء». قال الهيثمي في «المجمع» (7/312): «فيه عثمان بن يحيى القرقساني، لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح». قلت: القرقساني معروف، لا بأس به، مترجم في «ثقات ابن حبان» (9/455)، ولكن فيه مروان بن سالم الغفاري، وهو متروك متهم. وذكر الهيثمي في «المجمع» (5/304) في (كتاب الجهاد) هذا= =الحديث، وقال: «فيه مروان بن سالم، وهو متروك».

 

وأخرجه أبو جعفر الطوسي الشيعي في «أماليه» (ص 4)، وجعله عن حذيفة مرفوعاً، وفيه مروان بن سالم.

 

وانظر: «السلسلة الضعيفة» (1747)، و«مجمع البحرين» (7/218، 265 - مكتبة الرشد).

 

([561]) «فتح الباري» (6/609)، وعنه القسطلاني في «إرشاد الساري» (6/49)، وأحمد ضياءالدين كموشخانة في «لوامع العقول شرح راموز الحديث» (5/58-59)، ومثله بالحرف في «القناعة» (122-124) للسخاوي.

 

وقال صاحب «مختارات من أحاديث الفتن» (ص 28-29): «لقد ظهر مصداق هذه الأحاديث حينما ظهر التتار على المسلمين، وألحقوا العرب بمنابت الشيح والقيصوم من جزيرة العرب، فقد بدأ الصراع مع الترك في خلافة بني أمية حيث اتسعت البلاد الإسلامية، ...» وذكر نحو كلام ابن حجر، وزاد عليه:

 

«ثم استمر الحكم في يد المماليك حتى خرج بقية الترك، وكونوا الخلافة العثمانية، وهي التي في النهاية غزت نجد ودخلت وسط الجزيرة العربية عندما أسقطوا حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب من خلال حاكمهم الألباني في مصر محمد علي وأبنائه، فتحقق ما جاء من ربط خيلهم بسعف نخل نجد».

 

([562]) في «تهذيب اللغة» (9/406)، ومثله في «المعرب» (ص 503)، و«الدلائل» للسرقسطي (2/936)، وزاد: «ولدت أولاداً كثيراً؛ من نسلهم الترك والصين»، و«اللسان» (5/ 119)، و«النهاية» (4/113)، و«تهذيب السنن» (6/168)، و«فتح الباري» (6/609)، وفي «العهد القديم» (سفر التكوين) (25/1): «عاد إبراهيم، وأخذ زوجة اسمها قطورة».

 

([563]) مثبتة من «الفتن» لنعيم فقط.

 

([564]) في مطبوع «المستدرك»: «يعودون».

 

([565]) في «المصنف»: «وذلك»، وفي «الفتن»: «ذاك».

 

([566]) في مطبوع «المستدرك»: «يعودون».

 

([567]) في مطبوع «المستدرك»: «لهم» وفي «الفتن».

 

([568]) اقتصر على هذا المقدار من اللفظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (9/574 رقم 111968).

 

([569]) ذكره مسلم في كتابه «الطبقات» (1/339 رقم 1726 - بتحقيقي) في (الطبقة الثانية من التابعين من أهل البصرة).

 

([570]) منهم: غالب بن عجرد، عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/640)، وسيأتي لفظه قريباً.

 

([571]) عند نعيم بن حماد في «الفتن» (2/677 رقم 1906).

 

([572]) أي: النسّاك العباد، وتذكر أن السائب بن مالك الكوفي سأله عن ذلك -أيضاً-.

 

([573]) كذا بالتصغير في مطبوع «المستدرك»، وفي «إتحاف المهرة» (9/470 رقم 11694): «عبد» بالتكبير، وهو الصواب.

 

([574]) بلد معروف من بلاد فارس، انظر: «معجم ما استعجم» (1/489-490).

 

([575]) ضاحية كبيرة، وولاية واسعة، بينها وبين هراة عشرة أيام، ثمانون فرسخاً، وهي جنوبي هراة، انظر: «معجم البلدان» (3/190-192).

 

([576]) في الأصل: «الأيلة»، بالياء آخر الحروف، وهو خطأ، والصواب بالباء الموحدة، وهي بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل به إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة، انظر: «معجم البلدان» (1/77).

 

([577]) أو بها اختصار شديد، كما عند الحاكم، ووقع اسم الصحابي في مطبوع «الفتن»: «ابن عُمر» بضم العين! وصوابه: «ابن عَمرو» بفتحها، وكذا في نسخة خطية منه، وأول القصة -دون الشاهد- عند أبي نعيم في «الحلية» (1/290-291)، ومن طريقه ابن عساكر (31/280-281).

 

([578]) وكذا قال السيوطي في «الجامع الكبير» (14/554-555 رقم 39587 - ترتيبه «كنز العمال»).

 

([579]) وقد يقال: إن مراده أن مسلماً أخرج لرجل شبيه حاله بحال من أخرج له مسلم، وعليه يحمل توسع الحاكم في عباراته، وانظر: «التنكيل» (1/457) للمعلّمي.

 

([580]) ثم وقفتُ على رابع؛ وهو أبو الأسود الدّيلي، وهو ثقة، انظر: «تهذيب الكمال» (33/37) والتعليق عليه. وسيأتي بيانه في كلام الخلال -رحمه الله تعالى-.

 

([581]) في الأصل: «الأيلة»؛ وهو خطأ، صوابها بالباء الموحدة لا آخر الحروف، وتقدم ذلك، ووقعت على الصواب في «إتحاف المهرة» (9/595 رقم 12014)، وفيه: «إن بني قنطوراء يخرجون حتى يربطوا»! وفيه سقط، قارنه بالنص السابق.

 

([582]) في «سؤالاته» (ص 318/رقم 183).

 

([583]) قال عنه في «التقريب»: «صدوق، ووهم من قال: له صحبة»! قلت: هو ثقة، وثقه ابن سعد في «طبقاته» (7/154)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/128)، وابن حبان في= =«ثقاته» (5/225)، والعجلي (ص 337/رقم 1148 - ترتيب الهيثمي)، ولم يتكلم فيه أحد.

 

انظر: «تهذيب الكمال» (20/187-189 رقم 3970).

 

([584]) «الجرح والتعديل» (4/7 رقم 20).

 

([585]) «الجرح والتعديل» (4/7 رقم 20).

 

([586]) «الكامل في الضعفاء» (3/1212)، وانظر: «تهذيب الكمال» (10/348 رقم 2243).

 

([587]) انظر -لهما على الترتيب-: «تهذيب الكمال» (18/237 رقم 3495 و18/302 رقم 3524).

 

([588]) أي: الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-.

 

([589]) نسبه في «كنز العمال» (14/555-556 رقم 39588) لإسحاق بن راهويه وفيه على إثره: «قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، لكن فيه انقطاع بين قتادة وأبي الأسود».

 

([590]) انظر: «النكت على ابن الصلاح» لابن حجر (2/532-533).

 

([591]) الحَجَف: ضرب من التُّروس، من جلود ليس فيها خشب ولا رباط من عَصَب، واحدتها (حَجَفة).

 

([592]) في الأصل: «السابقة»، والصواب ما أثبتناه، وهو كذلك في طبعة الرسالة (38/44/ 22951).

 

([593]) فيُصطَلَمون -بالبناء للمفعول-؛ أي: يُستأصَلون ويُبادون.

 

قال الطيبي في «شرحه المشكاة» (10/85): «أي: يحصدون بالسيف، والاصطلام: افتعال من (الصلم)، وهو القطع المستأصل».

 

([594]) في مطبوع «كشف الأستار»: «بشر»؛ وهو خطأ، صوابه المثبت.

 

([595]) في رواية ابن المقرئ غير المطبوعة، وليست هي على شرط الهيثمي في «المجمع»، ولا ابن حجر في «المقصد العلي»، ووقعت هذه الرواية لابن عساكر في «تاريخه» والضياء في «المختارة»، وغيرهما.

 

([596]) سقط ذكره من مطبوع «المستدرك»، وأثبتّه من «إتحاف المهرة» (2/583 رقم 2313).

 

([597]) مضى تخريجه.

 

([598]) نسبه في «الدر المنثور» (6/54) و«كنز العمال» (11/168-169 رقم 31073) للبيهقي والضياء -أيضاً-، وهو في «البعث والنشور» للبيهقي (ص 22/رقم 25) معلقاً عن بشير ابن المهاجر.

 

([599]) قال النسائي: صالح، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (2/491 رقم 2010): شيخ، وذكره ابن حبان في «الثقات» (8/161)، وقال: «كتب عن ابن عيينة، ربما أخطأ»، اقتصر المزي في «تهذيب الكمال» (5/110 رقم 955) على هذه الأقوال، وزاد مُغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (3/232 رقم 1006) على أن مسلمة بن قاسم وثقه، قال: «وخرج ابن حبان حديثه في «صحيحه» وكذلك الحاكم»، قلت: وقال الذهبي في «الكاشف» (1/186): «صدوق»، وقال ابن حجر في «التقريب» (ص 141/رقم 957): «صدوق ربما أخطأ».

 

([600]) من رجال الحاكم، له في «المستدرك» عدة روايات، وتحرف اسمه في بعضها (1/492) إلى «معاوية»! فليصحح.

 

([601]) قاله الذهبي في «الميزان» (4/133 رقم 8614)، واقتصر على ما فيه صاحبُ «رجال الحاكم في المستدرك» (2/326 رقم 1612).

 

([602]) إذ جعل (المسلمين) بدل (الترك)، فقلب معنى الحديث رأساً على عقِب، ويا ليت الذي قاله يصح، لاسترحنا من تدوين هذه السطور، فما دفعني إليها إلا الشفقة والتحذير، وحتى يعلم كلّ منا أين يضع قدمه، ويحفّز همته على الثبات عند اشتداد الفتن، ويجمّع قواه النفسيّة على ملاقاتها، ويقوّي إيمانه -بإذن ربه- حتى تمر (الأعاصير) دون أن تنال منه، والله الواقي والهادي.

 

([603]) (2/428 - ط. دار البخاري).

 

([604]) بإثبات الألف؛ لأن (دحية) ليس اسماً لأبيه، فأبوه (الحسن)، وهو من وفيات (633هـ)، من كتبه: «النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس»، طبع بتحقيق عباس العزاوي، سنة= 1356هـ-1964م، فلعل هذا النقل منه، ثم رأيته مطبوعاً عن مكتبة الثقافة الدينية، مصر، بتحقيق مديحة الشرقاوي، سنة 1421هـ - 2001م، ولم أعثر على هذا النص فيه، وإلا فهو في كتابه «البشارات والإنذارات المتلقّاة من أصدق البراءات»، ذكره له ابن عبدالملك في «الذيل والتكملة» (1/219).

 

([605]) قال صاحب «العون» (11/414): «قال القرطبي: بإسناد صحيح»، وتبعه صاحب «البذل» (17/219)، وفي هذا تجوّز؛ فالقائل هو ابن دحية لا القرطبي.

 

([606]) في «التذكرة» (2/428 - ط. البخاري): «وثقه»! والتصويب من سائر الطبعات، مثل (2/498 - ط. دار الصحابة و (2/273 - ط. دار الكتاب العربي) و(3/190 - ط. دار ابن كثير)، وفي توثيق (بشير) نزاع، يأتي بسط الخلاف بين الأئمة فيه.

 

([607]) في «تهذيب الكمال» (4/177) وقبله -باختصار- العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/144)، ومثله في «الميزان» (1/330).

 

([608]) نبه على هذا مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (2/424)، قال: «في قول المزي قال البخاري: ... نظر، من حيث إن البخاري قال هذا مقيداً بحديث لا مطلقاً، يتبين ذلك لك بسياقة كلامه....»، ولم يتنبه لهذا ابن حجر في «التهذيب» (1/411)، فهو -على العادة- ينقل كلام مغلطاي بتمامه في زياداته على كلام المزي في آخر الترجمة، مسبوقة بـ(قلت)، قال في ديباجة «التهذيب» (1/5): «وما زدته في أثناء التراجم قلت في أوله (قلت)، فجميع ما بعد (قلت) فهو من زيادتي إلى آخر الترجمة»!!

 

([609]) على الرغم من قلَّتها؛ فمشهور كتبه: «تحفة الأشراف» و«تهذيب الكمال»، وقد سدّا (ثغرة) لا يعلمها إلا الله، ونفع الله بهما طلبة علم الحديث على وجه فيه استمرار، وكادت كتبه هذه أن تكون (عمدة) للمشتغلين بهذا الفن، فجزاه الله خيراً، وهكذا فليكن التأليف والجمع: في شيء جديد نافع، لا تكرار فيه واجترار، كما هو مشاهد في كثير من الأحوال! مع سمعةٍ وطغيان، وطمع في عرض زائل ومال، ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم.

 

([610]) هذا ما نقله المزي عند المجرحين، وما بعده من مغلطاي، والعبارات نفسها في زيادات ابن حجر من «التهذيب» -أيضاً-.

 

([611]) العبارة في مطبوع «التهذيب» (1/411 - ط. الفكر) إلى «عنده» هكذا مبتورة ولا معنى لها.

 

([612]) «الضعفاء الكبير» (1/144).

 

([613]) «إكمال تهذيب الكمال» (2/424).

 

([614]) «الثقات» (6/98).

 

([615]) في «الضعفاء» له (286).

 

([616]) كذا في «تهذيب الكمال» (4/177) و«الميزان» (1/330)، وقال الخزرجي في «الخلاصة» (ص 50): «وثقه.... والنسائي».

 

([617]) كذا في «تهذيب الكمال» -أيضاً- (4/177)، ولم ينقل عباس الدوري في «تاريخه» (2/60-61) عن ابن معين منه شيئاً في «الجرح والتعديل».

 

([618]) في «ترتيب الثقات» (ص 82/رقم 157) ضمن (تضمينات ابن حجر).

 

([619]) «إكمال تهذيب الكمال» (2/424).

 

([620]) «الكامل في الضعفاء» (2/454).

 

([621]) «تهذيب الكمال» (4/178)، وقال الخزرجي في «الخلاصة» (ص 50): «له في مسلم فرد حديث».

 

([622]) «الكاشف» (1/159)، واقتصر في «ديوان الضعفاء والمتروكين» (1/123 رقم 651) على قوله: «قال النسائي: ليس بالقوي»، وقال في «المغني» (1/108 رقم 937): «تابعي صدوق، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به».

 

([623]) (ص 54/رقم 53)، وقال: «صدوق».

 

([624]) قال -مثلاً- صديقنا الشيخ علي الحلبي في تعليقه على «هداية الرواة» (5/110 رقم 5358) عند قول الخطيب التبريزي: «أبو داود»؛ علق في (هامش 3) بقوله: «بسندٍ لين»، وعلق أبو سفيان محمود البسطويسي في تعليقه على «التذكرة» للقرطبي (2/428) هامش (523): «إسناده صحيح»! وعلق مجدي السيد على «التذكرة» -أيضاً- (2/495-496 رقم 1921): «حديث حسن»، وقال الأستاذ عبدالقادر جوندل في تعليقه على «المطالب العالية» (18/320 - ط. العاصمة) -وذكر قول الذهبي في (بشير): «ثقة فيه شيء»-: «وعليه، فإن الإسناد حسن لذاته، والله -تعالى- أعلم»، ولم يُنَبِّهوا -عدا الأخير- على القلب الواقع في رواية أبي داود، مع عزوهم جميعاً الحديث إليه».

 

([625]) (ص 271-272، 273-274، 276).

 

([626]) مثل مسلم في «الطبقات» (1/182 رقم 338) -ذكره تحت (من سكن منهم -أي: الصحابة- بالبصرة)، وقال عنه: «غزا إلى مرو، فمات بها»-، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3/162 - ط. الغرباء)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (4/241 و7/365 و8/8). وانظر: «الإصابة» (1/146)، و«السير» (2/469)، و«التهذيب» (1/432).

 

([627]) نوع من نبات الأرطماسيا، من الفصيلة المركبة، قريب من نوع الشيح، كثير في البادية، ويقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم لمن خلصت بدويّته.

 

ويحتمل أن يكون المراد من الحديث ما «قد حدث أن السلطان خلال أربع مئة عام كان للترك على العرب إلا مناطق الصحراء، وهي مكان الشيح والقيصوم».

 

([628]) مع ملاحظة أن المثبت في (إسناد أبي يعلى) في مخطوطة «المطالب العالية» (ق4540/ب) المسندة: «أحمد بن إبراهيم بن المعمر: حدثني أبي...»؛ فالإسنادان بينهما فرق!

 

([629]) وهي بتحقيق الأستاذ إرشاد الحق الأثري، ظهرت سنة 1408هـ عن دار القبلة، جدة، في (6) مجلدات.

 

([630]) كذا رأيته -أيضاً- في «فتح الباري» (6/609) و«لوامع العقول شرح راموز الحديث» (5/58).

 

([631]) يعني: حديث معاوية -رضي الله عنه-.

 

([632]) «المطالب العالية» (18/322 - الهامش).

 

([633]) مولى النبي ×، اشتهر بكنيته، تدلّى في حصار الطائف ببكرة، وفرَّ إلى النبي ×، وأسلم على يديه، وهو مولى النبي ×، انظر: «الفخر المتوالي» للسخاوي (ص 53، 61/رقم 129، 150) وتعليقي عليه.

 

([634]) اسم «مسند البزار»: «البحر الزخار»، وطبع منه إلى (الجزء التاسع) بتحقيق الشيخ محفوظ الرحمن زين الله السلفي -رحمه الله تعالى-، ثم عمل بعض إخواننا المصريين على تتمته، وأرسل إليّ مدير مكتبة العلوم والحكم (ناشر الكتاب) الجزأين (العاشر) و(الحادي عشر)، وقمتُ بمراجعتهما على (عجلة)، ليظهرا مع تتمة الكتاب قريباً، يسر الله ذلك بمنّه وكرمه، ثم نمي إلي أنهما طبعا؛ فالحمد لله وحده.

 

([635]) كذا في مطبوع «العلل»، والصواب حذفها.

 

([636]) لم يخرجه د. موسى إسماعيل البسيط في كتابه «الأحاديث المسندة المرفوعة من كتاب الفتن لنعيم بن حماد»، وهو على شرطه فيه، وفاته غير حديث مرفوع!

 

([637]) هو محمد بن العلاء الهمْداني، شيخ البزار في هذا الإسناد، والراوي عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير.

 

([638]) هو ابن النعمان.

 

([639]) وكذا في «إتحاف المهرة» (13/591 رقم 17189).

 

([640]) هو الحمّاني، متَّهم بسرقة الحديث.

 

([641]) مبوب عليه في «الإحسان»: (ذكر الإخبار عن وصف قتال المسلمين الترك بأرض النخل)، وهو في (كتاب التاريخ).

 

([642]) عند أبي داود: «بغائط»، والمثبت في نسخة ابن حجر من «صحيح ابن حبان» -كما في «إتحاف المهرة» (13/584 رقم 17170): «بحائط» -أيضاً-، وسيأتيك شرح الحديث مفصلاً (ص 389 وما بعد).

 

([643]) في «مسنده»، وهو ليس في القسم المطبوع منه.

 

([644]) في «مسنده»، برواية ابن المقرئ، وليس لأبي بكرة ذكر في رواية ابن حمدان المطبوعة.

 

([645]) لم أظفر به في «زهر الفردوس»، ووقع في الطبعة الأخرى من «الفردوس» (5/424 رقم 8372) عن أبي بكر، وهو خطأ!

 

([646]) يعني: «صحيح مسلم» (رقم 1717).

 

([647]) في كتابه «الثقات» (5/64).

 

([648]) الذي يُعَلُّ به الحديث.

 

([649]) قاله ابن حجر في «الإصابة» (3/578) في ترجمة (نوفل بن فروة الأشجعي)، وانظر: «الخلافيات» (1/143، 145، 233(مهم)، 234، 154-155، 227) وتعليقي عليها.

 

([650]) «البحر الزخار» (9/118).

 

([651]) وله مع المذكورين إخوة، ذكر منهم علي بن المديني في (باب تسمية الإخوة) من كتابه «تسمية من روى عنه من أولاد العشرة» برقم (343-345) عبدالرحمن، ومسلمة، وعبدالعزيز، وذكر هؤلاء: أبو داود السجستاني في «تسمية الإخوة الذين روى عنهم الحديث»، وزاد عبيدالله، ورواداً، انظر منه: الأرقام (797-801). وزاد ابن سعد في طبقاته (7/191) عتبة مع إخوته السبعة الآخرين، وزاد عليهم رشيدالدين العطار في «غرر الفوائد المجموعة» (724-725 - الملحق بآخر كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح»): (كيّسة)، وكذلك فعل عبدالغني ابن سعيد في كتابه «المؤتلف والمختلف» (ص 109).

 

([652]) (1/340 رقم 1730)، وسقطت الترجمة من نسخة مجوَّدة بخط عبدالرحيم بن المِهتَر النّهاوندي مقابلة على عدَّة نسخ، انظر تقديمنا للكتاب (1/65-71)، ومن الجدير بالذكر أن مسلماً ترجم فيه (رقم 1726-1731) لعبدالرحمن وعبدالعزيز وعبيدالله ومسلم وعبدالله ورواد.

 

([653]) اقتصر الدارقطني في «العلل» (7/158 رقم 1270) عليه، وتابع ابن جمهان على ذكره مولى لأبي بكرة، كما سيأتي في كلام ابن أبي حاتم.

 

([654]) من كلام رشيدالدين العطار في «غرر الفوائد المجموعة» (2/724 - الملحق بآخر كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح»).

 

([655]) من كلام رشيدالدين العطار في «غرر الفوائد المجموعة» (2/725 - الملحق بآخر كتابي «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح»).

 

([656]) فيما تقدم من كلام له.

 

([657]) في كتابه «الطبقات» (1/339-340).

 

([658]) في كتاب القسامة (باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) (رقم 1679) بعد (29)، وذكرت حوله فائدة عجيبة في كتابي «مسائل أعيت العلماء»، يسر الله إتمامه وإظهاره.

 

([659]) انظر دفاعاً عن الحديث في «غرر الفوائد المجموعة» (ص 724-725) و«تنبيه المعلم» لأبي ذر سبط ابن العجمي (رقم 661)، وتعليقي عليهما، و«فتح الباري» (8/108 رقم 4406).

 

([660]) في كتابه «من كلام الإمام أحمد في علل الحديث ومعرفة الرجال» (ص 81/رقم 168).

 

([661]) «الجرح والتعديل» (4/10).

 

([662]) «مسند الإمام أحمد» (34/56 - ط. مؤسسة الرسالة).

 

([663]) قاله على إثر حديث «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً»، انظر: «السنة» (2/559) عقب رقم (1185).

 

([664]) وهو الحديث المذكور في الهامش السابق، والتصحيح والاحتجاج الآتي المقيد بحديث إنما يراد به هذا.

 

([665]) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1/825 رقم 459)، وانظر: «معجم أسامي الرواة الذين ترجم لهم العلامة محمد ناصرالدين الألباني» (2/116-117).

 

([666]) سمعت من محققه الأخ فضيلة الشيخ علي الحلبي -حفظه الله- أن أكثر من (90%) من (التحقيق الثاني) لشيخنا (الألباني) -رحمه الباري- في التعليقات على هذا الكتاب.

 

([667]) له فيه مصطلح خاصّ، وإن تطابق هذا المثال مع (الحسن) الاصطلاحي.

 

([668]) في طبعة الأخ الشيخ محمد بن صالح الدباسي من «العلل» (3/275): «مولى لأبي بكرة».

 

([669]) من كلام العلامة المعلمي في «الأنوار الكاشفة» (263)، وانظر: «بلوغ الأماني من كلام المعلّمي اليماني/ فوائد وقواعد في الجرح والتعديل» (ص 113).

 

([670]) «الحديث المعلول، قواعد وضوابط» (ص 73).

 

([671]) «شرح العلل» (ص 252) لابن رجب.

 

(فائدة) أطلق التهانوي في «قواعد في علوم الحديث» (ص 259) بأن المتقدمين يطلقون النكارة على مجرد التفرد، وقيده اللكنوي -رحمه الله- في «الرفع والتكميل» (ص 200) بالأغلب، وهو أدق من قول التهانوي، وإن لم يسلم من تأمل، كيف والبخاري يطلقه على من لا تحلُّ الرواية عنه؟ وأبو حاتم وغيره من الأئمة يطلقه على سبيل الجرح، نعم لقد عرف عن بعضهم أنه يقوله بمعنى التفرد، ولكن مع ذلك تجد هؤلاء يطلقونه بمعنى الجرح، ومن نظر في كتاب «العلل ومعرفة الرجال» للإمام أحمد -رحمه الله-؛ علم أنه يطلق لفظ النكارة كثيراً بمعنى الجرح، والله أعلم. وانظر: «نقض قواعد في علوم الحديث» للشيخ بديع الدين السندي (ص 307-308)، «شفاء العليل» لأخينا الشيخ أبي الحسن المصري (ص 173).

 

([672]) قال ابن حجر في «تعجيل المنفعة» (ص 277 - ط. الهندية، و2/852 - ط. دار البشائر) في ترجمة (عبيد بن أبي قُرَّة البغدادي): «زعم الذهبي في «الميزان» أن حديث الليث المذكور باطل»، قال: «وفي كلامه نظر، فإنه من أعلام النبوة، وقد وقع مصداق ذلك، واعتمد البيهقي في «الدلائل» [6/518] عليه، ...»؛ فتأمل!

 

([673]) قال ابن قتيبة في مقدمة كتاب «إصلاح الغلط» (ص 46-47): «قد كنّا زماناً نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم(!!)، وكنّا نؤمّل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا يُنكر مع تغيُّر الزمان، وفي الله خَلَفٌ، وهو المستعان».

 

([674]) هنا ثلاث ملاحظات مهمات، وكليّات معتبرات، وإفاضات وإضافات:

 

الأولى: مُخطئٌ أشدَّ الخطأ من تجاوز (قواعد العلماء) باسم (التجديد) -زعموا-، ومخطئ من لم يعرف (الثابت) من (المتغيّر) من (الأحكام)، سواء الفقهية منها أو الحديثية، ومخطئ من جمد على (النتائج) التي تَوَصّل إليها الأقدمون، ولم يلحَظْ ما استجدَّ من (أشياء)، أو قال بما قالوا، ولم يعرف من أين أخذوا، والحق -كعادته- متأرجح بين هذين الصنفين، الغالي والجافي، وهو وسط بينهما.

 

الثانية: ما أشرتُ إليه نظير ما قاله الفقهاء (لا ينكر تغير الأحكام بتغيُّر الأزمان)، وكم بودّي لو أن نابهاً متفنناً من (طلبة العلم) أفرد (الأشباه والنظائر) في كليات العلوم، وهذا يحتاج إلى شبعان ريّان منها جميعاً، ومن سبر أغوارها، ومعرفة أحوالها وأقسامها.

 

الثالثة: من تجاوزات بعضهم: المناداة بتصحيح الحديث بناءً على موافقة الواقع له (!!)

 

ويعجبني كلام صاحب «في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 11-12) حيث قال بعد كلام:

 

«ولهذا؛ فغير معتبرٍ من مجتهدٍ كائناً من كان، وضعُ منهجٍ مغايرٍ تمامَ المغايرة عن المناهج التي توصَّل إليها علماء الحديث منذ عشرات القرون، فلو اشْتَرَط لصحة الحديث وقبوله -على سبيل المثال- عدمَ مخالفته للواقع الذي يعيش فيه، أو عدمَ مخالفته لما توصَّل إليه العلمُ الحديثُ في عصرٍ من العصور، واتَّخذ ذلك الشرطَ أساساً لتصحيح وتضعيف الحديث، كان منهجه ذاك منهجاً مردوداً في أساسه، لكون واقعه لاحقاً ومختلفاً عن الواقع الذي ورد فيه النصُّ النبوي، بل لكون منهجٍ كهذا متعدياً على الأمر المقرر عند أهل العلم، وهو أنّ الواقع هو الذي يحتكم إلى النص، وليس العكس؛ لأن النص أسبق منه، ولأنّ النص أكثر منه استيعاباً، إذ هو للماضي والحاضر والمستقبل، ونصٌّ شأنُه كذلك، ينبغي أن يَحكُم على الواقع، فيعدِّلُه، ويصلحُه، ويعالج اعوجاجَه، وما هو منحرفٌ منه، وليس العكس».

 

([675]) يحتمل -أيضاً- أن تكون النكرة في آخره، ولا سيما مع عرضه على سائر النصوص، والظاهر من كلامه ما قدمناه من عدم قبوله جملةً، دون هذه التفريعات والتفصيلات، وإلا لصرّح بذلك، وليته فعل!

 

([676]) الأخبية: جمع خباء؛ وهي البيوت، والمراد بهم أهل الكوفة، وسيأتي إيضاحه مفصلاً.

 

([677]) وكذا آخره عند ابن سعد، ولفظه: «إلا أتاهم ما يشغلهم عنهم».

 

([678]) انظر: «التهذيب» (1/443)، و«جامع التحصيل» (ص 151/رقم 69)، و«تحفة التحصيل»: (ص 40).

 

([679]) انظر: «تهذيب الكمال» (10/130-133)، «جامع التحصيل» (ص 179-180 رقم 218)، «تحفة التحصيل» (ص 120-121).

 

([680]) من الجدير بالذكر أن ابن حجر في «المطالب العالية» (17/150 رقم 4194 -     ط. العاصمة) وضع هذه الرواية في (باب فضل البلدان) وبوب عليها (باب البصرة والكوفة).

 

([681]) في سماعه من حذيفة نظر، حذيفة توفي سنة ست وثلاثين، ونعيم سنة عشر ومئة، وانظر: «تهذيب الكمال» (29/497-499).

 

([682]) تذكر قول حذيفة: «قام فينا رسول الله × مقاماً، فحدَّثنا بما هو كائن إلى قيام الساعة، فحفظه من حفظه، ونسيه من نسيه» أخرجه البخاري (6604)، ومسلم (2891).

 

وقد كان النبي × يرتّل كلامه ويفسِّره، فلعله قال في مجلسه ذلك ما يُكتب في جزء، فذكر أكبر الكوائن، ولو ذكر ما هو كائن في الوجود، لما تهيّأ أن يقوله في سنة، بل ولا في أعوام، ففكر في هذا. قاله الذهبي في «السير» (2/366).

 

قلت: وأكبر الكوائن التي تخص الفتن فيما مضى، وما عايشناه، وما أخبرنا عنه النبي × فيما بلغنا وتحققنا ثبوته في العراق (عراق العرب والعجم).

 

([683]) ومن لم يكن من أهل هاتين الفروسيتين، ولا ردءاً لأهلهما؛ فهو كلّ على نوع بني الإنسان.

 

([684]) ذكر مسلم في كتابه «الطبقات»: (89) صحابياً و(11) صحابية ممن سكن الكوفة، بينما ذكر (461) من تابعي أهل الكوفة، فالنشاط الحديثي -إذ مسلم اقتصر على ما يخص علم الحديث- فيها كاد أن يضاهي المدينة، ولا عجب من ذلك؛ فرجال العلم وُجدوا حيث كانت مراكز الثقافة، وقد كان -أيضاً- للدور السياسي الذي لعبته الكوفة في القرن الأول الهجري خاصة أثر كبير في تنشيط الرواية فيها، أما دور البصرة في الرواية؛ فهو يلي دور الكوفة، فقد نزلها (61) صحابيّاً، و(4) صحابيات، و(294) تابعياً.

 

وسمى الذهبي في كتابه «الأمصار ذوات الآثار» (ص 174-177) أعيان الصحابة والتابعين ومشاهير الخالفين ممن سكن الكوفة، وقال: «وما زال العلم بها متوفراً»، قال: «ثم تناقص شيئاً فشيئاً، وتلاشى، وهي الآن دار الروافض».

 

وقال في «تذكرة الحفاظ» (3/840): «الكوفة تَغلي بالتشيّع، وتفور، والسُّنيُّ فيها طُرفة».

 

قلت: ومن وضع الرافضة على عليّ -رضي الله عنه- ما أخرجه ابن سعد في «طبقاته» (6/6) بسندٍ فيه وضاع، قال: «الكوفة جمجمة الإسلام، وكنز الإيمان، وسيف الله ورمحه، يضعه حيث يشاء، وأيمُ الله! ليُنصَرنَّ الله بأهلها في مشارق الأرض ومغاربها كما انتصر بالحجارة». ونحوه حديث  مرفوع آخر عند ابن عساكر، فيه: «الكوفة فسطاط الإسلام، والبصرة فخر العابدين»، انظره بطوله في «اللآلئ المصنوعة» (2/466-467).

 

([685]) راويه عن عليّ أبو خيرة، وله عنه أثر آخر في «تاريخ دمشق» (12/ق395) نعت فيه: «وكان من أصحاب عليّ».

 

([686]) الجؤجؤ: الصدر، وقيل: عظامه، والجمع (الجآجي)، انظر: «النهاية» (1/232).

 

([687]) سيأتي (ص 521) نحوه من كلام كعب الأحبار، وسيأتي بيان معناه.

 

([688]) له «أخبار البصرة»؛ مفقود من قديم، قال الذهبي في «السير» (12/371): «لم نره»، ووصفه بأنه كبير، وفي «الفتح» نقولات مليحة منه، ولا سيما في الفتنة التي جرت بين الصحابة تأذن بوقوف ابن حجر عليه، انظر تعليقنا عليه في: «معجم المصنفات الواردة في فتح الباري» (ص 45).

 

([689]) عزاه ابن حجر في «المطالب العالية» (17/146 رقم 4193) لعبدالله بن أحمد في «زيادات الزهد»، وهو ليس في القسم المطبوع منه.

 

([690]) عزاه ابن حجر في «المطالب العالية» (17/149 رقم 4193)، والسيوطي في «الخصائص الكبرى» (2/151) لعبدالله بن أحمد في «زيادات الزهد»، وهو ليس في القسم المطبوع منه.

 

([691]) وهو في المطبوع (1/59 رقم 165) دون سند! ولم يعزه في «كنز العمال» (12/308 رقم 35151) إلا له!

 

([692]) في المطبوع: «دينا» دون راء في آخره!

 

([693]) بوّب عليه الهيثمي في «تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية» (3/245 رقم 3689): (باب فضل البصرة).

 

([694]) وهو غير موجود في ترجمة (أبي ذر: جندُب بن جنادة) (3/996-1005 رقم 139 - ط. الباز).

 

([695]) في «المجروحين» (2/313).

 

([696]) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (1/586)، وانظر: «معجم أسامي الرواة الذين ترجم لهم العلامة الألباني» (4/170-171).

 

([697]) لم يعزه في «كنز العمال» (12/307 رقم 35150) إلا له!

 

([698]) (ص 434) هامش (1).

 

([699]) وهو مثبت في «هداية الرواة» (5/111-112) وفيه عن حديثنا: «إسناده صحيح».

 

([700]) هو الأخ عمرو عبدالمنعم -حفظه الله تعالى-.

 

([701]) وانظر: «الميزان» (3/164) و«تصحيفات المحدثين» (2/573)، و«ضعفاء ابن الجوزي» (2/201)، و«المغني» (2/458).

 

([702]) وكذا في «الميزان» (4/255) و«المغني» (2/697) -وفيهما: «لا يعرف»-، و «اللسان» (6/191 - ط. دار الفكر و8/272 - ط. أبو غدة)، وأوردا الحديث، ونقل ابن حجر كلام العقيلي عليه، وعليه؛ فمن المحتمل أن يكون (ابن زربي) الأول متابعاً عليه، وانحصرت العلة في (النضر)، مع احتمال تحريف (زريق) عن (زربي)، وإن كان في كلام الإمام العلائي الآتي التصريح بعدم تفرد ابن زربي به.

 

([703]) في «اللآلئ المصنوعة» (2/468-469).

 

([704]) في «تنزيه الشريعة» (2/51 رقم 15).

 

([705]) مع التنويه إلى زياداتنا في مصادر التخريج على ما ذكراه -رحمهما الله-، ووجدت شاهداً مرفوعاً رابعاً عن علي -رضي الله عنه-، أشار إليه ياقوت في «معجم البلدان» (1/436)، ثم ظفرتُ به بعد بحث عند ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/315-316) -ولم يعزه يوسف أوزبك في «مسند علي» (2/569) إلا له-، قال: حدثني محمد بن عبدالعزيز، قال: حدثنا يزيد بن  خالد بن عبدالله بن ميمون الحرّاني، عن عوف بن أبي جميلة، عن الحسن البصري، قال: لما قدم عليٌّ -رضي الله عنه- البصرة ارتقى على منبرها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل البصرة، يا بقايا ثمود، ويا جند المرأة [يعني بالمرأة: عائشة]. ويا أتباع البهيمة [يعني بالبهيمة: الجمل الذي ركبته عائشة، وبه سمي هذا اليوم، وهو معروف مشهور]، رَغَا فاتّبَعتم، وعُقر فانهزمتم، أما إني لا أقول رغبة فيكم ولا رهبة منكم، غير أني سمعت رسول الله × يقول: «تفتح أرض يقال لها البصرة أقوم الأرضين قبلةً، قارئها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدقها أعظم الناس صدقة، وتاجرها أعظم الناس تجارة، منها إلى قرية يقال لها الأُبُلَّة [بلدة قديمة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، ويبعد عنها أربعة فراسخ، وإليها ينسب نهر الأُبُلَّة، الذي هو أحد متنزهات الدنيا الأربعة، وهي من جنات الدنيا. انظر: «وفيات الأعيان» (1/418، 425)، و«معجم البلدان»، و«نهاية الأرب» (9/179)] أربعة فراسخ، يُستشهد عند مسجد جامعها أربعون ألفاً، الشهيد منهم يومئذ كالشهيد معي يوم بدر».

 

وإسناده المذكور هكذا وقع في طبعتي «عيون الأخبار»، والذي يروي عن عوف خالد بن عبدالله بن عبدالرحمن بن يزيد الطحان الواسطي، وهو غير المذكور هنا.

 

وأما يزيد بن خالد، فشيخ لبقية مجهول.

 

ولعل صواب الإسناد: (عن عبدالله بن ميمون)، وترجم في «الميزان» (2/512) لاثنين؛ أحدهما مجهول، والآخر متروك؛ فالإسناد لم يصح.

 

([706]) كذا في «الأوسط»، وبدونها في «مجمع البحرين» (7/297 رقم 4484)، وبوب عليه (باب في الخسف والمسخ والقذف)، وقال: «قلت: في «الصحيح» طرف منه»؛ يريد آخره لا أصل الحديث، و«اللآلئ» (2/468) ووضعه في (مناقب البلدان والأيام).

 

([707]) ثبت دعاؤه × لأنس بأكثر من شيء؛ منها: تكثير المال والولد، وثبت -أيضاً- دعاؤه بذلك على من لم يؤمن به ويصدّقه، وللسخاوي «السر المكتوم» في الجمع بين الحديثين، ثم رأيت له في دار الكتب المصرية جواباً بخطه على الجمع بين هذين الحديثين، وقد فرغتُ -ولله الحمد- من تحقيقهما، وهما قيد النشر عن دار الإمام مالك بن أنس، بالإمارات العربية.

 

([708]) له ذكر في كتب التراجم -وهو غير صاحب «الأمالي» المطبوعة-: ترجمه السيوطي في «بغية الوعاة» (1/159 رقم 266)، وقال: «روى عن عبدالله بن أيوب المخزومي وغيره، وحدّث عنه الطبراني»، قال: «كذا رأيت بخط ابن أم مكتوم من غير زيادة»، فهو غير معروف، وانظر: «بلغة القاصي والداني» (1/494 رقم 579).

 

([709]) التعليق على «الفوائد المجموعة» (ص 434/هامش 2).

 

([710]) وأخرج ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/316) عن خالد بن ميمون، قال: «البصرة أشد الأرض عذاباً، وشرها تراباً، وأسرعها خراباً».

 

وعلق عن علي -رضي الله عنه- قوله: «يا أهل البصرة والبُصيرة والسُّبيخة والحُرَيبة، أرضكم أبعد الأرض من السماء، وأبعدها من الماء، وأسرعها خراباً وغرقاً».

 

([711]) وصحفت في مطبوع «اللآلئ» (2/469) إلى «غدوتها... سوقها»!!

 

([712]) أي: نازلاً إلى البصرة.

 

([713]) وكذا قال محقق «الدلائل» الدكتور محمد بن عبدالله القناص (2/927).

 

([714]) انظر: «تهذيب الكمال» (29/145) -والتعليق عليه-، و«الميزان» (4/221 رقم 8923)، و«اللسان» (2/328-329).

 

([715]) انظر: «إصلاح المنطق» (181) و«القاموس المحيط» (ص 1689 - مادة (عذا)).

 

([716]) المتقدم قريباً (ص 333).

 

([717]) انظرها عنده في «الدلائل في غريب الحديث» (2/927، 928).

 

([718]) هو المسمى بـ«الحنائيات»، وقد فرغتُ -ولله الحمد والمنة- من التعليق عليه، وتخريج أحاديثه وآثاره، وعملته على سبع نسخ خطية، وهو قيد النشر عن مكتبة المعارف-الرياض، يسّر الله ذلك بمنّه وكرمه.

 

([719]) له كتاب «الفوائد»، محفوظ في الظاهرية، ضمن مجموع (80-ج2 - ق 8-28)، انظر: «فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، المنتخب من مخطوطات الحديث» (ص 24 رقم 8 - بمراجعتي) لشيخنا الألباني -رحمه الله تعالى-.

 

([720]) انظر: «المغني» (2/621)، و«الكاشف» (3/84).

 

([721]) تجد أمثلة من خراب الجانب الشرقي من بغداد في (نزاع المأمون مع أخيه الأمين)، وكذا في (اجتياح هولاكو)، وفي (الحروب الحديثة) -أيضاً-، وانظر في ذلك: «أطراف بغداد» (285-286، 288).

 

([722]) سقط من روايته ذكر (قيس بن أبي حازم)، ولعله من ناسخ الأصل، والكتاب حقق على نسخة واحدة، محفوظة في دار الكتب المصرية، ولم يذكر بروكلمان (2/76) ولا «فهرس مخطوطات آل البيت» (3/1530 رقم 877) غير هذه النسخة.

 

([723]) ترجمته في «تاريخ الرقة» (ص 181 رقم 110) و«الميزان» (1/566) وفيه: «قال أبو أحمد الحاكم: حدث بغير حديث لم يتابع عليه».

 

([724]) انظر: «الإرشاد» (2/474)، «تاريخ الرقة» (ص 161)، «الميزان» (1/566)، «المغني» (1/181)، و«اللسان» (2/328-329).

 

([725]) ثم ظفرتُ بعد تخريج الحديث المذكور بكلام لشيخنا الألباني -رحمه الله- عليه في «السلسلة الضعيفة» (رقم 1659)، واقتصر على ذكر (المرفوع)، وعزاه لبعض المصادر التي سردتُها، وقال عنه: «ضعيف».

 

([726]) بوب الهيثمي في «مجمع البحرين» (7/217) (باب أسرع الأرض خراباً يُسراها)، وبوب عليه صاحب «الروض البسام» (5/145): (باب أول الأرضين خراباً)، وفي رواية عند الديلمي: «أسرع الأرضين...». انظر: «فيض القدير» (1/505 و3/81).

 

([727]) عزاه له الهيثمي في «المجمع» (5/281 و7/304) -وأورد كلام الذهبي الآتي في (عَميرة)- وابن حجر في «الإصابة» (4/624).

 

([728]) أسرع -رضي الله عنه- في وضع الحديث في غير محلّه! ولذا قال الليث بن سعد: «فكان معهم -أي: مع أهل مصر- في أشرِّ أمورهم». نقله ابن شبة في «تاريخ المدينة» (4/117)؛ أي: في سيرهم في قتل عثمان -رضي الله عنه-.

 

([729]) له «الجامع»، منه نسخة عتيقة وحسنة جدّاً، محفوظة في الزيتونة بتونس، فيها (باب أشراط الساعة)، وكثير من نقولات العلماء منه، وبظهوره تحصل فوائد زوائد فرائد، ولا سيما في أحاديث الفتن! يسر الله ذلك في أحسن حال، وأهدأ بال.

 

([730]) وكذا في «إتحاف المهرة» (12/472 رقم 15949).

 

([731]) في مطبوع «كشف الأستار» (2/261) -وبوب عليه (باب فضل الرباط)!-: «عبدالله ابن شريح»؛ وهو خطأ، ووقع على الصواب في «البحر الزخار».

 

([732]) ذكره ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 51/رقم 45)، ولم يعزه إلا لنُعيم، وسكت عنه!

 

([733]) «المفهم» (3/763-764) لأبي العباس القرطبي، بتصرف يسير.

 

([734]) «الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج» (4/514). وانظر كلاماً للسخاوي على الحديث في جزئه «جواب عن تزوير اليهود كنيسة بيت المقدس» المنشور في مجلتنا «الأصالة» (عدد 20)، السنة الخامسة، 15/شوال/سنة 1421هـ، (ص 34-44)، وهو مضمن في «الأجوبة المرضية» (3/1015-1032)، وانظر عنه: كتابنا «مؤلفات السخاوي» (رقم 178 - الطبعة الثانية).

 

([735]) طبع منها الكثير؛ وهذا أهمّها: «فضائل الشام» للرَّبعي، خرج أحاديثه شيخنا الألباني، و«فضائل الشام» للسمعاني، و«ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام» للعز بن عبدالسلام، و«فضائل الشام» لمحمد عبدالهادي، و«فضائل الشام» للإمام ابن رجب، و«الإعلام بسنّ الهجرة إلى الشام» للبقاعي، و«حدائق الإنعام في فضائل الشام» لعبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي، و«إتحاف الأنام في فضائل المسجد الأقصى والشام» لصديقنا هشام العارف.

 

ومن بديع كلام ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 74-75) قوله:

 

«لأنّ الشام في آخر الزمان بها يستقر الإيمان، وملك الإسلام، وهي عُقر دار المؤمنين، فلا بد أن يكون فيها من ميراث النبوة من العلم ما يحصل به سياسة الدين والدنيا، وأهل العلم بالسنة النبوية بالشام هم الطائفة المنصورة القائمين بالحق، الذين لا يضرهم من خذلهم».

 

ودلل على ذلك بالأحاديث النبوية، فرحمه الله -تعالى-، فقد أجاد وأفاد.

 

وكذلك صنع السخاوي في «الأجوبة المرضية» (2/452-457 سؤال 114)؛ فإنه سئل عن مصر والشام: أيهما أفضل؟ فساق الأحاديث والآثار في فضل كلٍّ منهما، وقال في آخر الجواب:

 

«وبالجملة؛ فالأحاديث في فضل الشام أشهر، وفخرها أظهر وأكثر. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

 

ومن تأويل الإمام مالك لقوله -تعالى-: {زَيتُونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ ولا غَربِيَّةٍ} [النور: 35]، قال:

 

«هي الشام، العراق شرق، ومصر غرب». أخرجه عنه بسندٍ حسن: الدورقي في «مسند سعد بن أبي وقاص» (ص 196 رقم 117)، وذكره عنه ابن العربي في «أحكام القرآن» (3/1387). وانظر: «الإمام مالك مفسراً» (ص 297 رقم 660).

 

([736]) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (2/654 رقم 965).

 

([737]) المراد: حديث أبي هريرة عند مسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها...». ومضى بتمامه مع تخريجه وكلام الأئمة عليه.

 

([738]) المراد: قوله الذي أخرجه مسلم: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم...». ومضى بتمامه مع تخريجه وكلام الأئمة عليه.

 

([739]) هل هم من حيث الكثرة إلا العراق ومصر؟! فهم من حيث العدد أكثر من النصف، فكيف إذا ضممت لهم أهل الشام؟

 

([740]) انظر بعضاً منها في: «التاريخ الكبير» (4/344)، و«مصنف ابن أبي شيبة»= =(12/195)، و«جامع الترمذي» (5/724)، و«سنن ابن ماجه» (4077)، و«المعجم الكبير» (8/370)، و«معجم ابن قانع» (308)، و«تاريخ دمشق» (1/186، 243-244، 296-297)، و«كنز العمال» (14/252-253 رقم 38618-38621)، وكتب (فضائل الشام)؛ منها: «فضائل الشام» للربعي (ص 38)، و«فضائل الشام» لابن رجب (ص 66-74، 109-127)، و«السلسلة الصحيحة» (3079)، و«تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التاريخ الكبير» (3/1215-1216 رقم 1044)، ودراستي عن (العجم) و(الروم) في أحاديث الفتن، يسر الله إتمامها ونشرها بخير وعافية.

 

([741]) «فضائل الشام» (ص 66)، وكان هذا المعنى مركوزاً في نفوس الصحابة والتابعين. انظر: «تاريخ دمشق» (1/276)، وانظر فيه -أيضاً- (1/275) قصة وضع فيها تابعي أثراً لابن مسعود في غير وقته، وإنما محله آخر الزمان!

 

([742]) سقطت من طبعة عبدالمنعم عامر!

 

([743]) في طبعة الحجيري: «غانم»! وهو خطأ.

 

([744]) مع مروان سنة خمس وستين. انظر: «تاريخ دمشق» (35/317، 318).

 

([745]) في طبعة عبدالمنعم عامر: «عبدالله بن عُمر»!.

 

([746]) الخبر في: «مروج الذهب» (2/93-94)، «الخطط» للمقريزي (3/63)، «حسن المحاضرة» (1/18)، «الأجوبة المرضية» للسخاوي (2/454).

 

([747]) سيأتي ذكر ما وقفتُ عليه منها في فصل مفرد قريباً.

 

([748]) مع مراعاة أنه لم يبيِّن جابر في كلامه المتقدم -وهو في «صحيح مسلم»- مَن الذي يمنع مصر خيراتها، بينما صرح أن العراق يمنعها العجم، وأن الشام يمنعها الروم، وقدمنا (ص 251-252) الفرق بين (العجم) و(الروم)، والله الموفق.

 

([749]) سَلْع: جبل بسوق المدينة، وهو أشهر جبال المدينة على صغره، وأصبح الآن يحيط به عمرانها من كل اتجاه. انظر: «معجم البلدان» (3/236)، «معجم المعالم الجغرافية» (ص 160).

 

وتحرف في مطبوع «الفتن» إلى: «يسلع»؛ فلتصحح.

 

([750]) للحديث أصل محفوظ، وهذا البيان:

 

أخرج ابن أبي شيبة في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (17/561 رقم 4338 -  ط. العاصمة)- من طريق طلحة بن عمرو: ثنا عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية الجرمي، عن زيد ابن خالد الجهني، عن أبي ذر... وذكر قصة، ورفع إلى النبي × قوله: «إذا رأيت البناء على جبل سلع، فالحق بالعرب أرض قضاعة، فإنه سيأتي يوم قاب قوس أو قوسين، أو رمح أو رمحين».

 

وإسناده ضعيف جدّاً، طلحة بن عمرو متروك، إلا أنه توبع، فقد أخرجه ابن الأعرابي في «المعجم» (1/75 رقم 109) من طريق صالح بن عمر -وهو ثقة-، عن عاصم، به. ولفظه: «... فألحق بالمغرب أرض قضاعة، فإنه سيأتي يوم قاب قوسين أو رمح أو رمحين؛ يعني: خير من كذا وكذا».

 

وهذا إسناد حسن.

 

والمراد: الشام؛ فإنها الغرب. ووقع التصريح بذلك في الحديث نفسه من حديثي معاوية ابن حيدة، وأبي أسيد الأنصاري، انظرهما في «تاريخ دمشق» (1/91، 98).

 

وورد نحوه في أحاديث عديدة تدلل على فضل الشام، ذكرتُ بعضها في تعليقي على «الحنائيات» (رقم 172).

 

وحديث أبي الدرداء، ذكره الذهبي في «السير» (2/70) معلقاً عن عاصم، ولم يعزه لأحد، وعزاه المتّقي الهندي في «كنز العمال» (11/187 رقم 311159) لابن عساكر.         =

 

=       قلت: انظر له: «تاريخ دمشق» (66/198، 200).

 

وأخرج الفاكهي في كتاب «مكة» من طريق مجاهد، قال: قال عبدالله بن عمر: يا مجاهد! إذا رأيت الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخشابها، فخذ حذرك»، وفي رواية: «فاعلم أنّ الأمر قد أظلّك». أفاده ابن حجر في «الفتح» (3/507). والمراد «يعلو أخشابها»؛ أي: منى في مكة، كما هو حاصل الآن.

 

([751]) انظر: «الميزان» (3/643).

 

([752]) انظر: «الأحاديث المسندة المرفوعة من كتاب الفتن» لموسى البسيط (ص 134 رقم 157).

 

([753]) يقال: جثم الطير جثوماً، وهو بمنزلة البروك للإبل. انظر: «النهاية» (1/239).

 

([754]) نضب الماء: إذا غار ونفد. انظر: «النهاية» (5/68).

 

(فائدة): أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (2/642 رقم 1795) بسند واهٍ جدّاً عن سعيد ابن مسروق رفعه -وهو معضل-: «تغور المياه كلها، وترجع إلى أماكنها إلى نهر الأردن ونيل مصر».

 

([755]) وذكره المقريزي في «خططه» (1/334).

 

([756]) لم أظفر به في طبعتَيِ «الفردوس»، ونسبه للديلمي أبو الفرج بن الجوزي في «روضة المشتاق، والطريق إلى الملك الخلاق»، ونقله عنه القرطبي في «التذكرة» (3/356 - ط. دار ابن كثير، و2/683-684 رقم 2270 - ط. دار الصحابة)، وقد وجدته  منسوباً للديلمي -أيضاً- عند السيوطي في «رفع شأن الحبشان» (ص 378-379)، وأوله عنده: «يبدو الخراب».

 

ثم ظفرتُ به على طوله عن كعب قوله بألفاظ متغايرة، انظرها عند: نعيم بن حماد في «الفتن» (1/308 رقم 892)، والحاكم (4/462)، وأبي عمرو الداني (4/880-881 رقم 454، 455)، وأورده المقريزي في «خططه» (1/334)، ولفظ الداني: «الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الجزيرة، والكوفة آمنة من الخراب حتى تكون الملحمة». وأرمينية هي الآن إحدى الجمهوريات السوفياتية، وقد أصيبت بزلزال عظيم من نحو بضع سنوات!

 

ونحوه عند الداني (456، 611) عن وهب بن منبه قوله.

 

وظفرتُ بنحوه عن أبي هريرة عن رسول الله أو كعب، أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1/347-348 رقم 344).

 

([757]) الخبر في «تاريخ صنعاء» (ص 46، 99، 391)، و«محاضرة الأبرار» (2/348)، و«عيون الأخبار» (1/216)، وفي «بهجة المجالس» (3/181): «كان يقال...»، وأورده أبو حيان التوحيدي في «البصائر والذخائر» (3/145) عن أبي هريرة!! ثم ظفرتُ به مسنداً عنه عند ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/316).

 

([758]) هذا يؤكّد أن (البصرة) ذكرت لكونها عَلَماً على (العراق) آنذاك، وإلا فـ(الكوفة)      -مثلاً، وكانت معروفة -أيضاً- آنذاك- مثلها، فأسند ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/318) بسند صحيح عن إبراهيم التيمي، قال: لما أُمِرت الأرض أن تغيض غاضت، إلا أرض الكوفة فلغيت، فجميع الأرض تُكربُ على ثورين، وأرض الكوفة تُكرب على أربعة ثيران.

 

وذكر -أيضاً- (1/316) عن شعيب بن صخر، قال: تذاكرت عند زياد البصرة والكوفة، فقال زياد: لو ضلّتِ البصرة لجعلتُ الكوفة لمن دلّني عليها. ونقل عن ابن سيرين، قال: كان الرجل يقول: غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة، عزله عن البصرة، واستعمله على الكوفة.

 

([759]) انظر: (ص 544).

 

([760]) عند مسلم (رقم 2913) بعد (67)، والحديث تقدم (ص 248).

 

([761]) من كلام ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 66).

 

وعليه يحمل ما أخرجه أحمد في «المسند» (5/278)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (6/72)، والنسائي في «المجتبى» (6/42)، وابن عدي في «الكامل» (2/583)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (رقم 288)، والطبراني في «الأوسط» (6737) و«مسند الشاميين» (رقم 1851)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/176)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/197) من حديث ثوبان رفعه:

 

«عصابتان من أمتي أحرزهم الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم». وإسناده حسن.

 

وما أخرج -أيضاً- أحمد (2/228-229، 369)، والنسائي (6/42)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (291)، والحاكم (3/514)، والبيهقي (9/176) وفي «الدلائل» (6/336)، وأبو نعيم (8/316-317) عن أبي هريرة، قال: وعدنا رسول الله × غزوة الهند. وإسناده حسن لغيره. وانظر: «العلل» (1/334) لابن أبي حاتم، و«الميزان» (1/388).

 

([762]) تحرف في مطبوع «المعرفة» إلى (عروة)! وانظر: «تصحيفات المحدثين (3/971) للعسكري، و«الإكمال» (6/200).

 

([763]) بوانيه؛ أي: خيره، وما فيه من السَّعة والنعمة. والبواني في الأصل: أضلاع الصدر، وقيل: الأكتاف والقوائم. الواحدة: بانية. كذا في «النهاية» (1/164).

 

([764]) بثنية: البثنية: حنطة منسوبة إلى البثنة، وهي ناحية من رستاق دمشق، وقيل: هي الناعمة اللينة من الرملة اللينة، يقال لها: (بثنية)، وقيل: هي الزبدة؛ أي: صارت كأنها زبدة وعسل؛ لأنها صارت تُجبَى أموالُها من غير تعب. كذا في «النهاية» -أيضاً- (1/95).

 

وقال صاحب «مراصد الاطلاع» (1/163): «البَثْنَة -بالفتح ثم السكون ونون-: اسم= =ناحية من نواحي دمشق، وهي البثنية، وقيل: البثنة؛ هي: قرية بين دمشق وأذرعات». وانظر: «معجم البلدان» (1/338).

 

([765]) هو ابن مسلم الصفار، شيخ أحمد في هذا الأثر، ولم يعزه في «إتحاف المهرة» (4/409 رقم 4456) إلا لأحمد.

 

وذكر عباس الدوري في «تاريخه» (2/408 رقم 1979) شك عثمان -هذا- عن ابن معين، قال: «قال عفان في حديث: «إذا ألقى الشام بوانيه ومات عليه، وأما غير عفان فحدث به: «إذا ألقى الشام بواتيه»! كذا فيه، وفي «تاريخ دمشق» (40/312)!!

 

([766]) ضبط بكسر الباء واللام وتشديد الياء آخر الحروف؛ أي: إذا كانوا طوائف وفِرَقاً من غير إمام، وكل من بَعُد عنك حتى لا تعرف موضعه فهو بذي بِليّ. كذا في «النهاية»، ونحوه في «تاريخ دمشق» (40/313).

 

([767]) كذا في «الميزان» (3/66)، و«المغني» (2/432 رقم 4105)، و«ديوان الضعفاء» (2/154 رقم 2812)، و«لسان الميزان» (4/167).

 

([768]) وللمذكور هنا شاهد آخر، خرجه شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (1682).

 

([769]) «ديوان الضعفاء» (478 - آخره).

 

([770]) انظر تحديده فيما سيأتي (ص 226).

 

([771]) من كلام أبي عبيد في «غريب الحديث» (4/30).

 

([772]) هذان اللفظان نبويان ثابتان في «صحيح مسلم» من حديث عبدالله بن عمرو سيأتي بتمامه (ص 537-538)، وانظر تعليقنا عليه.

 

([773]) لفظه فيه: «عن النبي × أنه كان يتعوذ بالله...». فجعله في المرفوع، خلافاً لما في سائر المصادر، والعجب أن مؤلف «الأحاديث المسندة المرفوعة من كتاب «الفتن» لنعيم بن حماد» (ص 138 رقم 167، 168، 170) أورده في كتابه من طرقه الثلاثة! وهو ليس على شرطه، وضعّفه بما هو ليس بعلة له، فتعلّق بشيوخ نعيم، وهم متابعون، ولم يذكر -كعادته- مصادر الحديث!

 

([774]) جعله بعض الرواة عن حريز: «الوليد بن أزهر الهوزي»، قال ابن عبدالبر: «هكذا قال (الوليد بن أزهر! وروى غيره عن حريز، بن عثمان، عن أبي الوليد أزهر بن راشد».

 

([775]) كذا في مطبوعه، وهو مليء بالأخطاء والتحريفات، وصوابه: «حريز»، ونقله عنه ابن حجر على الجادّة.

 

([776]) كذا جعله مرفوعاً! وهو موقوف.

 

([777]) رتب ابن حجر كتابه «الإصابة» على الحروف، وجعل في كل حرف (أربعة) أقسام:

 

القسم الأول: فيمن وردت صحبته بطريق الرواية عنه أو عن غيره، سواء كانت الطريقُ صحيحةً أو حسنةً أو ضعيفةً، أو وقع ذكره بما يدلّ على الصحبة بأيّ طريق كان، مع تمييزه ذلك في كل ترجمة.

 

القسم الثاني: فيمن ذُكِر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي × لبعض الصحابة من النساء والرجال، ممن مات رسول الله × وهو في دون سنّ التمييز، إذْ ذِكْرُ أولئك في الصحابة، إنما هو على سبيل الإلحاق؛ لغلبة الظن على أنه رآهم لتوفّر دواعي أصحابه على إحضارِهم أولادَهم عنده حين ولادتهم، ليحنّكهم ويسمّيهم ويبرك عليهم، وأحاديث هؤلاء من قبيل المراسيل عند المحققين. ولذا قال ابن حجر: «ولذلك أفردتهم  عن أهل القسم الأول».

 

والقسم الثالث: فيمن ذُكر في كتب رجال الصحابة من المُخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قطُّ أنهم اجتمعوا بالنبي ×، ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا، وهؤلاء ليسوا أصحابَه باتفاقٍ من أهلِ العلم بالحديث، وإن كان بعضُهم قد ذَكَر بعضَهم في كتب الصحابة؛ فقد أفصحوا بأنهم لم يذكروهم إلا لمقاربتهم لتلك الطبقة، لا أنهم من أهلها، وأحاديث هؤلاء مرسلة بالاتفاق.

 

و(القسم الرابع): فيمن ذُكِر في الكتب على سبيل الوهم والغلط، وبيان ذلك البيان الظاهر الذي يُعَوَّلُ عليه على طرائق أهل الحديث.

 

وقد نظم بعضهم هذا التقسيم الذي جعله الحافظ ابن حجر مصطلحاً لـ«إصابته» بقوله:

 

القسمُ الأَوّلُ من «الإصابهْ»

 

 

 

للعسقلاني هُم الصحابهْ

 

توفَّرت فيهم شروطُ صحبتِهْ

 

 

 

وبَلَغو أوانَ حملِ دعوتهْ

 

وثاني الأقسام لمن في الصغرِ

 

 

 

لَعَلَّهُ رآهُ خيرُ مُضَرِ

 

ثالِثُها مَن في الأوان خَضْرَما

 

 

 

وليس منهم باتِّفاق العُلَما

 

رابعها في نبذِ مَن تفاحَشا

 

 

 

غلَّطَهم فيه وفيه ناقَشا

 

فهذه الأبيات الخمسة حِفْظُها مع فهمها معينٌ على معرفة صنيع ابن حجر في «الإصابة» بسرعة حين احتياج الطالب إلى الوقوف على أي رجل أراده من الأقسام الأربعة. قاله الشيخ الشنقيطي في «دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك» (ص 195). وانظر تقديمي لـ«تذكرة الطالب المعلّم» (ص 22-23).

 

([778]) الصواب أنه موقوف على عصمة، نعم ورد مرفوعاً عن غيره ولا يثبت، أخرجه أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/925 رقم 485) عن شعيب بن حرب، قال: «كان رسول الله × يتعوذ من فتنة المغرب». وإسناده واهٍ بمرة، فيه إسحاق بن أبي يحيى الكعبي هالك، وشعيب من صغار أتباع التابعين.

 

وأخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/265 رقم 759) عن ابن عباس رفعه: «أحذركم فتنةً تقبل من المشرق، ثم فتنة تقبل من المغرب». وإسناده ضعيف جدّاً، فيه يحيى بن سعيد العطار.

 

وتجد تتمة التخريج مع ما ورد في الباب، في الدراسة المفردة عن (العجم والروم في أحاديث الفتن)، يسر الله إتمامها بخير وعافية.

 

([779]) سبق تخريجه.

 

([780]) (ص 284).

 

([781]) يتعامل الكثير مع كثير من أشراط الساعة -مثل افتراق هذه الأمة إلى فرق عديدة- على أن عجلة الزمن قد توقّفت، ويجعلون المدى الزمني للأحاديث ما عايشوه ورأوه فحسب، وهذا زلل منهجي، يتفرع عنه علل خطيرة.

 

([782]) انظر تفصيل ذلك في: «تاريخ ابن جرير» (9/476 وما بعد)، «البداية والنهاية» (11/28)، ولشيلمة «أخبار صاحب الزنج ووقائعه»، وللوشاء «أخبار صاحب الزنج». ذكرهما ياقوت في «معجم الأدباء» -على الترتيب- (6/494، 278).

 

وللمستشرق تيودور نولدكه بحث مفصل عن ثورة الزنج، وكذلك ألف الدكتور فيصل الساحر «ثورة الزنج»، وفي أكثر من ثلثه تفاصيل مجريات الحروب ومراحلها، وهو مطبوع ببغداد، سنة 1954م، ووقفت -أيضاً- على كتاب «ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد» لأحمد عُلَبي، مطبوع في بيروت، سنة 1961م.

 

([783]) (17/356-364 - ط. هجر)، وانظر -أيضاً-إن أردتَ الاستزادة-: «الروضتين في أخبار الدولتين» (2/477 و4/411)، «الذيل على الروضتين» (ص 198-199) لأبي شامة، «ذيل مرآة الزمان» (1/85-92)، «نهاية الأرب» (27/380-383)، «العبر» (5/225-226)، «عقد الجمان» (1/167-183)، «شفاء القلوب» (268-296).

 

([784]) هولاكو؛ هو: ابن طلو. وفي «طبقات الشافعية» (8/268): «ابن تولى»، وفي «شذرات الذهب» (5/316): «ابن قولى» بن جنكيز خان، كانت وفاته سنة 664هـ، كما في «الشذرات» -أيضاً-.

 

([785]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/492)، والطبراني في «الأوسط» (3/242 رقم 2519) وفي «الدعاء» (2/80 رقم 33)، والبزار في «المسند» (3/29-30 رقم 2165 - «زوائده»)، وابن عدي في «الكامل» (3/1068)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/453)، وابن الجوزي في «الواهيات» (2/359 رقم 1411) عن عائشة، عن النبي × بأطول من هذا، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي إسناده زكريا بن منظور، قال الحافظ الذهبي معقباً على الحاكم: «زكريا مُجمَعٌ على ضعفه». وانظر: «مجمع الزوائد» (10/146).

 

وله شاهد من حديث معاذ رفعه، أخرجه أحمد في «المسند» (5/234)، والطبراني في «الكبير» (20/103-104 رقم 201) و«الدعاء» (32)، ولفظه: «لن ينفع حذر من قدر، ...». وفيه شهر بن حوشب، فيه كلام، ولم يسمع من معاذ، وفيه إسماعيل بن عياش، وروايته هنا عن أهل الحجاز، وهي ضعيفة. انظر: «مجمع الزوائد» (10/146).

 

وشاهد آخر من حديث أبي هريرة، عند البزار (2164 «زوائده»)، وفيه إبراهيم بن خثيم، متروك.

 

وانظر: «العلل» (1/220) لابن أبي حاتم، «شأن الدعاء» (6-13) للخطابي، «الداء والدواء» (18-22) لابن القيم.

 

([786]) في «ذيل مرآة الزمان»، و«نهاية الأرب»، و«عقد الجمان» جاءت صفته، أنه الدوادار. ولم يُذكر في «الذيل على الروضتين»، والمثبت موافق لما في «العبر». والدوادرية: تبليغ الرسائل عن السلطان وإبلاغ عامة الأمور، وتقديم القصص إليه، والمشاورة على من يحضر إلى الباب الشريف، وتقديم البريد، هو وأمير جاندار وكاتب السر، ويأخذ الخط على عامة المناشير والتواقيع والكتب، وإذا خرج عن السلطان بكتابة شيء بمرسوم؛ حمل رسالته وعينت فيما يكتب. انظر: «صبح الأعشى» (4/19).

 

([787]) اللهم لطفك وحنانيك! اللهم احفظ أهل السنة بعامة، وطلبة العلم بخاصة مما يجري، ومما ينتظر وقوعه.

 

وقد اطلعت على جريدة «البصائر» العراقية، التي تصدر عن (هيئة علماء المسلمين في العراق)!    -كما هو مثبت عليها- في العدد (10)، الثلاثاء/11شعبان/سنة 1424هـ، الصفحة الأخيرة منها، ففيها بيان لجريمة نكراء، حصدت أرواح أبرياء، بأيدي مجرمين من هؤلاء، في البصرة قبل التاريخ المذكور بأيام، وحدثني بعض الثقات، وأراني صوراً تقشعر لها الأبدان، من المثلة في الجثث وتقطيع الأطراف، غيظاً على أهل السنة، ولا قوة إلا بالله!

 

([788]) قني: جمع قناة. انظر: «الوسيط» (ق ن و).

 

([789]) القعساء: الممتنعة الثابتة. انظر: «الوسيط» (ق ع س).

 

([790]) أُستاذدار من الاستداريَّة؛ وهي: وظيفة موضوعها التحدث في أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان. انظر: «صبح الأعشى» (4/20).

 

([791]) الشحنكية: وظيفة يتولاها الشحنة وهو صاحب الشرطة أو متولي رئاسة الشرطة. دوزي. كذا ذكر معناه في حاشية «عقد الجمان» (1/176).

 

([792]) عبارة المصنف هذه مأخوذة من قول زهير:

 

فشدَّ ولم يُفزِع بيوتاً كثيرةً

 

 

 

لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشعَمِ

 

 

وأم قشعم: الحرب. وقيل: المَنِيَّة. وقيل: الضَّبُع. وقيل: العنكبوت. وقيل: الذِّلَّة. وبكلٍّ فُسِّر قولُ زهير المذكور. انظر: «اللسان» (قشعم).

 

([793]) انظر: «الذيل على الروضتين» (ص 200)، و«ذيل مرآة الزمان» (1/91)، و«العبر» (5/226).

 

([794]) لابن عربشاه «عمدة السير في دولة الترك والتتر» كذا في «هدية العارفين» (1/13)، ولأسعد أفندي «السبع السيار في أحوال التتار»، ومن الكتب المطبوعة: «الإعلام والتبيين في خروج الفرنج الملاعين على ديار المسلمين» لأحمد بن علي الحريري، و«تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قازان وبلغار وملوك التتار»، و«العالم الإسلامي في العصر المغولي» لبرتولد= =شبولر، نقله إلى العربية خالد أسعد عيسى، نشر دار حسان، و«قاهر العالم (جنكيزخان)» لرينيه غروسيه، نقله إلى العربية خالد أسعد عيسى، نشر دار حسان، و«الغزو المغولي، أحداث وأشعار» لمأمون فريز جرار، وفي الخزانة العامة بالرباط: «نزهة المقلتين في أخبار الدولتين العلائية والجلالية وما كان فيهما من الوقائع التاتارية»، وعنه مصورة على شريط (رقم 677) في (مركز الوثائق والمخطوطات) في الجامعة الأردنية.

 

([795]) المقام لا يتسع للكلام المبسوط على فتنة التتر والمغول، وعلى الرغم مما وقع، فإن الزمان يُنْسِي!! ووقع خلط وخبط في أذهان المسلمين عن ترسم سنن الله الكونية، وارتباطها بسننه الشرعية، والحسرة والأسى لا تنتهيان لما يجد المتأمل أن ذلك واقع عند المصلحين         -زعموا-، على وجه لا أظن أن له نظيراً في العلوم الأخرى، حتى وصل الأمر إلى أن (العقوبة) التي تشمل الأفراد أو الشعوب أو الدول، يحسبها بعض (المعتوهين) من (الخطباء المفوهين) نصراً وعزة وتمكناً، وقد أخطأوا -فيما مضى- في تقديراتهم (مرات). وستلحقها -فيما سيأتي- (كرات)، وما هي إلا أمارة على (أفهام منكوسة) توصل إلى (حقائق معكوسة)، و(الضحية): العامة الدهماء الذين لا يميزون بين (الأصيل) و(الدخيل)، ولا بين (الصحيح) و(الضعيف)، ويحسبون أن كل (مدَّور رغيف)! ولا قوة إلا بالله.

 

دوّنتُ هذا على إثر ما أسمع من (المعدودين) (أطباء) و(دعاة) و(علماء) في (المجتمع) الذي أعيش فيه، في أوان ما جرى بالعراق، وسطرتُ هذين السطرين -فحسب- بعد انتهاء الأحداث باحتلال أمريكا وحلفائها لها؛ فهل من مدّكر؟!

 

([796]) مؤلفه مجهول من القرن الثامن الهجري، وهو الكتاب المسمى وهماً بـ«الحوادث الجامعة والتجارب النافعة»، والمنسوب لابن الفوطي، وهو في (ص 354 وما بعد - ط. دار الغرب).

 

([797]) كانت هذه القنطرة تقع على نهر الصراة في الجنوب من المدينة المدورة.

 

([798]) هو فتح الدين أبو المظفر الحسن بن محمد بن كُر بن محمد بن موسك الشيباني الكردي، كان من الأمراء الأكابر، وقد قتل في هذه الوقعة حينما لم يسمع الدويدار نصيحته. وانظر: «تلخيص مجمع الآداب» (4/الترجمة 1869)، و«جامع التواريخ».

 

([799]) العقاب: يفهم مما ذكره رشيد الدين الهمذاني في «جامع التواريخ» (المجلد 2 الجزء الأول ص 288) أن قرية العُقاب هذه كانت على طريق النازل «على طريق المدائن والبصرة»، والعقاب إذن قرية على دجلة، قبل المدائن، وينطبق هذا الوصف على الجزيرة التي كانت معروفة -إلى أمد قريب- بالعكابية، وتقع في نواحي الدورة، بين بغداد والمدائن.

 

([800]) برج العَجَمي: هو برج كبير في سور بغداد، قريب من باب الحلبة في الزاوية الغربية الجنوبية منه. وقد اشتهر هذا البرج باتخاذ الشيخ عبدالقادر الكيلاني إياه رباطاً له. انظر: «الذيل= =على طبقات الحنابلة» (1/291).

 

([801]) هو المعروف بالباب الوسطاني.

 

([802]) تأمل المدة التي قضاها الوزير عند هولاكو وهي قرابة الأسبوعين، فضلاً عن أن أصحابه كانوا يمنعون أهل بغداد من قتال المغول! وكانوا يطمعون بالصلح.

 

([803]) مقبرة الخَلاّل: هي المقبرة المنسوبة إلى دفينها الشيخ عبدالعزيز بن جعفر بن أحمد، أبي بكر، المعروف بغلام الخلال، من كبار علماء الحنابلة، وكانت وفاته سنة 363هـ، وقد تحرف اسم المقبرة في العصور التالية، إلى (الخلاني)، ولمّا تَزَلْ تعرفُ بهذا الاسم.

 

([804]) هي منظرة الحلبة التي وصفها ياقوت بقوله: «موضع مُشرف يُنظر منه، وهي منظرة محكمة البنيان في وسط السوق في آخر محلة المأمونية ببغداد قرب الحلبة، كان أول من بناها المأمون، وكانت في أيامه تشرف على البرية، والآن هي في وسط البلد». قلت: ويوافق هذه المنظرة حاليّاً: ساحة الخلاني أو قسم منها.

 

([805]) هو سراج الدين علي ابن البجلي، قتله المغول بعد استخدامه، كما في «العسجد المسبوك».

 

([806]) جمعها الأستاذ مأمون فريز جرار في كتاب له مطبوع، بعنوان «الغزو المغولي، أحداث وأشعار»، ولـ(العراق) و(بغداد) و(الفرات) ذكر كثير في هذه الأشعار، وهي تذكر فلتة تؤكد صحة ما جاء في كثير من الأخبار.

 

([807]) الأبيات في «الحوادث الجامعة» (334-335)، «عيون التواريخ» (20/137) مع اختلاف في ترتيب بعض الأبيات، وزيادة.

 

([808]) «الحوادث الجامعة» (ص 335).

 

([809]) «الحوادث الجامعة» (ص 335)، «شذرات الذهب» (5/271)، «تاريخ الخلفاء» (472).

 

([810]) ذكر الذهبي في «تاريخ الإسلام» قسماً من قصيدة نظمها تقي الدين إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي في ستة وستين بيتاً مطلعها:

 

لسائل الدَّمع عن بغداد أخبار

 

 

 

فما وقوفك والأحباب قد ساروا

 

ونشرها المستشرق سوموغي في مجلة (B. S. O. A. S)، وقسم منها في «النجوم الزاهرة» (7/51-52) و«درة الأسلاك» (1/25)، و«شذرات الذهب» (5/271-272)، و«تاريخ الخلفاء» (473).

 

وخير من ترجم لشهداء الواقعة من الأمراء والقادة والزعماء والفقهاء والمحدثين والعلماء؛ هو تاج الدين ابن الساعي مؤرخ العراق، الذي نجى من هذه الواقعة، ونقله عنه صاحب «العسجد المسبوك»، والذهبي في «تاريخ الإسلام»، وابن كثير في «البداية والنهاية»، فمن أراد استزادة فعليه بها.

 

([811]) ما الذي هاج في نفسي عند قراءة هذه الأبيات؟! لقد نشر أمام عيني ما انطوى من ذكريات بغداد، وما مات من أيامها، وما نال أصحابها من أذى وضر، لقد ظلمكِ يا بغداد مَن سَمَّاكِ دار السلام، فأين السلام يا مَنزِل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء؟! لقد قال لك السلام: الوداع يا بغداد، يا موئل العربية، ويا قبة العرب، ويا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول، يا دنيا فيها من كل شيء! نعم، السلام عليك من السلام، لقد غُلبتِ، ولم ينتصر عليك عدوكِ بسلاحهم، ولكن هدم أصحابُكِ مجدهم بأيديهم، كانوا يضربون بعضهم بعضاً، وكانوا يسلطون بعضنا على بعض! هل كان يُغلَب المسلمون أو يستسلمون لولا أن وجد أعداؤنا أناساً منا يعينوهم علينا، هل كانوا يُغلبون لولا الخائنون؟! لا تقل: جرأة، قُدرة...! فإنها تحتاج إلى حق وحنكة! وقل لي بربك: ما قيمة المقدرة إذا لم تكن مسخرة للحق؟! هل يسرق اللص، ويرسم الخطط للسرقة، ويقتل القاتل، ويعدّ العدّة للقتل، إلا وهو قدير؟! فلا قيمة للقدرة وحدها، إن لم تكن معها دين وحق ورحمة وفضيلة.

 

([812]) انظر: (ص 310، 314).

 

([813]) (10/85-86 - ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية/كراتشي).

 

([814]) في «شرحه مشكاة المصابيح» (10/86).

 

([815]) (5/166-167 - ط. دار إحياء التراث).

 

([816]) قال المنذري في «مختصر سنن أبي داود» (6/168): «إنما سميت البصرة؛ لأن المسلمين لما قدموها نظروا إلى الحصباء، فقالوا: إن هذه أرض بصرة؛ يعني: حصيبة. وقال الجوهري: البصرة: حجارة رخوة إلى البياض ماهي، وبها سميت البصرة».

 

وقال (6/169): «وبنى البصرة عقبة بن غزوان في سنة سبع عشرة من الهجرة علىالمشهور في خلافة عمر. وقيل: إنها لم يعبد بأرضها صنم. وقيل: سميت بالبصرة والبصر والبَصْر، وهو الكدّان، كان بها عند اختطافها. وقيل: البصر: الطين العَلِك. وقيل: الأرض الطيبة= =الحمراء. وقال صاحب «الجامع في اللغة»: البَصر والبِصر والبُصْرة: حجارة الأرض الغليظة».

 

وسكنها الناس سنة ثماني عشر. قاله السمعاني في «الأنساب» (1/363)، ونعتها بـ(قبة الإسلام! و(خزانة العرب)، ومُصِّرت في خلافة عمر، وأرخ ياقوت ذلك سنة  14 من الهجرة. كذا قال عند (البصرة)‍! ولكنه لما ذكر (الكوفة)، قال: «اختطت الكوفة سنة خطة البصرة 17 من الهجرة»‍‍! فكأنه نسي ما ذكره هناك!

 

([817]) انظر عنهم: ما قدمناه (ص 286).

 

([818]) (ص 535-537 - ط. دار القلم، بعناية قاسم الشماعي ومحمد العثماني)، وذكر قبله خبراً عن الموفق عبداللطيف، ثم قال: «وقال غيره: ...» وساق المذكور.

 

([819]) بلاد شاقون: إما سنجان أو نانكين، عاصمة الصين القديمة.

 

([820]) يا له من تدبير سيئ وقلة بصر بعواقب الأمور؛ حيث اتخذ جنكيز خان من ذلك حجة يطرق بها هذه البلاد، ويأتي بأفعاله الفظيعة الهمجية، والتاريخ يعيد نفسه، وما نراه اليوم هو عين ما وقع بالأمس، مع تغيُّر في الحوادث، وتعدد في الوسائل، والله العاصم.

 

([821]) في أحداث سنة (سبع عشرة وست مئة) (12/358 - ط. دار صادر): (ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام)، وفي أحداث سنة (ثمان وعشرين وست مئة) (12/495): (ذكر خروج التتر إلى أذربيجان وما كان منهم)، وفي (12/499): (ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد)، وأخربوا سنة ثمان وخمسين مدينة حلب وغيرها، وحكى فيه أهاويل، ومما قال في (12/500-501):

 

«ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله -سبحانه وتعالى- في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إنّ الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمدّ يده إلى ذلك الفارس.

 

ولقد بلغني أنّ إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتريّ ما يقتله به، فقال له: ضَعْ رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريّ فأحضر سيفاً وقتله به.

 

وحكى لي رجل، قال: كنتُ أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعلّ الله يخلّصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذتُ سكيناً وقتلتُه وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير».                                                                     =

 

=        وانظر: «شفاء القلوب» (268-296)، «العبر» (5/245)، «الروضتين في أخبار الدولتين» (2/477 و4/411)، واستولوا على بغداد في أول سنة ست وخمسين وست مئة.

 

([822]) في «تاريخه» (2/216، 246-251، 308-313، 314-320، 332، 334، 339، 347-349، 368، 381-385، 387-389).

 

([823]) في «تاريخ الخلفاء» (ص 539-540).

 

([824]) ما زال النقل بواسطة السيوطي، وكلام الذهبي في «تاريخ الإسلام».

 

([825]) في «تاريخ الخلفاء» (ص 541).

 

([826]) مطبوعة ضمن «رسائل في تاريخ المدينة»، منشورات دار اليمامة، الرياض، قدم لها وأشرف على طبعها حمد الجاسر.

 

([827]) في الأصل: «وثلاثون»!.

 

([828]) في الأصل: «مناجيق»!

 

([829]) في الأصل: «تظهرون»!

 

([830]) (8/271-272).

 

([831]) ترى ماذا سيقول لو رأى ما رأيناه، وسمع ما سمعناه؟!

 

([832]) (8/276).

 

([833]) انظر: «شذرات الذهب» (7/62-67).

 

([834]) (2/71-72).

 

([835]) في الأصل: «مناجيق»!

 

([836]) (14/9).

 

([837]) أخرجه البخاري (3346 و7059)، ومسلم (2880)، وغيرهما من حديث زينب بنت جحش -رضي الله عنها-.

 

([838]) هو: ابن عيينة.

 

([839]) (15/238).

 

([840]) (24/181)، ونحوه فيه (24/221).

 

([841]) (ص 250 - بتحقيقي)، وجزم بهذا الرأي: طنطاوي جوهري في تفسيره «الجواهر» (9/203)، وسيد قطب في «في ظلال القرآن» (4/2294)، وقرره طارق سويدان في أشرطته «قصة النهاية» (الشريط الرابع/وجه 1)، ومال إليه وقواه محمد رشيد رضا في مجلة «المنار»= =(م11/274-277) الصادرة يوم السبت 29/ربيع الآخر/سنة 1326هـ، وهو في «الفتاوى» له (2/650-653).

 

([842]) (ص 185، 250-276).

 

([843]) (ص 297).

 

([844]) (ص 429-431 - ط. دار البخاري).

 

([845]) بناء على رواية أبي داود، والمحفوظ خلافه، كما قدمناه مفصلاً (ص 300-302).

 

([846]) هو ابن عيينة.

 

([847]) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام)= =(رقم 3591)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن (رقم 2912)، وأحمد (2/300، 475)، والحميدي (1102)، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (15/455 رقم 19681)- من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة، به. والمذكور لفظ البخاري.

 

وأخرجه ابن خزيمة (2/120 رقم 1040)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/450) من الطريق نفسه، مقتصرين على مقولة أبي هريرة -رضي الله عنه-.

 

وله عن أبي هريرة طرق عديدة، ورواه عنه جمعٌ؛ أشهرهم:

 

* سعيد بن المسيب

 

أخرجه البخاري (2929)، ومسلم (2912)، والترمذي (2215)، وأبو داود (4304)، وابن ماجه (4096)، وابن أبي شيبة (15/92)، والحميدي (1100)، وأبو يعلى (5878)، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (14/779 رقم 18699)-، وابن حبان (6744) من طريق سفيان، وعبدالرزاق (20781) -وعنه أحمد (2/271)-: أخبرنا معمر. ومسلم (2912) بعد (63)، وأبو عوانة -كما في «إتحاف المهرة» (14/779)- من طريق يونس بن يزيد؛ جميعهم عن الزهري، عن سعيد، به.

 

* همام بن مُنبِّه

 

أخرجه عبدالرزاق (20782) وعنه أحمد (2/319، 530)، وإسحاق بن راهويه (1/431 رقم 499) ومن طريقه البخاري (3590)، وابن حبان (6743)، وأبو أحمد العسكري في «تصحيفات المحدثين» (1/141)، والحاكم (4/476)، والبيهقي (9/176) وفي «الدلائل» (6/336)، والبغوي (4244)، ولؤلؤ في «جزئه» (رقم 7) من طريق معمر عنه، به. وسيأتي لفظه في (الفصل الآتي).

 

* الأعرج

 

أخرجه البخاري (2928، 2929، 3587)، ومسلم (2912)، وابن ماجه (4097)، وابن أبي شيبة (15/92)، والحميدي (1101)، وأحمد (2/530)، والحاكم (4/475-476)، والبغوي (4242، 4243)، والبيهقي (9/175-176)، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (452) من طرق عن أبي الزناد عنه، به.

 

* أبو صالح

 

أخرجه مسلم (2912) بعد (65)، وأبو داود (4303)، والنسائي (6/44-45)، وابن حبان (6745) من طريق يعقوب، عن سهيل، عن أبيه، به.                                                    =

 

=        وورد نحوه من:

 

* حديث أبي سعيد الخدري

 

أخرجه ابن ماجه (4099): حدثنا الحسن بن عرفة، وأحمد (3/31) كلاهما، قال: ثنا  عمار بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح عنه رفعه بلفظ: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا صغار العيون، عراض الوجوه، كأنّ أعينهم حَدَقُ الجراد، كأنّ وجوههم المَجَانّ المُطْرَقة، ينتعلون الشَّعَر، ويتخذون الدَّرَق حتى يربطوا خيولهم بالنخل». وإسناده حسن؛ من أجل عمار بن محمد، فإنه حسن الحديث، والحديث صحيح؛ لأنه توبع، تابعه أبو عبيدة عبدالملك بن معن، فرواه عن الأعمش عند ابن حبان (6747).

 

* حديث عمرو بن تغلب

 

أخرجه البخاري (2927، 3592) و«التاريخ الكبير» (6/304-305)، وابن ماجه (4098)، وأحمد (5/69، 70)، والطيالسي (1171)، وابن الغطريف في «جزئه» (رقم 77)، وابن قانع (2/212)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/2006 رقم 5040) بنحوه مختصراً ومطوّلاً.

 

([848]) (1/39-41)، وأخرج الحديث بسنده من طريق البخاري، وعنده: «لم أكن في شيء أحرص».

 

([849]) صاحب كتاب «مطالع الأنوار»، والنقل المذكور فيه (ق 45/ب - نسخة مكتبة الملك عبدالعزيز، المدينة المنورة)، وقد شارفتُ -ولله الحمد- من نسخه تمهيداً لتحقيقه على عدة نسخ خطية نفيسة، يسر الله إتمامه ونشره بخير وعافية.

 

([850]) هي عند مسلم في «صحيحه».

 

([851]) متفق عليه، ومضى تخريجه.

 

([852]) في مطبوع «التدوين»: «وفتتجه»! وهو مليء بالأخطاء المطبعية، والمثبت من نسخة خطية تركية.

 

([853]) لا بد من الإشارة إلى أنه قد دخل عدد كبير من (الأكراد) و(الأتراك) و(أهل إيران) الإسلام، وتأثروا بأخلاق المسلمين وأعمالهم، وظهر على أيدي بعضهم في فترة مضت دولة إسلامية مترامية الأطراف، اعتز بها المسلمون عصوراً طويلة، ومن المذكورين جماعات من أهل الديانة والعلم والصلاح.

 

([854]) كما في «فتح الباري» (6/609).

 

([855]) في «فتح الباري» (6/609) -أيضاً-.

 

([856]) أي: باء، ثاني الحروف العربية.

 

([857]) في «النهاية في غريب الحديث» (1/124).

 

([858]) أي: والفاء باء، زاده ابن حجر على كلامه.

 

([859]) (1/155-156)، وتتمة اسمه «في غريبي القرآن والحديث»، وهو عبارة عن تتمة لكتاب أبي عبيد الهروي «الغريبين»، وهذان الكتابان هما أساس كتاب «النهاية» لابن الأثير         -رحمه الله-.

 

([860]) (14/163).

 

([861]) (16/133)، وبيّن أن (البازر) -بتقديم الزاي- تصحيف؛ ومعناه: السوق بلغة العجم والترك -أيضاً-.

 

([862]) (6/49).

 

([863]) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام) (3590)، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل...) (رقم 2912)، وغيرهما كثير، ولا فائدة من الإطالة، وسيأتي ذكر بعضهم في معرض ذكر الفوائد الزوائد، والله الموفق.

 

([864]) كذا هو الصواب، وقال بعضهم: «خُورُ كِرمان» براء مهملة، وبالإضافة! والعجب تفسير صاحب «هرمجدون» (ص 76، 101) إذ زعم أنها (الصين) و(روسيا)، هكذا دون أي مستند!

 

([865]) «شرحه على صحيح البخاري» (14/162).

 

([866]) «شرحه على صحيح البخاري» (14/162).

 

([867]) هذا يرجح أن القتال يكون من العرب، إذ المقاتَلُون ليسوا كذلك، فتأمل.

 

([868]) «عمدة القاري» (16/131-132).

 

([869]) «إرشاد الساري» (6/48).

 

([870]) (15/144 رقم 6743 - مع «الإحسان»).

 

([871]) انظرها: (ص 297 وما بعد).

 

([872]) (15/45 رقم 6744 - مع «الإحسان»).

 

([873]) (15/147-148 رقم 6747 - مع «الإحسان»).

 

([874]) هو بهذا اللفظ عند أحمد (3/31)، وابن ماجه (4099).

 

([875]) ومن طريقه: الحاكم (4/476).

 

([876]) «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 267). وانظر عن (خوز) والاختلاف في ضبطها هل هي بالراء أم بالزاي في: «المؤتلف والمختلف» (1/500) للدارقطني، «مشارق الأنوار» (1/205)، «النهاية» (2/87)، «تاج العروس» (3/194 و4/35). وانظر عن تصحيف (عبدالرزاق) لها في «تصحيفات المحدثين» (1/141-142)، و«جزء لؤلؤ» (ص 27/رقم 7).

 

([877]) تسميته القديمة (دجيلة): تصغير (دجلة)؛ لأنه يمر بمدينة الأهواز، فميزوه بذلك عن دجيل دجلة في أعلى بغداد، ولهذا النهر روافد كثيرة، تلتقي فيه، وعلى كل شيء يسير أسفل من ملتقى هذه الروافد، يصير نهر دجيل فيضاً عظيماً يحمل مياه أنهار خوزستان مجتمعة، ويجري شرق فيض دجلة إلى أن يصب في خليج فارس. من «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 268).

 

([878]) انظر تعريفا مسهباً بخططه وتاريخه في: «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 17، 39، 337-359).

 

([879]) «إرشاد الساري» (6/48). وزاد الكرماني في «شرحه على البخاري» (14/162): «وبين عراق العجم وسجستان». وانظر: «معجم البلدان» (4/454)، «معجم ما استعجم» (3/1125)، «هدي الساري» (ص 178-179)، «لوامع العقول» (5/59).

 

([880]) «طرح التثريب» (7/224).

 

([881]) في «فتح الباري» (6/609)، وعنه القسطلاني في «إرشاد الساري» (6/49).

 

([882]) ونحوها عند ابن حجر في «الفتح» (6/607)، والعيني في «العمدة» (16/132)، والقسطلاني في «إرشاد الساري» (6/48)، والسخاوي في «القناعة» (ص 126)، وسائر أصحاب الشروح.

 

([883]) «شرح الكرماني على صحيح البخاري» (14/162).

 

([884]) «الفتن والملاحم» (1/15).

 

([885]) أوردت جريدة «الأخبار» القاهرية بتأريخ 29/9/1997م خبراً، يقول: إن أكثر من مئتي ألف شخص قد ماتوا في العراق بسبب الحصار.

 

([886]) مضى تخريجه (ص 187).

 

([887]) مضى تخريجه (ص 238).

 

([888]) «الفتن والملاحم» (1/35).

 

([889]) «تاريخ دمشق» (1/210).

 

([890]) «الفتن» (رقم 602).

 

([891]) «الأموال» (ص 143 - ط. دار السلام)، ومثله عند ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (1/265 - ط. الرمادي).

 

([892]) «المحلى» (7/341 - مسألة رقم 957). ونقله عنه ابن حجر في «الفتح» (6/280).

 

([893]) «المحلى» (5/247-248 رقم 642).

 

([894]) «التذكرة» (3/213 - ط. دار ابن كثير).

 

([895]) انظر: (ص 227 وما بعد).

 

([896]) بمعنى أن المنع قد ظهر وانتهى.

 

([897]) في «كشف المشكل في حديث الصحيحين» (3/567).

 

([898]) (8/283).

 

([899]) في «درجات مرقاة الصعود» (ص 128).

 

([900]) (ص 228).

 

([901]) (8/282).

 

([902]) «الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج» (6/222-223).

 

([903]) «السراج الوهاج» (11/368).

 

([904]) «مختصر صحيح مسلم» (ص 538) للمنذري (هامش 3)، ونقله عنه الشيخ عبدالعزيز السيروان في كتابه «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (ص 59)، وقال على إثره -وذلك قبل حصار العراق وأحداثه الجسام-: «وهذا واضح للعيان، مشاهد في هذا الزمان، لا مرية فيه».

 

(تنبيه): لشيخنا الألباني -رحمه الله- بقلمه «مختصر صحيح مسلم»، وهو غير الذي علق عليه، فهو من تأليف المنذري.

 

([905]) (7/199).

 

([906]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/29 - ط. قرطبة).

 

([907]) وهو الدكتور خالد بن ناصر بن سعيد الغامدي في كتابه «أشراط الساعة في مسند أحمد وزوائد الصحيحين» (1/360).

 

([908]) لهذا الكتاب عُقَد، وينبغي لقارئه أن يحذر منه؛ لاعتماده على الإسرائيليات وجَعلِها من المسلّماتِ، ولِتسَلْسُلٍ من كيس مؤلّفه بين الأحداث الواردة في الأحاديث. وانظر تعليقي على كتاب «ذو القرنين وسد الصين» (ص 316).

 

([909]) (ص 33).

 

([910]) اعترض عليه بهذا جمعٌ من الرادّين عليه. انظر -على سبيل المثال-: «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 631)، و«تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم والفتن» (ص 235).

 

ومما ينبغي ذكره: أن النص الذي أورده عزاه إلى النبي ×، وهو من قول جابر -رضي الله عنه-، كما تقدم معك.

 

([911]) هو علي بن سليمان الدمناتي البُجُمْعَوي أبو الحسن، فقيه، من أعلام المغاربة، ولد في دمنات، وتوفي بمراكش، له كتب مطبوعة كثيرة، وله ثبت بدأه بترجمة نفسه، وهو مطبوع بعنوان «أجلى مساند عُلَى الرحمن»، ترجمته في: «فهرس الفهارس» (1/123)، و«هدية العارفين» (1/776)، و«الأعلام» للزِّركلي (4/292).

 

([912]) «الفتن والملاحم» (1/35).

 

([913]) انظر: الفصل الآتي في بيان معنى قوله ×: «وعدتم من حيث بدأتم».

 

([914]) (ص 242).

 

([915]) مضى تخريجه (ص 244).

 

([916]) (3/211 - ط. دار ابن كثير)، ونحوه في «فتح المنعم» (4/362).

 

([917]) في «شرح صحيح مسلم» (18/54 - ط. قرطبة).

 

([918]) السائل هو سعيد بن إياس الجُريريّ، كما تقدم.

 

([919]) منهم من يقول عنه (الخليفة الخامس)! وفي هذا نظر؛ إذ فيه طعن ضمني بمعاوية    -رضي الله عنه-، وسبب تعيينهم عمر بن عبدالعزيز كثرة الخير الذي وجد في زمانه.

 

أخرج الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/599) بسنده عن عمر بن أسيد بن عبدالرحمن ابن زيد بن الخطاب، قال: إنما ولي عمر بن عبدالعزيز سنتين ونصفاً (ثلاثين شهراً)، لا والله ما مات عمر بن عبدالعزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون من الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر ابن عبدالعزيز الناس.

 

([920]) هذه القطعة عند مسلم في «صحيحه»، كما تقدم.

 

([921]) وقع التصريح باسمه في معرض السياق المذكور في أحاديث عديدة، لا يتّسع المقام لسردها، انظرها في: «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» (2/534-553 رقم 23-40)، و«أحاديث المهدي» لعبدالعليم البستوي (ص 209، 260، 266).

 

([922]) «السراج الوهاج» (11/381-382)، ويعجبني ما بوب بعضهم عليه (سعة المال الكائن في آخر خليفة لهذه الأمة).

 

([923]) انظر: «مجمع الزوائد» (7/314).

 

([924]) وقع التصريح به في الحديث الذي نحن بصدده «منعت العراق...»، وانظر: ما مضى من كلام الشراح.

 

([925]) أخرجه مسلم، ومضى تخريجه.

 

([926]) «المفهم» (7/230).

 

([927]) «السراج الوهاج» (11/369).

 

([928]) لم أقف على إسناده لأحكم عليه، ولكن ما سقناه يشهد لعموم معناه.

 

ثم وقفتُ عليه مسنداً عند الحاكم في «المستدرك» (4/445)، وأبي نعيم في «الحلية» (1/275) بسندٍ صحيح عن حذيفة قوله، وله حكم الرفع، ولفظه: «كأني براكب قد نزل بين أظهركم حال بين اليتامى والأرامل وبين ما أفاء الله على آبائهم، فقال: المال لنا». وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والخطاب فيه لأهل الكوفة، وتأمل قوله: «ما أفاء الله على آبائهم»، وما سيرد في كلام ابن القيم الآتي، والله الهادي.

 

([929]) (1/226-227 - تحقيق صبحي الصالح).

 

([930]) الغيار: اصطلاح يراد به نوع من الزي مغاير لزي المسلمين، وذكره ابن القيم تفصيلاً لدى «شرح شروط عمر» في «أحكام أهل الذمة» (3/1295-1299). وانظر: «إعلام الموقعين» (6/97-98 - بتحقيقي)، و«البداية والنهاية» (أحداث سنة 700هـ)، و«تشبيه الخسيس» للذهبي (ص 191 - ضمن مجلة «الحكمة»: العدد الرابع - بتحقيقي).

 

([931]) قال أبو حاتم الرازي في «العلل» (2/317 رقم 951) عن الموقوف: «أشبه»، وهذا الذي صوبه الدارقطني في «العلل» (3/ق215/ب)، وانتصر له صاحب «مرويات الإمام الزهري المعلة في كتاب العلل» (1/261-266 رقم 7).

 

وفي رواية عند ابن ماجه (4094) بإسنادٍ ضعيف جدّاً: «حتى تكون أدنى مسالح المسلمين ببَوْلاء» من حديث عمرو بن عوف.

 

([932]) هذه العبارة مدرجة من كلام الزهري، فعند أبي داود -في حديث ابن عمر السابق- حدثنا أحمد بن صالح عن عنبسة، عن يونس، عن الزهري، قال: ... وذكرها، والإدراج كثير من الزهري -رحمه الله- في الأحاديث.

 

([933]) «النهاية في غريب الحديث» (2/388)، ونحوه في «مجمع بحار الأنوار» (3/97-98).

 

([934]) المرجعان السابقان، و«المغانم المطابة في معالم طابة» (2/844)، و«فضائل الشام» (118) لابن رجب.

 

([935]) للأخ الشيخ صالح الرفاعي كتاب مفيد غايةً، مطبوع بعنوان «الأحاديث الواردة في فضائل المدينة».

 

([936]) يَبُسون: بفتح الياء المثناة من تحت، وبعدها باء موحدة تضم وتكسر، من «بَسْ» أو «بِسْ»، وهي كلمة زجر للدواب عند سوقها لتسرع، وقد ذكر العلماء لها عدة معان، قال النووي: «... الصواب الذي عليه المحققون أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة، متحملاً بأهله باسّاً في سَيْره، مسرعاً إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي × بفتحها». انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد القاسم بن سلام (3/89)، و«شرح مسلم» للنووي (9/158-159)، و«فتح الباري» (4/92).

 

([937]) أخرجه البخاري (1875) ومسلم (1388)، وفي هذا الحديث إخباره × بفتح اليمن والشام والعراق قبل وقوع ذلك، ولذا ذكره السيوطي في «الخصائص الكبرى» (ص 286 - «تهذيبه»).

 

المتأمل في الحديث يجد أن الخروج من المدينة متعدد -أيضاً- بسبب الفتوحات، فكلما حصل فتح لقُطر؛ خرج بعض من أهل المدينة منها، وذهب غير واحد من الشراح إلى ما قررته، وأجمعُ نقلٍ وجدته للبرزنجي في كتابه «الإشاعة» (ص 53)، قال:

 

«قال القاضي عياض: إن هذا جرى في العصر الأول، وإنها تركت أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا، أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها، واتساع حال أهلها.       =

 

=       وذكر الأخباريون أنه رحل عنها أكثر أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي وخلت مدة، ثم تراجعوا، قال: وقد حكى قوم كثيرون: أنهم رأوا ما أنذر به × من تغذية الكلاب على سواري مسجدها. انتهى.

 

وقال النووي: الظاهر المختار أن الترك لها يكون آخر الزمان.

 

قال السيد السمهودي في «تاريخها»: إنه ورد ما يقضي أن الترك لها يكون متعدداً.

 

فقد روى ابن شبة: ليخرجنّ أهل المدينة منها، ثم ليعودن إليها، ثم ليخرجن منها، ثم لا يعودون إليها.

 

وروى -أيضاً- عن عمر مرفوعاً: يخرج أهل المدينة منها، ثم يعودون إليها فيعمرونها، ثم تمتلئ وتبنى، ثم يخرجون منها، ولا يعودون إليها أبداً.

 

قال: فالظاهر أن ما ذكره القاضي عياض هو ترك الأول، وسببه كائنة الحرة كما في حديث أبي هريرة: يخرجهم أمراء السوء، وأنه بقي الترك الذي يكون آخر الزمان» انتهى.

 

قلت: ويؤيد ما ذكره ما في رواية شريح السابقة: «ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم حتى يتركوها»».

 

قال أبو عبيدة: لي إيضاحات على كلام القاضي عياض السابق، تتمثل في النقاط الآتية:

 

أولاً: ترك المدينة للعواف ثابت في «الصحيحين»، ولفظه: «يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلى العوافّ، وآخر من يحشر راعيان من مزينة، يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما».

 

ثانياً: أخرج مالك (2/888)، والحاكم (4/426)، وابن عبدالبر (24/122) عن أبي هريرة رفعه: «لتتركنّ المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الكلب أو الذئب فيُغَذِّي على بعض سواري المسجد، أو على المنبر، فقالوا: يا رسول الله! لمن تكون الثمار ذلك الزمان؟ قال: للعوافي: الطير والسباع».

 

فهذان الحديثان هما المعنِيَّان بكلام القاضي عياض -رحمه الله-، والثاني وقع فيه اضطراب عن مالك، ذكره مفصلاً ابن عبدالبر في «التمهيد» (24/122)، وابن حجر في «إتحاف المهرة» (16/1/291).

 

ثالثاً: وأما قوله: «فَيُغَذِّي»؛ معناه: أن يبول على سواري المسجد دفعة بعد دفعة، لعدم سُكّانه، وخُلوّه من الناس. كذا في «النهاية» (3/347).

 

وقال ابن عبدالبر (24/123): «فمعناه أن الذئب يبول على سواري المسجد، أو على= =المنبر -شك المحدّث-، وذلك لخلاء المدينة من أهلها ذلك الزمان، وخروج الناس عنها، وتغيّر الإسلام فيها، حتى لا يكون بها من يهتبل المسجد فيصونه ويحرسه، يقال من هذا الفعل: غذّت المرأة وليدها -بالتشديد- إذا أبالته؛ أي: حملته على البول، وجعلته يبول، وغَذَت ولدها: إذا أطعمته وربّته من الغذاء».

 

رابعاً: في هذين الحديثين تصريح بأن الشر والفتن في آخر الزمان ستصيب أهل المدينة، وأن أهلها لا يستطيعون آخر الزمان الثبات على إيمانهم، فيتركوها استكباراً ونفاقاً، وهي أحسن ما تكون من وفرة الثمار والعمران!! ويأبون أن يجاوروا رسول الله ×، أو أن يوصفوا بأنهم من سكنة المدينة -والعياذ بالله تعالى-.

 

أفرأيت؟! أهناك أشنع من هذه الفتنة، وأكثر منها هولاً، منبر رسول الله × يأتي الذئب    -أو الكلب- فيبول عليه، وسواري مسجد رسول الله × التي صلى عندها كبار أصحابه، وأفذاذ الأعيان، يبول عندها الكلب، فإذا كانت مثل هذه الفتنة العارمة تحدث في المدينة -وهي معقل الإيمان وداره-، ولا يسلم منها مؤمنو المدينة، فكيف بمقدار الخطر الذي تفتحه الفتن في غيرها من البلاد؟!

 

([938]) انظرها مجموعة مع التخريج في «الأحايث الواردة في فضائل المدينة» (ص 191-206).

 

([939]) «فضائل الشام» (ص 104) لابن رجب.

 

([940]) نقله أبو موسى المديني في «المغيث» (1/776)، وعنه -كعادته- ابن الأثير في «النهاية» (2/236-237)، وإسناده قابل للتحسين، ورجاله ثقات غير سعيد بن حذيفة، لم يوثقه غير ابن حبان (4/294)، وروى عنه اثنان من الثقات؛ وهو الراوي عن حذيفة.

 

([941]) انظر: (ص 226).

 

([942]) في «شرح صحيح مسلم» (18/29)، ومثله في «القناعة» (ص 106) للسخاوي.

 

([943]) في «الديباج» (6/223)، وسيأتي قريباً تخريج حديث «بدأ الإسلام غريباً...».

 

([944]) في «المفهم» (7/230).

 

([945]) «تكملة فتح الملهم» (6/292).

 

([946]) «نيل الأوطار» (5/164)، ومثله في «عون المعبود» (8/282) و«بستان الأحبار» (2/437)، وانفرد المباركفوري في «منية المنعم» (4/351) بقوله: «وعدتم من حيث بدأتم»؛ أي: تبقون عالة على أنفسكم، لا يرسل إليكم خيرات أي بلد، كما كنتم في بداية أمركم».

 

([947]) إلى الله -وحده- المشتكى من غربة الإسلام، وحال المسلمين، وطمع الكافرين، وغفلة المسؤولين! قال ابن حزم في «الرد على ابن النغريلة اليهودي» (2/41-42 - ضمن «رسائله»):

 

«اللهم! إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم، ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم، وعوناً لأعدائهم عليهم، وعن حياطة ملتهم التي بها عزوا في عاجلتهم، وبها يرجون الفوز في آجلتهم؛ حتى استشرف لذلك أهلُ القِلَّة والذمة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أربابُ الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا؛ لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء، والحمية للملة الغراء، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم، والقدح في رئاستهم، فللأسباب أسباب، وللمداخل إلى البلاء أبوابٌ».

 

([948]) «السراج الوهاج» (11/369).

 

([949]) أخرجه أحمد (2/286، 422، 496)، والبخاري (1876)، ومسلم (147)، وابن ماجه (3111)، وابن أبي شيبة (12/181)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/349)، وأبو عوانة في «المسند» (1/101)، وابن حبان (3720، 3721)، وابن منده في «الإيمان» (رقم 420)، والبيهقي في «الدلائل» (2/520)، وغيرهم.

 

([950]) «المسند» (2/422).

 

([951]) في «صحيحه» (برقم 146)، وهو عند ابن منده في «الإيمان» (2/520 رقم 421)، والبزار (1182 - «زوائده»)، وابن حبان (3719)، والبيهقي في «الدلائل» (2/520) و«الزهد الكبير» (رقم 203)، وانظر: «العلل» للدارقطني (4/ق108)، و«فتح الباري» (4/93).

 

([952]) أخرجه أحمد (1/184)، والدورقي في «مسند سعد» (رقم 92)، والبزار (3/323 رقم 1119)، وابن منده في «الإيمان» (2/521-522 رقم 424)، وأبو يعلى (756)، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 290)، وانظر: «السلسلة الصحيحة» (1273).

 

([953]) أخرجه عبدالله بن أحمد في «زوائد المسند» (4/73-74)، والطبراني في (القسم المفقود) من «المعجم» -كما في «مجمع الزوائد» (7/278)-، ونعيم بن حماد في «الفتن» (رقم 1379)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/1854 رقم 4671)، وابن عدي في «الكامل» (4/1615)، والخطابي في «غريب الحديث» (1/176)، وابن الأثير في «أسد الغابة» (3/457).

 

([954]) أخرجه الترمذي (2630) بسندٍ ضعيف، وخرّجته بتفصيل في تعليقي على «الاعتصام» (1/5) للشاطبي.

 

([955]) «إتحاف الجماعة» (2/239).

 

([956]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/177).

 

([957]) «الكتاب» (4/233).

 

([958]) «الإيضاح في شرح المفصل» (1/509).

 

([959]) «الإيضاح في شرح المفصل» (1/509).

 

([960]) مضى تخريجه (ص 238).

 

([961]) أفاده النووي في «شرح صحيح مسلم» (2/177).

 

([962]) «كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة» (ص 16-19).

 

([963]) كما نسمعه ونشاهده عن طلبة العلم أصحاب الهدي الظاهر من (اللّحى واللباس) في بلاد حوصرت وقلّ خيرها!

 

([964]) «مدارج السالكين» (3/195)، وقد نشر كلامه فيه عن (الغربة والغرباء) في جزء مفرد، وقسم ابن القيم فيه (3/195-201) الغرباء إلى ثلاثة أنواع:

 

الأول: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله × بين هذا الخلق؛ وهي الغربة الممدوحة.

 

الثاني من الغربة: غربة مذمومة؛ وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحق.

 

الثالث من الغربة: غربة مشتركة لا تُحمد ولا تُذَم؛ وهي الغربة عن الوطن، فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء، فإنها ليست لهم بدار مقام، ولا هي الدار التي خُلقوا لها.

 

([965]) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (18/298).

 

([966]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (2/177).

 

([967]) هو في الكنى في حرفه بعد الميم والسين، ولكن رسمه «المثنى»! ثم ظفرتُ به على الجادة في الموطنين (2/161، 541 رقم 915، 1393 - ط. دار البشائر).

 

([968]) انظر: «الجرح والتعديل» (7/177 رقم 1012)، و«الإكمال» (7/308) لابن ماكولا، و«المؤتلف والمختلف» (4/2108) للدارقطني، و«الكنى والأسماء» (3/1015 - ط. ابن حزم)، و«تبصير المنتبه» (4/1290)، و«الإكمال» للحسيني (ص 551/رقم 117)، و«الكنى» للدولابي (2/115)، و«توضيح المشتبه» (3/68).

 

([969]) وعلقه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/446-447) من طريق حجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة، به، بالمرفوع دون الموقوف.

 

وشذ بعض الرواة؛ فجعل المرفوع عن حماد، به من (مسند أبي هريرة)؛ كما عند ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/97-98).

 

وتحرف (أبو المشاء) في مطبوع «الفتن» لنعيم. وفي طبعتَي «مصنف ابن أبي شيبة» إلى (أبي المثنى)؛ فليصوَّب.

 

([970]) وهو الجُرَيري.

 

([971]) ثم وجدتُ العز بن عبدالسلام يقول في «ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام» (ص 37) على إثر الأثر المذكور: «ومثل هذا لا يقوله إلا توقيفاً، ولمّا علم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- تفضيل الشام على غيره؛ دخل إليه منهم عشرة آلاف عين رأت النبي ×، على ما ذكره الوليد بن مسلم».

 

قلت: نقله صاحب «حدائق الإنعام» (ص 115) عن أبي بكر بن سفيان بن الأشعث لا عن الوليد بن مسلم

 

([972]) انظر: «الحنائيات» (رقم 172 - بتحقيقي)، فقد أطلت تخريج الحديث الوارد في ذلك.

 

([973]) ينظر في هذا: (الباب الثالث: فيما ورد في حفظ الشام من الفتن، وأنها معقل المسلمين في ذلك الزمان) من كتاب «فضائل الشام» لابن رجب (ص 49-52)، وليس المقام هنا الكلام التفصيلي على فضل الشام، وإنما هو خروج أهل العراق إليها فقط، وانظر: حث النبي × سكنى الشام عند الفتن في «فضائل الشام» للسمعاني (الأرقام: 13، 14، 15).

 

([974]) هو ليس في القسم المطبوع من «مسند ابن أبي شيبة».

 

([975]) «النهاية» (3/67).

 

([976]) انظره (5/199 - ط. عوامة)، وعزاهما لأبي داود -بالترتيب-: المزي في «تحفة الأشراف» (13/397، 272 رقم 19464، 18962). وقال عن الثاني: «قيل: إنه في رواية اللؤلؤي وحده»، ولم يقل شيئاً عن الأول!

 

وعزا البقاعي في «الإعلام بسنّ الهجرة إلى الشام» (ص 115/رقم 45) الثاني لأبي داود.

 

([977]) ومثله عند ابن رجب في «فضائل الشام»، فإنه أوردهما (ص 146، 147 برقَمَيْ= =264، 265)، وعزاهما لنعيم، وبوب عليهما ضمن أحاديث وآثار كثيرة (فيما ورد في السنة والآثار من أنها -أي: الشام- فسطاط المسلمين ومعقلهم في الملاحم).

 

([978]) «النهاية» (4/305)، و«عون المعبود» (12/391)، و«بذل المجهود» (18/162).

 

([979]) انظر: (ص 310 وما بعد).

 

([980]) وأخرج سعيد بن منصور -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/506) بسند لين عن ابن مسعود، قال: «طريق المسلمين هاربين من الدجال: ملطاط الفرات إلى الشام».

 

والملطاط: طريق على ساحل البحر، ومنه قول رؤبة:

 

نحنُ جمعنا الناس بالمِلطاطِ

 

 

 

في وَرْطة، وأيُّما إيراط

 

انظر: «لسان العرب» (7/390) مادة (لطط).

 

([981]) في «القاموس» (406): «سكر النهرَ يسْكُرُه سَكْراً: سدَّ فاه».

 

([982]) تحرف في مطبوع «المستدرك» إلى «قراكم هذه»، وفي مطبوع «إتحاف المهرة» (10/307 رقم 12816) إلى: «بقرآنكم»!

 

([983]) قال أبو عبيدة: أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (2/527 رقم 1485) -ومن طريقه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/506) من طريق الحكم بن نافع، عن جراح، عن أرطأة، قال: «تفتح القسطنطينية، ثم يأتيهم الخبر بخروج الدجال...»، وفيه: «ومن علامات خروج الدجال: ... وتقلع زيتون المغرب والشام من أصولها، وتيبس الفرات والعيون والأنهار».

 

([984]) يراد بها الكوفة؛ لو كانت هذه الرواية محفوظة، وهي ليست كذلك!

 

([985]) ولا تعارض بينها كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في محلِّه.

 

([986]) قال في «بغية الطلب» (1/512) على إثر الطريق الأولى: «ففي روايته انقطاعاً، وفي هذه عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن عبدالله بن مسعود متصلاً، ذكر قلّة الماء في الفرات»، قال: «وفي رواية المسعودي انقطاع ليس بين القاسم وبين ابن مسعود أحد، ذكر كثرة الماء في الفرات».

 

ثم نقل مقولة ابن المنادي الآتية، وعلق على إثرها بقوله:

 

«قلت: ويحتمل أن الاختلاف في الكثرة والقلّة؛ إنما جاء لاختلاف الواقعتين، بأن يكون ماء الفرات مدَّ سنة، ونقص أخرى، فقال عبدالله ما يؤول حاله إليه».

 

([987]) إذ حسر الفرات عن جبل من ذهب -وهو ثابت في «الصحيح»، وسيأتي الكلام عليه رواية ودراية مفصّلاً- قبل ظهور المهدي.

 

([988]) جريدة «الأهرام» (1/10/1985م).

 

([989]) جريدة «الأهرام» (2/10/1985م).

 

([990]) جريدة «الأهرام» (16/10/1985م).

 

([991]) أخرج أبو القاسم البغوي -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/227)، وابن العديم في «بغية الطلب» (1/488)- بسندٍ صحيح عن سعيد بن عبدالعزيز، أن من أدرك من علمائنا كانوا يقولون: يخرجون أهل مصر من مصرهم إلى ما يلي المدينة، ويخرج أهل فلسطين إلى مشارق -أو مشارف بالفاء- البلقاء وإلى دمشق، ويخرج أهل الجزيرة وقنسرين وحمص إلى دمشق.

 

قال أبو عبيدة: و(مشارف) البلقاء فيها هذه الساعة كثير من أهل فلسطين ممن أخرجوا منها، على هيئة (مخيمات) نازحين في أواخر الستينات من القرن السابق، وبيوت وشقق و(فلل) سكنية هذه الأيام، تأريخ كتابة هذه السطور.

 

([992]) وأورَدَ من ألّفَ في «فضائل الشام» آثاراً أخرى شبيهة بها، وليس همي هنا الاستقصاءَ وشدَّ النَّفَسِ في التخريج، فذاك له موضع آخر، وانظر -على سبيل المثال-: «فضائل الشام» لابن رجب (ص 146-149)

 

([993]) الكَفْر: الأرض المستوية، والغائط الوطي، والنَّبْت، كذا في «القاموس» (605). والكَفْر -أيضاً-: القرية النائية عن الأمصار؛ كما في «النهاية» (4/189).

 

([994]) في مطبوع «التاريخ»: «تميد»! والمثبت من «مختصر ابن منظور» له (1/246).

 

([995]) حِسْمَى -بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح الميم، وسكون آخره-: جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل، انظر: «معجم البلدان» (2/ 258-259).

 

قال ابن ناصر الدين في «التوضيح» (2/364) في معنى (حِسْمى): «ذكر أبو نصر الجوهري أنه اسم أرضٍ بالبادية غليظة، لا خير فيها تنزلها بنو جُذام، ويقال: آخر ماء نَضب من ماء الطُّوفان (حِسْمَى)، فبقيت منه هذه البقية إلى اليوم، وفيها جبال شواهق، مِلْسُ الجانب، لا يكاد القَتَامُ يُفارقها».

 

([996]) أصله: حرف العظم اليابس من الساق؛ أي: عَرِيَ عَظمُ ساقِها من اللحم لهُزالها. كما في «النهاية» (3/162).

 

([997]) سنبك من الأرض: الغليظة القليلة الخير، كذا في «القاموس» (ص 1218)، وطَرَفُ مُقَدّم الحافر، فشبَّه الأرضَ التي يُخرَجُون إليها بالسُّنْبُك في غِلَظهِ وقِلَّةِ خيره. قاله الجوهري في «الصحاح» (4/1589)، ونقله عنه ابن ناصر الدين في «التوضيح» (2/364).

 

([998]) الكوادن: البراذين الهجن.

 

([999]) جعابها جمع (جَعْبة)؛ وهي: كِنانة النَّشّاب.

 

([1000]) «معجم البلدان» (1/319-320).

 

([1001]) انظر: «معجم البلدان» (5/18، 19).

 

([1002]) أي: ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة.

 

([1003]) أي: موضع هاجر إليه؛ وهو الشام، ولاحظ أن هجرته كانت من العراق، وهذه الهجرة هي المذكورة في قوله -تعالى-: {وَأَرادُوا به كَيداً فَجَعَلناهُم الأخسرين . ونَجّيْناه ولُوطاً إلى الأرضِ الّتي بارَكْنا فيها للعالَمِين} [الأنبياء: 70-71]، قال الحسن: إن {الأرضِ الّتي بارَكْنا فيها}: الشام. ومثله عن مجاهد، وابن زيد، وابن جريج.

 

وعن قتادة: كانا بأرض العراق، فأُنجيا إلى أرض الشام، وكان يُقال للشام: عمادُ دارِ الهجرة، وما نقص من الأرض زِيدَ في الشام، وما نقص من الشام زِيدَ في فلسطين. وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يُهلِكُ الله شيخَ= =الضلالة الكذّاب الدّجّال. كذا عند ابن جرير في «التفسير» (17/57 - ط. دار إحياء التراث العربي) وغيره.

 

وقال ابن جرير -رحمه الله- (17/59): «وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام، وبها كان مقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة، وبنى بها البيت، وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يُقِمْ بها، ولم يتخذها وطناً لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.

 

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: «ومعلوم أن إبراهيم إنما أنجاه الله ولوطاً إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والعراق»، وقال عن الحديث المذكور: «فيه بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران -يشير إلى عائلته لما هاجرت من حران عندما هاجمها التتار، وكان عمره آنذاك ست سنوات- وغيرها إلى مهاجر إبراهيم».

 

وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يقول الله -تعالى- مخبراً عن إبراهيم أنه سلَّمه الله من نار قومه، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام، إلى الأرض المُقَدَّسَةِ منها».

 

وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «أي: الشام، ... ومن بركة الشام، أن كثيراً من الأنبياء كانوا فيها، وأنَّ الله اختارها، مُهاجَراً لخليله، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة، وهو بيت المقدس».

 

وقال الشنقيطي -رحمه الله-: «وما أشار إليه -جل وعلا- من أنه بارك للعالَمين في الأرض المذكورة التي هي الشام على قول الجمهور... بيَّنه في غير هذا الموضع».

 

قال الخطابي: «فالهجرة الثابتة هي الهجرة إلى الشام يرغب فيها خيار الناس، وهي مهاجر إبراهيم -صلى الله على نبينا وعليه وعلى آلهما وسلم-».

 

([1004]) له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أحمد (2/84)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 464)، وابن عساكر (1/162، 163)، وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (10/285 رقم 9974) عنه: «رواته ثقات»، وذكره شيخنا الألباني في «الضعيفة» (3697)، وفي «ضعيف الجامع الصغير» (رقم 3259)، وتراجع عن ذلك في «السلسلة الصحيحة» (3203)؛ فانظره.=

 

=       وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية بنسبته إلى النبي × في غير ما موضع من «فتاويه»؛ فانظر (ص 41 و44 و509) من المجلد (27) من «مجموع الفتاوى»، وقال في الصفحة الأخيرة من المذكورات؛ في فصل كان عقده في فضل الشام وأهله:

 

«وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من (حرّان) وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم، ودين نبيهم محمد ×، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد (كذا، ولعل الصواب: تعدل) هجرة أصحاب رسول الله × إلى المدينة؛ لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا ×؛ فإن الهجرة انقطعت بفتح مكة».

 

وقال شيخنا الألباني -رحمه الله- بعده في «السلسلة الصحيحة» (7/1/615-617) ما نصه:

 

«وبهذه المناسبة يحق لي أن أقول بياناً للتاريخ، وشكراً لوالدي -رحمه الله تعالى-:

 

وكذلك في الحديث بشرى لنا: آلَ الوالد الذي هاجر بأهله من بلده (أشقودرة) عاصمة (ألبانيا) يومئذٍ؛ فراراً بالدين من ثورة (أحمد زوغو) أزاغ الله قلبه، الذي بدأ يسير في المسلمين الألبان مسيرة سلفه (أتاتورك) في الأتراك، فجنيت -بفضل الله ورحمته- بسبب هجرته هذه إلى (دمشق الشام) ما لا أستطيع أن أقوم لربي بواجب شكره، ولو عشت عمر نوح -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد تعلمت فيها اللغة العربية السورية أولاً، ثم اللغة العربية الفصحى ثانياً، الأمر الذي مكّنني أن أعرف التوحيد الصحيح الذي يجهله أكثر العرب الذين كانوا من حولي -فضلاً عن أهلي وقومي-؛ إلا قليلاً منهم، ثم وفقني الله -بفضله وكرمه دون توجيه من أحد منهم- إلى دراسة الحديث والسنة أصولاً وفقهاً، بعد أن درست على والدي وغيره من المشايخ شيئاً من الفقه الحنفي وما يُعرف بعلوم الآلة؛ كالنحو والصرف والبلاغة، بعد التخرج من مدرسة (الإسعاف الخيري) الابتدائية، وبدأت أدعو مَن حولي مِن إخوتي وأصحابي إلى تصحيح العقيدة، وترك التعصب المذهبي، وأُحذّرهم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وأُرغِّبهم في إحياء السنن الصحيحة التي أماتها حتى الخاصة منهم، وكان من ذلك: إقامة صلاة العيدين في المصلى في دمشق، ثم أحياها إخواننا في حلب، ثم في بلاد أخرى في سوريا، واستمرت هذه السُّنَّة تنتشر حتى أحياها بعضُ إخواننا في (عمان/الأردن)؛ كما حذّرت الناس من بناء المساجد على القبور والصلاة، وألَّفت في ذلك كتابي «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد»، وفاجأت قومي وبني وطني الجديد بما لم يسمعوا من قبل، وتركت الصلاة في المسجد الأموي، في الوقت الذي كان يقصده بعض أقاربي؛ لأن قبر يحيى فيه كما يزعمون! ولقيت في سبيل ذلك -من الأقارب والأباعد- ما يلقاه كل داعية للحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وألَّفت بعض الرسائل في بعض المتعصبين الجهلة، وسُجِنتُ مرتين بسبب وشاياتهم إلى الحكام الوطنيين والبعثيين، وبتصريحي= =لبعضهم حين سُئلت: لا أؤيد الحكم القائم؛ لأنه مخالف للإسلام، وكان خيراً لي وسبباً لانتشار دعوتي.

 

ولقد يسَّر الله لي الخروج للدعوة إلى التوحيد والسنة إلى كثير من البلاد السورية والعربية، ثم إلى بعض البلاد الأوروبية، مع التركيز على أنه لا نجاة للمسلمين مما أصابهم من الاستعمار والذل والهوان، ولا فائدة للتكتلات الإسلامية، والأحزاب السياسية إلا بالتزام السنة الصحيحة وعلى منهج السلف الصالح -رضي الله عنهم-؛ وليس على ما عليه الخلف اليوم      -عقيدة وفقهاً وسلوكاً-؛ فنفع الله ما شاء ومن شاء من عباده الصالحين، وظهر ذلك جليّاً في عقيدتهم وعبادتهم، وفي بنائهم لمساجدهم، وفي هيئاتهم وألبستهم، مما يشهد به كل عالم منصف، ولا يجحده إلا كل حاقد أو مخرِّف، مما أرجو أن يغفر الله لي بذلك ذنوبي، وأن يكتب أجر ذلك لأبي وأمي، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات: {رَبِّ أَوزِعنِي أنْ أشكُرَ نِعمَتَكَ التي أَنعَمتَ عَلَيَّ وعلى والِدَيَّ وأن أعمَلَ صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عِبَادِك الصّالحين}، رب {.. وَأَصلِحْ لي في ذُرِّيَّتي إني تُبتُ إليك وإنّي مِنَ المُسلمين}».

 

([1005]) «لطائف المعارف» (ص 175-176 - ط. ياسين السواس)، ونقله عنه عبدالرحمن ابن إبراهيم الدمشقي في «حدائق الإنعام» (ص 114).

 

([1006]) «لطائف المعارف» (ص 174)، ونقله صاحب «حدائق الإنعام» (ص 114)، ثم أورد ابن رجب بعد ذلك مقولة أبي أمامة «لا تقوم الساعة حتى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام».

 

([1007]) «فضائل الشام» (ص 114).

 

([1008]) وعنه ابن رجب في «فضائل الشام» (ص 39-40)، وجميع الروايات الآتية عن أحمد فيه.

 

([1009]) في «مسائل أحمد» (ص 228 - ط. محمد رشيد رضا).

 

([1010]) المراد بالثغور: أطراف البلاد الإسلامية المواجهة لدار الحرب، المعرّضة للغزو في كل وقت، فالواجب أن يقيم بها المرابطون المستعدون للدفاع عنها، دون النساء والأطفال الذين يُخشى عليهم السبي، ودليل ذلك: ما أخرجه عبدالرزاق (5/162 رقم 9250)، وأبو عبيد في «غريب الحديث» (3/325) بسند حسن عن عمر، قال: «فرِّقوا عن المنيّة، واجعلوا الرأس رأسين، ولا تُلِثُّوا بدار معجزة، وأصلحوا مثاويكم، وأخيفوا الهوامَّ قبل أنْ تخيفكم».

 

والشاهد منه: قوله: «ولا تلِثُّوا -وتحرف في مطبوع «المصنف» إلى: «تلبثوا»! فليصحح- والإلثاث: الإقامة، قال أبو عبيد: أراد الإقامة بالثغور مع العيال، يقول: ليس هذا بموضع ذريّة، فهذا هو الإلثاث بدار معجزة».

 

([1011]) «فضائل الشام» (46) لابن رجب.

 

([1012]) أعني: هديهم الظاهر من اللحية واللباس، وهي عبارة تكثر دورانها على ألسنة النبهاء من طلبة العلم منهم، ولعل ذلك زال باحتلال أمريكا ديارهم! ولكنهم مع تمكنهم من إقامة هديهم الظاهر؛ إلا أنهم ضاقت الأرض بهم، وكادوا أن ينكروا أنفسهم، حسرة وكمداً، فاللهم! فرِّج عنهم ما هم فيه.

 

([1013]) مثل أئمة الإسلام، وشيوخه العظام: ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبدالوهاب،      وابن باز، والألباني، وابن العثيمين -رحمهم الله جميعاً، ورفع درجاتهم، وألحقنا بهم في الصالحين-.

 

([1014]) لك أن تقدم هذا (الفصل) على الذي قبله؛ إذ الخروج حاصل -إن صح الخبر- قبل الضرب وبعده، ويظهر على وجه أظهر مع مرور الزمن، ولا قوة إلا بالله، وإليه وحده -سبحانه- المشتكى.

 

([1015]) هي بغداد، صرح بذلك الخلال في «علله» (ص 298)، فبوّب على الحديث (بغداد)، وبوب الخطيب عليه في «تاريخ بغداد» (1/325 - ط. الغرب) -وساق طرقه وأكثر- (باب ذكر أحاديث رويت في الثلب لبغداد والطعن على أهليها، وبيان فسادها وعللها، وشرح أحوال رواتها وناقليها)، وتتابع المتأخرون على ذلك؛ كابن الجوزي في «الموضوعات» (2/60)، بوب عليه (باب في ذكر بغداد)، والسيوطي في «الخصائص الكبرى» (2/151) وبوَّب عليه (باب إخباره × ببناء بغداد).

 

بل ورد التصريح بذلك في بعض الروايات عن سفيان -كما سيأتي-، قال الشوكاني في= =«الفوائد المجموعة» (ص 435): «وللحديث طرق ... وفي بعضها التصريح بأنها بغداد».

 

و(بغداد) من (الصراة) إلى (باب التبن) قاله الإمام أحمد فيما نقله الخطيب في «تاريخه» (1/71). وانظر مزيد إيضاح له فيه (1/75-76، 110)، و«خطط بغداد».

 

([1016]) مدينة لا تزال إلى الآن في شمال بغداد، جنوب مدينة سامرّاء. وانظر: «خطط بغداد في العهود العباسية الأولى» (ص 72، 119).

 

وذكر أصحاب «الخطط» أن المنصور لما بنى (بغداد) أتبع مجرى (دجلة)، ولم يتبع مجرى (الفرات)، وذكروا في ذلك منافع واضحة، أشار هو إلى بعض من ذلك ذكره اليعقوبي في «البلدان» (237-238)، ونقله عنه برنارد لويس في كتابه «العرب في التاريخ» (ص 82)، وعمل على تحليله والتعليق عليه. وانظر: «خطط بغداد في العهود العباسية».

 

([1017]) قُطْرَبُّل: اسم قرية قريبة من بغداد، وكانت مُتَنَزَّهاً للبطالين، وحانة للخمّارين. انظر: «معجم البلدان» (4/371)، و«مراصد الاطلاع» (3/1106)، و«الأنساب» (10/190).

 

([1018]) الصراة: نهر ببغداد، يأخذ من نهر عيسى من عند بلدة يقال لها (المحوَّل)، بينها وبين بغداد فرسخ، ويسقي ضياع (بادوريا)، ويتفرع منه أنهار إلى أن يصل إلى بغداد، فيمر بقنطرة العباس ثم قنطرة الصبيبات، ثم قنطرة رحا البطريق، ثم القنطرة العتيقة، ثم القنطرة الجديدة، ويصبّ في دجلة، قاله ياقوت في «معجم البلدان» (3/399)، وزاد: «ولم يبق عليه الآن إلا القنطرة العتيقة والجديدة». وانظر: «مراصد الاطلاع» (2/836).

 

([1019]) ليس في (المجلدين) المطبوعين منه، ولم يكمل طبعه بعد.

 

([1020]) وهي رواية الأصبهانيين.

 

([1021]) هو عبيدالله بن سفيان أبو سفيان الغداني الصواف يعرف بـ(ابن رواحة)، كذاب، ترجمته في «تاريخ بغداد» (1/37).

 

([1022]) وهو ليس في «فوائده» ولا في «رباعياته».

 

([1023]) تحرف فيه «عمار بن سيف» إلى «عمار بن منيف»!!

 

([1024]) وهو ليس في «معجم شيوخه».

 

([1025]) ليس في «أربعينه»، وهو المطبوع له، ومن تآليفه: «الجامع»، «المسند الكبير»، «المعجم»، «الوحدان»، انظر: «السير» (14/159-160).

 

([1026]) أثبته المحقق في الهامش! بناء على وجوده في نسخة خطية واحدة.

 

([1027]) قال بهذا جمع من العلماء؛ منهم: البخاري، قال في «التاريخ الصغير» (2/225) بعد أن ذكر حديثه: «لا يتابع عليه»، وقال ابن عدي (5/1726): «هذا حديث منكر لا يروى إلا عن عمار بن سيف هذا».

 

([1028]) مثله في «سؤالات ابن الجنيد» (ص 350-351 رقم 320).

 

([1029]) في المطبوع: «ابن»؛ وهو خطأ.

 

([1030]) وكذلك قال محقق «إكمال تهذيب الكمال»، ونظرت لعله في «التاريخ الأوسط» له، فلم أظفر به في ترجمة المحاربي (2/193)، ثم ظفرت فيه (1/358-359 رقم 786) بكلام على الحديث الآخر «آخى النبي × ...».

 

([1031]) انظر: «نزهة الألباب» (2/140 رقم 2457).

 

([1032]) كذا في «تهذيب الكمال» (24/566).

 

([1033]) انظر ترجمته مفصلة في: «الجرح والتعديل» (6/42)، «تهذيب الكمال» (16/485-488)، مع التعليق عليه.

 

([1034]) وقع في مطبوع «الضعفاء» للدارقطني (ص 140 رقم 87): «عُمر» بضم العين! وصوابه بفتحها.

 

([1035]) كذا وقع اسمه في إسناد الحديث.

 

([1036]) وانظر له: «ذكر أخبار أصبهان» لأبي نعيم (1/250-251 رقم 408) -وفيه: «كان إبراهيم بن أورمة يقول: شيخ مثل إسماعيل بن عمرو ضيّعوه بأصبهان»، وهذا من حسن الثناء-، و«السابق واللاحق» (ص 126)، و«الوافي بالوفيات» (9/109 رقم 1748 - ط. دار إحياء التراث)، و«السير» (10/435)، و«العبر» (1/399)، و«الميزان» (1/239)، و«اللسان» (1/425).

 

([1037]) وانظر له: «تاريخ بغداد» (10/312)، «الضعفاء» لابن الجوزي (2/163)، «المغني في الضعفاء» (2/415)، و«ديوان الضعفاء والمتروكين» (2/136 رقم 2696).

 

([1038]) «تاريخ بغداد» (1/337 - ط. دار الغرب).

 

([1039]) وانظر في ترجمته -غير ما تقدم-: «الضعفاء» للدارقطني (ص 118 رقم 49)، «ذكر أخبار أصبهان» (1/91)، «الضعفاء» لابن الجوزي (1/87)، «المغني» (1/56)، «ديوان الضعفاء» (1/33 رقم 86)، «السير» (9/423)، «تاريخ الإسلام» (58 الطبقة 26)، «الكشف الحثيث» (59).

 

([1040]) ذكر ابن عرَّاق في «تنزيه الشريعة» (2/52) أنها (ستة عشر طريقاً)، ونوّع طرق عمار ابن سيف، ولا مشاحة في العدّ.

 

([1041]) تحرف في جميع المصادر المذكورة -عدا «تاريخ بغداد»-، وكذا في «اللآلئ المصنوعة» (1/469) إلى (محمد)!!

 

([1042]) هو غير موجود في طبعة طهران، إذ هي مختصرة مجردة من الأسانيد والكلام على الرواة.

 

([1043]) انظر ترجمته في: «الضعفاء» لابن الجوزي (2/47)، «المغني» (1/302)، «ديوان الضعفاء» (1/386 رقم 1914)، «الكشف الحثيث» (135).

 

([1044]) لم أظفر به في فهارس «معاجمه» الثلاثة: «الصغير»، و«الأوسط» -بطبعتيه-، و«الكبير»، ولا في «مسند الشاميين» له، ولا في انتخاب ابن مردويه لحديثه -وجله في «الأوسط»-، ولا في «الدعاء»، ولا في «جزء من اسمه عطاء».

 

ثم وجدت ابن حجر في «لسان الميزان» (8/344 - ط. أبو غدة) يعزوه إلى «الأوسط» للطبراني، ولم أظفر به فيه، وليس فيه ترجمة لـ(إبراهيم بن محمد القشيري)، ولم يترجمه الشيخ حماد الأنصاري -رحمه الله- في «بلغة القاصي والداني»! والحديث غير موجود في فهارس «الأوسط» بطبعتيه، ولا في «مجمع البحرين»، ولا في «مجمع الزوائد» كلاهما للهيثمي.

 

([1045]) انظر له: «الضعفاء» لابن الجوزي (3/178)، «المغني» (2/712)، «ديوان الضعفاء» (2/420 رقم 4480)، «تنزيه الشريعة» (1/123).

 

([1046]) لا يوجد في «سؤالاته» لا في طبعة القشقري، المطبوعة في الباكستان، سنة 1404هـ، ولا في طبعة مجدي السيد، المطبوعة عن مكتبة القرآن، مصر، دون تاريخ.

 

([1047]) انظر له -أيضاً-: «الضعفاء» (2/19) لابن الجوزي، «المغني» (1/279)، «ديوان الضعفاء» (1/351 رقم 1745).

 

([1048]) في «الفوائد المجموعة» (ص 434-435).

 

([1049]) لم يعزه في «كنز العمال» (14/279 رقم 38726) إلا للخطيب.

 

([1050]) في «القاموس» (ص 319): «الجُوخة -بالضم-: الحفرة». وفي «اللسان» (3/13): «جاخ السيل الوادي يجوخُه جَوْخاً: جَلَخَه وقلع أجرافه».

 

قلت: ولعله لذلك سميت (الجُوخة): (الحفرة).

 

([1051]) نقله قبله ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/69) و«الضعفاء والمتروكين» (2/219 رقم 2520)، ولم يترجم في مطبوع «الضعفاء» لأبي نعيم.

 

([1052]) انظر ترجمته في: «الضعفاء» (2/219)، «الموضوعات» (1/152)، «المغني» (2/476)،= =«ديوان الضعفاء» (2/197 رقم 3124)، «الكشف الحثيث» (199)، «تنزيه الشريعة» (1/92).

 

([1053]) في «الخصائص الكبرى» (2/151).

 

([1054]) لم أظفر به في «تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية»، وهو المعنيُّ عند إطلاق العزو لأبي نعيم، ولم أجده في (الفهارس) الصادرة عن دار الكتب العلمية، ولا في «الكنز»، ولا في «البغية في ترتيب أحاديث الحلية» للغماري!

 

([1055]) القائل هو الغلابي، كما نص عليه ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/61).

 

([1056]) جزم الفاضل الدكتور خلدون بن الأحدب في «زوائد تاريخ بغداد» (1/149) أنه «عثمان بن عمران الحنفي» المذكور في «ثقات ابن حبان» (8/453)، و«لسان الميزان» (4/149)، وعَدّ «العجيفي» تحريفاً، وما أصاب في ذلك لأمرين: الأول: أن هذه النسبة مجودة التقييد والضبط في النسخ كافة ليس بينها خلاف، فإن كان هناك من خطأ فهو من المصنف، وهو بعيد. نعم؛ لم يذكر السمعاني هذه النسبة في «الأنساب» ولا استدركها عليه عز الدين ابن الأثير في «اللباب»؛ ربما لأنهما لم يقفا على ترجمة له، ولم نقف نحن على من ترجمه -أيضاً-، فهو شيخ لذاك الغلابي الكذاب، فإن كان موجوداً غير مخترع فإنه منسوب إلى جد له يقال له: «عُجَيْف»، والعادة أن السمعاني وابن الأثير لا يذكران نسبة من لا يقفان له على ترجمة. والثاني: أن عثمان بن عمران الحنفي أعلى طبقة من هذا العجيفي، فإن الحنفي من الرواة عن ابن جريج وطبقته، وأين ابن جريج من نائل بن نجيح؟ أفاده محقق «تاريخ بغداد».

 

([1057]) تحرف في الطبعة القديمة من «تاريخ بغداد» إلى: «سمر»، وصوابه المثبت، كما في «الجرح والتعديل» (6/239)، «التاريخ الكبير» (6/344)، وغيرهما.

 

([1058]) يعني: ابن الحنفية وأبا الأسود الدؤلي.

 

([1059]) من العجيب ما وقع في مطبوع «التهذيب» (10/371 - ط. دار الفكر): «قال أبو حاتم: ثقة»!! وهو ليس من زيادات ابن حجر، وفي أصله «تهذب الكمال» (29/308): «شيخ»!!

 

([1060]) أهملها صاحب «زوائد تاريخ بغداد»، وهي على شرطه.

 

([1061]) «الموضوعات» (2/69).

 

([1062]) «السنن الكبرى» (7/112) للبيهقي.

 

([1063]) بل وجدته من حديث علي نفسه، لكن لم أظفر به موصولاً، وإنما علقه ابن الفقيه الهمداني في كتابه «بغداد مدينة السلام» (ص 108-109)، قال تحت عنوان: (ما ذكر في ذم بغداد وكراهة نزولها):

 

«وقد كره قوم من العلماء السكنى ببغداد والمقام بها وعابوها، وذكروا أنها دار فتنة لكثرة ما فيها من الفساد ومن أنواع الفجور وشرب الخمور والزنا وكثرة الربا...» ثم ذكر حديث جرير ابن عبدالله السابق، وقال:

 

«وقال أبو العالية: يكون خليفة يملك عشرين سنة إلا شهراً، ثم لا تسل عن هلكة العرب، تبنى مدينة بين قرية الحمر ودجلة ولها أربعة أبواب مشيدة: وشرقي وغربي وعراقي وشامي يظهر فيه الفسق يخسف بها، ولبني حام عليكم نزوة يحاربونكم حرب الاستيلاء وبني قنطورا نزوة مثل ذلك، ثم لا تسل عن هلكة العرب.

 

وكان بشر بن الحارث يقول: ما أسست بغداد إلا على الفلا، مرة حرق ومرة غرق، ومرة فتنة»، ثم قال -وهذا هو الشاهد-:

 

«وقال الهذيل عن بلال عن عطاء، قال: خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي =الله عنه- متوجهاً إلى الشام، فنزل بقرية يقال لها قطربل ذات نخل وبساتين، فسأل رجلاً من= =أهلها، فقال: ما اسم هذه القرية؟ قال: قطربل. فقال علي -رضي الله عنه- لأصحابه: ارحلوا. وسار عنها فزعاً، حتى نزل المسيلحين، وقال لأصحابه: ضعوا أسلحتكم وأمتعتكم؛ فقد نجوتم من البلاء -إن شاء الله-. ثم أنشأ يحدثنا عنها، فقال: يا لها من قرية! ما يجمع الله فيها وعلى ما يفترقون. ثم حانت منه نظرة إلى قرية فيها تل عظيم، فقال: والذي نفسي في يده، لتكونن تحت هذا التل وقعة صلمية، يحدث عنها كل ناج من القتل، آية ذلك: إذا شققت فيها الأنهار، وبنيت القصور، وشيدت الدور، وكثر الفجور، ولم يتناها أهلها عن منكر؛ فهنالك تحل بهم البلية؛ لما ارتكبوا من الخطيئة».

 

وهذا الحديث لم أظفر به على كثرة بحث، وطول فتش، ولا وجود له في «مسند علي بن أبي طالب» ليوسف أوزبك. وأطال الهمداني بعد ذلك في ذكر أقوال من ذم بغداد، فراجع كلامه.

 

([1064]) لم أقف عليه في مطبوع «معاجمه» الثلاثة، ولا في كتبه الأخرى المطبوعة.

 

([1065]) لم أقف عليه في «الحلية»، ولا في «فهارسها»، ولا في «ترتيبها»، ونظرت فيما أعلم من مطبوع كتبه، فلم أفز به، وأبو نعيم مكثر جدّاً، والذي لم يطبع له كثير، بيّنتُه -ولله الحمد- في تقديمي لتحقيق جزئه «في طرق حديث إن لله تسعة وتسعين اسماً».

 

([1066]) عند نعيم: «شط الدجلة».

 

([1067]) عند نعيم: «لبني».

 

([1068]) عند نعيم: «جهنَّم»!!

 

([1069]) عند نعيم: «النصرة»! وفي نسخة منه: «البصرة».

 

([1070]) (4/521-522)، في كتاب (الفتن والملاحم) لا (الأهوال).

 

([1071]) في كتابه «الضعفاء» (ص 213/رقم 545).

 

([1072]) في «سؤالات الآجري» (3/242).

 

([1073]) كذا في «التهذيب» (9/83)، ونقله ابن الجوزي في «ضعفائه» (3/45 رقم 2908)، وزاد: «دامر». وانظر له: «الكامل» (6/2147-2148)، «تهذيب الكمال» (24/547).

 

([1074]) لا ذكر له في كتاب «رجال الحاكم في المستدرك» للشيخ مقبل بن هادي -رحمه الله تعالى-.

 

([1075]) «السُّفْيَاني»: هو الأمير أبو الحسن علي بن عبدالله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان القُرَشي الأموي الدمشقي، ويعرف بأبي العَمَيْطَر. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/227) -في حوادث (سنة خمس وتسعين ومئة)-: «وفي ذي الحجة من هذه السنة ظهر أمر السُّفياني بالشام... فعزل نائب الشام عنها، ودعا إلى نفسه، فبعث إليه الأمين جيشاً فلم يقدموا عليه، بل أقاموا بالرَّقَّة».

 

وانظر له بالتفصيل: «الكامل» لابن الأثير (6/249)، «تاريخ الطبري» (8/415)، «دول الإسلام» (1/123)، «السير» (1/284-286)، «شذرات الذهب» (1/342)، «نزهة الألباب» (1/139 و2/269).

 

وقال الذهبي في «المشتبه» (5/111 - مع «التوضيح»): «والسفياني الذي كاد أن يتملَّك بعد مقتل الأمين هو: أبو العَمَيْطَر علي بن عبدالله، من ولد أبي سفيان بن حرب». زاد ابن حجر في «تبصير المنتبه» (2/735) عليه بقوله: «والسُّفياني المذكور في كتب الملاحم والفتن أنه يخرج في آخر الزمان، يقال: إنَّ بعض آل أبي سفيان وضع خبره لمّا زالت دولتهم».

 

وقال مصعب بن عبدالله الزُّبيري (ت 236هـ) في كتابه «نسب قريش» (ص 129) في ترجمة (خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان): «زعموا أنه هو الذي وضع ذكر السفياني وكثَّره، وأراد أن يكون للناس فيهم طمع، حين غلبه مروان بن الحكم على الملك، وتزوج أمَّه أمَّ هاشم، وقد كانت أمُّه تكنى به»، ونقله عنه المزي في «تهذيب الكمال» (8/202)، وأقره ابن حجر في «التهذيب» (3/110).

 

وانظر الآثار الواردة في السُّفياني وأخباره: «التاريخ الكبير» (4/166 رقم 2346)، «الفتن» للحافظ أبي عبدالله نُعَيم بن حمّاد المَرْوَزي (1/278-354، 359 و2/506، 690-691، 698، 700) -وهو من أوسع المصادر في ذلك-، و«المستدرك» للحاكم (4/468-469)، و«تاريخ بغداد» (1/38، 39، 40)، و«العلل» لابن أبي حاتم (2/425-426 رقم 2785)، و«الفتن» لأبي عمرو الداني (4/937، 978 و5/1021-1022، 1090-1091، 1093).

 

([1076]) ذكرته هنا تعجّباً -على حد قول الحاكم في «مستدركه»- لا مُثبتاً، ولكثرة إشاعة هذا الخبر ونحوه في المجالس من قبل المعتنين بتتبُّعها دون فحصها والتثبت منها، وأي خير في حديث ترويه وأنت لا تفلّيه، ولا تبحث عن ناقليه، واختلط صحيحه بواهيه؟!

 

([1077]) في مطبوع «تاريخ بغداد»: «البزّار» بالراء المهملة. وفي ترجمته في «تاريخ بغداد»: «البزاز» بالزاي المعجمة في الموضعين معاً، وهو الصواب.

 

([1078]) تَصَحَّفَ في مطبوع «تاريخ بغداد» إلى: «نبأنا أبو يحيى». والتصويب من ترجمته في «التهذيب (11/237). وكنيته: «أبو زكريا»، وهو والد الراوي عنه.

 

([1079]) هو في «بذل المساعي في جمع ما رواه الأوزاعي» (ص 77/رقم 73).

 

([1080]) كذا في «الأنساب» (3/51) وعنه في «إكمال تهذيب الكمال» (10/255) وعنه في «تهذيب التهذيب» (8/87) و«التقريب» (ص 426/رقم 5109).

 

([1081]) «أسماء الخلفاء والولاة وذكر مُدَدهم» (ص 360-361 - ملحقه بـ«جوامع السيرة»)، و«السير» (4/249).

 

([1082]) «أسماء الخلفاء والولاة وذكر مُدَدهم» (ص 361) لابن حزم.

 

([1083]) «السير» (7/109)، ذكره عن جماعة.

 

([1084]) لم يعزه ابن حجر في «إتحاف المهرة» (16/1/172-173 رقم 20582) إلا له.

 

([1085]) التّلاع: مسايل الماء من عُلُوّ إلى سُفل، واحدها (تَلْعة). وقيل: هو من الأضداد، يقع على ما انحدر من الأرض وأشرف منها، ومنه الحديث: «فيجيء مطر لا يمنع ذَنَبُ تَلْعَة»؛ يريد: كثرته، وأنه لا يخلو منه موضع. كذا في «النهاية» (1/194)، وهو مأخوذ من «المجموع المغيث» (1/236-237)، ونحوه في «الفائق» (1/153). وانظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (4/2)، و«غريب الحديث» للخطابي (1/344 و3/178)، و«غريب الحديث» لابن الجوزي (1/110)، «مجمع بحار الأنوار» (1/267-268).

 

([1086]) انظر في تقرير ذلك: «جامع التحصيل» (111)، «التقييد والإيضاح» (96)، «فتح المغيث» (1/227)، «شرح علل الترمذي» (2/825)، «تدريب الراوي» (1/225)، «توضيح الأفكار» (1/373)، «شرح ألفية السيوطي» (76)، «الباعث الحثيث» (ص 50-51)، ودرج عليه المعاصرون في تقريراتهم، وتطبيقاتهم، انظر -على سبيل المثال-: كلام العلامة المعلمي اليماني في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص 42)، «إتحاف ذوي الرسوخ» للشيخ حماد الأنصاري (6، 54)، «المقترح» (ص 27) للشيخ مقبل بن هادي، «السلسلة الضعيفة» (3/409) و«الصحيحة» (رقم 1881) لشيخنا الألباني.

 

وانظر -أيضاً-: «التدليس في الحديث» (60، 397) للدميني، «تدليس التسوية» (47) لمجدي عرفات، «منهج المتقدمين في التدليس» (97) لناصر الحمد.

 

([1087]) انظر: «ميزان الاعتدال» (4/348)، «السير» (9/215)، «تهذيب الكمال» (31/96).

 

([1088]) انظر: «تهذيب الكمال» (31/96)، «ميزان الاعتدال» (4/347).

 

([1089]) انظر: «تهذيب الكمال» (31/97)، «الميزان» (4/348).

 

([1090]) «التمهيد» (1/31).

 

([1091]) «الثقات» (9/222).

 

([1092]) «الضعفاء والمتروكين» (رقم 632).

 

([1093]) «الكفاية» (ص 518).

 

([1094]) تعقّبه ابن حجر في «النكت على ابن الصلاح» (2/620) بقوله: «تعريف غير شامل، بل حق العبارة أن يقول: «أن يجيء الراوي...»؛ ليشمل المدلس وغيره، إلى حديث قد سمعه من شيخ، وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة، فيصير الإسناد عالياً، وهو في الحقيقة نازل».

 

([1095]) «التقييد والإيضاح» (ص 95-96).

 

([1096]) «توضيح الأفكار» (1/375).

 

([1097]) استفدته من «تدليس التسوية» (ص 19-20).

 

([1098]) أعله به فقط صاحب «زوائد تاريخ بغداد» (1/156).

 

([1099]) مقدمة «الفوائد المجموعة» (ص 8، 9).

 

ثم وجدتُ نحوه في تفاسير (الرافضة) عن أبي جعفر الباقر قوله، فلعل كذاباً سرقه، وأبهم الوليد اسمه. انظر: «تأويل الآيات» (2/42 رقم 2)، و«البرهان في تفسير القرآن» (7/64-65 رقم 4) للبحراني، وقارنه بما في «الفتن» لنعيم بن حماد (1/304- رقم 884).

 

([1100]) ووجدتُ قوله: «ونظير هذا التفسير» من كلام الثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان» (8/302)، وهو متقدم على القرطبي بما يزيد على مئتي سنة، وقولهم هذا يؤكّد أن المراد بالمدينة في الأثر السابق -إن صح- هي بغداد، وأن (عبدالله) أو (عبدالإله) القرشي ينزل بغداد ويحتلها، وحينئذ يقع الخسف، وهو على خلاف ما يتبادر إلى كثير من قرائّه، من أن النهر (نهر الأردن)! كما سمعته من غير سائل، والله الهادي.

 

([1101]) أي: الشدائد.

 

([1102]) أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/307 رقم 891): حدثنا ابن حميد، عن أرطاة، قال: إذا بنيت مدينة على الفرات، فهو النّفق والنفاق، وإذا بنيت مدينة على ستة أميال من دمشق، فتحزّموا للملاحم».

 

([1103]) الأصول الخطية للتفسير المطبوع ناقصة، وأتمه المحقق من تفسيري «ابن كثير» و«الدر المنثور»، وليته توسع، فنظر في الكتب التي تسند من طريقه، لاستطاع أن يجمع كثيراً من المفقود بالأسانيد.

 

([1104]) تحرف في مطبوعه إلى «رواية مالك». وهو خطأ، ووقع على الجادة في «تنزيه الشريعة» (2/52).

 

([1105]) مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين.

 

([1106]) في «تاريخ بغداد» (1/343 - ط. دار الغرب)ـ، ثم أخذ بعد ذلك بسرد مناقب بغداد، واعترض عليه ابن مفلح في «الفروع» بقوله: «هكذا قال! مع أنه احتج في فضل العراق بأشياء من جنسها، والله أعلم». ونقله ابن عرَّاق في «تنزيه الشريعة» (2/52).

 

([1107]) لا تنس ما قدمناه عن جماعة من الصحابة في هذا الباب، وخاصة عن بريدة وابن مسعود وحذيفة -رضي الله عنهم أجمعين-.

 

([1108]) الأديم، يقال: أديم الأرض: صعيدها، والمراد: استقرار الضرر فيها، وتمكّن الفتنة منها كل التمكن. انظر: «مجمع بحار الأنوار» (1/37)، ومضى نحوٌ من كلام علي بسندٍ ضعيف.

 

([1109]) كذا في مطبوع «مختصر ابن منظور» (1/246) -أيضاً-.

 

([1110]) جلُّ هذه الحروب مذكورة في (أخبار السفياني)، وسبق كلام مصعب بن عبدالله الزبيري في «نسب قريش» (ص 129)، وكلام ابن حجر في «تبصير المنتبه» (2/735) أنها كذب كلها؛ ولذا أعرضتُ عنها.

 

([1111]) يرويه عنه خبيب بن عبدالرحمن، واختلف عنه، فرواه أبو سعيد الأشج في «جزء من= =حديثه» (ص 61-62/رقم 11) -ومن طريقه المذكورون عدا مسلماً وأبا عوانة-، ومسلم، وأبو عوانة من طريق سهل بن عثمان؛ كلاهما عن عقبة بن خالد، عن عبيدالله بن عمر عن خبيب به مرفوعاً.

 

واختلف عن شعبة، فرفعه الحميدي عن شعبة، ووقفه غيره. والصحيح عن شعبة الموقوف، والصحيح عن عبيدالله المرفوع. قاله الدارقطني في «العلل» (10/276-277 رقم 2009).

 

([1112]) رووه جميعاً من طريق أبي سعيد الأشج -وهو في «جزء من حديثه» (ص 62/رقم 12)-: حدثنا عقبة، نا عبيدالله، حدثني أبو الزناد، عن الأعرج، به.

 

وانفرد الحسين بن حميد عن أبي سعيد الأشج بزيادة: «من فضة»، فرفعه بلفظ: «يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب ومن فضة». أخرجه ابن العديم في «بغية الطلب» (1/514-515)، ولم أظفر بمن تابعه عن أبي سعيد بهذه الزيادة، وهو متكلم فيه. انظر: «الميزان» (1/533).

 

نعم؛ وردت عن غيره، ولكن من مخرج آخر، وفيه كلام، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان ما فيه، والله الموفق.

 

([1113])رواه سيف بن محمد ابن أخت سفيان -وهو متّهم، كما تقدم-، عن عبيدالله بن عمر، عن أبي الزناد، عن الأعرج، به. بزيادة: «فيقتتلون عليه من كل مئة تسعة وتسعون»! أخرجه من طريقه أبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (2/266).

 

([1114]) أي: سهيل. فالمقولة المذكورة من قول أبيه أبي صالح ذكوان، مدرجة في الحديث.

 

([1115]) تحرف اسمه في مطبوع «الحلية» إلى: «الحسن»! ووقع على الصواب في «تقريب البغية» (2/463 رقم 2734).

 

([1116]) «العلل» (10/189).

 

([1117]) في الموطن الثاني من «المسند»: «فيقتتل».

 

([1118]) هو: جعفر بن عبدالله بن الحكم.

 

([1119]) قال العلماء: المراد بالأعناق هنا: الرؤساء والكبراء، وقيل: الجماعات. قال القاضي عياض: وقد يكون المراد بالأعناق نفسها، وعبر بها عن أصحابها، لا سيما وهي التي بها التطلع= =والتشوّف للأشياء. قاله النووي في «شرح صحيح مسلم» (18/27-28). وانظر: «إكمال المعلم» (8/433)، و«الديباج» (6/222).

 

([1120]) من عجيب شرح أحمد الغماري في كتابه «مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية» (ص 25) قوله في شرح «لئن تركنا الناس...»: «فإنه إخبار بالتأميم الذي صارت حكومات البلاد التي فيها البترول يفعلونه، ويقولون نفس هذه المقالة التي حكاها النبي ×».

 

قلت: وهذا مبني على أن جبل الذهب هو البترول، وسيأتي رده من وجوه، وسياق الحديث لا يساعد على المعنى المذكور، ولا المقتلة التي عنده، وهي عند الغماري القنابل الذرية بين أمريكا وروسيا! وسيأتي قريباً كلامه بطوله! وهناك تعقبه، والله الهادي.

 

([1121]) أُجُم -بضمتين-: الحصن، والجمع آجام؛ كأُطُم وآطام. راجع: «النهاية» (1/26)، و«إكمال المعلم» (8/434)، و«الديباج» (6/222). وأصبح فيما بعد في دار عاتكة بنت عبدالله ابن يزيد بن معاوية. انظر: «تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة» (ص 79).

 

([1122]) الاحتقاق: الاختصام، وقول كل واحد: الحق بيدي. انظر: «النهاية» (1/514).

 

([1123]) هذه الصيغة محمولة على الوصل، كما سبق وأن قررناه فيما مضى (ص 266 وما بعد).

 

([1124]) سقطت من مطبوع «السير»، وهي في «الحلية».

 

([1125]) كذا في مطبوع «الحلية» و«السير»، والذي وقفت عليه: أن بين إسحاق مولى المغيرة وأُبي: (المغيرة بن نوفل)، وستأتي هذه الطريق قريباً.

 

([1126]) كذا في الأصلين، وكأن هذا من تسامح النساخ في الإعراب، والصواب: «أبيّاً». أفاده المعلّمي اليماني في تعليقه على «التاريخ الكبير».

 

([1127]) جعله البخاري في «التاريخ الكبير» (1/388): «إسحاق بن سالم مولى بني نوفل» وهو غيره، فرقهما ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/222)، وابن حبان في «الثقات» (6/46، 47)، ووضحه بما لا مزيد عليه: الخطيب في «الموضح» (1/60-61)، وعبدالغني بن سعيد. وانظر: «تهذيب الكمال» (2/426)، و«زوائد رجال صحيح ابن حبان على الكتب الستة» (2/563-566).

 

([1128]) نقلها المزي في «تهذيبه» (2/370)، والذهبي في «ميزانه» (1/181) هكذا: «قال النسائي: ليس بثقة». وتعقبهما الدكتور بشار بما هو متعقَّب. انظر: «زوائد رجال صحيح ابن حبان» (2/529-530).

 

([1129]) هو محمد بن عوف بن سفيان الحمصي.

 

([1130]) هو لقب جد إسحاق. انظر: «نزهة الألباب» (رقم 1346).

 

([1131]) جاءت العبارة في «تهذيب الكمال» (2/370) هكذا: «قال أبو حاتم: شيخ لا بأس به، ولكنهم يحسدونه، سمعت يحيى بن معين أثنى عليه خيراً»!!

 

([1132]) كذا في «فتح الباري» (13/81)، و«عمدة القاري» (24/213)، وحكم بشذوذ اللفظة المذكورة شيخنا الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (رقم 3270).

 

([1133]) «تكملة فتح الملهم» (6/289).

 

([1134]) «تاريخ ابن عساكر» (64/166)، «تهذيب الكمال» (31/482).

 

([1135]) «تاريخ ابن عساكر» (64/166)، «تهذيب الكمال» (31/483). وانظر: «الميزان» (4/399 رقم 9596).

 

([1136]) في «تاريخ دمشق» (64/159).

 

([1137]) سيأتي بيانها في الحديث الآتي، وكن على تذكُّر لما سيأتي في التعليق على (ص 539-540).

 

([1138]) أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» (1/335-336 رقم 970) بسند ضعيف ومنقطع عن أبي هريرة قوله: «تدوم الفتنة الرابعة اثنا عشر عاماً، ...» وذكر نحوه، وفي هذا مخالفة لما ورد في الحديث: «ثمانية عشر عاماً».

 

([1139]) مثله: ما أخرجه عبدالملك بن حبيب في «أشراط الساعة وذهاب الأخبار وبقاء الأشرار» (ق2/ب)، قال: «بلغني عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أنه قال: لا تقوم الساعة حتى= =يمشي الناس عرايا في السِّكك؛ من قلّة الحياء، لا يلبسون ثوباً، ويركب بعضهم بعضاً...»، وفيه:

 

«وحتى يحسر الفرات بالكوفة عن جبل من ذهب، فيقتتلون عليه، فيقتل من كل عشرة تسعة». وهو بلاغ، يحتاج إلى معرفة من وصله، وفيه التصريح بأن انحسار الفرات يكون في الكوفة، وإذا كان القتال المذكور في حديث عبدالله بن عمرو الآتي (ص 573) عند أسطوانة يكال الذهب عندها بالتراس، هو عين القتال المذكور في هذا الحديث، فإنه يدل على (انحسار الفرات) في سوريا، ويحتمل أن يتكرر الانحسار، والذي سيظهر معك هناك أن الأسطوانة هناك غير الذهب الذي سيحسر عنه الفرات، والله أعلم.

 

([1140]) نقله في «كنز العمال» (11/163 رقم 31047): «يدفعونها»، ولم يعزه إلا له.

 

([1141]) تغشى العراق، وتطيفُ بالشام، وتخبطُ الجزيرة، كما في الأثر السابق. وورد ذلك من مقولة كعب عند نعيم في «الفتن» (1/213 رقم 585)، ولفظه: «ليوشكنّ العراقُ يعركُ عركَ الأديم، ويشقُّ الشامُ شقَّ الشعر، وتفتُّ مصرُ فَتَّ البعرة، فعندها ينزلُ الأمر».

 

([1142]) انظر: «الميزان» (2/328).

 

([1143]) فرق بينهما جمعٌ. انظر: «الميزان» (1/170-171 رقم 689)، و«لسان الميزان»       (1/373-374).

 

([1144]) كتاب الإمارة (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول) (رقم 1842) بعد (44).

 

([1145]) هو من المناضلة؛ وهي: المراماة بالنشاب.

 

([1146]) هو بفتح الجيم والشين؛ وهي: الدواب التي ترعى وتبيت مكانها.

 

([1147]) الأدلة على ذلك كثيرة جدّاً؛ منها:

 

- الآثار التي فيها أن الفتن أربع، أو خمس، أو ما شابه ذلك، فلازم هذا أنها أمواج، وهي الكبار، وما عداها الصغار، وثبت ذلك عن حذيفة في «صحيح مسلم» (2891) وغيره، وسبق لفظه.

 

ومن هذه الآثار، ما سيأتي قريباً عن علي.

 

وما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/54)، والسرقسطي في «الدلائل» (2/924) بسند حسن عن حذيفة، قال:

 

«تكون فتنة، فيقوم لها رجال، فيضربون خيشومها، حتى تذهب»، ثم ذكر مثل ذلك الثانية والثالثة والرابعة، قال:

 

«ثم تكون الخامسة دَهْماء، مجلّلة تنبثق كما ينبثق الماء».

 

قال السرقسطي: «تقول: انبثق عليهم الماء: إذا أقبل عليهم، ولم يظنوا به، والبثق: كَسُرْك شطّ النهر؛ لينبثق الماء».

 

ويشهد له: ما أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/356 رقم 20733) -ومن طريقه: نعيم بن حماد في «الفتن» (1/52 رقم 78)، والحاكم في «المستدرك» (4/437)-من طريق طارق بن شهاب-، وابن أبي شيبة في «المصنف» (15/24 رقم 19004)، وإسحاق بن راهويه في «مسنده» -كما في «المطالب العالية» (17/622 رقم 4361 - ط. العاصمة)، و«إتحاف الخيرة المهرة» (10/252 رقم 9916)، وقال البوصيري: «ورواته ثقات»-، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1/52 رقم 77)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/219، 220)، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (2/817-818 رقم 2210)، والحاكم في «المستدرك» (4/504) من طريق الأعمش، عن منذر الثوري، عن عاصم بن ضمرة عن علي -رضي الله عنه-، قال: «جعل الله -عز وجل- في هذه الأمة خمس فتن: فتنة خاصة، ثم فتنة عامة، ثم فتنة عامة، ثم فتنة خاصة،= =ثم فتنة عامة -كذا لفظ إسحاق، ولفظ سائرهم: «فتنة عامة، ثم فتنة خاصة»-، ثم تجيء فتنة سوداء مظلمة -وفي رواية: الفتنة العمياء الصماء المطبقة-، فيصير الناس فيها كالبهائم».

 

وإسناده حسن؛ من أجل عاصم بن ضمرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد فيه.

 

وانظر في معنى هذه الفتن: ما سيأتي قريباً في أثر علي -رضي الله عنه-، وما سبق في حديث أبي هريرة (ص 534).

 

([1148]) انظر: «تهذيب الكمال» (5/308) والتعليق عليه.

 

([1149]) انظر: «تهذيب الكمال» (14/517-518) والتعليق عليه.

 

([1150]) سيأتي مزيد بيان وبحث لهذا الموضوع.

 

([1151]) انظر: «صحيح البخاري» (الأرقام 85، 1036، 1412، 3608، 3609، 4635، 4636، 6037، 6506، 6935، 7061، 7115، 7121)، و«صحيح مسلم» (رقم 157).

 

([1152]) ذكره في (باب ما جاء في الأخبار عن ملك بني عباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-) فحمله على المهدي العباسي!! خلافاً لغيره من أهل العلم.

 

([1153]) وأخرجه مرفوعاً دون موطن الشاهد منه: أحمد (5/277) -ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (رقم 1445)-، والبيهقي في «الدلائل» (6/516)، وابن حجر في «القول المسدد في الذّب عن المسند» (ص 45) بسند ضعيف، فيه شريك النخعي، سيئ الحفظ، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ضعيف، كان يغلو في التشيع، وهو من طريق أبي قلابة عن ثوبان، دون واسطة أبي أسماء -واسمه: عمرو بن مرثد-، وأبو قلابة لم يسمع من ثوبان.

 

وعزاه السيوطي في «الحاوي» (2/127، 133) إلى أبي نعيم في «المهدي» باللفظين، المختصر والمطول.

 

وانظر: «الموسوعة في أحاديث المهدي» (164-165 - الضعيفة والموضوعة)، و«المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة» (ص 184-194).

 

([1154]) رواه أحمد في «المسند» (1/10-11) نحوه. ولذلك كان الصحابة لا ينادونه إلا بـ: «يا خليفة رسول الله!»؛ كما رواه الحاكم (3/79-80) من طرق، وصحح بعضها، ووافقه الذهبي. (منه).

 

([1155]) قلت: أخرجه بهذا اللفظ الدارمي (2/287) من حديث ابن عمر، وأحمد (5/83)،= =وابن خزيمة (2533) من حديث عبدالله بن سرجس، وسندهما صحيح.

 

وأصلهما في «مسلم»، وهما مخرَّجان في «صحيح أبي داود» (2339). (منه).

 

([1156]) قال الهيثمي في «المجمع» (3/298): «رواه أحمد والطبراني في «الكبير»، وفيه ابن إسحاق وهو ثقة، لكنه مدلس».

 

([1157]) «إتحاف الجماعة» (2/187).

 

([1158]) انظر بعضاً منها في: «المستدرك» (4/517-518)، «الضعفاء الكبير» (3/51-52)، «الموضوعات» (3/190) لابن الجوزي، و«اللآلئ المصنوعة» (2/386)، و«التعقبات على الموضوعات» (رقم 269 - بتحقيقي) وتعليقي عليه، وقد تكلمت عليها في كتابي «الملاحم» بإسهاب وتطويل.

 

([1159]) أي: شرور وفساد. انظر: «النهاية» (5/279).

 

([1160]) في مطبوع «الكنز» بالقاف بين الطائين!

 

([1161]) انظر له -غير ما تقدم-: «سؤالات الآجري» (3/رقم 119)، «بحر الدم» (ص 169/ رقم 347)، و«الضعفاء الصغير» (رقم 148) و«التاريخ الصغير» (2/46) كلاهما للبخاري، و«الضعفاء» (622) لأبي زرعة الرازي، و«تهذيب الكمال» (10/271-274)، و«إكمال تهذيب الكمال» (5/236-237 رقم 1881).

 

([1162]) «تهذيب الكمال» (3/309).

 

([1163]) «الضعفاء الكبير» (1/129)، «تهذيب الكمال» (3/309).

 

([1164]) «تاريخ الدوري» (2/42).

 

([1165]) كذا في «تاريخ الدارمي» (ص 71/رقم 147)، وكذا قال معاوية بن صالح عن ابن معين، كما في «الكامل» (1/398)، و«الضعفاء الكبير» (1/129)، وكذا نقله جعفر بن أبان عنه، كما في «المجروحين» (1/174).

 

([1166]) «تهذيب الكمال» (3/310).

 

([1167]) انظر: «طبقات ابن سعد» (6/157)، «الجرح والتعديل» (2/319)، «المعرفة والتاريخ» (3/39، 66)، «سؤالات الآجري» (87)، «الميزان» (1/271)، «تهذيب الكمال» (3/308-311)، «إكمال تهذيب الكمال» (2/252)، «نهاية السول» (2/135-137).

 

([1168]) أي: يكشف، ومنه حسرت المرأة عن وجهها؛ أي: كشفت، والحاسر: الذي لا سلاح عليه. انظر: «المفهم» (7/228)، و«إكمال المعلم» (8/433)، و«تحفة الباري» (12/109) لزكريا الأنصاري، و«إرشاد الساري» (10/204)، و«شرح الطيبي على المشكاة» (10/94)، و«التوشيح» (9/4147)، و«التنقيح» (3/858) للزركشي، و«درجات مرقاة الصعود» (185)، و«عون المعبود» (11/436).

 

(تنبيه): ذكر السخاوي في «القناعة» (ص 101) هذا الحديث، وأورد على إثره شرحاً للحديث الذي قبله، فاقتضى التنويه والتنبيه.

 

([1169]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/26)، «عمدة القاري» (24/213)، و«الديباج» (6/221)، و«تحفة الأحوذي» (7/291).

 

([1170]) «إكمال المعلم» (8/433).

 

([1171]) «المجموع المغيث» (1/445).

 

([1172]) قال السهارنفوري في «بذل المجهود» (17/234): «يحسر: أي: يزول وينكشف، فيظهر ذلك الكنز؛ أي: جبل منه»، وفي هامشه: «أي: ينشق الماء، فيظهر الجبل»، وفي «المرقاة» (5/173): «أي: يظهر ويكشف نفسه عن كنز، ففيه إشارة إلى أن (حسر) متعد، وقال الخلخالي  -أحد شراح «المصابيح»- أي: سيظهر فرات عن نفسه كنزاً، ففيه إيماء إلى أنه وقع القلب في الكلام، فهو من باب (عرضت الناقة على الحوض، ... فالمعنى: يقرب الفرات أن ينكشف عن كنز؛ أي: انكشافاً صادراً عن كنز عظيم من ذهب كثير» ونحوه في «مجمع بحار الأنوار» (1/512).

 

قلت: ويتأكد هذا المعنى بلفظ: «جزيرة»، وهو لفظ حنبل في «جزئه»، كما تقدم.

 

([1173]) «أشراط الساعة في مسند الإمام أحمد وزوائد الصحيحين» (1/177 - هامش 1).

 

ومما ينبغي أن يذكر هنا:

 

أولاً: أن نهر الفرات يبلغ طوله (2990) كم، يمتد منها (1220) كم عبر الأراضي التركية؛ أي: حوالي (40.8) في المئة من طول النهر، و(710) كم عبر الأراضي السورية؛ أي: حوالي (23.7) في المئة، و(1060) كم عبر الأراضي العراقية؛ أي: حوالي (30.4) في المئة.

 

ثانياً: لمياه الفرات ميزة وخاصيّة تندر أن توجد في غيره، واعتنى العلماء بذكر مَخْرَجِه ومعرفةِ من حضَرَه، وما وَرَد في فضله، وتفضيله على غيره من المياه، واعتنى بهذا كله ابنُ العديم في «بغية الطلب» (1/357-371)، ومما قال (ص 364)، وأسنده إلى محمد بن جعفر بن النجار، قال: «وقالت الأطباء: كلُّ ماءٍ في نهرٍ فطيرٌ إلا ماء فرات فإنه خمير؛ لكثرة اختلاط الأهوية به، وتكسير المهذرانات له، وهذه المهذرانات عملت لتكسير حدة الماء»، ثم قال:

 

«قلت: وإلى زمننا هذا يُختار ماء الفرات للخلفاء على ماء دجلة، فإن دجلة تمر ببغداد بدور الخليفة، ويحمل الماء لشرب الخليفة من نهر عيسى، وهو نهر يأتي من الفرات، ويصب في دجلة، حتى أن السقائين ببغداد يُمنعون أن يستقوا للعامة من نهر عيسى، فلا يُمَكَّن من الشرب منه إلا أهل الدور التي هي على نهر عيسى، وما يقاربها.

 

وقرأت فيما علقته من الفوائد: وقيل إن الفرس تسمي نهر الفرات عندهم: نهر شير؛ وهو نهر الملك، وكانوا يرون سقيَ الفرات وثمارَه أفضلَ من سقي دجلة وأحلى وأجود».

 

قال أبو عبيدة: ولا يُنسَى في هذا المقام: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» (2839) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ×: «سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل؛ كلٌّ من أنهار الجنّة».

 

وذكره شيخنا الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الصحيحة» (رقم 110، 111)، وذكر فيها برقم (3111) حديث أبي هريرة -أيضاً-: «ليس في الأرض من الجنة إلا ثلاثة أشياء: غَرْسُ العجوة، وأواق تنزلُ في الفرات كلَّ يوم من بركة الجنة، والحجر». وكان قد ذكره في «السلسلة الضعيفة» (1600)؛ لعدم وقوفه على طريق آخر له، ولكن بقيت النكرة في هذا اللفظ، فقوله: «إلا ثلاثة أشياء» نفي لما عداها، وفي الحديث المتقدم عند مسلم خلاف ذلك؛ فتأمل!

 

ثالثاً: قامت تركيا بإنشاء عدة سدود، مما جعل لها أثراً مباشراً على تقليل مياه الفرات؛= =مثل: سد كيبان، وسد كارا كايا عام 1976م، وأضخمها سد أتاتورك، أنشأ سنة 1990م، وفي أثناء إقامته خططت لاحتجاز (48.5) بليون متر مكعب من المياه، وهو سادس أكبر سد في العالم، وسد بيريسيك، وسد كاركاميس، والسدان المقامان وراء الخليج، ومع هذا فهي تقوم بإنشاء سدود أخرى على دجلة، وإن كانت لا تقوم بأي استخدام لمياهه.

 

رابعاً: لهذه السدود مزايا وأغراض متعددة، وأُبرمت معاهدات واتفاقيات عديدة بشأن مياه الفرات بين تركيا والعراق، وتركيا وسورية، تهدف إلى تنظيم تدفق المياه منه إلى هذه البلدان، وفي اتفاقية سنة 1946 لم تقبل العراق أن المنطقة المناسبة لبناء السد وتنظيم مياه نهر الفرات هي المنطقة الممتدة ضمن حدود الأراضي التركية، ولكنها -أيضاً- وافقت على الإسهام في نفقات الإنشاءات لتنظيم المياه، إذ كانت ستعود بالفائدة على العراق -أيضاً-، إذ لا توجد مناطق في العراق أو سورية ملائمة لإنشاء خزان لتكوين احتياطي؛ لأسباب جغرافية ومناخية وهيدروجرافية وجيولوجية، كما أقرت بذلك الحكومة العراقية في الاتفاقية المذكورة، وأبرمت معاهدة في 17/يوليو/سنة 1987م، تعهدت تركيا فيها للعراق بتوفير ما لا يقل عن (500) متر مكعب في المتوسط سنوياً خلال فترة احتجازها للمياه لإنشاء (سد أتاتورك)، وحتى الوصول إلى اتفاق نهائي بينهما مع سورية لتخصيص مياه نهر الفرات.

 

خامساً: هنالك صراعات مستمرة تظهر وتختفي بين دول المصبّ ودول المنبع (تركيا) بشأن المياة وكمياتها التي سوف تستخدم، مما له تعلق بالمصالح المادية، ولما له من آثار إيجابية على النظام الاقتصادي في الدول المعنية، ولا سيما أن هناك عجزاً مائياً مستمراً يصل إلى (5.80) بليون متر مكعب سنوياً من نهر الفرات، وهذا يهدد النهر بالجفاف والنشاف، وأخبرني غير واحد من إخواننا العراقيين أنهم باستطاعتهم قطع نهر الفرات في بعض المناطق مشياً على أرجلهم من قلة مائه، مما يؤذن بانحساره، ولله في خلقه شؤون. وانظر: «لمعة البيان في أحداث آخر الزمان» (ص 79).

 

سادساً: مما ينبغي معرفته أخيراً -على ضوء القوانين الأرضية المحدثة- أن نهرا دجلة والفرات ليسا مياهاً دوليّاً، ولكنهما ممرات مائية دولية عابرة للحدود، وهذا ناجم عن اتفاقية سنة 1997، وهو يتفق مع مواثيق القانون الدولي (!!) مثل: اتفاقية الأمم المتحدة (!!) 1992 لحماية استخدام الممرات العابرة للحدود والبحيرات.

 

وانظر كلاماً عن (الفرات) و(منابعه) وما جرى عليه من تغيير في «ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها» (1/15-20)، ومن الجدير بالذكر أن بعضهم يرجع تسمية (الفرات) إلى الفعل العبري (فيرات) أو (فرات) الذي يعني: يخصب أو يلقّح، وانظر مقالة جمال بابان بعنوان: (أصول أسماء العراق وأنهاره الرئيسة) المنشورة في مجلة «آفاق عربية»، عدد آذار، سنة 1980م (ص 98-111).

 

([1174]) «فتح الباري» (13/80)، «عمدة القاري» (24/214)، «عون الباري» (6/420)، «تحفة الأحوذي» (7/291)، و«عون المعبود» (11/437)، وفاتت هؤلاء جميعاً لفظة (جزيرة)، وهي في «جزء حنبل» كما قدمناه.

 

([1175]) انظر: «تكملة فتح الملهم» (6/288).

 

([1176]) المراجع السابقة، و«عمدة القاري» (24/213)، «درجات مرقاة الصعود» (ص 185).

 

([1177]) قاله أبو عبية، وكذلك محمد أحمد عبدالعزيز، كل منهما -على حدة- في تعليقه على «النهاية» لابن كثير -بالترتيب- (1/64، 229)، وانظر لأخطاء أبي عبية في تعليقاته على «النهاية» لابن كثير كتاب شيخنا الألباني «قصة المسيح الدجال» (ص 11-22)، ودافع عنه بقوة: أحمد الغماري في «مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية» (ص 24-25)، وبوب عليه: (إخباره × بوجود البترول والكاز)!! واستدل عليه بقوله -تعالى-: {وَإِذا البِحَارُ سُجِّرَتْ}، وقال بعد كلام غث:

 

«وأيَّد ذلك أن البترول يسمى بالذهب الأسود، وأن النبي × أخبر به، وأن من المواضع التي سيظهر فيها: أرض العراق وأرض فارس، وأرض نجد، وماؤها، كما ورد أنه قريب من الحجاز». وأورد الأحاديث!

 

وتابعه على هذا مع اختصار شديد لكلامه -كعادته- سعيد حوى في كتابه «الرسول ×» (2/135)! والأعجب من هذا كلِّه: كلام الغماري في القتال الوارد في الحديث، قال (ص 25-26):

 

«ولا بد -أيضاً- من وقوع هذه الحرب التي وصفها × من أجل البترول، فإنّ بوادر الخلاف بين أمريكا وروسيا من أجله قائمة، فإذا وقعت الحرب فسوف تكون بالقنابل الذرية، المبيدة للبشر، والتي لا ينجو منها إلا واحد من المئة، كما قال ×، وهذا في بترول العراق، وإيران معدودة من أرض العراق، بل هي عراق العجم»، قال بعد كلام:

 

«وأما بترول نجد والبصرة ففي «مستدرك الحاكم» من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: «تخرج معادن مختلفة معدن منها قريب من الحجاز يأتيه من أشرار الناس». وهذا الحديث وإن كان موقوفاً إلا أن له حكم الرفع، بل قد ورد مرفوعاً صريحاً إلا أنه ليس فيه تعيين المكان.

 

فروى أحمد في «مسنده» من حديث رجل من بني سليم سمع النبي × قال: «ستكون معادن يحضرها شرار الناس».

 

ورواه الطبراني في «الأوسط» من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ×: «لا تقوم الساعة حتى تظهر معادن كثيرة لا يسكنها إلا أراذل الناس».

 

فهذه المعادن هي آبار البترول التي ما ظهرت إلا قرب قيام الساعة، الذي هو وقتنا هذا، أما معادن الذهب والفضة فكانت موجودة من أول الدنيا بكثرة؛ لأن الذهب الذي كان عند الأقدمين كثير جدّاً.

 

ويؤكد ذلك قوله ×: «يحضرها شرار الناس»؛ فإن معادن البترول لا يستخرجها= =ويحضرها إلا الكفار، الذي هم شرار الناس، وقوله ×: «يُحَضِّرها» هو بضم الياء وفتح الحاء وكسر الضاد المشددة؛ أي: يهيئها للاستعمال، ويجعلها حاضرة لذلك صالحة لما حضرت له.

 

ويشير إلى البترول -أيضاً- قوله -تعالى-: {إِذَا زُلزِلَتِ الأَرْضُ زِلزَالَها . وَأَخرَجَتِ الأَرْضُ أَثقالَهَا} الآية. فإنها أخرجت ملايين الأطنان من البترول والغاز، وهو أعظم ثقل فيها عندما زلزلت -أي: حركت- بالآلات، وفتح فيها آبار البترول والغاز، {وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا}؛ تعجباً مما تخرجه من ذلك، فعند ذلك تحضر الساعة، أو إذا زلزلت الأرض زلزالها الموعود به، وهو الزلزال الكثير الذي يحدث آخر الزمان، كما قال النبي ×: «وتكثر الزلازل»، كما في أحاديث صحيحة متعددة، وقد صارت تحدث بكثرة في هذا الوقت الذي أخرجت فيه الأرض أثقالها من البترول، وقال الإنسان: ما لها يكثر زلزالها؟! وهذا كله واقع، فيترقب ما بعده، فإن الزمان بالنسبة إلى علم الله -تعالى- شيء واحد، والله -تعالى- يجمع بين الأمور المتباعدة فيسوقها مساقاً واحداً لتحقق الجميع، وحضوره في علمه -سبحانه وتعالى-». انتهى كلامه بحروفه.

 

وهذا الكلام من مجازفاته العظيمة، ولم يكتف بتحريف الأحاديث، فأخذ يرد الآيات الكريمات ويضعها في غير محالها، ويفسرها على حسب ما يحلو له، فها هو يفسر في (ص 18) قوله -تعالى-: {ويقذفون بالغيب مِن مَكانٍ بَعيد} [سبأ: 53] بقوله: «التليفون والتلغراف والراديو داخلة في ظاهر الآية»! وفي قوله: {فَجَعَلنَاها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمس} [يونس: 24] بقوله (ص 17): «حصل عندهم -أي: الكفار- القطع -أو كاد- بأنهم قادرون عليها إلا بعد حصولهم على القنابل الذرية». وذكر (ص 16) أن معنى {قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبعَثَ عَلَيكُم عذاباً مِن فَوقِكُم} [الأنعام: 65]: «إنها واردة في إلقاء القنابل من الطائرات»... وغيرها من المجازفات الشبيهة بالترهات؛ وهذا كله من المغالطات، التي لا تخفى على طلبة الكتاتيب، فإن النصوص الشرعية   لا بد من فهمها وفق اللغة العربية، والنظر إلى حال المخاطبين عند ورودها، وهذان القيدان اللذان أصَّلهما الشاطبي في «الموافقات» ينسفان كلامه السابق بالجملة، وكذا كلامه عن (العراق) وحسره عن (البترول)! ثمة أمر آخر خطير: ما الذي جعله يقتحم سوار الغيب، ويحدد المعركة بين (روسيا) و(أمريكا)! ويحددها بنوع معين من القنابل، إنها جرأة عجيبة على الله ورسوله ×، ويا ليت «ما بلغه علمه، ووصل إليه إدراكُه وفهمُه» -كما قال في «مقدمته» (ص 4)- بقي محبوساً في صدره، ولم يخرجه على العامّة الدّهماء، ولكنه العجب والخيلاء، يظهر ذلك لمن يقرأ الكتاب برمّته، أو ينعم النظر في ردود العلماء عليه، وللشيخ حمود التويجري        -رحمه الله- «إيضاح الحجة في الرد على صاحب طنجة» وهو مطبوع، ولأخينا الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين «تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم= =والفتن»، وفيه (ص 41-56) رد مجمل عليه، وللشيخ مقبل بن هادي الوادعي في كتابه «الصحيح المسند من دلائل النبوة» (ص 13) كلمة في نقض الكتاب من أصله، فانظرها.

 

ثم رأيت الأستاذ موسى شاهين لاشين يقول في «شرحه على صحيح مسلم» المسمى «فتح المنعم» (10/512): «يحسر: أي: ينكشف ويبين عما في باطنه، وقد يفسر كنز الذهب بالبترول! فيصدق كل ما أخبر به ×».

 

([1178]) مما ينبغي أن يذكر هنا: أن ظاهر الحديث أن الانحسار يكون عن جبل من ذهب، وإن كنا نجد أحياناً في بعض المناجم أو في عروق المناجم قطعاً نادرة من الذهب، فإنّ مناجم الذهب الموزّعة في أنحاء العالم، والتي كانت تخرج أعظم محصول منه يوجد الذهب بها على شكل (خامات) -وهي عبارة عن الذهب الممزوج بالتراب- فقيرة من الذهب نسبيّاً، لا يرى بها الذهب ظاهريّاً، بخلاف ما يحسر الفرات عنه. انظر مقالة بعنوان: (الذهب في العالم) في مجلة «نور الإسلام» كانت تصدر عن مشيخة الأزهر، العدد الثاني، والمجلد الثاني، صفر، سنة 1350هـ (ص 140-144).

 

([1179]) «إتحاف الجماعة» (2/185-186). وانظر: «أشراط الساعة في مسند الإمام أحمد وزوائد الصحيحين» (1/177-179)، «صحيح أشراط الساعة» (ص 132-133).

 

([1180]) انظر ما تقدم (ص 464 وما بعد).

 

([1181]) قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» (7/228-229): «كأن هذا (أي: الكشف) إنما يكون إذا أخذت الأرضُ تقيء ما في جوفها، كما تقدم في كتاب (الزكاة)». وانظر: «فتح الباري» (13/81)، «تحفة الأحوذي» (7/291)، «درجات مرقاة الصعود» (ص 185).

 

([1182]) قال الطيبي في «شرح المشكاة» (10/94): «معناه: أن الأرضَ يُلقَى مِنْ بطنها ما فيه من الكنوز، وقيل ما رسخ فيها من العروق المعدنية، ويدل عليه قوله: «أمثال الأسطوانة»، وشبهها بالأكباد حبّاً لأنها أحبّ ما هو مجنيٌّ فيها، كما أن الكبد أطيب ما في بطن الجزور وأحبه إلى العرب، وبأفلاذها هيئة وشكلاً كأنها قطع الكبد المقطوعة طولاً، وقد حكى عن ابن الأعرابي أنه قال: الفلذة لا تكون إلا للبعير.

 

وسمي ما في الأرض قطعاً تشبيهاً وتمثيلاً، واستعار القيء للإخراج.

 

أقول: قوله: «أفلاذ كبدها» استعارة مكنية مستلزمة للتخييل، شبه الأرض بالحيوان، ثم خيل لها ما يلازم الحيوان من الكبد، فأضاف إليها الكبد على التخييلة ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم فرع على الاستعارة القيء ترشيحاً» ونحوه في «المرقاة» (5/173-174).

 

([1183]) جعل الحليمي في «المنهاج» (1/429-430) هذا الانحسار في آخر الزمان، قال بعد إيراده الحديث: «فيشبه أن يكون هذا الزمان الذي أخبر النبي × «أن المال يفيض فلا يقبله أحد»، وذلك في زمان عيسى -صلوات الله عليه-، ولعل سبب هذا الفيض العظيم، ذلك المال مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين»! ثم قال: «فإن قيل: فما المعنى في نهي النبي ×: «من حضر ذلك الجبل لا يأخذ منه شيئاً»، قيل: ...» وأجاب بكلام يأتي، مع تعقّبه.

 

([1184]) رجاله ثقات، عدا شيخ أبي يعلى، وثقه ابن حبان (8/421)، وترجمه ابن أبي حاتم (6/54)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وهو في «المعجم» لأبي يعلى (ص 208، 209)، ولبعض ما فيه شواهد، تنظر عند ابن ماجه (4049)، وأحمد (2/336 و6/74، 81، 90). وانظر: «مجمع الزوائد» (10/28)، «إتحاف الخيرة المهرة» (10/325-326 رقم 10021).

 

([1185]) أخرجه البخاري برقم (1412)، ومسلم في كتاب الزكاة (باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها) (رقم 157) بعد (60).

 

([1186]) أخرجه البخاري برقم (1411)، ومسلم برقم (1011).

 

([1187]) أخرجه البخاري (1414)، ومسلم (1012).

 

([1188]) أخرجه البخاري (3595).

 

([1189]) أخرجه أحمد (4/378) وسنده حسن، والحديث صحيح له طرق عند أحمد (4/257، 379)، وابن ماجه (87)، والحاكم (4/518-519)، والبيهقي في «الدلائل» (5/343)، وابن أبي عاصم في «السنة» (135)، والطبراني في «الكبير» (17/رقم 182)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/68-69).

 

([1190]) في «المسند» (4/257).

 

([1191]) أخرجه مسلم في «صحيحه» (4/2223).

 

([1192]) نقل مقولته السخاوي في «الضوء اللامع» (1/377)، ونعته بـ«كان فاضلاً حاسباً فرضيّاً خيّراً متقشفاً متواضعاً، طارحاً للتكلف». وانظر: «القناعة» للسخاوي -أيضاً- (ص 109).

 

([1193]) قدمنا ذلك عنه (ص 441). وانظر: «الفتح» (6/313).

 

([1194]) كالبيهقي في «الدلائل» (5/342)، وأيّده ابن حجر في «الفتح» (6/313).

 

([1195]) مثل حديث عدي، ولا سيما في رواية البخاري (3595): «ولئن طالت بك حياة لترينَّ الرجلَ يُخرجُ ملءَ كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه». أفاده ابن حجر.

 

([1196]) ومثل رواية أبي يعلى وابن حبان لحديث أبي هريرة -أيضاً-.

 

([1197]) وهي الآن في المملكة العربية السعودية، وسيأتيك تعريف بها على وجه التحديد.

 

([1198]) ضبطه أحمد الغُماري في «مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية» (ص 26-27): «يُحَضِّرها»، قال: «هو بضم الياء وفتح الحاء، وكسر الضاد المشدّدة»، وفسرها بقوله: «أي: يهيئها للاستعمال، ويجعلها حاضرة لذلك، صالحة لما حُضّرت له». وتابعه على هذا سعيد حوى في كتابه «الرسول ×» (2/135)، قال بعد أن ساق الحديث باللفظ المذكور:

 

«ونحن نعلم أن معدن البلاد القريبة من الحجاز في عصرنا، إنما يستخرجه الأجانب بوسائلهم الكثيرة»، قال: «ولاحِظْ كلمة «يحضّرها» المشدّدة الضاد»!

 

قلت: والروايات الآتية للحديث تردّ هذا الضبط، ويَرِد على المعنى المذكور بالحطّ.

 

([1199]) لم يعزه في «كنز العمال» (11/171 رقم 31082) إلا لـ«الأوسط» للطبراني.

 

([1200]) كان  أخونا الشيخ السلفي الفلسطيني ثم الكويتي أبو يوسف عبدالرحمن بن عبدالصمد (ت 1408هـ - 1988م) يقول عند ذكره لهذا الحديث: «سمعتُ بأُذني في (إذاعة لندن) أن رجلاً اسمه (فرعون بن رشاد) حضر إلى السعودية، واكتشف كنزاً، وقدر هذا الكنز بأرقام خيالية من الأموال»!! سمعته من غير واحد ممن سمعه منه، ثم وجدته منقولاً عنه في «العقلانيون مشكلتهم مع أحاديث الفتن» (ص 67).

 

([1201]) لم يعرفه شيخنا في «الصحيحة» (1885)، وقال: «لم أعرفه، وفي طبقته سليمان بن الجهم بن أبي الجهم الأنصاري الحارثي أبو الجهم الجوزجاني، مولى البراء بن عازب، روى عنه وعن أبي مسعود البدري، وعن أبي زيد صاحب أبي هريرة، وهو ثقة، فلعله هو، ويشكل عليه أنهم لم يذكروا له رواية عن أبي هريرة، وإنما عن أبي زيد صاحب أبي هريرة، كما رأيت، مع أن في هذا الإسناد أنه هو نفسه كان من أصحاب أبي هريرة، فالله أعلم».

 

ولم يورد في التخريج ما سنذكره بعد هذا، وقال: «وجملة القول: أن الحديث صحيح بشاهديه المذكورين».

 

([1202]) لم يعزه في «إتحاف المهرة» (9/661 رقم 12145) إلا له!

 

([1203]) قال المعلقون على «مسند أحمد» (39/52 - ط. الرسالة): «لم نَتَبَيَّنْه»!! وانظر له: «رجال الحاكم في المستدرك» (1/97-98) للعلامة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله تعالى-.

 

([1204]) في «معجم ما استعجم» (3/1020): «الفرع موضع بين الكوفة والبصرة»، ومثله في «معجم البلدان» (4/253)، وفي المدينة مكان يسمى (الفرع). انظر عنه: «أسماء جبال تهامة» (ص 18) للسلمي، و«تحقيق النصرة» (163).

 

وفي رسالة «وصف المدينة» (ص 8) لعلي بن موسى: «وأما الجهة الغربية ففيها طريق (الغاير) وطريق (الفرع)، فـ(الغاير) و(الفرع) يجتمعان في بئر الماشي عن المدينة عشرة ساعات بمشي الجمال، وست ساعات بمشي الركاب والخيل».

 

([1205]) «معجم ما استعجم» (3/1021): «والخشب: وادٍ على ليلة من المدينة، له ذكر في الحديث والمغازي». قاله الفيروز آبادي في «المغانم المطابة» (3/778)، وأفاد الشيخ حمد الجاسر أن حول الوادي جبال تدعى (أبا خشب) على يمين المسافر بعد جبل أحد، وفي «المعالم المثيرة»: «على مسافة 35 كم من المدينة على ضفة وادي الحمض الشرقية».

 

([1206]) قاله عرَّام في رسالته «أسماء جبال تهامة وسكّانها، وما فيها من القرى، وما ينبت عليها من الأشجار، وما فيها من المياه» (2/428-429 - ضمن «نوادر المخطوطات»)، وعنه الفيروزآبادي في «المغانم المطابة» (2/582).

 

([1207]) انظر: «تاريخ المدينة» لابن شبة (265، 350، 765)، و«المغانم المطابة» (3/1050)، «تاريخ معالم المدينة المنورة قديماً وحديثاً» (ص 249).

 

([1208]) «المعالم الأثيرة» (ص 125).

 

([1209]) ألف الأستاذ علي أحمد أبو عودة «المعجم الجعفرافي لمحافظة مهد الذهب»، وهو مطبوع.

 

([1210]) انظر: «المعجم الجغرافي لمحافظة مهد الذهب» (ص 489).

 

([1211]) انظر: «فتوح البلدان» (ص 27) للبلاذري.

 

([1212]) في «تاريخه» (7/348).

 

([1213]) في مقالة له بعنوان: «بنو سليم قديماً وحديثاً» المنشورة في مجلة «العرب»، عدد   (5، 6)، السنة (24)، ذو القعدة والحجة 1409هـ، حزيران، تموز 1989م (ص 392-395)، وللأستاذ عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله- كتاب مطبوع في (536) صفحة، ونشر سنة 1391هـ - 1971م عن دار العلم للملايين بعنوان «بنو سليم عرض لشريط تاريخي عن امتداد الإسلام والعروبة في مهدها إلى العالم»، وللأستاذ العلامة حمد الجاسر ملاحظات كثيرة حول هذا الكتاب نشرت في مجلة «العرب» لسنتيها الثامنة والتاسعة اللتين صدرتا اعتباراً من سنة 1393هـ - 1973م فما بعدها، وفيها توسع كثير عن مواطن (بني سليم) في الكلام عن (القطائع النبوية)، فلتراجع؛ فإنها مهمة.

 

([1214]) والغائب أولى.

 

([1215]) «فتح الباري» (13/81)، «عمدة القاري» (24/213).

 

([1216]) «فتح الباري» (13/81).

 

([1217]) في «المفهم» (7/229).

 

([1218]) «مرقاة المفاتيح» (5/173).

 

([1219]) «مجمع بحار الأنوار» (1/512).

 

([1220]) «المنهاج في شعب الإيمان» (1/430)، ونقله عنه البجمعوي في «درجات مرقاة الصعود» (185).

 

([1221]) «بذل المجهود» (17/234).

 

([1222]) «فتح الباري (13/81)، «عمدة القاري» (24/213)، «إرشاد الساري» (10/204)، «تحفة الأحوذي» (7/291) -وسقط منه ما بين المعقوفتين-، «عون المعبود» (11/437)، «تكملة فتح الملهم» (6/289)، «عون الباري» (6/420).

 

([1223]) (5/173).

 

([1224]) في «عمدة القاري» (24/213).

 

([1225]) (1/512).

 

([1226]) «دليل الفالحين» (4/660).

 

([1227]) «شرح الطيبي على المشكاة» (10/94)، «إرشاد الساري» (10/204)، «مرقاة المفاتيح» (5/173)، «عون الباري» (6/420).

 

وقال ابن علان في «دليل الفالحين» (4/660): «لعلي أن أكون أنا أنجو: فيه حمل (لعل) على (عسى) أختها في معنى التوقع والإشفاق، وفي الكلام مضاف مقدَّر، إما في المحكوم عليه؛= =أي: لعل شأني كوني أنجو. أو في المحكوم؛ أي: لعلي ذا كون نجاة. ويصح أن لا يقدّر شيء، ويكون من حمل المصدر على اسم العين؛ نحو: (زيد عدل) مبالغة».

 

([1228]) «مرقاة المفاتيح» (5/173).

 

([1229]) في «صحيحه» (15/266-267 رقم 6853 - «الإحسان»).

 

([1230]) «فتح الباري» (13/81)، «عون الباري» (6/421).

 

([1231]) أي: جمع الجيوش. انظر: «اللسان» (6/32).

 

([1232]) جمع (ترس)؛ وهو: ما يتوقى به. انظر: «اللسان» (6/32).

 

([1233]) كذا في مطبوع «معجم ابن الأعرابي»، وفي مطبوع «الفتن»: «يحوس» بالسين المهملة، وأصل (الحوس): شدة الاختلاط ومداركة الضرب، وكل موضع خالطته ووطئته فقد حسته وجسته، ومنه حديث الدجال: «وأنه يحوس ذراريهم». قاله ابن الأثير في «النهاية» (1/460).

 

([1234]) قد يقال: اشتهر عن ابن عمرو الرواية عن أهل الكتاب بسبب الزاملتين اللتين عثر عليهما يوم اليرموك. قلنا: نعم؛ ولكن يوجد لأصل هذا الخبر شواهد في أحاديث مرفوعة، يأتي= =حشدها وحصرها -إن شاء الله تعالى- في كتابنا المفرد عن (الملاحم).

 

([1235]) انظر: «تحفة الأشراف» (6/287-288)، «إتحاف المهرة» (9/451-452).

 

([1236]) كما في خبر كعب المتقدم.

 

([1237]) يعرف ذلك من جملة آثار تقدمت.

 

([1238]) سيأتيك تأصيل لقواعد الإسقاط، وبيان المحذور الذي فيه، مع أمثلة للخائضين العابثين من المعاصرين.

 

([1239]) العدد (14502)، السنة الثامنة والستون، يوم الإثنين، 3 ذو القعدة، سنة 1423هـ - الموافق 6 يناير 2002م، (ص 20).

 

([1240]) أي: حسر الفرات عن جبل من ذهب.

 

([1241]) وانظر -أيضاً-: (مسك الختام) بعنوان: (حقائق واجبة الحضور) لمجلتنا «الأصالة» (عدد 43)، 15/جمادى الآخرة، سنة 1424هـ، (ص 83-84).

 

([1242]) انظر: الفائدة (رقم 12).

 

([1243]) هذه عبارة ابن كثير في «البداية والنهاية» (6/203)، وقال الحميدي في «تفسير غريب ما في الصحيحين» (ص 363): «وفي إعلامه به قبل وقوعه دليل من دلائل نبوته».

 

وانظر: «الخراج» ليحيى (ص 67-68)، «شرح السنة» للبغوي (11/178)، «فتح الباري» (6/280)، «درجات مرقاة الصعود» (ص 128)، «معالم السنن» (4/248)، «نيل الأوطار» (8/164)، «بذل المجهود» (13/375)، ولهذا المعنى أخرجه البيهقي في «الدلائل» (6/329).

 

وانظر: التعليق على «شرح معاني الآثار» (2/120).

 

([1244]) ولذا أورده السيوطي في «الخصائص الكبرى» (2/111) تحت (باب إخباره × بفتح مصر وما سيحدث فيها)، وانظر منه (2/151): (باب إخباره × بالبصرة والكوفة)، و(باب إخباره × ببناء بغداد).

 

([1245]) أخرجه البخاري في «صحيحه» (الأرقام 1524، 1526، 1529، 1530، 1845)، ومسلم في «صحيحه» (1181) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

 

([1246]) أخرجه مسلم في «صحيحه» (1183) بعد (18) من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-.

 

([1247]) «البداية والنهاية» (6/203).

 

([1248]) انظر: «الاستذكار» (11/78) و«التمهيد» (15/141) كلاهما لابن عبدالبر -وسبق كلامه بطوله-.

 

([1249]) «المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم» (7/230). ومن المفيد تتبع الإجمال الوارد في هذه الفائدة في جزء مفرد، والله الموفق.

 

([1250]) «نيل الأوطار» (8/164).

 

([1251]) «الأوسط» (11/44-45)، وطوّل شيخ الإسلام النفَسَ في منع بيع هذه الأرض، وأنها مختصة بالمسلمين، وقرر جواز المعاوضات عليها، سواء أخذها ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه في ذلك عوضاً، أو أخذها المسلم من ذمي، وقال بعد كلام: «ولهذا جوّز أحمد إصداق الأرض الخراجية». انظر: «جامع المسائل» (المجموعة الرابعة) (ص 370)، وذكر فيه حديثنا هذا.

 

([1252]) «الأحكام السلطانية» (146) لأبي يعلى.

 

([1253]) «أحكام أهل الذمة» (1/100 - ط. صبحي الصالح).

 

([1254]) حصّلت -ولله الحمد- ما يقارب خمسة عشر نسخة خطية، بعضها قديم ونفيس، تمهيداً للعمل به، يسر الله ذلك بمنّه وكرمه.

 

([1255]) انظر: «تحرير المقال فيما يحل ويحرم من بيت المال» (139، 156)، و«الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية» (ص 8-11) للريس، و«ملكية الأرض في الشريعة الإسلامية» (ص 308) لمحمد بن علي السميح، و«النظام الاقتصادي في الإسلام» (238-239)، و«الموارد المالية في الإسلام» (ص 172-205).

 

([1256]) «الإفصاح» (2/437). وانظر: «الرتاج» (571)، والفائدة الثانية عشرة.

 

([1257]) «مختصر اختلاف العلماء» (3/495)، «أحكام القرآن» (5/320) للجصاص.

 

([1258]) انظر: «المدونة» (1/378-379)، «التفريع» (1/358)، «الإشراف» للقاضي عبدالوهاب (4/421 رقم 1741 - بتحقيقي)، «الرسالة» (190)، «المعونة» (1/608)، «أسهل المدارك» (2/14)، «قوانين الأحكام» (171)، «بداية المجتهد» (1/398)، «الذخيرة» (3/441)، «عقد الجواهر الثمينة» (1/474).

 

([1259]) انظر: «السير الكبير» (4/1297)، «القدوري» (114)، «تحفة الفقهاء» (3/523)، «بدائع الصنائع» (9/4356)، «البناية» (5/753)، «فتح القدير» (6/3)، «الاختيار» (4/133)، «تبيين الحقائق» (3/260)، «البحر الرائق» (5/102)، «رؤوس المسائل» (360).

 

([1260]) انظر: «مختصر المزني» (273)، «المهذب» (2/243)، «المجموع» (21/218)، «حلية العلماء» (7/661)، «روضة الطالبين» (10/293، 294، 335)، «مختصر الخلافيات» (5/51 رقم 317).

 

([1261]) انظر: «مسائل أحمد» (243) لأبي داود، «المغني» (13/117، 121)، «الإنصاف» (4/159)، «تنقيح التحقيق» (3/342)، «منتهى الإرادات» (1/638-640)، «تقرير القواعد» (3/412، 414 - بتحقيقي)، «ذيل طبقات الحنابلة» (1/120).

 

([1262]) «الإشراف» للقاضي عبدالوهاب (4/422 - بتحقيقي).

 

([1263]) في كتابه «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» (1/289-291).

 

([1264]) نظير هذا في عصرنا الحاضر، استيلاء اليهود على الأراضي العربية، عدواناً وظلماً بعد إخراج أهلها منها.

 

هذا والاستيلاء والإحراز، عهدا طريقاً مُكسِباً للمِلكية الفردية في المباحات، وذلك تشجيعاً للجهد الإنساني الفردي للانتفاع بما وجد في الطبيعة من خيرات واستثمارها، وذلك معقول؛ لأن من بذَلَ جهداً فاجتنى مما وجد في الطبيعة من خير مباح لا مالك له، كان أولى من غيره بامتلاكه، ممن لم يبذل أدنى مشقة في هذا السبيل، وهذا أمر وراء استلاب الحقوق والثروات، واغتصاب الديار والأوطان بعد تشريد أهلها منها، بقوة السلاح.

 

([1265]) انظر: «كشف الأسرار» (1/68 وما بعدها)، «التوضيح» (1/131 وما بعده)، «أصول السرخسي» (1/236).

 

([1266]) انظر: «كشف الأسرار» (1/69)، «حاشية الإزميري على المرآة» (2/76).

 

([1267]) انظر: «أحكام أهل الذمة» (1/291).

 

([1268]) انظر: «المحلى» (7/301).

 

([1269]) انظر: «الاختيارات الفقهية» (ص 312)، وراجع في المسألة: «فتح الباري» (6/183)، «الفيء والغنيمة» (161-165) وأدلتها في «نصب الراية» (3/433-435).

 

([1270]) كلامه في «التمهيد» (15/141)، و«الاستذكار» (11/78)، ونحوه عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/120)، وسبق نقل كلامهم بطوله.

 

([1271]) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الحج (باب ذات عِرق لأهل العراق) (رقم 1531).

 

([1272]) اعتنى بها عنايةً قوية: ابن عساكر في ترجمة (عمر) من «تاريخ دمشق»، وأفردها بالتصنيف جماعة؛ منهم: العمادي في «الدر المستطاب»، ولأبي عبدالله محمد بن إبراهيم المقدسي: «نزهة ذوي الألباب»، ولمحمود الأنكوسي: «فيض الوهاب»، ولابن طولون: «سلك الدرر»، ولعمر الغزي: «نظم الدرر»، ولابن علان: «إتحاف الثقات في الموافقات»، ولابن الشحنة: «الموافقات العمرية»، وللجراعي: «نفائس الدرر»، ولعمر البعلي: «اقتطاف الثمر»، وللبياني: «فتح الوهاب»، وللسيوطي «قطف الثمر» مطبوع على حدة، وضمن «الحاوي» (1/ 377-378).

 

وطبع منها -أيضاً-: «الكوكب الأغر على قطف الثمر في موافقات عمر» لعبدالفتاح بن حسين راوه. وانظر كتابنا «الإشارات» (رقم 808).

 

([1273]) «حجة النبي ×» (ص 48).

 

([1274]) «دلائل النبوة» (6/330)، «تاريخ ابن عساكر» (2/11).

 

([1275]) «المهذب في اختصار السنن الكبير» (7/3677 رقم 14299).

 

([1276]) «تفسير غريب ما في الصحيحين» (ص 363).

 

([1277]) في «الأموال» (ص 91-92).

 

([1278]) في «الأوسط» (11/45).

 

([1279]) في مطبوع «الأوسط»: «واسمع».

 

([1280]) سقط من مطبوع «الأوسط».

 

([1281]) بعدها في مطبوع «الأوسط»: «كان».

 

([1282]) «فتح الباري» (6/280).

 

([1283]) مضى تخريجه (ص 260)، وبيان أن غير واحد من أهل العلم ذكر أن معناه يلتقي مع ما في حديثنا هذا.

 

([1284]) «شرح صحيح البخاري» (5/362). وانظر: «إرشاد الساري» (5/243-244)، «التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح» (2/487)، «الأبواب والتراجم لصحيح البخاري» (4/145)، «عون الباري» (3/646 - ط. الرشيد/حلب).

 

([1285]) انظر في هذا: «مختصر اختلاف العلماء» (3/496-497).

 

([1286]) يطلق عليه -أيضاً- (خراج التوظيف) أو (المواظفة)؛ وهو: أن يكون الواجب شيئاً في الذّمة، يتعلّق بالتمكّن من الانتفاع بالأرض، سواء زرعها صاحبها بالفعل أو لم يزرعها، ويجب= =هذا النوع من الخراج في كل سنة زراعية مرة واحدة، فيؤخذ إما عيناً، أو نقداً، بما يوازي قيمته التي يكون تقديرها من واقع قيمة الصنف الخارج. انظر: «الموارد المالية في الإسلام» (ص 181).

 

([1287]) يتعلق هذا النوع من الخراج بالخارج، لا بالتمكن من الزراعة، فإذا عطلت الأرض مع التمكّن لا يجب خراج المقاسمة، وهو يشبه العشر في ذلك، والتقدير فيه مفوّض إلى الإمام، ويجوز أن يحصل هذا النوع من الخراج أكثر من مرة في السنة تكرار المحصول. انظر: «حاشية ابن عابدين» (2/325)، «الأحكام المرعية في شأن الأراضي المصرية» (ص 15)، والمصدر السابق (ص 180-181).

 

([1288]) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/662).

 

([1289]) انظر: «جامع المسائل» لابن تيمية (المجموعة الرابعة) (ص 371).

 

([1290]) أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية أن يدفع الكتابي الأرض إلى مسلم يعوض أو غيره. انظر: «جامع المسائل» (المجموعة الرابعة) (ص 371).

 

([1291]) في «صحيحه» برقم (981) في كتاب الزكاة (باب ما فيه العشر أو نصف العشر).

 

([1292]) الحديث صحيح. انظر: «تمام المنة» (368-369)، «إرواء الغليل» (رقم 801).

 

([1293]) أخرجه أبو يوسف في «الخراج» (ص 134/رقم 47، 48، 49)، وأبو عبيد في «الأموال» (ص 86-88/رقم 172-175)، وابن زنجويه في «الأموال» (1/60 رقم 159)، وابن المنذر في «الأوسط» (11/47-48 رقم 6434، 6435، 6436)، وعبدالرزاق (6/10 و10/333)، والبيهقي (9/136) من طرق كثيرة، تدلل على أن له أصلاً.

 

وانظر فيما ورد عنه مما يدلل على ما ذكرناه في جل ما قدمناه من أحكام -عدا ما تقدم-: «موطأ مالك» (1/281)، «الخراج» ليحيى (48)، «الرد على سير الأوزاعي» (92)، «سنن البيهقي» (9/134)، «المحلى» (7/345)، «مسند الفاروق» (2/498-501) لابن كثير.

 

([1294]) للعلماء رسائل مفردة في (أحكام الأراضي) يصعب حصرها، منها في الظاهرية برقم (9080): «كتاب في أرض الشام والكلام عليها» للفزاري على المذاهب الأربعة، والكلام على فتحها صلحاً أم عنوة، وما يجري بذلك من أحكام. وانظر شيئاً من هذه الأحكام على نحو ما قررناه في «المغني» (4/186-198 - ط. هجر)، «الذخيرة» (3/87) للقرافي، و«الأوسط» (11/37 وما بعد) لابن المنذر، «الأحكام السلطانية» للماوردي (ص 186-196).

 

(تنبيه مهم): اعترض ابن حزم في «المحلى» (7/341) -وسبق إيراد كلامه بتمامه- على أحد هذه الأحكام من هذا الحديث، ورده بأن الحديث ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، ونقله عنه ابن حجر في «الفتح» (6/280) وسكت عنه، ثم رأيته يستدل في الحديث في كتابه «الإحكام» (7/905-906)، وسيأتي كلامه على طوله في الفائدة اللاحقة؛ فتأمّله!

 

([1295]) هذا مذهب أكثر العلماء، وممن قال به: عمر بن عبدالعزيز، وربيعة، والزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، والليث، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود، وبه قال ابن المنذر. انظر: «المجموع» (5/479)، «المغني» (4/199).

 

وانظر لمذهب المالكية: «المدونة» (1/381)، «مواهب الجليل» (2/278)، «الشرح الصغير» (1/609)، «بداية المجتهد» (1/228)، «حاشية الدسوقي» (1/447)، «المعونة» (1/427)، «الكافي» (219-220)، «جامع الأمهات» (ص 162).

 

وانظر لمذهب الشافعية: «التنبيه» (40)، «الإقناع» (63)، «المجموع» (5/479)، «مغني المحتاج» (1/38).

 

([1296]) العشر في اللغة: الجزء من عشر أجزاء، والجمع (أعشار)؛ مثل: (قَفْل) و(أقفال)، وعشرت المال عشراً، وعشوراً. انظر: «المصباح المنير» (1/489)، «الكليات» لأبي البقاء (686).

 

والعشر في عرف الفقهاء: كل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين،= =فهي أرض عشر، وجهات أموال البيت سبعة؛ منها: (الجزية) و(العشر)، وقد جمعها القاضي بدر الدين بن جماعة بقوله:

 

جهات بيت المال سبعتها

 

 

 

في بيت شعر حواها فيه كاتبه

 

خُمس وفَيْء خراجٌ جزية عشر

 

 

 

وارث فرد ومال ضل صاحبه

 

ومضى الفرق بين (الخراج) و(العشر) قريباً في آخر (الفائدة السابقة).

 

انظر: «الأشباه والنظائر» (564)، «تحرير المقال» (139-140)، «الهداية» (2/157)، «الخراج» لأبي يوسف (14) وشرحه «الرتاج» (2/161 وما بعد)، «القاموس الفقهي» (250)، «المعجم الاقتصادي الإسلامي» (294-295)، «النظام الاقتصادي في الإسلام» (128-129).

 

([1297]) ونقله عنه صاحب «عون المعبود» (8/283).

 

([1298]) تقدم (ص 217-218) من كلام بعض علمائهم ما يدل عليه، وانظر لمذهبهم: «الأصل» (2/157)، «المبسوط» (2/207-208)، «تحفة الفقهاء» (1/497)، «بدائع الصنائع» (2/933)، «شرح فتح القدير» (2/258)، «خزانة الفقه» (1/132)، «النتف» (1/185)، «اللباب» (1/152)، «الملتقي» وشرحيه (1/214)، «رمز الحقائق» (1/76)، «تبيين الحقائق» (10/294)، «رؤوس المسائل» (214 رقم 113) -وهو من كتب الحنفية المختصة بالخلاف مع الشافعية-، والمسألة مذكورة في كتب (الخلاف)، وفيها -على اختلاف مذاهبها- انفراد الحنفية بهذا القول، انظر منها على سبيل المثال: «الخلافيات» (2/ق131)، «مختصر الخلافيات» (2/458-461) لابن فرح الإشبيلي، «الإشراف» للقاضي عبدالوهاب (2/156-157 رقم= =476 - بتحقيقي)، «نكت المسائل» (ص 249-250 رقم 358)، «الإفصاح» (2/255-256) لابن هبيرة.

 

([1299]) «اختلاف العلماء» (1/443-444 رقم 436)، ونحوه في «أحكام القرآن» له (4/183).

 

([1300]) كذا في «الخلافيات»، وفي مطبوع «المختصر» (2/462) منه: «والخراج»! وهو خطأ.

 

([1301]) «الخلافيات» (2/ق131/ب).

 

([1302]) فرغت -ولله الحمد- من خدمته بمقابلته على أصلين خطيين، وتخريج أحاديثه وآثاره، يسر الله إخراجه بمنه وكرمه. وحديث: «منعت العراق...» فيه برقم (2094 - نشرتنا).

 

([1303]) انظره: (ص 238).

 

([1304]) «الخلافيات» (2/ق131ب/132/أ).

 

([1305]) وانظر لضعفه: «الكامل» (7/255)، «تعليقات الدارقطني على المجروحين» (ص 162-163)، «السنن الكبرى» للبيهقي (4/132)، و«الخلافيات» (2/ق131/ب)، «الموضوعات» (2/151) و«اللآلئ المصنوعة» (2/70)، و«تذكرة الموضوعات» (ص 76) لابن طاهر، «المجموع» (5/480).

 

(فائدة): نقل أبو حفص الموصلي في «الوقوف على الموقوف» (ص 114/رقم 94) عن الدارقطني في الحديث: «هذا عن إبراهيم النخعي من قوله، فجاء يحيى بن عيسى فوصله إلى النبي ×». وانظر ترجمة (يحيى) في: «الكامل» (7/2710).

 

([1306]) «المجموع» (5/480).

 

([1307]) هو أبو عبدالله القرطبي في «تفسيره» (16/35) (الشورى: 37).

 

([1308]) «رؤوس المسائل الخلافية» (5/742).

 

([1309]) «رؤوس المسائل الخلافية» (5/742-743).

 

([1310]) «رؤوس المسائل الخلافية» (5/743)، وذكر الخلاف الخطابي في «معالم السنن» (3/35) وعنه صاحب «عون المعبود» (8/283).

 

([1311]) انظر: (ص 251-252).

 

([1312]) مسرحها -كما في الأحاديث- الشام والعراق.

 

([1313]) انظر: (خامساً) من (الفائدة: عشرون).

 

([1314]) من (فوائد حديث: «منعت العراق...»)، وتظهر هذه الفائدة من خلال ما زيّفناه من توجيهات بعضهم وشروحاتهم عليه، وختمتُ بهذه الفائدة لأهميتها في هذا الزمان، وستأتيك دراسة عن (ظاهرة الإسقاط) على وجه حسن مفيد -إن شاء الله تعالى-.

 

([1315]) وتلقي هذه الأخبار يختلف باختلاف مُكنة الناظر فيها، وما عنده من قناعات سابقة، وأشهر مثل على ذلك: أثر نزول قوله -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرضاً حَسَناً} على يهود من جهة، وعلى أبي الدحداح من جهة أخرى، فالحروف والكلمات والمعاني التي سمعها الفريقان هي هي، واختلف أثرها على كل منهما، على وجهين متناقضين، والفرق بينهما شاسع، ما له من دافع!

 

([1316]) في ديارنا الأردنية واعظ معتوه يقسم في خطبه أمام الألوف من الناس أن ظهور المهدي قريب، بل وصل به الأمر إلى تلفظه بطلاق زوجته إن لم يخرج خلال عشر سنوات، ثم قوله إنه لن يؤمن به إن خرج بعد ذلك، والمساكين البُلْه يتلقَّوْنَ كلامَه بالتسليم، و(العَشْرُ) قريب، ولكن ما هو الحال بعد مُضِيّها؟ وعلى كلٍّ؛ الجُنون فُنون، ولله في خلقه شؤون، وقُلْ مثلَه في حق من حدد موعد انتهاء دولة يهود.

 

([1317]) السبب الذي نعالجه.

 

([1318]) وهو واقع في آخر هذه الأمة؛ للأخبار التي فيها اتباع سنن من كان قبلنا، وأخطر أنواعه: التشبه بهم في التصورات، والقناعات، وطريقة التفكير، وتقديم (المصالح) على (المبادئ)، وحصر الحرص في المتاع والملاذ، فضلاً عن المسلكيات والأفعال، وللغزي كتاب مطول حوى العجب العجاب في مسألة التشبه، سماه «حسن التنبه في مسألة التشبه»، هو قيد النسخ للعمل به مع الأخ خالد جناحي -حفظه الله ورعاه-.

 

([1319]) انظر: «تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التاريخ الكبير» (2/900-902 رقم 681)، وكلام الأخوين العلامتين أحمد ومحمود شاكر -رحمهما الله- في تعليقيهما على «تفسير الطبري» (1/218-220).

 

([1320]) من محفوظات مكتبة الجامع الكبير بصنعاء.

 

([1321]) انظره: (ص 340) مادة (بجد).

 

([1322]) انظر: «فتح الباري» (11/351).

 

([1323]) يشير إلى ما أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (11/26 رقم 91805)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/139) بسند صحيح عن ابن عباس، قال في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: لا أدري لمن فعل ذلك من خلاق. وروي مرفوعاً عند الطبراني في «الكبير» (11/41 رقم 10980) مرفوعاً، بسند فيه كذاب. انظر: «مجمع الزوائد» (5/117).

 

([1324]) الوجوه الآتية على فرض صحة الخبر، وهي التي وعدنا بها قريباً.

 

([1325]) ظفرت نحوه من كلام ابن عاشور في «التحرير والتنوير» (1/194-195)، قال: «وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه × فهو تعجيب من جهلهم».

 

وتعقبه الدكتور محمد بدري عبدالجليل في كتابه «براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور» (ص 135)، فقال: «وهو تحميل للكلام ما لا يحتمل، فما لهذا كان إيرادهم، ولا هكذا كان فهمهم، ولا عن هذا كان حديثهم، وإنما هو يخلع على النص ما ليس له، ولم يستنبط منه ما به».

 

قلت: تذكر أن القصة لم تثبت، وهذه توجيهات على فرض صحتها!

 

([1326]) هذا قول منسوب لبعض المفسرين!! راجع -مثلاً-: «مفاتيح الغيب» (1/153)، «البحر المحيط» (1/34).

 

([1327]) «تفسير البيضاوي» (1/15).

 

([1328]) «الإتقان في علوم القرآن» (2/11).

 

([1329]) «الإكليل في المتشابه والتأويل» (ص 16).

 

([1330]) «فتح القدير» (1/20).

 

([1331]) هي آية رقم (109) من سورة التوبة، فزعم الخراصون -لا رحم الله فيهم مغرز إبرة- أن الآية من السورة -وهي في الجزء/الحادي عشر من القرآن الكريم، ورقم السورة (9)-، قالوا: اليوم الذي وقعت فيه بعدد الجزء الذي فيه السورة، ورقم السورة هو رقم الشهر الذي وقعت فيه الحادثة، وعدد الأحرف بزعمهم من بداية السورة إلى قوله: {فانهار به} (2001) حرفاً، وهو السنة الذي وقعت فيه الحداثة، واسم الشارع بزعمهم (جورف هار)، وأشار إليه بقوله: {على شفا جرف هار}، ورقم الآية بعدد طوابق المبنى الذي انهار وهو (109) طوابق!!

 

([1332]) «إعجاز النظام القرآني (ص 14) للواء أحمد عبدالوهاب.

 

([1333]) من الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها، أن الإعجاز العددي قد أغفل القراءات القرآنية، فضلاً عن عدم وجود قواعد مطردة لعدِّهم، ويكفي هذا لنسف ما هم عليه.

 

([1334]) كالبهائيين وغيرهم من الباطنيين.

 

([1335]) وهو بسام جرار. وانظر مناقشته في: «الإعجاز العددي بين الحقيقة والوهم» (ص 56-62).

 

([1336]) يعاب عليهم تضخيم هذا المسلك، ومعرفة الغيب من خلاله، وأما وقوع (فلتات) و(لطائف) و(ملح) فهذا شيء يذكر، وهو قليل، ومثاله: تعليق ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/83) عند كلامه على (البسملة) على حديث رفاعة بن مالك الزرقي الذي أخرجه البخاري (126) وغيره، قال: كنا نصلي وراء النبي ×، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم؟ قال رجل: أنا. قال الرسول ×: «رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيُّهم يكتبها أولاً». قال ابن عطية: فإنها بضعة وثلاثون حرفاً»، قال: «وهذا من مُلَح التفسير، وليست من متين العلم».

 

و(المُلَح) -على حد قول الشاطبي في «الموافقات» (1/121 - بتحقيقي)-: «هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، إذ ليس يصحبها منفّر، ولا هي مما تعادي العلوم»، ثم قال: «ومن المعلوم ما ليس من صلبه ولا من مُلَحه»، وقال مفسراً له (1/121-122): «كمثل ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر... واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثُرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يُعقل على حال، فضلاً عن غير ذلك». وانظر: «قواعد المقَّري» (2/406).

 

قلت: فإن هذا ليس من الصميم، ولا من المُلَح، ويشمل هذا القسم ما ينتحله المؤلفون في (الفتن وأشراط الساعة)، والهجوم على علم الغيب، دون تثبّت، وستأتيك أمثلة، ومزيد بيان وتأكيد، والله وليّ التوفيق والتسديد.

 

([1337]) فيما نقله عنه السيوطي في «الإتقان» (3/30)، و«معترك الأقران» (1/156)، ثم ظفرت بعبارته في كتابه «قانون التأويل» (ص 208)، وفيه: «ومن الباطن...» وهو الصواب، وترتب على هذا التحريف نتائج غير مرضية، انظر أثراً منها في «الإعجاز البياني للقرآن» (136) لعائشة عبدالرحمن.

 

([1338]) صوابه: «الباطن». انظر: الهامش السابق.

 

([1339]) «إعجاز القرآن» (ص 347).

 

([1340]) تجد أمثلة منها في (التفسير) و(التوحيد) وغيرها في: «قواعد عقائد آل محمد» (ص 47) لمحمد بن الحسن الديلمي، و«متشابه القرآن» لزرزور، و«من بلاغة القرآن» لمحمد خضر= =حسين، و«التفسير والمفسرون» (2/235 وما بعد) لمحمد حسين الذهبي، وأورد ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/550-551 و13/236-238، و359 وما بعدها) مجموعة منها ونقضها، وكذلك فعل قبله ابن حزم في «الإحكام» (3/40)، وابن قتيبة في «اختلاف الحديث» (1/217-218)، وهكذا صنع بعده الشاطبي في «الاعتصام» (1/322) و«الموافقات» (4/233 وما بعد).

 

([1341]) كما فعل صاحب كتاب «هرمجدون»!! وستأتيك نقولات عنه.

 

([1342]) خصوصاً لمّا نشر كتاب «هرمجدون»، وهو مليء بالخرافات، والتجاوزات العلمية، والحقائق المغلوطة، والجرأة على التكهن بالغيب، من غير عدة، ولا بحث، بل عرضت مادته بأسلوب صحفي أو قصصي أو إخباري للتشويق، والله المستعان على بواطيل أهل الزمان.

 

([1343]) مثل كتاب (الجفر) الذي شاع خبره في الفتنة التي حصلت من قريبٍ في بعض ديار المسلمين، وهو -على حدِّ الأكاذيب التي فيه (ص 5)-: «علم بقوانين حَرفية (نسبة إلى الحَرف)، يصل بها إلى استنباط المجهولات من الحوادث الكونية»، بل -زعم واضعوه- بقولهم فيه (ص 5) -أيضاً-: «يمكن أن يُفهمَ منه أحوالُ الإنسان الماضي والحال والمستقبل، وكيفيته الحادثة بهذه الطريقة».

 

وهذا الكتاب منسوب للصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- تارة، وتارة إلى جعفر الصادق -رحمه الله-.

 

وهذا الكتاب من مصادر كتاب «الكافي» للكليني؛ ففي كتاب الحجة منه: (باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامع) (1/238-240)، وفيه على لسان علي -رضي الله عنه-: «وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل»، وفيه: «... ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة»!!

 

وفي هذا الكتاب من أمور الغيب والأحداث والأسرار الشيء الكثير، ويزعم الإمامية أن جعفراً الصادق -رحمه الله- كتب لهم كل ما يحتاجون إليه، وكل ما سيقع ويكون إلى يوم القيامة، وكان مكتوباً عنده في جلد ماعز؛ فكتبه عنه هارونُ بنُ سعيد العجلي رأس الزيدية، وسماه (الجفر) باسم الجلد الذي كتب فيه، وهذا زعم باطل مخالف لما يعتقده المسلمون من أن الغيب لا يعمله إلا الله -سبحانه-، ومن ارتضى من رسله، قال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ} [الجن: 26-27].

 

قال السيد محمد رشيد رضا في مجلة «المنار» (4/60) وفي «الفتاوى» له (4/1307 رقم 515):

 

«لا يعرف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على النافي دليل، وإنما يطلب الدليل من= =مدَّعي الشيء، ولا دليل لمدّعي هذا الجفر».

 

قلت: المشهور أن الكتاب المزعوم منسوب إلى جعفر الصادق، ولم يصح ذلك ألبتة.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/78-79): «وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق؛ فمن أكبر الأشياء كذباً؛ حتى يقال: ما كُذِبَ على أحدٍ ما كُذِبَ على جعفر -رضي الله عنه-.

 

ومن هذه الأمور المضافة: كتاب «الجفر» الذي يدّعون أنه كتب فيه الحوادث، والجفر ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده». ونحوه في «نقض المنطق» (66) له.

 

وقال في «مجموع الفتاوى» (35/138) -أيضاً-: «ونحن نعلم من أحوال أئمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق من جنس هذه الأمور -أي: الاستدلال على الحوادث المستقبلية- ما يعلم كل عالم بحال جعفر -رضي الله عنه- أن ذلك كذب عليه؛ فإن الكذب عليه من أعظم الكذب»، ثم ذكر مجموعة من الكتب كُذبت عليه منها «الجفر»، وقال: وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم».

 

وقال -أيضاً- في «درء تعارض العقل والنقل» (5/26): «وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق، ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية ينسبون إلحادهم إلى علي، وهو بريء من ذلك».

 

وقال -يرحمه الله- في «منهاج السنة» (2/464) عند ذكره عليّاً وجعفراً الصادق -رضي الله عنهما-: «الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور، لا سيما على جعفر بن محمد الصادق؛ فإنه ما كُذِب على أحد ما كُذب عليه، حتى نسبوا إليه كتاب «الجفر»».

 

وقال في (8/10-11) منه: «ومن الناس من ينسب إليه -أي: إلى علي -رضي الله عنه- الكلام في الحوادث كـ«الجفر» وغيره، وآخرون ينسبون إليه «البطاقة»، وأموراً يُعلم أن عليّاً بريء منها، وكذلك جعفر الصادق قد كُذِب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله...».

 

وقال في «بغية المرتاد» (ص 321):

 

«ومن المعلوم بالتواتر علماً ضروريّاً لمن له خبرة متوسطة بأحوال الصحابة أنهم كانوا أعظم الخلق منافاة لمثل هذه التحريفات التي يسمونها «التعبير والتأويل» خاصتهم وعامتهم، وأن جميع ما ينقل عنهم مما يخالف الظاهرالمعروف؛ فهو كذب مفترى، مثل ما يزعم أهل «البطاقة» و«الجفر» ونحو ذلك مما يدعونه من العلوم الباطنة المنقولة عن علي -رضي الله عنه- وأهل البيت -رضي الله عنهم-».

 

وقال ابن خلدون في «مقدمته» (ص 334): «واعلم أن كتاب «الجفر» كان أصله أن هارون= =ابن سعيد العجلي وهو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير؛ فرواه عنه هارون العجلي، وكتبه وسماه «الجفر» باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وهذا الكتاب لم تتصل روايته ولا عرف عينه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل، ولو صح السند إلى جعفر الصادق؛ لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه».

 

وقد حكم ببطلان هذه النسبة -أيضاً-: صديق حسن خان في «أبجد العلوم» (2/214-216) و«لقطة العجلان»، فقال:

 

«فهذا الكتاب لا تصح نسبته إلى علي ولا إلى جعفر الصادق، والذين نسبوه إليها من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وسقيمها، وعمدتهم في المنقولات التواريخ المنقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع من عرف بالكذب والاختلاق، وغير خاف على طلبة العلم أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا بالرواية صحيحة السند، فإذا لم توجد؛ فلا يسوغ لنا شرعاً وعقلاً أن نقول بثبوته».

 

وكنت أنا وبعض إخواني من طلبة العلم ممن هم على المنهج السلفي القويم، قد حذرنا قومنا مما في هذا الكتاب عندما بدؤوا يُخرجون ما فيه، ويسقطونه على الواقع الذي يحيونه في وقت (أزمة الخليج) الأولى، و(احتلال صدام) للكويت؛ فكتبتُ لهم محذراً ورقةً هذه صورتها:

 

احذروا الكذب على النبي ×

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

 

فحرصاً منا على أن لا ينسب إلى النبي × ما لم يقله، وخوفاً من وقوع الناس في الكذب على النبي ×، ولحوقهم وعيد النار الثابت في الحديث المتواتر: «من كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار»؛ فنكتب محذرين قومنا من كتاب انتشر ذكره في الآونة الأخيرة، مع تزامن الأحداث التي وقعت بأرض المسلمين، ألا وهو كتاب «الجفر»، وقد حذر علماؤنا المزكون الأخيار من ترهات وأباطيل هذا الكتاب قديماً، وبيّنوا أنه مكذوب على جعفر الصادق -رضي الله عنه-.

 

ثم ذكرت فيه أقاويل أهل العلم السالفة، ثم قلت: فكأن هؤلاءِ العلماءَ الأعلامَ بين ظهرانينا، يحذّروننا من كذب ما يروّجه الجهلة على نبينا ×؛ فرحمهم الله -تعالى-.

 

مَن الذي وضع الكتاب، ويُرَوِّج له، وما هي أوجُهُ بطلانه؟

 

الجفر: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، والمراد به هنا جلد المعز الذي كتب فيه، وهذا= =الكتاب يزعم الشيعة الإمامية أن جعفراً الصادق -رحمه الله- كتب لهم فيه كل ما يحتاجون إليه، وكل ما سيقع ويكون إلى يوم القيامة، وكان مكتوباً عنده في جلد ماعز؛ فكتبه عنه هارون بن سعيد العجلي (رأس الزيدية)، وسماه «الجفر» باسم الجلد الذي كتب فيه، وهذا زعم باطل؛ فإن جعفراً الصادق كجده أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- لا يعلم الغيب.

 

ومن عقيدتنا أن الغيب لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، ومن أطلعه الله عليه من أنبيائه فيما يوحي إليهم، قال -تعالى-: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً . إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ} [الجن: 26-27]، وقد ثبت عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله × لم يخصَّه بشيء من دون أصحابه، كما هو ثابت في «صحيح البخاري» (رقم 111 و1870 و3172 و3179 و6755 و6903 و6915 و7300) من طريق أبي جحيفة السوائي، قال: سألت عليّاً -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن، أو ما ليس عند الناس؟ فقال: «والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة؛ ما عندنا إلا ما في القرآن؛ إلا فهماً يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر».

 

قال ابن حجر: «وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك؛ لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما عليّاً- أشياء من الوحي خصّهم النبي × بها لم يطلع غيرهم عليها».

 

وقال العيني في «عمدته» (1/161) عن ابن بطال قوله: «فيه ما يقطع بدعة الشيعة والمدعين على علي -رضي الله عنه- أنه الوصي، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله × لم يعرفه غيره، حيث قال: ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم ولم يخص نفسه بشيء غير ما هو ممكن في غيره».

 

على أن الكتاب -أي: كتاب «الجفر»- لا تصح نسبته إلى جعفر الصادق -رحمه الله-، والذين نسبوه إليه من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وعمدتهم في المنقولات التواريخُ المنقطعةُ الإسناد، وكثير منها من وضع من عُرِف بالكذب والاختلاق، وغير خافٍ على طلبة العلم أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا بالرواية الصحيحة السند، فإذا لم توجد؛ فلا يسوغ لنا شرعاً وعقلاً أن نقول بثبوته؛ فكيف إذا نصص العلماء المحققون على كذبه وزوره؛ مثل: ابن تيمية، ومحمد رشيد رضا، وصديق حسن خان -كما تقدم-.

 

إذاً... فمَنِ الذي يروجُ هذا الكتابَ، وينشرُ ذكره في الناس؟

 

إنهم مدّعو الغيب... الجهلة... الكذّابون على رسول الله ×... المتقوّلون على أئمة العلم ما لم يقولوه... الشيعة الإمامية... الطرُقِيُّون...                                                        =

 

=       شبهة ودفعها:

 

فإن قيل: في هذا الكتاب إخبار عن حوادثَ وقعتْ أو ربما ستقع...!!

 

قلت: لا يلزم من ذلك أن هذا حق... على فرض صحة ما قيل... فإن الكهان يأخذون عن مُسترِقِي السمع، وكانوا قبل مَبعَث النبي × كثيراً، وأما بعد المبعث؛ فهم موجودون، ولكنهم قليل؛ لأن الله -تعالى- حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما وقع في الأرض من الأخبار؛ فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليّاً لله، وهو من أولياء الشيطان، ورحم الله القرطبي؛ فإنه قال في الكهان:

 

«يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك في الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور».

 

قلت: واغربتاه... واإسلاماه... لقد تعاطى كثير من المتمشيخين الكَهانةَ في بيوت الله... وروّجوا للباطل... واعتَدَوْا على علم الله بمشاركتهم غيره زوراً وبهتاناً بعلم الغيب... فاحذر أخي القارئ على عقيدتك، فإن المقرر عند العلماء أن ادّعاء علم الغيب -بجميع أضرابه وأقسامه- كفر وشرك.

 

قال علي القاري في «شرح الفقه الأكبر» (124) في مبحث الكهانة (وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع) وذكر منهم نوعاً، فقال:

 

«نوع منهم: أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يُظهِرُ أحدُهم طاعةَ الجنِّ له، أو يدعي الحالَ من أهل المحال؛ كالمشايخ النصّابين، والفقراء الكذابين، والطرقية المكارين؛ فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالَهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل».

 

وقال -أيضاً- (ص 125): «ثم اعلم أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما علمهم الله -تعالى- أحياناً، وذكر الحنفية (وغيرهم) تصريحاً بالتكفير باعتقاد أن النبي × يعلم الغيب؛ لمعارضة قوله -تعالى-: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل: 65]» انتهى.

 

فاحذروا عباد الله من هذا الكتاب، وما فيه من الكذب على رسول الله ×.

 

([1344]) كذا زعموا! وفي الأصول التي نقلوا عنها هذا الباطل (صارم) -بالراء لا بالصاد- في سياق نعت سيف علي.

 

([1345]) سيأتيك بالتفصيل خبرهم، وبيان مراهقتهم، وسيظهر لك اعوجاج مسلكهم، ومقدار عبثهم وخوضهم، ولله في خلقه شؤون.

 

([1346]) القاعدة عند العلماء في ذلك: (إنْ كنت ناقلاً؛ فالصحة، أو مدّعياً؛ فالدليل).

 

([1347]) يشمل -أيضاً- صنيع الخائضين العابثين، وسيأتيك الكثير من هذيانهم، وبيان صحة الأوصاف المذكورة في تتمة كلام ابن تيمية عليهم!

 

([1348]) لصاحب هذه السطور دراسة مفردة عن (النشرات) التي توزع بين الناس، كتب منها قسماً، يسر الله تتمته ونشره بخير وعافية.

 

([1349]) ولا سيما تلك التي ظهرت في وقت الأحداث التي جرت في العقد الأخير في العراق وما قاربه.

 

([1350]) ذكر الأستاذ عبدالله بن إبراهيم الرميح في مجلة «البيان» (العدد 39)، ذو القعدة، 1411هـ، (ص 94-95) هذا الكلام عن الشيخ، وقال على إثره:

 

«ولقد قابلت الشيخ وسألته عن مراجع هذه النقطة وأدلتها، فذكر منها «الفتاوى» لابن تيمية عند حديثه عن الخوارج.

 

أما الأدلة فهو ما حصل لعلي -رضي الله عنه- أنه ما طبق معاملة الخوارج إلا حين ظهرت العلامة التي أخبر بها النبي × وهي ذو الثدية، وكذلك قتل عمار قبل الفئة الباغية.

 

وكذلك ذكر أن تطبيق أحاديث الفتن قبل وقوعها منهج غير سديد، لذلك أحببت التنبيه، وأطلب أن يقوم أحد العلماء المتخصصين في العقيدة ومنهج أهل السنة بدراسة هذا الموضوع دراسة قوية وتبيين أقوال العلماء فيها».

 

وانظر بخصوص الأمثلة المذكورة ما سيأتي قريباً، والله الهادي.

 

([1351]) وقع هذا لبعض الصحابة، قبل وقوع الفتنة فيما سمّاه النبي × وعيّنه؛ كعثمان، يظهر هذا من النظر في قصة قتله، وكذا مقتل عمار، كما تراه في «السلسلة الصحيحة» (3216).

 

ووقع ذلك لبعضهم بعد وقوعها؛ كقصة أسماء بنت أبي بكر مع الحجاج، انظرها مفصلة مع ألفاظها في «الصحيحة» (رقم 3538).

 

وما يقال عن تعيين الأشخاص؛ فإنّ البلدان مثله، والله الموفق.

 

([1352]) جزء من حديث في «صحيح مسلم» (1844) عن عبدالله بن عمرو، وتقدم.

 

([1353]) قال أبو عبيدة: صرّح الشيخ شلتوت بذلك، وتأوّل رفع عيسى -عليه السلام- بجسمه، وأنكر نزوله آخر الزمان في مقالة نشرت له في مجلة «الرسالة» (عدد 462)، أعقبه بكتابة مقالات أخرى في الموضوع نفسه، وذكر بعض ملازميه من طلبة الأزهر أنّ الشيخ شلتوت في أواخر حياته تراجع عن ذلك ، وأحرق كل ما كتبه في ذلك.

 

([1354]) انظر -على سبيل المثال-: «فقه الواقع» لعبدالسلام البسيوني (ص 91-93)، «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 715 وما بعد)، «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (ص 75-76) لعبدالعزيز السيروان، «قبل أن يهدم الأقصى» (ص 276-277) لعبدالعزيز مصطفى.

 

([1355]) النص المنقول فيه اختصار وتصرف، وهذا الكتاب -في نظري- بحاجة إلى دراسة وتقويم، كأفكار المودودي بالجملة، فإن فيها جرأة، وصدرت دراسات عديدة في ذلك، ومن أجود ما وقفت عليه: «موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي» للعلامة محمد بن إسماعيل السلفي (ت 1387هـ)، و«زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً» (ص85-171).

 

([1356]) هو الأستاذ عبدالعزيز مصطفى في كتابه «قبل أن يهدم الأقصى» (ص 247-248).

 

([1357]) الأدله على ذلك كثيرة جدّاً؛ منها: ما أخرجه البخاري (7062-7066)، ومسلم (157)، وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رفعه: «إنّ بين يدي الساعة أياماً يُرفَع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيه الهرج».

 

فهنالك صلة بين (الفتن) ورفع العلم وظهور الجهل، وعبّر عن ذلك أبو إدريس الخولاني بقوله:

 

«إنها فتن قد أظلت كجباه البقر يهلك فيها أكثر الناس، إلاَّ من كان يعرفها قبل ذلك».

 

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/604-605)، وغيره.

 

وقصة الشاب -طالب علم حديث- الذي يلقى الدجال، ويحتج عليه بالحديث، وأنّ الدجال لن يقدر عليه، وأنه ازداد به بصيرة بعد نشره بالمنشار، لأوضح دليل على ما نحن بصدده. انظرها بتفصيل في «صحيح البخاري» (7132)، وشرحها لابن حجر في «الفتح» (13/101).

 

ويذكر بهذا الصدد ما أخرجه ابن ماجه (2/516) على إثر حديث أبي أمامه عن الدجال= =مقولة عبدالرحمن المحاربي: «ينبغي أنْ يُدفع هذا الحديث إلى المؤدِّب حتى يعلِّمَه الصبيان في الكُتَّاب».

 

وقال السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (2/106-107): «مما ينبغي لكل عالم أنْ يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبَّت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن».

 

([1358]) انطلى أمر هذه المخطوطات على بعض المغفلين، فأحالوا إليها، وأخذوا الكلام السابق مأخذ التسليم، فها هو تلميذ المدعي السابق يقول في مقدمة كتابه «هرمجدون» (ص 11):

 

«كما ينبغي التنبيه على أنّ ثمة مخطوطات نادرة (لم تطبع) تحوي أضعاف الأحاديث المعروفة، سواء في الكتب المشهورة والغير مشهورة، محفوظة في المكتبات العالمية كمخطوطات، منها ما هو موجود في المكتبة العراقية الكبرى ببغداد، ومنها في دار الكتابـخانة بإسطنبول بتركيا، وكذلك مكتبة التراث في «طنجة»، ومنها في مكتبة دار الكتب القديمة بالرباط، ومنها بمكتبة بحرة الشام؛ وهي دمشق، في الجامع الأموي، هذا غير كثير من المخطوطات الإسلامية النادرة الموجودة في الفاتيكان؛ مكتبة البابا».

 

فلم يزد على كلام الأول إلاّ تعيين مكان (مكتبة بحرة الشام)، قال: «في الجامع الأموي»، -والحمد للَّه- الجامع موجود، وأهله يعرفون ما فيه، وهم أدرى بمخطوطاته من هؤلاء الأفاكين! أمّا (مكتبة التراث) في (طنجة)، و(المكتبة العراقية الكبرى) ببغداد، والكتابـخانة بإسطنبول؛ فهذا من الضحك على العقول، إذ لم يُحدِّدوا أسماء المكتبات التي يعرفها المتخصصون، وإن ظنّ القراء -للوهلة الأولى- أنّ الأسماء المذكورة هي مسميات لمكتبات معينة، فهذا من غفلتهم، وعدم معرفتهم! والغالب على ظني أنّ صاحب «هرمجدون» يعلم ذلك جيداً، فلا سبيل له لتغطية سوأته إلاّ بالتعمية المتعمدة، اسمع إليه وهو يقول في «هرمجدونه» -أيضاً- (ص 110):

 

«كما أنّ كثيراً من أحداث الفتن، وملاحم آخر الزمان وردت في أحاديث وآثار غير= =مشهورة، مثبتة في مخطوطات، وكتب ليست سهلة المنال، كما بينتُ سالفاً، فكذلك حال الآثار التي بها توجيهات نبويّة، ونصائح غالية تستبين بها سبيل النجاة، ولذلك خفيت على أكثر الناس قديماً وحديثاً، إلاّ من اختصه الله -تعالى- بعلمها، حتى يبثّها وينشرها إذا جاء وقتها، وحان أوانها».

 

نعم؛ خفيت على أكثر الناس، ولكنها لم تخف عليه ولا على شيخه؛ لأنه مخترع لها! ولم يَسْلَم غير واحد من الانبهار بمخطوطات (ابن داود)؛ مثل: مجدي الشوري في كتابه «الثمر الداني في ذكر المهدي والقحطاني»، أو «الدر المكنون في بيان حقيقة هرمجدون» فدافع فيه (ص 91) عن مخطوطات «الأستاذ البحَّاثة! والسندباد المصري!! محمد عيسى داود» -كذا وصفه في مقدمة كتابه (ص 4)، قال: «لا نقول كما يقول بعض مَن ينتسب إلى العلم بتكذيب أو تزوير هذا الباحث لتلك المخطوطات؛ فهو عندنا أجل من ذلك وأعظم» كذا، والسلام، دون تفصيل أو بيان! والعجب أنه يصفه (ص 94) بـ: «أمانة في النقل قلَّ أن تجدها في مثل هذا الزمان» وي... وي... وي...! بلا حياء ولا خجل! ولكن حق له؛ فهو -كمَن هم على شاكلته- ضد عوامل وأسباب التعرية والفضيحة! مهما بلغت!

 

ورحم الله مجاهد بن موسى؛ فإنه سأل أبا داود النخعي -وكان كذّاباً-: يزيد بن أبي حبيب، أين لقيته؟ فقال: ما حدثتُ عنه حتى هيأت له الجواب، لقيته بالباب والأبواب. قال مجاهد: دلَّني على مكان لا أقدر عليه. أسنده الخطيب في «الجامع» (1/134 رقم 150).

 

([1359]) الرجل مولع بذكر (المخطوطات) والنقل منها، وكلها غامضة، ولا يعرفها أحد إلاّ هو، ومؤلفوها لا ذكر لهم ألبتة في كتب التراجم، وهم -على زعمه- متقدّمون، ويذكر المخطوطات العربية وغيرها، وما قبل الميلاد فيها، ومن مخطوطات جميع الأديان، ومن النسخ الأصلية منها؛ فها هو يذكر (ص 114) نسخةً قديمةً للتوراة لبارش بن حامس، و(ص 121) ورقات من إنجيل عيسى المفقود بمكتبة السرداب السّرّي للملك كارل جوستاف، و(ص 122): «سفر أشعياء الحقيقي» نسخة الفاتيكان، ولا يسمي اسماً معيناً من الدور الخطية، ويكتفي بذكر البلدة، حتى لا يفتضح أمره! وذكر (ابن داود) -هذا- (36) مخطوطاً في كتابه «المهدي المنتظر على الأبواب»، ولم ينتبه لكذبه -بادئ بدء- أحد، فزاد العدد إلى (43) مخطوطاً في كتابه «المفاجأة»، وذكر فيه (ص 57) المسوغ لذلك، قال: «ووالله كان والدي الشيخ عيسى داود محمد يكنز من المخطوطات، ومنها ما سرق بعد وفاته ما لا تتصورونه».

 

قال أبو عبيدة: يا ابن داود! وواللهِ الذي لا إله إلا هو -إنْ صَدقتَ في هذه- فما من مخطوط سميته سابقاً رأته عينا والدك، فضلاً عن أن يمتلكه؛ لأنه لا وجود له إلاّ في أكاذيبك وترّهاتك، وأنت تعلم ذلك جيداً، وقد كذّبك في ذلك جمع من نبهاء طلبة العلم، ومنهم غير واحد من بلدك (مصر) -المحروسة- حفظها الله من كل ما يُكاد لها ولأهلها -انظرعلى سبيل المثال-: «تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم والفتن» لأخينا أحمد بن أبي العينين المنصوري (ص 146-175)، «تنبيه الأنام على ما في كتاب «هرمجدون» من ضلالات وآثام» لأخينا الشيخ عادل العزازي (ص 28)، قال على إثر حديث نقله صاحب «هرمجدون» عن ابن داود -هذا- ما نصه: «إنني أُوقِن أنّ الكذّاب الذي وضع الحديث مصري= =معاصر»، والذي روج لـ(ابن داود) أكاذيبه صاحب كتاب «هرمجدون»؛ فنقل عن بعض مخطوطات شيخه المدّعاة».

 

وبيَّن أباطيل «هرمجدون» جمع؛ مثل: محمد بيومي في كتابه «نبوءات النبي × في فتن آخر الزمان، والرد على كتاب «هرمجدون»» - طبعة دار الهدى، ومازن بن محمد السرساوي في «كشف المكنون في الرد على كتاب «هرمجدون»» طبعة المكتبة الإسلامية، ومحمد الأزهري في «القول الفصل في هرمجدون وأشراط الساعة» طبع دار البيان العربي، وغيرهم.

 

ولأبي محمد الحربي «السيف الأبتر على كتاب مهندس الأزهر» رَدَّ فيه على «كشف حقيقة كتاب «عُمْر أمة الإسلام»»، وذكر أنّ صاحب «هرمجدون» مسبوق بفكرته.

 

وقال عداب الحمش في كتابه (القنبلة) «المهدي المنتظر» (ص 94) عن كتابه «عمر أمة الإسلام»: «إن كتابه هذا لا يستحق أن يناقش، وقد أظهر الزمان تخريف مهندسه»، ووصف صاحبه -غفر الله له- في هامش الورقة التي قبلها بأنه (سلفي)! ولا أدري من أين جاء بذلك!!

 

والعجيب أنّ صاحب «هرمجدون» (ص 14) يزعم «أنّ ما جاء به نوستراداموس»          -اليهودي الشهير مؤلف «رباعيات تنبؤية لأمور مستقبلية»-: «هو من تراثنا المنهوب، وميراثنا المسلوب؛ الذي سقط منا فالتقطوه، وجهلناه وعلموه».

 

قلتُ: فعلى العقول السلام، ولا قوة إلا بالله!

 

ولأخينا الشيخ الفاضل محمد أحمد إسماعيل في كتابه الجيد «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 635-639) كلمة فيها جزمه بكذب ما في «هرمجدون»، و«المفاجأة» من ادعاء تحصيل (المخطوطات)، ومما قال: «أين صور هذه المخطوطات، وأرقامها، وتوثيقها؟!! خاصة وأنها تتحدث عن أمور غيبية خطيرة».

 

قلتُ: ونحن بالانتظار، بأن يظهروا صوراً لما زعموه وادّعوه، ولن يفعلوا؛ فالكذب حبله قصير، وصرّح بكذبه -أيضاً- أخونا الكويتي مبارك البراك في كتابه «الضعيف والموضوع في أشراط الساعة وأخبار الفتن الملاحم» (ص 4).

 

تنبيه مهم:

 

نشرت مجلة «أون لاين» في العدد (14) - نصف أكتوبر 2001م، مقالاً أنحت فيه باللائمة على وكالة «رويترز» للأنباء؛ لأنها التي نشرت شائعة تنبؤ «نوستراداموس» بأحداث 11 سبتمبر، ونسبت إلى «جون هوج» أحد المتخصصين في دراسة نبوءات «نوستراداموس» قوله: «يبدو أنّ صحافيي وكالة رويتر نسوا أبسط قواعد الصحافة المحترمة، ألا وهي التأكد من الحقائق قبل نشرها، الأمر الذي لم يفعله أحد»، وقد دعا الوكالة الشهيرة إلى الاعتذار عن خطئها،= =وتكذيب ذلك الخبر فوراً.

 

وذكرت المجلة أنّ طالباً يدعى «نيل مارشال» كان قد صمم موقعاً له على شبكة الإنترنت باسم: «التحليل النقدي لنوستراداموس» وقد نشر فيه عدداً من الرباعيات ونسبها إلى الفلكي الشهير، وحرص على أنْ يجعلها ذات لغة مراوغة ليسخر من فكرة التنبؤ بالمستقبل، ووصل إلى استنتاج أنّ نصوص «نوستراداموس» يمكنها أنْ تعني كل شيء، وقد لا تعني شيئاً على الإطلاق.

 

ويقول محرر موقع «الأساطير الحضارية»  Urban Legends:

 

«إنّ لغة نوستراداموس تجعل نصوصه قابله للتفسير على أي وجه، يمكنك أنْ ترى فيها الحروب أو المآسي، أو الانتصارات، أو أي شيء تريد أنت رؤيته».

 

ثم تسخر مجلة  Online من «نوستراداموس» وأشباهه وتتساءل: لماذا يستخدم المنجمون دوماً تلك اللغة المراوغة؟! إذا كانوا بحق قادرين على كسر حاجز الزمن والإبحار عبر المستقبل؛ فلماذا لا يقولون لنا ما سيحدث بوضوح وصراحة دون أنْ «يوجعوا دماغنا»؟!

 

بواسطة كتاب «المهدي» للمقدمي (ص 634).

 

([1360]) دون تعليق عليها!

 

([1361]) وغيرها من مثيلاتها (أربعة) أخرى. انظر تفنيدها جميعاً في: «تحذير ذوي الفطن...» (ص 161-175).

 

([1362]) قال -هو هو- مصرحاً بذلك في مقدمة كتابه «المفاجأة» (ص 9): «اللهم وكما جعلت كتبي وأفكاري رزقاً واسعاً للكثيرين في كل مسارات أرضك، فسلط اللهم سيف انتقامك على من يسرق فكري، أو يحاول تعطيل مسيرتي بأي كيد وضيع، كوضاعة أهل الكيد والسرقة والشر والكذب».

 

قلتُ: اللهم انتقم ممن يكذب على دينك، ويدس به ليكون -وهو يعلم أو لا يعلم- مطية وسُلَّماً لأعدائك، وانشر فضيحته في الخافقين، واكشف الرين عن قلوب المغفلين، والكمه عن عيونهم، واحلل عقد السحر من قلوبهم؛ ليروا ويبصروا الحقائق على وجهها الصحيح.

 

([1363]) أخبرني أخٌ -أثق به- أنّه التقى في أمريكا برجل (عربي) يزعم أنه الدجال! ومن بديع= =كلام ابن القيم في «المنار المنيف» (ص 88): «المهدي في جانب الخير والرشد، كالدجال في جانب الشر والضلال، وكما أن بين يدي الدجال الأكبر -صاحب الخوارق- دجالين كذابين، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون».

 

([1364]) قال ابن كثير في «الفتن والملاحم» (1/30) عن (المهدي): «وليس هو بالمنتظر الذي تزعمه الرافضة، وترتجي ظهوره من سرداب [في] (سامراء)؛ فإنّ ذلك ما لا حقيقة له، ولا عين ولا أثر».

 

وانظر عن (مهديهم): «منهاج السنة النبوية» (8/258-260).

 

([1365]) ينتظر اليهود مخلِّصاً يسمّونه (مِسّيا)، يقودهم -لزعامة- العالم، وهذا من تلاعب الشيطان بهم، قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان» (2/333):

 

«ومن تلاعبه -يعني: الشيطان- بهم -يعني: اليهود- أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، إذا حرّك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأنّ هذا المنتظر -بزعمهم- هو المسيح الذي وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنّما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- يقتلهم، ولا يُبقي منهم أحداً».

 

قال أبو عبيدة: لا يبعد -عندي- أنّ وراء بعض الدراسات التي ظهرت حديثاً عن (الملاحم) و(الفتن) أيدٍ خفية، وجهات مشبوهة، تعمل على خدمة الكفار -بطريق مباشر أو غير مباشر-، وتمهد لقبول فكرة (المهدي) بمواصفات تواطأ أصحابها عليها، وابتدأت التجربة -كما هي العادة- من مصر -حرسها الله- البعيدة عن المجريات تهيئة لمناخ الترويج، كما حصل فيما يخص العراق، وما سيفعله (صدام) بالروم، وسيأتيك طرف من كلام هؤلاء قريباً.

 

قل لي بربك: ما الذي جعل صاحب كتاب «المفاجأة» (ص 90) يقول: «المهدي يلبس الزي الرومي، يعني: لبسه الأساسي هو الزي المدني الحالي بجميع أشكاله الحضارية المدنية الحالية؛ فهو ليس غريباً في هيئته عن الحضارة الغربية (!!) ولكن زيه الرسمي (البدلة) و(الكرافت)»، ولا أدري من أيّ مخطوط أخذ (ابن داود) هذه المعلومة، ولعلها (البروتوكلات)!!

 

وأصغ إليه وهو يقرر في «المفاجأة» (ص 88-89) -أيضاً-: «إنّ المهدي (إسرائيلي الجسم)»، أو يقول في مقدمته (ص 9): «فاجعلني اللهم أول من يبني منبراً للمهدي في مصر، والعالم الإسلامي، والكرة الأرضية»، واسمع إليه وهو يصدّ عن (المهدي) بقوله مفسراً العبارة السابقة: «هي لمسة لطيفة تعني: لا تلتفتوا لمن يدعي المهدية لنفسه، خاصة من البلاد التي ترتدي الجلباب والعقال»، ويذكر صفات تفصيلية -لا مستند لها- لمهديه المزعوم، ولكنها قد تتوفر في= =المهدي المصنوع!! انظر: «هرمجدونه» (ص 78). ويظهر هذا -أيضاً- جليّاً في كتابه «المسيخ الدجال يغزو العالم من جزيرة برمودة» (ص 141-142)؛ فهو ينقل عن يهودي يعتمد على معلومات أكيدة من رجال (المسيخ) بالكنيست الإسرائيلي، ويستنبط من وثائق سرية لنبؤات حقيقية بالتوراة (المخبوءة)، هذا نقله، ويقول على إثره: «وهو مطابق، أو قريب جدّاً لحساباتي، وحدسي، واستبصاري الذي استلهمت فيه إيماني بالله، واستقرأت ما بين السطور في أحاديث عن النبي × نبي البشرية الأمين، ولو كره ذلك الأغبياء والضالون».

 

قلتُ: الشرّ هكذا يبدأ، وهذه شرارته، والمسلمون غافلون عما في هذه الدراسات من خطورة، ومن تخدم، وما هو مستند القائلين بها، إنها (إلهامات) الممخرقين والمشعوذين قديماً وحديثاً، ولكنها سنة الله الكونية ليتحقق ما أخبر به النبي × من خروج الدجال، وتصديق الناس به؛ فإنّ لذلك إرهاصات ولا بد، وقد رأيناها ولا قوة إلا بالله!

 

([1366]) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/97) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/54)-، والخطيب في «الكفاية» (ص 147).

 

([1367]) أخرجه الخطيب في «الكفاية» (ص 147)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/54).

 

([1368]) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/357)، والخطيب في «الجامع» (1/198 رقم 146)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/54-55)، وابن الجوزي في «مقدمة الموضوعات» (1/39).

 

وللسخاوي كلمة في (فوائد التاريخ) في كتابه «الإعلان بالتوبيخ» (ص 17 وما بعد)؛ تكلم فيها عن هذه (الفائدة).

 

([1369]) انظرها مسندة في: «المجروحين» (1/71)، و«المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل» (ص 147)، وكذا عند الخطيب في «الجامع» (1/132)، وفي «الكفاية» (ص 147).

 

([1370]) «الكفاية» (ص 147).

 

([1371]) كان تأريخ كتابة هذه السطور -وما بعدها- بعد سقوط بغداد بأيدي (الأمريكان)، وقد ابتدأتُ به قبل السقوط، وبقيتُ -ولله الحمد والمنة- أدور في دائرة اليقين، من خلال النصوص، والعمل على فحصها بالمعايير الحديثية، وعدم العجلة في إسقاط الثابت منها على حسب ما يَلُوح في الأفق، ويسنح في البال، ويقدح في الخيال، على استعجال من غير إمهال، كما فعل المردود عليهم! إذ تركوا (اليقين)، وخاضوا في (الظّنّ) و(التخمين)!

 

([1372]) ستأتيك كلمة عنه.

 

([1373]) كهزيمة العراق التي شَكَّك فيها! والعجب لا ينتهي ممن يزعم أنّ العراق انتصر، سواء في حرب الخليج الثانية (عند غزوه الكويت)، أو الثالثة؛ فقد قتل جيش التحالف من جنده عدداً كبيراً، وجعلوه أخيراً قاعاً صفصفاً، وفرضوا عليه قبل ذلك شروطاً قَبِلَها بهوان، فلا أدري ما معنى عدم هزيمته عند صاحب «هرمجدون»؟!

 

([1374]) وتتمة كلامه فيه: «ولا أظن أنّ أحداً -الآن- يجرؤ على خلع بُرقع الحياء فيجادل أو يُشغّب؛ إلاّ مَن أراد أن يشتهر أو يتكسب؛ فإنّ الأمر قد جَدّ جدّه، ولم يعد هناك وقت للتهريج، وحتى تطمئن القلوب، وتفرغ لتلقِّي العلم بدلاً من الانشغال بالمراء والجدل الذي لم يُؤتهما قوم قط إلاّ هلكوا».

 

قلتُ: نعم؛ ما جرؤ أحد على (خلع برقع الحياء)!! ولكن هذا (البرقع) سقط مع ما استجد من أحداث، وظهر الكذب الذي تحته وفيه ومعه، واطمأنت القلوب بذكر عالم الشهادة والغيوب لا غير، ولم ينفع العلم القائم على توهمات؛ فإنه طنين ذباب، وصرير باب! وَوُدُّنا لو استرحنا منذ البداية؛ فإنّ (العلم نقطة كثرها الجاهلون)‍‍‍! ولكنه النهي عن المراء بمراء، ولاقوة إلا بالله!

 

([1375]) «الاستغاثة في الرد على البكري» (2/628).

 

([1376]) انظر ترجمته في: «السير» (4/152-155)، «الميزان» (1/435-437)، «تهذيب الكمال» (5/244).

 

([1377]) سيأتي الحديث بتمامه مع لفظه وتخريجه، وبيان ثبوته وصحته.

 

([1378]) أخشى أنّ كلَّ خبرٍ فيه مجهول فهو مصنوع! على خلاف تقرير أهل الصنعة! وأستغفر الله من ذلك؛ فإنّ (للضرورة أحكام)، وقد عشنا (رجباً) ورأينا (عجباً)!

 

([1379]) يُعرف الكذبُ بتناقض أهلِه، وهذا ما حصل مع صاحب «هرمجدون» في نسب (أمير الكويت)؛ فهو يرى (ص 20) أنه المَعْنِي بحديث (فتنة السراء)، وفيه: «دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي»، ثم يقرر (ص 23) أنه المعنيّ بحديث: «سيكون من بني أُمية رجل أخنس بمصر يلي سلطاناً، يُغلَب على سلطانه أو يُنْتَزع منه؛ فيفر إلى الروم، فيأتي بالروم إلى أهل الإسلام، فذلك أول الملاحم».

 

قال: «فما حدث لأمير الكويت لما غُلِبَ على ملكه وسلطانه، ونُزِعَ منه بضعة أشهر على أيدي جنود السفياني الصدامي، فما كان منه إلاّ أن خنس واختفى، وفرّ إلى الروم فَزِعاً يتوسل= =نجدتهم ويستغيث بقوتهم...» إلخ هرائه، إلى قوله: «ولم يدر الأخنس الأموي أنه بذلك يفتح الباب للغزو الغربي، ويُمهد الطريق للفتنة الغربية الرعناء»؛ فهو -عنده- من (أهل البيت) تارة، ومن (الأمويين) تارة أخرى! إسقاط بتعسف، ونشر للغرائب، باستحواذ تصور مسبق، وتطويع النصوص له، وحشد لِمَا هبّ ودبّ، ودرج وعرج منها! (والمُبطل لا بد أنْ يتناقض شاء أم أبى).

 

([1380]) ونقل (ص 202 - في الهامش) مستنده في هذا! فنقله من قول جين داكسون بالحرف وزاد عليه: «وأنّ الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع أنْ تفعل له شيئاً، وأنّ المهدي سيملك من العلم والتكنولوجيا الشيء الكثير، بل أكثر من الكثير، و(المعجزات) التي سيصنعها ليست معجزات سماوية، ولكنها معجزات علمية متقدمة جدّاً، تُذهِل الناس وتسرهم في نفس الوقت، وسوف يعمل الشباب في العالم معه من أجل أن يضعوا العالم في الصورة التي يراها (آخر ساعة 26/9/1984م)». انتهى بحروفه!!

 

([1381]) اعتمد دراسات حديثة، وتفسيرات لكتب بني إسرائيل؛ مثل: «تفسير أشعيا» لناشد حنّا، و«تفسير دانيال» لإيرنسايد، و«تفسير حزقيال» لرشاد فكري.

 

([1382]) ولا صحابة رسول الله ×؟!! قاتل الله الأَفّاكين!

 

([1383]) لا يبعد عندي أنّ (صدّاماً) كان مطّلعاً على هذه النصوص، وأنّ حبّ (العظمة) عنده استشرفه لهذا الادّعاء، ثم وجدتُ الأخ الفاضل محمد بن إسماعيل المقدّمي لم يستبعده في كتابه المستطاب «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 618)، قال:

 

«ولا يبعد أنْ يكون «الآشوري المزعوم» -أو صدام حسين- قد اطَّلع على هذه النصوص، وحسب أنه المهدي المنتظر، وقد يشير إلى هذا الاحتمال إعلانه قبل غزو الكويت أنه من أهل البيت، وإلحاحه على استعمال عبارة: «سأحرق نصف إسرائيل»؛ فقد قال رشاد فكري في «تفسير حزقيال»: «وسيحتل الآشوري نصف إسرائيل في أول أيامه»، وقال ناشد حنا في «تفسير دانيال»: «وسيستخدم العصا على إسرائيل»، وقال فكري: «وسيغزو أورشليم في حرب النهاية».» انتهى.

 

([1384]) هذه التسمية منكرة، وقد شاع على ألسنة الناس في بلاد المسلمين القول في سياق الذمّ: فعلت إسرائيل كذا، وستفعل كذا!

 

و(إسرائيل) هو رسول كريم من رسل الله؛ وهو (يعقوب) -عليه السلام-، وهو بريء من دولة اليهود الخبيثة الماكرة، إذ لا توارث بين الأنبياء والرسل وبين أعدائهم من الكافرين، فليس لليهود أية علاقة دينية بنبيّ الله (إسرائيل) -عليه السلام-، وهذه التسمية تسيءُ لمفاهيم ديننا، ولا يرضى الله عنها، ولا رسوله، ولا أنبياؤه، ولا سيما (إسرائيل) -عليه السلام-، إذ هم قوم (كفرة)، وقوم (بهت)، وإطلاق هذه التسمية عليهم فيها إيذاء له -عليه السلام-، والواجب الحيلولة دون ذلك.

 

وثبت في «صحيح البخاري» (3533) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ×: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؛ يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد».

 

والواجب -على الأقل- إغاظتُهم بتسميتهم (يهود)؛ لأنهم يشمئزون من هذه التسمية، ويفرحون بانتسابهم الكاذب ليعقوب -عليه السلام-، فليس لهم شيء من فضائله ومناقبه -عليه السلام-.

 

وللشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رسالة مطبوعة بقطر عام 1398هـ، بعنوان «الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل»، وانظر في هذا -أيضاً-: «معجم المناهي اللفظية» (44) للشيخ بكر أبو زيد، ومجلتنا «الأصالة» الغراء/مقالة الشيخ ربيع بن هادي: (حكم تسمية دولة يهود بإسرائيل)/العدد (32): السنة السادسة/15 ربيع الأول/1422هـ (ص 54-57).

 

ثم وجدت هذا التحذير في كتاب «خرافات يهودية» لأحمد الشقيري (ص 13-30) تحت عنوان: (لستم أبناء إبراهيم، أنتم أبناء إبليس). وانظر كتابي «السلفيون وقضية فلسطين» (ص 12-13).

 

([1385]) هذا اسم الكتاب في طبعته الثانية، سنة 1418هـ، وطبعته الأولى في السنة نفسها يحمل عنوان: «البيان النبوي بدمار إسرائيل الوشيك» هكذا مختصراً! ونحن بانتظار عنوان للطبعة الثالثة بعد الأحداث! ولعلها ظهرت!! فإنّ عجلات المطابع تدور، ولا رقيب ولا حسيب! فاتقوا الله يا قوم! فإنكم محشورون بين يديه، وموقوفون ومحاسبون!

 

([1386]) ولكنه مبهور بصنيع أحمد الغماري في كتابه «مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية»؛ فقد صرّح الدسوقي في مقدمة كتابه الآخر «القيامة الصغرى على الأبواب» -وستأتي كلمة عنه- أنه الذي أولجه هذا الباب، ووضعه في مدينة هذا العلم، ونعت الكتاب بقوله: «القيم الرائد السابق لعصره»، وقال عن مؤلفه الغماري: «فضيلة الشيخ العالم الحافظ»، و«الرائد الأول في عصرنا في مجال علم مطابقة النصوص على الأحداث».

 

والذي فتح عليه في كتابه هذا هذه الفيوضات! وجعله يضيف إليه البواطيل والترّهات سعيد أيوب في كتابه «المسيح الدجال»، اسمع إليه وهو يقول في أوله (ص 10): «... فلما رجعت إلى السنة الشريفة في أبواب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، صدق توقّعي إذ وجدتُ فيها أخباراً عن هذه الحرب (يعني: حرب أمريكا وحلفائها ضد العراق)، واسمها في السُّنة: (أول الملاحم) -وسيأتيك اعتماده، وبيان جرأته-، وأخباراً عن نتيجتها، وما قبلها وما بعدها»، يقول    -وهذا هو الشاهد-: «وبفضل الله -تعالى-، ثم بصفحة ونصف من صفحات كتاب «المسيح الدجال» جعلتني أرجع لبعض (أسفار الكتاب المقدس)؛ فإذا بي أجد أخباراً عن هذه الوقعة المرتقبة»!!

 

([1387]) ورد ذلك في أحاديث كما بيّناه سابقاً في التعليق على (ص 49)، وانظر الصفحات (539، 669-672).

 

([1388]) هذا الرجل مولع بالإسقاط إلى حدّ السقوط الذي لا منتهى له، قال (ص 358): وأخرج نعيم بن حمّاد في كتاب «الفتن» عن كعب، قال: «تستباح المدينة حينئذ، وتقتل النفس الزكية».

 

كما أخرج نعيم في «الفتن» -أيضاً- عن عمار بن ياسر، قال: «إذا قتل النفس الزكية، وأخوه يقتل بمكة ضيعة نادى مناد من السماء: إن أميركم فلان، وذلك المهدي الذي يملأ الأرض حقّاً وعدلاً» -والأثران لم يثبتا؛ فيهما رشدين بن سعد وابن لهيعة-، ومع كون الأثر فيه تعيين شخصين؛ أحدهما: الملقب بالنفس الزكية، والآخر: هو أخوه، ومع ذلك يقول الدسوقي: «وأرجح أنّ حادث نفق المعيصم الذي قتل فيه الآلاف من الحجاج فيه [كذا] أثناء فيضتهم من عرفة مغفوراً لهم [كذا] إلى مزدلفة، ثم منى في صبيحة يوم النحر غدراً وغيلة بفعل مدبر من وراء ظهر الحكومة السعودية، هو مما ينطبق عليه قتل النفس الزكية في حرم الله -عزَّ وجلَّ- في شهر ذي= =الحجة المحرم»!!

 

ويصف في (ص 238) الدجال بأنه رئيس الحكومة اليهودية!!

 

([1389]) «تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم والفتن» (ص 90).

 

([1390]) في «كشف الأستار» (3386): «يقاتلون»، وفي «مجمع الزوائد» (7/348) كما أثبتُّ على الصواب.

 

([1391]) أخرجه البزار في «المسند» (3386 - «زوائده»)، والحاكم في «المستدرك» (4/483)، والطبراني في «الكبير» (17/15-16 رقم 9)، واختصره ابن ماجه في «سننه» (رقم 4094) من طريق كثير بن عبدالله المزني عن أبيه، عن جده، ولم يعزه في «إتحاف المهرة» (12/520 رقم 16028) إلا للحاكم، وإسناده واهٍ بمرَّة، كما سيأتي.

 

نعم؛ للحديث أصل عند مسلم (2920) عن أبي هريرة رفعه، دون الشاهد الذي أورده الدسوقي من أجله، وسيأتي لفظه قريباً.

 

([1392]) أنّى له ذلك، وفيه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، قال الشافعي وأبو داود: «ركن من أركان الكذب»، وقال ابن حبان: «له عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة»، وتركه أحمد والنسائي والدارقطني. وانظر: «تهذيب الكمال» (24/136)، و«المغني في الضعفاء» (2/531 رقم 5084).

 

([1393]) انظر ما قدمناه (ص 659).

 

([1394]) نقل الدكتور الدسوقي قول الهيثمي في «المجمع» (7/318): «رواه الطبراني في «الأوسط»، وترك قوله: «وأبو النجم صاحب أبي ذر لم أعرفه، وابن لهيعة فيه ضعف».

 

ولا أدري هل الدكتور لا يعلم أن الحديث الضعيف لا يحتج به، فلم يبال بذكر تضعيف الهيثمي للحديث، أم أنه يعلم ذلك، فترك ذكره حتى لا يظهر الحقيقة للناس.

 

فإن كنتَ لا تدري........

 

 

 

وإن كنتَ تدري.........

 

 

 

([1395]) «تحذير ذوي الفطن» (ص 94-95).

 

([1396]) أطلق عليهم محمد عيسى داود في مقالة له نشرت في جريدة «صوت آل البيت» شعبان/سنة 1421هـ/(ص 5): «الهواة والمقلّدين»!

 

([1397]) معذرة لك أخي القارئ على سوق الكلام السابق الذي لا يستحق أنْ يكون على كاغد، ولا ندري لو لم نعمل على تدوين هذه السطور من أجل معالجة هذه الظاهرة التي= =استشرت في مصر خصوصاً، ماذا يمكن أن يقول التاريخ عن أهل هذه الحقبة؟!

 

ومعذرة مرّة أُخرى على التطويل في النقل، وبقيت معذرتان ألتمسهما من كرم القراء عليَّ:

 

الأولى: قولي -هنا- «كتابه»! ولكن «من صَنَّفَ فقد استُهدف»، و«من صَنَّفَ فقد وضع عقله على طبق»؛ فانظر أُخيَّ -رعاك الله- إلى ما في هذا الكتاب؛ لترى الكذب والجهل الصراح، والاسم المذكور؛ بالمسلسل و(الفيلم) السينمائي أليق وأجدر!

 

والأخيرة: أتركها لفطنة القارئ ونباهته، والله الهادي.

 

([1398]) نعم؛ يقرر ذلك -كما سيظهر لك في كلام له قريب -من الأحاديث-، ولكن بعبارات المُخْرِجين -بضم الميم، وسكون الخاء (وإيَّاك أن تفتحها)، وكسر الراء الخفيفة (وإيَّاك أن تثقلها)-، والممثّلين!

 

ولعل السبب مكشوف، لا يعجز ذكي عن معرفته والوقوف عليه!

 

([1399]) لمّح في (ص 39) من كتابه «الأسرار» أنّ الدجال يُعطى الرئاسة في إيران قبل ظهور المهدي، ويُصرّح بأنه (محمد خاتمي)، ويسمّيه: (آية الله جوربا تشوف)!

 

([1400]) ذكر فهد سالم في كتابه «أسرار الساعة» (ص 78) ما نصُّه: «أنّ السفياني زعيم عربي معاصر يصنعه الغرب -الآن-؛ ليكون ملكاً للعرب في آخر هذا القرن، كما فعلوا مع جده في بداية القرن».

 

ثم صرَّح بما ورّى به -هنا- في (ص 113)، وفي (ص 130)، وفي (ص 137) قال: «إنه ملك الأردن، وإنه (الملك حسين)».

 

ثم يخترع (ص 137-138) تفاصيل عجيبة عن أنّ الملك حسيناً يَبُثُّ جيوشه -بعد موت صدام- إلى العراق، وإلى المدينة، ويتحوّل الشعب الأردني إلى عدوّ لدود، يطالب بمسح العراق من خارطة الوجود. انتهى.                                                                                   =

 

=       قلتُ: من أراد أنْ يكذب، فلينظر في هذه النماذج، وليتعلّم؛ فكاتب هذه السطور أردني، ومن شعب الأردن، وهو ومَنْ حاوليه -كسائر المسلمين- يتأسفون ويتحرقون على ما جرى على أرض العراق، ولم يطالبوا -يوماً من الدهر- بالدعوى الكاذبة المذكورة.

 

و(الملك حسين) -رحمه الله تعالى- مات قبل صدام! وما بَثَّ جيشاً لمحاربة العراق، فضلاً عن المدينة النبوية، وهذا الكلام هراء، لا يخرج ألبتة من سليم عقل، صحيح رأي، ولكنها (المراهقة) الفكرية! وركوب الأمواج!! لسرقة أموال السذج من الناس بالترويج لهذه الآراء التي فيها اعتداء على الغيب، ولا تنسَ أخي القارئ الحبيب زعمه السابق أنه توَصَّل إلى ذلك (عن طريق الاعتماد على رسولنا العظيم ×)؛ قاتل الله الأفّاكين!!!

 

([1401]) انظر: «أسراره» (ص 131، 137، 140، 141).

 

([1402]) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 621-623).

 

([1403]) (ص 539-540).

 

([1404]) وتقدم تخريجه (ص 539).

 

([1405]) تحرّف في مطبوع «الحلية» إلى «عمارة بن عبدالله»، وصوابه المثبت، وهو كوفي ثقة، قال عنه أحمد: «ثقة وزيادة، يُسأل عن مثل هذا؟!»، ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وترجمه ابن حبان في «ثقاته» (5/243)، وابن شاهين في «ثقاته» (891)، ومات سنة اثنتين وثمانين، فأدرك حذيفة المتوفى سنة 36هـ. وانظر ترجمته في: «تهذيب الكمال» (21/256)، و«إكمال تهذيب الكمال» (10/22).

 

([1406]) الهباء: ما تسفي به الريح. قاله ابن عباس، علقه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب سورة الفرقان) بصيغة الجزم، ووصله ابن جرير (19/4) وغيره. وانظر: «تغليق التعليق» (4/270)، و«فتح الباري» (8/409).

 

وقال ابن شميل: الهباء التراب الذي تطيّره الريح؛ فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم يلزق لزوقاً. كذا في «لسان العرب» مادة (هبا).

 

قلتُ: وهباء الفتنة يلزق في القلوب لزوقاً، وتراه في المواقف، وعلى أسنّة الرماح، وعلى صفحات الكتب والجرائد والنشرات السيَّارة، وشبكات (الإنترنت) العالمية.

 

([1407]) أخرج نعيم بن حمّاد في «الفتن» (رقم 107) عن حذيفة -رفعه-: «تكون فتنة تعرج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً»، وقال المتقي الهندي في «كنز العمال» (11/179 رقم 31126): «وهو صحيح».

 

قلتُ: ليس كذلك؛ فيه ليث بن أبي سليم -متروك-، وقال فيه: «حدثني الثقة عن زيد بن وهب، عن حذيفة...» رفعه؛ ففيه جهالة، وأخشى أنْ تكون «تعرج»، محرّفة عن «تعوّج». وانظر الأثر الآتي.

 

([1408]) أخرج ابن أبي شيبة (15/51)، ونعيم بن حماد في «الفتن» (رقم 80)، والديلمي    -كما في «الكنز» (11/181 رقم 31134)- بالسند السابق إلى حذيفة: «تكون فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة تعوجُّ فيها عقول الرجال».

 

([1409]) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/24).

 

([1410]) سبق تخريجه.

 

([1411]) انظر: «الوضع والوضّاعون في الحديث النبوي» (ص 61-62).

 

([1412]) «الوضع في الحديث» (1/277).

 

([1413]) في الأصل: «قال»!

 

([1414]) وذكره ابن الجوزي في مقدمة «الموضوعات» (1/74) مختصراً، والسيوطي في «تحذير الخواص» (ص202).

 

([1415]) صنّفوا في ذلك مؤلفات؛ منهم: ابن الجوزي في: «القُصّاص والمُذكّرين»، والسيوطي في: «تحذير الخواص»، والعراقي في: «الباعث على الخلاص من حوادث القُصّاص»، ولابن تيمية: «أحاديث القصاص»، وجميعها مطبوعة.

 

([1416]) سمّاه في كتابه «القصاص والمذكرين» (ص 417): صهر العبادي.

 

([1417]) «الموضوعات» (1/44-45).

 

([1418]) يريد: أصحاب الطرق من المتواطئين على ترويج مثل هذه السموم. وانظر: «الموضوعات» (1/45)، و«تحذير الخواص» (208).

 

([1419]) «الموضوعات» (1/44)، وإذا كان هذا قديماً؛ فإنا وجدناه حديثاً في كذب بعضهم لما ادّعى أنه نقل من مخطوطات لا وجود لها، كما سبق وأن بيّناه.

 

([1420]) «الموضوعات» (1/45).

 

([1421]) «القصاص والمذكرين» (308)، «تحذير الخواص» (277).

 

([1422]) «الحلية» (3/11)، «القصاص والمذكرين» (308)، «تحذيرالخواص» (227).

 

([1423]) انظر ما قدمناه عنه في التعليق على (ص 611).

 

([1424]) ستأتيك -إنْ شاء الله تعالى- أمثلة على ذلك.

 

([1425]) مع ضرورة التنويه إلى خطئه في تضعيف أحاديث المهدي كلها، وقد رد عليه في  ذلك غير واحد، ولأحمد الغماري رسالة مفردة بهذا الخصوص، ولابن خلدون في «تاريخه»      -ولاسيما المجلد الأول- زَلاّت عقدية، تحتاج إلى تنبيه، مع القول بأن المصلحين والدعاة، وطلبة العلم في أثناء التحصيل بعد الاشتداد، وترسم معالم المنهج الصحيح بحاجة ماسة إلى كثير مما فيه!

 

([1426]) انظر الهامش السابق.

 

([1427]) دون حياء، ولا تقوى، ويسحرون الناس في وقت الفتنة، وسرعان ما ينقلب السحر على الساحر.

 

([1428]) «البرهان في علوم القرآن» (3/28) للزركشي.

 

([1429]) «تاريخ ابن خلدون» (1/716-719).

 

([1430]) إلا البحث عن صحة الخبر الذي طرق سمعه؛ من خلال قواعد أهل الصنعة الحديثية.

 

([1431]) ستأتيك -قريباً- كلمة في اعوجاجهم في الإسقاط، وسقوطهم فيه بالكذب والتحكّم من غير انضباط.

 

([1432]) سبق ذكر أمثلة على ذلك.

 

([1433]) «القصاص والمذكرون» (309)، «تحذير الخواص» (277).

 

([1434]) «القصاص والمذكرون» (309)، «تحذير الخواص» (277).

 

([1435]) «القصاص والمذكرون» (318) «تحذير الخواص» (277-278).

 

([1436]) حالهم كحال من ترك مجالس العلماء الذين ملأت الدنيا علومُهم، وانتشرت تصانيفُهم، وعُرف تلاميذُهم، وخلد ذكرُهم، وأقبل على أُناس ما ذُكِروا إلا بالمقت والازدراء والبهت والكذب، ولله في خلقه شؤون، وهو -سبحانه- الواقي والهادي!

 

([1437]) «منهاج السنة النبوية» (2/467).

 

([1438]) تقتضي الواقعية الوضوح والسلامة من الغموض والاضطراب. انظر: «في منهج البحث التاريخي» (ص33)، «نقد الحديث» للعكايلة (ص90-91).

 

([1439]) سَلَمْيَة: بلد معروف بالشام، شرقي مدينة حماة.

 

([1440]) هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى: (وجد).

 

([1441]) هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى: (وجد).

 

([1442]) هذه مقولة مشهورة لأحمد، ذكرها ابن تيمية عنه في غير ما كتاب من كتبه؛ مثل: «الرد على البكري» (17-18)، «مقدمة في أصول التفسير» (21).

 

([1443]) «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» (716-717 - ط. السقا).

 

([1444]) في نحو خمس مئة بيت، كما صرح بذلك في (1/422).

 

([1445]) «تاريخ ابن خلدون» (1/421).

 

([1446]) «تاريخ ابن خلدون» (1/422).

 

([1447]) «تاريخ ابن خلدون» (1/423).

 

([1448]) على النوعين: الألفاظ والمعاني.

 

([1449]) ليس جميعهم! وإنما أهل هذه المدرسة (الإسقاطيّة) فحسب، لا يخفى هذا على اللبيب!!

 

([1450]) أخرجه نعيم بن حمَّاد في «الفتن» (رقم 1/271 رقم 776).

 

([1451]) كذا في الأصل!

 

([1452]) «الأنساب» (5/85) للسمعاني.

 

([1453]) لعل صاحب «هرمجدون» ظنه: (كَنَدي) -بفتح الكاف والنون-، من (كَنَدا) نسبة إلى (البلدة)، وهذا الظن عندي -على ما فيه- أصوب من شرحه السابق، ولله في خلقه شؤون!

 

ولا ندري ما صلة هذا (الكندي) بـ(يعقوب بن إسحاق الكندي) (منجِّم الرشيد والمأمون) الذي قال عنه ابن خلدون في «تاريخه» (1/420):

 

«وضَعَ في «القِرَانات الكائنة في الملة» كتاباً سمّاه الشيعة بـ: «الجفر»، باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق، وذكر فيه -فيما يقال- حَدَثَانَ دولةِ بني العباس، وأنها نهايته، وأشار إلى انقراضِها، والحادثةِ على بغداد أنها تقع في انتصاف المئة السابعة، وأنه بانقراضها يكون انقراض الملة، ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب، ولا رأينا مَن وقف عليه، ولعله غَرِقَ في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد، وقَتْلِ المستعصم آخر الخلفاء، وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يُسمّونه «الجَفْر الصغير»، والظاهر أنه= =وُضِع لبني عبدالمؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحّدين فيه على التفصيل، ومطابقة مَن تقدّم عن ذلك من حَدَثَانه، وكذَّبَ ما بعده».

 

([1454]) «الأنساب» (5/104).

 

([1455]) مطبوع ضمن كتاب «أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية».

 

([1456]) «احذروا المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا» (ص 97-98)، ومؤلف هذا الكتاب هو محمد عيسى داود، وهو جريء فيه كجرأته التي نقلنا نماذجَ منها في كتبه الأخرى، فهو فيه صاحب تخريصات وظنون، وتخرصات وتكهنات، لا صلة لها بالعلم، ومنهجه وطرق البحث، وأصالة منهجيته، وهذه نقولات منه أسوقها لك -أخي القارئ- للتدليل على ما ذكرته:

 

- زعم (ص 23): أنّ الدجال «من مواليد سوريا، لكنني أرجح أنه يَمَنيُّ المولد» مغالطات بالجملة! وأنه: «تولاه أكثر من شخص بالتبني من اليهود، ووجدوا فيه الطموح الدموي... إلى أن تبنّته شخصية يهودية في (إنجلترا)، ونقلته من أرض العرب إلى أرض الغرب؛ لينشأ هناك، ويدرس كل العلوم الحديثة»!

 

- وزعم (ص 27-30): أنه متقدم تقدماً هائلاً في شتى العلوم، منها (الطب)، وأنه: «تعلّم في (إنجلترا) وبرع في علوم الهندسة بكل فروعها، والطب بكل فروعه، وحتى علوم النبات والحيوان، والمعادن، والفيزياء، والكيمياء، والرسم»!

 

- وزعم (ص 33) أنه: «سيظهر في ثوب حاكم، أو رئيس دولة، وغالباً ستكون (الولايات المتحدة الأمريكية)»!!

 

- وزعم (ص 46) أنه: «لا يستعبد أبداً أنْ يكون (آدم وايزهاويت) -أستاذ قانون نصراني في جامعة انجولد شتات، ترك النصرانية، وتحالف مع اليهود، وقاموا بتأسيس (مؤسسة روتشيلد)؛ لأجل تدمير الأديان والحكومات- هو المسيخ الدجال».

 

- وقال (ص 112): «المسيخ الدجال يعشق أمريكا، ويعشق شعبها، وأغلب أتباعه بها، وله قصر رهيب مهيب، لا أدري موضعه بالتحديد، ولكنني بالحدس الإسلامي أقول: إنه في= =(فلوريدا)، وأعني الأغنياء على السواحل الأمريكية بالذات هم رجاله»!

 

أقول: سبحان الله! ما هذا الهجوم، وأنى لك أن تقنع القارئ بهذه المعلومات؟! ولو فكر ليقتنع، ماذا يقول عنك؟ وما هي الاحتمالات التي سترد على ذهنه! أترك الجواب للقراء الكرام.

 

- وزعم (ص 117 وما بعد): أنّ أسرار (هوليوود) في قبضة رجل هو المسيخ الدجال، وسمّى بعض الممثلين مثل (برت لانكستر) و(كلينت ايستوود) من رجاله!

 

- وزعم (ص 126): أنّ للدجال رجالاً أوعز إليهم بإعلان ضرورة هدم المسجد الأقصى للبحث عن هيكل سليمان، قال -بالحرف-: «لكن مهندسيه راحوا مع الحفريات يصنعون الأنفاق المكيفة، والمجهّزة للحياة تحت الأرض؛ لتجميع الأطفال بها، وعمل (كتائب) من الأطفال (اليهود) كرؤساء وقوّاد، والمخطوفين في أسواق رقيق الطفولة، والملقحين (كأطفال الأنابيب) كعسكر، مع تربية (عسكرية)، لكن (حظائرية) على نهج (مسيخ الدجال)...» إلخ هرائه وافترائه.

 

([1457]) القائل ابن خلدون، كما سيأتي توثيق ذلك عنه.

 

([1458]) «تاريخ ابن خلدون» (1/425-426).

 

([1459]) باعتبار أنّ الحرب الواقعة بين العراق وإيران هي حرب الخليج الأولى.

 

([1460]) أفاد الدكتور محمد عويضة أنه تأكد من ذلك بنفسه من خلال الرجوع إلى مخطوطة «الجفر»، صرّح بذلك في لقاء له مع قناة (الجزيرة) في 27/7/2003م، علماً بأنّ «الجفر» من أصله مكذوب على عليٍّ، وقدمنا بيان ذلك فيما مضى (ص 611).

 

([1461]) سبق (ص 662-664) بيان بعضها، وعوار ما فيها.

 

([1462]) نعم؛ كاد، إذ ادّعى بعضهم -زوراً وبهتاناً- أنّ (صدام) هو المهدي، وقدمنا ذلك وبيان ما فيه من فساد. راجع (ص 654).

 

([1463]) من مقال منشور بعنوان: (الرئيس العراقي (صدام حسين) هو (السفياني) المذكور في «كتب السنة» و«التوراة»، وهل سيحرر الأقصى في معركة (هرمجدون)).

 

([1464]) في الأصل: «وسيعدمها»!

 

([1465]) في الأصل: «عهد»!

 

([1466]) في الأصل: «وليالياً»!

 

([1467]) كذا في الأصل!!

 

([1468]) في الأصل: «عليه».

 

([1469]) أخرجه البخاري (3062، 4203، 6606) من حديث أبي هريرة، وخرجته في تحقيقي لـ«أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة» (رقم 12) لابن قاضي شهبة.

 

([1470]) أذكر أنّ قريباً اتَّصل بي في أزمة الخليج الأولى، وطلب مني بإلحاح أنْ أنظر إلى القمر، فسألته عن الخبر، فأبى أنْ يذكر شيئاً، ففعلتُ ما طلب، ثم سألتُه، فأخبرني أن صورة (صدام) على (القمر)!! وقال مُستنكراً: ألم ترها!

 

فأصبحتُ في دروسي أمتثل مقولة الشافعي لما تعقب مقولة الليث بن سعد: لو رأيتم الرجل يسير على الماء، فلا تسمعوا له حتى تعرضوا عمله على الكتاب والسنة. فقال: رحم الله الليث؛ فإنه قصَّر، أما أنا فأقول: لو رأيتم الرجل يسير على الماء، ويطير في الهواء، فلا تسمعوا له حتى تعرضوا عمله على الكتاب والسنة.

 

فأصبحتُ أزيد -على الأمرين المذكورين-: «ولو رأيتم صورته على القمر» تنزُّلاً وعلى افتراض أنّ ما يقوله صحيح! وأنَّى له ذلك!!

 

([1471]) الواقع اليوم يردّ عليهم، وجعل احتمالاتهم هباءً، لا وزن لها، وظفرتُ بمقالة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بعنوان: (بُطلان كون صدام حسين هو السفياني) تنظر على عنوان: www.saaid.net/doat/altnanabi/38.htm.

 

([1472]) صدقتَ في هذه؛ فالتاريخ أصدق وأقوى المواعيد، وفُضِحْتَ بهذا، ولا تنسى أخي القارئ ما نقلناه عنه (ص 664-668)؛ فهناك الأحداث المرتبطة بالمواعيد، بالتأريخين الهجري والميلادي، وأحاط الكذب بأهله من كل مكان.

 

([1473]) «أسرار الساعة» (ص 16).

 

([1474]) العجيب أني زوّرتُ حشد طائفة من العابثين بالتراث لفضحهم في كتابي: «كتب حذر منها العلماء»، ففجأني بعض المخضرمين من الناشرين من أهل الديانة والخير -فيما أظن، ولا أُزكي على الله أحداً- أنّ كثيراً من هؤلاء أسماء وهمية، وراءها ناشرون لا يتقون الله!

 

([1475]) هكذا نعتهم في مقاله المذكور.

 

([1476]) كذا في الأصل! والصواب: «فدائيين».

 

([1477]) لا تستغرب أخي القارئ إذا علمت أنّ لـ(ابن داود) كتاباً بعنوان: «أسرار الهاء في الجفر».

 

([1478]) من لطيف ما يذكر بهذا الصدد هذا الخبر -وهو يذكّرني بحال هؤلاء-:

 

وصف رجلٌ رجلاً، كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: كان يسمع غيرَ ما يُقال، ويحفظ غيرَ ما يسمع، ويكتبُ غيرَ ما يحفظ، ويحدِّث بغير ما يكتب. أورده ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (2/146)، والدينوري في «المجالسة» (رقم 1889، 3050 - بتحقيقي).

 

([1479]) كان أشهرها -تمهيداً للتصديق بالمهدي- رؤيا إرضاع القمر، التي اشتهرت في 7/3/2004م، ووقفت على هذا الخبر في (شبكة الإنترنت)، أسوقه للفائدة:

 

«علينا انتظار القيامة قريباً... هذا ما أكدته شائعة سرت في مصر كالنار في الهشيم...

 

مفادها أنّ «المهدي المنتظر» قد ولد في إحدى المدن المصرية، وقد ترتب على تلك الشائعة وقف بثّ برنامج كان يُقدّمه التلفزيون المحلي المصري، لشبهة تورطه في هذه الشائعة، حيث نسب للمتحدث فيه الشيخ محمود الحنفي تفسير رؤيا قصتها عليه سيدة على أنها تعني أن «المهدي المنتظر» قد ولد بالفعل، وأنّ يوم القيامة أصبح وشيكاً، والشائعة مجهولة المصدر تقول: =

 

=       إنّ سيدة مصرية اتصلت على الهواء مباشرة بالبرنامج، وقالت: إنها رأت في منامها أنها وضعت طفلاً، ثم شاهدته يصعد إلى السماء، ويرضع من القمر، فطلب منها الشيخ أنْ تقسم بالله ثلاثاً أنّ ما قالته صحيحاً، فأقسمت السيدة، فانبرى الشيخ قائلاً بصوت جهوري: إنّ إرضاع القمر في الرؤيا يعني أمراً واحداً، هو أنّ «المهدي المنتظر» قد ولد بالفعل، وعلينا انتظار يوم القيامة قريباً، ورغم نفي الشيخ الحنفي، وكلٍّ من معدِّ البرنامج والمذيعةِ التي تقدمه (شيرين الشايب) لواقعة اتصال هذه السيدة المزعومة بالبرنامج جملة وتفصيلاً، إلاّ أنّ الناس تعاملت مع الشائعة على أنها حقيقة، التي تحاول السلطات المصرية التعتيم عليها، ونشرت عدة صحف مصرية تحقيقات موسعة حول الموضوع لنفي هذه الشائعة».

 

نقلاً عن: «مجلة الوليد». وانظر هذا الموقع:

 

(http://www.walid.de/modules.php?name=News&file=article&sid=481)

 

([1480]) قال صاحب «هرمجدون» (ص 56) ما نصه:

 

«من القرائن التي أعتبرها -بل وأعتز بها- ما أخبرني به رجل مسلم فاضل من «البحيرة»، لا أعرفه ولا يعرفني، فقد اتصل بي عبر الهاتف بعد ظهور كتابي: «عمر الأمة» ببضعة أشهر، وبشّرني قائلاً: إنه قد رأى رسول الله × في رؤيا يبتسم له ويعطيه كتاب: «عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي -عليه السلام-»، وقد حلف الرجل بالله أنّ هذه الرؤيا كانت قبل صدور الكتاب بتسعين يوماً، فحكى الرؤيا لصديق له، فلما صدر الكتاب وظهر في الأسواق، أتاه به ذلك الرجل، فأقسم بالله أنه هو هو الكتاب الذي أعطاه له رسول الله × في الرؤيا، وذكر له كلاماً يسرُّني، إلا أنني أحتفظ به لنفسي، فقد اكتفيت بذكر الشاهد من الرؤيا، وهي أنّ الكتاب وما به من أدلة على قرب النهاية حق -بإذن الله-، دل عليه رؤية رسول الله × الحق، وإنّ آخر الزمان تكثر رؤيا المؤمن، يراها أو تُرى له».

 

هكذا «رجل مسلم فاضل»، لكنه «لا يعرفه»، وعبر الهاتف، والأمر حتم لازم!!!

 

([1481]) كنتُ في مجالسي مع بعض خواصي، أذكر نصر الله -عزَّ وجلَّ- ومقوّماته، وأستبعد وقوعه مع ما ينهى إلى مسامعنا من ظهور المنكرات، وتبنِّي أفكار حزب البعث الكافر! ومع هذا؛ فالتيار والإعصار الذي أمامنا من جيوش الناس قويّ، وأذكر أني أنكرتُ على إمام كان يدعو في قنوته لنصرة (صدام)، فلما قمتُ بذلك، ثار وثوّر، وأرغى وأزبد، وأصبح يلغز في دعائه على= =أمثالي، فالله حسيبه، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيراً من هؤلاء الأئمة.

 

وجمعني مع أقارب لي مجلس يوم الإثنين قبل سقوط بغداد بيومين، وكان جُل الحاضرين يهددون أمريكا بالويل والثبور إن تجرأت على الوصول إلى بغداد، وأنا ساكت، فلما طُلب مني الكلام؛ قلتُ -واللهِ-: افرحوا يوماً أو يومين! ولما وقع ما وقع، أخذتُ أقلّب كتب التاريخ وأنظر فيها، فوجدتُ كلاماً لابن الأثير في «الكامل» (12/495) حوادث (سنة 628هـ) عن الملك (جلال الدين ابن خوارزم شاه)، قال عنه:

 

«كان سيئ السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلاّ عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته... وقَتَل في أصفهان فأكثر»، وقال (12/497-498):

 

«لما رأى جلال الدين ما يفعله (التتر) في بلاد...، وأنهم مقيمون بها يقتلون، وينهبون، ويأسرون، ويخرّبون البلاد، ويجبون الأموال، عازمون على قصده... فلما فعل التتر بهم ذلك، ومضى منهزماً منهم، ... لم يعلموا أين قصد، ولا أيّ طريق سلك، فسبحان من بدّل أمنهم خوفاً، وعزّهم ذُلاًّ، وكثرتهم قلّة، فتبارك الله رب العالمين الفعَّال لما يشاء»، وقال (12/502) في أحداث السنة التي بعدها:

 

«وخرجت هذه السنة، ولم نتحقق لجلال الدين خبراً، ولا نعلم هل قُتل، أو اختفى، لم يُظهر نفسه خوفاً من التتر، أو فارق البلاد إلى غيرها، والله أعلم»، وهكذا يعيد التاريخ نفسه، ولله في خلقه شؤون، ثم -بعد تنضيد حروف الكتاب وفي أثناء مراجعته المراجعة النهائية- أُعلن خبر إلقاء القبض على (صدام)! ولا قوة إلا بالله!

 

([1482]) ماذا نقول نحن الآن؟! اللهم لطفك وحنانيك!!

 

([1483]) لا تنس ما سمّيناه منها آنفاً، واكتفينا هنا منها بأمثلة قليلة.

 

([1484])«لسان العرب» (7/316)، و«معجم مقاييس اللغة» (3/86).

 

([1485]) «لسان العرب» (7/317)، و«تاج العروس» (19/359 - ط. الكويتية).

 

([1486]) «تاج العروس» (19/363)، و«مختار الصحاح» (ص 128).

 

([1487]) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747) عن أنس بن مالك.

 

([1488]) «فتح الباري» (11/108).

 

([1489]) «لسان العرب» (7/317)، و«تاج العروس» (19/355).

 

([1490]) «تاج العروس» (19/355).

 

([1491]) «لسان العرب» (7/317).

 

([1492]) «لسان العرب» (7/316).

 

([1493]) قال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (3/86): «(سقط) السين والقاف والطاء، أصل واحد، يدلُّ على الوقوع، وهو مطّرد».

 

([1494]) «الموسوعة الفقهية الكويتية» (4/226)، ونحوها في «موسوعة الفقه الإسلامي» (8/ 233)، وللدكتور أحمد الصويعي شيلبك «أحكام الإسقاط في الفقه الإسلامي» وهو مطبوع.

 

([1495]) عالجه من ناحية أصولية: د. بشير بن مولود جحيش في دراسة مطبوعة ضمن سلسلة «كتاب الأمة» العدد (93) بعنوان: «في الاجتهاد التنزيلي».

 

([1496]) جعل الشاطبي في (المقدمة التاسعة) (1/107 وما بعد - بتحقيقي) من كتابه «الموافقات» العلمَ ثلاثة أقسام:

 

القسم الأول: صُلْب العلم: وهو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، والشريعة منزلة على هذا الوجه؛ فهي مطردة وثابتة وحاكمة يُبنى عليها، وهي قواعد معللة مطردة.

 

والقسم الثاني: المُلَح؛ وهو الذي تكلمنا عنه.

 

والثالث: ما ليس من صلب العلم، ولا من ملحه؛ وهو ما لا يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يرجع على أصله، أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها، مثل ما انتحله الباطنية، وما يتلمس من علوم الحرف، وعلم النجوم من التكهنات والغيبيات.

 

وقرر أنَّه قد يعرض للقسم الأول مَن يُعَدّ من الثاني، ويُعرض للقسم الأول أن يصير من الثالث، قال (1/123): «ويتصوّر ذلك فيمن يتبجَّح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقلُه إلا صغارها على ضد التربية المشروعة»، وقال (1/124):

 

«وإذا عرض للقسم الأول أن يُعدَّ من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يُعدَّ من الثالث؛ لأنَّه أقرب إليه من الأول».

 

قال أبو عبيدة: هذا بيت القصيد؛ فإنّ جماعة عبثوا وخاضوا في أحاديث أشراط الساعة والملاحم والفتن، وصنيعهم فيها صنيع أهل الباطن، وأصبح جهدهم بحاجة إلى تقويم، وانطبق عليهم تأصيل الشاطبي هذا؛ فأخرجوها من (الملح) التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، إذ ليس يصحبها مُنفِّر، ولا هي مما تُعادي العلوم؛ لأنها ذاتُ أصل مبنيٍّ عليه في الجملة إلى ما ليس من (الصُّلب) ولا من (الملح)، وإن مالوا بالعوام؛ فاستحسنوا صنيعهم وطلبوه، لا لذاته، ولا لبهائه، وإنما للملابسات التي يعيشونها، ولشُبَهٍ عارضةٍ انقدحت عندهم، واشتباه بينه وبين صنيع الأفذاذ من العلماء ممن تكلموا على أشراط الساعة؛ فربما عدّ بعض المتعجِّلين المتحمِّسين من المطّلعين على كتابات ومؤلفات هؤلاء على أصل؛ فمالوا إليه من هذا الوجه، وحقيقة أصله -كما سيتبرهن لك مما سيأتي قريباً -إن شاء الله تعالى- وَهْم وتخييل، لا حقيقة له، وزاد الطين بِلَّة:= =ما انضاف إلى ذلك الصنيع من الأغراض والأهواء؛ كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجَعْجَعَة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتّبجّح بأن وراء هذه الأمور مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص، وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يرجع منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان.

 

وستأتيك (ص 760 وما بعد) كلمة عن آلية الإسقاط عندهم، وأنها قائمة على (التخيل)، وهناك تفصيل لمعناه وأنواعه، ويظهر منه تخلف خواص (الصلب) عنه، واللَّه الموفّق.

 

([1497]) ويمكن أنْ يكون من باب إشغال المسلمين الصادقين، وصرفهم بمَلْء مجالسهم بتقرير هذه الترهات، على مبدأ ما حكاه التفتازاني في «شرح المواقف»: «إنّ طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف؛ لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أنّ للقرآن ظاهراً؛ وهو المعلوم في اللغة، وباطناً؛ وهو المراد».

 

([1498]) مضت بك أمثلة يعرفها جيداً من يعاني النظر في المخطوطات ويتطلبها من دورها المبثوثة في أرجاء الدنيا، وهذه الأمثلة مضحكة مبكية، ولعلها هي التي أثارت لديّ الدوافع النفسيّة -بعد إعداد العدة العلمية- لتدوين هذه الورقات عن الإسقاط.

 

([1499]) قد يقع من الصادقين فلتة، ولكن الأصول صحيحة، والتصور بالجملة مضبوط بالنصوص وتأصيلات العلماء، والذي أُراه ضرورة الاستفادة من كتب التاريخ والتراجم في تطبيق قواعد العلم النظرية؛ مثل: مباحث (الردة) وغيرها، فإنه من خلالها نحسن التطبيق، وتتقوى الملكات، ونتجنب العثرات والزلات.

 

([1500]) ولكنها -عند مُسقطيها- لها قوة بقوّة تخيّلها، التي قد تصل في بعض الأحايين -لبعض الملابسات- إلى درجة التواتر!

 

([1501]) كانت قاعدتهم في ذلك: (اعتقد، ثم استدل)، والجادة العكس: (استدل، ثم اعتقد).

 

([1502]) انظر: «البعد الزماني والمكاني وأثرهما في التعامل مع النص الشرعي» (ص 167).

 

([1503]) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 696).

 

([1504]) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 697).

 

([1505]) «مختارات من أحاديث الفتن» (ص 45).

 

([1506]) انظر ما سيأتي قريباً بخصوص صفاته.

 

([1507]) يمكن أن تعتبر الدراسات الحديثة التي فيها إسقاطات سخيفة؛ أنموذجاً بارزاً، ومَعْلماً ظاهراً لهذا الظلم، ويتبرهن لك ذلك بأمثلة مضت.

 

([1508]) هذا مرادنا من (استدل، ثم اعتقد).

 

([1509]) «في ضوابط منهجية للتعامل في النص الشرعي» (ص 33-34).

 

([1510]) «في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 36)، ومراعاة ما سبق تعصم المجتهد من تسليط سيف الإجماع على الآراء المخالفة، وتمنع من دعاوى غلق باب الاجتهاد والعكوف على آراء مذهبية والتعصب لها، والجمود في شروح أحاديث (الفتن) على كلام السابقين! وحصر الحق فيها!

 

ومما ينبغي أن يذكر هنا شبيه ونظير لما نحن بصدده، يظهر لنا من خلاله تأكيد المراد من سوق هذا الكلام هنا، وهو يتعلّق ببعض الأمكنة التي خصها الشرع بأحكام لا نزاع فيها؛ أعني: تخصيص قدر معين من الأرض المحيطة بالمسجدين: الحرام والنبوي، بأحكام لا تسري إلى ما جاورها، فهذا الظرف المكاني يشبه ما نحن بصدده من الظرف الزماني، فالكلام في هذا المقدار يدور مع التسليم، والتلقِّي، ويقول في هذا الفيروزآبادي في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» (1/290-291):

 

«ثم اعلم أن العقول البشرية عموماً قاصرة عن إدراك حقيقة معنى الأحكام المتلقاة عن النبوة؛ لأنها واردة عن طور فوق العقول البشرية، وإنما تظهر لائحةً من أنوارٍ شوارقُ مطالعها مخصوصٌ من صنائن الله -تعالى-، وذلك بإدراك القلوب الربانية والفهوم الإيمانية، لا بالأفكار العقلية والنفوس البشرية، ولذلك يرى أهل التوقيف من علماء الظاهر إذا مروا بشيء من ذلك أضربوا عن الخوض في سبيله، وتجنبوا طرق تعليله، وتلقَّوه حُكماً مقبولاً عن الله -تعالى- ورسوله، فافتخروا بقبوله، ومن أراد غير ذلك لم يبرح في تحيُّره وخموله».

 

وهكذا يقال في أحاديث الفتن، فلا بد لنا من النصوص للتّسليم، بالمقدار والصفة التي وردت، دون تجاوز ذلك، والله الموفق.

 

([1511]) صحَّ ذلك عنه، وانظر تخريجه (ص 631).

 

([1512]) بل هو قابل للفحص من خلال الانتظار، والأخذِ بالأحكام الشرعية التي تخصّ النازلة.

 

([1513]) انظر: «في الاجتهاد التنزيلي» (ص 14-15)، وكلامه فيه أمر تصوّري محض!

 

([1514]) مجلة «البيان» العدد (33) ربيع الثاني/سنة 1411هـ، مقالة بعنوان: (أحاديث الفتن والفقه المطلوب) للدكتور مأمون فريز جرار -حفظه الله تعالى- (ص 14-18).

 

([1515]) لاتّصافه بما يمكن أن يبنى عليه كما فصّلناه.

 

([1516]) مضى تخريجه.

 

([1517]) انظر: ما مضى (ص 369).

 

([1518]) «مناقب الشام وأهله» (ص 73).

 

([1519]) نقل فيه جل ما عند البيهقي في «الدلائل» (6/312 - فما بعد).

 

([1520]) وكلامه فيه على (الفتن) محصور، وهو ليس موضوعاً لها أصالة.

 

([1521]) مضت نماذج من كلامهم وعبثهم، يقول العاقل عندها: اللهم يا مُقلّب العقول! قلِّب عقلي على دينك!!

 

([1522]) ما فهمه الشيخ الدَّبَّاغ -فيما نقلناه عن الكاتب عنه فيما مضى- من مجريات الأحداث في الحادثة المنوّهِ بها سابقاً من انتصار بريطانيا وحلفائها على الألمان في الحرب العالمية الثانية، هو في حقيقة أمره ليس إسقاطاً لنص على واقعة! وإنما توسُّعٌ في إرهاصات لمقدماتِ أحداثٍ قد يترتب عليها حصولُ تَمَكُّنِ اليهود في فلسطين، ويترتب على هذا التمكن قتالٌ بعد مئات السنوات! فالصِّلة موجودة، ولكنها ضعيفة، والحسنُ به أنه أخبر عن شيء انقدح في نفسه، ولم يرح يبحث له عن مستند في نبوءات كذاب، أو أخبارٍ سرابٍ، منقولةٍ عن أهل الكتاب، مجانباً منهج أهل العلم والصواب، كما فعل العابثون الخائضون! ولله في خلقه شؤون.

 

ومما ينبغي أنْ يذكر: أنّ قبولَ قولِ الشيخ الدَّبَّاغ ممكن، وليس بحجة، إذ يمكن أن تصبح ألمانيا حليفةً لليهود -أيضاً-، ويمكن -أيضاً- أن تنتصر في هذه الحرب، ثم تهزم فيما بعد؛ فهذه الاحتمالات واردة غير بعيدة، ولكنه شيء قذفه الله في قلب عبد -نحسبه مؤمناً- فأصاب، وإصابته إلهام أُلقِيَ في قلبه ظهرَ صدقُه بعد وقوعِه، أمّا الاعتماد والتعويل عليه فلا، ولا سيما إن كان صاحبه فاسقاً، أو مغضوباً عليه؛ فمن الجرأة التي ليست في مكانها ما ذكره بعضهم في محاضرة له بعنوان: «النظام العالمي الجديد»، قال: «عندما أُعلِنَ عن قيام دولة إسرائيل (!!)، دخلت عجوز يهودية على أم ذلك الداعية، وهي تبكي، فلما سألتها عن سبب بكائها، وقد فرح اليهود، قالت: إنّ قيام هذه الدولة سيكون سبباً في ذبح اليهود»، ثم يقول الداعية: «إنه سمعها تقول: إنّ هذه الدولة ستدوم 76 سنة». وعندما كبر رأى أنّ الأمر قد يتعلق بدورة المُذَنّب (هالي)، إذ أن مذنب (هالي) مرتبط بعقائد اليهود. ونحوه في «زوال إسرائيل 2022هـ» لبسام جرار.      =

 

=       ومذنب (هالي) هذا قال فيه أبو تمام في (بائيته) المشهورة:

 

وخوَّفوا الناس من دَهياءَ مظلمةٍ

 

 

 

إذا بدا الكوكبُ الغَربيُّ ذو الذَّنَبِ

 

وسبحان الله! متى يعتمد على (عجائز اليهود) في أخبار الغيب، وكيف يربط ذلك بدورة كوكب، وهل التنجيم إلا ربط الأحداث التي تجري على الأرض بحركة الكواكب والنجوم! ألا فليتق الله هؤلاء، المفتئتون علىالشرع بلسان الشرع! وأشبِّه ما وقع للشيخ الدَّبَّاغ بما حكاه الشاطبي في «الموافقات» (1/120 - بتحقيقي)، قال:

 

«ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدَّثناه بعضُ الشيوخ: أنَّ أبا العباس ابنَ البَنَّاء سُئل، فقيل له: لِمَ لم تَعْمل (إنَّ) في {هَاذَانِ} من قوله -تعالى-: {إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63]؟

 

فقال في الجواب: لمَّا لم يُؤثِّر القولُ في المقول؛ لم يؤثر العمل في المعمول.

 

فقال السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل (إن) وقولِ الكفار في النبيِّين؟

 

فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتُك بنُوَّارةٍ يحسن رونقُها، فأنت تريدُ أن تحكَّها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق -أو كلاماً هذا معناه-!

 

فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعَرْضه على العقل يتبيَّنُ ما بينه وبين ما هو من صلب العلم».

 

والقصة أوردها الشاطبي -أيضاً- في كتابه «الإفادات» (ص 110)، وسمَّى شيخه، وهو المقّري.

 

([1523]) أخرجه مسلم (1920) عن ثوبان، وفي الباب عن المغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبدالله، ومعاوية، وعقبة بن عامر، وغيرهم، خرّجتُ أحاديثَهم في تعليقي على «الاعتصام».

 

([1524]) في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه مسلم (1925): «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة»، وسبق تخريجه والكلام عليه.

 

([1525]) أخرجه البخاري (2928)، ومسلم (2912) من حديث أبي هريرة، وسبق بيان طرقه بالتفصيل، ولله الحمد والمنة.

 

([1526]) كما في حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم (2937) وغيره.

 

([1527]) أخرجه أبو داود (4291) وغيره من حديث أبي هريرة، وهو صحيح كما بيّنتُه في تعليقي على «إعلام الموقعين» (4/32 - بتحقيقي).

 

([1528]) أخرجه مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص، وانظر الكلام عليه وعلى شواهده ومعانيه في «السر المكتوم» للسخاوي - بتحقيقي.

 

([1529]) يشير بها إلى وقعة قازان سنة 699هـ، التي انكسر فيها جيش السلطان الملك الناصر أمام التتار بوادي الخزندار، وقُتل فيها جماعة من الأمراء وخلقٌ كثير من العوام، وأبلوا بلاءً حسناً. انظر: «نهاية الأرب» (31/384)، و«البداية والنهاية» (17/718).

 

([1530]) خرجته بتفصيل في تعليقي على «السر المكتوم» للسخاوي.

 

([1531]) أخرجه أحمد (5/319)، والشاشي (1174)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (7)، والحاكم (2/74-75)، والبيهقي (9/20-21) عن عبادة بن الصامت، والحديث حسن.

 

([1532]) أخرجه أحمد (1/294، 299)، وعبد بن حميد (652)، وأبو داود (2611)، والترمذي (1555)، والدارمي (2438)، وأبو يعلى (2587)، وابن خزيمة (2538)، والطحاوي في «المشكل» (1/238)، وابن حبان (4717)، والحاكم (1/443 و2/101)، والبيهقي (9/156) من طرقٍ عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس.

 

([1533]) بعدها في المطبوع: «ورسوله»!!

 

([1534]) بعدها في المطبوع: «ورسوله»!!

 

([1535]) هو معروف من كلام علي ضمن خطبة له في «البيان والتبيين» (2/53)، و«الكامل» للمبرد (1/30)، و«العقد الفريد» (4/70)، و«الأغاني» (16/267)، و«نهج البلاغة» (ص 69) وغيرها.

 

([1536]) بياض في الأصل بقدر كلمة، ولعلها: «ضعافاً»، أو ما في معناها، وانظر عن تنفيذ جيش أسامة وما كان فيه من المصالح: «البداية والنهاية» (9/421-424)، و«تاريخ دمشق» (30/315).

 

([1537]) انظر: «تاريخ الطبري» (3/414).

 

([1538]) الحمد لله الذي لم يطلع الخائضون العابثون على مثل هذا النَّقل، ولو ظفروا به لفرحوا وطاروا به أي مطار! فهذه الأخبار تذكر -كما قررناه- من باب (الملح)، وتُوظَّف لنصرة الله ودينه، ولا تكون سِهاماً مسمومةً تطعن في جسد الأمة لتخدَّر! ولا يعتمد عليها ويركن إليها بمعزل عن وظيفة الأمة وعلمائها وأبنائها!

 

([1539]) بعدها في المطبوع: «ورسوله»!!

 

([1540]) سبق كلام لشيخ الإسلام بهذا الصدد، انظره؛ فإنه مهم.

 

([1541]) هذا من دقّة شيخ الإسلام ابن تيمية المتناهية في المسائل الفقهية؛ فالجهاد في الظروف الصعبة، والأحوال غير الطبيعية يحتاج إلى أحكام تُراعَى فيه ظروفه، وما يحيط به من مستجدات، وهو ليس كالصلاة، لا بد من أدائه على أية حال! كما يعتقد بعض الداعين إليه، والمتحمسين له! ولستُ مبالغاً إنْ قلتُ: إنّ أبرز آثار (الفوضى) في (الفتوى) اليوم تظهر علينا في (الجهاد) وأحكامه!

 

والعجب من المفتين التناقض الشديد بينهم في هذا الميدان، واختلافهم في الجملة على حسب البلدان، ويدور مع مصالحهم دون النظر إلى مآلات الأفعال، وقد بلونا جملة من الوقائع، سمعنا فيها عجباً من أُناسٍ يشار لهم بالبنان، يتكلمون على أنهم علماء الأمة ويطلقون التكفير بمراهقة الشبان، وهم كبار كبار؛ في أسنانهم، ودعواتهم، ومناصبهم، ولكنهم -واللهِ!- ليسوا كذلك في تقعيدات العلماء وأصولهم! وأكبر مثال وأشهره -وهو مازال ماثلاً للعيان-: الجهاد في العراق لصد العدوان الأمريكي؛ فكثيرٌ من الناس أفتى بالوجوب العيني على الشباب، بناءً على أن أمريكا هي أصل الشر، و...، و...، و...، دون اعتبار جميع الأوصاف والقيود التي لها أثر في الفتوى؛ فالنتائج محسومة، والأمور محسوبة، والأمن للمجاهدين غير حاصل، والنظام القائم بَعثِيٌّ لا شرعي، ولو قيل بالجواز لهان الخطب، أمَّا الوجوب، والوجوب العيني؛ فهذا -واللهِ!- غفلة عما نبه ابن تيمية على ما هو دونه، ووصف غير المقاتلين للتتر آنذاك «أهل المعرفة بالدين»!

 

وهذا الأمر ليس خاصّاً بابن تيمية، فقد سبقه إلى نحوه العز بن عبدالسلام، قال السبكي في «معيد النعم» (ص 45-46):

 

«طلب الملك المظفر سيف الدين نظر شيخ الإسلام وسلطان العلماء عز الدين بن عبدالسلام، بحضرة الملك الظاهر بيبرس والملك المنصور قلاوون وغيرهما من الأمراء، وحادَثَهُ في الخروج إلى لقاء العدو من التتار، لما دهموا البلاد، ووصلوا إلى عين جالوت، فقال له: أخرج وأنا أضمن لك على الله النصر. فقال: إن المال في خزائني قليل، وأريد الاقتراض من التجار. فقال: إذا أحضرت أنت وجميع العسكر كل ما في بيوتكم وعلى نسائكم من الحلي الحرام، وضربته على السكة، وأنفقته على الجيش، وقصر عن القيام بكلفتكم، أنا أسأل لكم الله -تعالى- في إظهار كنز من الكنوز، يكفيكم ويفضل عنكم، وأما أنكم تأخذون أموال المسلمين وتخرجون إلى لقاء العدو، وعليكم المحرمات من الأطرزة المزركشة والمناطق المحرمة، وتطلبون من الله  -تعالى- النصرة، فهذا لا سبيل إليه. فوافقوه وأخرجوا ما عندهم، ففرقه وكفى، وخرجوا وانتصروا». فعلم أن الناس لو اتقوا ربهم -عز وجل- باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وكفوا عن= =الظلم، وردوا المظالم إلى أهلها، وأحيوا السنن، وأخمدوا نيران البدع والفتن؛ لفتح الله عليهم باب الجهاد، وقاتلوا كما أمروا؛ كفاهم الله كل مؤونة، وأمدهم بجنود لا يرونها، كما أمد أصحاب نبيه سيدنا محمد × بذلك، ووقاهم شر عدوهم، وهذا من الأمور المشاهدة.

 

انظر: «نصيحة أهل الإسلام» (ص 144).

 

والخلط والخبط في الأزمات يشتدّ، ولا سيما في أحكام الجهاد؛ فهذا قائل بوجوب القتال مع العراق، وآخر بوجوب القتال ضدّه، وكلا الصنفين ينعت وجوبه بـ: «الشرعي»، وتكرر هذا الخلط عدة مرات، ابتداءً من الحرب ضد إيران، ومروراً باحتلال الكويت، وأخيراً عند قدوم الأمريكان! -والله أعلم بما سيكون في قابل الزمان- ووراء كل صنف أعلام ومؤسسات وهيئات للفتوى!

 

و(الشباب) متحمِّس ومتوثب ومتثبِّت، ومواقفهم -ما لم يعصمهم اللَّه- متذبذبة، وسماع الوجوب العيني مع عدم فعله له آثار تربوية سيّئة مدمرة! لا يقدّره إلا الراسخون المربون من العلماء.

 

أَمَا آن للمفتين قبل استدعاء النصوص -التي يعرفها كل طالب علم- فحص المكان والواقع الذي سَتُنزَّل عليه، والنظر إلى المآلات؟!

 

وأخيراً... إنّ إماتة لفظة (الجهاد) من مشاعر المسلمين، سواء بسوء استخدامها، ووضعها في غير مكانها، أو بإيجابها على عاجزين، لا يقل سُوءاً عن صنيع تلك الثلة التي تعمل على إخماد نورها وإطفاء لهيبها! والمحصّلة والثمرة واحدة، فهل من مدكر؟!

 

والذي أراه ضرورةً؛ مراعاة المفتين إعادة (الهيبة) إلى هذا (المصطلح)؛ بترك ابتذاله، وسوء إسقاطه، وكذا من الخطباء والوعاظ؛ بترك استخدامه زينةً -فحسب- لخطب رنانة، وكذا من الدعاة والأحزاب؛ بترك توظيفه للوصول إلى أعناق الجماهير، والمجالس النيابيّة، وتزيينه بالبيانات الحزبية، وإنما العمل على التكامل بينهم للنهوض بواجب الوقت، والوصول بالأمة إلى ذروة السنام، وترك التآكل، والبُعد عن السذاجة وتفويت فرص التربّص، والتربية الشرعية الجادة الموصلة للولاية لله ورسوله والمؤمنين.

 

([1542]) «الاستغاثة والرد على البكري» (2/623)، ورأيت بعد تدوين هذه السطور رسالة بعنوان: «صفحات من تاريخ الأمة في مواجهة التتار» للأستاذ خالد أبي صالح، أنصح بقراءتها والاستفادة منها.

 

([1543]) انظر ما قدمناه قريباً عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على ما فعل التتر بالمسلمين، وتأمله جيّداً؛ لترى الفهم النيِّر الشرعي للأحداث والأحاديث.

 

([1544]) بتصرف من «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (مقدمة فكرية: الفتن وعوامل التغيير) (ص ز-خ).

 

([1545]) انظر: كلام الشيخ صالح آل الشيخ (ص 52-53)، وما نُقل عنه (ص 619)، وما قدمناه -أيضاً- عن بعض الغيورين (ص 730).

 

([1546]) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 705-706).

 

([1547]) وهو يشبه من هذه الحيثية تسليط الثابت من المعلومات التاريخية على الرواية حين الشك فيها؛ فاستعمال ميزان التاريخ في محاكمة الرواة أمر معلوم، ينظر له بتفصيل: «منهج النقد عند المحدثين» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي (ص 50-79)، و«نقد الحديث بالعَرْض على الوقائع والمعلومات التاريخية» للدكتور سلطان العكايلة.

 

([1548]) «نقد الحديث بالعَرْض على الوقائع والمعلومات التاريخية» (ص 73).

 

([1549]) انظر: «رسائل الإصلاح» للشيخ محمد الخضر حسين (2/30-34) (قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية)، فما ذكرناه سابقاً مأخوذ منه باختصار.

 

([1550]) في بلادنا واحد من هؤلاء، لا همَّ له في الآونة الأخيرة إلا تهيئة المناخ لخروج (المهدي)، ويقسم في خطبه أيماناً مغلظة أنّ خروجه سيكون قبل عشر سنوات، ثم نقصت المدة، وبدّل اليمين بطلاق زوجته، ثم غيَّره إلى حلق شاربه، ولله في خلقه شؤون!

 

([1551]) على المسلم الفطن أن يعلم في الحقبة الزمنية الحرجة التي يعيش فيها، أنّ له عدوّاً في الملّة والنّحلة، وأنه يكيد له في الخفاء، وصدور هذا الكيد أمر ضروري التصور، محتوم الوقوع، ما لم يكن للأمة المسلمة الوسائل الكافية التي تأمن بها -بعد الله- الوقوع في الأحبولة، وليس من الضروري أنْ نعلم كيف يكيدون في الخفاء!! المهم أنْ لا نكون (الأضحية)! ولا (الفريسة)!! ولا (أداة الكيد)!!! ونحن لا نشعر.

 

([1552]) انظر عبارته بالحرف (ص 640، 708).

 

([1553]) ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات كثيرة في هذا الموضوع، تدلل على مدى القهر في نفوس الصادقين، فراحوا يبحثون عن تنفيس، فخرجت معهم بتقميش، حتى ولو من كلام العجائز من اليهود!

 

([1554]) علماً بأنهم لا يد لهم في تكوينها أو تعديلها أو التغيير فيها، ولا يتصور ذلك، وتلعب المعاينة والمشاهدة دوراً أساسيّاً في تقويم ما قالوه، ولا مجال بعد ذلك إلا صدقها أو كذبها،= =ورجل يجعل نفسه عرضة لميدان الكذب؛ جريء على الغيب، قليل التوفيق، بعيد عن منهجية العلم وطريق العلماء.

 

([1555]) إذا كان طالب علمٍ، أمّا إنْ كان من العوام، فلعله يناطح وينافح ويدافع! بترّهات وجعاجع!

 

([1556]) هكذا وقعت هذه الكلمة (سيناريو) عند (أمين) في «هرمجدون» (ص 66)، قال: «وهنا قد يحدث أحد (السناريوهات) الآتية حتى تقع واقعة هرمجدون...»، وقال (ص 67): «وفي كل الأحوال وعلى كل (السناريوهات) سيستعين الروم بالمسلمين...»، وقال في الصفحة نفسها: «ولن أجهد نفسي في توقع (سناريوهات) أخرى» و«هو يقطع علينا كل استرسال في التوقع والتصور، ووضع (السناريوهات) المحتملة».

 

([1557]) التي خاض فيها العابثون، وإلا فمن (العراق) تُهيَّج (الفتن) -كما قدمناه-، اللهم لطفك وحنانيك بالمسلمين عامة، وبدار التوحيد والخير  منها خاصة، اللهم احفظها من كيد الكائدين، ونجِّها من مؤامراتهم وتخطيطاتهم.

 

([1558]) إذ ظهر للعيان كذب ما حددوه وعيّنوه، واشتركت الحواس العديدة من البصر= =والسمع واللمس في ضبط ما وقع على عكس ما زعموه، وهذا أقوى بألف مرّة من أخبارٍ وُظّفت على جهة تنقصها الدقة والأمانة والنزاهة!

 

([1559]) وإلا لكثر ذكره، واشتهر التمثيل عليه، والأمر ليس كذلك، ويمكننا القول: إنّ هذا النوع من الإسقاط لم يكن مقصوداً عندهم بالتأليف، ولا يعرف له عندهم تأصيل، وإنما مجرد تمثيل، ويقع لهم عَرَضاً، ويأتون به ضمن شروحاتهم للأحاديث، بخلاف بعض المعاصرين حديثاً، فقد خاضوا وأكثروا بجرأة، وخبطوا وخلطوا بقحّة!

 

([1560]) من دقّة صنيع الشاطبي في «الموافقات» (1/113)، أنه ذكر تسعة أمثلة على (الملح)، وقال:

 

«فهذه أمثلة تُرشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بيِّنةٍ فيما يأتي من العلوم وَيَذَر؛ فإنَّ كثيراً منها يستفزُّ الناظرَ استحسانُها ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمداً في عمل ولا في اعتقاد، فيخيبُ في طلب العلم سعيُه، والله الواقي».

 

قلتُ: فإلحاق هذا النوع بـ(الملح) -إنْ أصبتُ فيه- فهو بناءً على تأصيل الشاطبي وتقريره، وهو من ثمراته، ومن بركة العلم عزوه إلى قائله، والله الهادي.

 

([1561]) لا القواعد، فتأمّل!

 

([1562]) انظر ما قدمناه قريباً.

 

([1563]) هذه النقطة هي عقدة (العقلانيين) في التعامل مع (أحاديث الفتن)، والتفصيل فيها لا يحتمله المقام، ووجدت رسالة مطبوعة بعنوان: «العقلانيون ومشكلتهم مع أحاديث الفتن» جيدة في الجملة، وعليها مؤاخذة منهجية؛ إذ تورط صاحبها في الإسقاط، فها هو يقرر فيها (ص 7) أن (فتنة الدهيماء) الواردة في حديث صحيح هي: «وقف الكمبيوتر فجأة، والناس يعودون إلى مئة عام إلى الوراء، لكن الفرق هنا أشد، حتى سقوط الحكومات لهذه الفاجعة المذهلة، سيعيث الفساد في الأرض، وتكون الدنيا في ظلام، لا كهرباء، ولا مواصلات، ولا أمن، والقوي سيأكل الضعيف    -بلا شك-؛ بحثاً عن الطعام أولاً، والأموال ثانياً، وهذا في أنحاء الأرض كلها، حيث يوجد أفراد الأمة الإسلامية»، قال: «وهذا أنسب تفسير لهذا الحديث، نسأل الله العافية»!

 

قلتُ: أقام هذا التفسير بناء على ما شاع في فترة ما قبل سنة (2000) ميلادية من وجود= =مشكلة الصفر في الكمبيوتر، ولا أدري ما العلاقة بين هذا -الذي ظهر خطؤه- والوارد في الحديث؟! (نسأل الله العافية)!

 

وهذا الإسقاط يذكرني بغلوّ العقلانيين في استخراجهم الحقائق العلمية من القرآن   الكريم والحديث النبوي، وهذه الظاهرة شبيهة بالظاهرة التي نحن بصدد علاجها من بعض الأوجه:

 

1- كل من النوعين يدفع الخطر عن كون الدين ليس مُنزّلاً من عند الله رب العالمين؛ فما أخبر عنه × وسيقع، وما أثبته العلم مما جاء في القرآن -على زعم هؤلاء وأولئك- يؤكد لهم أنّ القرآن والسنة حق من عند الله -عزَّ وجلَّ-.

 

2- جُلُّ الباحثين في هذا المضمار أو ذاك على وجه تفصيلي إسقاطي من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة.

 

3- يكثر الخطأ عند الفريقين بغلوّهم وكثرة إسقاطهم مع عجلة وتهوّر، ويتبرهن الخطأ على ذلك بمضيّ الزمان، ويكون على وجه ظاهراً للعيان، بعيداً عن قواعد العلماء، إذ كلاهما محلّه (الملح) لا (الصلب)! والخطأ في هذا النوع يُتندّر به، و(مضروب به الطبل)، ومضت أمثلة من كتب شاعت وذاعت، وأقبل عليها -في فترة الفتن العاصفات- أُلوف، وهي اليوم عند المنصفين أقرب إلى الخيالات والعبث، وإن احمرت أُنوف!

 

وصنيع هؤلاء شبيه بما حكاه الشاطبي في «الموافقات» (2/127 - بتحقيقي): «إنّ كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدّمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها».

 

قلتُ: وهكذا يقال في الخائضين في الفتن والملاحم من القصاصين قديماً ومن لفَّ لفَّهم حديثاً.

 

4- هذان النوعان قد يصدق الخائضون فيهما قليلاً، وقد يكشف مضي الزمان على صدق تقريرهما، ولكن -على التحقيق- لا يكون للنص صلة بهما؛ فقد يفصل باحثٌ الكلام على نظرية ويكون الكلام حقّاً، ولكن النزاع معه في إسقاطها على النص، وهكذا في الوقائع؛ فإنه لا تناقض بين العلم والدين، ولا بين النصوص وما سيكون بقدرة الله -عزَّ وجلَّ-، ولكن أن يقال: إنّ الآية كذا، أو الحديث كذا، هو المراد بهذا الإعجاز، أو تلك الحادثة؛ فهذا أمر لا يُقبل إلا من أهل العلم وبالمنهجية العلمية.

 

([1564]) تقسيم أشراط الساعة إلى صغرى ووسطى وكبرى غير دقيق -في نظري-؛ إذ= =الصغرى اليوم قد تكون الوسطى أمس، وهكذا، وعجلة الزمان تدور، وتقسيمها إلى ما أخبر عنه × ووقع، وما أخبر عنه × ووقع شطره، وينتظر وقوع الشطر الآخر منه، وما أخبر عنه × ولم يقع، أدق وأحسن، وهو الذي مشى عليه ابن كثير في «الفتن والملاحم» وغيرُه.

 

([1565]) الأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها:

 

عن عوف بن مالك -في طاعون عمواس-: أنّ رسول الله × قال: «اعدد ستّاً بين يدي الساعة...» الحديث، وأصله عند البخاري، قال: فقد وقع منهن ثلاث (يعني: موته ×، وفتح بيت المقدس، والطاعون)، قال: وبقي ثلاث، فقال له معاذ: إنّ لها أمداً. هذه رواية الحاكم، وقال ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 132): «وقد وقعت إفاضة المال في زمن عثمان -رضي الله عنه-، والفتنة العظمى بقتله، والسادسة لم تقع إلى الآن». وانظر: «فتح الباري» (6/278-279).

 

([1566]) بل فيه ما قد يشير إليه فحسب!

 

([1567]) كما وقع للمتتبع للكتب التي ظهرت حديثاً! وعالجت المستجدات من غير أصول علمية!

 

([1568]) إذ التفريق بين (السائغ) و(الممنوع) غير واضح في أذهان الخائضين، ومزجوا بين الأمرين، وخرجوا علينا بنتائج لم يسبقوا إليها، بل بطريقة (مبتدعة) من الجمع والتقميش.

 

([1569]) ونردد مع صاحب «فقه التدين فهماً وتنزيلاً» (1/98) قوله -وإنْ كان وضعه في غير هذا المكان- أنّ عند هؤلاء «نزعة نلحظ فيها رواجاً لدى مَن يرومون المروق من بدء الاستمرارية في الهدي النبوي، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية»، قال: «ومن البيِّن أنّ هذه النزعة كفيلة بأنْ تهدم الدّين أصلاً، وحيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة».

 

([1570]) وهو يلتقي مع ما زبرناه، وكلامه في كتابه الجيد «التفريغ أولاً.. والتغيير ثانياً، أو الهوية العربية بين زوابع الابتلاء» (ص 122-123)، والكتاب دراسة تأصيلية لحزب البعث وأطروحاته، وبيان مزالقها وخطورتها، بتتبع جيد لكلام رؤسائه ومؤسسيه، والمروّجين له من الأدباء والشعراء.

 

([1571]) ثبت في «صحيح البخاري» (رقم 5762) عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سأل رسولَ الله × ناسٌ عن الكهان؟ فقال: «ليس بشيء»، فقالوا: يا رسول الله! إنهم يحدّثونا أحياناً بشيء فيكون حقّاً، فقال رسول الله ×: «تلك الكلمة من الحقّ يخطفها من الجني فيقرها في أُذن وليّه، فيخلطون معها مئة كذبة».

 

([1572]) عدا الذي فيه عصمة.

 

([1573]) «مقدمة ابن خلدون» (ص 9).

 

([1574]) «شرح ابن بطال على صحيح البخاري» (10/13)، ويعجبني ما قاله المناوي في «فيض القدير» (2/444) عند شرحه: «وفيه حث على اقتباس العلوم الدينية قبل هجوم تلك الأيام الدنيئة الرديئة»!

 

([1575]) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه) (رقم 7068).

 

([1576]) «فتح الباري» (13/18-19).

 

([1577]) انظر: «مناهج البحث وتحقيق التراث» (126-131، 142-143) لأكرم العمري، و«نقد الحديث بالعرض على الوقائع والمعلومات التاريخية» (ص 85).

 

([1578]) مضى التمثيل على ذلك فيما سبق.

 

([1579]) «منهج البحث التاريخي» (ص 100) لحسن عثمان.

 

([1580]) «في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 5).

 

([1581]) خاضوا في الكلام في الأحاديث دون أساس متين؛ لأنهم ليسوا ذوي أهلية، ولا كفاية، لا في الإثبات ولا في الاستنباط، فكان إثمهم أكبر من نفعهم، بل لا أكون مجاوزاً للحقيقة إنْ قلت: إنّ خوضهم أفضى بهم إلى مخالفة ما أجمع عليه المسلمون، وإلى إشاعة الفوضى في الاستدلال، ومسايرة الهوى باسم الشرع! ولعل بعضهم يستبين بما سطرناه أنه تحمس، ودوّن شيئاً مأخوذاً من غير أصل، ويقول لقارئيه -في صرامة!-: قد تعجلنا أو أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم.

 

([1582]) «ثقات ابن حبان» (9/297). 

---هنا--------------